بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة هامة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحقِّ ، فيحاول أهل الباطل اتهام أهل الحق ، وتشكيكهم به ، حتى يتركوه قال تعالى : وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) [البقرة/217]
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر؛ وعلى فتنة المسلمين عن دينهم؛ بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم . وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل . . إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين؛ ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم . فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل ، ويرهبه كل باغ ، ويكرهه كل مفسد . إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج ، ومن منهج قويم ، ومن نظام سليم . . إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد . ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون . ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه ، ويردوهم كفاراً في صورة من صور الكفر الكثيرة .
ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم ، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين ، وتتبع هذا المنهج ، وتعيش بهذا النظام .
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ، ولكن الهدف يظل ثابتاً . . أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا . وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحاً غيره ، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها . . والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام ، وينبهها إلى الخطر؛ ويدعوها إلى الصبر على الكيد ، والصبر على الحرب ، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة؛ والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر :
{ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيه خالدون } . .
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثاً فانتفخت ثم نفقت . . والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل ، فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي . . يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره ، وهلاكه في النهاية وبواره . . مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ!
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه؛ تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . . حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلوداً .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه ، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقياً أبداً . إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر ، مع بقاء قلبه ثابتاً على الإسلام مطمئناً بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي ، وفي الارتداد الحقيقي ، بحيث يموت وهو كافر . . والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . . ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه ، ويرتد عن إيمانه وإسلامه ، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . . وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به ، ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيراً : إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة . (الظلال)
--------------
الأعداء يحاربوننا على كل الأصعدة
إن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب ; ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربوها بالسيف والرمح فحسب . . إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها . كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك , ونثر الشبهات وتدبير المناورات !
كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها , ومنها قام وجودها , فيعملون فيها معاول الهدم والتوهين . ذلك أنهم كانوا يدركون كما يدركون اليوم تماما - أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل ; ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها ; ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها ; ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان , مرتكنة إلى ركنه , سائرة على نهجه , حاملة لرايته , ممثلة لحزبه , منتسبة إليه , معتزة بهذا النسب وحده .
ومن هنا يبدو أن أعدى أعداء هذه الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية , ويحيد بها عن منهج الله وطريقه , ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة .(1/1)
إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة . وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات , فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة , لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها , ملتزمة بمنهجها , مدركة لكيد أعدائها . .
ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين في خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة , ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال , وهم آمنون من عزمة العقيدة في الصدور !
وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة , والتشكيك فيها , والتوهين من عراها , استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة . ولكن لنفس الغاية القديمة:
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم !!!) . .
فهذه هي الغاية الثابتة الدفينة !
لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا . .
كان يأخذ الجماعة المسلمة بالتثبيت على الحق الذي هي عليه ; وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب ; ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين ; ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض , ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية .
وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين , ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة , وأهدافهم الخطرة , وأحقادهم على الإسلام والمسلمين , لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم . .
وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود . فيبين لها هزال أعدائها , وهوانهم على الله , وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء . كما يبين لها أن الله معها , وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك . وأنه سيأخذ الكفار [ وهو تعبير هنا عن اليهود ] بالعذاب والنكال ; كما أخذ المشركين في بدر منذ عهد قريب .
================
الصراع بين الحق والباطل في ظلال القرآن
وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان فهي مناط العهد مع الله ، وهي مناط التكليف والجزاء . . إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته ، وعدم الخضوع لشهواته ، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه . بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه ، بتغليب الشهوة على الإرادة ، والغواية على الهداية ، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه . وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه ، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى . كما أن فيه تذكيراً دائماً بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة ، والرفعة والهبوط ، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق!
وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان مذكر دائم بطبيعة المعركة . إنها بين عهد الله وغواية الشيطان بين الإيمان والكفر . بين الحق والباطل . بين الهدى والضلال . . والإنسان هو نفسه ميدان المعركة . وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها . وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة؛ وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان؛ وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان!
وأخيراً تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة . . إن الخطيئة فردية والتوبة فردية . في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض .
------------
إن الإسلام يضع { الكتاب } الذي أنزله الله { بالحق } ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية . ثم تمضي الحياة . فإما اتفقت مع هذه القاعدة ، وظلت قائمة عليها ، فهذا هو الحق . وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى ، فهذا هو الباطل . . هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعاً . في فترة من فترات التاريخ . فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل . وليس الذي يقرره الناس هو الحق ، وليس الذي يقرره الناس هو الدين . إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء ، وقولهم لشيء ، وإقامة حياتهم على شيء . . لا تحيل هذا الشيء حقاً إذا كان مخالفاً للكتاب؛ ولا تجعله أصلاً من أصول الدين؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين؛ ولا تبرره لأن أجيالاً متعاقبة قامت عليه . .
وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس! وفي التاريخ الإسلامي مثلاً وقع انحراف ، وظل ينمو وينمو . . فلا يقال : إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام! كلا! إن الإسلام يظل بريئاً من هذا الواقع التاريخي . ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافاً لا يصلح حجة ولا سابقة؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله ، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
------------
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت - إلى حد - ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد :
{ فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } . .(1/2)
لقد صاروا قلة وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته : بقيادة جالوت . إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم . ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته . إنها التجربة الحاسمة . تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور . وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم ، فاتصلت بالله قلوبهم؛ وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم ، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم!
وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة . والفئة ذات الموازين الربانية :
{ قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . والله مع الصابرين } . .
هكذا . . { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } . . بهذا التكثير . فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله . القاعدة : أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار . ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة . قوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين ، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين .
وهم يكلون هذا النصر لله : { بإذن الله } . . ويعللونه بعلته الحقيقية : { والله مع الصابرين } . . فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل . .
ونمضي مع القصة . فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله ، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء ، وتستمد قوتها كلها من إذن الله ، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله ، وأنه مع الصابرين . . إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة ، الثابتة ، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته ، مع ضعفها وقلتها . . إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة . بعد أن تجدد عهدها مع الله ، وتتجه بقلوبها إليه ، وتطلب النصر منه وحده ، وهي تواجه الهول الرعيب :
{ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا : ربنا أفرغ علينا صبراً ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين . فهزموهم بإذن الله ، وقتل داود جالوت ، وآتاه الله الملك والحكمة ، وعلمه مما يشاء } . .
هكذا . . { ربنا أفرغ علينا صبراً } . . وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضاً من الله يفرغه عليهم فيغمرهم ، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالاً للهول والمشقة . { وثبت أقدامنا } . . فهي في يده - سبحانه - يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد . { وانصرنا على القوم الكافرين } . . فقد وضح الموقف . . إيمان تجاه كفر . وحق إزاء باطل . ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين . فلا تلجلج في الضمير ، ولا غبش في التصور . ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق .
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها : { فهزموهم بإذن الله } . . ويؤكد النص هذه الحقيقة : { بإذن الله } . . ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علماً . وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون ، ولطبيعة القوة التي تجريه . . إن المؤمنين ستار القدرة؛ يفعل الله بهم ما يريد ، وينفذ بهم ما يختار . . بإذنه . . ليس لهم من الأمر شيء ، ولا حول لهم ولا قوة ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته ، فيكون منهم ما يريده بإذنه . . وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين . . إنه عبد الله . اختاره الله لدوره . وهذه منة من الله وفضل . وهو يؤدي هذا الدور المختار ، ويحقق قدر الله النافذ . ثم يكرمه الله - بعد كرامة الاختيار - بفضل الثواب . . ولولا فضل الله ما فعل ، ولولا فضل الله ما أثيب . . ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق . . فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي ، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد . استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص .
-----------
ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه وواحدة منها!
فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد; وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك; ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع; ولتعبده وحده حق عبادته بلا أنداد . . فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل فهو زائف باطل مناقض للحق الكامن في بنية الكون . ومن ثم فهو واهٍ هزيل لا يحمل قوة ولا سلطاناً ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة ; بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة!
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً; من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء وهم أبداً خوارون ضعفاء; وهم أبداً في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان . .(1/3)
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل . . وكم من مرة وقف الباطل مدججاً بالسلاح أمام الحق الأعزل . ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل; ولو كانت له الحشود وكان للحق القلة تصديقاً لوعد الله الصادق :
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } . .
ذلك في الدنيا . فأما في الآخرة . . فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين .
{ ومأواهم النار . وبئس مثوى الظالمين! } . .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار وتركوا وراءهم الغنائم وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم; وتنازعوا فيما بينهم وخالفوا عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها في حيوية عجيبة :
{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم - من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة .
--------------
. ويختم الاستعراض بكشف حكمة الله وتدبيره من وراء الأحداث كلها : من وراء ابتلاء المؤمنين وإمهال الكافرين . إنها تمييز الخبيث من الطيب بالاختبار والابتلاء فقد كان أمر القلوب غيباً مما يستأثر الله به ولا يطلع الناس عليه فشاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر وبالوسيلة التي يدركها البشر . . فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين ليتكشف المخبوء في القلوب ويتميز الخبيث من الطيب ; ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين :
{ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم . إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ولهم عذاب أليم . ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين . ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وأن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } . .
إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة ; والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة . . فهناك دائماً تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور ; أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل . ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة!
هناك دائماً الشبهة الكاذبة أو الأمنية العاتبة : لماذا يا رب؟ لماذا يصاب الحق وينجو الباطل؟ لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل؟ ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل ويعود بالغلبة والغنيمة؟ أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر؟ وفيم تكون للباطل هذه الصولة؟ وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة وفيها فتنة للقلوب وهزة؟!
ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أحد في دهشة واستغراب : « أنى هذا؟! » . .
ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير والبيان الأخير . ويريح الله القلوب المتعبة ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله : أمس واليوم وغداً . وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية :
إن ذهاب الباطل ناجياً في معركة من المعارك . وبقاءه منتفشاً فترة من الزمان ليس معناه أن الله تاركه أو أنه من القوة بحيث لا يغلب أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً . .
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان ليس معناه إن الله مجافيه أو ناسيه! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه . .
كلا .
إنما هي حكمة وتدبير . . هنا وهناك . . يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق ; وليرتكب أبشع الآثام وليحمل أثقل الأوزار ولينال أشد العذاب باستحقاق! . . ويبتلى الحق ليميز الخبيث من الطيب ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت . . فهو الكسب للحق والخسار للباطل مضاعفاً هذا وذاك! هنا وهناك!
-----------(1/4)
لقد كان الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب؛ وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه من لم يأتهم من الله هدى؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم ، فلا يتبعوا الطاغوت - وهو كل شرع لم يأذن به الله ، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند - ولكن اليهود - الذين كانوا يزكون أنفسهم ، ويتباهون بأنهم أحباء الله - كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله . وكانوا يؤمنون بالطاغوت؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله . . وهو طاغوت لما فيه من طغيان - بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية - وهي الحاكمية - وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله ، تلزمه العدل والحق . فهو طغيان ، وهو طاغوت؛ والمؤمنون به والمتبعون له ، مشركون أو كافرون . . يعجب الله من أمرهم ، وقد أوتوا نصيباً من الكتاب ، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب!
ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت ، موقفهم في صف المشركين الكفار ، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضاً :. ولو للخداع والتمويه!
إنها جبلة واحدة ، وخطة واحدة ، وغاية واحدة . . هي التي من أجلها يجبههم الله باللعنة والطرد ، وفقدان النصير . والذي يفقد نصرة الله فما له من ناصر وما له من معين ولو كان أهل الأرض كلهم له ناصر وكلهم له معين :
{ أؤلئك الذين لعنهم الله . ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً } . .
ولقد يهولنا اليوم أن نجد دول الغرب كلها نصيراً لليهود . فنسأل : وأين وعد الله بأنه لعنهم ، وأن من يلعن الله فلن تجد له نصيراً؟
ولكن الناصر الحقيقي ليس هو الناس . ليس هو الدول . ولو كانت تملك القنابل الأيدروجينية والصواريخ . إنما الناصر الحق هو الله . القاهر فوق عباده : ومن هؤلاء العباد من يملكون القنابل الأيدروجينية والصواريخ!
والله ناصر من ينصره . . { ولينصرن الله من ينصره } والله معين من يؤمن به حق الإيمان ، ويتبع منهجه حق الاتباع؛ ويتحاكم إلى منهجه في رضى وفي تسليم . .
ولقد كان الله - سبحانه - يخاطب بهذا الكلام أمة مؤمنة به ، متبعة لمنهجه ، محتكمة إلى شريعته . وكان يهوّن من شأن عدوها - اليهود - وناصريهم . وكان يعد المسلمين النصر عليهم لأنهم - اليهود - لا نصير لهم . وقد حقق الله لهم وعده . وعده الذى لا يناله إلا المؤمنون حقاً . والذي لا يتحقق إلا على أيدي العصبة المؤمنة حين تقوم .
فلا يهولننا ما نلقاه من نصرة الملحدين والمشركين والصليبيين لليهود . فهم في كل زمان ينصرونهم على الإسلام والمسلمين . . فليست هذه هي النصرة . . ولكن كذلك لا يخدعننا هذا . فإنما يتحقق هذا الأمر للمسلمين! ويوم يكونون مسلمين!
وليحاول المسلمون أن يجربوا - مرة واحدة - أن يكونوا مسلمين . ثم يروا بأعينهم إن كان يبقى لليهود نصير . أو أن ينفعهم هذا النصير!
فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتاب الأول . فاسألوهم : أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم . فقالوا : دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه . فأنزل الله - عز وجل - : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } . . . إلى قوله عز وجل : { وآتيناهم ملكاً عظيماً } . . وهذا لعن لهم ، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة . لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين . وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم . وقد أجابوهم ، وجاءوا معهم يوم الأحزاب؛ حتى حفر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حول المدينة الخندق ، وكفى الله شرهم { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً . وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قوياً عزيزاً } وكان عجيباً أن يقول اليهود : إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه ، وإن المشركين أهدى سبيلاً من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود . . إنه موقفهم دائماً من الحق والباطل ، ومن أهل الحق وأهل الباطل . . إنهم ذوو أطماع لا تنتهي ، وذوو أهواء لا تعتدل ، وذوو أحقاد لا تزول! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عوناً لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم إنما يجدون العون والنصرة - دائماً - عند الباطل وأهله . ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق!
هذه حال دائمة ، سببها كذلك قائم . . وكان طبيعياً منهم ومنطقياً أن يقولوا عن الذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً!
وهم يقولونها اليوم وغداً . إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها - بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته - لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها .(1/5)
ولكنهم أحياناً - لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث - قد لا يثنون ثناء مكشوفاً على الباطل وأهله . بل يكتفون بتشويه الحق وأهله . ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه . ذلك أن ثناءهم المكشوف - في هذا الزمان - أصبح متهماً ، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين ، الذين يعملون لحسابهم ، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان . .
بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحياناً ، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم ، الذين يسحقون لهم الحق وأهله . ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام . ليبعدوا الشبهة تماماً عن أخلص حلفائهم ، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة!
ولكنهم لا يكفون أبداً عن تشويه الإسلام وأهله . . لأن حقدهم على الإسلام ، وعلى كل شبح من بعيد لأي بعث إسلامي ، أضخم من أن يداروه .
=================
تعقيب على قصة نوح عليه السلام مع قومه
إن قوم نوح - عليه السلام - هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم , ومدى إصرارهم على باطلهم , ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام الخالص التي حملها نوح - عليه السلام - إليهم , وخلاصتها:التوحيد الخالص الذي يفرد الله - سبحانه - بالدينونة والعبودية ; ولا يجعل لأحد معه صفة الربوبية . .
إن قوم نوح هؤلاء . . هم ذرية آدم . . وآدم - كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل - وفي سورة البقرة كذلك - قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها - وهي المهمة التي خلقه الله لها وزوده بالكفايات والاستعدادات اللازمه لها - بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها , وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها . وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق - هو وزوجه وبنوه - أن(يتبع) ما يأتيه من هدى الله , ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين .
وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلما لله متبعا هداه . . وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلا بعد جيل ; وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض ; حيث لم تكن معها عقيدة أخرى ! فإذا نحن رأينا قوم نوح - وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله - قد صاروا إلى هذه الجاهلية - التي وصفتها القصة في هذه السورة - فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعا . وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم ; وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية . تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس , كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله , واتباعه وحده , وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة . . ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدرا من الاختيار - هو مناط الابتلاء - وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدي الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه , كما يملك أن ينحرف - ولو قيد شعرة - عن هدى الله إلى تعاليم غيره ; فيجتاله الشيطان حتى يقذف به - بعد أشواط - إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم - النبي المسلم - بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله .
وهذه الحقيقة . . حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة لله وحده . . تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم "علماء الأديان المقارنة " وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورا متأخرا من أطوار العقيدة . سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنية للآلهة . ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح , وتأليه الشموس والكواكب . . إلى آخر ما تخبط فيه هذه "البحوث" التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة ; يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر ; وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان !(1/6)
وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين ; فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان - وفق ذلك المنهج الموجه ! - من حيث لا يشعرون ! وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الاعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم . حين يقرر أن آدم - عليه السلام - هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام . وأن نوحا - عليه السلام - واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه . . القائم على التوحيد المطلق . . وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية ; وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالإسلام . . القائم على التوحيد المطلق . . وأنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الاعتقاد - إنما كان الترقي والتركيب والتوسعفي الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة - وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة . إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية - حتى بعد انحراف الأجيال عنها - ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها ; حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني . أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعا ! وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت , لأنها ليست نابعة من أفكار البشر ومعلوماتهم المترقية ; إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه . فهي حق منذ اللحظة الأولى , وهي كاملة منذ اللحظة الأولى . .
هذا ما يقرره القرآن الكريم ; ويقوم عليه التصور الإسلامي . فلا مجال - إذن - لباحث مسلم - وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام ! - أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم , إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة . تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا !
ومع أننا هنا - في ظلال القرآن - لا نناقش الأخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن الإسلام - إذ أن مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل - . . ولكننا نلم بنموذج واحد , نعرضه في مواجهة المنهج القرآني والتقريرات القرآنية في هذه القضية . .
كتب الأستاذ العقاد في كتابه:"الله" في فصل أصل العقيدة:
. . "ترقى الإنسان في العقائد . كما ترقى في العلوم والصناعات .
"فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى , وكذلك كانت علومه وصناعاته . فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات , وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى .
"وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات . " لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى .
"وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة , وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان , ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض , ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام . ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام . ولعلها لا تزال .
"فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين , ولا على أنها تبحث عن محال . وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد ; وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعد عصر , وطورا بعد طور . وأسلوبا بعد أسلوب , كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى , بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان .
"وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول , ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية , أو بين أمم الحضارة العريقة . ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك , ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة . فهذه هي وحدهاالنتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها . وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء , أو يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين . فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء , إنما يبحث عن محال . . .
كذلك كتب في فصل:"أطوار العقيدة الإلهية " في الكتاب نفسه:
"يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب:
وهي دور التعدد
ودور التمييز والترجيح
ودور الوحدانية(1/7)
"ففي دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أربابا تعد بالعشرات , وقد تتجاوز العشرات إلى المئات . ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده , أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور , وتقبل الصلوات والقرابين .
"وفي الدور الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقى الأرباب على كثرتها , ويأخذ رب منها في البروز والرجحان على سائرها . إما لأنه رب القبيلة الكبرى التي تدين لها القبائل الأخرى بالزعامة , وتعتمد عليها في شؤون الدفاع والمعاش , وإما لأنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة , كأن يكون رب المطر والإقليم في حاجة إليه , أو رب الزوابع والرياح وهي موضع رجاء أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعية .
"وفي الدور الثالث تتوحد الأمة , فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة . ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها , ويحدث أيضا أن ترضى من إله الأمة المغلوبة بالخضوع لإلهها , مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع , والحاشية للملك المطاع .
"ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة إلا بعد أطوارا من الحضارة تشيع فيها المعرفة , ويتعذر فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية , فتصف الله بما هو أقرب إلى الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة , وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة الله وحكمته العالية , وكثيرا ما يتفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة , وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية . . . " الخ .
وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصا من آراء علماء الدين المقارن أن البشر هم الذين ينشئون عقائدهم بأنفسهم ; ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية . وأن التطور من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الإجمال . .
وهذا واضح من الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه:"موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية , منذ أن اتخذ الإنسان ربا , إلى أن عرف الله الأحد , واهتدى إلى نزاهة التوحيد" . . .
والذي لا شك فيه أن الله سبحانه يقرر في كتابه الكريم , تقريرا واضحا جازما , شيئا آخر غير ما يقرره صاحب كتاب:"الله" متأثرا فيه بمنهج علماء الأديان المقارنة . . وأن الذي يقرره الله - سبحانه - أن آدموهو أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة , وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية , وعرف الدينونة لله وحده باتباع ما يتلقى منه وحده . وأنه عرف بنيه بهذه العقيدة , فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ البشرية لا تعرف إلا الإسلام دينا , وإلا التوحيد عقيدة . . وأنه لما طال الأمد على الأجيال المتتابعة من ذرية آدم انحرفت عن التوحيد . . ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد . . ودانت لشتى الأرباب الزائفة . . . حتى جاءها نوح عليه السلام بالتوحيد من جديد . وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعا ; ولم ينج إلا المسلمون الموحدون الذين يعرفون "نزاهة التوحيد" وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب والعبادات الجاهلية ! ولنا أن نجزم أن أجيالا من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك بالإسلام القائم على التوحيد المطلق . قبل أن يطول عليهم الأمد , ويعودوا إلى الانحراف عن التوحيد من جديد . . وأنه هكذا كان شأن كل رسول:(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) . .
والذي لاشك فيه أن هذا شيء , والذي يقرره علماء الأديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب:"الله" شيء آخر . وبينهما تقابل تام في منهج النظر وفي النتائج التي ينتهي إليها . . وآراء الباحثين في تاريخ الأديان ليست سوى نظريات يعارض بعضها بعضا , فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين !(1/8)
وما من شك أنه حين يقرر الله - سبحانه - أمرا يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع , ويقرر غيره أمرا آخر مغايرا له تمام المغايرة , فإن قول الله يكون أولى بالاتباع . وبخاصة ممن يدافعون عن الإسلام ; ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين جملة . . وأن هذا الدين لا يخدم بنقض قاعدته الاعتقادية في أن الدين جاء وحيا من عند الله , ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم ; وإنه جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور ولم يجيء بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ , ولا في أيه رسالة . كما أنه لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء الأديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن هؤلاء إنما يعملون وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية لدين الله كله ; وهي أنه وحي من الله , وليس من وحي الفكر البشري المترقي المتطور ! وليس وقفا على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية !
ولعل هذه اللمحة المختصرة - التي لا نملك الاستطراد فيها في كتاب الظلال - تكشف لنا عن مدى الخطورة في تلقي مفهوماتنا الإسلامية - في أي جانب من جوانبها - عن مصدر غير إسلامي . كما تكشف لنا عن مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون منها . حتى وهم يتصدون لرد الافتراءات عن الإسلام من أعدائه . . (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) . .
ونقف وقفة أخرى مع قصة نوح . . نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله !
إنها وقفة على معلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضا . . وقفة على مفرق الطريق تكشف معالم الطريق . .
(وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن , فلا تبتئس بما كانوا يفعلون . واصنع الفلك بأعيننا ووحينا , ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون . . .)
(حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا:احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ومن آمن , وما آمن معه إلا قليل . . .)
(وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل -:يا بني اركب معنا , ولا تكن مع الكافرين . قال:سآوي إلى جبل يعصمني من الماء , قال:لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم , وحال بينهما الموج فكان من المغرقين . .)
(ونادى نوح ربه , فقال:رب إن ابني من أهلي , وإن وعدك الحق , وأنت أحكم الحاكمين . قال:يا نوح إنه ليس من أهلك , إنه عمل غير صالح , فلا تسألن ما ليس لك به علم , إني أعظك أن تكون من الجاهلين . قال:رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم , وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) . .
إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين , وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم .
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب ; وليست وشيجة الأرض والوطن , وليست وشيجة القوم والعشيرة , وليست وشيجة اللون واللغة , وليست وشيجة الجنس والعنصر , وليست وشيجة الحرفة والطبقة . . إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد ; كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح - عليه السلام - وهو يقول: (رب إن ابني من أهلي) . . (يا نوح إنه ليس من أهلك) ثم بين له لماذا يكون ابنه . . ليس من أهله . . (إنه عمل غير صالح) . . إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) فأنت تحسب أنه من أهلك , ولكن هذا الحسبان خاطئ . أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك , ولو كان هو ابنك من صلبك !
وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط , وبين نظرات الجاهلية المتفرقة . . إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب ; وآنا هي الأرض والوطن , وآنا هي القوم والعشيرة , وآنا هي اللون واللغة , وآنا هي الجنس والعنصر , وآنا هي الحرفة والطبقة ! تجعلها آنا هي المصالح المشتركة , أو التاريخ المشترك . أو المصير المشترك . . وكلها تصورات جاهلية - على تفرقها أو تجمعها - تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي !
والمنهج الرباني القويم - ممثلا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه - قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير . . والمعلم الواضح البارز في مفرق الطريق . .
وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد , ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى , ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها . .
ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم - عليه السلام - وأبيه وقومه كذلك:(1/9)
(واذكر في الكتاب إبراهيم , إنه كان صديقا نبيا . إذ قال لأبيه:يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ? يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك , فاتبعني أهدك صراطا سويا . يا أبت لا تعبد الشيطان , إن الشيطان كان للرحمن عصيا . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطانوليا . . قال:أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ? لئن لم تنته لأرجمنك ! واهجرني مليا . قال:سلام عليك سأستغفر لك ربي , إنه كان بي حفيا , وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي , عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا . فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ; ووهبنا لهم من رحمتنا , وجعلنا لهم لسان صدق عليا) . . . [ مريم:41 - 50 ] .
وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه الله سبحانه ولقنه , وهو يعطيه عهده وميثاقه . ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه:
وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات , فأتمهن , قال:إني جاعلك للناس إماما , قال:ومن ذريتي ? قال:لا ينال عهدي الظالمين . .
وإذ قال إبراهيم:رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات - من آمن منهم بالله واليوم الآخر . قال:ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير . . [ البقرة:124 - 126 ]
وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه , وذلك فيما كان بين نوح وامرأته , ولوط وامرأته . وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون:
ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط , كانتا تحت عبدين من عبادنا الصالحين , فخانتاهما , فلم يغنيا عنهما من الله شيئا , وقيل:ادخلا النار مع الداخلين . . .
(وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون , إذ قالت:رب ابن لي عندك بيتا في الجنة , ونجني من فرعون وعمله , ونجني من القوم الظالمين) . . . [ التحريم:10 - 11 ]
وضرب لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم , ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم . وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم . وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم . . .
(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه , إذ قالوا لقومهم:إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله , كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده . . .) . . [ الممتحنة:4 ] .
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ? إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا:ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا , فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا . ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا . نحن نقص عليك نبأهم بالحق , إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى , وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا:ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذن شططا . هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين ! فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ? وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته , ويهيى ء لكم من أمركم مرفقا . . . [ الكهف:16 - 9 ] .
وبهذه الأمثلة التي ضربها الله للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين . الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان , وضحت معالم الطريق لهذه الأمة ; وقام هذا المعلم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم , ولا يقوم على سواها . وطالبها ربها بالاستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة , وفي توجيهات من القرآن كثيرة . . هذه نماذج منها . .
(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله - ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم - أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه , ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها , رضي الله عنهم ورضوا عنه , أولئك حزب الله , ألا إن حزب الله هم المفلحون) . . . [ المجادلة:22 ]
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة , وقد كفروا بما جاءكم من الحق , يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم , إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي , تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم , ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) . . . [ الممتحنة:1 ]
لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم , يوم القيامة يفصل بينكم , والله بما تعملون بصير . قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه . . . الخ . . [ الممتحنة:3 - 4 ]
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان , ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) . . . . [ التوبة:23 ] .(1/10)
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء , بعضهم أولياء بعض , ومن يتولهم منكم فإنه منهم , إن الله لا يهدي القوم الظالمين) . . . [ المائدة:51 ] .
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي ; وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر الزمان . ولم يعد هناك مجال للجمع بين "الإسلام" وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة . والذين يدعون صفة الإسلام , ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة , إما أنهم لا يعرفون الإسلام ; وإما أنهم يرفضونه . والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها , بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلا !
وندع هذه القاعدة - وقد صارت واضحة تماما - لننظر في جوانب من حكمة الله في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة . .
إن العقيدة تمثل أعلى خصائص "الإنسان" التي تفرقه من عالم البهيمة ; لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها - وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة - وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية , قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان .
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة - في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية - هي آصرة التجمع . لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم . ولا تكون آصرة التجمع عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم ! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة , وسياج الحظيرة ! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصرواللون واللغة . . فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة . وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة !
كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم . . هو عنصر الاختيار والإرادة , فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد ; وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارا ; ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد - بكامل حريته - أن يتمذهب به ويعيش . .
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه . كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها , ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها . . إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية ! . . إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض , ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي ; إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره ! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا - أو حتى في الدنيا وحدها - بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ولا مريدا ; وبذلك تسلب إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها ; وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان ; بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق !
ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية , والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له متمشية مع تلك الخصائص ; يجعل الإسلام العقيدة - التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد - هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي ; والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية . وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية , التي لا يد له فيها , ولا يملك كذلك تغييرها باختياره , هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته .
ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة - وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى - أن ينشئ مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا ; يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي ; لا يصدهم عنه صاد , ولا يقوم في وجوههم حاجز , ولا تقف دونه حدود مصطنعة , خارجة عن خصائص الإنسان العليا . وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية , وتجتمع في صعيد واحد , لتنشى ء "حضارة إنسانية " تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية ; ولا تغلق دون كفاية واحدة , بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض . . .(1/11)
"ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ; ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها , دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة , والحدود الإقليمية السخيفة ! ولإبراز "خصائص الإنسان" في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها , دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات , بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها , وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت , وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة . وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة , تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة , على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .
"لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق:العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصينيوالهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . . . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما "عربية " إنما كانت دائما "إسلامية " ولم تكن يوما ما "قومية " إنما كانت دائما "عقيدية " .
"ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة , وبآصرة الحب . وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم , وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم , وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة , وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد , وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق . وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ !
"لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا . فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة , ولغات متعددة , وألوانا متعددة , وأمزجة متعددة . ولكن هذا كله لم يقم على "آصرة إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية ; وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ; ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .
"كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا . . ولكنه كان كالتجمع الروماني , الذي هو وريثه ! تجمعا قوميا استغلاليا , يقوم على أساس سيادة القومية الانجليزية , واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها . . الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما , والإمبراطورية الفرنسية . . كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت ! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر , يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة "إنسانية " عامة , إنما أقامته على القاعدة "الطبقية " . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع على قاعدة طبقة "الأشراف" وذلك تجمع على قاعدة طبقة "الصعاليك" [ البروليتريا ] ; والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى ! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها . باعتبار أن "المطالب الأساسية " للإنسان هي "الطعام والمسكن والجنس" - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام !!
"لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال متفردا . . والذين يعدلون عنه إلى أى منهج آخر , يقوم على أية قاعدة أخرى , من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف السخيف , هم أعداء "الإنسان" حقا ! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ; ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق(1/12)
ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين , الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته ; وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) . . لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين , وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس . . ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه ; وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله ; ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم . . لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها ; وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد , أصناما تعبد من دون الله , اسمها تارة "الوطن" واسمها تارة "القوم" واسمها تارة "الجنس" . وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم "الشعوبية " وتارة باسم "الجنسية الطورانية " وتارة باسم "القومية العربية " وتارة بأسماء شتى , تحملها جبهات شتى , تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة , المنظم بأحكام الشريعة . . . إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية , وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة ; وإلى أن أصبحت تلك "الأصنام" مقدسات يعتبر المنكر لها خارجا على دين قومه ! أو خائنا لمصالح بلده !!!
وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ . . كان هو المعسكر اليهودي الخبيث , الذي جرب سلاح "القومية " في تحطيم التجمع المسيحي , وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية . . وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي ; ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود !
وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي - بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي . . ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله . كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الاستعمار الأوربي الصليبي . وما يزالون . . حتى يأذن الله بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة ; ليقوم التجمع الإسلامي من جديد , على أساسه المتين الفريد . .
وأخيرا فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم . ذلك أن الدينونة لله وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم .
يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد , وألا تتعدد "المقدسات" ! ويجب أن يكون هناك شعار واحد , وألا تتعدد "الشعارات" ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات . .
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية ! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى ; كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة ; وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أيا كانت أسماؤها . وأيا كانت مراسمها .
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية , ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان . . وما إليها . . يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها . وهو يدعوهم إلى الله وحده , وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه !
لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري . . أمة المسلمين من أتباع الرسل -كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة - وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون . .
وعندما أراد الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون , عرفها لهم في صورة أتباع الرسل - كل في زمانه - وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة:(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) . . ولم يقل للعرب:إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء ! ولا قال لليهود:إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء ! ولا قال لسلمان الفارسي:إن أمتك هي فارس ! ولا لصهيب الرومي:إن أمتك هي الرومان ! ولا لبلال الحبشي:إن أمتك هي الحبشة ! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش:إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا على أيام موسى وهارون , وإبراهيم , ولوط , ونوح , وداود وسليمان , وأيوب , وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون , وزكريا ويحيى , ومريم . . كما جاء في سورة الأنبياء:[ آيات:48 - 91 ] .
هذه هي أمة "المسلمين" في تعريف الله سبحانه . . فمن شاء له طريقا غير طريق الله فليسلكه . ولكن ليقل:إنه ليس من المسلمين ! أما نحن الذين أسلمنا لله , فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله . والله يقص الحق وهو خير الفاصلين . .(1/13)
وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين .
ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان الله سبحانه:
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلام , تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر , هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاما كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن . .
إن هذه الحفنة - وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل - قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون ; وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من الأرض ! وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك , وبذرة العمران فيها والاستخلاف من جديد . .
. . وهذا أمر خطير . .
إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها ; والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة ; كما تعاني الأذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل . . إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلا أمام هذا الأمر الخطير , وأمام دلالته التي تستحق التدبر والتفكير !
إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى . . شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعا ; كما يستحق منه سبحانه أن يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتعمرها من جديد !
لقد كان نوح عليه السلام يصنع الفلك بأعين الله ووحيه , كما قال تعالى:(واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) . .
وعندما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترون عليه كما قال الله تعالى في سورة القمر:(كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر . فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) . .
عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه(مغلوب) ويدعو ربه أن "ينتصر" هو وقد غلب رسوله . . عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب:
(ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) . .
وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع المرهوب . . كان الله سبحانه - بذاته العلية - مع عبده المغلوب:
(وحملناه على ذات ألواح ودسر . تجري بأعيننا . . جزاء لمن كان كفر . .) .
هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية ; وحين "تغلبها" الجاهلية !
إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة . . وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان . فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى ! (وما يعلم جنود ربك إلا هو) . .
وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها ; وإلا أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه ; وإلا أن تصبر حتى يأتي الله بأمره , وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء . وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه , إلا فترة الإعداد والابتلاء ; وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سيصنع لها وسيصنع بها في الأرض ما يشاء .
. . وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم . .
إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله سبحانه بالربوبية . كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده الذي يستنصر به حين يغلب فيدعوه: (أني مغلوب فانتصر) . .
إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة . . إن الجاهلية تملك قواها . . ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله . والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء وكيفما يشاء - وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب !
وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله . . ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ; قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله . ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلما . . ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة , والتدمير على البشرية الضالة جميعا , وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها . .
إن عصر الخوارق لم يمض ! فالخوارق تتم في كل لحظة - وفق مشيئة الله الطليقة - ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطا أخرى , تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها . وقد تدق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها ; ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائما , ويلابسون آثارها المبدعة .(1/14)
والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملا , بكل ما في طاقتهم من جهد ; ثم يدعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة . وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح:(فدعا ربه أني مغلوب , فانتصر) . . ثم ينتظروا فرج الله القريب . وانتظار الفرج من الله عبادة ; فهم على هذا الانتظار مأجورون .
ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهادا كبيرا . . إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن ; ومن ثم يتذوقونه ويدركونه ; لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطابا مباشرا به , كما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى , فتذوقته وأدركته وتحركت به . .
. . والحمد لله في الأولى والآخرة . .
=============
الصراع بين الحق والباطل
إن الحمد لله؛ نحمد, ونستعينه, ونستغفره, ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا . من يهده الله؛ فلامضل له, ومن يضلل؛ فلا هادى له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم , أما بعد ,,
فإن كل ما في الدنيا من أهواء, وأعمال, وآراء : متردد بين الحق والباطل, والهدى والضلال, والخطأ والصواب ؛ ومسألة الحياد في أمر الحق والباطل ؛ مسألة غير واردة , وحين يقول إنسان : أنا محايد بين الحق, والباطل ؛ يصنف في دين الله وشرعه في قائمة أهل الباطل , ولذلك يقول الله جل وعلاه : { فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ...}سورة يونس ,
والحق والباطل بينهما صراع منذ أن خلق الله الإنسان, قال عز وجل: { يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ( 117 ){ سورة طه ومنذ تلك اللحظة ابتلى الإنسان بكيد الشيطان, وصراعه معه, ومازال الشيطان يكيد لآدم حتى أهبط لهذه الدنيا, وهنا انتقل ميدان الصراع إلى هذه الأرض , يقول الله عز وجل : } بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ... ( 36 ) {سورة البقرة , وبعد هبوط آدم وحواء إلى الأرض ؛ ظلت أجيال من الناس على الهدى قرون طويلة يتوارثون الهدى والإيمان عن أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام كما جاء في تفسير قول الله جل وعلا في سورة البقرة : } كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ... ( 213 ) {سورة البقرة , قال ابن عباس : ( كان بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) وهكذا جاء في قراءة ابن مسعود وأبى بن كعب :( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) وهذا أحد الأوجه في تفسير الآية, وبناء عليه نستطيع أن نقول : أن الأجيال التالية لآدم ظلت وفية للحق و للتوحيد الذي تلقته عن آدم عليه السلام حتى أثر فيهم هذا الشيطان؛ فانحرفوا عن التوحيد, واندرست معالمه, فاحتاج الأمر إلى بعثة نبي يجدد الإسلام والتوحيد فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وبعد بعثة هؤلاء الرسل عليهم السلام صارت الخصومة بين الرسل وأتباعهم, وبين أعداء الرسل من الشياطين و أتباعهم, ولذلك يقول الله تعالى : } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ... ( 31 ) {سورة الفرقان , فما من نبي يبعث إلا ويتصدى له أعداء من المجرمين, يضعون العراقيل في طريقه ويعترضون عليه بمختلف الوسائل,يقول الله جل وعلا: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 112 ) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( 113 ) {سورة الأنعام , وبعد بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم انحصرت الخصومة بين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه , فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له أعداء كثيرون من المجرمين,ومن الأكابر: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 123 ) { سورة الأنعام ,وما أبو جهل, وعتبة, وأبو لهب, وشيبة, وغيرهم إلا أمثلة ,ونماذج لأعداء الرسل عليهم السلام, ثم الدين يحاربون دعوته صلى الله عليه وسلم عبر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .(1/15)
وبالمقابل بعد وفاة صلى الله عليه وسلم أصبح أولياءه : هم العلماء الذين ورثوا هديه , وتراثه , يقول النبي صلى الله عليه وسلم :[ إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ] رواه أبو داود, والترمذي, وابن ماجه, والدارمي, وأحمد . و بين الله عز وجل أن هذه الأمة سيوجد فيها من يحمل الرسالة , فكلما جاء جيل قيض الله تعالى منهم من يحمل الراية , ويقيم الحجة على أهل هذا العصر , ولهذا يقول الله عز وجل في محكم التنزيل : } وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( 181 ) { سورة الأعراف , والاسم الخاص الذي ميز الرسول صلى الله عليه وسلم به هؤلاء هو : الطائفة المنصورة , قال صلى الله عليه وسلم :[ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ] رواه الترمذي,وابن ماجه, وأحمد . يهدون بالحق, وبه يعدلون .
ويقابلهم أعداء الرسل يحاربونهم ويضعون في طريقهم الأذى , والشوك , فلا يضرونهم إلا بالتعب والجهد { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } سورة آل عمران.
وأريد أن ألقي الضوء على بعض المسائل المهمة التي وردت في شأن الخصومة بين الحق والباطل في الآيات, والأحاديث :
المسألة الأولى: وهى مهمة للمسلم في هذا العصر: حركة الصراع بين الحق والباطل و فيها ملاحظات :
الملاحظة الأولى: هي الرابطة الوثيقة التي يتناصر بها أعداء الرسل : يقول الله تبارك وتعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ } كل هؤلاء مصنفون في عداد أعداء الأنبياء , ثم قال تعالى : } يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... ( 112 ) { سورة الأنعام ويقول الله جل وعلا: } الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ { سورة التوبة , ويقول سبحانه: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ... (51 ) { سورة المائدة , فأعداء الرسل, أعداء الإسلام يتناصرون بمقتضى العداوة وقد يكون بينهم من الخلاف, والصراع الشيء الكثير لكنهم حين يواجهون الإسلام يكونون صفاً واحداً ....فاليهود والنصارى مثلاً : بينهم عبر التاريخ خصومات طويلة , ومع ذلك يقول الله عز وجل : } بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ... (51 ) { سورة المائدة ,يعنى في حرب الإسلام , ومواجهته , وكما قال القائل :
وليس غريباً ما ترى من صارع هو البغي لكن الأسامي تجدد
وأصبح أحزابا تناحروا بينها وتبدوا في وجه الدين صفاً موحد
فهم حين يكون العدو هو الإسلام؛ ينسون خصومتهم الداخلية, والفرعية, ويوحدون الوجهة ضد الإسلام وأهله , فهذا أمر ملحوظ في ولاية أعداء الرسل بعضهم لبعض . و هذا يوجب على حملة الإسلام أنه لابد أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض أيضا , وهناك فرق أساسي : بين ولاية الكافرين , وولاية المؤمنين : فولاية الكافرين مبناها على التعصب والهوى؛ لذلك يقول الله عز وجل: }الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ... ( 67 ) {سورة التوبة , وكلمة : }مِّن { يقابلها الآية في الأخرى : }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( 71 ) { سورة التوبة , وبادي الرأي قد يخيل للإنسان أن كلمة : { مِّن } هنا أبلغ , فكيف عبر الله تعالى عن علاقة المنافقين بأن بعضهم من بعض وأما علاقة المؤمنين , فقال : } بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { هل معنى ذلك أن علاقة المنافقين ببعض أقوى من علاقة المؤمنين ؟ كلا, وإنما السر _ والله تعالى أعلم فيما ظهر لي _ : أن علاقة المنافقين ليست مبنية على منهج , وطريق صحيح يتوالون فيه , بل مبنية على الهوى , والتوافق على الباطل . وأما أهل الحق : فولايتهم مبنية على الحق , فهم أولياء لبعض في الحق , ولذلك لو تخلى أحد منهم عن الحق ؛ تخلوا عن ولايته ، وكذلك لو أخطأ إنسان لما كانت ولايتهم له موجبة لموافقته في الخطأ , ولذلك قال : } بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { فهي ولاية نبوية على بصيرة , وليست عمياء على مجرد الهوى .
إنه لابد في كل عصر _ وفى هذا العصر بالذات وقد رأينا جميعاً كيف يتوالى أعداء الإسلام على حربه _ من التعاون بين المسلمين على البر والتقوى كما قال الله تبارك وتعالى : } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ( 4 ) { سورة الصف , هل تجد أبلغ من هذا الوصف والتشبيه . والبنيان المرصوص لا يمكن أن يجد فيه أحد ثغرة ينفذ منها , أو يتسلل .(1/16)
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : [ الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ] رواه البخاري، ومسلم, والنسائي, وأحمد .
فالواجب أن لا ينشغل المؤمنون بعضهم ببعض ؛ فإن الحاجة ماسة وداعية إلى أن يجتمع أهل السنة والجماعة تحت الراية الواحدة التي تجمعهم : مهما اختلفت اجتهاداتهم في المسائل الفقهية، و الأمور العملية, ومهما اختلفت اجتهاداتهم في الدعوة إلى الله جل وعلا, ومهما اختلفت بلادهم وآراؤهم, فهذه القضايا ليست مدعاة إلى أن يتفرق أهل السنة والجماعة . وأما إذا كان الخلاف خلافا عقدياً مبنيا على أصول , فهنا لابد من توضيح الأمر, لئلا يلتبس الحق بالباطل على الناس
أما أن نتخذ من هذه الخلافات الجزئية الفرعية التي لا تؤثر سبباً للتفرق والخصومة والتنافر, وأن ينشغل بعضنا ببعض , فهذا ليس من الحكمة التي أمر الله تعالى بها.هل من الحكمة أن ينشغل المؤمنون والدعاة والصالحون _ مثلاً _ بالخلاف حول سنة من السنن, أو حول مسألة فقهية , ويتركوا أمرا هم يجمعون على أنه باطل وضلال ؟ ! هناك أشياء كثيرة يتفق أهل السنة والجماعة على أنها : منكرات وضلالات , بل منها ما يتفقون على أنها كفر بالله العظيم .. فلماذا لا يكون هناك تعاون في محاربة هذه الأشياء التي يتفق الجميع على أنها كفر أو ضلال, أو باطل, أو ما أشبه ذلك ... وهذا لا يعنى أننا نمنع الكلام في الأمور الفرعية , كلاً … لا مانع أن يتكلم الإنسان في قضية فرعية , أو في مسألة خلافية, فيبين الراجح من المرجوح بالأدلة, لكن الشيء الذي أقصده : أن لا يتحول هذا الأمر إلى سبب يوجب عدم التعاون بين المؤمنين في أمور يتفق الجميع على أنها يجب أن تقاوم , وتحارب .
وهناك كلمة يقولها البعض , وهى تحتاج إلى شيء من الإيضاح , فبعض الدعاة يقولون أحياناً : يجب أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه , ونتعاون فيما اتفقنا عليه . وأقول: هذه الكلمة تحتاج إلى إيضاح فلا يجب قبولها, أو ردها بدون أن تحدد : ففي قضايا العقيدة أو الأحكام التي فيها الأدلة واضحة ,ثم يأتي إنسان فيقول فيها برأى من غير اجتهاد فلا يعذر في ذلك . وكذلك التعاون فيما اتفق عليه, فهذا صحيح في إطار أهل السنة والجماعة .
أما مع الطوائف الضالة, فلا, ولابد من وضوح الراية , وتميز المنهج , وليس من المعقول مثلاً: أن أقول : يجب أن نتعاون مع الرافضة فيما اتفقنا معهم فيه, فنتعاون معهم _ مثلا _ في حرب الشيوعية, فهذا غير صحيح, فلابد من وضوح الراية حتى يكون عند الناس تمييز بين الحق والباطل, فداخل إطار أهل السنة والجماعة يمكن أن يتعاون الجميع فيما اتفقوا عليه .
الملاحظة الثانية : ملاحظة التلبيس الذي يحدثه أعداء الرسل : لاحظ قول الله جل وعلا: } شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... ( 112 ) { سورة الأنعام, إذن هناك مؤامرة عالمية, و ليست جديدة كما نتصور....قد تكون تطورت الآن, وأخذت شكلا جديدا, وأسلوبا جديدا, وبعدا جديدا, لكنها قديمة, وهى الحرب الإعلامية ضد الإسلام, وحملته, وحملة السنة, والتي تشوه الحق وتلبسه لبوس الباطل، وتلبس الباطل لبوس الحق بتزيين الألفاظ وزخرف العبارات ، وزخرف القول ؛ لذلك يقول القائل :
في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قىء الزنانير
مدحا وقدحا وما جاوزت وصفهما و الحق قد يعتريه سوء تعبير
فالآية توضح الجهد الذي يبذله أهل الباطل في تزيين باطلهم, وفى تشويه الحق } يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... ( 112 ) { سورة الأنعام, ولذلك نجد الحملة الإعلامية العالمية اليوم ضد الإسلام تسمي المسلمين: بالأصوليين مثلاً, أو بالمتشددين, أو المتطرفين .... و غير ذلك من العبارات التي تبثها وكالات الإعلام العالمية, وتتناقلها حتى الإذاعات والصحافة في البلاد الإسلامية على أنها عبارات دارجة ويصبح هؤلاء : أصوليون، ومتشددون، ومتطرفون … إلى غير ذلك من العبارات التي يلبسون بها على الناس الحق بالباطل .(1/17)
مثل آخر : قضية الأدب والشعر وغير ذلك من الوسائل المهمة في كثير من البلاد الإسلامية أصبحت وسائل للهدم والتخريب , و تهييج الغريزة والجنس والإثارة, إضافة ألوان كثيرة من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات ، و أعداد هائلة من الدواوين الشعرية التي تسير في اتجاه زخرفة الباطل وتلبيسه بالحق , وهذا يؤكد أن الكلمة من أخطر ميادين الصراع بين الأنبياء وأعداءهم فكلمة الحق لها وقع كبير , وبالمقابل كلمة الباطل لها تأثير كبير, وأهل الباطل يعملون على زخرفة باطلهم بالعبارات الرنانة, والكلمات المعسولة, و الذين ينخدعون بهذه الأشياء هم من قال الله فيهم :} وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( 113 ) {سورة الأنعام, إذن لا تروج هذه الأشياء إلا إذا كان هناك خواء روحي وعقلي, فتصبح الشعوب مستعدة لتلقى هذا الزخرف من القول , و لو كان عند الناس وعى ما تأثروا بهذا الباطل .
وهذا مما يؤكد على أنه لابد لحملة رسالة الإسلام أن يستفيدوا من أجهزة الأعلام مقروءة, أو مسموعة, أو مرئية في الدعوة إلى الحق وحمايته, ونشره وبناء الفضيلة والأخلاق, وأنه لابد من أن يستفيدوا من الوسائل الأدبية : كالقصة, و المقالة , و القصيدة في الوصول إلى كافة الناس من جميع الطبقات , وإيصال الحق إليهم . فليست المحاضرة, أو الدرس العلمي, أو الخطبة, أو الموعظة, هي الوسيلة الوحيدة ,هذه وسائل لا شك في نفعها وأنها مؤثرة ولها جمهور, لكن هناك جمهور آخر لابد له وسائل أخرى؛ لأن الحق لابد أن يصل لكل أذن بقدر المستطاع, و الله تبارك وتعالى بين الصراع في ناحية الكلمة , فقال : } ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ( 24 ) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 25 ) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ( 26 ) { سورة إبراهيم , فالكلمة الطيبة تقارع الكلمة الخبيثة , ولابد أن تقال في كل ميدان , وبكل وسيلة حتى تفعل هذه الكلمة الطيبة فعلها .
الملاحظة الثالثة : هي ثبات الحق ورسوخه وانتصاره وطيشان الباطل وزواله : وهذا ظاهر بين يقول الله تعالى:} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) {سورة الفرقان, وهذه الخاتمة : } وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا {إشارة إلى أن الله تعالى ينصر المهتدين, ويؤيدهم, ويحفظهم . و قال تعالى : } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ {سورة الأنعام , ثم عقب ذلك بقوله : } وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ... ( 115 ) { سورة الأنعام , أي : صدق في الأخبار, وعدل في الأحكام . وفى الآية الثالثة قال } ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء ( 24 ) { سورة إبراهيم , ولما ذكر الكلمة الخبيثة قال : } اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ( 26 ) { سورة إبراهيم , ثم قال : } يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ( 27 ) { سورة إبراهيم , والطائفة التي تحمل الحق سماها الرسول صلى الله عليه وسلم : الطائفة المنصورة ؛ إشارة إلى أن النصر هو حليفهم في النهاية , طال الزمن, أو قصر .
ولما قال الله عز وجل : }الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ... ( 76 ) { سورة النساء، _ وهذا نموذج من الخصومة بين الحق والباطل, وأن الخصومة قد تكون فكرية , وقد تكون في ميدان القتال _ عقب بقول : }فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ( 76 ) { سورة النساء، ولذلك نقطع بأنه : إذا وجدت معركة حقيقية بين الحق والباطل, ووجد للحق حماته الذين يدافعون عنه _ وهم موجودون لا محالة كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام _ فإن العاقبة لهؤلاء المتقين : } وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ( 128 ) { سورة الأعراف, }وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ( 132 ) { سورة طه , } وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ( 105 ) { سورة الأنبياء .(1/18)
الملاحظة الرابعة: أن هذا النصر الموعود ليس أمرا يأتي بقضاء الله وقدره بدون جهد البشر: يقول تبارك وتعالى : } ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ( 4 ){ سورة محمد, فالله تعالى خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم, ويفعلون ما يؤمرون, يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:[ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ] رواه الترمذي, وأحمد,وابن ماجه. هؤلاء لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, خلقهم عز وجل بهذه الصفة, وجعل الإنسان في ميدان الخصومة بين الحق والباطل, ولذلك قال : }وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ... (119){ سورة هود , فالله سبحانه شاء أن يخلق بشرا يمكن أن يهتدي, ويمكن أن يضل؛ ليتحقق بذلك الاختبار والابتلاء لحكمة يعلمها_ وهو عز وجل أحكم الحاكمين_ فهذا النصر ليس غنيمة باردة يقبضها الإنسان من غير ثمن بل لابد من الصبر والجهاد, وكما أن أهل الباطل يجهدون ويجاهدون ويتعبون, فكذلك أهل الخير, يقول الله تعالى: } وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ (104) { سورة النساء, إذن : الجهد الذي يبذله أهل الباطل يجب أن يبذل أهل الخير ما يستطيعون في مواجهته و} لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا (286) { سورة البقرة، المهم: أن لا يظن الإنسان أن الطريق مفروشة بالورود والرياحين ويكفيه أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاقوا في سبيل هذا الطريق ما لاقوا : فمنهم: من أُذى ... ومنهم: من أخرج ... ومنهم: من طرد, حتى قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث :[ لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا] رواه البخاري,ومسلم,وأحمد . وهذا الذي حدث فعلاً حيث أخرج النبي صلى الله عليه وسلم, فخرج حزيناً على, فلما وصل إلى الحزورة, وهو بقلب حزين دمعت عيناه صلى الله عليه وسلم, وقال يخاطب مكة:[ وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ] رواه الترمذي,وابن ماجه,والدارمي,وأحمد .فالطريق شاق وطويل, ويحتاج إلى جهاد دائم من حملة رسالة الإسلام, و الله تعالى يؤيد هذا الجهاد, ولذلك قال:} وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ (104) { سورة النساء, ويبارك فيه ولو كان قليلاً المهم أن يبذل الإنسان ما يستطيع .
المسألة الثانية والأخيرة في هذا الموضوع وهى: ميدان الصراع بين الحق والباطل:
الصراع بين الحق والباطل له ميدانان :
الميدان الأول : هو ميدان النفس البشرية, فالإنسان قابل للهدى والضلال: }وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) { سورة الشمس, } إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) { سورة الإنسان، و الإنسان حين يكون خيراً لا يعنى أن عناصر الشر زالت منه بالكلية بل النفس الآمرة بالسوء موجودة, وكيد الشيطان موجود ولذلك قد يخطئ المستقيم, أو يضل, أو ينحرف عن هذا الطريق أو يتركه حيناً, ثم يعود إليه . وبالمقابل الإنسان المنحرف والضال لا يعنى أنه أصبح شيطاناً رجيماً, فقد يستقيم ويهتدي للخير بل وحتى حين يكون مصرا على الشر الذي هو فيه لا تظن أبدا أنه لا تثور في نفسه نوازع الخير…. لقد حدثني أناس قضوا زمانا طويلاً في ميادين الشر والفساد : أن قلوبهم أحيانا تغلى بمراجل الهم والندم والحزن والرغبة في الإقلاع.(1/19)
والمؤمن قد يعصى ولكنه لا يمكن أن يفرح بهذه المعصية ويطمئن إليها بل لابد أن يوجد في قلبه ندم على هذه المعصية, ولذلك يقول الله تبارك وتعالى في صفة المؤمنين: }وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) { سورة آل عمران, وقال النبي صلى الله عليه وسلم:[ إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ] رواه الترمذي . والإنسان الطيب لا يخلو من وجود شئ من الشر يحتاج إلى مدافعة وإزالة ومقاومة ولذلك لابد من مجاهدة النفس .
وبالمقابل الإنسان الشرير لا يوجد ما يدعو لليأس منه, أواعتقاد أنه لا خير فيه, رب كلمة توافق قلباً فتتدخل فيه, وتغيره رأساً على عقب , واسأل الذين اهتدوا ؛ تجد أن بعضهم سمع برنامجاً في الإذاعة, أو سمع كلمة طيبة من أحد فتأثر بها _ وربما الذي قال هذه الكلمة لم يحسب لها حساباً لكنها صادفت قبولاً في هذا الإنسان _ فغيرت معالمه ظاهراً وباطناً ...وهذا يوجب على الإنسان الصالح عدم الاغترار؛ لأنه من الممكن أن يتغلب عنصر الشر يوماً من الأيام فينتكس والعياذ بالله, و أيضا : لا ييأس الإنسان من نفسه, ولا من غيره.
فأما اليأس من النفس فإنه من مداخل الشيطان العظيمة على النفوس ... فيأتي مثلاً إلى رجل صالح مع قوم صالحين, أو إنسان يؤم الناس في الصلاة, أو يقرئهم القرآن, أو يعلمهم العلم, أو يدعوهم إلى الله جل وعلا, وقد يكون عنده معصية خفية لايعلمها الناس فيأتيه الشيطان, ويقول له : أنت منافق تتظاهر بشيء, وفى باطنك تعلم أن عندك معاصي , وعندك كذا وكذا, فلا يزال به حتى يقنعه بترك الطاعة التي هو فيها, وقد علمت أن هناك من الصالحين من انحرف لهذا السبب, وليس العلاج بأن يترك الإنسان العوامل الطيبة في نفسه استجابة لداعي الشيطان بل نقول: ضاعف الأمور الخيرة في نفسك, وقاوم بقدر ما تستطيع المعصية, وحتى لو لم تستطيع النجاة منها اليوم, أو غداً لا تعتقد : أن الحل أن تترك أعمال الخير,وخطأ أن تعتقد أن هذا من النفاق؛لأن وجود الكره للمعصية, والحرص على التخلص منها؛ يدل على الخير, وليس مطلوبا منك أن تترك أعمال الخير, و تفعل المعصية, ويتفرد بك الشيطان ... فهذا مزلق خطي يجب أنر ينتبه له الإنسان فلا ييأس الإنسان من نفسه ولا من غيره .
الميدان الثاني : هو الصراع عبر المجتمع , فالجهاد في ميدان النفس لاينتهي, لكن الذين يجاهدون أنفسهم منهم : من ينجح في هذا الجهاد فيكون من أهل الخير,و دعاة الإسلام, ومنهم : من يفشل في هذا الجهاد, ولا يجاهد أصلا؛ فيكون من أهل الشر الذين عرفوا الحق ورفضوه, أو لم يعرفوه أصلا, وهنا يوجد الصراع بين هؤلاء وهؤلاء في الميدان الكبير, ميدان المجتمع وهذا هو الميدان الأخير للمعركة بين الحق والباطل, وبين الشيطان وبين الرسل وأتباعهم؛ ولذلك حرص الإسلام على تحصين المجتمعات من عوامل الفساد,حتى لو وجد فساد على مستوى فردى, فالإسلام حريص على أنه لا ينتشر بحيث يلوث البيئة ,وتوعد الرسول صلى الله عليه وسلم المجاهرين بقوله:[ كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ] رواه البخاري, ومسلم. وذلك: لأن بالمجاهرة انتقلت المعصية من كونها معصية فردية تضر صاحبها إلى كونها معصية عامة تلوث البيئة كلها ,ولذلك في شريعة الإسلام شرع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, والمقصود من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر _ ليس القضاء النهائي على المنكرات؛ لأن القضاء النهائي على المنكرات بحيث يصبح المجتمع سليماً من المنكر بنسبة مائة بالمائة بعيد أو غير ممكن_ وإنما المقصود وقاية البيئة العامة من التلوث؛ لأن البيئة العامة إذا تلوثت أصبح من الصعب على الإنسان أن يستقيم لأنه كما يقال: أصبح يسبح ضد التيار ...وهذا يؤكد أهمية صلاح المجتمع في صلاح أفراده .(1/20)
وفى هذا الإطار أيضا تأتي عناية الإسلام بالمظهر الخارجي : عناية الإسلام بشكل الإنسان كتقصير الثياب, و إعفاء اللحى, و عدم التشبيه بالمشركين ... إلى غير ذلك. وبعض الذين عندهم قصر نظر يقولون لك:ما هذه الجزئيات و القشور التي أشغلتمونا بها؟ لا يا أخي هذه قضية لها بعد كبير جدا لأن هذه من شأنها أن تحقق للمجتمع المسلم تميز واستقلالية, وتحفظ المجتمع من الانهيار والمشي في ركاب الأمم الأخرى أو التشبه بهم بحيث يفقد المجتمع المسلم تميزه وصلاحه . والمجتمع لا يلجأ إلى أخذ ما عند الآخرين إلا إذا شعر بالهزيمة والضعف ولذلك عقد ابن خلدون في المقدمة فصلاً :في إقتداء المغلوب بالغالب, ولذلك : لا تجد أن الأعداء يقلدوننا, بل نحن الذين نقلدهم … لماذا ؟ لأننا في حالة هزيمة حضارية, و تأخر في مجال العلم والتقدم الصناعي؛ فأصبحنا ننظر إليهم, ونقتبس منهم .
فالإسلام حرص على تميز المسلم حتى في مظهره حماية ووقاية لهذا المجتمع, و اليوم تجد : أن هناك حربا على المجتمعات الإسلامية بتلويثها : فهذه عصابات المخدرات المنتشرة في العالم جندت نفسها لترويج المخدرات بالذات في البلاد الإسلامية, وبعض البلاد الإسلامية أصبحت مركزا لتحضير, أو تصنيع, أو تهريب, وترويج المخدرات بأنواعها ...وهذا نموذج من محاولة تلويث المجتمع .
نموذج آخر :قضية الوسائل الإعلامية :واستغلال أجهزة الإعلام في التأثير على الناس.... والإعلام له أثر بالغ في تغيير مفاهيم الناس وسلوكهم وآراءهم, و هناك الكثير من القضايا الاجتماعية استطاع الإعلام أن يغير فيها سلوك الناس ويضغط عليهم, و من أمثلة ذلك:
قضية تعدد الزوجات : فلا يكاد يعرض مسلسل في كثير من أجهزة الإعلام الإسلامية يتعلق بموضوع تعدد الزوجات إل,ا ويكون ورائه الحديث عن فشل التعدد وأنه ينتهي بالرجل إلى الهروب من البيت وتحطيم الأسرة وترك الأولاد, والمرأة تذهب ضحية هذا التعدد ومازال الضرب على هذا الوتر حتى يستقر في نفوس الناس أنه فعلاً تعدد الزوجات أمر خطير . حتى وصل الأمر إلى أن تقبل بعض النساء أن تعلم أن زوجها يرتكب الفاحشة و لاتقبل من زوجها مجرد التفكير في الزواج بامرأة أخرى ... هذا جانب من تأثير أجهزة الإعلام .
جانب آخر : ما يسمى بالبث المباشر الذي من أهم أهدافه : زعزعة العقائد الإسلامية,و نشر الأخلاق المنحلة, و الرذيلة بين المسلمين, و تكريس المنكرات في المجتمع بحيث لا تنكر, ولا يفكر أحد في إزالته وربما يضحك الناس من إنسان لو فكر بتغيير المنكرات, لأنها استقرت في نفوس الناس, وتمكنت منها .
و أنت لما تجد كثيار ممن حولك يتعاطون هذا الأمر تجد أنه لا فائدة من حرية و يخيل إليك ذلك,و هذا طبعاً لا يسوغ ,فلا يجوز للإنسان ترك المنكر والسكوت عنه ... لكن هنا ينشأ جانب من جوانب الصراع بين الحق والباطل, وهذا يمر بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: بالنسبة للذين قصروا فيما أوجب الله تبارك وتعالى عليهم: أن الإنسان يسكت عن إنكار المنكر, فيقول بعض المهزومين والمخذولين: أنت تنفخ في رماد,و التيار أقوى منك اترك هذه الأشياء, هذه مرحلة ... فبذلك يترك الإنسان النهى عن المنكر .
المرحلة الثانية : بعد فترة يقع هو في هذا المنكر, فتجد الإنسان الذي كان يقول بالأمس : هذا منكر ولكن لا أنكره على الناس, انتقل إلى وقوعه هو في المنكر .
المرحلة الثالثة : تجد هذا الإنسان أصبح يسوغ المنكر, ويحاول أن يلبسه لبوس الحق ,وخذ مثالا لذلك: الغناء كل النفوس السليمة تعرف أن الغناء حرام, إذا قيل الغناء؛ انصرفت الأذهان إلى الغناء الذي يبث عبر وسائل الأعلام بالموسيقى, وهو امرأة تحن إلى رجل, ورجل يحن إلى امرأة أو يشتاق .... لكن الإنسان لما يرى أن الغناء أصبح قضية موجودة في كل مكان, يسكت عن هذا الأمر أولاً باعتبار أنه أمر انتشر, و نحن ننشغل بما هو أهم منه ... ولما ينتشر هذا الأمر تأتى بعد ذلك مرحلة أخرى: فهذا الإنسان الذي سكت بالأمس عن هذا المنكر أصبح يشارك فيه_ ولو لم يرضاه أو يقر به_ لأنه فرض عليه، بعد ذلك تأتى مرحلة ثالثة : وهى أن هذا الإنسان لا يكتفي بأنه وقع في المنكر, بل صار يبحث عن قول فقهي أو تأويل ضعيف أو رأى شاذ؛ ليقول: أن هذا الأمر حلال مباح, ولا شيء فيه، وهذا يبين لك خطورة تلوث المجتمع, و البيئة العامة .(1/21)
و أخيرا : فالصراع بين الحق والباطل قد يحتدم أحياناً, وقد يهدأ أحياناً أخرى, و في وقت :كان الصراع يمر بمرحلة يمكن أن نسميها : مرحلة فتور أو هدوء وكان غالبية الناس في المجتمعات الإسلامية في مرحلة الوسط: لا هم بالصالحين صلاحا يذكر ويتحدث عنه, ولا هم منحرفين انحرافا مشهورا, بل هم وسط فيهم خير, وفيهم تقصير, و الآن أرى أن الموضوع بدأ يتجه نحو الاحتدام؛ ولذلك تجد أن مرحلة الوسط هذه بدأت تتآكل, وصار غالبية الناس : إما يتجهون نحو الخير, أو الشر, والذين في الوسط يقلون تدريجياً, ولذلك تجد الإنسان عندما يتحدث عن الخير والصلاح والمحاضرات والدروس العلمية والصحوة يجد ميدانا خصبا للحديث؛ لأن كثيرا من الناس أقبلت على الخير,وكثير من هؤلاء كانوا بالأمس في الوسط واليوم صاروا في جانب الخير .
و بالمقابل هناك أناس آخرون استهلكتهم التيارات المنحرفة, و المذاهب الضالة، و البدع، و الخرافات، وألوان الانحراف الموجودة فبدأ الأمر يتميز, وبدأت المجتمعات تتميز _ كما ورد في بعض الآثار _ إلى : معسكر إيمان لا نفاق فيه, ومعسكر نفاق لا إيمان فيه … وهذا الاحتدام في الصراع بين الحق والباطل يبدو لي أنه مؤشر إلى أن الصراع بدأ يكون علنيا, وليس خفياً, ولذلك تجد الآن الصراع في الميدان العام وهذا يؤكد على حملة رسالة الإسلام, و الناس عموماً :ضرورة تحديد الموقف, وأن الحياد لا مكان له .
المصدر : الصراع بين الحق والباطل، للشيخ سلمان بن فهد العودة
=====================
حقيقة الصراع بين الحق والباطل..ودور الجاهلية فى ذلك
(خطبة عيد الأضحى 1421 هـ)
لقد بداء الصراع بين الحق والباطل من زمن آدم عليه السلام:
*قال تعالى:" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ(27) المائدة
**ولذلك كانت هذه السنة بين أهل الباطل أهل الجاهلية وبين أهل الحق:
*قالوا لنوح:" قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(60) الأعراف
*قالوا لهود:" قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ(66) الأعراف
*وقالوا لصالح:" وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ(77) الأعراف
*وقالوا له أيضا":قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا..(62) هود
*وقالوا للوط:" وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(82) الأعراف
*وقالوا لشعيب:" قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ(88) الأعراف
*وقالوا أيضا:" قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ(91) هود
*وقال اخوة يوسف:" إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ(9) يوسف
*وقالوا لموسى:" قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(109) الأعراف
*وعموما فقول ائمة الجاهلية لأئمة الحق:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ(13) ابراهيم(1/22)
**ومع امام الهدى وخاتم الرسل الذين هم أئمة أهل الحق وخير من واجه الجاهلية حيث قال فى خطبة حجة الوداع:" قَالَ أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ قَالَ فَقَالَ النَّاسُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ أَلَا إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلَّا مَا أَحَلَّ مِنْ نَفْسِهِ ( وفى لفظ :"ألا وكل أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع" أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ غَيْرَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ دَمٍ وُضِعَ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ أَلَا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ"...فهذا ما ربى عليه امام الولاء والبراء محمد صلى الله عليه وسلم , أتباعه ومن تبع سبيله , ولقد بين أن أمر الجاهلية نتن فقال:" مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ"وفى لفظ منتنة" أخرجه البخارى.....ولقد بين امام الحق وسيد الناس ولافخر كيف كرم الله هذه الأمة بان أذهب عنها عبية الجاهلية وخبثها ونتانها فقال صلى الله عليه وسلم:" لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ" أخرجه الترمذى وغيره...وكان ذلك لما خطبهم فى فتح مكة......ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن مبتغى سنة الجاهلية من أبغض الناس الى الله تعالى فقال عليه الصلاة والسلام:" قَالَ أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ "..والحديث عند البخارى......هذا النبي الأمى المصطفى الذى هو امام الهدى ماذا قالوا له دعاة الجاهلية وائمة الباطل.... قالوا له كما قال تعالى:" أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ(2) يونس
*وقال تعالى:" إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا(47) الاسراء
*وقال تعالى:" وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(4) ص
*وقال تعالى:" وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(6) الصف......وغير ذلك كثير تجدون خبره فى كتاب ربنا ...
**عباد الله إن أمر الجاهلية عظيم ولا يضعف الإسلام والمسلمين إلا انتشار الجاهلية وضياع الإسلام من بين أهله...ولابد أن تعرف أن سنة الله ماضية وقد أعلمنا الله أن أعداء الإسلام وأئمة الكفر ودعاة الجاهلية لن يتركوا المسلمين حتى يتحللوا عن الإسلام بالجاهلية .....(1/23)
*قال تعالى:" *وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(120) البقرة
*وقال تعالى:" وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217) البقرة......والسبب فى ذلك ما بينه ربنا بقوله تعالى:" *لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا...َ(82) المائدة
*وقال تعالى:" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ...(109) البقرة
** ثم أعلم أن أهل الجاهلية ودعاة الخراب الديني والدنيوى ودعاة الفتنة والهلكة الذين لاقيمة لدمك ولا لعرضك ولا لمالك وعيالك فانت عندهم أهون من الجعلان الذى يتكأكأ بأنفه فى الخراء ....
*أنت يامن كرمك الله مرتين الأولى كأدمى قال تعالى:" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70) الاسراء.....
*وكرمك ثانية كمسلم وهذه الكرامة ليست الا للمسلم..قال تعالى:" يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13) الحجرات....ومع هذا فأنت بكل شأنك هين أضحك مع وابكى هناك أوثان فى أفغانستان لبوذا ذلك المعبود من دون الله عند طائفة من الخلق ,خلق الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى...لما هم القائمين على البلاد بمحاولة تحطيم هذه الأوثان ماذا كان ..؟؟؟ أضحك ثم ابكى قامت الدنيا وما قعدت طلبا للحفاظ على هذا التراث الإنساني على حد قول أئمة الجاهلية ...وأنت..... أين أنت ...أين أنت ؟؟...أنت عندهم لا قيمة لك ولا كرامة ..ولا..ولا..ولا ...ولذلك يعلمك ربك جل وعلا فيقول :" *وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ...(18) المائدة....
*وقال تعالى:" *وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(111) البقرة......
*وقال تعالى:" *وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ(135) البقرة........
*وقال تعالى:" *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75) آل عمران....وهذه الفاصلة ....ثم هناك أيضا إمامهم الأكبر إمام الكبر والشر والحرب والدمار ...إبليس عليه لعائن الله تعالى , فهذا الإمام يتربص بالمؤمنين ويستعمل ضدهم كل ما يملك من جنوده وإغوائه علمنا ربنا جل وعلا فقال :" *قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39) الحجر
*وقال تعالى:"قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62) الإسراء.......ثم هو يوم القيامة ينبئك النبأ المخزى والعياذ بالله تعالى ...حيث يقول ربنا تعالى:" *وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22) إبراهيم....... وفى الحديث:"إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم"......أرأيت عدو من الخارج.....له فى إهلاكك فلسفة ...وعدو من الداخل يريد بك كل شر وهلاك ....
**فأين تذهبون ......؟؟؟(1/24)
*قال تعالى:" حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118) التوبة
*وقال تعالى:" *قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ(31) إبراهيم
*وقال تعالى:" *قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ(108) يونس.....
**وكن من هؤلاء .....كن من هؤلاء وهم الذين قال الله فيهم:" إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا(14) الكهف....
*والذين قال الله فيهم:" *الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173) آل عمران....
*وكذلك من قال تعالى فيهم:" *قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15) آل عمران
*وقوله تعالى:"وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا(122) النساء
*وقوله تعالى:"قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(119) المائدة
**ولا تكن من الذين يسارعون فى أهل الجاهلية إياك ...ثم إياك... قال تعالى:" *فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ(52) المائدة...ومن رأيت من هؤلاء لا تحزن عليه كما علم الله رسوله فقال عز من قائل:" *يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(41) المائدة
**ثم أعلم أن ربك بالمرصاد وله فيهم أخذ شديد إي والله ....
*قال تعالى:" وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102) هود ...ووالله ......له فيهم أخذ ...أمراض ..الجنود بالإشعاع وسرطان الدم.. وابتلاءات زلازل الهند وأمريكا والسلفادور ...سيول وجليد فى دول أوروبا ...درجات التجمد فى موسكو ...ونقص فى أسبانيا... وهلاك لحرثهم وأنعامهم أمرض الحمى القلاعية وجنون البقر وحدث عن أخذ الله تعالى القادر على كل شئ سبحانك يامن تمهل ولا تهمل...سبحانك..سبحانك...الله أكبر....الله أكب...وأذكر فى هذا المقام دعوة موسى التى هى كلام ربنا عز جل اذ يقول:" *وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ(88) يونس......
*وقوله تعالى:" *قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12) آل عمران
*وهذا واقع والله...ولكن أكثر الناس لايعلمون....(1/25)
*وهذه والله سنة الله تعالى .....يقول ربنا جل وعلا:" *قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65) الأنعام
*ويقول جل ذكره:" *قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11) الأنعام
*ويقول سبحانه:" *وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16) الإسراء......
**ونحن نعلم قوله تعالى :" *قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(33) الأعراف
**ومع هذا ماذا عن هذه المحرمات لقد انتشرت فى المسلمين مثل انتشار النار فى الهشيم ...فحسبنا الله ونعم الوكيل....
**وأيضا فتلك سنة ماضية من جهة أخرى وهى تمييز الخبيث من الطيب , تمييز مبتغى الجاهلية ممن يضعها تحت قدميه ..هى سنة التمييز والتذييل ....قال تعالى:" *أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214) البقرة
*وقال تعالى:" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142) آل عمران......
*وقال عز من قائل :" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(16) التوبة
**والله ينذرنا فيقول:" *وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ(44) ابراهيم
*ثم هو عز وجل يبين فيقول هاديا ومرشدا ومعلما لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا فقال عز من قائل:" *قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ(31) ابراهيم
**وبشرى لمن كان على الجاهلية أو من أهلها ثم تاب وأصلح أبشره بكلام الحبيب صلى الله عليه وسلم اذ يقول...فى الحديث الذى أخرجه البخارى فى كتاب استتابة المرتديين , عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ"
***مثال لأهل البراءة من الجاهلية:" عَنْ خَبَّابٍ قَالَ كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَرَاهِمُ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ فَقُلْتُ لَا وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ يَبْعَثَكَ قَالَ فَدَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ ثُمَّ أُبْعَثَ فَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا ثُمَّ أَقْضِيَكَ فَنَزَلَتْ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا الْآيَةَ".أخرجه البخارى في كتاب الخصومات.
.........هذا وصلى اللهم وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين..
وجمعه وكتبه الفقير الى عفو ربه تعالى…
د/ السيد العربى بن كمال
==================
السنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل من خلال دعوة الرسل لأقوامهم
إن الوقوف مع السنن الربانية المستوحاة من دعوة الرسل لأقوامهم لمن الواجبات التي ينبغي للدعاة أن يلموا بها ويعرفوها؛ ليستفيدوا منها في تفسير الأحداث والمواقف والنوازل، ولا يستغربوها ويفاجأوا بها؛ لكونها تحدث بأمر الله وحكمته التي جعلت للأحداث والمتغيرات سننًا لا تتبدل ولا تتحول.(1/26)
كما أن في معرفة هذه السنن معرفة بأسباب النصر والتمكين، وأسباب الهزيمة والخسران، وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة، وإعراض عن هدي الأنبياء، الذين ساروا في ضوء السنن الربانية؛ لأنهم أعرف الناس بالله وأسمائه وصفاته، وسننه وأيامه. وفي التفكير والتأمل في سير الأنبياء مع أقوامهم تعرف هذه الثمرة العظيمة.
السنن الربانية تعريفها، ودلالتها، ووقت ظهورها:
قال تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [137]}[سورة آل عمران]. وقال عز وجل:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً[43]}[سورة فاطر].
يُعرِّف ابن تيمية رحمه الله السنة ودلالتها، فيقول:'والسنة هي: العادة في الأشياء المتماثلة... ولفظ السنة يدل على التماثل؛ فإنه سبحانه وتعالى إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم، فإن ذلك لا ينقض، ولا يتبدل، ولا يتحول، بل هو سبحانه لا يفوِّت بين المتماثلين، وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل. كما أن من سننه التفريق بين المختلفين، كما دل على ذلك القرآن؛ قال الله تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ[35]}[سورة القلم]، ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس، واطراد فعله وسنته؛ لم يصح الاعتبار بها. والاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره، كالأمثال المضروبة في القرآن وهي كثيرة' ا.هـ.
أما عن وقت ظهورها وتحققها: فهو إلى الله، وقد يبدو للناس أن أسباب تحقق سنة الله قد انعقدت، ومع ذلك لم يأذن الله بظهورها عن علم وحكمة، قال الله تعالى:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[47]}[سورة الحج]، وقال عز وجل:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً[59]}[سورة الكهف]. يقول سيد قطب رحمه الله:'هناك حقيقة ينساها البشر حين يمكّن الله لهم في الأرض. ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله ليبلوهم فيه؛ أيقومون عليه بعهد الله وشرطه من العبودية له وحده، والتلقي منه وحده؟ أم يجعلون من أنفسهم طواغيت تَدّعي حقوق الإلهية وخصائصها؟ إنها حقيقة ينساها البشر، فينحرفون عن عهد الله ويمضون على غير سنة الله، ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويدًا رويدًا وهم ينزلقون ولا يشعرون حتى يستوفي الكتاب أجله ويحق وعد الله. ثم تختلف أشكال الأخذ والنهاية؛ فمرة يأخذهم بعذاب الاستئصال، بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام، ومرة بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث لأقوام آخرين، ومرة يذيق بعضهم بأس بعض، فيعذب بعضها بعضًا، ويدمر بعضهم بعضًا، ويسلط الله عليهم عبادًا له - طائعين أو عصاة - يخضدون شوكتهم. ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم.
وهكذا تمضي دورة السنة؛ فالسعيد من وعاها، والشقي من غفل عنها، وإنه لَمِمَّا يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو الملحد الكافر ممكنًا له في الأرض غير مأخوذ من الله. ولكن الناس إنما يستعجلون، لأنهم يرون أول الطريق أو وسطه، ولا يرون نهاية الطريق؛ لأن السنة تستغرق وقتًا طويلاً لكنها تلاحظ من خلال التاريخ'ا.هـ
ويقول الدكتور السّلمي:'والسنة الربانية قد تستغرق وقتًا طويلاً لكي ترى متحققة، في حين أن عمر الفرد محدود؛ ولذلك فقد لا يمكنه رؤية السنة متحققة، بل قد يرى الإنسان جانبًا من السنة الربانية، ثم لا تتحقق نهايتها في حياته، مما قد يدفعه إلى عدم إدراك السنة، أو التكذيب بها. وهنا يكون دور التاريخ في معرفة أن السنة الربانية لا بد أن تقع، ولكن لمَّا كان عمرها أطول من عمر الفرد - بل ربما أطول من أعمار أجيال - فإنها ترى متحققة من خلال التاريخ الذي يثبت أن سنة الله ثابتة لا تتبدل كما قال تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً[62]]}[سورة الأحزاب] ا.هـ
السنن الثابتة من خلال التفكر في تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:(1/27)
1- العاقبة للمتقين والهلاك للمكذبين المعاندين: والشواهد على هذه السنة كثيرة؛ فمن ذلك قوله تعالى عقب قصة نوح عليه الصلاة والسلام:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ[49]}[سورة هود]. وقوله تعالى- عن وصية موسى عليه الصلاة والسلام لقومه بعد أن هددهم فرعون بتقتيل أبنائهم، واستحياء نسائهم-:{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[128]}[سورة الأعراف].
وقوله تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام مع قومه:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ[72]}[سورة الأعراف]. وقال عن نبيه صالح عليه الصلاة والسلام:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ[66] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ[67]}[سورة هود].
وقوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم].
وما جرى من تحقيق هذه السنة في الماضي سيجري مثله إن شاء الله في الحاضر والمستقبل، إذا تحققت أسبابها من ظهور المتقين الذين يستحقون نصر الله عز وجل. يقول ابن تيمية رحمه الله:'فإن كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون، كان هذا موجبًا لنصرهم حيث وجد هذا الوصف، بخلاف ما إذا عصوا ونقضوا إيمانهم كيوم أحد؛ فإن الذنب كان لهم، ولهذا قال تعالى:{...وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [62]}[سورة الأحزاب] . فعمّ كل سنة له ...'ا.هـ. وقد سار شيخ الإسلام رحمه الله في ضوء هذه السنة الربانية، وعمل بها في جهاد التتار لما احتلوا بلاد الشام، وكتب للمسلمين يحرضهم على القتال، وينبههم إلى هذه السنة الإلهية في نصر أوليائه، وهلاك أعدائه. وقال في هذه النازلة يبشر المؤمنين بالنصر، وأن العاقبة للمتقين:'واعلموا - أصلحكم الله - أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون. والله سبحانه وتعالى ناصرنا عليهم ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فأبشروا بنصر الله تعالى وبحسن العاقبة {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]}[سورة آل عمران]، وهذا أمر قد تيقناه وتحققناه والحمد لله رب العالمين'.
2- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم: وهذه السنة من السنن الخالدة التي يتحمل البشر في ضوئها مسؤوليتهم فيما يقع لهم من خير أو شر؛ لأن الله عز وجل قد منح الإنسان قدرًا من الحرية والاختيار، وشرح له أسباب النجاة، وأسباب الهلاك، وأنزل عليه الكتاب، وأرسل إليه الرسل. فمنه يبدأ التغيير: سواء إلى الشر أو إلى الخير؛ قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[112]}[سورة النحل]. وإنه لجدير بالدعاة إلى الله في هذا الزمان، وفي كل زمان أن يقفوا طويلاً عند هذه السنة؛ فهي الأساس المهم، والمنهج الصحيح للدعوة والتغيير، بل هي أم السنن الربانية في البناء والتغيير.
3- الابتلاء سنة جارية للمؤمنين: وهذه السنة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق، حيث تواردت بها الأدلة الكثيرة من القرآن والسنة، وحيث الوقائع والتجارب في حياة الأنبياء وأتباعهم تشهد بذلك. ويكفي قوله تعالى:{ الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت] .
وقوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].(1/28)
وحكمة هذا الابتلاء عظيمة، وفوائده في التربية والتمحيص وتمييز الصفوف معروفة، وعلى هذا ينبغي أن توطن النفوس على هذه السنة مع سؤال الله عز وجل العافية والثبات.
كما يدخل تحت هذه السنة: سنة المداولة بين الناس من الشدة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن إدالة الكفار على المسلمين للتمحيص والابتلاء: قال تعالى:{... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]}[سورة آل عمران].
4- انهيار الأمم الظالمة وزوالها يكون بأجل: يقول الدكتور السلمي عن هذه السُّنة:'قد يرى الناس موجبات العذاب والانهيار قد حلت بأمة من الأمم، ثم لا يرون زوالها بأنفسهم. وقد أوضحنا في أول الكلام عن السنن أن سنة الله لا تتخلف، لكن عمرها أطول من عمر الأفراد، ولا تقع إلا بأجل محدد لابد من استيفائه؛ قال تعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[34]}[سورة الأعراف]. وقال تعالى:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ[5]}[سورة الحجر]، وقال تعالى:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً[59]}[سورة الكهف]'.والحديث عن هذه السنة يقودنا إلى الحديث عن سنة أخرى ألا وهي:
5- سنة الإملاء: التي يملي الله عز وجل فيها للكفار، ويستدرجهم ويمهل لهم ليزدادوا غيًا إلى غيهم وظلمًا إلى ظلمهم، ويغتروا بإمهال الله لهم حتى يصلوا إلى حد معين من الظلم والكبر والعتو في الأرض، فلا يمهلهم الله عز وجل بعده، وإنما يحق عليهم موعده سبحانه في إهلاكهم؛ لأن الله عز وجل لا يترك الظالم المتكبر يظلم إلى ما لا نهاية، وإنما يملي له ليسارع إلى نهايته المحددة، وموعده الذي يقصمه الله عنده لا يتقدم عليه ولا يتأخر.
وسنة الإملاء هذه نراها الآن تعمل فيما يفعله الأمريكان واليهود في ديار المسلمين وننتظر وعد الله فيهم؛ قال الله تعالى:{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ[178]}[سورة آل عمران].
6- سنة التدافع، وسنة الصراع بين الحق والباطل: وهذه السنة من أهم السنن الربانية التي يجب الوقوف عندها، وعدم الغفلة عنها. والمتأمل في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم يلمس هذه السنة بوضوح وجلاء؛ قال الله تعالى بعد أن انتصر المسلمون بقيادة طالوت وقتل داود جالوت [الكافر]:{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[251]}[سورة البقرة]. وقال تعالى بعد إذنه سبحانه للمؤمنين بالقتال:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[39] الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [40]}[سورة الحج].
والصراع والمدافعة بين الحق والباطل وُجِدا منذ أن أهبط آدم عليه الصلاة والسلام على هذه الأرض ومعه إبليس الملعون. واقتضت حكمة الله عز وجل أن يستمر هذا الصراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بين حزب الله، وحزب الشيطان. وليس بالضرورة أن تكون المدافعة، أو أن يكون الصراع بالقتال والسلاح. بل إنه يكون بغير ذلك، وما القتال إلا مرحلة من مراحل هذا الصراع؛ فإقامة الحجة على الباطل وأهله: مدافعة، وإزالة الشبه عن الحق وأهله: مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: مدافعة، والصبر على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة، والثبات على الدين: مدافعة وصراع.(1/29)
ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذه المدافعة والصراع، فيقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. وما دام هناك حق وباطل؛ فالصراع موجود، والمدافعة حتمية. وهذا الصراع لصالح البشرية وخيرها، ولو كان فيه من العناء والشدة والمكاره؛ فإن هذه المشقات كلها تهون وتصغر عند المفاسد العظيمة التي تنشأ فيما لو لم يكن هناك دفع للفساد وصراع مع الباطل- كما مر في قوله تعالى:{...وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ...[251]}[سورة البقرة]. وهذا يفرض على أهل الحق السير على هذه السنة، وبذل الجهد الجهيد في مدافعة الباطل وأهله، وإحقاق الحق وتمكين أهله، ورد البشرية الشاردة إلى عبودية الله عز وجل وتوحيده، وإنقاذها من الشرك ومفاسده.
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد؛ إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل الذي ارتضاه واختاره لهم. وإن الذين يؤثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله؛ إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم، وعناء أكبر يقاسونه في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. وهذه هي ضريبة السكوت، وفساد التصور، وإيثار الحياة الدنيا.
يقول سيد قطب رحمه الله:'إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده - مهما عظمت وشقت - أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة - مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق! - إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته؛ فهذه الإنسانية لا توجد والإنسان عبد للإنسان؛ وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟! وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه أو غضبه عليه؟! وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟!
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة؛ إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس - في حكم الطواغيت - أموالهم التي لا يحميها شرع، ولا يحوطها سياج، كما يكلفهم أولادهم؛ إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات، والأخلاق والتقاليد والعادات، فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها؛ فيذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية؛ حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر - كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهبًا مباحًا للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله؛ إنما يعيش في وهم، أو يفقد الإحساس بالواقع!' ا.هـ [ 'في ظلال القرآن': [3/1318، 1319]].
من كتاب:'أفلا تتفكرون؟!' للشيخ/ عبد العزيز بن ناصر الجليل
=====================
موكب الأنبياء والرسل .. وقضية الصراع بين الحق والباطل
بقلم : الأستاذ مصطفى مشهور
فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
لقد اقتضت سنة التدافع بين الحق والباطل، والصراع بين الخير والشر أن يكون للمؤمنين أعداء يتربصون بهم على مدار التاريخ ويكيدون لهم، وتكون العاقبة دائما لجند الله وأوليائه: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) - (الرعد: من الآية17) .. (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الاسراء :81) .
والمسلمون أصحاب الحق دائما أقوياء بحقهم، بينما أعداؤهم ضعفاء بباطلهم وعدوانهم، أقوياء لأن الله معهم وما دمنا نلتزم بهذا الحق ونعمل به، وهو سبحانه القوي القاهر عليهم، لأنه عدو الظالمين والباغين والمبطلين، وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين، ولذلك فنحن نرجو من الله مالا يرجون، وفي كل أدوار التاريخ وتطورات الأمم ما التقى الحق بالباطل، إلا خذل الباطل وأهله، وانتصر الحق وأهله .. يقول الحق سبحانه: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) (طه:135).(1/30)
وحين يستعيد المؤمنون أحداث التاريخ العظيم لدعوة الله ودعاتها الأبرار تجيش النفس بالذكريات وهي ترى موكب الأنبياء يحمل راية التوحيد، ويمضي في الطريق إلى الله، يحمل هموم هذه الرسالة التي خلق الله العالم من أجلها فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56) .. حين نصاحب موكب الأنبياء يزداد الأمل ويقوى الرجاء، رغم الواقع المر، والتآمر والكيد لأمة العرب والمسلمين، يقوى الأمل خاصة عند الغيورين والحريصين على مستقبل هذه الأمة، ولذلك يجب أن نتابع المسيرة وأن نعيش أحداثها، وأن نأخذ منها العبرة والعظة والدروس لواقعنا الذي نعيش فيه فنوقن بالحقائق التي تعطي الأمل بلا حساب، وتفتح أبوابه أمام المستقبل الزاهر لهذه الأمة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) .. ولقد كان المقوم الأول لدعوة الأنبياء والرسل هو التوحيد، فهو الحقيقة الأساسية في العقيدة الإسلامية، وفي كل دين سماوي جاء من عند الله .. قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25) .. وقال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (لأعراف:59) .. ويقول: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (لأعراف:65) .. ويقول: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)(لأعراف: من الآية73) .. وهكذا جميع الأنبياء والرسل دعوة واحدة إلى عبودية الله وحده.
وأن من أبعاد دعوة التوحيد، وضع الأساس للخلاص من جميع العبوديات بشتى صورها، عبودية إنسان لإنسان آخر، وعبودية شعب لشعب آخر، وعبودية الشهوات والملذات، وعبودية المطامع والأهواء، وعبودية حب الدنيا، وكراهية الموت، وعبودية الخوف على المال والنفس والولد، فالتسليم لله وحده يحفظ المسلم من كل هذه الأمراض، ويحرره من كل المعوقات، ويدفعه إلى الأمام مجاهدا عاملا غيورا على مقدسات الأمة وعزتها وكرامتها وحافظا لرسالتها في الحياة مضحيا بكل ما يملك في سبيل سيادتها، وحين نعود إلى القرآن الكريم دستور المسلمين الخالد نجده يعرض هذا الموكب في مساحات ضخمة ويشير إلى تاريخ الرسالات السماوية، وما لقيه أنبياء الله ورسله عليهم أفضل الصلاة والسلام من عنت وأذى واستهزاء، ونجد الصراع المتواصل بين الحق والباطل، وبين التوحيد والشرك، وبين الإيمان والكفر، ونجد العاقبة دائما للمؤمنين المتقين، والهلاك للمستكبرين الظالمين الباغين، يقول الحق سبحانه: (وكان حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم: من الآية47) ويقول: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ) (الانبياء:11).. ويقول سبحانه: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ، فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) (لأعراف:4-5) .. ويقول سبحانه: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:103).
ونجده يحدد العوامل التي ترفع من شأن الأمم، وتقوي بنيانها، وتنهض بها حين تأخذ طريق التوحيد، وتسلم وجهها لله، وتقيم حكمه في الأرض، وكيف كانت تنهار وتفسد حين تقصر في هذه الأسباب ويسودها الظلم ويفسق المترفون فيها، وتنقسم على نفسها، ويقع بأسها بينها، وحتى لا نقع نحن فيما وقعوا فيه، ونعتبر، يحذرنا القرآن، من العاقبة التي وقع فيها هؤلاء، حتى لا ينزل بنا ما نزل بهم، فيقول الحق سبحانه لنا: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (لأنفال:53) .. ويقول: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد:11) .. ويقول لنا: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: من الآية2).(1/31)
ولقد ختمت الرسالات السماوية برسالة الإسلام الخالدة التي حملتها الأجيال المؤمنة إلى اليوم، ومن يوم نزول هذه الرسالة وأتباعها يملكون رصيدا ضخما لا يمكن أن تملكه دعوة أخرى، ويقف تحت راية الإسلام قوة الجماهير المؤمنة بربها وقرآنها، وهي تتطلع دائما إلى من يقودها باسم الله، ويضع يدها في يد رسول الله، جاء في كتاب "الإسلام قوة الغد" للرحالة الألماني بول أشميد، يعبر عن نظرة الغربيين للإسلام، يقول: "إن مقومات القوة في الشرق الإسلامي تنحصر في عوامل ثلاثة:
أولا: في قوة الإسلام كدين، وفي الاعتقاد به، وفي مثله، وفي مؤاخاته بين مختلفي الجنس واللون والثقافة.
ثانيا: في وفرة مصادر الثروة الطبيعية في رقعة الشرق الإسلامي، هذه المصادر لا تدع المسلمين في حاجة إلى أوروبا أو غيرها.
ثالثا: خصوبة النسل البشري لدى المسلمين، مما جعل قوتهم العددية قوة متزايدة"..
ثم ختم كلامه بقوله: "فإذا اجتمعت هذه القوى الثلاث فتآخى المسلمون على وحدة العقيدة، وتوحيد الله، وغطت ثرواتهم الطبيعية تزايد عددهم، كان الخطر الإسلامي خطرا منذرا بفناء أوروبا، وبسيادة عالمية في منطقة هي مركز العالم كله".
ثم يقول محرضا للغرب على المسلمين: "يجب أن يتضامن الغرب شعوبا وحكومات، ويعيدوا الحرب الصليبية في صورة أخرى ملائمة للعصر، ولكن في أسلوب نافذ حاسم".
وهذا ما يحدث اليوم في المنطقة، فالصهاينة يمرحون ويقتلون المسلمين أمام سمع الدنيا وبصرها، وأمريكا تمدهم بكل ما يملكون وتشجعهم على المزيد من العدوان، والمسلم أصبح متهما ومطاردا في كل مكان، يقول السيد عمرو موسى أمين الجامعة العربية: "العربي أصبح المتهم الأول، حتى تثبت براءته، خاصة إذا كان اسمه محمد" .. وهذا يؤكد حقيقة المعركة وأنها معركة عقيدة وإيمان ومعركة وجود، لا معركة حدود.
إن الصراع لا ينقطع بين الذين يؤمنون بالله، والذين لا يؤمنون إلا بالمادة، ومن هنا فقد وجب على الأمة التي تواجه الأزمة الخطيرة التي تطحن العرب والمسلمين اليوم أن تبحث عن وسيلة تمنع بها الإبادة والقتل، والطرد، والامتهان، يجب أن نستيقظ على وقع هذه الكوارث التي تحرك الجماد، ونبحث عن طريق ومخرج من هذه الأزمات، إننا نعيش في عصر الذئاب المسلحة والبوارج والطائرات والأعداء المتربصين، والوحوش الطامعين، فيجب أن تعود الأمة لمصدر قوتها وسر حياتها، لدينها، وعقيدتها، وأن تفتح أعينها وتعود إلى أخلاقها، وقرآنها وإسلامها.
لقد قال الله لنا بصراحة: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)(البقرة: من الآية109) ..
وأن جميع أمنيات أعداء الله هو إعنات المسلمين وإذلالهم، قال تعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) (آل عمران: من الآية118) .. وقال: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9) .. وقال: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ)(آل عمران: من الآية69) وقال: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ)(التوبة: من الآية8) .. ومع وضوح هذا الكيد الماحق، فإن الكثيرين من أبناء المسلمين يعيشون على هامش الحياة، نعم في هذه الظروف الشديدة الخطرة المحيطة بالأمة، كم من المسلمين يهتم بما يبيته اليهود للأمة، ويستيقظ لدفع هذا البلاء، ويسعى لنصرة أمته، كم من مسلم عربي لا يعرف شيئا عما يسمى - بروتوكلات حكماء صهيون - للأسف الشديد، وهي أخطر ما اكتشف حتى الآن من وثائق سرية ذات بنود تحمل كل معاني الدمار والفساد والرذيلة، والانحلال للعالم بأسره، بكل أجناسه، وأديانه، لبناء مملكة الصهاينة .. إن الصهاينة قرروا وضع خطة سرية، لاستعباد العالم وتمزيقه بأبشع وأفظع ما عرفت البشرية، وبأي وسيلة لقيام الدولة اليهودية، وبسرية تامة، يجب أن يعد المسلمون أنفسهم لصراع طويل بينهم وبين الصهيونية الباغية المعتدية والمدعومة بالقوى الغربية، يجب أن ينطلق جنود الحق فإن النائم يجب أن يصحو، والجبان يتشجع، والضعيف يقوى، فإن قطرات الماء حين تتجمع من هنا وهناك، تكون سيلا قويا، لا يقف دونه حواجز ولا سدود، وآية من آيات هذا الدين العظيم، أن الشدائد تزيد المسلم قوة، وتجعله أصلب ما يكون عودا، وأعظم ما يكون رسوخا، وشموخا، خاصة حين تنزل به الأزمات، وتحيط به الأخطار ويشتد عليه الكرب، ويقل المساعد والنصير.
إن هذه القوى المذخورة في المسلمين التي انفجرت يوما وكان المسلمون في أشد حالات الضعف والتفرق والخذلان استطاعت أن تحطم الصليبيين في حطين، وتهزم التتار في عين جالوت، وأن تأسر لويس التاسع في دار ابن لقمان.
البعض ينتظر العدل من !الأعداء
حول خطاب الرئيس بوش(1/32)
وأخيرا ألقى بوش خطابه، وكأن شارون هو الذي يتكلم ويتوعد ويهدد، فاللهجة غريبة، والتهديدات أغرب، تهديد للأمة العربية وتوعد للمغلوبين المعذبين في فلسطين، واتهامهم بالعدوان والإرهاب، ولابد من رحيل عرفات، واستمر في الهزل فوعد بإقامة دولة مؤقتة، وكأنها خيمة تقام فوق الرمال ثم تطوى عند اللزوم، فالأرض التي تقام عليها الدولة المؤقتة يمكن أن تصادر في أي لحظة، والرجال الذين يقيمون فوقها يمكن أن يطردوا إلى أي مكان، وأعطى الكيان الصهيوني الضوء الأخضر في الاستمرار في العدوان، ونزع الشرعية عن عرفات، واختيار البديل، وتبنى كل التصرفات والقرارات الصهيونية والشروط الصهيونية.
ونذكر ببعض الحقائق المعروفة التي ينبغي أن نستحضرها دائما حتى لا نقع في دائرة حسن الظن بهؤلاء ومنها:
أولا: أن أمريكا قد صارت القوة المنفردة بالسطوة والنفوذ على الساحة العالمية، خاصة على ساحتنا العربية والإسلامية.
ثانيا: صار من الحقائق المعروفة أيضا للجميع أن أمريكا صار لها الموقف المنحاز المعلن ضد كل حقوق وقضايا العرب والمسلمين.
ثالثا: تقف أمريكا اليوم سافرة في صف الديكتاتوريات وضد الشعوب، وتجاهر بمساندتها الكاملة للكيان الصهيوني الغاصب، المعتدي على الشعب الفلسطيني المسلم الأعزل، وضد حقه في الحرية والحياة.
رابعا: يصبح من غير المنطقي أن ينتظر البعض من أمثال هؤلاء أن يقفوا موقف العدل والإنصاف، أو فهم حقوق الشعوب وعدم الانحياز.
وما أشبه الليلة بالبارحة! خصوم اليوم هم خصوم الأمس، وهم يقومون بنفس الدور، الذي كان يقوم به أعداء الدين على عهد نزول القرآن، وقال الحق تبارك وتعالى فيهم: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:32 -33) ... ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
================
سنة التدافع والمدافعة
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
الخطبة الأولى
فإن من سنة الله القدرية والكونية أن ينجي أولياءه المؤمنين ويهلك ويدمر أعداءه الكافرين، فمنذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الخلائق والصراع بين الحق والباطل على أشده فكانت إرادة الله بإهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين في كل صولة وجولة مع الكفر وأهله، فنوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم الى الله فكذبوه وكفروا به وبما جاء به من عند ربه وقام من معه يدعونهم الى الله فكذبوه وكفروا به وبما جاء به من عند ربه، وما آمن معه الا قليل، فنجاه الله ومن معه وأهلك قومه الكافرين المكذبين قال تعالى حاكياً عنه في كتابه: قال رب إن قومي كذبون فأفتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين [الشعراء: 117-120] وكذلك قوم عاد وثمود دمرهم الله وأهلكهم لما كذبوا الرسل وأشركوا بالله فقال الله تعالى: كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية [الحاقة: 4-8] .
وكذلك قوم لوط أهلكهم الله لما فعلوا الفاحشة وكفروا بالله وكذبوا رسولهم، فأرسل الله سبحانه وتعالى عليهم حجارة من السماء فدمرهم الله بها، قال تعالى: فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وماهي من الظالمين ببعيد [هود:82-83]، وقوم شعيب لما كذبوا رسولهم أهلكهم الله فقال تعالى: فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم [الشعراء:189] وفرعون الذي عتى وتجبر وطغى وأعلن كفره وتمرد على الله عز وجل دمره الله وأهلكه هو وشيعته فقال تعالى: ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون [الأعراف:137]، فهذه سنة الله القدرية الكونية في إهلاك الكافرين فكل الأمم السابقة تولى الله سبحانه وتعالى فيها إهلاك المشركين والكافرين بنفسه قال تعالى: فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [العنكبوت:40]، غير أن الله سبحانه وتعالى فضل أمة محمد على سائر الأمم بأن أقامها مقام عذابه القدري فجعل الله إهلاك الكفار على أيدي المؤمنين وهذا تشريف لمحمد ولأمته قال تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم [التوبة:14-15] .(1/33)
فمن تكريم الله لهذه الأمة أن أقامها مقام عذابه القدري ولذلك ما فرض الله سبحانه وتعالى الجهاد بنوعيه الدفع والطلب الا على محمد وأمته ولذلك كان الجهاد في هذا الدين ذروة سنام الإسلام وبه أمر النبي القائل: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فاذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، الا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل))1، إن سنة التدافع بين الحق والباطل قائمة ومستمرة الى قيام الساعة، ودين الإسلام مبني على مقاتلة الكافرين والتنكيل بهم وتطهير الأرض منهم ومن أوثانهم وشركياتهم وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله [الأنفال:39]، وهذا ما أمر الله به رسوله اذ يقول: فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون [الأنفال:57\]، يقول العماد ابن كثير في تفسيره (2:423) فإما تثقفنهم في الحرب أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب فشرد بهم من خلفهم أي: نكل بهم. قال ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدي وعطاء الخراساني وإبن عيينة ومعناه: غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً، ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة لعلهم يذكرون وقال السدي: يقول: لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.
واعلموا يا عباد الله أن سنة الله الجارية في عباده هي الدفع والمدافعة فيدفع الله الشر بالخير، والباطل بالحق، والكفر بالإيمان، والكافرين بالمؤمنين قال تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين [البقرة:251]، وقال تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها إسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [الحج:40]، فاليهود يهود الى قيام الساعة، وكذلك النصارى صليبيون الى قيام الساعة، والكفر كفر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والمؤمنون مؤمنون حتى يدخلوا الجنة، والصراع بين الفريقين قائم، والمدافعة مستمرة الى قيام الساعة بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون [الأنبياء:18]، فليعلم هؤلاء الذين يدعون الى السلام مع اليهود والتسامح مع الصليبين، والتجاوز ونبذ العداوة مع المرتدين أن هذه الدعوات يروجها اليهود والصليبيون، فمنهج التفسير الغربي للمدافعة تنص على أن يبقى اليهود والنصارى أقوياء ليطبقوا عقيدتهم فينا، لذلك يرجون بيننا دعوات الإنسانية والعالمية ووحدة الأديان، ويؤسسون منظمات العفو الدولي وحقوق الإنسان لتحقيق ما يصبون اليه ويهدفون إليه، ألا وهو إذلال المسلمين وإماتة روح الجهاد في نفوسهم، وإنني لأستغرب من دعاة السلام العربي مع دولة يهود فهؤلاء قد تنصلوا عن دينهم وأهانوا أنفسهم ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء [الحج:18] .
ومن يهُن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام، لكنني أتعجب من بعض المنتسبين الى الحركات الإسلامية حين يدعونك الى مثل هذه الدعوات، والحقيقة أن أمثال هؤلاء قد اصيبوا بإنهزامية نفسية، فباتوا يروجون لفتاوي عقيمة وكلمات ممجوجة سقيمة الهدف منها: إماتة العزة في نفس المسلم والقضاء على روح الجهاد الإسلامي لإرضاء أعداء الله ورسوله والمؤمنين.
فيا أيها المسلم إن الجهاد في سبيل الله هو عز الإسلام والمسلمين وعلم الجهاد قائم وماض الى قيام الساعة فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة))2، وهذا مما أكده رسول الله فعن سلمة بن نفيل الكندي قال: ((كنت جالساً عند رسول الله فقال رجل: يا رسول الله أذال الناس الخيل - أي أهانوها وإستخفوا بها- ووضعوا السلاح وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها فأقبل رسول الله بوجهه وقال: كذبوا، الآن جاء القتال ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيع الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله))3، هذه هي سنة الله القدرية الكونية في الصراع بين الحق والباطل وهذه هي الحقيقة الناصعة الربانية التي يجب أن نؤمن بها، أما ما يدعوا إليه المنهزمون نفسياً فإنه منهج غريب عن المنهج الإلهي ودعوة خرقاء لاصلة لها بعزة الإسلام، فنحن أقامنا الله مقام عذابه القدري، فجعل هلاك الكفار على ايدينا وهذه كرامة وشرف لنا يجب علينا أن لا نفرط فيها .
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
-----------
1 - متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
2 – متفق عليه .
3 - أخرجه النسائي (6:214) بإسناد صحيح.
الخطبة الثانية(1/34)
لقد أعطى الله سبحانه وتعالى المؤمنين ضمانات أكيدة عند جهادهم في سبيل الله، فمنها أنه يدافع عنهم، وأنه ناصرهم ما داموا ينصرون دينه، وأنه ممكنهم الأرض ومستخلفهم فيما إذا أقاموا علم الجهاد وأعترفوا بدينهم لا بغيره، قال تعالى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق الا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:38-41]، وقد يتساءل المرء إذا كان الله قد تولى الدفاع عن المؤمنين فلماذا فرض عليهم الجهاد؟ ولماذا لم يهلك الله الكافرين كما أهلك الأمم السابقة؟ ممن كذّبوا الله ورسله وبذلك يعفي المسلمين عن تكاليف الجهاد وتبعاته؟
وللإجابة عن هذا التساؤل نقول: إن الله سبحانه وتعالى فرض علينا الجهاد بنوعيه: الدفع والطلب، لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى، وقد يظهر لنا بعض تلك الحكم فمنها:
أولاً: أنه سبحانه وتعالى شرفنا وكرمنا بأن أقامنا مقام عذابه القدري فأي كرامة وتشريف أعظم من هذا.
ثانياً: أنه سبحانه وتعالى فرض الجهاد على هذه الأمة للإبتلاء، ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون [الأنفال:37]، ويبتلي الله عباده ليعلم الصادق في إيمانه من الكاذب والمؤمن من المنافق ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [محمد:31] فالله قادر أن ينتصر منهم من غير قتال ولكن جعل الجهاد والدافع والمدافعة ليبلوا المؤمنين بالكافرين قال تعالى: ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [محمد:4]، وقال تعالى: وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين [آل عمران:141]
ثالثاً: إن من الحكم التي لأجلها فرض الله الجهاد وعلى المؤمنين أن يبين أنه لا يريد من عباده مجرد صلاة وصيام وقيام وذكر وتلاوة قرآن فقط، نعم هذه العبادات مطلوبة ولكن أن يقتصر الإنسان عليها، ثم ينكفئ على نفسه فيحشرها في زاوية من زوايا العبادة كفعل الدراويش والمتصوفة، تاركاً الأرض يعبث فيها الأعداء فلا يدفعهم ولا يجاهدهم ولا يأطرهم على الحق أطراً ولا يقصرهم عليها قصراً، فهذا الصنيع مما يأباه الله لعباده المؤمنين ولا يرضاه لهم أبداً.
(والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة وليظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون جملة دعوته وحماتها من التنابلة الكسالى، الذي يجلسون في إسترخاء ثم يتنزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون الى الله بالدعاء، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الإعتداء، نعم يجب أن يقيموا الصلاة وأن يرتلوا القرآن وأن يتوجهوا الى الله بالدعاء في السراء والضراء، ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة والذخيرة التي يدخرونها للموقعة والسلام الذي يطمئنون اليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والإتصال بالله)3، إن المنهزمين نفسياً والراكضين اللاهثين خلف السلام المزعوم مع دولة اليهود غافلون عن سنة التدافع والمدافعة، فالإنهزامية التي تملأ نفوسهم سببها الذل الذي منيوا به نتيجة تركهم الجهاد في سبيل الله وما ترك قوم الجهاد الا ذلوا، وصدق رسول الله القائل: ((اذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه من قلوبكم حتى تراجعوا دينكم))4، فنحن قوم عزنا بالإسلام وبإقامة على الجهاد، شرف لنا وفخر لنا وكرامة لنا أن أقامنا الله مقام عذابه القدري ليكون هلاك الكافرين على أيدينا، فالمنهزمون نفسياً من باتوا يخافون حتى من ظلهم، فلا مقام لهم بيننا، فإن سنة الله الجارية في هذا الكون هي الإثخان بالكافرين وإظهار العداوة لهم وبغضهم ومقاتلتهم وذلك من أوثق عرى الإيمان يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم [المائدة:54] هذه هي سنة الله الجارية في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً [فاطر:43].
----------
3 - في ظلال القرآن 4:2425 - سيد قطب .
4 - أخرجه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
================
عناصر المؤامرة على الإسلام(1/35)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار وبعد:
المؤامرة على الإسلام قديمة قدم الحق والباطل، وكلكم تعلمون أول صراع نشأ بين الحق والباطل، وقد حدثنا الله -تبارك وتعالى- عنه في كتابه العزيز، وكان هذا الصراع منذ نشأة الجنس الإنساني، منذ أن خلق الله - تبارك وتعالى- آبانا آدم عليه السلام، وقام الشيطان بمعاداته، وكان الصراع بين الحق وبين الباطل، وأهبطوا إلى الأرض.
ومن هناك استؤنفت العداوة من جديد، وظهر منهجان متعارضان: نور وظلام، فحيثما فقد النور وجد الظلام، وكلما اشتد النور وقوي كلما ضعف الظلام أو اضمحل، ولابد أن يظهر أحدهما، ولا يمكن أن توجد حالة لا نور فيها ولا ظلام! أو لا حق فيها ولا باطل! ولا يمكن أن يوجد قلب بشري إلا وهو إما على حق وإما على باطل، ولا توجد أمة من الأمم إلا وهي إما على الحق وإما على الباطل، ولا توجد عقيدة من العقائد إلا وهي إما على الحق وإما على الباطل.. وهكذا إلى الأبد.
فهي عداوة أزلية كونية جعلها الله -تبارك وتعالى-. وهي أيضاً مستمرة أبدية بين الحق وبين الباطل، وكلما قويت شوكة الحق؛ كلما كانت عداوة أهل الباطل أكثر، وتعاونهم أعظم لإبادته.
• 2 - أعظم ظهور للحق
وتعلمون أن أعظم ظهور للحق هو ما كان على يد سيد ولد آدم ورسول الله إلى العالمين كافة محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا النبي العظيم الذي أظهر الله -تبارك وتعالى- به الدين، ونصر به الأنبياء السابقين أجمعين، وأبان الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- برسالته أن كل من سبقه من الأنبياء ومن دعوات الحق؛ أنها فعلاً على الحق، وأن كل من عادى الحق؛ فإنه مخذول مرذول إلى أن تقوم الساعة.
هذا الرسول العظيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جرت عليه وعلى دعوته تلك السنّة الكونية -العداوة بين الحق وبين الباطل- أي أن أهل الباطل لم يقفوا مكتوفي الأيدي لمواجهة هذا الرسول ودينه الجديد الذي جاء به، بل حاربوه أشد الحرب وأشد الأذى مما تعلمونه جميعاً، آذوه واتهموه بأشنع التهم، وحاصروه في الشعب هو وأصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم، بل أرادو قتله.
لم يتخلوا عن وسيلة يستطيعون أن يؤثروا بها عليه إلا استخدموها لكبت هذا الدين ولغمط هذا الحق، حتى الترغيب استخدموه: إن كان يريد ملكاً ملكناه! وإن كان يريد امرأة زوجناه! وإن كان مريضاً عالجناه! عرضوا عليه جوانب الترغيب مع جوانب الترهيب، كل ذلك ليطمسوا هذا النور الذي جاء به هذا النبي العظيم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتآمرت قوى الشر منذ عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك.
• 3 - موقف أعداء الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته
وتعلمون جميعاً سيرته الزكية الطاهرة - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعلمون ما وقع في يوم الأحزاب ونقوله لأن السنة فيها أوضح الدروس والمثال فيها أظهر، واجتمعت الطوائف الشريرة الثلاث التي ما فتئت إلى يومنا هذا تكيد للإسلام، وهي هي التي تكيد له هذا اليوم، اجتمع حقد المشركين وتألب عباد الأصنام والمشركون من قريش وغطفان، ومن استجاب لهما من قبائل العرب، فجاءوا إلى المدينة ، وتعاون معهم الحقد اليهودي والضغينة اليهودية التي تمثلت في بني قريظة، وتعاون معهم ما يسمى في العرف السياسي أو الحربي المعاصر -الطابور الخامس- ونعني به المنافقين الذين هم أعداء هذا الدين في كل زمان ومكان، والذين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتخلص هذا الدين من عداوتهم بالكلية، ولكنه إذا ظهر وقوي خف أمرهم، وإذا ضعف أمره؛ ظهروا وأظهروا تعاونهم مع أعداء الله تبارك وتعالى.
والنفاق باب واسع، ضعوا تحته ما شئتم من فرق النفاق، ومن طوائف الضلال، وكل من انتسب إلى هذا الدين ظاهراً وهو يعمل لهدمه باطناً، ولكن الله تعالى أظهر دينه، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، وكفى الله المؤمنين القتال.(1/36)
ولكن أعداء الله لم يسكتوا إلى الأبد، بل استمرت السنة الكونية، فبعد أن أظهر الله -تعالى- نبيه ودينه في جزيرة العرب أجمع، حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاد الجيش بنفسه إلى تبوك لمنازلة أعظم قوى الأرض وهي الامبراطورية الرومانية، وقبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ما أكمل الله له الدين، وأقام به الحجة، وترك خلفه الرجال الذين تربوا بتربيته النبوية الكريمة الطاهرة، وزكاهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتربية القرآنية، وأصبحوا أهلاً لأن يحملوا هذا الدين وأن ينشروه للعالمين، وحدثت المؤامرة وبرزت رءوسها من جديد بوفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ حصلت ردة جماعية، ونجم النفاق والكفر، وظهر من جديد في جزيرة العرب ، ولم يبق على الإسلام إلا المدينة ومكة والطائف وبنو عبد القيس في البحرين وبعض القبائل، وظهر المتنبئون الكذابون، وظهرت العداوات والأحقاد الكامنة في قلوب كثير من الناس، والضغائن التي لم يخفها إلا الخوف من قوة الإسلام وبطشه.
• 4 - جهود الخلفاء الراشدين في ردع الحاقدين على الإسلام وأهله
وقاد الصديق -رضي الله عنه- الحرب من جديد، وخرج أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة بجيوش متعددة، كل منها إلى جهة من الجهات، ونصرها الله -عز وجل- وأخضعت تلك القبائل والمناطق جميعاً، ولم تقف عند ذلك، بل انطلقت شرقاً إلى الامبراطورية الفارسية، وغرباً إلى الامبراطورية الرومانية.
وجاء الفاروق عمر رضي الله عنه فأكمل فتح البلاد، وكان مما عمله ذلك العمل الجليل العظيم وهو من أجل أعمال الفاروق -رضي الله عنه- أنه أجلى يهود خيبر لما رأى منهم العداوات والضغائن، فأجلاهم إلى أطراف الشام وإلى حيث شاءوا.
وهنا بدأ المكر يتجمع من جديد، فإن هذا الدين الذي نشره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على أيدي هؤلاء الرجال؛ قد قوض الشرك وأقام لواء التوحيد، وهدم البدع والضلالات والخرافات، وأقام السنّة على المحجة البيضاء، وهدم عروش الظلم والطغيان والفساد، وأقام حكم الله عز وجل حكم العدل والإنصاف، وهدم مجد طواغيت الشر في العالم، من القياصرة والأكاسرة، ومن دجاجلة الأديان وكهنوتها، الذين كانوا يفرضون على الناس باسم الدين التحكم في أموالهم وأعراضهم، بل وفي قلوبهم، فيملون عليهم مايريدون أن يعتقدوه.
وهدم العقائد جميعاً: اليهودية والنصرانية والمجوسية وهي أشهر وأوضع العقائد، وما تفرع عنها، وهنا كان لابد أن تكون المؤامرة، ولابد أن تتحرك الأفاعي الشريرة في الظلام، وكان مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بيد أعداء الإسلام، وأعداء الدين أولئك يرتكبون خطأ يكررونه دائماً ولا يتعظون منه، فهم يظنون أن هذا الدين مرتبط بشخص ما، قالوا: إذا قتلنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهب الدين، ولهذا وضعت اليهودية له السم -كما في الحديث الصحيح- وظنوا أنه إذا مات سيموت دينه، بعد ما حاولت بنو النضير اغتياله، وغير ذلك من المحاولات.
ولما أن فتحت تلك البلاد في عهد الفاروق عمر ، ظن أعداء الإسلام من فرس وروم ويهود ونصارى ومجوس وجميع تلك النحل أنه إذا قتل الفاروق انتهى الدين، وهكذا دائماً، كل من يرونه يحمل لواء الدين ولواء السنة يظنون أنه إذا حورب في ذاته انتهى الأمر، ونحن نعلم جميعاً أن هذا النظر خاطئ تماماً، إن الأمر أمر الله عز وجل والدين دينه عز وجل وماهؤلاء الرجال إلا أناس اصطفاهم الله تعالى بالقيام بأمر دينه، فهم ينالون الشهادة، ويخلف الله بعدهم من يقوم بهذا الدين، لأنه قد وعد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهل دينه، وتوعد أعداءه بأن يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون.. ولو كره الكافرون.
• مقتل الفاروق عمر رضي الله عنه
فكيف قتل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟
الثابت في مقتله أنه كان بمؤامرة مجوسية نصرانية ، ويقال إن لليهود ضلعاً في ذلك، ولكن الثابت أن جفنة النصراني شاهده بعض الصحابة هو وأبا لؤلؤة المجوسي ، الذي تولى عملية القتل، رأوهما ليلة اغتيال الفاروق وهما واقفان في الظلام، ولم يشعرا إلا وهؤلاء الناس يمرون عليهما، فسقط من بين أيديهما نصل عريض له حدان. وفي صباح تلك الليلة يغتال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإذا بذلك النصل نفسه هو الذي نفذ الجريمة الشنعاء في أمير المؤمنين رضي الله عنه وبضعة عشر نفراً من الصحابة في الصلاة، طعنهم هذا الفاجر المجرم يميناً وشمالاً لكي يهرب، فمنهم من استشهد ومنهم من جرح وأصيب، وكانت هذه مؤامرة، وكان هناك طرف ثالث هو الذي حرك أبا لؤلؤة وهو الهرمزان وكان ملكاً من ملوك الفرس، جيء به إلى المدينة فأظهر الإسلام، وأراد أن يهدمه، وهو الذي لقن أبا لؤلؤة المجوسي ، واتفق معه على مقتل الفاروق رضي الله عنه ولهذا قتل الهرمزان فوراً حال مقتل الفاروق رضي الله عنه.
• الفتوحات في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان(1/37)
فإذاً المؤامرة أرادت بقتل عمر رضي الله عنه أن يزول الإسلام وأن يمزق شمله.
ولكن الذي حصل أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جمع الأمة من جديد، وفتح في عهد عثمان رضي الله عنه -وهو الخليفة الراشد الثالث- فتحت من بلاد المجوس -هؤلاء- أفاقاً وبلاداً بعيدة حتى وصلت الفتوحات إلى قريب من بلاد ما وراء النهر ، مما زاد الضغينة وزاد الحقد في قلوب أولئك الكفرة ضد الإسلام.
• عبد الله بن سبأ اليهودي ومشابهته لبولس
وحينئذٍ ظهر عبد الله بن سبأ الذي حذر عنه الإمامُ الشعبيُّ رحمه الله مالكَ بنَ مغول كما ذكر ذلك ونقله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في أول كتابه منهاج السنة النبوية .
ظهر ذلك الرجل اليهودي الماكر وقد سمى نفسه: عبد الله بن سبأ ، والذي أراد أن يهدم دين الإسلام كما هدم بولس دين النصرانية .
مختصر قصة بولس أنه رجل يهودي، كان يعذب النصارى أتباع المسيح عيسى -عليه السلام- تعذيباً شديداً، فلما رأى أن تعذيبهم لا يزيدهم إلا إيماناً!! قال: لا بد من حيلة، فتحايل عليهم بالمكر اليهودي المعروف، وقال: إني كنت ذاهباً إلى دمشق وإذا بصوت يناديني من السماء، ويقول أنا: المسيح، أنا ابن الله، أنا كذا، لماذا تضطهد شعبي، ولماذا تضطهد أهل ملتي؟
ادخل في ديني، فقال: أنا دخلت الآن وأصبحت في دين المسيح، ودخل في دينهم، وأخذ يهدم دينهم من الداخل، فقال: إن المسيح إله، وقال: إنه ابن الله، وأمثال ذلك من الكفر، حتى خرب دين النصارى.
وهكذا عبد الله بن سبأ هو الذي قام بدور بولس في هذا الدين، كما أثبت ذلك الشعبي وبينه من بعده، وأضافوا إليه، ثم -أيضاً- شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وضحه، والتاريخ واضح في ذلك، عبد الله بن سبأ هذا: تآمر مع غيره؛ فخرجت في آن واحد رءوس الشر، جاءوا من مصر والكوفة واليمن ، وجاءوا من عدة جهات إلى المدينة النبوية إلى حيث الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وما زلوا يتآمرون عليه -كما هو معلوم في التاريخ- حتى قتلوه رضي الله عنه.
• خلافة علي بن أبي طالب وما فعله اليهودي عبد الله بن سبأ
وبعد ذلك لما تولى الخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل عبد الله بن سبأ في جيشه هو وأصحابه، وأظهروا أنهم يحبون عليّاً ، وأنهم يريدون أن يعطوه حقه وقدره الذي هضمه وظلمه الثلاثة الخلفاء الراشدون الأولون، وهذا هو المدخل الذي أرادوا منه أن يشعلوا الفتنة، وكانت معركة الجمل، وقد ثبت أن من قتل فيها من كبار الصحابة كطلحة والزبير إنما كانت تلك الفتنة وتلك المعركة بتحريش من السبئية من أصحاب الفتنة، أمثال هذا الرجل.
ثم لما أن ظهر أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- على الكوفة وعلى العراق جاء أولئك وأخذوا يبثون في صفوف أتباعه تلك العقيدة، وحصل من بعضهم ما عرف وكشف وهو أنهم جاءوا إليه رضي الله عنه وهو خارج، فلما رأوه سجدوا له، وقالوا: أنت هو؟!
قال : من هو؟
قالوا: أنت الله!! يقولون هذا لعلي رضي الله عنه فتعجب كيف يوجد مسلم أو إنسان يظن أن الله هو أحد البشر!! فغضب وأمر أن تحفر الحفر وأوقد فيها النيران وأحرقهم فيها، فلم ير لهم من عقوبة أزجر من ذلك، ولم ير أن يعاقبوا بأقل من ذلك، لشناعة وفضاعة ما يقول هؤلاء، كيف يعتقدون أنه إله!
ثم أراد أن يقتل عبد الله بن سبأ ولكنه نفاه إلى بلاد فارس ليتقي شره، ولأنه خشي إذا قتله أن تثور الفتنة؛ لأن أصحاب الفتنة متوافرون في جيشه، وهو يريد أن ينهي الأمر مع أهل الشام ، وحصل ما أراده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لحكمة يعلمها، وهو أنه في تلك البقعة التقى الحقد اليهودي الذي يمثله عبد الله بن سبأ مع الحقد المجوسي الذي كان كامناً ومستقراً في قلوب أولئك، لأن الإسلام قد هدم ملكهم، وشل عروشهم، ومزق حضارتهم وبلادهم، وهم المجوس الفرس، وكما تعلمون أن اليهود يعيش منهم طائفة كبيرة في تلك البلاد، فمن علامات صدق نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكل ما نراه من سيرته فهو دليل على صدقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه لا ينطق عن الهوى- أنه قال كما في الحديث الصحيح: {يتبع الدجال سبعون ألفاً من يهود أصفهان -أو أصبهان- عليهم الطيالسة }هذه المدينة فيها أكثرية يهودية وفيها أيضاً من نواح أخرى يهود، هؤلاء اليهود هم كهنة ذلك الدين الذي نشأ ليطعن دين الإسلام وليدمره تحت ستار التشيع.
فعبد الله بن سبأ وجد في الحقد المجوسي بغيته، وأخذ ينشر فيهم هذه العقيدة الضالة الفاسدة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا حباً وتعظيماً لعلي ولكن لغرض هدم الإسلام، ودخل هو واليهود الذين معه، وأدخلوا معهم هذه الأمة التي كانت جاهلة وحاقدة، إلا من اهتدى منهم.
ونحن لا نتكلم على من اهتدى، وقد اهتدى منهم كثير -ولله الحمد- لكن حصل أن هؤلاء جميعاً دخلوا في هذا الدين الذي يسمى دين التشيع، ومنذ ذلك الحين ابتدأت الأمة الإسلامية في حرب لا هوادة فيها مع هؤلاء المجوس المتسترين.(1/38)
وعندما يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمراً فإنه يهيئ له أسبابه، وكان مما أراده الله سبحانه وتعالى أنه لما جيء ببنات كسرى سبايا فتزوج بعض آل البيت منهن، وكان من ذلك أن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- تزوج إحداهن، وأنجبت له زين العابدين علي بن الحسين ، فكان علي بن الحسين أمه فارسية بنت كسرى، وأبوه الحسين بن علي بن أبي طالب فكان هذا سبباً رئيسياً في أن يعتقد عوام هذه الأمة أنه فعلاً أحق الناس بالخلافة هم هؤلاء آل البيت، ولا يوجد عندهم خليفة أو إمام إلا وهو من ذرية هؤلاء.
يقولون: إن الإمام علي هو الأول، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم من بعده من ذريته زيد بن علي بن الحسين إلى أن يصلوا إلى الإمام الحادي عشر الإمام الحسن العسكري ، ثم الثاني عشر الذي اختفى في السرداب كما يزعمون، هذه الخرافة التي لا يصدقها عاقل لا في القديم ولا في الحديث.
• 5 - المؤامرة على الإسلام بحجة اغتصاب حق آل البيت في عهد بني أمية
وحصلت مؤامرة كبرى على الإسلام في القرن الأول، فخرج المختار بن أبي عبيد ، وخرجت طوائف أخرى كثيرة بقصد تقويض هذا الدين، لكن تحت شعار أن هذا الحكم مغتصب لحق آل البيت، وكان آل البيت: محمد بن الحنفية كمثال، وهو محمد بن علي بن أبي طالب وسمي بابن الحنفية تمييزاً له عن السبطين الحسن والحسين ؛ لأنه ليس من ذرية فاطمة رضي الله عنها إنما هو ابن امرأة من بني حنيفة، وهو يعلن جهاراً نهاراً أن هؤلاء الذين يدعونني لست منهم في شيء، ولا أعرفهم، وليس لي أي صلة بهم، وتبرأ غيره كثير من أهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذين كانوا جزءاً من هذه الأمة الإسلامية، ولا يزالون -ولله الحمد- إلا من انحرف أو ضل؛ يتبرءون منهم وأولئك يعملون لهم.
واستمرت المؤامرة تحت شعار آخر، وهو لما قام العباسيون الأولون بمحاولة السيطرة على حكم بني أمية، وانتقال الخلافة من بني أمية إليهم، فدخل أولئك في خدمة بني العباس، وأرادوا أن يقيموها دولة عباسية، ويسمونها دولة بني العباس في الظاهر وتكون في الحقيقة دولة مجوسية.
• 6 - تنبه خلفاء بني العباس لمكر المجوس
وحصل أن قوض أبو مسلم الخراساني ملك بني أمية، فقام وأنشأ الدولة، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي تكفل ببقاء هذا الدين، وهو الذي وقف بالمرصاد لأعداء دينه، فيسر بأن تنبه خلفاء بني العباس لهذا الأمر.
• ما فعله الخليفة أبو جعفر المنصور
فكان الخليفة أبو جعفر المنصور -الخليفة الداهية- فطناً ذكياً، فاستدعى أبا مسلم وقتله وقتل وفرق أتباعه، وأعاد الدولة على المنهج الصحيح، وكانت دولة سنَّية، ولم تكن كما أرادوا مجوسية تتستر بالتشيع.
فأخذ أولئك المجوس يكيدون من جديد للدخول في الدولة ولو من طريق آخر، فانتشرت في عهد المهدي الفتنة التي تعرفونها جميعاً وهي فتنة الزندقة، حيث كثرت الزندقة وانتشرت داخل الدولة العباسية، يريدون أن يقوضوا الإسلام! وأن يهدموا القرآن والسنة!
ومما أوجدته الزندقة: وضع الحديث؛ فكانوا يضعون على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المئات والألوف من الأحاديث، وكان المهدي ثم الرشيد ومن بعدهما يقتلون أولئك الزنادقة ويحاربونهم.
ثم جاءت البرامكة وهم طائفة من المجوس فجاءوا من باب آخر، من باب الكرم، فكانوا ينفقون من مال بيت المسلمين ولا ينفقون من أموال كسرى، ولكن يتظاهرون بالكرم؛ فأغدقوا على الشعراء، وعلى أصحاب المصالح الدنيوية، والمطامع الرخيصة، أغدقوا عليهم الأموال، وأولئك يطرونهم ويثنون عليهم ويمجدونهم، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كان لهم بالمرصاد، حيث كشف نواياهم وخباياهم، حتى قال فيهم الشاعر:
إذا ذكر الشرك في مجلس أضاءت وجوه بني برمك
وإن تليت عندهم آية أتوا بالأحاديث عن مزدك
ومزدك هذا -المجوسي- هو الذي نشر الشيوعية في أيام الدولة الفارسية القديمة.
• ما فعله الخليفة هارون الرشيد
ولما حج هارون الرشيد رحمه الله -وكان يحج سنة ويغزو سنة- وكان يرى هذه الطائفة، ويرى ما تعمل، وعرف خباياها ونواياها، حتى هيأ الله -تبارك وتعالى- في تلك الحجة أن اكتشفهم يقيناً، وذلك عندما قال له البرامكة: يا أمير المؤمنين إن هذا البيت معظم، وإن الخلفاء يعظمونه، وخير ما يخلد به اسمك في التاريخ أن تأتي بمجامر كبيرة، وتضعها حول الكعبة وتجعل فيها أفضل أنواع العود والروائح الطيبة، ولا تزال توقد -دائماً- فيكون لك من الذكر ومن الفخر ما لا يكون لأحد من الخلفاء، فشكرهم على هذا، وفطن للأمر وشاور فيه بعض العلماء، فقالوا: هذا رأي مجوسي -يا أمير المؤمنين- من نصحك وأشار عليك بهذا؟
هؤلاء مجوس يريدون أن تعود نار كسرى إلى بيت الله الحرام، ولكن تحت ستار المجامر والطيب والعود، فما إن عاد هارون الرشيد إلى بغداد حتى قضى على هذه الأسرة وأبادهم، وكفى الله تعالى شرهم.
• ما حصل في عهد المأمون من الفتن(1/39)
ثم كان عهد المأمون ، وكانت الفتنة من نوع آخر، حيث ابتلي المأمون بفتنة الاعتزال والتفلسف، ونتيجة لذلك كان العذاب الشديد على الأمة، التي منها -كما تعلمون- الإمام أحمد ومن معه، وكان من آثار ذلك على المأمون أنه أعلن الخلافة لعلي الرضا -وهو من أئمة الرافضة الاثنى عشر كما يزعمون- فأراد أن ينقل الخلافة النهائية من بيت بني العباس إلى ذلك الرجل الذي يتستر أولئك القوم وراء الدعوة له وإلى خلافته، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحبط كيدهم، وكان في تدبيرهم تدميراً لهم، وجاء النصر للسنة.
وظهر أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على يد المتوكل ، وقضي على تلك الفئة واندحرت، وبعد ذلك النصر الذي حصل، وبعد وفاة الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بحوالي أكثر من أربعين سنة، ظهرت في أطراف الكوفة الباطنية وظهر القرامطة الأولون، ولم ينتصف القرن الرابع حتى ملأ الرفض الدنيا شرقاً وغرباً، كما قال الإمام الذهبي رحمه الله.
فكانت الخلافة كما تسمى العبيدية الفاطمية تحكم بلاد المغرب ومصر ، كما كان القرامطة يحكمون شمال الجزيرة العربية وشرقها ، ويقطعون الطريق على الحجاج، وكان بنو بويه في بغداد وشرقي العالم الإسلامي وهم -أيضاً- من الرافضة .
ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً لم يجعل على أيديهم طمس هذا الدين، ولن يكون ذلك، وإنما استمرت الحرب سجالاً بينهم وبين المسلمين، على جميع المستويات الحربية والعلمية، حتى جاء أواخر القرن الخامس وجاء الصليبيون.
وبمجيء الصليبيين يدخل طرف ثالث خطير في المؤامرة على الإسلام، وذلك أن الصليبيين لما جاءوا كانت أهدافهم وأطماعهم متركزة حول بيت القدس ، ومنه ستنطلق خططهم لهدم الإسلام والقضاء عليه.
• 7 - التواطؤ الرافضي والباطني مع الصليبيين لاحتلال بيت المقدس
فكان التواطؤ والتعاون بين الرافضة والباطنية ، الذين كانوا يحكمون بلاد مصر والشام وبين الصليبيين، فسهلوا لهم دخول بيت القدس ، ولم يكن بينهم أي حرب، وإنما دخلوه وانتهكوا حرمته، وقتلوا سبعين ألفاً من المسلمين حتى غاصت خيولهم في دماء المسلمين إلى الركب، واحتلوا القدس ، وبقي في أيديهم وانتشروا في بلاد الشام ، وكما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية والذهبي وابن كثير وكل المؤرخين الثقات وعلماء الإسلام: كان التعاون الشديد والقوي بين هذه الطوائف: الباطنية والمجوسية وبين الصليبيين على أوضح وأجلى ما يكون.
ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً قد مكن للمسلمين فجاء صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وكان صلاح الدين من فضل الله وتوفيقه له أنه فهم أصل القضية، وفهم من أين يبدأ الحل، وهذا هو الذي يجب على الأمة الإسلامية أن تعرفه دائماً، من أين تبدأ الحل في أي أزمة؟
جاء صلاح الدين والأمة الإسلامية يحكمها الصليبيون، ويحكمها هؤلاء الباطنيون الروافض المجوس، والخلافة في أشد ما تكون من الضعف، فمن أين يبدأ الإصلاح؟!
بدأ صلاح الدين من النقطة الصحيحة وهي أن يجتمع المسلمون أهل السنة على العقيدة الصحيحة على الكتاب والسنة، وأن نطهر الصف الداخلي من المجرمين، ومن المنافقين، ومن أهل الضلالات، ثم ننطلق لمحاربة الأعداء الخارجيين، ثم بعد ذلك يكون النصر بإذن الله تعالى ولهذا ترك صلاح الدين الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين ، وذهب إلى بلاد مصر فقضى على الفاطميين -وهم في الأصل عبيديون- قضى على ملكهم، وقضى على رفضهم وتشيعهم، وأحل السنة محلها، ووحد الله به أكبر قوتين في العالم الإسلامي وهي قوة الشام شرقاً، ومصر وغرباً، فتوحدت الأمة الإسلامية على السنة، ثم انطلقت بعد ذلك فكان النصر المبين بفضل الله تعالى على الصليبيين.
• تواطؤ ابن العلقمي الرافضي مع هولاكو للهجوم على بغداد
وفي أثنائها كان التتار قد بدءوا يغزون العالم الإسلامي من الشرق -كما تعلمون- وأخذوا يتقدمون ويزحفون إليه شبراً فشبراً، حتى شارفوا بغداد ، وفي ذلك الوقت كان الخليفة هو المستعصم بالله ، وكان وزيره من أولئك الروافض وهو المشهور بابن العلقمي ، وكان أيضاً من كبار المقربين إليه أو الذين يسمون علماء الدولة، الذي يسمى الخواجة نصير الدين ، وهو نصير الكفر الطوسي ، كما يقول ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم ، فاتفق ابن العلقمي وابن أبي الحديد وأمثالهم وذهبوا إلى هولاكو الوثني الزنديق، الذي لا يؤمن بأي دين ويعبد النار لأنه مجوسي واتفقوا معه على أن يدخل بغداد بالقوة، وزينوا له ذلك وهو يتردد ثم يتردد، حتى تم الصلح بينه وبين الخليفة وكأن الأمر قد عاد إلى وضع طبيعي لا حرب معه ولا شيء.(1/40)
وإذا بأولئك المجرمين يخططون لمؤامرة كان منها أنهم فتحوا الأنهار والسدود على جيوش الخليفة المستعصم ، فأغرقوهم بعد أن سرّحوا أكبر قدر منهم، وذهبوا في نفس الليلة إلى هولاكو ، فقالوا له: إن ذلك الرجل قد ضعف، وإن ملكه قد ذهب، وإن جنوده قد غرقوا، وهذه من كراماتك فادخل إلى بغداد وأعمل فيها بالسيف، وكان أولئك -أعداء الله- يظنون أنه سيقظي على ملك أهل السنة ، ثم يولِّيهم هم فيصبحوا هم الحكام.
إن أعدى عدو لهم هم أهل السنة والجماعة ، هذا أعدى عدو لأهل المؤامرة قديماً وحديثاً، وتردد هولاكو وقال: بلغنا أن من أراق قطرة من دم أحد من آل محمد فإن ملكه يتمزق وينتثر، فقالوا: نحن نأتيك بالفتوى؛ تقتل الخليفة دون أن تراق قطرة واحدة من دمه، قالوا: نلفه في الخيش ونضربه بالهراوات حتى يموت، فوافقهم هولاكو ، ودخل إلى بغداد فجأة، وقبض على بني العباس، أليسوا من آل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
أين محبة آل البيت لمن يزعمون أنهم يريدون إعادة مجد آل البيت! أو حكم آل البيت! أو محبة آل البيت!
حتى ذكر المؤرخون -كما في البداية والنهاية وغيره- أنه أخذ من بيت الخلافة ألف عذراء، أخذها أولئك الأنجاس المشركون الوثنيون، واغتصبوهن!! وكثير منهن من آل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من بني العباس، وقتلوا الخليفة على الصفة وعلى الفتوى التي أفتاهم بها أولئك الروافض.
ثم انتهكوا حرمة بغداد وحصلت مذبحة عظيمة جدا،ً حتى أن أقل الأرقام التي قيلت في الذين قتلوا أنهم ثمانمائة ألف!! لأن بعضهم قالوا : أنهم مليونان (ألفي ألف).
ودخل الناس كما يقول المؤرخون ومنهم ابن الأثير وابن كثير ، وحتى دخل الناس في الكنف في (المجاري تحت الأرض)، ليهربوا من سيف التتار فكان الوباء العظيم، حتى بعد أن انتهت المجزرة خرج أولئك فمنهم من مات، ومنهم من بقي على الحياة ثم خرج فكان من نتن الجيف الوباء الذي قضى على البقية، فكانت مذبحة على مذبحة ومصيبة على مصيبة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كان لهم بالمرصاد أيضاً، فإنّ أولئك القوم أذلوا ابن العلقمي وأهانوه ولم يقدروا أنه فعل هذا الفعل، بل اعتبروه خائناً، وبعد بضعة أشهر فطس وذهب إلى حيث يستحق من عند الله عز وجل وكذلك فُعِل بنصير الكفر الطوسي وأمثالهم.
وكان بعد ذلك المرحلة الأخرى التي أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبتلي فيها الأمة الإسلامية بهؤلاء التتار، ثم انهزم التتار، ثم ظهر الحق جلياً وساطعاً، حيث إنه في تلك الفترة كان قد ولد شَيْخ الإِسْلامِ المجدد تقي الدين أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى- فأظهر الله تعالى به الدين، وكان أكبر الملوك -ومنهم الناصر قلاوون وأمثاله- ممن وقفوا معه في كثير من الأمور، وهو الذي حرك العلماء وحرك الأمة، فحاربت التتار وهزمتهم وكذلك حاربت الصليبيين، ثم تحقق بعد ذلك بعث جديد للإسلام بفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
• 8 - المؤامرة على الإسلام في عهد الدولة العثمانية
والمؤامرة أحبطت أو كادت أن تحبط وتدمر، وبعد ذلك انتقلت المؤامرة على هذا الدين إلى نطاق أوسع، حيث أظهر الله -تبارك وتعالى- الدولة العثمانية -هؤلاء الأتراك- وكان فضل من الله -عز وجل- أن يظهروا، وتقدم زحفهم إلى داخل أوروبا ، وفتحوا معظم بلاد جنوب شرق أوروبا ، بل وشرق أوروبا .
حتى أنهم كما تعلمون دخلوا بولندا وحاصروا فيينا لمدة سنوات، فأرعب ذلك أعداء الإسلام رعباً شديداً، كيف أن هذه الدولة الفتية تتغلب على روسيا ، وتتغلب على دول شرق أوروبا وغربها، وعجزوا عن مقاومتها، فكان الحل! وهو أنهم استعانوا بتلك الطائفة الحاقدة -وتكونت المؤامرة من جديد- حيث كان في شرق العالم الإسلامي في بلاد الفرس الدولة الصفوية فجاءت هذه الدولة، فكان كلما تقدمت الدولة العثمانية في أوروبا تقدم الصفويون في داخل البلاد العثمانية، فاحتلوا العراق ودخلوا إلى بلاد تركيا نفسها، وهكذا كانوا كلما زحف الإسلام في أوروبا ، يأتون فيطعنونه بخنجرهم المسموم من الخلف، فتضطر الدولة العثمانية أن تسحب جيوشها من أوروبا ، فتقضي بها على الصفويين في المشرق.
وهكذا أكثر من قرنين أو قرابة ثلاثة قرون من الزمان حتى تم إنهاك الدولة العثمانية، ولم تستطع أن تقاوم تلك الغزوات من الخلف ومن الأمام.
ونحن الآن لسنا في قضية تقييم الدولة العثمانية، لكنها بلا شك لم تكن تملك مقومات البقاء الحقيقي، ولهذا حصلت المؤامرات عليها.(1/41)
وانتقلت المؤامرات بعد ذلك في صورة جديدة، حيث إن أوروبا نهضت النهضة القوية التي تعلمون، في ميدان الحياة، وفي الصناعة، وفي كل أمور الحياة المادية الدنيوية، وبذلك بدأت المعركة تأخذ طابعاً جديداً، وألف أحد الوزراء الأوروبيين كتاباً مشهوراً مائة مشروع لتقسيم تركيا ، ذكر فيه بالتفصيل أن أوروبا بالتعاون مع الصفويين المجوس أعدت مائة مشروع لتقسيم العالم الإسلامي -الذي كانت تسميه تركيا ، لأنها كانت تحكمه بأجمعه تقريباً- ويفشل المشروع تلو المشروع، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، فتحقق نجاح المشاريع، وقضي على تلك الدولة، واقتسم الاستعمار الشرقي والغربي الدول المستعمرة، كما في إتفاقية (سايكس بيكو) التي قسموا العالم الإسلامي فيها وأخضعوه.
ومن هنا بدأت المؤامرة في مرحلة جديدة، وفي حرب جديدة، وهي الحرب الفكرية والمعنوية للقضاء على الإسلام، لأنهم جاءوا إلى الأمة الإسلامية وهي ممزقة، وهي ضعيفة منهكة مرهقة، وهم جاءوا بحضارات علمية وبتقدم مادي، ومعهم أيضاً خططهم الفكرية، وخطط أخرى عقلية رهيبة، فأخذوا يدبرون ويحيكون المؤامرات للقضاء على الإسلام من خلال وجودهم وقوتهم العسكرية في هذه البلاد.
الأمة الإسلامية إذا واجهت مواجهة عسكرية حربية، فإنها مهما طال الزمن فإنها ستنتصر، وهذه حقيقة أصبحت لا شك فيها في تاريخ الأمة الإسلامية، فقامت في كل بلد تقريباً ثورات ضد هؤلاء المستعمرين الصليبيين الجدد، وكانوا في الخفاء يبيّتون لإنشاء الدولة اليهودية .
وهذا ما يدلنا على أن المؤامرة ثلاثية الأطراف: صليبية ويهودية ومجوسية ، ففي عام (1917م) أو حوله صدر "وعد بلفور " بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان الهدف منه هو إعادة بلاد فلسطين إلى ملك اليهود، أي إنشاء وطن قومي لليهود في قلب العالم الإسلامي وفي أرض الإسراء، وهذا ما مهدت له قوى الشر والمؤامرة جميعاً، وأخذ ينفذ بالتدريج، فكانت الحرب على جميع المستويات: منها حرب لأولئك المقاومين الذين قاوموا الاستعمار، وحرب أعظم وأشرس منها لهدم الإسلام من الداخل.
• 9 - من أعظم الأمور التي استهدف بها الإسلام لهدمه
ومن أعظم الأمور التي استهدفت المؤامرة للقضاء على هذا الدين :
أولاً: القضاء على العقيدة الصحيحة؛ لأنهم يعلمون أنها هي الأساس، فإذا ذهبت ذهب الإسلام، وكادوا لهذا الدين أعظم الكيد في كل مجال، وكما تعلمون أنهم أغروا الدولة العثمانية -نتيجة اشتغالها وانغماس كثير من أئمتها وعلمائها في الخرافات والضلالات- بالقضاء على الدولة التي قامت بفضل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والتي قامت على التوحيد، وهي الدولة السعودية الأولى، فإنهم قضوا عليها، وقضت عليها مؤامرة الشر تلك.
واغتيل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود ، الذي كان معاصراً للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله والذي كان إماماً في العلم والتقوى والجهاد فوق كونه إماماً في الحكم، اغتيل على يد رافضي من أولئك المجوس ، جاء إليه واغتاله كما اغتيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأن هذا الإمام هدم النجف وكربلاء ، وهدم تلك البقاع التي يشركون ويعبدون غير الله -تعالى- فيها.
ثم صفا لهم الجو بعد القضاء على هذه الدولة، وأخذوا يمزقون العالم الإسلامي كما يشاءون، حتى أنهم أحدثوا طرقاً صوفية جديدة، وأحدثوا فرقاً جديدة؛ وجاءوا على فرقة من بقايا المجوس ، وهي الفرقة التي كانت تسمى العلي إلهية وكان الأتراك يسمونها العلي إلهية ومعناها الذين يؤلهون علي بن أبي طالب فسموهم العلوية وأخذوا يمهدون لهم لكي يمكنوهم في بلاد الشام ، وأخذوا في كل مجال يهدمون العقيدة.
والمقصود أن الأساس الأول الذي أرادوا أن يهدموه هو العقيدة الصحيحة ويحلوا محلها الخرافات والضلالات، ولذلك فإن جميع الطرق الصوفية ومشائخها كانوا محل الاحترام من قبل المستعمرين.
حتى إن نابليون عندما قدم إلى مصر جمع مشائخ الطرق، وأقاموا المولد وحضر معهم واحتفلوا، وقال: أنا صرت واحداً منكم، وهذا دين عظيم، وهو دين تسامح ومحبة وأخلاق، لأنه لا يزعج أحداً لا مستعمر ولا عدو، وإنما فيه موالد ورقص وتسابيح وأذكار، وكلها ضلالات لا تقبل عند الله -عز وجل- وفي الوقت نفسه لا تضر أحداً من الأعداء، فكان الأعداء حريصين على أن يظل مثل هذا الدين موجوداً.
وفي الوقت نفسه حاربوا الإسلام الحقيقي والدعوة الحقيقية، وأخذت جميع الدول الاستعمارية تذكي في نفوس الناس، أن من يدعو إلى الكتاب والسنة فإنه وهابي، وأن هذه الوهابية فرقة خارجة عن الإسلام، ويجب على جميع المسلمين أن يحاربوها، فكل من دعا إلى الكتاب والسنة وإن كان لا يعرف شيئاً عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سموه وهابياً تشنيعاً لمن يدعو إلى الكتاب والسنة، وتأييداً لأصحاب الضلالات والخرافات والبدع، فكان هذا هو الهدف الأول.(1/42)
والهدف الثاني: أنهم قالوا: المرأة المسلمة هي الأساس، وهي التي تربي البيت المسلم والطفل المسلم على العقيدة الصحيحة، فلا بد أن نخرج المرأة المسلمة، فإذا أخرجناها فإنا نكون قد قضينا على هذا الدين، وقضينا على الإسلام، ومزقنا كيانه الاجتماعي، ومن هنا عملوا وبذلوا الجهود في تأسيس الجمعيات -أو الأحزاب كما كانت تسمى سابقاً- والمجلات النسائية، وأخذوا يفسدون المرأة المسلمة وينشرون الفساد في كل مكان لإخراجها، وينشرون السموم التي تدعوها إلى أن تطالب بحقها من الرجل، وأن لا يظلمها الرجل، وأن لا يمتهن كرامتها، وأنها جديرة بأن تقاوم، وجديرة بأن تحقق وبأن تفعل كذا.. حتى قضوا على الحجاب في أكثر البلاد التي دخلوها مع أنهم لما دخلوها كان لا يوجد فيها امرأة مسلمة لا تغطي وجهها، ولم يخرج المستعمرون إلا وأكثر البلاد لا توجد امرأة مسلمة تغطي وجهها إلا القليل النادر، وكان هذا بخطة ومؤامرة ذكية.
أيضاً هناك جانب ثالث قالوا: لا بد من الطمس والقضاء على الشريعة الإسلامية، وعلى الأحكام الإسلامية، ليحل محلها القوانين الوضعية، ففي الجانب الاقتصادي قضوا على الشريعة الإسلامية التي فصلت الأحكام في الربا، وفي الصرف، والرهن، وفي الوكالة، والكفالة، وفي القروض، والمساقاة، وفي المزارعة وفي كثير من الأحكام المذكورة في كتب الفقه.
وقالوا: الإسلام لاينظم الجوانب الاقتصادية، فجاءوا برباهم، وببنوكهم الاستعمارية، ونشروها بين المسلمين، ثم قضوا على الحدود، وقالوا -مثلاً-: الزاني كيف يرجم، أو يقتل، لكن قانون نابليون يقول : "إن كان الزوج راضياً فلا شيء على المرأة، لأن هذا حق شخصي للزوج يطالب به في المحكمة، وهناك عقوبة إما الغرامة وإما سجن مدة من الوقت" فغيروا -أيضاً- أحكام الشريعة، وأحلوا محلها قوانينهم الوضعية الإباحية الانحلالية.
هناك أيضاً جانب آخر -قد يغفل عنه الكثير، ولكنه مهم بالنسبة للأمة الإسلامية- وهو أنهم خططوا للقضاء على اللغة العربية، ونحن المسلمين لدينا استهانة عجيبة باللغة العربية، فلا نبالي حتى من كان منا على مستوى كبير في الثقافة أو في المنصب لا نبالي بما نلحن وما نخطئ في اللغة العربية، بينما الواحد منا إذا تعلم اللغة الإنجليزية مثلاً: لا يمكن أن يضع أي فعل من أفعال التكوين بدل الآخر، وإلا ضحك عليه زملاؤه، فأي شيء بسيط لا يمكن أن يكسره في اللغة الإنجليزية -مثلاً- لكن في اللغة العربية يكسر ما شاء، ويقول ما شاء، ولا رقيب ولا حسيب عليه، وهذا من قلة اهتمامنا بها ومن عدم معرفتنا لأهميتها.
فإنه عن طريق فهم كتاب الله وفهم سنّة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعبد الله عز وجل على بصيرة، ولا يمكن أن نفهمهما إلا باللغة العربية، ففصلوا بين المسلمين وبين اللغة العربية، ونشروا اللغات الأوروبية نشراً قوياً، حتى أصبح الإنسان كأنه لابد في أكثر البلاد الإسلامية أو كلها حتى الدكان الصغير الذي لا يمر عليه أي أوروبي، ولا يشتري منه أي أوروبي ولا أمريكي أن يكتب بالعربي ويكتب بالإنجليزي، هذه الازدواجية هم الذين سعوا إليها وأرادوها، وأخذناها ببساطة وبغفلة شديدة.
ومن جانب آخر أحيوا اللهجات المحلية والتراث المحلي، ونبشوا الأصنام القديمة وأظهروها، ونبشوا الحضارات القديمة، وقالوا: هذه حضارتكم فجعلوا لكل قطعة من بلاد العالم الإسلامي حضارة مستقلة، فجاءوا إلى مصر -وهي ركن قوي في جسم الأمة الإسلامية- قالوا: أنتم فراعنة، وحضارتكم تمتد سبعة آلاف سنة، وجعلوا الفتوحات الإسلامية بأسماء غربية فقالوا: الغزو الفارسي، والغزو العربي، والغزو العثماني، هؤلاء كلهم غزاة غزو مصر .
وأحيوا الفينيقية، والآشورية، والبابلية، وفي كل بلد أحيوا الحضارات القديمة الوثنية، والتي يعود بعضها إلى آلاف السنين لينسى المسلمون أنهم أمة واحدة، وأنهم كالجسد الواحد، وأن تاريخنا قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظلام، وفوضى، وهمجية، وانحطاط، ويجب علينا أن نستحي أن نذكره، ولا نذكره إلا على سبيل الاستهجان، كما بين ذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى النجاشي وقالوا: 'كنا نأكل الميتة، ونقطع السبيل' نفعل ونفعل، تاريخ أسود لا يجوز أن يذكر، ولا ينبغي لعاقل أن يفتخر به.(1/43)
فجاءوا، وقالوا: لا بد أن تفتخروا بذلك، ولا بد أن تعملوا حفريات في الصحاري البعيدة لتجدوا مدينة عمرها أربعة آلاف سنة، وإذا أخرجوا من الحفريات شيئاً بسيطاً كإناء مكسور ضخموا هذا الاكتشاف، وتضيع فيه الملايين، وتضيع فيه الجهود، والهدف هو أن تنقطع صلة الناس بهذا الدين وبلغته وبتاريخه ويصبح تاريخاً جاهلياً، وأيضاً عملوا على إحياء اللغات المحلية والحضارات القديمة، وهدفهم من ذلك تقطيع أواصر هذا الدين، وتقطيع أواصر هذه الأمة حتى لا يجمعها أي شيء، وكان هذا -أيضاً- باباً من أبواب المؤامرة على الإسلام في هذا العصر، وهي مؤامرة -كما قلنا- مستمرة بدأت من الصراع بين آدم عليه السلام وإبليس وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
• 10 - تخطيط أعداء الله للقضاء على الصحوة الإسلامية
لا نستطيع أن نفصل أكثر من ذلك فيما يتعلق بمحاور الغزو الفكري الحديث، والذي نستطيع أن نقوله: إن المؤامرة نجحت فيها، لكن ننتقل إلى ما بعد ذلك وهو:
كيف خطط الأعداء للصحوة الإسلامية المعاصرة؟
أولاً هم وجدوا أنه منذ عشرين سنة بدأت في العالم الإسلامي صحوة، ويقظة، ونهضة، وعودة إلى الكتاب والسنة، على أيدي الشباب الذين بدءوا يفقهون ويتلمسون الطريق، فكان لا بد من اتخاذ طريقة جديدة وخطوة جديدة، وهي: أن يعاد في هذه الأمة بعث تلك الفرق القديمة، لأن شباب العالم الإسلامي -الواعين منهم- أخذوا يتحصنون ضد كل ما هو غربي، فالماسونية والشيوعية وكل الأحزاب والفرق الأخرى أصبحت الأمة في ملل منها بعد معرفتهم بحقيقتها، فقالوا: لا بد أن نحيي ونبعث الفرق الضالة.
أيضاً الحضارات الوثنية القديمة لم تؤد الدور المطلوب، ولم يستجب لها الكثير، إذاً بعث الديانات القديمة هو الذي يمكن أن يستوعب هذه الصحوة، ويفرقها ويمزق شملها، ومن هنا أعادوا مجد الرافضة بالحدث الذي تعرفونه، وأعادوا -أيضاً- مجد غيرها من الفرق عن طريق البحث والتحقيق.
وإذا قرأتم -مثلاً- معجم المستشرقين أو الكتب التي تحدثت عنهم، فانظر ماذا يحقق المستشرقون من الكتب، هل لديهم أي اهتمام بنسخة من صحيح البخاري أو نسخة من مسند الإمام أحمد قديمة؟!
لكن انظر بأي شيء يهتمون؟
تجدها عقائداً منحرفة وفرقاً قديمة، يهتمون بها ويحققون كتبها ويطبعونها وينشرونها حتى تملأ الآفاق، وما ذاك إلا لتمزيق هذه الأمة، وهذه الصحوة الإسلامية التي بدأت -ولله الحمد- تفرض نفسها في الواقع، فهم يريدونها إذا أرادت أن تعود أن تحتار!! أي إسلام تعود إليه! تجد في المكتبة الواحدة: كتب رافضة ، وكتب سنة، وكتب خوارج وكتب معتزلة .. كتب فرق كثيرة، فلايدري إلى أين يتجه، وأيضاً يجد كتباً تطعن في كتب السنة، وكتباً أخرى تطعن في القرآن وهكذا.
فهذا الغزو الفكري أصبح يمر بمرحلة خطيرة ودقيقة جداً، يتطلب من جميع المسلمين -وخاصة الشباب- أن يكونوا على وعي وبصيرة بما يراد لهذه الأمة، وهذا أحدث ما يمكن أن نقول، أن الاستعمار أو التخطيط أو التآمر اليهودي الصليبي المجوسي يعمل ضد هذه الأمة، وبدأ يتتبع هذه الصحوة، يحاول أن يوجه -هو- مسيرتها وأن يمزقها ذات اليمين وذات الشمال، ويبعدها عن منهج الكتاب والسنة الذي يجمع الله به هذه الأمة، والذي يظهر الله به هؤلاء الشباب، وهؤلاء العلماء الذين هم قائمون عليه، والذي يعيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، بإذن الله تعالى من قوةٍ وعزٍ وتمكينٍ للإسلام.
• 11 - الأمور التي بها يتم الانتصار على أعداء الإسلام
وكما لاحظنا في كل مرة فالمؤامرة في النهاية تنهزم، لكن تنهزم بقوة إيمان صادقة،وبعودة إلى الحق، ولهذا لا بد أن ننتبه إلى أمرين مهمين ويجب أن ننبه الإخوان عليهما:(1/44)
1- أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من قبل نفسها، حتى في غزوة أحد ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو القائد وأصحابه هم الجيش، قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] فلا تصيبنا مصيبة في أي مرحلة من مراحل تاريخنا إلا بذنوبنا، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا تركتم الجهاد، واشتغلتم بالدنيا، وأخذتم بأذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم } وهذا يعني أننا إذا اشتغلنا بالدنيا، فاهتم -مثلاً- كل إنسان بوظيفته، وماله، وأسرته، وبيته، وتنمية موارده، واشتغل كل المسلمين بذلك؛ فإننا نكون لقمةً سائغةً لأعداء الله، وإذا اهتممنا بالآخرة وبديننا نصرنا الله كذلك، إذا أصلحنا ما بيننا وبين ربنا -عز وجل- وإذا تركنا الربا والزنا والفساد، وبذل أموالنا لدعم الشر -كما يحصل الآن للمسلمين- يشترون الأفلام والمجلات الخليعة، ويدعمون الشر بأموالهم، ويذهبون إلى بلاد الكفر فيصبون أموالهم هنالك على الفساد والمعاصي، فيعطونهم مالهم وينسلخون عن دينهم ويعودون، وهكذا.
المقصود أننا أمة لا تؤتى إلا من قبل نفسها، كما كتب ذلك عمر -رضي الله عنه- إلى سعد بن أبي وقاص وإلى جيش المسلمين، الذين واجهوا أعتا أمة على الإطلاق، وهي أمة الفرس المجوس قال : [[ولذنوب الجيش عندي أخوف عليهم من عدوهم، فإن الله إنما ينصرنا بطاعتنا له ومعصيتهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة ]] وهذا واقع في كل وقت أن أعداء الإسلام أكثر منا، ولا يوجد مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي إلا وكانت الجيوش الإسلامية أقل عدداً من محاربيها، ومع ذلك ينتصرون إذا كان الإيمان بالله عز وجل، فهذه القضية الأولى: أن نحاسب ونراجع أنفسنا قبل أن نلقي اللوم على أعدائنا الذين يتآمرون علينا.
2- الأمر الآخر: أن نعرف عدونا، وأن نعرف مكره وخيانته ومخططاته، وأنهم كما بيّن الله تبارك وتعالى من عداواتهم أنهم يظهرون لنا العداوات وهي ظاهرة وواضحة ولكن ما تخفي صدورهم أكبر وأعظم وأشد، وأنهم لا يألون جهداً ولا يرقبون فينا إلاً ولاذمة، وأنهم لا يريدون ولا يرضون منا إلا أن ننسلخ عن ديننا، وأن نصبح عبيداً رقيقاً لهم، سواء كانوا في الشرق أم في الغرب، من المنافقين أم من الأعداء الخارجين، فإذا عرفنا عدونا فإننا حيئنذ -بإذن الله- مع إيماننا بالله عز وجل ومعرفتنا له وطاعتنا له؛ نستطيع أن نقاومهم، أما إذا بقيت الأمة الإسلامية في غفلة عن معرفة أعدائها ومن هم، فإن هذا مما يعيبها ويشينها ويجعلها لقمة سائغة لهم، والمشاهد والملاحظ في الأمة الإسلامية -وللأسف- أنها إذا ضربت أفاقت، وتبقى إفاقتها مادامت الضربة حارة ساخنة، فإذا بردت تعود إلى النوم فتأتي ضربة أخرى وهكذا، وهذه من الأخطاء التي حلت بالأمة الإسلامية، فيجب أن تكون دائماً مستيقظة، وحذرة؛ لأن الأعداء لا ينامون ولا يغفلون.
• 12 - الأسئلة
• أحوال الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال: عندما ارتد معظم أهل جزيرة العرب عن الإسلام في عهد أبي بكر رضي الله عنه هل هذا إشارة إلى أن إسلامهم في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان تحت قوة السيف أو لأطماع أخرى، ولم يكن رغبة في الإسلام ذاته؟
الجواب: هم أصناف: منهم من دخل في الإسلام أو أظهر ذلك وهو كاذب، ومنهم من لم يتلق التربية الكافية في أن يكون مؤمناً حقاً، ومنهم من ظنَّ أنَّ المسألة حدث من الأحداث العادية: رجل تغلب ثم مات، ومادام أنه قد مات فإن أمره قد انتهى، فهم أصناف متفاوتة في ذلك، لكن الطابع العام أو العبرة العامة التي يجب أن نأخذها، هي أن الإنسان الذي لم يتلق التربية الإيمانية الكافية هو عرضة للانحراف وأن يرتد إذا وجد المؤثر، فإنه بلا شك أن وجود المجرمين المتنبئين الدجالين ماكان ليظهر لولا أن صدقهم أولئك الذين كانوا حديثي عهد بإسلام، وضعاف الإيمان، ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم، كما ذكر الله تعالى ذلك عن الأعراب، فمعظمهم على هذه الشاكلة، بخلاف مكة والمدينة ، والبلاد التي كان الإسلام فيها قديماً، كبني عبد القيس فإنها ثبتت لأن الإيمان قد ثبت وتأصل في النفوس.
• الطريق الذي يجب أن يسلكه الشاب لمواجهة الأعداء
السؤال: لاشك أن أعداء الإسلام يجتهدون في الليل والنهار لهدم هذا الدين، فما الطريق الذي يجب أن يسلكه الشباب المسلم لمواجهة هؤلاء الأعداء؟
الجواب: قد اختصرنا الإجابة عليه في أمرين:-(1/45)
الأول: أن نكون نحن أهلاً لنصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وذلك بتقوى الله وبطاعته الله، وبالتزام أوامره، وبالتمسك بهدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته، وترك جميع البدع والمعاصي والشركيات، لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] فإذا صبرنا واتقينا؛ فإن كيد المؤامرات لا يضرنا أبداً -بإذن الله- ولكن إذا لم يكن فينا شيء من ذلك، أو ضعف فينا الصبر والتقوى، فإننا نكون عرضة لذلك.
والأمر الآخر -كما أشرنا- أن نعرف أعداءنا، وأن نجتهد مثلما يجتهدون وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] فهم يبذلون الجهود والأموال والتضحيات ليل نهار ومصيرهم إلى النار، فكيف لا يبذلها من مصيره -بإذن الله تعالى- مع إخلاص النية وصدق العمل إلى الجنة، هذا هو المهم.
• صحة ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من المشرق يطلع قرن الشيطان
السؤال: ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال عن جهة المشرق عندما ذكر أهل الشام واليمن بالخير، قال عن المشرق: هناك قرن الشيطان، هل الذي ورد صحيح، وهل توضحوا لنا ذلك؟
الجواب: نعم الحديث صحيح { ويطلع من هاهنا قرن الشيطان، وأشار بيده إلى المشرق أو نجد } وفيه دلالة من دلائل النبوة على صدق نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الإنسان إذا كان في المدينة -كما تعلمون موقعها- وأشار إلى جهة المشرق أو إلى جهة نجد ، فإن الفتن تكون من هنالك، فمعنى ذلك أنه الجناح الشرقي من العالم الإسلامي، وأوضح مثال لذلك بلاد الفرس وما حولها، تكون مصدر الفتن للإسلام، وهذه حقيقة، فإن الإنسان إذا قارن ما ظهر من الضلالات، ومن الفرق، ومن الطوائف، ومن الكيد للإسلام من المشرق بما ظهر في المغرب ؛ لوجد النسبة ضئيلة جداً لا تكاد تذكر، حتى أن العبيديين الذين حكموا مصر وبلاد المغرب أصل تربيتهم كانت في الكوفة في المشرق، فهذا إشارة إلى أن أعظم من يكيد للإسلام، وسيظل يكيد له إلى قيام الساعة هم أمة المجوس الفرس، إلاّ من هداه الله تبارك وتعالى منهم ودخل في الإسلام، ولو استعرضتم وقرأتم كتب الفرق -أي كتاب من كتب الفرق- كالملل والنحل ، والفرق بين الفرق ، والتنبيه والرد وأي كتاب آخر تجدون أن حوالي (80%) أو (90%) من الفرق ظهرت من تلك البلاد بالفعل، فهذا تصديق لما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
• تشويه صور الصحابة
السؤال: من مؤامرات أعداء الإسلام إدخال الدسائس في التاريخ الإسلامي، وذلك بتشويه حياة الصحابة والتابعين وغيرهم وتصويرهم بأنهم خمارون وعشاق، فحبذا أن تبين لنا قليلاً في هذا الموضوع؟
الجواب: نعم هذا من أهدافهم؛ لأن القدوة التي يقتدي بها المسلمون ليعودوا إلى دينهم الحق هم هؤلاء الرجال، فإذا تشوّهوا فإنّ القدوة تكون مفقودة، ومالنا نقول شوهوا الصحابة والتابعين، وقد شوهوا سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! انظروا إلى الذين كتبوا عن سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموجودة في القرآن وهو المصدر الأول لها والسنة الصحيحة، انظروا إلى الذي كتب على هامش السيرة وأدخل في السيرة من اختلاقه المحض، الذي لا وجود له لا في كتب المسلمين ولا اليهود ولا النصارى، وفيه روايات طويلة وحب وغرام وأشياء أخرى، وغيره أيضاً، ماذا كانوا يريدون؟
ثم جاء بعدهم من يكمل المؤامرة، فيقول: نحول كتاب على هامش السيرة إلى مسلسلات في رمضان، لأن هذا كتاب عظيم والمؤلف قدير ومشهود له، فيزداد البلاء بلاءً، كان الواحد يقرأ أن فلاناً أحب فلانة ويأتي وإذا به يشاهد مشهد حب علني واضح أمامه وباسم سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانظروا إلى أي حد يصل الامتهان والاحتقار لهذا الدين ولرسوله العظيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أي حد تكون غفلتنا! فشوهوا سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشوهوا تاريخ الصحابة.
أبو عبيدة أمين هذه الأمة كما نطق بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يفتح الله على يديه بلاد الشام ، يكتبون عليه في كتبهم وفي مسلسلاتهم أنه فتح بلاد الشام عن طريق العشق والحب!! الذي وقع بينه وبين بنت هرقل ، أمين هذه الأمة عاشق خائن، فبالله من هو الأمين فينا إذاً؟!
هل فينا إذاً أحد أمين؟!
إذا كان أميننا بهذا الشكل؟!
وهكذا يريدون أن يشوهوا خالد بن الوليد ، كما كتبوا: يقاتل المرتدين لأن مالك بن نويرة لديه زوجة جميلة ويريد أن يتزوجها، وفي معركة واحدة تكسرن عشرة سيوف في يد خالد بن الوليد أمام الفرس، وشهد لهم بأنه مارأى أمة أقوى منهم.(1/46)
ووصل إلى المدينة من سبايا الأمم ما عجز الناس عنها، حتى أصبحت أجمل بنات الفرس والروم من بنات الملوك تباع بدينار وبدينارين، فهل هؤلاء ناس يريدون الشهوات؟!
يتركون هذا البيع المعروض ويذهبون إلى تلك البلاد، ويموتون على أسوار القسطنطينية وعلى حدود الصين وفي الأندلس وهدفهم البنات -سبحان الله!- ولو قيل لأحد منا -وعلى ما في إيماننا من ضعف وعلى ما فينا من ذنوب- أن هدفك من هذا العمل بنت تراها وتحبها، والله لا يرضى، وسيغضب ويقاتل، ويطالب بحقه، وكلنا لا نرضى بهذا، ويكتب عن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبرمج ويوضح علانية عنهم أو عمن بعدهم ولا نكاد نتأثر -سبحان الله!- هذا دليل من الأدلة على الحال التي وصلت إليه هذه الأمة.
• سبب حقد أعداء الإسلام على الإسلام
السؤال: لماذا هؤلاء الحاقدون على الإسلام يريدون تدمير هذا الإسلام الحنيف؟
الجواب: الشرك يريد أن يدمر التوحيد، والبدعة تريد أن تدمر السنة، والمعصية تريد أن تدمر الطاعة، والشيطان يريد أن يدمر الإنسان التقي النقي الصالح، فكيف لا يقع هذا العداء، ولم نعجب منه؟!
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36] فهذا الشيطان، وهؤلاء أذنابه وأذياله وأتباعه، فهم أعداء حسب السنة الكونية التي جعلها الله تبارك وتعالى حينما أهبطهم منها جميعاً -أي الشيطان وآدم عليه السلام- فإن العداوة لا بد أن تستمر، وكيف لا يعادينا اليهود وقد قتلوا وطردوا من بلاد الإسلام؟!
كيف لا يعادينا المجوس وقد دخل المسلمون بلادهم، وهدموا عروشهم، ودمروا دينهم، واحتلوا كافة ممتلكاتهم؟!
كيف لا يعادينا النصارى ونحن نعبد الله، وهم يعبدون المسيح، ويعبدون الصليب، وقد دخل أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعز وأعظم ممتلكاتهم، وهي الشام ومصر وشمالأفريقيا ، وأخذوها وغزوهم في عقر دارهم؟
هذه سنة الحياة، ولا بد من الصراع بين الحق والباطل، حتى وإن تهاونّا نحن غزونا في عقر دورنا، فلا غرابة إذاً في هذه العداوة.( د- سفر الحوالي)
=============
قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر
الشيخ ياسر برهامى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
أظهرت تصريحات بابا الفاتيكان الأخيرة الحقد الدفين، والبغضاء العظيمة، والجهل المفرط بالإسلام ونبيه الكريم –صلى الله عليه وسلم- وشرائعه العظيمة، كما أخبر الله عز وجل عنهم محذرا المؤمنين من مباطنتهم وموالاتهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118) قال ابن كثير -رحمه الله- (لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ) أي من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخل أمره. ثم ذكر أثر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قيل له : إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ وكاتب فلو اتخذته كاتبا. فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين، وذكر قول النبي –صلى الله عليه وسلم- (لا تستضيوا بنار المشركين) وبقوله (لا تستشيروا المشركين في أموركم). وهذا وغيره من الآيات توضح لنا ما يحاول أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين إخفاءه من حقيقة العداوة الكامنة للإسلام وأهله.
وإنما تمثل هذه التصريحات حلقة من سلسلة من الأقوال والأفعال يقولها ويفعلها قادة الغرب ضد الإسلام، ومن أخرها تصريحات بوش عن الإسلام الفاشي، وما موقف الغرب من قضية الرسوم الدنمركية ببعيد، وكل هذه المحاولات للنيل والطعن في الإسلام هي من مكر الله عز وجل بهم، لأنها تذهب الغمة عن كثير من المخدوعين من المسلمين بصداقة الغرب، ومساواة الأديان، وحوار الحضارات وليس صراعها، بحيث لا يبقى من يشك في عداوتهم وكفرهم إلا أهل النفاق، الذين هم العدو فيحذرهم أهل الإسلام، ويعلمون أنهم الطعنة التي وجهها هؤلاء للمسلمين. "
أما عن المطاعن التي وجهها هذا الطاغوت للإسلام فهي والله كلها سهام مردودة عليه.
فنظرة واحدة على العقائد الإيمانية بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقدر التي جاء بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- تدل كل عاقل على أنه لم يبق أحد يدعوا إلى دين الأنبياء إلا أهل الإسلام، فهل تجد أمة تؤمن بالتوحيد الذي هو أول الوصايا عند كل الأنبياء كما هو مكتوب في التوراة والإنجيل حتى بعد التحريف إلا أمة الإسلام(1/47)
هذا شعار الإسلام "لا إله إلا الله" هو الذي يحقق الوصية التي هي أول الوصايا " والرب إلهنا رب واحد رب إبراهيم واسحق ويعقوب" كما قال عيسى عليه السلام. والمقارنة مع دين النصارى نجد أن هذه الوصية قد توارت واختفت، وأصبح التثليث وتأليه المسيح واعتقاد صلبه لفداء خطيئة البشرية الموروثة هو شعار النصارى وأصل عقيدتهم. وأما اليهود فإلههم عاجز ضعيف فقر مغلوب، وهو إله خاص بهم لا يعبده غيرهم. وأما سائر الأمم فهم عبيد العبيد لهم لا مانع من نشر الشرك والوثنية وعبادة الشيطان والشهوات فيهم.
فمقارنة يسيرة بين هذه المعتقدات وبين أهل الإسلام في الأسماء والصفات (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (لأعراف: من الآية180) وفي الربوبية والألوهية يدلك على عظمة هذا الدين وكذا في باقي أصول الإيمان . فهل بعد هذا الخير من خير؟
وأما العبادات الإسلامية فهي أرقى وأعلى العبادات. قارن بين الأذان وما فيه من معاني تعظيم الله عز وجل ووحدانيته وإثبات النبوة والدعوة إلى الخير والعبادة وبيان الفلاح من عبد الله وختم ذلك بالتكبير والتوحيد، وبين ضرب الناقوس أو نفخ البوق لتعلم الفرق.
وأما صلاة الأنبياء التي فيها الركوع والسجود فلا تجدها إلا عند أهل الإسلام فهي التي تطبق ما قاله المسيح نقلا عن التوراة "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" وهم لا يسجدون لله ولو سجد لأحد سجدوا لكبارهم وطواغيتهم. وأما سائر العبادات من الزكاة والحج فليس لهم منها نصيب.
وأما نظام المعاملات الإسلامي للفرد والجماعة في البيوع، والنكاح، والميراث، والنظام الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والحربي، ونظام القضاء، ونظام العقوبات والحدود لحفظ المجتمع وسائر مناحي الحياة فباتفاق العقلاء لم يطرق العالم نظام مثل هذا النظام. فهل بعد هذا الخير من خير؟
لكنه الحقد الأعمى والجهل المطبق. فلا نظير بفضل الله لنظام الأخلاق الإسلامي، وما من تزكية للنفوس أعظم مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتكفي مقارنة حال المجتمع الجاهلي قبل الإسلام بما وصل إليه الصحابة الكرام -رضي اله عنهم- وقد كانوا قبله في أعظم ضلال (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164) "
فأعظم معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- ودلائل نبوته هو هذا الكتاب المتضمن أعظم التشريعات في جميع المجالات وهو النور الذي عميت عنه قلوب المعرضين وزادها طغيانا وكفرا (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(المائدة: من الآية68)
وأما ذكره من أن الإسلام يحض على العنف فلينظر في مجموع من قتل في فتوح الإسلام كلها حتى ملأ المشارق والمغارب من المسلمين والكفار عبر مائة سنة، يبلغ عشرات الآلاف في كل هذه الحروب، وليقارن بينه وبين من قتله النصارى في الحروب الصليبية، وفي الحرب العالمية الثانية وحدها قتل ستين مليونا من البشر غير من مات بآثار الحرب بعد ذلك.
وأما الموقف من الملل الأخرى فنحن قطعا ندين لله بأن كل ملة غير الإسلام باطلة، لكن هل أبيد هؤلاء كما فعلت محاكم التفتيش؟ أما فر اليهود من الأندلس إلى المغرب احتماء بالمسلمين من بطش النصارى؟
هل قبل الغرب الرأي الأخر إذا كان هو الإسلام؟ وما موقفهم المعاصر في الجزائر والعراق وفلسطين بخاف على أحد. فالديمقراطية صنم العجوة الذي حين جاعوا أكلوه. "
وأما انتشار الإسلام بحد السيف فنحن أيضا بالقطع نثبت الجهاد. جهاد الدفع عن بلاد الإسلام، وجهاد الطلب لإعلاء كلمة الله وإزالة الطغاة أمثال هذا البابا وغيره ممن يحجب نور هذا الدين عن الناس. ولولا من سبقه من الطواغيت لما كانت فكرته الخاطئة عن هذا الدين(1/48)
ولكننا في نفس الوقت نثبت أنه لا إكراه في الدين، ونقول بما قال القرآن (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(يونس: من الآية99) فالإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه إلا المرتد، ولكن يمنع من أن يفرض الكافر عقيدته، ونظام حياته الشيطانية والبهيمية على الأمم والأجيال والشعوب، لأن هذا ظلم للبشرية، وعدوان على الآدمية، ومنع من الحرية الحقيقية التي هي التحرر من سلطان الطاغوت، ليحقق الإنسان غايته من الحياة في عبادة الله وحده لا شريك له فمن أراد الكفر بعد ذلك فليعش به لنفسه تحت سلطان الحق ويدفع الجزية صاغرًا دون أن يعرضه على الناس, ووجود الأقليات غير الإسلامية في بلاد المسلمين كلها دليل على عدم إكراه الناس على الدخول في الإسلام عبر التاريخ وإنما اختارت الشعوب هذا الدين لما رأت النور الذي لم يراه البابا ولا بوش ولا شعوبهما, ورغم كل هذا الضلال فلن يزداد الحق إلا قوة ووضوحًا ولن يتوقف الصراع بين الحق والباطل مهما بلغت قوة الباطل الزائف إلا بظهور الحق (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33) وحسبنا الله ونعم الوكيل.
==================
المحنة في حياة الدعوة والداعية
تكاد تكون المحنة من الظواهر الملازمة للحركة الإسلامية قديمًا وحديثًا؛ فالإسلام دعوة على مظاهر الحياة الجاهلية في كل صورها وأشكالها .. وهذه الخاصة التي يمتاز بها الإسلام، جعلت الحركة الإسلامية أكثر تعرضًا للمحن، وبالتالي جعلت المحنة لديها ذات مفهوم خاص لا يشاركها فيه سواها من الحركات الحزبية والسياسية .
المحنة تربية وتمحيص: فالمحنة من أهم عوامل التكوين والاختيار في الإسلام .. وقد لا يكون للتكوين النظري قيمة ما لم تشترك فيه عوامل الشدة والبلاء. والإيمان نفسه بحاجة إلى المحنة؛ لسبر غوره وإدراك مداه، فالإيمان القوي الراسخ هو الذي يصمد في ساعة العسرة . أما الإيمان السقيم العليل فسرعان ما تكشفه المحن وتصدعه، وصدق الله تعالى حيث يقول:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ(10)وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ(11) { [سورة العنكبوت] .
صور من محن الأولين :
قضت سنة الله .. أن يكون الحق في صراع أبدي مع الباطل:} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19) { [سورة الجن] ... } يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8) {[سورة الصف] . ومنذ ولد الخير ووجد الشر، والصراع عنيف ومخيف بينهما، والحقيقة التي تتكرر باستمرار هي أن الحق دائمًا في انتصار، وأن الباطل دائمًا في انتحار :} وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(173) {[سورة الصافات].
المحنة في حياة إبراهيم عليه السلام : لم تكن المحنة التي تعرض لها خليل الرحمن إلا إحدى حلقات الصراع، الممتدة عبر القرون .. والتي تؤكد على الزمن غلبة أهل الحق وهزيمة أهل الباطل.
نشأ إبراهيم عليه السلام في مجتمع جاهلي، وأبت الفطرة السليمة مجاراة التيار، والانسياق مع الرأي العام، وصمم إبراهيم صلى الله عليه وسلم على التصدي للجاهلية.
وتبدأ المحنة في حياة هذا الفرد.. فرد يمتطي صهوة الحق وحيدًا .. ويعلن على الملأ إيمانه بالله وكفره بما يعبدون من دونه .. } قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77) {[سورة الشعراء].
ويجدر بالداعية أن يقف هنا مليًا، يستشعر عظمة الإيمان الذي اعتمر به قلب إبراهيم .. إنه وحيد ليس وراءه جماعة ولا أنصار، ومنبوذ حتى من ذوي القرابة والوالدين .
وتشتد المحنة على إبراهيم، ويلقى في النار .. والرسول الممتحن يصغي إلى نداء الله، وهو في حمأة اللهب المستعر:} يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ(70)وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(71) {[سورة الأنبياء].
وتمضي قصة المحنة التي تعرض لها أبو الأنبياء ترسم لأهل الحق صورًا شتى من صور الرجولة والبطولة.(1/49)
المحنة في حياة موسى عليه السلام : وحياة موسى عليه السلام لم تكن غير سلسلة من المآسي والآلام، بل إن المحنة رافقت موسى رضيعًا تتقاذفه الأمواج، وشبت معه فتى يانعًا هاربًا من بطش فرعون .. وزاد حياته محنة على محنة تعرضه لنقمة فرعون من جهة، ولإيذاء قومه وسفههم من جهة أخرى.. ويمضي موسى في طريقه حاملاً كل التبعات .. وفي فترة من فترات الضعف البشري يُحس موسى بالوجل والخوف يختلجان في صدره وهو في قلب المعركة .. ولكن السماء سرعان ما تتداركه بالمدد:} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67)قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى(68)وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69) {[سورة طه] ويخرج موسى من هذه التجارب أصلب عودًا وأشد صمودًا.
المحنة في حياة عيسى عليه السلام :مما لا ريب فيه أن عيسى عليه السلام كان يتمتع بطاقة ضخمة من الصبر والاحتمال .. ومما زاد في قسوة الظروف التي أحاطت به وبنشأته، أنه واجه في ماضي مولده ألوان الشكوك .. كما واجه في حاضر دعوته ضروب العنت والتمرد .. ويكفي لكي نقدر مدى ما وصل إليه العنف والتمرد أن نعرف أن المعجزات التي بلغت على يدي عيسى حدًا كبيرًا لم يكن لها ذلك الأثر المنتظر في استمالة النفوس وتأليف القلوب.. ولكن عيسى عليه السلام .. كان يؤمن بأنه رسول .. وأن عليه البلاغ المبين. وكان طيب النفس حليمًا .
حاول اليهود أن يخفقوا من أثر دعوته وأن يخفوا عن الناس أمره .. ولما أعيت الحيلة أهل الباطل .. ائتمروا به ليقتلوه .. أما عيسى روح الله .. فقد كانت عين الله تحرسه وترعاه .. فلما همّ القوم بما دفعهم إليه حقدهم الأسود..
وقع تحت أيديهم رجل شديد الشبه به، فقتلوه وهم يحسبون أنهم قتلوا عيسى:} وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(158) {[سورة النساء].
محنة الإسلام في عهد النبوة :
كان الإسلام ثورة على الجاهلية من أول يوم .. ثورة استهدفت نسف القواعد التي قام عليها المجتمع الجاهلي، فليس من طبيعة الإسلام أن يهادن الأوضاع الخربة، أو يعمد إلى ترميمها وإصلاحها، وإنما يعتمد سياسة الهدم والبناء .. هدم الجاهلية بكل مرافقها، وبناء الحياة الإسلامية بجميع مقتضياتها. وإذا كانت هذه طبيعة الدعوة التي نهض بها النبي صلى الله عليه وسلم، فبديهي أن تستأسد قوى الجاهلية وتستميت في الدفاع عن كيانها المهدد بالنسف والدمار.
حرب الأعصاب : تفنن أهل الجاهلية في حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتكروا كل جديد لضرب الإسلام، وحشدوا كل قواهم لعرقلة المسيرة القرآنية، فعمدوا أولاً: إلى أسلوب نفسي خسيس يستهدف تدمير أعصاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والقضاء على روحه المعنوية العالية، وشنوا لذلك حملات عنيفة من السخرية والاستهزاء عرض لها القرآن الكريم في أكثر من موضع:} وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91)أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ...(93) {[سورة الإسراء].
وعندما فشلت هذه الأساليب الرخيصة عمد المشركون إلى اختلاق الشائعات والتهم على رسول الله، وبثوها في كل الأوساط؛ ليضعفوا الثقة به وليصدوا عن سبيل الله:} وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46) {[سورة إبراهيم]. وكانت المحنة على ضراوتها وقسوتها لا تزيده صلى الله عليه وسلم إلا صلابة وتصميمًا ..
تعرض وإيذاء ومحاولات اغتيال : ولما يئسوا من الحرب النفسية، وحرب الأعصاب، وحرب الشائعات .. لجأوا إلى الحرب الحسية ينالون بها من دعاة الإسلام..(1/50)
ويجتمع سادة قريش يومًا في (الحجر) ويذكرون محمدًا وتحديه السافر لمقدساتهم .. فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلَامَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ - فيجيبهم نبي الهدى بكل ثقة واعتزاز- فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ نَعَمْ أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ]رواه أحمد. يقولها بكل صراحة ويعلنها بملء فيه .. لقد أصابه منهم في ذلك اليوم ما أصابه .. وأدركهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد كادوا يجهزون عليه .. فانبرى يدافع عنه ويقول:"أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ".. ولما أوقع في أيدي المشركين، وأعجزتهم الحيلة تداعوا إلى مؤتمر عقدوه في دار الندوة. ولما وضعوا خطتهم، وحزبوا أمرهم؛ كشف الله مكرهم ورد كيدهم:} وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30) {[سورة الأنفال].
المحنة في حياة الصحابة : وفي عهد النبوة تعرض دعاة الإسلام لأبشع صنوف الإيذاء والتعذيب، ولم تقتصر المحنة على نفر دون نفر أو طبقة دون أخرى، بل لقد بلغت الجميع: النساء والرجال، الصغار والكبار، العبيد والأحرار.
محنة بلال: كان أمية بن خلف يخرج بلالاً إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يتهدده قائلاً: إنك ستظل هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، أو تعبد اللات والعزى، وكان بلال رضي الله عنه يردد:"أَحَدٌ أَحَدٌ".
محنة آل ياسر : وكان بنو مخزوم يخرجون "آل ياسر" جميعًا يعذبونهم برمضاء مكة.
أما ياسر- الأب- فلم يقو على تحمل العذاب لكبر سنه؛ فمات لتوه، وأما سمية – الأم- فقد أغلظت القول لأبي جهل فطعنها عدو الله بحربة في أحشائها، فكانت أول شهيدة في الإسلام .. } وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(170)يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171) {[سورة آل عمران].
نموذج من شهداء الإسلام في عصر النبوة : لكم شهدت أيام الإسلام في عصر النبوة من أبطال صناديد، شرفوا التاريخ، ويكفي أن نختار منهم:خبيب بن عدي؛ لندرك أي أثر كان للعقيدة في نفوس هؤلاء: اعتقل خبيب وكان في طريقه من المدينة إلى عضل والقارة؛ ليقوم بمهام الدعوة التي كلفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساقه المجرمون إلى مكة وباعوه لحجر بن أبي إهاب التميمي ليقتله بأبيه الذي قتل في غزوة بدر الكبرى.
وفي اليوم المحدد لقتله أخرجه المشركون إلى التنعيم ليصلبوه، فقال لهم:" إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا " قالوا: دونك فاركع .. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم، فقال:" أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعًا من الموت لاستكثرت من الصلاة". وعندما رُفع خبيب على الخشبة قال له المشركون: ارجع عن الإسلام نخلي سبيلك. فقال:" لا والله ما أحب أن أرجع عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعًا.. إن قتلي في الله لقليل .. اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت السلام".. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت بين صحبه في المدينة، فأخذته غيبة ثم قال:[هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُنِي مِنْ خُبَيْبٍ الَسَلَامَ] رواه الطبراني في معجمه الكبير-بنحوه-.
واقترب من خبيب أربعون رجلاً من المشركين، بأيديهم الرماح، وقالوا: هذا الذي قتل آباءكم في بدر. فقال خبيب:" اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك .. فأبلغه الغداة ما يُصنع بنا".
وعندما أخذت الرماح تمزق جسده، استدار إلى الكعبة وقال:" الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي ارتضى لنفسه ونبيه وللمؤمنين".. واستمر أعداء الله يمزقون جسد خبيب برماحهم وهو لايفتر يردد:"لا إله إلا الله محمد رسول الله" حتى لفظ نفسه الأخير، وفاضت روحه الزكية الطاهرة إلى الملأ الأعلى .
المحنة بين الأمس واليوم :(1/51)
هكذا تبدت معالم الصراع بين الحق والباطل على مدار التاريخ، إنها صورة واحدة ذات أشكال متعددة .. تتغير فيها الأزمان، والأشخاص وتبقى الحقيقة هي هي .. إنه استعلاء الإيمان في كل زمان .. واعتزاز الحق في كل عصر.
أصحاب العقيدة يدفعون الثمن : وتشتد المحنة في حياة الدعوة .. وتئول قيادة الأمة إلى حكام طغاة، يسومون المؤمنين سوء العذاب .. وحق على دعوة الإسلام أن تدفع الثمن . وتدفعه بسخاء: دماء وضحايا وشهداء .
كيف نواجه المحن ؟
إن الحركة الإسلامية إذ تواجه اليوم ما تواجه من تحديات وضغوط ينبغي أن:
تنطلق على هدي: فلا تتحكم في سيرها الانفعالات، أو تميد بها العواطف والطفرات.
مدعوة لمواجهة هذه الحرب السافرة على الإسلام وأهله: بالصياغة الحسنة لشبابها ورجالها، وبالإعداد الكامل، ثم بالتخطيط الواعي لكل خطوة من خطاها .
أن تغرس في نفوس عناصرها ودعاتها روح البذل والتضحية، وتستأصل من نفوسهم عوامل الضعف والخوف والانهزام .
إن الحركة الإسلامية مدعوة: لتضع في تقديرها وحسابها في مجالات التربية والتكوين ثقل المسئولية، وضخامة التبعة التي تنتظرها وتنتظر أفرادها؛ فتسلك بهم كل ما من شأنه أن يعدهم لحياة المجاهدة والمرابطة والكفاح .. وتنأى عما يخلد بهم إلى الأرض ويعودهم حياة الدعة والخنوع .
المحنة في حياة الدعوة والداعية
تكاد تكون المحنة من الظواهر الملازمة للحركة الإسلامية قديمًا وحديثًا؛ فالإسلام دعوة على مظاهر الحياة الجاهلية في كل صورها وأشكالها .. وهذه الخاصة التي يمتاز بها الإسلام، جعلت الحركة الإسلامية أكثر تعرضًا للمحن، وبالتالي جعلت المحنة لديها ذات مفهوم خاص لا يشاركها فيه سواها من الحركات الحزبية والسياسية .
المحنة تربية وتمحيص: فالمحنة من أهم عوامل التكوين والاختيار في الإسلام .. وقد لا يكون للتكوين النظري قيمة ما لم تشترك فيه عوامل الشدة والبلاء. والإيمان نفسه بحاجة إلى المحنة؛ لسبر غوره وإدراك مداه، فالإيمان القوي الراسخ هو الذي يصمد في ساعة العسرة . أما الإيمان السقيم العليل فسرعان ما تكشفه المحن وتصدعه، وصدق الله تعالى حيث يقول:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ(10)وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ(11) { [سورة العنكبوت] .
صور من محن الأولين :
قضت سنة الله .. أن يكون الحق في صراع أبدي مع الباطل:} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19) { [سورة الجن] ... } يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8) {[سورة الصف] . ومنذ ولد الخير ووجد الشر، والصراع عنيف ومخيف بينهما، والحقيقة التي تتكرر باستمرار هي أن الحق دائمًا في انتصار، وأن الباطل دائمًا في انتحار :} وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(173) {[سورة الصافات].
المحنة في حياة إبراهيم عليه السلام : لم تكن المحنة التي تعرض لها خليل الرحمن إلا إحدى حلقات الصراع، الممتدة عبر القرون .. والتي تؤكد على الزمن غلبة أهل الحق وهزيمة أهل الباطل.
نشأ إبراهيم عليه السلام في مجتمع جاهلي، وأبت الفطرة السليمة مجاراة التيار، والانسياق مع الرأي العام، وصمم إبراهيم صلى الله عليه وسلم على التصدي للجاهلية.
وتبدأ المحنة في حياة هذا الفرد.. فرد يمتطي صهوة الحق وحيدًا .. ويعلن على الملأ إيمانه بالله وكفره بما يعبدون من دونه .. } قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77) {[سورة الشعراء].
ويجدر بالداعية أن يقف هنا مليًا، يستشعر عظمة الإيمان الذي اعتمر به قلب إبراهيم .. إنه وحيد ليس وراءه جماعة ولا أنصار، ومنبوذ حتى من ذوي القرابة والوالدين .
وتشتد المحنة على إبراهيم، ويلقى في النار .. والرسول الممتحن يصغي إلى نداء الله، وهو في حمأة اللهب المستعر:} يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ(70)وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(71) {[سورة الأنبياء].
وتمضي قصة المحنة التي تعرض لها أبو الأنبياء ترسم لأهل الحق صورًا شتى من صور الرجولة والبطولة.(1/52)
المحنة في حياة موسى عليه السلام : وحياة موسى عليه السلام لم تكن غير سلسلة من المآسي والآلام، بل إن المحنة رافقت موسى رضيعًا تتقاذفه الأمواج، وشبت معه فتى يانعًا هاربًا من بطش فرعون .. وزاد حياته محنة على محنة تعرضه لنقمة فرعون من جهة، ولإيذاء قومه وسفههم من جهة أخرى.. ويمضي موسى في طريقه حاملاً كل التبعات .. وفي فترة من فترات الضعف البشري يُحس موسى بالوجل والخوف يختلجان في صدره وهو في قلب المعركة .. ولكن السماء سرعان ما تتداركه بالمدد:} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67)قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى(68)وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69) {[سورة طه] ويخرج موسى من هذه التجارب أصلب عودًا وأشد صمودًا.
المحنة في حياة عيسى عليه السلام :مما لا ريب فيه أن عيسى عليه السلام كان يتمتع بطاقة ضخمة من الصبر والاحتمال .. ومما زاد في قسوة الظروف التي أحاطت به وبنشأته، أنه واجه في ماضي مولده ألوان الشكوك .. كما واجه في حاضر دعوته ضروب العنت والتمرد .. ويكفي لكي نقدر مدى ما وصل إليه العنف والتمرد أن نعرف أن المعجزات التي بلغت على يدي عيسى حدًا كبيرًا لم يكن لها ذلك الأثر المنتظر في استمالة النفوس وتأليف القلوب.. ولكن عيسى عليه السلام .. كان يؤمن بأنه رسول .. وأن عليه البلاغ المبين. وكان طيب النفس حليمًا .
حاول اليهود أن يخفقوا من أثر دعوته وأن يخفوا عن الناس أمره .. ولما أعيت الحيلة أهل الباطل .. ائتمروا به ليقتلوه .. أما عيسى روح الله .. فقد كانت عين الله تحرسه وترعاه .. فلما همّ القوم بما دفعهم إليه حقدهم الأسود..
وقع تحت أيديهم رجل شديد الشبه به، فقتلوه وهم يحسبون أنهم قتلوا عيسى:} وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(158) {[سورة النساء].
محنة الإسلام في عهد النبوة :
كان الإسلام ثورة على الجاهلية من أول يوم .. ثورة استهدفت نسف القواعد التي قام عليها المجتمع الجاهلي، فليس من طبيعة الإسلام أن يهادن الأوضاع الخربة، أو يعمد إلى ترميمها وإصلاحها، وإنما يعتمد سياسة الهدم والبناء .. هدم الجاهلية بكل مرافقها، وبناء الحياة الإسلامية بجميع مقتضياتها. وإذا كانت هذه طبيعة الدعوة التي نهض بها النبي صلى الله عليه وسلم، فبديهي أن تستأسد قوى الجاهلية وتستميت في الدفاع عن كيانها المهدد بالنسف والدمار.
حرب الأعصاب : تفنن أهل الجاهلية في حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتكروا كل جديد لضرب الإسلام، وحشدوا كل قواهم لعرقلة المسيرة القرآنية، فعمدوا أولاً: إلى أسلوب نفسي خسيس يستهدف تدمير أعصاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والقضاء على روحه المعنوية العالية، وشنوا لذلك حملات عنيفة من السخرية والاستهزاء عرض لها القرآن الكريم في أكثر من موضع:} وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91)أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ...(93) {[سورة الإسراء].
وعندما فشلت هذه الأساليب الرخيصة عمد المشركون إلى اختلاق الشائعات والتهم على رسول الله، وبثوها في كل الأوساط؛ ليضعفوا الثقة به وليصدوا عن سبيل الله:} وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46) {[سورة إبراهيم]. وكانت المحنة على ضراوتها وقسوتها لا تزيده صلى الله عليه وسلم إلا صلابة وتصميمًا ..
تعرض وإيذاء ومحاولات اغتيال : ولما يئسوا من الحرب النفسية، وحرب الأعصاب، وحرب الشائعات .. لجأوا إلى الحرب الحسية ينالون بها من دعاة الإسلام..(1/53)
ويجتمع سادة قريش يومًا في (الحجر) ويذكرون محمدًا وتحديه السافر لمقدساتهم .. فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلَامَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ - فيجيبهم نبي الهدى بكل ثقة واعتزاز- فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ نَعَمْ أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ]رواه أحمد. يقولها بكل صراحة ويعلنها بملء فيه .. لقد أصابه منهم في ذلك اليوم ما أصابه .. وأدركهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد كادوا يجهزون عليه .. فانبرى يدافع عنه ويقول:"أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ".. ولما أوقع في أيدي المشركين، وأعجزتهم الحيلة تداعوا إلى مؤتمر عقدوه في دار الندوة. ولما وضعوا خطتهم، وحزبوا أمرهم؛ كشف الله مكرهم ورد كيدهم:} وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30) {[سورة الأنفال].
المحنة في حياة الصحابة : وفي عهد النبوة تعرض دعاة الإسلام لأبشع صنوف الإيذاء والتعذيب، ولم تقتصر المحنة على نفر دون نفر أو طبقة دون أخرى، بل لقد بلغت الجميع: النساء والرجال، الصغار والكبار، العبيد والأحرار.
محنة بلال: كان أمية بن خلف يخرج بلالاً إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يتهدده قائلاً: إنك ستظل هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، أو تعبد اللات والعزى، وكان بلال رضي الله عنه يردد:"أَحَدٌ أَحَدٌ".
محنة آل ياسر : وكان بنو مخزوم يخرجون "آل ياسر" جميعًا يعذبونهم برمضاء مكة.
أما ياسر- الأب- فلم يقو على تحمل العذاب لكبر سنه؛ فمات لتوه، وأما سمية – الأم- فقد أغلظت القول لأبي جهل فطعنها عدو الله بحربة في أحشائها، فكانت أول شهيدة في الإسلام .. } وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(170)يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171) {[سورة آل عمران].
نموذج من شهداء الإسلام في عصر النبوة : لكم شهدت أيام الإسلام في عصر النبوة من أبطال صناديد، شرفوا التاريخ، ويكفي أن نختار منهم:خبيب بن عدي؛ لندرك أي أثر كان للعقيدة في نفوس هؤلاء: اعتقل خبيب وكان في طريقه من المدينة إلى عضل والقارة؛ ليقوم بمهام الدعوة التي كلفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساقه المجرمون إلى مكة وباعوه لحجر بن أبي إهاب التميمي ليقتله بأبيه الذي قتل في غزوة بدر الكبرى.
وفي اليوم المحدد لقتله أخرجه المشركون إلى التنعيم ليصلبوه، فقال لهم:" إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا " قالوا: دونك فاركع .. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم، فقال:" أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعًا من الموت لاستكثرت من الصلاة". وعندما رُفع خبيب على الخشبة قال له المشركون: ارجع عن الإسلام نخلي سبيلك. فقال:" لا والله ما أحب أن أرجع عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعًا.. إن قتلي في الله لقليل .. اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت السلام".. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت بين صحبه في المدينة، فأخذته غيبة ثم قال:[هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُنِي مِنْ خُبَيْبٍ الَسَلَامَ] رواه الطبراني في معجمه الكبير-بنحوه-.
واقترب من خبيب أربعون رجلاً من المشركين، بأيديهم الرماح، وقالوا: هذا الذي قتل آباءكم في بدر. فقال خبيب:" اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك .. فأبلغه الغداة ما يُصنع بنا".
وعندما أخذت الرماح تمزق جسده، استدار إلى الكعبة وقال:" الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي ارتضى لنفسه ونبيه وللمؤمنين".. واستمر أعداء الله يمزقون جسد خبيب برماحهم وهو لايفتر يردد:"لا إله إلا الله محمد رسول الله" حتى لفظ نفسه الأخير، وفاضت روحه الزكية الطاهرة إلى الملأ الأعلى .
المحنة بين الأمس واليوم :(1/54)
هكذا تبدت معالم الصراع بين الحق والباطل على مدار التاريخ، إنها صورة واحدة ذات أشكال متعددة .. تتغير فيها الأزمان، والأشخاص وتبقى الحقيقة هي هي .. إنه استعلاء الإيمان في كل زمان .. واعتزاز الحق في كل عصر.
أصحاب العقيدة يدفعون الثمن : وتشتد المحنة في حياة الدعوة .. وتئول قيادة الأمة إلى حكام طغاة، يسومون المؤمنين سوء العذاب .. وحق على دعوة الإسلام أن تدفع الثمن . وتدفعه بسخاء: دماء وضحايا وشهداء .
كيف نواجه المحن ؟
إن الحركة الإسلامية إذ تواجه اليوم ما تواجه من تحديات وضغوط ينبغي أن:
تنطلق على هدي: فلا تتحكم في سيرها الانفعالات، أو تميد بها العواطف والطفرات.
مدعوة لمواجهة هذه الحرب السافرة على الإسلام وأهله: بالصياغة الحسنة لشبابها ورجالها، وبالإعداد الكامل، ثم بالتخطيط الواعي لكل خطوة من خطاها .
أن تغرس في نفوس عناصرها ودعاتها روح البذل والتضحية، وتستأصل من نفوسهم عوامل الضعف والخوف والانهزام .
إن الحركة الإسلامية مدعوة: لتضع في تقديرها وحسابها في مجالات التربية والتكوين ثقل المسئولية، وضخامة التبعة التي تنتظرها وتنتظر أفرادها؛ فتسلك بهم كل ما من شأنه أن يعدهم لحياة المجاهدة والمرابطة والكفاح .. وتنأى عما يخلد بهم إلى الأرض ويعودهم حياة الدعة والخنوع .
من "مشكلات الدعوة والداعية" للأستاذ/ فتحي يكن
==========
صِرَاعُ الحَضَارات مَفهُومُهُ، وحَقِيقَتُهُ، وواقِعُه
بسم الله الرحمن الرحيم
ـ مقدمة:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه (.
... ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (آل عمران: 102.
... ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء:1. ... ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (الأحزاب:70-71.
أما بعد، فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هَديُ محمدٍ (، وشَرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضلالَةٌ، وكُلَّ ضلالةٍ في النار.
اللهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ فاطِرَ السماواتِ والأرض، عالمَ الغيبِ والشهادةِ، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنِك، إنَّك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.
لا يزالُ الحديث محتدِماً بين طبقة السَّاسة والمثقفين والباحثين والإعلاميين عن مفهوم صراع الحضارات، وحقيقته، وواقعه .. وبخاصة الصراع بين الحضارة الغربية الرأسمالية النصرانية الديمقراطية وبين الحضارة الإسلامية.
وهل لهذا الصراع وجود من قبل، واليوم، وغداً .. وإن كان موجوداً متى كان مبتداه ومتى يكون منتهاه .. وهل يمكن تفاديه وإيقافه .. وكيف؟
وفريق من هؤلاء الساسة والمثقفين ـ ومنهم من هو محسوب على الاتجاه الإسلامي ـ قد ذهب بعيداً؛ حيث تراه يزعم أنه يعمل على إيقاف صراع الحضارات .. وأنه لا بد من إيقاف هذا الصراع .. وأنه قادر على إيقاف صراع الحضارات .. وأنه لا يسمح لشرذمة قليلة بأن تتسبب بهذا الصراع بين الحضارات .. وغير ذلك من الاطلاقات المتسرعة، والتي تنم عن جهلهم وعدم فهمهم لحقيقة الصراع بين الحضارات .. ظناً منهم أن صراع الحضارات يعني صراع آلة عسكرية وآلة .. أو صناعة وصناعة .. أو مبانٍ وجسور شاهقة ضخمة تتصادم وتتصارع ليزيل كلٌّ منها الآخر .. أو مجرد تقاتل فريق من الناس ضد فريق آخر!
لذا وجدت الحاجة الماسة لبحث هذا الموضوع، والإجابة عن الأسئلة التالية: ما هو مفهوم صراع الحضارات، وما هي حقيقته، وهل له واقع نعايشه ونلمسه .. وما هو موقف الأدلة النقلية من هذا الصراع .. وغيرها من الأسئلة ذات العلاقة بالموضوع؟
نسأل الله تعالى السداد، والتوفيق، والقبول .. وأن يجعل من عملنا هذا مفتاح خير مغلاق شرٍّ، إنه تعالى سميع قريب مجيب.
* * * * *
ـ معنى الحضارة ومفهومها.
فأقول: الحِضارة والحَضارة لغة: هي الإقامة في الحضَر، والحضَر خلاف البادية، وهي المدن والقرى والريف، سُميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار وعمران، بخلاف الباد في البادية فهو في تنقل دائم يبحث عن الكلأ والماء، لا يعرف القرار ولا العمران.(1/55)
ويُقال: فلان حضَري إذا كان من أهل الحاضرة، وفلان بدوي إذا كان من أهل البادية، والحضري لما تميز به عن البدوي بالثبات والإقرار وعدم التنقل والترحال فإن ذلك ساعده على أن يثري حضارته مقر إقامته بجميع مظاهر النمو والتطور، والإبداع العلمي والفني والعمراني، والاجتماعي .. فالحضارة هي محضن كل تطور أو إنجاز إنساني[(1)].
أما اصطلاحاً: فالحضارة هي عبارة عن مجموع المفاهيم، والقيم، والتصورات، والعقائد، والقوانين، والمبادئ، والعادات التي تشكل سلوكاً معيناً ومحدداً عند الإنسان، وتحدد له طريقة معينة في الحكم، والعيش، والحياة، والتعامل مع الآخرين.
فالصدق مثلاً: خلق ومفهوم وقيمة حضارية .. يهدي إلى البر .. ويترتب عليه سلوك إيجابي متحضر على مستوى الفرد والمجتمع .. بخلاف الكذب فهو خلق مذموم غير حضاري .. لأنه يهدي إلى الفجور والفساد .. ويشكل سلوكيات سلبية متخلفة مدمرة تسيء للفرد والمجتمع سواء.
__________
(1) أنظر لسان العرب، والمعجم الوسيط.
وكذلك نقول: في خُلق ومفهوم الأمانة، والوفاء بالعهد، والعدل، والشورى، والإيثار، والشكر، والجود، والشجاعة، والحياء، والأدب .. والقناعة، والتواضع، وإغاثة الملهوف والمحتاج، وحب الخير للآخرين، ومفهوم الحرص على الوقت، وحسن استغلاله فيما ينفع .. والاقتصاد من غير تقتير ولا تبذير ولا إسراف .. والدقة في المواعيد .. والنظام والتنظيم .. وعدم الفضول وتدخل المرء فيما لا يعنيه .. والنظافة والحرص عليها، والرياضة الهادفة التي تُثمر جسداً سليماً وقوياً .. وحب الاطلاع والاستكشاف، والمطالعة والقراءة الراشدة الواعية، والحرص على العلم، والتعلُّمِ، والتعليم .. والعلم التجريبي التطبيقي .. وحب العمل والانتاج والاعتماد على النفس؛ فاليد العليا خير وأحب إلى الله تعالى من اليد السفلى .. فهذه كلها مفاهيم وقيم حضارية معتبرة .. تعطي وتفرز سلوكاً إيجابياً نافعاً ومتحضراً .. مؤداه إلى عمران الأرض بما ينفعها وينفع ساكنيها .. وكل مفهوم حضاري يكون ضده بالضرورة مفهوماً غير حضاري .. والعمل به مؤداه إلى سلوك سلبي مذموم غير متحضر .. ينعكس على الأرض وساكنيها بالضر والفساد، والشر؛ فإذا قلنا مثلاً بأن الوفاء بالعهد مفهوم حضاري فيكون ضده الغدر وهو مفهوم غير حضاري، وكذلك العدل، فضده الظلم وهو مفهوم غير حضاري .. وهكذا بقية المفاهيم والقيم الأخرى.
واعلم أن أعظم وأجل وأرقى مفهوم حضاري على الإطلاق هو مفهوم التوحيد؛ الذي يحمل المرء على أن يُفرد الخالق ( بالعبادة، والقصد، والطاعة، والمحبة، والتحاكم .. وبالتالي فإن أسوأ وأخنع وأقبح مفهوم حضاري على الإطلاق هو الشرك؛ الذي يُعبد العبيد للعبيد، والذي يحمل المرء على أن يتخذ أنداداً وشركاء يعبدهم ويطيعهم، ويحتكم إليهم، ويضحي في سبيلهم من دون الله ( .. وعلى هذا المفهوم الحضاري مدار الخلاف والصراع ـ على مدار التاريخ كله ـ بين أهل التوحيد من جهة، وبين أهل الشرك والباطل بكل أطيافهم وتجمعاتهم ومسمياتهم من جهة أخرى.
هذا الخلاف حول هذا المفهوم الحضاري ( التوحيد ) أدى إلى خلاف حول مفاهيم حضارية أخرى مرتبطة به؛ كمفهوم " الحرية " مثلاً؛ هل هي مطلقة أم مقيدة، وما هي المساحة المسموح بها، والمساحة الممنوعة، ومن هي الجهة التي تحدد نسبة هذه الحرية .. وكذلك مفهوم السيادة العليا في الأرض لمن تكون؛ من الحاكم، من له الأمر فيُطاع، من له خاصية التشريع والتحليل والتحريم، والتحسين والتقبيح؛ للخالق أم للمخلوق .. لله تعالى وحده أم لعبد الله .. وكذلك القيم الحضارية ذات العلاقة بتحديد خصوصيات وحقوق الخالق ( وخصوصيات وصلاحيات الإنسان، وحقوقه وواجباته .. فهذا النوع من القيم هي محطة تنازع واختلاف بين أمة الإسلام أو الحضارة الإسلامية، والحضارات الأخرى بكل مسمياتها وصورها .. وهذه مسألة سنعود إليها ـ إن شاء الله ـ بشيء من التفصيل عند الحديث عن أوجه الخلاف بين القيم الحضارية للحضارة الإسلامية، والقيم الحضارية للحضارات الأخرى.
... فإن عُلِم هذا الذي تقدم يُقال: عندما يتصرف المرء بطريقة صحيحة راقية أخلاقية ومسؤولة .. يُقال عنه هذا إنسان متحضر .. وإذا تصرف بطريقة خاطئة، متخلفة، غير أخلاقية
ولا مسؤولة .. يُقال عنه هذا إنسان متخلف .. همجي .. غير متحضر.(1/56)
... فالسلوك الإنساني .. أيَّاً كان نوعه .. وكانت نتائجه .. ليس هو الحضارة .. وإنما هو عبارة عن نتاج المفاهيم والتصورات الحضارية التي ينتمي إليها هذا الإنسان ويعتقد بها .. والتي أفرزت عنده هذا السلوك .. فإن كان سلوكاً إيجابياً ممدوحاً فهذا دليل على وجود قيم حضارية إيجابية وممدوحة .. وإن كان سلوكاً سلبياً مذموماً فيكون ذلك دليلاً على عدم وجود قيم حضارية إيجابية معتبرة عند هذا الإنسان .. وإنما يكون دليلاً على وجود قيم وأخلاقيات متخلفة غير متحضرة ولا راقية .. فالسلوك الإنساني ـ اياً كان نوعه ـ هو التعبير الصادق عن نوعية ومدى جودة تلك القيم الحضارية التي ينتمي إليها الإنسان.
... فالإنجاز العلمي التجريبي ـ قديماً وحديثاً ـ يشترك فيه جميع بني البشر .. وأسبابه مبذولة للجميع .. وبالتالي فهو ليس دليلاً ولا مقياساً على تحضر أو حضارة شعب من الشعوب .. وإنما هو دليل على وجود جزء من تلك المفاهيم والقيم الحضارية التي ينتمي إليها ذاك الشعب أو غيره .. ألا وهي قيمة الاهتمام والحرص على العلم التجريبي التطبيقي.
فالآلة المصنَّعة .. مهما كانت ضخمة وهامة ومتطورة .. ليست هي الحضارة .. وإنما المفاهيم والقيم والتصورات .. التي كانت سبباً في وجود هذه الآلة .. والتي تحكم وتحدد الطريقة التي تُستخدم بها هذه الآلة .. هي الحضارة، ومن خلالها يُحكم على صاحبها بالتحضر أم لا أو كم هي نسبة التحضر التي يتحلى بها!
فالذي يُصنِّع سلاحاً متطوراً وفتاكاً مدمراً .. لكي يستخدمه لأغراض الشر والفساد والتخريب والدمار في الأرض .. ولأغراضه الشخصية الذاتية أو الحزبية الضيقة .. فهذا رغم ملكه لهذا السلاح الفتاك وتصنيعه له .. فهو إنسان غير متحضر .. لا يُمكن أن يُنسَب إلى الحضارة والتحضر في شيء .. ولو نُسب مجازاً فهو يُنسب إلى حضارة متخلفة همجية غير راقية .. ولا إنسانية!
فهذا الذي يصنِّع قنبلة ضخمة فتاكة .. ليقتل بها الأطفال والنساء، وغيرهم من الآمنين ممن صان الشرع حرماتهم .. وليدمر البيوت على رؤوسهم .. فهذا رغم تصنيعه لهذه القنبلة الضخمة لا يُمكن أن يُصنَّف بأنه إنسانٌ متحضر أو يُوصَف فعله هذا بالتحضر والرقي، أو أنه ينتمي إلى قيم حضارية راقية معتبرة!
الإنسان الذي ينتهج مبدأ الغايات تبرر الوسائل؛ مهما كانت هذه الوسائل قذرة وسيئة ومنحطة .. لا يُمكن أن يُعتبر متحضراً ولا راقياً مهما كان متقدماً في الصناعات والتطاول في البنيان والعمران!
نقول ذلك لأن كثيراً من الباحثين فضلاً عن غيرهم يقيسون الحضارة والتحضر بمدى الإنجاز والتطور العلمي، ويظنون أن آلات التصنيع المتقدمة .. والتطاول في العمران .. التي يتمتع بها مجتمع من المجتمعات هي الحضارة ذاتها .. وهي دليل على تحضر ورقي ساكني هذه المجتمعات .. وهذا خطأ فاحش شائع لا بد من تصحيحه وتداركه!
المجتمع النبوي الأول في المدينة المنورة لم يكن يعرف التطاول في العمران والبنيان، ولا الصناعات الضخمة والمتطورة .. ومع ذلك فهو أعظم المجتمعات رقياً وتحضراً عرفها التاريخ من قبل وإلى يوم القيامة؛ لأنه كان قائماً على مجموعة من المفاهيم والقيم الحضارية الراقية النبيلة التي لا توازيها قيم ومفاهيم حضارية أخرى في أي موضع أو زمانٍ آخر، سرعان ما أعطت نتائجها، وانعكست آثارها الإيجابية على العالم أجمع، وفي سنوات معدودات .. فغيرت وجه التاريخ من أظلم صورة يُمكن أن تُعرَف إلى أشرق وأعدل وأعظم صورة!
* * * * *
ـ وجود الصراع بين الحضارات.
من خلال هذا الذي تقدم نقول: الصراع بين الحضارات قائم وموجود لا مجال لنكرانه، وهو في حقيقته صراع بين المفاهيم والتصورات والقيم والمبادئ .. والعقائد .. المتناقضة المتضاربة .. والتي تحدد معالم وطريقة الحياة لكل حضارة أو أمة من تلك الحضارات أو الأمم.
هو صراع وتدافع بين مفاهيم وقيم الشر والظلم والطغيان وأتباعها من جهة وبين مفاهيم وقيم الخير والحق والعدل وأتباعها من جهة أخرى.
هو صراع بين التوحيد وأهله من جهة، وبين الشرك والكفر والجحود وأهله من جهة أخرى.
هذا النوع من الصراع والتدافع بين الحق والباطل .. بين التوحيد والشرك .. وبين العدل
والظلم .. وبين الفساد والدمار وحب السلام والإعمار .. هو المراد من صراع الحضارات .. وهذا النوع من الصراع قائم وموجود منذ أن خلق الله تعالى إبليس .. وآدم ( .. وجعل أحدهما عدواً للآخر .. ومنذ أن قدر وجود الخير والشر في الأرض .. بل في النفس الواحدة للإنسان نجد أن الله تعالى قد قدر فيها نوازع الخير والشر معاً .. وخلق في الوجود المتناقضات والأضداد .. وسيبقى هذا الصراع بين الأضاد والمتناقضات ما شاء الله تعالى .. وإلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها .. لا يمكن أن تستقيم الحياة في الأرض ولا أن تسلم من الدمار والخراب من دونه .. ولا أن تنجو السفينة من الغرق والهلاك من دونه!(1/57)
... هؤلاء الذين يتشبعون بما لم يُعطَوا فيزعمون أنهم يريدون إيقاف صراع الحضارات .. يُقال لهم: أوقفوا إبليس وجنده عن الكيد والتآمر، والفتنة، والفساد في الأرض إن استطعتم .. ضعوا نهاية لإبليس وجنده إن استطعتم .. فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا .. فكيف تستشرفون مهمة إيقاف صراع الحضارت .. وأنتم تعلمون أن حضارات معاصرة كاملة قائمة على عبادة الشيطان، وعلى حكم وشرع وقيم الشيطان؟!
هذه حقيقة ساطعة ظاهرة قد دلت عليها جميع الأدلة النقلية والعقلية والواقعية .. لا خفاء فيها ولا غموض، ينبغي التسليم بها .. إذ لا يجوز تجاهلها أو إلغاؤها أو التغاضي عنها، أو عدم اعتبارها عند حصول أي عملية تدافع وصراع وتنافر بين الحضارات أو بين قوى الخير والشر .. أو بين جند الله من جهة وجند الشيطان من جهة أخرى، كما قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (النساء:76.
* * * * *
ـ الأدلة النقلية على وجود الصراع بين الحضارات.
هذا الصراع والتدافع ابتدأ ـ كما قلنا من قبل ـ منذ أن خلق الله تعالى آدم ( وبين له ولذريته أن عدوه إبليس وكل من يدخل في حزبه وجنده من شياطين الإنس والجن، ليحذره ويجتنبه ويتخذه عدواً، كما قال تعالى:( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا ( أي إبليس ( عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (طه:117. وقد نهاه ربه ـ لحكمة يشاؤها ـ عن أن يأكل من شجرة محددة من شجر الجنة، كما قال تعالى:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (الأعراف:19. إلا أن عدوه إبليس أبى إلا أن يمكر ويكيد عسى أن يحمل آدم على المخالفة والمعصية فيشقى:( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (طه:120. وفي سورة الأعراف:( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (الأعراف:20. فحصل الإصغاء من آدم لموعظة ونصيحة عدوه إبليس .. فأكل من الشجرة ووقع في العصيان والشقاء والبلاء والعذاب وحصل الهبوط إلى الأرض .. لتستمر العداوة ويستمر الصراع والتدافع بين حضارة إبليس وجنده وقيمهم الباطلة الفاسدة الظالمة من جهة وبين حضارة الإيمان التي تنشأ على أيدي من آمن بالله تعالى من ذرية آدم واتبع المرسلين، كما قال تعالى:( فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (طه:121. وقال تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (البقرة:36. وفي سورة الأعراف:( قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (الأعراف:24. وقال تعالى:( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (طه:123. وقال تعالى:( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (فاطر:6.
هكذا كان ـ منذ القدم ـ مبدأ الصراع بين الحق والباطل .. وهكذا هو مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .. فما من نبي أرسله الله تعالى ليصلح ما أفسده الشيطان وجندُه في الأرض .. إلا ويتصدى له عدو من المجرمين المستكبرين، من أتباع وحزب الشيطان .. يصده عن دعوته وإصلاحه .. بحجة المحافظة على الدين والقيم والمفاهيم والعادات التي نشأوا وتربوا عليها .. وأن الأنبياء يدعون إلى قيم حضارية تختلف مع قيمهم ومبادئهم التي أقاموا حضارتهم على أساسها، ووجدوا آباءَهم عاكفين عليها!(1/58)
كما في قوله تعالى:( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (غافر:26. فعلل فرعون رغبتَه في قتل موسى ( ومن آمن معه في خوفه من أن موسى ( يريد أن يبدل دين قوم وأتباع فرعون؛ أي يبدل طريقتهم في العيش والحياة، ويبدل مفاهيمهم، وقيمهم التي اعتادوها وتربوا عليها، والقائمة على العبودية والخدمة لفرعون وقصره .. وأنه ـ أي موسى ( ـ ما أراد بذلك التغيير والتبديل إلا الفساد في الأرض .. وهي ذريعة طواغيت الأرض كلهم من قبل ومن بعد في رد الحق وتهييج الرعاع والعامة ضده .. فما من طاغية إلا وتراه يبرر جرائمه في قتال وقتل المؤمنين ـ أتباع وورثة الأنبياء والرسل ـ بأن المؤمنين من دعاة الفساد .. وأنه بقتاله وقتله لهم يريد أن يمنع فسادهم في الأرض .. وهو في حقيقته يكون رأساً في الفساد والإجرام والطغيان.
قال ابن كثير في التفسير:( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ( يعني موسى؛ يخشى فرعون أن يُضل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم، وهذا كما يُقال في المثل: صار فرعون مذكِّراً؛ يعني واعظاً يُشفق على الناس من موسى ( ا- هـ. وما أسوأ وأقبح وأوقح من الطغاة المجرمين الآثمين عندما يرتدون ثوب الوعظ والوعاظ .. وما أكثرهم في زماننا!
وكذلك قوله تعالى:( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (طه:63. فقوله( وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (؛ وإن قيلت على لسان سحرة فرعون .. ويعنون بالطريقة السحر وما هم فيه من ملك وجاه ورياسة بسبب شعوذتهم وسحرهم وكفرهم .. إلا أن هذه المقولة تعتبر الذريعة الأكبر لجميع طواغيت الأرض ـ
على مرِّ جميع عصورهم ـ لرد الحق، ومحاربته، ومحاربة أهله!
ومن صور عداء الملأ من الشعوب السالفة ما قاله تعالى عن الملأ من قوم شعيب وعن موقفهم من شعيب ( ودعوته، كما في قوله تعالى:( قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (الأعراف:88. فعللوا سبب صراعهم وخلافهم مع شعيب ( ومن آمن معه أنهم على ملة ودين وطريقة غير ملتهم ودينهم وطريقتهم .. وبالتالي فإن الصراع قائم ومستمر .. ولا يقف إلا بإحدى أمرين: إما بعودة شُعيب ومن آمن معه عن دينهم، والدخول في دين وملة وطريقة وتقاليد الملأ .. ومشاركتهم فيما هم فيه من فساد وضلال وانحراف .. أو الطرد والإخراج من القرية .. بحيث لا يرى أحدهما الآخر.
وهذا الذي قاله الملأ من قوم شُعيب لنبي الله شُعيب قاله الكفار المجرمون لرسل الله وأتباعهم على مرِّ التاريخ والأزمان، كما قال تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (إبراهيم:13. فالصراع كما هو واضح ليس حول التكنولوجيا ولا حول الصناعات .. وما يُمكن أن يخترعه الإنسان من وسائل تعينه على البناء والعمران .. وإنما على المبادئ والعقائد والملة .. والمفاهيم .. والقيم التي تحدد طريقة العيش والحياة .. والنظام الذي يحكم البلاد والعباد .. فجميع الذين كفروا عبر تاريخهم كله قالوا لجميع الرسل ـ عبر تاريخهم كله ومن دون استثناء ـ ولمن آمن معهم ( لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا (، أي في ديننا، ومفاهيمنا .. وقيمنا .. وعاداتنا .. وطريقتنا في العيش والحياة .. التي لا نرضى أن تنضبط إلا بالضابط الذي نهواه ونشتهيه.
وكذلك قوم لوط .. ما نقموا من لوط ( ومن آمن معه إلا أنهم لا يأتون الرجال شهوة مثلهم .. وأنهم لا يقترفون الفواحش .. وأنهم أناس يتطهرون .. وهذا بخلاف ما هم عليه من الفسوق والفجور .. والعادات السيئة، كما قال تعالى عنهم:( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ( لماذا .. ما هو السبب .. ما هي الجريمة التي ارتكبوها والتي على أساسها يستحقون الطرد والإخراج من البلاد .. ( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (النمل:56. وقيم الطهر والعفة لا تلتقي ولا تتعايش مع قيم الفجور والفسوق والعصيان .. لا بد من إخراج وطرد أحدهما للآخر؛ فمنظر الطهر والعفة والحشمة والحجاب يؤذي أنظار المجرمين الفاسقين؛ لأنه يذكرهم بسوء حالهم وحقيقة الدرك الذي هم فيه .. لذا كان جوابهم حاسماً قاطعاً ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ (.(1/59)
هذا الموقف الحاقد المتخلف للملأ من قوم لوط تجاه لوطٍ ( ومن آمن معه .. يتكرر في أبشع صوره في قرننا المعاصر؛ قرن الواحد والعشرين .. يتكرر في زمن الحريات والديمقراطيات المزعومة .. وفي أكثر المجتمعات زعماً بأنها تحترم حقوق وحرية واختيار الإنسان .. إنها السُّنَن؛ سُنن اتباع الخلَف من المجرمين الفاسقين لسلفهم الطالح من الفاسقين المجرمين ..!
كم هي الدول والحكومات التي تزعم الرقي والتقدم والتحضر واحترام حقوق الإنسان وحرياته .. والتي تجبر النساء على خلع الحجاب .. وتمنعهن من دخول مؤسساتها وجامعاتها ومدارسها .. وهن مرتدين للحجاب!
قالوها بكل صراحة ووضوح .. أخرجوا من قريتكم وجامعاتكم ومدارسكم ومؤسساتكم .. كل فتاة طاهرة متحجبة .. فطهرها وحجابها يؤذينا .. نعم للحرية عندما تسير في اتجاه الإباحية، والعهر، والفجور، والفسوق والعري .. أما إن سارت في اتجاه الحشمة، والحجاب، والعفة، والطهر .. فلا للحرية، وألف لا[(1)
__________
(1) على سبيل المثال لا الحصر، من شروط الهجرة إلى هولندا ـ كما تناولت ذلك بعض وسائل الإعلام ـ أن يُشاهد المهاجر ـ ويعنون به المهاجر المسلم ـ فلماً إباحياً خلاعياً من دون أن تظهر عليه علامات الصدمة أو الدهشة أو الاستغراب .. فإن ظهر عليه شيء من ذلك يرسب في الاختبار، ويرد طلبه، ويُطرد، ويُعاد إلى بلده .. وغرضهم من ذلك كما قالوا: أن يتأقلم المهاجر ـ وبخاصة المسلم ـ مع قيم وعادات المجتمع الهولندي!
وكذلك في الدولة الإلمانية من شروط قبول المهاجر المسلم وحتى يُسمح له الإقامة في البلد ويتجنس بجنسيتها يجب عليه أن ينجح في الإجابة عن ثلاثين سؤالاً، من هذه الأسئلة: كيف سيكون رد فعلك إذا قدم إليك ابنك الأكبر وقال إنه شاذ جنسياً، ويعتزم الإقامة مع رجلٍ آخر؟ ماذا ستفعل كأب أو أخ إذا جاءت ابنتك أو شقيقتك للمنزل وقالت إنها تعرضت لتحرش جنسي؟ ما رأيك إذا تزوج رجل في ألمانيا بامرأتين في نفس الوقت؟ هل تسمح لابنتك أن تشارك في السباحة وممارسة الرياضة مع الآخرين، وإن كان الجواب لا، فلماذا؟ هل تُفضل عيادة طبيب أم طبيبة، ولماذا؟ وغيرها من الأسئلة التي إن أجاب عنها كما يريدون ويشتهون أُذن له بأن يُقيم في بلدتهم، وإن لم يجب عنها كما يشتهون ويريدون .. يرسب في الاختبار .. ويُمنع من الإقامة في بلدتهم ويُطرد منها ... والسؤال الذي يطرح نفسه: أليس فعلهم هذا هو نفس ما فعله قوم لوط من قبل لما قالوا لنبي الله تعالى لوط (:( أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (؟!
].
ومن الأدلة النقلية الدالة كذلك على هذا النوع من التدافع والصراع قوله تعالى:( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ (البقرة:217. فبين الله تعالى أن الكفار ـ في كل زمان وإلى يوم القيامة ـ لا يزالون يُقاتلون المؤمنين .. ويمكرون ويدبرون ضدهم .. لا لشيء سوى أن يردوهم عن دينهم وعقيدتهم .. وقيمهم .. ليدخلوهم في دين وقيم الكفر والشرك والفسوق .. فهذا النوع من الصراع والتدافع قائم ومستمر إلى يوم القيامة .. بنص كلام الله تعالى .. فمن رده وأراد أن يُبطله فهو يكذب الله تعالى، ويرد كلامه .. ومن يرد كلامه فقد كفر!
وكذلك قوله تعالى:( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ (البقرة:109. فهذه الرغبة جامحة عامرة ـ لا يمكن مواراتها أو إنكارها ـ عند كفار ومشركي أهل الكتاب؛ وهي بأن يردوا المؤمنين بعد إيمانهم كفاراً ومشركين .. وماذا يعني صراع الحضارات ـ عند المشركين ـ غير هذا المعنى!(1/60)
كما قال تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (؛ مكر يتلوه مكر .. وكيد يتبعه كيد .. وهو ليس مكر الليل وحسب، أو مكر النهار وحسب، ثم يجد الممكور به شيئاً من الوقت يخلد فيه إلى الراحة والتأمل والتفكر .. لا؛ بل هو مكر متواصل على مدار الوقت يستغرق جميع أنفاس وأعمار الممكور بهم .. حتى لا يجدوا فرصة للتأمل ومحاسبة النفس والرجوع عن الغي والضلال .. ما غرضه، وما الغاية منه:( إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً (؛ هذا هو الغرض وهذا هو الهدف من مكر الليل والنهار الذي يمكرونه .. أن يكفر الناس بخالقهم .. وبالقيم والمبادئ والشرائع التي أمر الله بها وأوحاها على أنبيائه ورسله .. ويتخذوا من دونه أنداداً وشركاء يُطيعونهم ويُحبونهم كطاعتهم وحبهم لله ( .. لكن يوم القيامة ينكشف الغطاء، ويُعرف المكر والماكرين، والممكور بهم .. ويقع الندم، ولات حين مندم ( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (سبأ:33.
وقال تعالى:( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (الفرقان:31. فقوله تعالى( لِكُلِّ نَبِيٍّ (؛ عام وشامل لجميع الأنبياء والرسل؛ إذ ما من نبي بعثه الله تعالى إلا وكان له عدو أو أعداء من المجرمين يحاربونه، ويصدون الناس عنه وعن دعوته .. وهذه العداوة مستمرة وممتدة لتشمل ورثة الأنبياء وكل من سلك على دربهم، وانتهج نهجهم من عباد الله المؤمنين.
وقال تعالى عن المنافقين والمنافقات:( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ (التوبة:67. بينما قال تعالى عن المؤمنين والمؤمنات:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ (التوبة:71. فهذان فريقان متناقضان متغايران؛ أحدهما يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، والآخر يأتي بعكس ذلك تماماً؛ فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .. وبالتالي فإن عملية التصادم والتدافع فيما بينهما واقعة لا محالة لا يمكن تفاديها ولا تجاهلها، والدعوة للتعايش بسلام ووئام فيما بينهما هو من قبيل
القول بالشيء وضده في آنٍ معاً!
وكذلك قوله تعالى:( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ (؛ أي لولا أن يدفع الله تعالى بمن يجاهد في سبيله من يجاهد في سبيل الطاغوت .. ويبغي في الأرض عوجاً وفساداً( لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ( أي لعم الفساد والخراب في الأرض بعلو الكافرين المجرمين، وبسط نفوذهم، وقانونهم، وباطلهم وفسادهم .. ومنعهم للمؤمنين الموحدين المصلحين أن يُظهروا دينهم ( وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة:251. بأن أذن بالجهاد والتدافع؛ فيقذف المجرمين الكافرين وباطلهم بالمؤمنين الموحدين، كما قال تعالى:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (الأنبياء:18. وقال تعالى:( وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (الإسراء:81.
ونحو ذلك قوله تعالى:( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج:40. وهذا ملاحظ جداً .. فعندما يتخلف أهل الحق في الدفاع عن الحق .. ودفع الباطل عن باطله وعدوانه وغيه .. ويتخلفون عن الأخذ بسنة التدافع .. ويركنون إلى الدنيا .. يُسلَّط عليهم عدوهم .. ليهدم مساجدهم ومعابدهم .. ويُمنعون من أن يَذكروا اسم الله فيها .. وما أكثر الشواهد الدالة على ذلك .. فكم من مسجد حُوِّل على أيدي الظالمين المعتدين إلى متحف .. أو مرقص .. أو منزل لغاصب .. أو زريبة للحيوانات .. كما حصل ولا يزال يحصل في البلاد الإسلامية المحتلة من قِبل الاتحاد السوفيتي الشيوعي من قَبل .. وفي الأندلس .. وتركيا .. وفلسطين .. والشيشان، وغيرها من البلدان!
وفي الحديث فقد صح عن النبي ( أنه قال:" إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "[(1)]. هذا الذل يتحقق وينزل بالأمة بسبب ترك العمل بسنة التدافع، وترك الجهاد في سبيل الله.(1/61)
وكذلك قوله (:" يُوشَكُ الأممُ أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها "، فقال قائل: ومن قِلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللهُ من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن "، فقال: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال:" حُبُّ الدنيا، وكراهية الموت "[(2)]. هذه هي نتائج ترك العمل بسنة التدافع، والركون إلى وهم تعايش الحضارات .. أن تداعى أمم الكفر والشرك والضلال على أمة الإسلام كما تداعى الأكلة إلى قصعتها .. وقد حصل ذلك .. وها نحن نراه يومياً أمام أعيننا!
وقال (:" مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " البخاري. وهذا مثل ضُرب لبيان أهمية العمل بسنة التدافع؛ دفع الباطل وأهله بالحق وأهله، فإن تُرك لأهل الباطل الحرية ـ تحت أي زعم كان ـ في أن يخرقوا السفينة .. ويُفسدوا في المجتمعات .. ومن دون أن ينكر عليهم أحد .. هلكوا جميعاً الصالحون والطالحون، والمذنب وغير المذنب، وإن أخذوا على أيديهم بالزجر والمنع والنهي .. وإن حصل نوع صدام وآلام وجراح .. نجوا جميعاً!
قال تعالى:( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (الحج:41. هذا هو الغرض من التمكين؛ تمكين المؤمنين في الأرض؛ أن يفردوا الله تعالى في العبادة، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر .. فإن تعطل العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. فُقِد المبرر من التمكين.
وفي الأثر المشهور عن الصحابي ربعي بن عامر ( عندما قال لرستم قائد جيش الفرس، بعد أن سأله الآخر عن السبب من وراء خروجهم لقتال فارس:" لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ". هذه هي مبررات وغايات التمكين والصراع عند المسلمين؛ فهم لا يعرفون أطماعاً خاصة ولا شخصية .. كما هو الحال عند الآخرين .. بل هدفهم الأسمى تحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. ليعيشوا جميعاً في سلم وسلام وعدل الإسلام.
* * * * *
ـ الأدلة العقلية على وجود الصراع بين الحضارات.
فإن قيل: قد تناولت موضوع سنة التدافع والصراع بين الحضارات، أو بين الحق والباطل من وجهة نظر النصوص الشرعية وحسب .. فهلاَّ أشرت للأدلة العقلية .. وكذلك الادلة الواقعية المُشاهدة الدالة على ما تقدم ذكره وبيانه في النصوص والنقولات الشرعية؟
__________
(1) أخرجه أحمد، وأبو داود، وغيرهما، السلسلة الصحيحة:11.
(2) أخرجه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة: 958.
أقول: لا تعارض بين العقل والنقل .. فما يقرره النقل الصحيح يوافقه العقل السليم ولا بد؛ فالعقل يقضي باستحالة تعايش الشيء وضده في آنٍ ومكانٍ معاً، وإقرار كل منهما للآخر طواعية .. كتعايش الحق والباطل .. والتوحيد والشرك .. والإيمان والكفر .. والفضيلة والرذيلة .. والطهر والنجاسة .. والوفاء والغدر .. والأمانة والخيانة .. والصدق والكذب .. والظلم والعدل .. والفساد والإصلاح .. والتخريب والإعمار .. لذا كان لتحقيق التعايش بينهما لا بد من أن يعمل كل طرف منهما على أطر الطرف الآخر إلى ساحته وقوانينه وطريقته ومنهجه .. وهذا لا يتحقق إلا إذا تخلى كل طرف منهما عما يتصف به من خصال وخلال لصالح الطرف الآخر .. لكن طرف الحق ـ مهما حاول أهل الباطل واجتهدوا ومكروا مكراً كبَّاراً ـ لا يمكن أن ينصاع للباطل وقوانينه وطريقته ومنهجه في هذه الحياة .. ولا الباطل ـ بكل صنوفه وجيوشه وطوائفه ومذاهبه ـ يرضى كذلك أن ينصاع طواعية للحق .. مع محافظته على باطله وطغيانه وظلمه، ومصالحه الذاتية وما عُرف عنه من خِلالٍ مشينة .. من هنا تأتي الضرورة الملحة لعملية التدافع والصراع بين المنهجين والتيارين .. وهذا الذي يُعرَف اليومَ بصراع الحضارات .. حضارة الحق وأهله من جهة وحضارة الباطل وأهله بكل جيوشهم وتياراتهم ومذاهبهم من جهة أخرى!
وفي الحديث، فقد صح عن النبي ( أنه قال:" عجبت لأقوام يُساقون إلى الجنة في السلاسل ". وفي رواية:" رأيت ناساً من أمتي يُساقون إلى الجنة بالسلاسل، ما أكرهها إليهم! قلنا من هم؟ قال: قوم من العجم يسبيهم المهاجرون فيدخلونهم الإسلام "[(1)].(1/62)
بل هذا التدافع بين الفريقين نجد أمثلة عدة تدل عليه؛ حتى في النفس البشرية الواحدة يوجد فيها ما يدل على هذا الصراع والتدافع، فكل امرئٍ فيه نفس أمارة بالسوء تأمر صاحبها بالمنكر والشر، كما قال تعالى:( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (يوسف:53. ونفس لوامة تلوم صاحبها على فعل المنكر وتنهاه عنه .. وهي النفس الرادعة، كما قال تعالى:( وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (القيامة:2. وكلتا النفسين في المرء تعتلجان وتتصارعان وتتدافعان وتتجاذبان إلى أن تغلب إحداهما الأخرى .. فيجد المرء نفسه مشدوداً إما لفعل الخير وإما لفعل الشر؛ بحسب لمن تكون الغلبة.
كذلك الإيمان في القلب فإنه في صعود وهبوط مستمر، بحسب الطوارئ والأعمال التي يقوم بها الإنسان؛ فإن عمل خيراً ازداد إيمانه وقوي بقدر عمله، وإن عمل شراً نقص إيمانه وضَعُف بقدر عمله.
حتى الدمَ في جسد الإنسان فيه ـ ما هو معلوم للجميع ـ كرياتٌ تُسمى بكريات البيض؛ هذه الكريات وظيفتها مهاجمة الجراثيم والأدواء إذا ما داهمت جسد الإنسان، والقضاء عليها .. فإن غلبت هذه الكريات الجراثيم الدخيلة .. قوي جسد الإنسان واشتد عوده .. وعادت إليه عافيته .. وإن ضعفت هذه الكريات في المقاومة .. وكانت الغلبة للجراثيم الوافدة .. فحينئذٍ يضعف الجسد وينهار ويموت .. هذا الصراع والتدافع بين الأضاد والمتناقضات نجد عليه أمثلة عدة في كل جزئية من جزئيات حياتنا.
* * * * *
ـ أدلة الواقع على وجود الصراع بين الحضارات.
أما أدلة الواقع الدالة على هذا النوع من الصراع والتدافع بين الحضارات أو بين الأمم والشعوب فحدث عنها ولا حرج؛ فهي أكثر من أن تُحصَر في هذا الموضع، بل أكاد أجزم أن ما من صراع يحدث في العالم إلا ولهذا البعد في الصراع الدور الرئيس والأساس.
... وأنا هنا لا أريد أن أستقرئ التاريخ البعيد لأستخرج منه الأحداث الدالة على هذا النوع من التدافع والصراع، وما أكثرها لو فعلت ـ حتى لا يقول القارئ هذا تاريخ قديم لا حجة فيه، ونحن اليوم نعيش في عصر مختلف؛ عصر الانفتاح والعولمة والتحرر، والديمقراطية .. والتعايش والسلام .. والقانون الدولي .. وهو عصر يختلف كثيراً عن العصور السالفة للآباء أو الأجداد التي يسودها العنف والتعصب ـ وإنما أريد أن أتناول بعض الأحداث والوقائع التي حصلت في واقعنا المعاصر والمعايش التي لا تزال آثارها جاثمة على صدور العباد .. شاخصة لذوي الأبصار .. والتي لا تخفى على أحدٍ من الناس مهما كان مصاباً بداء الجهل أو النسيان!
__________
(1) السلسلة الصحيحة: 2874. وقوله " فيدخلونهم الإسلام " أي طواعية لا إكراهاً .. إذ لا إكراه في الدين .. لكن القيد والسلاسل والأسر كان سبباً لهم في التعرف على عظمة وأخلاق الإسلام .. ومن ثم الدخول فيه طواعية .. مما أدى بهم إلى دخول الجنة، فرب ضارة نافعة .. وما أكثر ما يتكرر ذلك، هكذا ينبغي أن يُفهم الحديث، وعلى هذا المحمل ينبغي أن يُحمل.
... من ذلك ما حصل ولا يزال يحصل في فلسطين من اغتصاب للحقوق والأرض، وانتهاك للحرمات، وتقتيل وتدمير للبيوت على رؤوس الآمنين من ساكنيها .. وحصار وتجويع للنساء والأطفال .. هل كان سيحصل شيء من ذلك لو كان الشعب الفلسطيني نصرانياً أو بوذياً أو ينتمي لأي دين غير دين الإسلام .. وهل كانت أمريكا ومعها الحضارة الغربية النصرانية الديمقراطية .. ستقف منه نفس الموقف الذي تقفه الآن؟!
... لماذا كل هذا التغاضي والتعامي ـ من قبل أمريكا ومعها دول الغرب ـ عما يفعله ويرتكبه الصهاينة اليهود في فلسطين وغير فلسطين من عدوان .. بينما لو فعل المسلمون الفلسطينيون أو غيرهم جزءاً يسيراً من ذلك ـ من قبيل المعاملة بالمثل، ولاسترداد الحقوق المغتصبة ـ لقامت الحضارة الغربية النصرانية الديمقراطية تهدد وتشجب وتستنكر .. وتتباكى على حقوق الإنسان .. وتتكلم عن وحشية المسلمين؟!
... وما حصل ولا يزال يحصل في أفغانستان من تدمير وتقتيل، وعدوان .. على أيدي الغزاة الأمريكان وحلفائهم .. هل كان سيحصل شيء من ذلك لو كان الشعب الأفغاني نصرانياً .. أو ينتمي إلى دين غير دين الإسلام .. وهل كانت أمريكا ومعها الحضارة الغربية النصرانية الديمقراطية .. ستقف منه نفس الموقف الذي تقفه الآن؟!
... هل لو كانت دولة الطالبان دولة علمانية .. تسير في ركاب السياسة والإرادة الأمريكية الغربية .. كانت ستُعَامل المعاملة التي عُوملت به؟!
... ما الذي حمل أمريكا ومعها دول الغرب على غزو أفغانستان .. وإسقاط دولة لها كامل السيادة والنفوذ على البلاد .. لتستبدلها بقوة السلاح بدولة عميلة تحكمها شلة من العصابات وقطاع الطرق .. وتجار الحشيش والمخدرات؟!(1/63)
... كذلك ما حصل ولا يزال يحصل في العراق .. من حصار، وغزو، وتدمير، وقتل، وانتهاك لجميع الحرمات .. هل كان سيحصل شيء من ذلك لو كان الشعب العراقي نصرانياً أو ينتمي إلى أي دينٍ غير دين الإسلام .. وهل كانت أمريكا ومعها الحضارة الغربية النصرانية الديمقراطية .. ستقف منه نفس الموقف الذي تقفه الآن؟!
... ما حصل ولا يزال يحصل في الشيشان من جرائم ومجازر .. هل كان سيحصل شيء منه لو كان الشعب الشيشاني نصرانياً أو ينتمي إلى أي دينٍ غير دين الإسلام .. وهل كانت أمريكا ومعها الحضارة الغربية النصرانية الديمقراطية .. ستقف منه نفس الموقف الذي تقفه الآن .. وهل كانت ستؤيد روسيا على استعمارها للبلد .. وتغض الطرف عما ترتكبه من جرائم بحق الآمنين العزَّل؟!
... كذلك ما حصل من مجازر جماعية ـ على أيدي نصارى الصرب بتواطئ من نصارى الغرب ـ بحق عشرات الآلاف من المسلمين الآمنين المدنيين في البوسنة والهرسك .. وفي كوسوفو .. تقشعر منها الأبدان .. لا تزال إلى الساعة تتكشف بعض حقائقها الإجرامية الوحشية .. هل لو كان الضحاية من النصارى أو غير المسلمين .. كانت أمريكا ومعها الغرب الصليبي الديمقراطي ستسمح بحصول شيء من ذلك .. وهل كانت ستكتفي بمحاسبة بضعة أفراد من الجناة .. بالسجن لبضع سنوات مع توفير كامل الخدمات الترفيهية لهم طيلة فترة محكوميتهم .. كما حكمت بذلك محاكم وحيدة العين الدولية في لاهاي!
... هل لو كان المعتقلون في سجن جوانتنامو .. أو أبو غريب .. من النصارى أو أي ملة غير ملة الإسلام .. كانت أمريكا ستعتقلهم في أزرى صورة ومعاملة كما هو الحال الآن .. وهل كانت الحضارة الغربية النصرانية الديمقراطية ستسكت وتصمت صمت أهل القبور عن هذا الجرم
الإنساني الذي لن ينساه التاريخ .. كما تسكت وتصمت الآن!
... لماذا تيمور الشرقية النصرانية الكاثوليكية .. مدينة الصلبان .. تحظى باستقلالها التام عن إندونيسيا المسلمة .. ويعترف بها المجتمع الدولي ـ من غير جدال ولا نقاش ـ كدولة مستقلة .. بينما فلسطين .. وكشمير .. والشيشان .. رغم عقود من الجهاد والتضحيات .. والمطالبة بالاستقلال عن الغزاة المحتلين .. لا يحظون بالاستقلال .. ولا يلقون من المجتمع الدولي أدنى اهتمام أو اعتراف أو مساعدة .. بل العكس تماماً؟!
... لماذا هذا التضامن والتفاعل الكبيرين والظاهرين من المجتمع الأمريكي والغربي مع قضية جنوب السودان النصراني .. وحمل الحكومة السودانية على الانصياع لطلبات ورغبات نصارى الجنوب .. والتي منها تغييب الهوية الإسلامية للسودان؟
... لماذا أيما شعبٍ مسلم ـ وفي أي بقعة من بقاع الأرض ـ مجرد أن ينشد حكماً إسلامياً .. أو يُطالب بأن يحكمه الإسلام .. دينه الذي يعتقده .. أو يفكر بمشروع نهضويٍّ إسلامي يرتد على الأمة بالخير .. يُصادمه مباشرة الفيتو الأمريكي والغربي النصراني الديمقراطي .. والقصف الأمريكي الغربي .. والحصار الأمريكي الغربي .. ليحيلوا بينه وبين رغبته تلك؟!
... لماذا كل الشعوب والملل ـ كما هو الواقع ـ لها كامل الحق في أن تقيم دولة تمثلها وتمثل ثقافتها وعقيدتها .. بينما المسلمين ليس لهم دولة تمثلهم وتمثل ثقافتهم ودينهم .. وتتكلم باسمهم؟!
... لماذا هذه الحساسية الزائدة من حجاب المرأة المسلمة .. إلى درجة الانتقام ومنعها من الحجاب بقوة السلطة والقانون كما حصل ولا يزال يحصل في فرنسا الديمقراطية وغيرها من البلدان ..؟!
... لماذا هذا التعاطف والتعاون .. والدعم والتأييد .. لكل ما هو غير إسلامي .. بينما الإسلامي يُحارَب .. ويُسجن .. ويُقتَّل .. وتُنتهك حرماته كلها .. ولا بواكي له .. بل الكل يتقرب إلى الكل بالاعتداء عليه، والسطو على حرماته وحقوقه؟!
لماذا هذه الحرب الشعواء لكل نشاط أو جهد أو عمل إسلامي خيري .. باسم محاربة الإرهاب والإرهابيين زعموا .. بينما برامج ونشاطات غيرهم المتنوعة والمختلفة .. رغم أنهم مجرمون وإرهابيون حقيقيون .. ومن برامجهم أن يُمارسوا المحظور .. ومع ذلك فإنهم يمرحون ويسيحون .. ولهم كامل الحرية والحقوق؟!
... لماذا هذا التواطؤ على دم المسلم في كل مكان .. من غير أدنى إنكار ولا امتعاض .. وكأنه أرخص من المياه الملوثة في المستنقعات .. وكان آخرها الدم الذي سُفك على يد الجيش التايلندي الوثني .. حيث قَتلوا بدمٍ باردٍ أكثر من مائة مسلم في جنوب البلاد .. وفي بيت من بيوت الله .. وكذلك المجازر الجماعية التي ارتكبها النصارى الصليبيون مؤخراً في نيجيرية بحق المسلمين حيث قتلوا أكثر من " 700 " مسلم .. ومن دون أن ينكر أو يعترض عليهم أحد ..!
... لماذا هذه الحملة المسعورة على مناهج التدريس في بلاد المسلمين .. رغم ما ينتاب هذه المناهج من قصور، وانحراف، وتحلل .. نزولاً عند رغبة أمريكا وحلفائها من دول الغرب الديمقراطي؟!(1/64)
... لماذا ما من غزوة يغزوها الرئيس الأمريكي بوش الصليبي ـ ومعه حلفاؤه من دول الغرب النصراني الديمقراطي ـ إلا ويعلن أن غايته من ورائها .. نشر ثقافة الديمقراطية الإباحية .. على الطريقة الأمريكية والغربية .. وأنه لا يقبل نظاماً ولا ديناً ولا منهجاً ولا طريقة للعيش والحياة سوى الديمقراطية وفق المفهوم الأمريكي الغربي .. مهما كان الثمن باهظاً .. ولو أدى ذلك إلى إبادة شعب بكامله .. وإزالة دول .. وتدمير مجتمعات .. كما فعل ولا يزال يفعل في أفغانستان والعراق .. وغيرهما من البلدان؟!
... هذا التواطئ في التطاول على سيد الخلق صلواتُ ربي وسلامه عليه، بالسب، والطعن، والاستهزاء .. من قِبل الغرب الديمقراطي الصليبي .. ومن قِبل وسائل إعلامه .. واعتبارهم أن حرية الطعن والتهكم، والاستهزاء بالله وآياتِه ورسولِه .. هو من صميم قيمهم الحضارية .. التي لا يمكن أن يعتذروا أو يتراجعوا عنها!
... لماذا ذلك كله ..؟!
الجواب يعرفه الجميع: وهو أن الدافع لهذا كله هو البعد الديني .. الثقافي .. العقائدي .. الطائفي .. الصليبي .. عند القوم .. هي الرغبة الجامحة في أن يُطفئوا نور الله في الأرض .. هو الحقد والبغض والكراهية العامرة في صدورهم لدين الله تعالى وما أنزله على رسوله الكريم ( ..الذي تسميه بعض القنوات الفضائية .. وكذلك بعض المثقفين ـ على استحياء ـ بالدافع أو الصراع الحضاري ..؟!
... الدافع .. هو خوفهم الشديد من الإسلام؛ لعلمهم أنه دين الله .. وأن دين الله لا يُغالَب ولا يُحارَب .. وأنه ظاهر على من ناوأه .. وأنه يغلب من غلبه ولو بعد حين .. وأنه محفوظ ومنصور .. ولو كره الكافرون المجرمون!
... ولعلمهم أن الإسلام حق .. وهو قوةٌ متحركة بذاتها يغزو القلوب والعقول قبل أن يغزو الديار والأوطان .. فكيف إذا ضم إلى قوته الذاتية القوة المادية التي يُحطم بها عروش الطواغيت الظالمين .. ويزيل بها السدود والحدود التي تحيل بينه وبين الناس .. ويُنصف المظلومَ من الظالم!
... الإسلام في هذا الزمان .. لا يملك دولة .. ولا سلطة سياسية نافذة .. تتبناه وتُدافع عنه .. ومع ذلك فهم يخشونه .. ويصنفونه العدو الأول الذي يتهدد الحضارة الغربية الماجنة .. والحضارات الوثنية الأخرى!
... المسألة بالنسبة لنا نحن المسلمين واضحة جداً قد بينها لنا ربُّنا أحسن بيان، وفصلها أفضل وأوضح تفصيل، كما في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (المائدة:51. وقوله تعالى:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (الأنفال:73. وقوله تعالى:( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا (البقرة:217. وقوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (النساء:76. فأيما حدث أو صراع بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى بكل تجمعاتهم ومذاهبهم ومناهجهم المختلفة .. فنحن نفسره ونفهمه على ضوء هذه الآيات الكريمات .. وليس لنا غير ذلك!
فالقضية بالنسبة لنا واضحة المعالم لا تحتاج إلى علوم سياسية .. ولا إلى مزيد من التحليلات والدراسات .. والأبحاث .. ولا إلى تلك التخصصات العلمية المعقدة .. كما أننا لا نحتاج إلى براهين الواقع ولا غيرها لكي نصدق أن الكافرين بكل أطيافهم ومذاهبهم المختلفة لا يمكن إلا أن يكونوا ( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ( على المؤمنين الموحدين .. ولكن فريقاً من بني جلدتنا .. يتكلمون بألسنتنا .. يُعرفون ـ زوراً ـ بالتنور والعقلانية .. والانفتاح .. والتحرر .. يشككون بهذه الحقيقة المطلقة .. ويُطالبون بإيقاف صراع الحضارات كما يحلو لهم أن يسموه .. فنضطر إلى أن نستدل عليهم بالأدلة والبراهين العقلية والواقعية المشاهدَة كما تقدم!
يريدون أن يوقفوا صراع الحضارات من طرف واحد فقط، من طرف المسلمين، المستضعفين المعتدى عليهم، وعلى حرماتهم وحقوقهم وبلدانهم .. بينما الطرف الآخر بكل أطيافه وتجمعاته ودوله بقيادة راعية الإرهاب العالمي أمريكا .. ومعها الغرب الصليبي الديمقراطي المتحضر .. لم يتوقفوا عن العدوان .. ولا عن الصراع .. ولا عن الغزو لحظة واحدة .. فهم في تمدد وتوسع مستمر حتى أنهم أصبحوا يتحكمون بثروات وخيرات بلادنا .. وحتى بطعامنا وشرابنا، ولباسنا .. وطريقة حديثنا وحياتنا!(1/65)
الطرف الآخر العدو مستمر في العدوان والغزو .. مستمر في تغذية الصراع .. والأحقاد والكراهية بين الشعوب .. لم يتوقف ساعة واحدة .. وفي المقابل تجد دراويش المثقفين من بني جلدتنا ينادون ويُطالبون الضحية من المسلمين بضرورة التعايش مع الآخر، وضرورة وقف صراع الحضارات .. وكأن المشكلة تكمن عند المسلمين .. وأن المسلمين هم الذين يمارسون العدوان على الطرف الآخر .. لا غيرهم!
* * * * *
ـ التوفيق بين القول بصراع الحضارات، وموقف دول الغرب من الحريات الدينية التي يمنحونها للمسلمين في بلادهم؟
فإن قيل: كيف نوفق إذاً بين الموقف الدولي والغربي الرأسمالي الديمقراطي الذي يسمح بحرية الاعتقاد، وحرية المسلمين في أن يمارسوا شعائرهم الدينية وبين القول بأنهم يُحاربون الإسلام والمسلمين .. وأنهم يغذون مبدأ صراع الحضارات؟!
أقول: فهم إذ يسمحون أن تُمارس شعائر الإسلام التعبدية على مستوى علاقة الفرد بخالقه ( .. فهم لا يسمحون بالإسلام السياسي .. ولا بالإسلام القوي المتسلح بأسباب القوة والمنعة المادية الذي يقوى على مواجهة الحضارات الأخرى، والوقوف أمام زحفها .. ولا بالإسلام المستقل الذي يحكم البلاد والعباد وفق عقيدته ومنهجه ونظامه .. كما يجب أن يكون .. وكما أمر الله تعالى .. ولا بالإسلام الذي يتدخل في حياة الناس .. وشؤونهم العامة؛ على مبدأ قاعدتهم الكافرة المعروفة، التي تقوم حضارتهم على أساسها، مبدأ:" فصل الدين عن السياسة والدولة .. والحياة .. وأن ما لله لله؛ وهي الشعائر التعبدية المحصورة بعلاقة الفرد مع خالقه .. وما لقيصر لقيصر؛ وهو جميع شؤون الحكم والحياة "!
بل حتى ممارسة الشعائر التعبدية ذات الطابع الفردي .. عندما يكون لها دلالة سياسية معينة .. أو قد تنعكس على حياة الناس بما لا يحلو لهم .. ولا يريدون .. تراهم يمنعونها ويُحاربونها؛ كموقف راعية الحرية ـ زعموا! ـ فرنسا من مسألة حجاب المرأة المسلمة في فرنسا .. وقد تابعها على موقفها هذا عدد من الدول الغربية .. علماً أن الحجاب لا يتعدى أن يكون فعلاً مقصوراً على المستوى الفردي الشخصي لا يمكن أن يتعدى إلى غيره .. ونحوه موقفهم المتشدد والعنصري من لحية الرجل المسلم .. أو أي زي يرتديه ينم عن هويته أو انتمائه الإسلامي!
وكذلك تدخلهم في سياسة المساجد ونشاطاتها .. وأوقات فتحها وإغلاقها .. ومن يدخل إليها ومن يخرج منها .. وتحديد موضوع خطبة الجمعة الذي سيُقرأ على المصلين فيها .. وإعداد الأئمة وبرمجتهم بما يتوافق مع القيم والعادات الغربية .. ومع ذلك فهم لا يتورعون أن يُملئوا بيوت الله بالدبابير والجواسيس الذين يتجسسون على عورات المسلمين وهم في بيوت الله لصالح
الظالمين الذين يريدون أن يُطفئوا نور الله[(1)]!
فهم بفعلهم وقولهم هذا قد طابقوا فعل وقول مَن قبلهم من المشركين، كما قال تعالى عنهم:( فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (الأنعام:136. فتطابقت قلوبهم قبل أن تتطابق أقوالهم وأفعالهم ..!
ويُقال كذلك: أنَّ هذا القدر من الحرية الدينية الذي يُمنح للمسلمين ـ والذي هو في انتقاص مستمر ـ هو من جملة الحرية الدينية المسموح بها لجميع الطوائف والأديان الأخرى الموجودة في بلادهم .. وبالتالي ليس من السهل عليهم أن ينصوا القوانين التي تستثني صراحة المسلمين أو الدين الإسلامي من هذه الحرية الممنوحة للآخرين!
ومن كيد القوم ـ أرباب الحضارة الغربية الصليبية ورهبانها ـ ومكرهم ضد أي عملية جادة تستهدف استنهاض الأمة واستئناف حياة إسلامية راشدة، أنهم زرعوا في بلاد العرب والمسلمين ـ ومنذ عقود عدة ـ معوقات عدة تحيل بين المسلمين وأهدافهم .. منها طواغيت الكفر والظلم، وأنظمة ديكتاتورية ظالمة كفرها وظلمها مغلظ ومركب، لتقوم بالنيابة عنهم بمحاربة واستئصال أي توجه إسلامي جاد .. وهذه الأنظمة الفاشية الديكتاتورية الكافرة .. تلقى منهم كل دعم وتأييد ومباركة مقابل القيام بمهمتهم هذه .. وعلى قدر قيامهم بها بالشكل الفاعل والمؤثر يلقون الدعم والتأييد والمباركة!
من سياسة دول الغرب الديمقراطي النصراني المعتمدة نحو دول الشرق الأوسط .. أنهم يمدون حبلين: حبلاً يصلون به طواغيت الحكم الظالمين الديكتاتوريين فيقوونهم على الشعوب المقهورة وبخاصة عندما هؤلاء الطواغيت يقومون بواجب الخدمة والعمالة على الوجه المطلوب .. وحبلاً آخر يمدون به الشعوب المقهورة بنوع عطف وإحسان من خلال التعاطف مع بعض قضايا حقوق الإنسان .. وفي نفس الوقت يستقوون بالشعوب وغضب وثورة الشعوب .. على تأديب الحكام في حال خرج طواغيت الحكم عن شيء من السياسات المرسومة لهم والمُملاة عليهم من الخارج .. فهي سياسة الكيل بمكيالين!(1/66)
كم من طاغية ظالم هددوه بتأييد ثورة شعبه عليه .. وعندما يستجيب الطاغية الظالم لكامل مطالبهم، ويسير في ركاب سياساتهم وخدمتهم .. ويسلمهم مفاتيح البلاد وخيراتها .. يُعينونه ويمدونه بحبل من القوة والحياة ليجلد شعبه من جديد!
فهم تارة يهددون طواغيت الحكم بالشعوب .. وتارة يهددون الشعوب بالحكام بحسب ما تتراءى لهم مصالحهم الخاصة والذاتية .. وهذه السياسة تستدعي منهم نوع علاقة مع الطرفين؛ طرف الأنظمة الحاكمة، وطرف الشعوب المعارضة لها .. ومن خلال هذه السياسة يسيطرون على الطرفين، ويتحكمون بالطرفين .. وبنو قومي ـ وللأسف ـ لا يعلمون .. هذه حقيقة مكشوفة لا بد من إدراكها والتسليم بها!
* * * * *
ـ أوجه الخلاف بين الحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية الديمقراطية الصليبية؟
فإن قيل: عرفنا دوافع الصراع وغاياته .. وحتميته .. ولكن هل ثمة اتفاق بين الحضارة الغربية الصليبية الديمقراطية والحضارة الإسلامية .. وما هي أوجه الخلاف بينهما .. وهل يعني ما تقدم أن الحضارة الغربية لا توجد فيها قيم حضارية معتبرة ..؟؟
أقول: هذه أسئلة هامة ـ لعلنا أجبنا عن بعضها في طيات ما تقدم في هذا البحث ـ أعيد فأجيب عنها هنا بشيء من التوسع والتفصيل، وأبدأ بالجواب عن السؤال التالي:
ما هي أوجه الخلاف بين الحضارتين: الحضارة الغربية الرأسمالية الديمقراطية الصليبية، والحضارة الإسلامية[(2)
__________
(1) كثير من المساجد في أوربة أصبحت مزروعة بالكاميرات الظاهرة والخفية التي تنقل صورة وكلام جميع من يدخل إليها ويخرج منها للأجهزة المخابراتية الأمنية المختصة، وبالتالي فهم لم يعد بحاجة ماسة إلى غرس الجواسيس بين المصلين للتجسس على عوراتهم، وعلى كل ما يصدر عنهم .. في حين أن الكنائس ـ وبخاصة في دول الشرق الأوسط كمصر وغيرها ـ عالم مجهول .. لا يمكن التدخل في شؤونها، أو حتى معرفة ما يجري فيها!
(2) فإن قيل علام خصصت الحديث عن الحضارة الغربية الرأسمالية النصرانية .. والمقارنة بينها وبين الحضارة الإسلامية .. دون غيرها من الحضارات السائدة في العالم، كالحضارة الصينية الشيوعية، والحضارات الوثنية البوذية والهندوسية .. أو الحضارة اليهودية؟!
أقول: لأسباب عدة: منها: أن هذه الحضارات لا توجد لها قيم حضارية تقوى على الوقوف أمام الحضارة الإسلامية ومدها الثقافي والقيمي .. ولا ذاك الرصيد الثقافي المعتبر الذي يستحق البحث والنقاش. ومنها: أن مجموع هذه الحضارات دخلت كحليف وتابع للحضارة الغربية النصرانية الرأسمالية في حربها القديمة الحديثة ـ المعلنة والمبطنة منها ـ ضد الإسلام وحضارته، فهم بعضهم أولياء بعض في أي حرب تُشن ضد الإسلام وحضارته. ومنها: أن للحضارة الغربية النصرانية تاريخ قديم ومليء بالكيد والحرب والعداء للإسلام وحضارته .. وهي بين الفينة والأخرى تحن لإحياء وتجديد هذا التاريخ .. وبخاصة إن توفرت لديها القوة المادية التي تمكنها من فعل ذلك، كما هو مشاهد في واقعنا المعاصر. ومنها: أن الملاحم الكبرى ستكون مع القوم .. مع الروم .. عند أبواب الشام .. وذلك قبل ظهور المسيح الدجال ونزول قاتله عيسى ( بزمن قليل .. يوم لا يُقسم ميراث، ولا يُفرح بغنيمة لشدة القتل والقتال، وكثرة المقتولين .. كما هو ثابت في أحاديث نبوية عديدة صحيحة .. لعلنا نأتي إلى ذكر بعضها إن شاء الله .. فهم أعداء الماضي والحاضر والمستقبل!
]؟
وللجواب عن هذا السؤال أقول: نعم، توجد أوجه خلاف عدة بين الحضارتين:
منها: أن الحضارة الإسلامية ربانية المصدر؛ إذ جميع قيمها الحضارية مستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله (، بينما الحضارة الغربية الرأسمالية بشرية المصدر؛ إذ جميع قيمها الحضارية
مستمدة من عقول وأهواء وتجارب البشر .. مجردة عن وحي السماء!
ومنها: أن الحضارة الإسلامية قائمة على عقيدة التوحيد؛ توحيد الخالق ( في الخلق والأمر، في العبادة، والطاعة، والحكم والتشريع .. فالله تعالى كما له الخلق فله الأمر، بينما الحضارة الغربية النصرانية قائمة على عقائد الشرك والوثنية والجحود؛ فأشركوا مع الله تعالى آلهة أخرى، واتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً ومشرعين من دون الله!
ومنها: أن الحضارة الإسلامية قائمة على مبدأ الإيمان والتصديق بجميع الأنبياء والرسل، لا نفرق بين أحدٍ من رسل الله ( .. بينما الحضارة الغربية النصرانية تؤمن ببعض الأنبياء والرسل، وتكفر وتجحد ببعض، ففرقوا في الإيمان بين الأنبياء والرسل .. ومن آمنت بهم لا يتعدى إيمانها بهم ساحة التصديق وحسب؛ التصديق المجرد عن مطلق المتابعة.(1/67)
ومنها: أن الحضارة الإسلامية شاملة لجميع جوانب الحياة: التعبدية، والأخلاقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمية .. لا تنافر بين العقيدة الإسلامية وبين تلك الشمولية .. بخلاف الحضارة الغربية النصرانية القائمة على عقيدة وثقافة فصل الدين عن الدولة، والسياسة، والحياة، وحصر الدين في الجانب الاعتقادي وحسب، فالحضارة الغربية لم تعد تعرف من شؤون دينهم سوى الولاء والتعصب الطائفي الصليبي .. ومن دون أدنى التزام بتعاليم ومبادئ الديانة النصرانية حتى بعد حصول التحريف لها .. لعلمهم واعتقادهم أن دينهم المحرف الذي تلاعبت به أيدي الأحبار والرهبان ـ ومنذ زمن ـ لا يلبي حاجيات وتطلعات الشعوب والمجتمعات، كما أنه لا يصلح لشؤون الحكم والسياسة، ومناحي الحياة الأخرى!
ومنها: أن الحضارة الإسلامية قائمة على التصور والاعتقاد بأن السيادة المطلقة في الأرض وفي السماء لله تعالى وحده، كما قال تعالى:( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (الزخرف:84. وأن هذا الكون ـ وما فيه ومن فيه ـ من ملكه ( .. وهو خالقه والمتصرف به كيفما يشاء .. ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (الأنبياء:23. وبالتالي فإن الإنسان مخلوق لله تعالى ومملوك له، وهو مُستخلف في الأرض لإعمارها وفق قانون وشرع الله، وهو محاسب ومسؤول عما استرعاه الله إياه واستأمنه عليه، لا يجوز له أن يخرج عن شريعة وتعاليم مالك وخالق هذا الكون في شيء .. بينما الحضارة الغربية النصرانية قائمة على أن السيادة المطلقة هي للإنسان، وأن الإنسان هو المالك الحقيقي للأشياء .. وأنه هو الإله المطاع في الأرض، وبالتالي من حقه أن يقبل ما يشاء، ويرد ما يشاء، ويحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويفعل ما يشاء وفق ما يهوى ويريد!
وكنتيجة لما تقدم عُرفت الحضارة الإسلامية بالمحافظة على القيم والأخلاق الحميدة التي شرعها الله تعالى لعباده .. بخلاف الحضارة الغربية ـ كنتيجة لما تقدم ـ فقد عُرفت بالتحلل، والتفسخ، والسفور، والإباحية .. والشذوذ الأخلاقي!
وكنتيجة لما تقدم كذلك عُرفت القيم الحضارية في الإسلام بالثبات .. فهي لا تقبل التغير والتبدل مهما تقادمت عليها الأزمان وإلى يوم القيامة .. بينما القيم الحضارية للحضار الغربية الديمقراطية النصرانية .. فهي في تقلب وتغير مستمر .. لا قرار لها ولا ثبات .. فما تستحسنه أهواؤهم ورغباتهم من قيم حضارية اليوم قد تستقبحه في اليوم التالي .. وما تستقبحه في اليوم التالي قد تستحسنه في اليوم الذي بعده .. وهكذا إلى ما لا نهاية!
وكنتيجة لما تقدم كذلك فإن السلوك الإنساني في الحضارة الإسلامية يخضع للشعور والإيمان بمراقبة الله تعالى له والتي لا تغيب عنه لحظة واحدة .. وبالتالي فهو منضبط وملتزم بمبادئ وأخلاق دينه وحضارته في السر والعلن .. في الرضى والسخط .. وفي حال حضور الرقيب من البشر وفي حال غيابه، فالأمر عنده سيان .. بخلاف السلوك الإنساني في الحضارة الغربية النصرانية لا قيمة عنده لرقابة الله تعالى له .. وإنما القيمة كلها لرقابة الحاكم وجنده .. ورقابة قانونه .. ورقابة الكاميرات المسلطة عليه .. فهو يلتزم بالقانون وينضبط سلوكياً ما شعر بمراقبة القانون والكاميرات له .. ويتهرب منه ومن تبعاته .. ويتحول إلى إنسانٍ آخر ومختلف .. ما شعر بغياب رقابة القانون والكاميرات عنه، وما أكثر الأوقات التي تغيب فيها رقابة القانون عن الناس؛ وهذا يعني أن الإنسان الغربي النصراني يفقد الوازع الذاتي الداخلي .. والرقابة الذاتية التي تحمله على الالتزام بما يُملى عليه من قوانين .. وأخلاقيات .. وسلوكيات إيجابية .. لذا فهو يحتاج إلى رقابة السلطات والكاميرات الخفية والظاهرة على مدار الوقت[(1)]!
ومنها: أن الحضارة الإسلامية قائمة على الموازنة بين الروح والمادة؛ وإعطاء كل جانب حقه من غير إفراط ولا تفريط .. بينما الحضارة الغربية النصرانية قائمة على الجانب المادي وحسب، وإلى درجة التخمة .. وبالتالي فهي تعاني من فراغ قاتل في الجانب الروحي .. وهو ما يفسر ظاهرة فشو القلق النفسي، والانتحار عند الإنسان الأوربي!(1/68)
ومنها: أن الحضارة الإسلامية لها امتداد تاريخي حافل بالبذل والعطاء، والرقي والتسامح .. شهد به الأعداء قبل الأصدقاء .. يمر بجميع الأنبياء والرسل إلى أن ينتهي عند آدم ( .. فجميع حضارة الأنبياء .. وما تخللته حياتهم العظيمة من عطاء .. عبر تاريخهم كله وإلى يومنا هذا .. هي من الحضارة الإسلامية .. بينما حضارة الغرب النصراني مبتورة الأصل .. ليس لها ذاك التاريخ والامتداد، ولا ذاك العطاء المميز .. ولا ذاك التاريخ الحضاري الإنساني الذي يستطيعون أن يتماجدوا ويفتخروا به أمام أبنائهم .. بل ما من غزوة غَزَوها ويغزونها وإلا ويجدوا أنفسهم ـ ولو بعد حين ـ مضطرين للاعتذار عما ارتكبوه من جرائم ومجازر وفظائع لا تليق بالإنسان مهما كان متخلفاً .. وما جدالهم الآن عما ارتكبوه ولا يزالون يرتكبونه من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان في سجن جوانتنامو .. وأبو غريب في العراق .. وغيرها من السجون .. لأكبر شاهد ودليل عما ذكرناه!
راجع ما كُتب وقِيل عن الحروب الصليبية الأولى .. ثم راجع ما كتب وقيل عن الغزو الصليبي المعاصر واستعمارهم لبلاد المسلمين .. وكذلك عن المجازر الجماعية التي ارتكبتها أمريكا بحق سكانها الأصليين .. وبحق الأفارقة السود .. وما ترتكبه الآن ـ بتأييد ومباركة الغرب الصليبي ـ من مجازر وانتهاكات صارخة لكرامة الإنسان في أفغانستان، والعراق، وفلسطين، وغيرها من البلدان![(2)].
* * * * *
ـ هل للحضارة الغربية قيم حضارية معتبرة؟
فإن قيل: هل يعني ذلك أن الحضارة الغربية النصرانية لا توجد عندها قيم حضارية معتبرة؟
أقول: لا نستطيع أن نقول أن الحضارة الغربية تخلو من القيم الحضارية المعتبرة؛ لأن القول بذلك يعني انهيار الحضارة الغربية وزوالها كلياً عن الوجود .. لزوال مقومات وجودها .. لتصبح أثراً بعد عين .. فهذا لا نقوله .. ولكن الذي نقوله ـ وهو ما يقتضيه العدل الذي يلزمنا به ديننا الحنيف ـ أن الحضارة الغربية المعاصرة ـ على ما تقدم ذكره من مآخذٍ أُخذت عليها ـ فإنها تتحلى ببعض القيم الأخلاقية الحضارية المعتبرة .. التي تمدها بالقوة والوجود، والحياة!
من هذه القيم: الالتزام بقيمة البحث العلمي التجريبي .. والنظام والتنظيم، واستغلال الوقت، والموارد الطبيعية والبشرية فيما ينفعهم في دنياهم .. والدقة في المواعيد .. والجودة في العمل .. وحب الاطلاع والاستكشاف العلمي، والإرادة القوية على النهوض والتقدم .. فهذه قيم حضارية معتبرة، وهي موجودة فيهم.
__________
(1) قد تستغرب لو قيل لك أن محلاً طوله وعَرضه عشرون متراً مربعاً فيه عشرات الكاميرات الخفية والظاهرة التي تُراقب الزبائن وهم يتسوقون ويشترون .. وهذا والناس مكتفون أغنياء لا يشكون الفقر ولا القِل!
(2) نشرت " BBC " في موقعها على الإنترنت مقالاً بعنوان" أساس نيويورك الإفريقي "، جاء فيه: تقع بقايا عشرين ألف رجل وامرأة تحت شوارع نيويورك المزدحمة لمدة تربو عن القرون الثلاثة في انتظار أن تروي قصة العبودية في المدينة ... ا- هـ. فأي تاريخ لحضارة تُشيِّدُ عمرانها على مقابر جماعية .. ومجازر ارتكبت بحق الآلاف من بني البشر، لا ذنب لهم سوى أن بشرتهم سوداء !
ومنها: قيم التعامل بالعدل والمساواة فيما بينهم .. فالجميع الحاكم والمحكوم .. والسيد والوضيع .. والقوي والضعيف .. يتساوون أمام قانونهم[(1)].
ومنها: قيم الحرية والتسامح السائدة في بلادهم وفيما بينهم .. مع التنبيه أن جزءاً من الحريات السائدة في بلاد الغرب لا يمكن أن تُصنف كقيمة حضارية معتبرة؛ لآثارها السلبية والمدمرة على عقول وأخلاق وعطاء الشعوب!
ومنها: قيمة التضامن والتكافل الاجتماعي المعمول به في بلادهم وفيما بينهم؛ حيث لا تجد منهم المتسول ولا الفقير المعدوم، ولا المريض الذي لا يقدر على العلاج، إذ كل واحدٍ منهم ـ بسلطان القانون ـ يجب على الدولة أن توفر له المسكن .. والمأكل .. والملبس .. والعلاج .. والتعليم .. فهذه أساسيات لا تجد واحداً منهم محروماً منها.
ومنها: قيمة الاهتمام بالعمل المؤسساتي .. وقيمة العمل بمبدأ الشورى والتشاور فيما بينهم، وعلى جميع المستويات؛ إذ جميع قراراتهم تؤخذ بصورة جماعية .. بعد أن تأخذ حقها من التداول والنقاش والتشاور فيما بينهم .. لا يوجد عندهم فرد يصدر بمفرده قرارات تمس مصلحة الشعوب والمجتمع والدولة!
ومنها: قيمة محاسبة الحكام لو بدر من أحدهم أيُّ تقصير يمكن أن يتفادوه .. أو وقعوا في
الفساد الإداري، أو في الغش، والخيانة، والتصرف بأموال العامة لمصالحهم الخاصة الشخصية أو العائلية، أو الحزبية!
ما أسهل عليهم أن يقولوا لحاكمهم: من أين لك هذا .. وكيف اكتسبته .. وهذه قيمة حضارية راقية، حُرِمَها العالم الإسلامي ومنذ زمن!(1/69)
ومنها: قيمة الانتصار للمظلوم من ظلم الحكام والملوك .. ولو بعد حين .. وهذا المعنى قد أشار إليه عمرو بن العاص ( قبل ألف وأربعمائة عاماً، مستنبطاً إياه من حديث سمعه عن النبي (، كما في صحيح مسلم: عن موسى بن عُلَيٍّ عن أبيه قال: قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص: سمعتُ رسول الله ( يقول:" تقوم الساعة والروم أكثرُ الناس ". فقال له عمرو: أبصر ما تقول؟ قال: أقول ما سمعت من رسول الله (. قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقةً بعد مصيبة، وأوشكهم كرةً بعد فرّة، وخيرهم لمسكينٍ ويتيم وضعيف، وخامسةٌ حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك ".
قلت: هذه الخصال الحضارية التي أشار إليها عمرو بن العاص ( .. نلمسها فيهم في هذا الزمان بوضوح .. وهي ـ مع القيم الأخرى الآنفة الذكر ـ سبب في قوتهم وتفوقهم .. وتقدمهم العلمي والتكنولوجي .. كما أنها سبب في ظهورهم على الناس وخضوع العالم لدولهم وحكمهم وسياساتهم، وحكامهم!
قال الشيخ ناصر الدين الألباني في تعليقه على هذا الحديث، كما في مختصر صحيح مسلم:" قال صديق حسن خان في الشرح: لم يشرح النووي هذا الحديث ولم يبين المراد بـ ( الروم )، والظاهر أنهم النصارى، وهذه الخصال الخمسة موجودة فيهم، وهم ولاة الأمر اليوم في أكثر الأرض، وهذه معجزة ظاهرة للنبي ( حيث وقع ما أخبر به مطابقاً لنفس الأمر، ولله الأمر من قبل ومن بعد " ا- هـ.
قلت: هذا في زمان صديق حسن خان .. فكيف لو نظر إليهم وهم في زماننا .. وكيف أنهم قد سادوا على البلاد والعباد؟!
* * * * *
ـ لا أثر للقيم الحضارية في قيام الحضارات من دون أناسٍ يتبنونها، ويترجمونها في واقع الحياة.
ولكن نعود فنقول: هذه القيم الحضارية التي عُرفوا بها، رغم أن الإسلام يأمر بها، وهو السبّاق إلى تبنيها والدعوة إليها .. ولا نحيد عن الصواب والحقيقة لو قلنا أن الآخرين استفادوها منا ومن حضارتنا .. إلا أن المسلمين ـ في عصورهم المتأخرة ـ لما تخلفوا عنها وعن العمل بها .. وعملوا بغيرها وخلافها من القيم اللاحضارية .. وعمل بها غيرهم على ما هم عليه من كفر وغير ذلك مما تقدم من صفاتهم .. تخلف المسلمون عن قيادة الأمم والشعوب .. بل وعن قيادة أنفسهم كذلك ـ بعد أن كانوا بقيمهم الحضارية الإسلامية الراقية قادة للعالم أجمع ـ ليتولى مهمة القيادة
__________
(1) ولكن هذا العدل مقصور على التعامل فيما بينهم داخل بلدانهم .. بخلاف تعاملهم مع الآخرين خارج بلدانهم، فهو قائم على العدوان، والظلم، والإرهاب .. والانتهاكات لأبسط مقومات حقوق الإنسان .. وما أكثر الشواهد المعاصرة الدالة على ذلك وقد تقدم ذكر بعضها .. بينما عدالة الإسلام فهي تلزم المسلمين بالعدل فيما بينهم ومع الآخرين ممن عاداهم وخاصمهم .. في داخل بلادهم وخارجها، وأينما حلوا وأقاموا، كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة:8. من هنا تكمن القمة والعظمة للحضارة الإسلامية التي تلتزم العدل مع من خالفها وعاداها كما تلتزمه مع نفسها وأبنائها .. تلتزم العدل مع الآخرين في الرضى والسخط سواء.
والريادة غيرهم .. ولا حول ولا قوة إلا بالله!
الله تعالى لا يُحابي أحداً حاشاه .. قد خلق الحياة وفق قوانين ونواميس محددة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فمن أخذ بهذه النواميس وعمل بها وبمقتضاها وصل وبلغ القمم العالية وأدرك مراده وإن كان كافراً، ومن تركها وتخلف عنها .. وتواكل .. لن يصل، وطاب له العيش في الذل والركام وبين الحُفر!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 28/146: إن الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يُقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويُقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال (:" ليس ذنبٌ أسرع عقوبةً من البغي، وقطيعة الرحم "؛ فالباغي يُصرَع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدلٍ لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة ا- هـ.
... لذا فأقول: إن أرادت الأمة الإسلامية أن تُعيد لحضارتها عزها ومجدها الأول .. ودورها الريادي والقيادي الذي كان لسلفنا الصالح لا بد لها من العودة والتمسك بمجموع القيم الإسلامية الحضارية التي كانت سبباً في عزها ومجدها .. ومن دون أن تفرط بشيءٍ منها.(1/70)
لا بد أن نكون أكثر من الآخرين عدلاً ورحمة بالعباد .. هذا إذا أردنا أن يتنزل علينا نصر الله .. وأردنا للأمة أن تستأنف عزها ومجدها ودورها الريادي من جديد .. فالله تعالى يُحب العدل وينصر أهله .. ويبغض الظلم ويخذل أهله، وفي الحديث القدسي:" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظاَّلموا "مسلم.
وقال (:" اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً؛ فإنه ليس دونها حجاب "[(1)].
... لا أثر للقيم الحضارية ولا فاعلية لها في قيام الحضارات إن لم تتجسد هذه القيم في سلوك وواقع وحياة أتباعها .. فالقيم مهما كانت عظيمة وراقية تبقى معانٍ مجردة لا أثر لها في الوجود والواقع .. إلى أن يأتي من يأخذها بقوة وصدق، فيحييها ويترجمها إلى سلوك وواقع في حياته وحياة الآخرين العملية.
... لذا لا يكفي أن نتكلم عن عظمة الإسلام كعقيدة، وشريعة، وأخلاق، وقيم حضارية راقية وحسب من دون أن نجسد هذه العقيدة والقيم في سلوكنا وواقعنا وجميع جوانب حياتنا، فالسيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لما سُئلت عن خُلق النبي ( قالت:" كان خلُقه القرآن "؛ أي كانت أخلاقه وسيرته ( خير ترجمان وتفسير للقرآن الكريم .. تريد أن ترى القرآن مفسراً ومترجماً ترجمة عملية فانظر إلى حياة ومواقف وأعمال المصطفى (!
من هنا جاء الوعيد الشديد بحق من يقول ولا يفعل، ويَعلَم ويُعلِّم ولا يلتزم في نفسه، وينهى عن خُلق ثم يأتيه أو يأتي ما هو أسوأ منه، كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (الصف:2-3.
... لا يكفي أن نقول كان آباؤنا .. كان أجدادنا .. ونطيل الوقوف على أطلالهم .. إذ لا بد كذلك من أن نقول ها نحن .. وأن نصنع المجد بأيدينا وبدمائنا وعرقنا كما صنعوا .. ونجاهد كما جاهدوا!
... هذه الحقيقة ـ رغم كثرة المعوقات الشاقة التي يصطنعها طواغيت الحكم والكفر في بلاد المسلمين .. أمام عملية التغيير ـ أصبحت تُعيد كثيراً من المسلمين إلى رشدهم وإسلامهم .. وأخلاق وقيم دينهم الحنيف .. وها نحن ـ ولله الحمد ـ نشهد صحوةً إسلامية مباركة .. وأوبة جادة وصادقة إلى الحق من شرائح عدة من أبناء الأمة .. وعلى مستوى امتداد الأمة كلها وفي جميع أمصار المسلمين .. وهي تعتبر الخطوات الأولى ـ إن شاء الله ـ نحو النصر والتمكين والسؤدد ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج:40.
* * * * *
... ـ الحوار بين الحضارات.
فإن قيل: هل يُفهم من القول بحتمية الصراع بين الحضارات المتنافرة في مفاهيمها وقيمها وثوابتها يعني عدم الانتفاع من إجراء الحوار بين تلك الحضارات، وتحديداً بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية الديمقراطية النصرانية؟!
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة: 767.
... أقول: الحوار بين حضارة الإسلام والآخرين وجدالهم بالتي هي أحسن بابه مفتوح لا يمكن إغلاقه؛ لأن الإسلام دين رحمة للعالمين .. وبالتالي لا بد من بذله للآخرين بالتي هي أحسن، وبأسلوب أخلاقي يرقى إلى مستوى عظمة هذا الدين، إذ لا إكراه في الدين، كما قال تعالى:( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة:256. وقال تعالى:( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل:125. فأمرنا ربنا ( بمجادلتهم بالتي هي أحسن، أي بالطريقة التي تؤلف قلوبهم على الإسلام وحب الإسلام، وليس على تنفيرهم. وقال تعالى:( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (سبأ:46.
وقال تعالى:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64. لا بد من أن يتسم الحوار بهذه الصراحة، وهذا الوضوح:( تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (؛ فإن أعرضوا وأبَوا إلى أن يتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله .. وأن يُعبِّدوا العبيدَ للعبيد .. ينتهي الحوار .. وتأتي المفاصلة التامة بكل وضوح، ومن دون أدنى تلجلج أو ارتباك، بقولنا لهم:( اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (، لكم دينُكم ولنا دين.(1/71)
وفي الحديث في صحيح البخاري عن علي ( قال: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال (:" انفذ على رسلِكَ حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم ". من هذه النصوص الشرعية وغيرها استفاد أهل العلم أن بذل الدعوة والنصح للآخرين يجب أن يتقدم ويسبق القتال والمواجهة بالسنان.
وقال (:" يسروا ولا تُعسروا، وبشروا ولا تنفروا "البخاري.
... فالحوار مشروع وهو مستمر .. وبابه مفتوح لا يمكن إغلاقه .. حتى مع أعتى وأطغى طغاة الأرض .. ولكن على أن يكون مبنياً على أسس علمية وشرعية؛ الغاية منه إنصاف الحق .. وبيان الحق .. وأطر المخطئ إلى الحق .. وانصياع الجميع إلى الحق، وتحكيم الحق .. وليس لمجرد المداهنة والمجاملة في الباطل .. أو حصول المجالسة والمؤاكلة ومن ثم ينفض المجتمعون وهم أكثر تنافراً وتلاعناً .. أو لمجرد إصباغ الشرعية على الباطل وأهله .. أو أطر الحق والباطل إلى نقطة تتوسطهما، من قبيل التقريب والجمع بين الشيء وضده في آن واحد، والعمل بمفهوم الوسطية المزعومة التي تعني التوسط بين الحق والباطل، كما يصنع كثير من دعاة حوار الحضارات في هذا الزمان .. ومن دون أي جدوى أو فائدة تُذكر[(1)].
... الحوار ينفع كذلك عندما يكون الحق قوياً له دولته وشوكته .. وسلطانه .. وأراد الآخرون أن يدخلوا في سلمه وعهده وأمانه وجواره .. وفق شروطه ومبادئه وقيمه .. فبعدها يُقال لهم .. لا تثريب عليكم ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ( .. لكم دينكم ولنا دين!
* * * * *
... ـ متى ينتهي الصراع بين الحضارات؟
__________
(1) استوقفني مقال نُشر في جريدة " الشرق الأوسط " بتاريخ 6/5/2004، للأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر ـ كما ورد التعريف عنه ـ عبد الصبور مرزوق، يقول فيه: لا جدوى من وراء حوار الأديان والحضارات؛ لأنه حوار أشبه بحوار الطرشان، وهو مضيعة للوقت .. ا- هـ.
أقول: هو أشبه بحوار الطرشان، وهو مضيعة للوقت .. لأن الغرض منه طمس الحقائق .. وإلغاء فكرة الصراع والتدافع بين الحق والباطل .. وحضارة كل منهما .. ولأن الحوار لم يعقد على أسس علمية وعلى نية وقصد بيان الحق فيما تم الاختلاف فيه .. وإنما يُعقد للمداهنة والمجاملة .. وتحكيم الهوى .. ولتذويب وتمييع مفهوم العقيدة الإسلامية أكثر فأكثر .. ومفهوم الولاء لهذه العقيدة .. ولتثبيت شرعية باطل الآخرين في أذهان الشعوب والأجيال القادمة؛ وبخاصة عندما يحظى الباطل وأهله بعبارة ثناء وإطراء من قبل أهل الحق أو من يمثلونه .. ولتقريب الحق والباطل إلى أقرب نقطة تتوسطهما، وربما إلى نقطة تكون أقرب إلى الباطل منها إلى الحق .. وليس لأطر الباطل إلى الحق .. لذلك لا نجد لهذه الحوارات الحضارية بركة ولا نفعاً يُذكر .. وهي أشبه ما تكون بحوار الطرشان والخرسان، زادها الله طرشاً!
فإن قيل: إلى متى سيستمر هذا الصراع والتدافع بين الحضارات .. أليس له حد ينتهي عنده .. أليس له نهاية؟!
... أقول: سيستمر هذا الصراع والتدافع ـ بصورة أو بأخرى ـ بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى إلى حين ظهور المسيح الدجال وفتنته آخر زعماء الكفر والضلال .. ونزول عيسى ( آخر زعماء وقادة وأمراء الحق وجنده .. وتكون آخر معركة فاصلة بين الحق والباطل هي المعركة التي يقودها عيسى ( فيقتل فيها المسيح الدجال ومن معه من اليهود وغيرهم ممن يتابعونه ويُناصرونه .. في هذه المعركة ينطق الحجر والشجر فيقول يا مسلم يا عبد الله تعال ورائي يهودي فاقتله إلا شجر الغرقد .. وبالانتهاء من هذه المعركة الفاصلة ينتهي الصراع بين الحضارات، ومن على وجه الأرض كلها[(1)] .. ويسود الأمن والسلام والرخاء .. وتهلك الملل كلها إلا ملة الإسلام؛ حيث يضع عيسى ( الجزية فلا يقبلها من أحد؛ إما الإسلام وإما القتل والقتال .. ويدق الصليب ويُزيله، ويقتل الخنزير .. فيمكث ( بين المسلمين أربعين سنة هي من أفضل وأهنأ سنين الدهر .. يعم فيها الرخاء والأمن والسلام .. وتضع الحرب أوزارها .. ثم يتوفاه الله تعالى .. ثم يأتي أمر الله فيُرسل ريحاً كريح المسك مَسها مس الحرير فلا تترك نفساً في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته .. ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة .. ولما كانت هذه الأمور غيبية لا مجال فيها للرأي والاجتهاد ندع النصوص الشرعية الصحيحة هي التي تتكلم لتبين لنا ذلك كله.
... أما أن الصراع والقتال والجهاد، والتدافع بين الحق والباطل مستمر إلى أن يأتي أمر الله، وتقوم الساعة وتظهر أشراطها وعلاماتها الكبرى، فهو لقوله (:" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين
على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك "مسلم.(1/72)
ولقوله (:" لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون " مسلم. أي ظاهرون بالحق على من ناوأهم وخالفهم.
ولقوله (:" لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة "مسلم.
ولقوله (:" لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة "مسلم.
... ولقوله (:" لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس "مسلم.
وعن سلمة بن نفيل الكندي، قال: كنت جالساً عند رسول الله (، فقال رجل: يا رسول الله، أذال الناس الخيل ـ أي استخفوا بها وتركوها ـ، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها! فأقبل رسول الله ( بوجهه وقال:" كذبوا؛ الآن، الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيغ الله لهم قلوبَ أقوامٍ ويرزقهم منهم، حتى تقومَ الساعة، وحتى يأتي وعدُ الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة "[(2)].
وقال (:" لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة "[(3)].
... وغيرها كثير من الأحاديث والنصوص التي تدل على وجود هذه الطائفة المنصورة، وعلى استمرارية وجودها في كل زمان .. سواء كان للمسلمين خليفة وإمام أم لم يكن .. وأنهم ظاهرون على الحق .. وأنهم منصورون بالحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم .. وإلى يوم القيامة.
وأما الدليل على ظهور الدجال .. ونزول عيسى ( وقتله للدجال فهو لقوله (:" لا
__________
(1) بعد هذه المعركة يخرج يأجوج ومأجوج .. وتظهر فتنتهم .. إلا أنهم يزولون بسبب كوني يشاؤه الله تعالى ويُقدره رحمة بالمؤمنين .. " فيرسل الله عليهم النَّغَف في رقابهم، فيصبحون فَرْسى كموت نفسٍ واحدة " ومن دون أن تحصل أية مواجهة بينهم وبين أهل الحق .. لذا قلنا أن آخر معركة بين الحق والباطل هي المعركة التي يَقتل فيها المسيحُ ( المسيح الدجال.
(2) صحيح سنن النسائي: 3333 .
(3) صحيح سنن ابن ماجه:6.
تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق[(1)] فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافُّوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سَبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله، لا نخلي بينكم وبين إخواننا[(2)]، فيقاتلونهم فينهزم ثلثٌ لا يتوب الله عليهم، ويُقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يُفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية[(3)]، فيما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح[(4)] قد خلفكم في أهلكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام، خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم (، فأمهم، فإذا رآهم عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده[(5)] فيريهم دمه في حربته " مسلم.
... وقال (:" :" ليس بيني وبينه ـ يعني عيسى ( ـ نبي وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجلٌ مربوع، إلى الحُمرة والبياض، بين ممصرتين[(6)]، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب[(7)]، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية[(8)]، ويُهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك المسيحَ الدجال، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يُتوفى فيصلي عليه المسلمون[(9)]".
... وأما الدليل على قتل اليهود ممن يكونون مع الدجال يومئذٍ، وقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله تعال ورائي يهودي فاقتله، فهو لقوله (:" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم[(10)]! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله إلا الغرقد[(11)] فإنه من شجر اليهود " مسلم.
... وقال (:" قال عيسى افتحوا الباب فيُفتح، ووراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هارباً، ويقول عيسى (: إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب اللد الشرقي فيقتلُه، فيَهزِمُ الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء؛ لا حجر، ولا شجر، ولا حائط، ولا دابة ـ إلا الغرقدة؛ فإنها من شجرهم لا تنطق ـ إلا قال: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال فاقتله "[(12)].
أما أن القتال والصراع سيتوقف مطلقاً بقتل وقتال الدجال ومن معه .. ومن بعدها سيعم الأمن والسلام والرخاء .. فهو لقوله (:" لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال "[(13)]. فكون آخر الطائفة الظاهرة المنصورة تقاتل المسيح الدجال .. فدل أنه ليس بعد قتال الدجال قتال.
__________(1/73)
(1) موضعان بقرب حلب على حدود تركيا .. مما يدل على أن تركيا يومئذٍ تكون بيد الروم، وخاضعة لحكم وسياسة الروم، ولعل سعي تركيا اليوم لكي تكون من ضمن دول الاتحاد الأوربي وتبعاً لها ولسياستها ودستورها .. يكون سبباًً لهذه النتيجة التي أشار إليها الحديث.
(2) فيه أن الخير باقٍ في المدينة وأبنائها .. وأن الحواجز الإقليمية والوطنية المفروضة الآن ستزال وهي لا تمنع من نصرة المسلمين بعض لبعض .. مهما اختلفت أمصارهم أو تباعدت .. وأن القرار السياسي يومئذٍ يكون بيد المسلمين أنفسهم .. وليس مُلكاً أو تبعاً لشرق أو غرب!
(3) وهو الفتح الثاني لهذه المدينة .. والحديث فيه دليل أن القسطنطينية ستعود ثانية إلى حظيرة الكفر والشرك والردة ـ كما هو واقعها الآن ـ وأنها ستُفتح وتُحرر ثانية .. بعد الفتح الأول الذي تم على يد البطل المجاهد محمد الفاتح العثماني.
(4) المراد به المسيح الدجال، كما جاء ذلك صريحاً في رواية ثانية.
(5) أي يقتله الله بيد عيسى ابن مريم عليه السلام.
(6) ممصرتين: ثياب فيها صفرة خفيفة.
(7) أي يكسره، ويمنع من رفعه كشعار دال على الكفر والكذب.
(8) فهو لا يقبلها من الكفار، فإما الإسلام وإما القتل والقتال.
(9) صحيح سنن أبي داود: 3635.
(10) وليس يا عربي أو يا كردي، أو يا تركي .. أو يا فارسي .. وإنما يا مسلم .. يا موحد .. والحديث فيه أن التحرير الكامل سيتم على أيدي المؤمنين الموحدين .. وليس على أيدي الزنادقة العلمانيين .. ولا الخونة المنافقين!
(11) وقد أخبرت بأن اليهود في فلسطين ـ لعلمهم بصدق ما أخبر به النبي ( ـ يكثرون من زراعة هذا النوع من الشجر، شجر الغرقد .. الذي لا يبقى يومئذٍ حليف لهم في الأرض سواه!
(12) صححه الشيخ ناصر الدين الألباني في كتابه " قصة المسيح الدجال، ونزول عيسى ( ".
(13) صحيح سنن أبي داود:"2170".
ولقوله (:" فيكون عيسى ابن مريم ( في أمتي حكَماً عدلاً، وإماماً مُقسِطاً، يدقُّ الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة[(1)]، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وتُرفع الشحناء والتباغض، وتنزع حُمَةَ كل ذات حمة، حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره.
... وتُفِرُّ الوليدةُ الأسدَ فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبُها. وتُملأ الأرض من السِّلم كما يُملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة، فلا يُعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتُسلَب قريشٌ مُلكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها بعهد آدم، حتى يجتمع النفر على القَطِف من العنب فتُشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، يكون الثور بكذا وكذا من المال، وتكون الفرس بالدريهمات. قالوا: يا رسول الله! وما يُرخِص الفرس؟ قال: لا تُركَب لحربٍ أبداً. قيل: فما يُغلي الثَّور؟ قال: تحرث الأرض كلها "[(2)].
وأما الدليل على أن عيسى ( يمكث بين المسلمين أربعين سنة .. ثم يتوفاه الله تعالى .. ثم يأتي أمر الله فيرسل ريحاًً كريح المسك مسها مس الحرير تقبض أرواح المؤمنين .. ثم تقوم القيامة على شرار الخلق، فهو لقوله ( المتقدم:" فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يُتوفى فيُصلي عليه المسلمون ".
... ولقوله (:" فبينما هم كذلك ـ أي في النعيم الذي عم وساد بعد الحرب مع الدجال وهلاك يأجوج ومأجوج ـ إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمنٍ وكل مسلم، ويبقى شرارُ الناس يتهارجون فيها تهارُج الحمُر، فعليهم تقوم الساعة " مسلم. ...
ولقوله (:" إن الله يبعث ريحاً من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان إلا قبضته " مسلم.
وعن عبد الرحمن بن شُماسَة المهري قال: كنت عند مَسْلَمَةَ بنُ مُخَلَّدٍ وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شر من أهل الجاهلية لا يدعون الله بشيء إلا ردَّه عليهم. فبينما هم على ذلك أقبل عُقبةُ بنُ عامرٍ فقال له مَسلمة: يا عُقبةُ اسمع ما يقول عبد الله. فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا فسمعت رسولَ الله ( يقول:" لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك "، فقال عبد الله: أجل ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مَسُّهَا مَسُّ الحرير فلا تَترُكُ نفساً في قلبه مثقال حبة من إيمانٍ إلا قبضته، ثم يبقى شرارُ الناس عليهم تقوم الساعةُ " مسلم.
... فيكون المراد من قوله (:" إلى يوم القيامة "؛ أي " أنهم لا يزالون على الحق حتى تقبضهم هذه الريح اللينة قرب القيامة وعند تظاهر أشراطها، فأطلق في هذا الحديث بقاءهم إلى قيام الساعة على أشراطها ودنوها المتناهي في القرب، والله أعلم "[(3)].(1/74)
... وبعد، هذا هو مبدأ الصراع .. وهذا هو منتهاه .. وهذه هي حقيقته .. راياته واضحة المعالم لا غموض فيها ولا التباس .. لا مجال للجحود أو النكران أو التأويل أو الهروب .. لا بد للأمة ـ إن أرادت أن تستأنف حياة عزها ومجدها وسؤدُدِها من جديد ـ من أن تروِّض نفسها لكي تتحمل مسؤولياتها كاملة تجاه دينها .. وأرضها .. وحرماتها .. ووجودها .. والعالم أجمعين .. وإلا فلتروض نفسها لقبول مزيدٍ من الذل والخنوع والنكبات، ومزيد من دفع الضرائب الباهظة المكلفة للباطل وأهله؛ تدفعها من دينها، وأبنائها، وعِرضها، وعزتها، وكرامتها، وأوطانها، ومالها، ووجودها، وحريتها .. على موائد وشهوات ورغبات الطواغيت الظالمين الآثمين .. والأعظم من ذلك كله أنها بذلك تُعرِّض نفسها لغضب الرب ( وسخطه وعذابه ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (الشعراء:88-89.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة:54.
اللهُمَّ إنِّي قد بلَّغتُ فاشهَدْ .. اللهُمَّ إنِّي قد بلَّغتُ فاشهَدْ.
وصلى الله على سيدنا ونبينا وقائدنا ومعلمنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين." أبو بصير "
================
صراع الأفكار
د. محمد محمد بدري
ليس كل ما يعلم يقال، وليس كل ما يقال يقال في كل وقت.
ففي بعض الأوقات يكون الصمت هو الواجب، فإذا استغل الأعداء هذا الصمت كان الكلام هو الواجب.
وهذا المقال محاولة للتوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام في طبيعة الصراع بين الإسلام وأعدائه، وبعد قراءة المقال يكفي القارئ أن يفتح عينيه على الواقع ليرى أمارات هذا الصراع، بل ربما يستخلص من الوقائع المعروضة نتائج لم تلفت انتباهنا، أو أغفلناها خلال هذا المقال احتياطاً من التطويل ورغبة في التحديد.
وكل ما نتمناه أن يقوم في الحركة الإسلامية من يتصدون لكشف سبيل أعدائها (سبيل المجرمين) حتى لا تبقى الحركة معرضة لهجماتهم دون عون أو نجدة.
إن من سنن الله الجارية التدافع أو الصراع بين الحق والباطل، قال تعالى: (ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) [البقرة: 251]، فالله عز وجل يدفع بأهل الحق أهل الباطل، وهكذا يستمر الصراع بين الأنبياء وأتباعهم، وأتباع الشيطان، بين الأنبياء والجماعات الضالة الذين يرفضون حكم الله وشريعته ويتمسكون بحكم الجاهلية، ولن ينتهي هذا الصراع حتى تنتهي الدنيا.
ولاشك أن للأفكار قيمة كبيرة كأداة من أدوات الصراع بين الحق والباطل، وما سلوك الإنسان وتصرفاته إلا نتيجة لأفكاره، فإذا تغيرت أفكاره بجهده هو أو عن طريق جهد غيره فإن سلوكه يتغير، وهذا التغيير قد يصل إلى النقيض، فهناك فكرة قد تجعل إنساناً ينحني ويسجد لصنم من الحجر، وفكرة أخرى تجعل إنساناً آخر يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم ويحطمه! ولأن الأفكار بهذا القدر من الأهمية في الصراع بين الحق والباطل فإنه ومنذ تقرر في أوكار الصهيونية تدمير الخلافة الإسلامية وأعداء الإسلام يحرصون على تخريب الفكر الإسلامي وتشويه العقل السليم من ناحية، ومن ناحية أخرى يقومون برصد الأفكار الفعالة التى تحاول إيقاظ الأمة من سباتها، لكي يقضوا عليها في مهدها أو يحتووها قبل أن تصل إلى جماهير الأمة فتصحح وجهتها أو تعدل انحرافات أفرادها، ولتبقى الجماهير إذا اجتمعت تجتمع على أساس العاطفة وتحت سلطانها، وليس على أساس (الفكرة..والمبدأ..).
وأعداؤنا يستخدمون في ذلك مراصد دقيقة تتلقى أي إشارة خطر عن فكرة أو كتاب ربما قبل أن تصل الفكرة إلى جماهير الأمة! فماذا يفعل الأعداء عندما تعطيهم مراصدهم تلك الإشارة؟ كيف يتصرفون ليحُولوا بينها وبين المجتمع الذي يحاول صاحبها نشر الفكرة فيه؟ إنهم في البداية يتعرفون على الفكرة بدراستها دراسة دقيقة، ثم يبدأون فيما يمكن أن نسميه مرحلة (المواجهة) وفي هذه المرحلة يبذل الأعداء جهداً ضخماً ويستخدمون مواهبهم الشيطانية كلها حتى لا يكون لتلك الفكرة أي عائد أو نتيجة..(1/75)
ووسائلهم في ذلك كثيرة، وهم يغيرون منها دائماً ويعدلون فيها تمشياً مع القاعدة التى تقول: (إن كل فخ عُرف مكانه يصبح دون جدوى)، فوسائلهم تتنوع حسب الظروف مع المحافظة على المبدأ الأساسي وهو (تحطيم الفكرة أو شلّها)! ! فهم تارة يصوبون ضرباتهم على اسم صاحب الفكرة وشخصه؛ لكي يصيبوا فكرته بحيث يصلون إلى أن يصبح اسم صاحب الفكرة كافياً في النفور منها بل ومن الكتاب الذي يضمها وعدم قراءته من الكثيرين الذين يحكمون على فكرة معينة أو كتاب معين وفق انعكاسات حدثت تجاه صاحبها وبمقتضى الكلام عن صاحب الفكرة والكتاب وليس من خلال جوهر الفكرة وما فيها من برهان.
وهم تارة يستخدمون طريقة (الهُتافات والشعارات) وهم في هذه الطريقة يرتكزون على ميل أفراد الحركة الإسلامية إلى السهولة فيصوغون الفكرة في مجموعة من الشعارات والهتافات فيتحول الأفراد عن (مشقة) البناء إلى (سهولة) الشعارات والهتافات! ! وفي أحيان أخرى يستخدم الأعداء طريقة (التشويش) عن طريق إضافة مجموعة من الأفكار الثانوية إلى الفكرة الأصلية بحيث تُضعف هذه الأفكار الثانوية سلطان الفكرة الأصلية على العقول، ويكفينا أن ننظر في واقعنا لنرى كم مرة طُبقت هذه الطريقة معنا وكم مرة شاركنا فيها دون وعي؟ ! وتارة أخرى يستخدم الأعداء أسلوب إثارة الشبهات..
فإذا خرجت الفكرة في صورة كتاب يقدم أيديولوجية واضحة للصراع مع الأعداء، ألقوا على هذا الكتاب ما يشوه صورته أمام أفراد الحركة الإسلامية، وخلقوا حوله شبهات كثيرة بحيث لا يسهل إزالتها فينصرف أفراد الحركة عن مجرد الاطلاع على الكتاب لكثرة ما أثير حوله..
ولا نريد أن نضرب أمثلة! فكم من كتب طيبة فرض أفراد الحركة الإسلامية حول أنفسهم ستاراً حديدياً يمنعهم من قراءتها لهذا السبب! وفي أحيان أخرى يستخدم الأعداء طريقة (الاستبدال) فيطلقون هم أنفسهم فكرة جديدة تكون أقل ضرراً على مصالحهم من الفكرة ا لأصلية.
وهكذا يبقى الصراع مع الأفكار..
ونحن إذ اكتشفنا بعض التفاصيل عن طبيعة هذا الصراع فبقية التفاصيل الكثيرة للصراع تبقى في الظلام، ويصعب وصفها كما يصعب وصف بيت العنكبوت، وخاصة إذا كانت خيوطه تأتي من بعيد ولا يحيط بها بوضوح إلا من وفقه الله عز وجل وأضاء بصيرته.
ولكننا إذا أردنا الإجمال قلنا إن الأعداء يحاولون أن يجعلوا من الداعية للحق خائناً لأمته ومجتمعه الذي يعيش فيه، فإن لم يستطيعوا ذلك فإنهم يحاولون أن يحققوا خيانة المجتمع للداعية على يد بعض المجرمين الذين يسيرون في ركب الأعداء على مرأى العيون في صورة رجال مرفوعين على منابر الزعامة وكراسي الحكم، رجال وضعوا في أوطانهم مواضع (الأبطال) ليقوموا بدورهم المرسوم حين تفشل خطط الأعداء في تحطيم الأفكار الطيبة، فيقوم هؤلاء بأمر آخر وهو محاولة تحطيم أصحاب الأفكار عن طريق الإرهاب والتعذيب لهم ولأفراد أسرهم أطفالاً ونساءً! هذا هو مكر الأعداء فما هو السبيل لدفعه والنصر عليهم؟ بادئ ذي بدء نقول إن الأعداء يحاولون أن يصوروا لنا الصراع معهم وكأننا ذرّة تريد أن تحطم جبلاً!، وأنه من العبث محاولة دفعهم فضلاً عن التغلب عليهم.
ولكن الأمر ليس بيد الأعداء، إنه بيد مَن يقدر الأشياء فتسير الذرة ويسير الجبل حسب تقديره، وقوة الأعداء مهما بلغت وكيدهم مهما قوي فهو ضعيف لأنه كيد شيطان (إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) [النساء: 76].
ودفْعه منوط بما في أنفسنا نحن، قال تعالى: (وإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران: 120]، وسُنة الله في التغيير (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11] فسنة الله التي لا تتخلف: غيِّرْ نفسك تغير واقعك..
فلنغير في أنفسنا ما يستغله أعداؤنا لخدمة أهدافهم من حيث نشعر أو لا نشعر!.(1/76)
فإذا كان الأعداء يستغلون فينا ميلنا للسهولة فيصوغوا الفكرة في مجموعة شعارات تسد منافذ إدراكنا وتضللنا عن حقيقة الصراع فلنتعلم أنه ليس المهم الصيحة التي يوجهها الضارب مادامت الضربة توجَّه إلى العدو الحقيقي وفي الاتجاه الصحيح، كما يجب أن نتخلص مما في نفوسنا من ميل للنظر إلى الأشياء على أنها (سهلة) والذي يقودنا في كثير من الأحيان إلى نشاط أعمى! وإذا كان الأعداء يحاولون تحطيم الفكرة الطيبة عن طريق تشويه صاحبها أو إثارة الشبهات حولها، فلنتعلم أن نحكم على الأفكار من خلال ما فيها من برهان بعيداً عن منطق الغوغاء! وفي مقابل محاولة الأعداء (استبدال) بفكرة أقل ضرراً على مصالحهم بالفكرة الفعالة؛ لابد من الوضوح في فكر الدعوة وأهدافها ليسهل على الأفراد التمييز بين الغث والثمين، وفي مقابل إرهاب الأعداء لابد أن نؤمن بحتمية المحنة والابتلاء ولنعلم أننا لسنا أول الممتحنين ولن نكون آخرهم وإنما هم مواكب (فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23].
ولنعلم أنه بقدر ما نربي أنفسنا بطريقة جيدة، بقدر ما نستطيع أن نصمد لكيد الجاهلية، ونجاحنا في الصمود لذلك الكيد هو نقطة التحول في خط سير الدعوة نحو هدفها المنشود.
وأخيراً فأفكار هذا المقال وليدة النظر إلى ما يجري في الواقع..
واقع الصراع مع الأعداء حاولنا فيه النصح لجميع إخواننا لنحاول جميعا نحن وهم إزالة الجهالة بسبيل المجرمين والتي كانت في كثير من الأحيان سبباً في تخلفنا وهزيمتنا.
وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى.
==============
توحيد الكلمة على كلمة التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85) ، حمداً لا ينقطع ولا ينفد، وأصلي وأسلم على القائل: (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) والقائل: (( والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً، أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين)) .صلاةً باقية إلى الأبد .. وبعد ..
فإن أشد البلاء أن يمس الإسلام ولا حِراك لمن أخذ الله عليهم الميثاق، أن يبلغوا ويقوموا بأمر الله حقّ قيام، حتى دُعي لتبديل الشرع، وجُعلت أصوله تقبل الأخذ والرد، في وسائل الإعلام وحوارات العلماء والمفكرين، في صمت عميم من العلماء وأهل العقل، فأصبح العالِم أحوج إلى النصيحة من الجاهل .(1/77)
حتى بلغ الأمر إلى تبديل كلام الله والدعوة إلى خلافه، ومن ذلك الدعوة إلى تغيير كلمة الكافر إلى (الآخر)، ونسوا أن الإسلام إسلام والكفر كفر، فأصبح الموحّد يتوجّس غربة، ولو كان الأمر مساومة على دنيا وسلب حظ من حظوظها، لنطق من نطق من أربابها، وصاح من صاح من طلابها، وقد أصبح في عصرنا كثير من أهل العلم ألصق بالدينا من العوام، وما أجمل ما قاله سفيان الثوري: "ما أزداد الرجل علماً فأزداد من الدنيا قرباً إلا ازداد من الله بعداً" فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا ما أخذ الله على أهل العلم أن لا يقارُّوا على كِظَّةِ ظالم مارق، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفظة عنز، ومن نصر الله نصره، وأعزه ومكن له، والواجب على العلماء النهوض والقيام بالحق، ونصرة الملة، لكن المرجو في عصرنا من كثير ممن ينتسب إلى العلم السكوت عن قول الباطل لا قول الحق، فقد أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح، ولكن العلماء استسلامهم في هذا الباب ذلة وعار، ونكوصهم عن بيان التوحيد والتلبيس فيه معقد الشبه بينهم وبين علماء بني إسرائيل، فالمصلحة في نقض كل ما يقف في وجهة التوحيد، فالتوحيد أعظم مصلحة ترجى، والشرك أعظم مفسدة تُدرأ، ومن نكص عن نصرة التوحيد، هَيبةً أو رغبة في مصلحة أعظم بزعمه، فما والله عرف العزم والحزم، ولا متى يكون الإقدام والإحجام، فكلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، وقد كاد المصلح يُصبح بلا ناصر ولا معين إلا من الله، وسط أناس اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً، واتخذهم له أشراكاً، فباض وفرّخ في صدورهم، ودب ودرج في حجورهم، فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم وظهور هؤلاء المبدلين والمغيرين للشرع ليس بالأمر الجديد، فالملحدون والمنافقون والمشركون لا يعرفون وقتاً أو زمناً، والموحدون قاعدون لهم كل مرصد، وخروج البعض ممن ينتسب للإسلام ليقول بشيء لم يقله مسلم قبله ليُرضي الكافر، هو هزيمة نفسية شر هزيمة، حتى ظهر ذلك ممن ينتسب للعلم، وهذا ربما يكون من آثار هزيمة النفس التي أورثها الحادي عشر من سبتمبر، فأصبح كثير من الكتاب يتحدث وينتقي ما يظهر محاسن الإسلام بزعمه ويُحسّن صورته، ويتوارى من تقرير الصراع بين الحق والباطل، والكفر والإيمان وجهاد أعداء الله تعالى، حتى وصل ذلك لنقض الإسلام وتحاشي تسمية الكافر باسمه، و وُصِف من يدافع عن عرضه وأرضه ودمه بأنه ملقي بنفسه إلى التهلكة، بل وشرّع بعض المنهزمين ولاية النصارى على المسلمين، فما أشبه الليلة بالبارحة، واليوم بالأمس فحين اغتصاب الفرنسيين للجزائر بلغت الهزيمة بالمسلمين أن قدر الفرنسيون على إعداد فتوى تجعل الجهاد ضد الفرنسيين من باب إلقاء النفس إلى التهلكة، وضرورة الرضا بحكم الفرنسيين في الجزائر .(1/78)
وإن لم يعتبر المنهزمون بالوحي أن تبديل الحكم الشرعي طلباً لرضا كافرٍ أو منافق ظلم للنفس وللأمة موبقٌ، فها هم الكثير من بني جلدتنا قد بحّت حناجرهم، وكلّت أجسادهم، وتجرحت أقدامهم، وضيّعوا أموالهم في السعي نحو الغرب من أجل المناشدة بالسلام العالمي، والتآلف والتعايش، فما زاد الغرب إلا عتوًا واستكباراً ونفورًا عن الإسلام، فيجب علينا أن نأخذ دين الإسلام بفخر وقوة واعتزاز، ومن ذلك أن نقيم شعيرة الولاء والبراء ونحكّم شرع الله ونضعه حيث وضعه، ونبغض أعداء الإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين ونتبرأ منهم والآيات والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى والإسلام دين العدل والحق والشمول، فحين العمل يجب أن نأخذ بكل نصوصه، لا نظهر جانباً ونغيّب آخر لمطمع ومصلحة تُزعم، فالإسلام دعى إلى اللين والرفق في موضعه ودعى إلى الجهاد والغلظة في موضعها، وهذا هو نهج النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه نبي الرحمة والعفو، فهو نبي الملحمة، فلا نأخذ أمراً وندع الآخر، بل إن المتعين والواجب أن نشتغل باتباع نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الحب والبغض، والولاء والبراء، وأن نراعي حين التعامل مع العدو أحوال المسلمين من قوة وضعف، ففي القوة يُبادر بجهاد أعداء الله، وفي حال الضعف والوهن يؤخذ بآيات الصبر والصفح، مع العمل على إعداد العدة لتتقوى الأمة، فلا تبقى صابرة صافحة ذليلة، وحين الأخذ بهذا الجانب الشرعي لا يلغى الآخر، بل يكون حاضراً لا يُغيّر ولا يُبدل ولا يغيب، ومن انحرف عن نهج الإسلام وكفر بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم انحط إلى أدنى الدركات، وجعل نفسه مع البهائم بل هو أضل سبيلاً، وقد فهم كفار قريش التوحيد أفضل مما فهمه بعض المنتسبين للإسلام في عصرنا من دعاة التقريب بين الأديان، وحوار الحضارات، فحينما قال لهم محمد صلى الله عليه وسلم: (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) قالوا كما حكى الله عنهم: (( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) (ص:5) ، فعلموا أن كلمة التوحيد تنفي كل إله غير الله، بل قد فهم بعض ملحدي عصرنا التوحيد أفضل منهم، فحينما تكلم الرئيس الروسي "بوتين" عن الحرية الدينية في بلادة قال: نحن نأذن بتعليم ونشر سائر الكتب الدينية لسائر الديانات إلا "التوحيد" لأنه يلغي غيره، ولا يقبل المشاركة وظهور ما يسمى بـ (حوار الحضارات) أو (حوار – تقارب - الأديان) كان في عقد التسعينيات ردًا على أطروحة "صامويل هنتنجتون" (صدام الحضارات) فبدأ جملة من كُتاب الغرب ومن خلفهم من أبواق مصطنعة من أبناء المسلمين يروجون لفكرة (حوار الحضارات) و( التقريب بينها) و (المساواة بين الأديان) وأن أهل الكتاب مؤمنون بالخالق كالمسلمين وليسوا كفاراً، وتولد عنها انعقاد المؤتمرات والندوات لتُعنى بذلك، وبثوا سموهم الزعاف في مدح الإسلام والمسلمين تارة ووصفهم بالإرهاب تارة أخرى، وتلوّنوا في ذلك كالحرباء بحسب مصالحهم، وأننا شركاء معهم في الإنسانية وعِمارة الأرض، وغرسوا في نفوس الكثير فكرة احترام الرأي الآخر مهما كان، وبثوا المفاهيم والأفكار والمصطلحات الغربية بين المسلمين لتصبح مطالب ومقاييس!
وقد وقع بعض أبناء المسلمين من علماء وأفراد ومؤسسات في شِراكهم، ففتقوا ما يسمى بـ (المصلحة) حتى دخل منها الكفر والزندقة، وفكرة الإخوة بين المسلمين وغيرهم من الكفار، وساروا بفكرة الأولويات النابعة من واقع المصلحة العامة، التي تجعل للعقل مدخلاً في منازعة الله في حقّه في التشريع وإصدار الأحكام، ولجؤوا إلى العموميات دون التفصيل لتمييع أصول وأحكام وأنظمة الإسلام.
وقد جاء الإسلام بمفاهيم ومناهج وسلوك لتحديد هوية المسلم لتميزه عن غيره، وتحدد له الطريق القويم والمحجة الواضحة للوصول إلى النجاة، قال تعالى (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) (يوسف:108)، ويلزم من هذا عدم التخلي عن أي أمر متعلق بأخلاق وحياة الأمة المسلمة، فحياتنا على نهج معيّن خاص، مبني على عقيدة التسليم لله والعبودية له، والانقياد له بالطاعة، فالإسلام ليس كغيره فقد جاء بحفظ الدين والدنيا فهو سياسة واجتماع واقتصاد وسلوك وتربية، غير أن قوّة الكفار وضعف المسلمين وفرضهم الأنظمةَ الكافرة والقوانين المضادة لحُكم الله، قد جرأ عدداً من أبناء المسلمين أن يطلبوا مجتمعاً غير مسلم، قال تعالى (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) (المائدة:50) ، فتمكنت الهزيمة في قلوبهم، حتى لو ترك الغرب ( اليهود والنصارى ) ما هم عليه من قوانين وأنظمة إلى قوانين أخرى لإدراكهم بخطأ ما كانوا عليه لتركوا ذلك معهم، ولو عادوا لما كانوا عليه من قبل لعادوا معهم مرة أخرى...(1/79)
وقد حكم الله ولا مبدل لحكمه أن من لم يكن على الإسلام فهو من ملة الكفر، مستحق للنار والخلود فيها إلى أبد الآبدين، وهذا أصل التوحيد، وعليه بُعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وخلقت الجنة والنار، وشرع الجهاد، ونصب الميزان، ووضع الحساب والعقاب، أصل مستقر لا خلاف فيه عند المسلمين عالمهم وجاهلهم، ومن شككّ فيه، فضلاً عن مخالفته، فليس هو من المسلمين، بل من أدخل المشككّ فيه والمخالف في دائرة الإسلام كافر خارج عن الملة باتفاق المسلمين، ومن العجب أن مثل هذا الأصل يبيّن، فهو من الواضحات، والأصول البينات. وقد جاء القرآن والسنة مفرقاً بين المسلمين والكفار، ومبيناً أن هذين الاسمين اصطلاحان شرعيان لا يجوز النزاع فيهما، وجعل ذلك أصلاًَ من الأصول، إذ لا تكاد تخلو سورة من بيانه، فبيّن الفرق بين مدلول كلمتي (المسلم ) و(الكافر)، فكان المسلم كل من يدين بدين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، وكان الكافر كل من يدين بغير الإسلام (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)). وهذا الفهم بيّن واضح وصريح وجلي كالشمس، في أن غير المسلم يكون كافراً مهما كان دينه وشريعته، وإذا مات دخل النار، وأن المسلم إذ مات مآله الجنة، فالأصل أن يسمى كل باسمه، فالكافر لا يصح أن نسميه (غير المسلم) فحسب بل هو كافر أيضاً، فبهذه المصطلحات الشرعية وبهذه المسميات التي أنزلها الله في كتابه وفي سنة نبيه يتم التميز بين البشرية في الأرض، وفي دائرة كل مسمى تتفرع المسميات فالكافر يكون يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً أو هندوسياً مهما كان دينه، ومهما كان فكره فيكون شيوعياً أو ماسونياً أو علمانياً أو ليبرالياً ونحو ذلك.
فهذا التميز بين المسلمين وغيرهم أصل في عقيدة الإسلام وأحكامه بل هو أساسه، فلا حلول وسط ولا التقاء مع الكفار في الأسماء ولا في الأحكام ولذا قرر تعالى هذا الأصل بقوله: (( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)) (الكافرون:6) فلا توافق بيننا وبين الكفار، إلا بصور معينة بينها الشارع.
فلا يمكن أن يتضح المسلم وحقيقته إلا بتبيين حقيقة الكافر، إذ أن الشيء يتضح ببيانه وبيان ضده.
فعند الحكم على الناس عامة يقال مسلمون وكفار، لا وجود لشيء آخر غير ذلك، حُكْم لا مناص منه، ولا حيدة عنه، إذا هو الإسلام والإسلام هو، لا فريق ثالث في الدنيا غير ذلك، قال تعالى: (( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ )) (التغابن: آية2). حتى من وقع في الكفر وتلبّس به من الأمم والشعوب التي لم تقم عليها الحجة في الظاهر فهي كافرة اسماً، لمشابهتها لفعل الكفّار في الظاهر، لكنها ليست بكافرة حُكماً، فلا تُقاتل، ولا تُسلب المال، ولا تُستباح سائر حُرماتها، حتى تقوم البينة، بخلاف الكفّار الخلّص الذين قامت عليهم البينة والحجة، فهم كفار حُكماً واسماً، ولذلك سمى الله من وقع وتلبّس بفعل الكفر ( كافراً ) وإن لم تبلغه الحجة، فقال تعالى: (( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ)) (التوبة:6) فسماه ( مشركاً ) قبل أن يسمع كلام الله، لكنه ليس بكافرٍ حُكماً حتى يسمع كلام الله.
وبين الله وحكم وهو خير الفاصلين لأجل معرفة العدو من الصديق والحق من الباطل، قال تعالى: (( يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) (الأنعام:57). أي هو خير من بيّنَ وميّزَ بين الحق والباطل، والسبب من تمييز ذلك في قوله: (( وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)) (الأنعام:55) .وسفور الكفر والإجرام واستبانة سبيله وأهله مهم لوضوح الإيمان والخير واستبانة سبيله وأهله، وحينما يختلط سبيل بآخر، ينعكس ذلك على أهله وسالكيه .وقد حكم الله بذلك كله، ولا مبدل لحكمه، (( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ)) (يوسف:40) لا تزعزع ذلك ذلِة زمرة، ومهانةُ ثُلة، وهزيمة شِرذمة.(1/80)
سمى الله كل من لا يدين بالإسلام وهو دين محمد صلى الله عليه وسلم كافراً . وقال تعالى: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) (البينة:1). وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)) (البينة:6) . وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )) (محمد:34) وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) (محمد:32) . وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)) (آل عمران:91). وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ)) (غافر:10). وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) (البقرة:161)
بل بيّن أن الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم لا يُحبون الخير لهذه الأمة بقوله تعالى: (( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ )) (البقرة:105) والمراد:
أولاً : أن مما أجمع عليه المسلمون، وهو أصل الاعتقاد في الإسلام المعلوم من الدين بالضرورة :
أنه لم يبق على وجه الأرض دين حق يتعبد الله به سوى دين الإسلام، وأنه الله ختم به الأديان والملل والشرائع (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85) * وأن القرآن الكريم آخر كتب الله نزولاً، وهو ناسخ لكلِّ كتاب أنزل من قبل من التوراة والإنجيل وغيرها ومهيمن عليها، وكلها دخلها التحريف، وقد خص الله القرآن بحفظه، فلم يبق كتاب منزل يتعبد الله به سواه، قال الله تعالى : (( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ)) (المائدة:48) وقال عن حصوصية القرآن: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) (الحجر:9) ، وبين تحريف ما عداه كالتوراة والإنجيل، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان، فقال الله تعالى : (( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ )) (المائدة:13) ، وقال: (( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ)) (البقرة:79) ، وقوله سبحانه : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) (آل عمران:78) وما كان فيها من صحة فهو منسوخ بالإسلام، ولو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو غَضِب حين رأى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة وقال عليه الصلاة والسلام : (( أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! ألم آت بها بيضاء نقية ؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) ، فلا يسوغ لأحد من أهل الكتاب أو غيرهم الخروج عن شريعة الإسلام، ومن خرج كفر واستحق العذاب الخالد، فقد ثبت في صحيح مسلم: (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) ، فإذا كان هذا في حق أهل الكتاب وهم أمة كتابية، فغيرهم من باب أولى.(1/81)
وأن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، كما قال الله تعالى : (( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ )) (الأحزاب:40) ، وقد أخذ الميثاق على سائر الأنبياء أن بعثة محمد ناسخة لشرائعم، ولو بُعث في عصرهم لتبعوه جميعاً، ولا يستحق الاتباع أحد غيره بعده، قال الله تعالى : (( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)) (آل عمران:81). فموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام يجب عليهما الحكم بشريعة محمد واتباعه، وهما أنبياء الله ففي الحديث السابق: (( لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) وعيسى إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم وحاكماً بشريعته، قال الله تعالى : (( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)) (الأعراف:157)
وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )) (سبأ:28) ، وقال : (( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)) (الأعراف:158)
ومن الأصول العظام في الإسلام أنَّه يجب اعتقاد كفر كلِّ من لم يدخل فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو ( الإسلام ) من اليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم وتسميته كافراً، وأنَّه عدوٌّ لله ورسوله والمؤمنين، وأنه شر الخلق، وأنه من أهل النار خالداً فيها، قال تعالى : (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ )) (البينة:1) ، وقال : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ )) (البينة:1) وقد روى مسلم في "صحيحه" قال صلى الله عليه وسلم: (( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار )) ولهذا فمن لم يكفر اليهود والنصارى وكل من خرج عن شريعة محمد فهو كافر لتكذيبه ما جاء وتواتر في الكتابة والسنة، ولنقضه أصول الإسلام التي لا يستقر إلا بها.
ثانياً: أن ما تقدم هي أصول الإسلام وكلياته الاعتقادية، إذا عُلم ذلك فإن الدعوة إلى يُسمى بـ ( وحدة الأديان ) أو ( التقارب بينها ) أو ( الخلط بينها ) دعوة كفرية خبيثة، تهدم الإسلام وتقوض دعائمه وتجرُّ أهله إلى ردَّة شاملة، وأصلها ومنبتها أهل الكتاب، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه : (( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ)) (البقرة:217) (( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء)) (النساء:89) وحينما يئس الغرب من السيطرة وإحكام القبضة على العالم الإسلامي، ووجدوا أن الحائل دون ذلك كله هو الإسلام وصلابة عقيدته، وقوّة أهله فيه، بخلاف سائر شعوب الأرض التي دانت لهم، ورأوا أن نزع الإسلام من القلوب أمر متعذر، سعوا لهذه الدعوى، لتذوب صلابة القلوب وقوّة الأمة وتنصهر فيما يريدون، فإذا تم إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر والحق والباطل والمعروف والمنكر، والعدل والظلم، وكُسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء إذاً ولا براء ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله، وهذا ما يريدونه من المسلمين، فروّجوا لهذه الدعوى، خوفاً مما تقرر في الشرع من عقيدة الولاء والبراء والقتال، قال تعالى: (( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة:29) وقال: (( وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) (التوبة:36) ودعوة وحدة الأديان أو التقريب بينها، ردَّة صريحة عن دين الإسلام، إن صدرت من مسلم، لأنها تعارض أصول الاعتقاد، وتكذّب القرآن إذ أنه ناسخ لجميع ما قبله من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع، وترضى بالكفر والشرك بالله شبه وبينات.(1/82)
يثير بعض دعاة التقريب بين الأديان، أو بعض الملحدين الذين يزعمون تسامحاً، وهم في الحقيقة في عِداد الملاحدة المكذبين للكتاب والسنة، يثيرون شيئاً من الشبه التي لا تنطلي على مؤمن، لكن رأينا إزالتها إذا قد تنفذ لبعض العقول التي لا تحسن فهم الكتاب والسنة:
أولها: أن الله قال: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) والإسلام هو الاستسلام لله على أي ملةٍ كانت، وكتب كثير منهم عن معنى كلمة "الإسلام" في هذه الآية الكريمة بوجه لم يقله مسلم قط،فقالوا أن الإسلام هو دين الله ودين من أسلم وجهه وذاته وإرادته للخالق, والكلمة هنا (الإسلام) ولو أنها تشمل المسلمين أتباع الرسالة التي أتى بها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام, إلا أنها لا تقتصر عليهم, كما نرى في الآيتين التين سبقتاها (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسرِينَ)) (آل عمران:83-85) وقالوا: الآيات التي تبين أن لفظة الإسلام والمسلمين لا تقتصر على أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عديدة كقوله: (( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) (البقرة:131-133) وقوله: (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين)) (آل عمران:67) وقوله: (( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:52) ، وقوله: (( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُون)) (المائدة:111).َ
قالوا: فالتسمية بـ"المسلمين" شملت أقواماً سبقت مجيء الرسول بقرون عديدة
وبيان ذلك:
أن اليهود الذين اتبعوا موسى عليه السلام والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام هؤلاء مسلمون، ولا وجود لهم اليوم، ووجودهم متعذر، وذلك أنهم حرفوا كلام الله وبدلوا تشريعه، وأشركوا به، فمن أراد أن يتدين بما جاء به موسى وعيسى من تشريع في الإنجيل والتوراة لا يمكنه ذلك، لأنها محرّفة بنص الكتاب والسنة، وهذا أمر محسوم من شكك فيه كفر، فاليهود القائلون بأن عزيرًا ابن الله، وكذا النصارى القائلون بالتثليث فهؤلاء كفار اتفاقًا، كما حكاه ابن حزم كما في "مراتب الإجماع" ( ص 119): ( اتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا واختلفوا في تسميتهم مشركين) .
فمن قال ببقاء أمة منهم (مسلمة) باقية على ما لم يحرّف وأن التحريف في بعضهم، مكذِّب في نسخ الشريعة المحمدية لما قبلها، وأن لا إسلام إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قال أن اليهود والنصارى الآن على ما دعى إليه موسى وعيسى، مكذب بعموم الرسالة ونسخها ونصوص القرآن والسنة في إثبات التحريف فيهم، وكلٌّ ذلك كفر بالإجماع (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (المائدة:72-73)(1/83)
(( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) (التوبة:30) ومن كفرهم اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى، قال تعالى: (( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة:31)
والإسلام يُطلق على كل منيب لله موحد له منذ بعثة نوح إلى محمد، وبمحمد نُسخت الشرائع كلها، فمن خالفه فليس بمسلم، إذ أنه مكذب لعموم رسالته ولختام نبوته، وعموم الرسالة وختامها ووجوب المتابعة أصل من أصول الإسلام لا إسلام بدونه (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)). والإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان، ودليل ذلك أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قطع على كل من لم يؤمن به ويتبعه أنه من أهل النار سواءً كان كتابياً أم غير ذلك، فقد روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار))
فهذا قاطع بكقر كل من لم يتدين بدين محمد صلى الله عليه وسلم، وأن عاقبته النار، وأول من يدخل في ذلك اليهود والنصارى..
وقد أمر الله بسلوك سبيل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ )) (الأنعام:153) ومن خالفه متوّعد بالنار ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى))
فالإسلام الآن لا يفسر إلا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، بذلك فسره الشرع، وقيده به، فقوله تعالى: (( فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)) (آل عمران:20) المراد بالإسلام هنا وفي غيرها من الآيات هو ما عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لا ينصرف الاسم لأحد في عصره ومن جاء بعده إلا من تبعه، وتفسير الإسلام على هذا كما جاء في الحديث في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
فشريعة محمد اختصت بالعموم للناس كافة، وناسخة لغيرها ممن قبلها، وتواترت نصوص القرآن والسنة ببيان تحريف التوراة والإنجيل، والمكذب بذلك كافر بالاتفاق، ومن أدخل في حقيقة الإسلام أحداً غير من كان على ملة محمد، أو أخرج من الكفر من خرج منها، مكذب لذلك كله.
فيجب الاستغناء بشريعة محمد عن سائر التشريعات، لأنها ناسخة وخاتمة لسائر الشرائع، جاءت لتوحيد عقيدة البشرية كلها، فقد روى النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأي في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال: (( أمُتهوِّكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حياً واتبعتموه وتركتموني ضللتم)) وفي رواية: (( لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) فقال عمر: رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً.ً.
فلم يبق دين صحيح أنزله الله، يُحق به الحق ويُبطل به الباطل وتسمو به الإنسانية، وتسعد به البشرية، وتعمر به الأرض العمارة المرضية، سوى الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من ربه وختم بها ما قبله، فقد سلمت من التحريف والتزييف، لكونها محفوظة من عند الله حفظاً أبدياً، من الله بدأ القرآن وإليه يعود(1/84)
قال الله تعالى: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) وما في هذا القرآن أصل كل حق جائت به الشرائع السماوية السابقة، مهيمن على جميع الكتب، كما قال تعالى: (( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ)) وشريعة محمد عامة للناس كافة، يجب على كل من سمع بها اتباعها، ومن لم يتبعها فليس من الإسلام في شيء قال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)) ، فمن سمع بمحمد ودينه ثم لم يؤمن به فهو كافر لما روى مسلم (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) ، والمراد بالسماع هنا، هو أن يبلغه ذكر محمد ودينه وأنه نبي موحى إليه، وهذا كافٍ في قيام الحجة، وظهور المحجة.
فبالإسلام ختم الله سائر الشرائع، فلا مكان لاتباع شيء منها، ولا التدين بشيء مما كان عليه السابقون من أهل الكتاب وغيرهم قال تعالى: (( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) ، فجعل الله الدين المتقبل عنده دين محمد الإسلام، لا يقبل من أحدٍ غيره قال تعالى: (( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)) (آل عمران:19) فمن تعبد بغير الإسلام كفر، وكان من الخاسرين قال: (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) وجعل الله نبيه شهيداً على الناس هو وأمته يوم القيامة بما عملوا: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)) (البقرة:143)، وقال: (( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً)) (النساء:41) يعني على سائر من جاء بعدك.
ثانيها : قالوا : الأديان كلها من عند الله وترجع إلى حقيقة واحدة، وكل منا يحمل جانباً من الحقيقة، وأرض الله تسعنا جميعاً مسلمين ومسيحيين ويهوداً وكذلك جنته، مصداقاً لقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) (البقرة:62) . وقريب منها قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) (المائدة:69) وبيان ذلك:
أن المقصود بهذه الآيات من مات على ملته قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل التشريعات السماوية فقط، كاليهودية والنصرانية، فمن مات على ذلك مؤمناً عاملاً للصالحات، لم يكن على تحريف أو تبديل، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهذا لا إشكال فيه بإجماع المسلمين، وهذا التأويل مروي عن أئمة التفسير كمجاهد والسدي، وعلى ذلك حمله سائر المفسرين وحمل الآية على غير ذلك يتضمن ضرب الكتاب ببعضه وإبطال لأحكامه، ونقض لكثير من نصوصه، وما في هذه الآيات نظير صلاة بعض الصحابة إلى بيت المقدس فحينما ماتوا والقبلة كما هي في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وغُيرت القبلة إلى البيت الحرام وجِل بعض الصحابة، هل يتقبل الله منهم أم لا وهل يضيع عملهم أم لا؟ فأنزل الله قوله تعالى : (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ )) (البقرة:143) يعني صلاتكم فقد روى البخاري من حديث زهير عن أبي إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت وأنه صلى أو صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله: (( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) ورواه مسلم من وجه آخر.
فالعمل والاقتداء بالحكم الشرعي المنسوخ قبل نسخه امتثال وقربه، والعمل به بعد نسخه مخالفة وبُعد.(1/85)
فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ )) الآية. قال سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: (( لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت علي الأرض. وذكر اجتهادهم، فنزلت هذه الآية، فدعا سلمان فقال: "نزلت هذه الآية في أصحابك". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي فهو على خير ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك)).
وثمة معنى آخر في التفسير للآية وهو أن الباب في الإسلام مفتوح أمام أهل الأرض جميعاً للإيمان بدعوة محمد، حتى لو لم يكونوا من العرب، إذ العبرة فى الدين الخاتم أنه دين عالمى لا دين عصبية قبلية أو قومية مثلاً، فمعروف أن أنبياء بنى إسرائيل كلهم لم يُبْعَثوا لأحد من خارج أمتهم، فكانت الآية مُزيلة للإشكال واللبس عند أهل الكتاب، أن الشريعة المحمدية للناس كافة، بل مُلزمة لهم.
ولهذا يجد المتأمل أن الله في كتابه قد علَّق نجاة اليهود والصابئين والنصارى على إيمانهم بالله واليوم الآخر وعملهم الصالحات فقط دون اعتبار آخر (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))
ثم إن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يصح إلا إذا آمن المرء بجميع الأنبياء والرسل، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم وذلك واضح جلي من الآيات التالية: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِينا)) (النساء:150-151) وقوله (( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ)) (الأنعام:92) " وقطع أن الرحمة لا تكون إلا لمن آمن بمحمد واتبعه (( قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )) (الأعراف:156-157) (( فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (الأعراف:157) وهذه الآيات التي تمسك بها بعض أهل الكتاب في أن الله زكاهم وبين نجاتهم وأمنهم، من جملة ما أخبر الله عن سابقيهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وما آمنوا به حرفوه عن معناه ومقصده، وما من مرة أثنى القرآن أو السنة على أحدٍ من اليهود والنصارى إلا كان ذلك بعد دخوله الإسلام، إلا أن بعض ذوى الأهواء والعقول المعكوسة يَبْغُون منا أن نقرأ القرآن ونفهمه بعقولهم المريضة وأفهامهم المنكوسة.
وعلى هذا فليس فى القرآن أي تناقض، ولا وجود له إلا في قلوبهم وأفهامهم، وهل من أنزل تلك الآية يقول (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)) ويأمر المُصلي في كل ركعة أن يقول: (( غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)) (الفاتحة:7) والمغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى، وهل من أُنزلت عليه تلك الآية وهو محمد صلى الله عليه وسلم يقول : (( والذي نفس محمد بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار )) ويقول: (( والذي نفس محمد بيده لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين ((
والصابئون المذكورون ليسوا بأصحاب كتاب سماوي ولا نبي، فلمَ قرنهم الله باليهود والنصارى، وكيف يكونون (( لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) على ذلك المعنى الباطل.
فيجب أن نقرأ ونفهم كلام الله فى كُلّيّته وشموله ولا نجعله عِضِين.(1/86)
فتأمل قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) ذلك أنه لا معنى لاشتراط الإيمان بالله واليوم الآخر فى حالة المؤمنين، أي المسلمين، وهم المذكورون فى أول الآية، إذ هم مؤمنون، فلا يلحقهم وصف الإيمان أصلاً إلا بذلك، على عكس الحال مع اليهود والصابئين والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد بعد، ومن ثم فلا يُعَدّون مؤمنين كما بيّنّا..
ولو كان النصارى والصابئون واليهود من أهل هذا الوعد (( أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ )) لكانوا والمسلمين سواء، ولما وجب دعوتهم إلى الإسلام فهم لهم الأجر مع الأمن التام يوم القيامة، والآيات في دعوتهم أكثر من أن تُحصى، وقد بعث النبي معاذاً إلى اليمن يدعوهم إلى النجاة.
ثم إن هذا الفهم فيه اتهام للقرآن بالتناقض، فمن هم الذين قال الله فيهم: (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (المائدة:71-72) ولماذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر والمقوقس وغيرهما يدعوهم إلى الإسلام مخبراً لهم بحصول الإثم إن أعرضا عن دعوته، فالنصارى لا يؤمنون بالإله الحق، بل يؤلهون عيسى، ويجعلونه رباً من دون الله، فهم في الحقيقة مشركون يعبدون غير الله كما يعبد البوذيون، والبراهمة، وأتباع كونفوشيوس في الصين،ولا يؤمنون باليوم الآخر الصحيح الذي جاء به الإسلام، وإنما يؤمنون بيوم يجلس فيه المسيح ليحاسب الناس، بل لا يؤمنون بمتع الجنة الحسية التي يتحدث عنها القرآن، والله قد أخبر أن اعتقادهم ذلك كفر لا ينفعهم، فقد وصفهم أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما في قوله (( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ))، وهذه الآية بالإجماع في اليهود والنصارى عند المفسرين، فكيف يصفهم الله هنا بعدم الإيمان بالله واليوم والآخر وهناك يصفهم به!
ثم أن الله قال مبيناً بعدهم عن الإيمان (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ)) (المائدة:65) وليُعلم أن أصحاب الأهواء والنصارى خاصة حريصون أشد الحرص على إشاعة اللبس في هذه الآيات وإيهام الجهلة من المسلمين بأن القرآن يُخبر بنجاتهم ويمدح حالهم، وينص على إيمانهم، لكن هيهات هيهات والمسلم يقرأ في كل ركعة: (( وَلاَ الضَّالِّينَ)) (الفاتحة:7) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون)) وهم المقصودون في آخر سورة الفاتحة، قال ابن أبي حاتم في "تفسيره": (ولا أعلم في هذا بين المفسرين اختلافاً) وعلى ذلك:
فإن الدعوة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف على أمر غير الإسلام وتوحيد الله مع تنحية نصوص القرآن والسنة كفر وردة عن الدين، بل من رضي بذلك ورغب فيه، واستحسنه مرتد قطعاً بجميع أدلة التشريع من قرآن وسنة وإجماع.(1/87)
فلا يجوز الدعوة إلى ذلك، ولا الرضى به، بل يجب إنكاره والتحذير منه .ولا يجوز بالإجماع لمسلم أن يبني كنيسة، أو يعتني بها، أو يطبع التوراة والإنجيل لنشره .ويجب دعوة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار إلى الإسلام باللين والحسنى، قال تعالى: (( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) (العنكبوت:46) ليخرجوا من الظلمات إلى النور، وإقامة الحجة عليهم ليحي من حي عن بينه ويهلك من هلك عن بينة قال الله تعالى : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:64) أما حوارهم لأجل النزول عند رغبتهم، وإرضائهم، وتحقيق أهدافهم، فمنكر عظيم وشر مستطير، وفتنة كبيرة تفتن الأمة عن دينها، قال تعالى : (( وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ)) (المائدة:49) ولا بد من وضوح الأحكام في بيان العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وغياب ذلك والبعد عن الفهم الشرعي في طريقة التعامل مع الإحداث، ووجود القصور والخلل في ذلك أدى إلى الشعور بالهزيمة والتبعية والانقياد والتسليم للغرب قولاً وعملاً عند كثير من المسلمين، وسيجلب ذلك جيلاً مهزوماً من أبناء المسلمين، فلا بد من الفقه في الشرع، وأن يتخذ المسلمون طريقاً واضحاً للتغيير والتعامل مع الكفار بعد النظر في الواقع وفهمه، ثم إنزال الأحكام عليه.
وليُعلم أن الالتقاء مع الكفار والحوار معهم يكون كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بعث برسالة إلى هرقل بقوله تعالى (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) وفي ساحة المعركة قال صلى الله عليه وسلم (( وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، واخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين لا يجري عليهم حكم الله الذي جرى على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبو فاستعن بالله عليهم وقاتلهم)) هذا هو الالتقاء والحوار الذي حدده الشرع مع الكفار وليس غيره، وقد يقع بين المسلمين والكفار عهد وميثاق مؤقت، فتحرم بذلك دماؤهم وأموالهم، وقتل المعاهد من أعظم الظلم ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة))
فلا العقيدة ولا التشريع ولا الوحدة الوطنية ولا القومية ولا الآلام ولا الآمال تربط بيننا وتوحدنا معهم، فلا مجال للتقارب إما إيمان وإما كفر، فالصراع دائم والمدافعة مستمرة، وهو صراع ومدافعة بين الحق والباطل بدأ منذ آدم عليه السلام ومنذ عصيان إبليس لرب العالمين، صراع مستمر بين إبليس وأتباعه وذريته وبين الأمة الإسلامية؛ هذه هي حقيقة الصراع وإن اختلفت المصطلحات والمسميات، وهذه هي طريقة الإسلام في الحياة وتلك طريق الكفر.
===============
" نهاية الصراع ... انتصار الحق على الباطل"
مقدمة
إن من معالم الصراع بين الحق والباطل "انتصار الحق على الباطل في نهاية الصراع" .. فبعد أن يتراوح المؤمنون في هذا الصراع بين النصر والهزيمة ، ويطول البلاء على المؤمنين، ويشتد الكرب. يتمخّض عن هذا كله انتصاراً واضحاً ، وساحقاً للحق وأهله ، على الباطل بكل أشكاله وألوانه .
فينصر الله الضعفاء من المؤمنين ، ويمكّن لهم في الأرض ، ويعز الله جنده، ويثبّت أولياءه ، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً ، وتدين الأرض بأهلها لله الواحد القهار .
ويُعلي الله كلمته ، ويرفع رايته ، ويهزم أعداءه ، ويجعل الدائرة عليهم ، والهزائم تترى تلاحقهم في كل مكان .. وفي أثناء ذلك .. يسقط الطغاة ،-المتجبرون المتكبرون في الأرض - ويكثر بعد ذلك أتباع هذا الدين ، وتنتشر الفضيلة ، وتحارب الرذيلة ، ويعمّ الخير، ويزول الشر .
ومن آثار ذلك -أيضاً - أن يعيش الناس في ظل هذا الدين في مأمن وسلام، وحب ووئام ، بعد أن ذاقوا الخوف والجوع والحروب والويلات .(1/88)
والقرآن الكريم بيّن هذا المعلم في آياته : بوسائل مختلفة ، وأساليب متنوعة، وطرقاً متعددة ، فتارة بآية قرآنية صريحة، وتارة أخرى بإشارة قرآنية خفية ، وفي موضع بقصة قرآنية ، وفي موضع أخر بمثلٍ قرآني .. بل ومن الواقع والتاريخ نماذج متعددة ، وصوراً جليّة تكشف عن هذه الحقيقة مما لا يترك مجالا للشك أو حتى للاحتمال في عدم وقوعها .. بل هو اليقين الثابت ، والحق الجازم ، والسنة الجارية .. بل هو وعد الله ، والله لا يخلف الميعاد .
وفي هذا الورقات سنتطرق لما ورد في كتاب الله ، من آيات ، وقصص ، ونماذج ، وحقائق ، قرآنية تؤكد هذا الأمر وتقرره .. حتى يطمئن السائرون على هذا الدرب ، والماضون على هذا الطريق ، وتبعث الأمل فيمن اشتد عليه الكرب ، وأظلم عليه الطريق ، لنقول له : بأن نصر الله قادم ، وفرجه قريب ، وما بعد طول الظلام إلاّ انفلاق الصباح ، وما بعد العسر إلاّ اليسر ، وما بعد الضيق إلاّ الفرج ..
وتأتي مناسبة الكتابة في هذا الموضوع ، ما نشهده هذه الأيام من الانسحاب المذل للعدو الصهيوني من قطاع غزة والذي تقرر بتاريخ 15/8/2005م ، فهي مناسبة تستحق الفرح بهذا الانتصار من جهة ، ومن جهة أخرى فإننا نرى ما تعرض له الشعب الفلسطيني بل وواقع المسلمين اليوم وما يتعرض له - في كل مكان - من محن وابتلاءات ، وضيق وكرب ، مما يستدعي نوعاً من العلاج يخفف الآلام ، ويلملم الجراح ، ويواسي المستضعفين .. وفي القرآن العظيم الزاد المعين على هذا الطريق ، وفيه من آيات التثبيت ما يجعل البلاء قُربة يتعبد الله بها ، ويرى مع شدة المحنة لذة الإخلاص . فالقرآن نورٌ وضياء ، ودستور ومنهاج ، وأملٌ وحياة ، يبعث النفس على الاستعلاء على الباطل مهما عَظُم وتجبر وانتعش .
وعليه نتقدم للشعب الفلسطيني وللأمتين العربية والإسلامية عامة ، وللمقاومة الفلسطينية خاصة بالتهنئة بهذا النصر العظيم .. ونقدم بهذه المناسبة هذا الجهد المتواضع وهو عبارة عن دراسات قرآانية بمناسبة انسحاب العدو من قطاع غزة..
وتجدر الإشارة إلى أننا حرصنا على التعليق على الآيات القرآنية من كتاب "في ظلال القرآن" لسيد قطب – رحمه الله -، وجعلنا فهرساً في نهاية الورقات لموضع هذه النصوص المقتبسة من كتاب الظلال لمن أراد الرجوع إليها ..
هذا وتتضمن السلسة الورقات الثلاث التالية :
الورقة الأولى : الآيات القرآنية في انتصار الحق على الباطل ، والإيمان على الكفر ، ووعد الله للمؤمنين بالنصر والتمكين، وسنة الله في أخذ الكافرين والظالمين.
الورقة الثانية : نماذج وقصص قرآنية على انتصار الله لرسله، وأوليائه ، ولعقيدة التوحيد ، ولبيته الحرام .
الورقة الثالثة : تكاليف النصر وأعباؤه .
هذا ونسأل الله التوفيق والسداد ، ونسأله تعالى أن يرنا الحق حقاً ، وأن يرزقنا إتباعه ، وأن يرنا الباطل باطلاً ، وأن يرزقنا اجتنابه ، كما نسأله نصراً مؤزراً ، وفرجاً معجلاً ، اللهم آمين
الورقة الأولى : الآيات القرآنية في انتصار الحق على الباطل .
وتشتمل على الحقائق القرآنية التالية :
أولا : الآيات الواردة في انتصار الحق على الباطل صراحة.
ثانياً : الآيات الواردة في انتصار الإسلام وهيمنته على باقي الأديان.
ثالثا : الآيات المبينة لوعد الله للمؤمنين بالنصر والتمكين.
رابعاً: الإشارات القرآنية في نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين .
خامساً : بيان سنة الله في أخذ الكافرين والظالمين .
أولاً : الآيات الواردة في انتصار الحق على الباطل صراحة .
جاء في كثير من الآيات القرآنية تقرير انتصار الحق على الباطل ، بل أمر الله رسوله الكريم أن يعلنها واضحة صريحة بقوله تعالى : { وقل جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا } الإسراء (81) .
"بهذا السلطان المستمد من الله ، أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته ، وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه ، فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت ، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق ..
{ إن الباطل كان زهوقا } .. حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد ، وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة . فالباطل ينتفخ وينتفج وينفش ، لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة ، ومن ثم يحاول أن يموه على العين ، وأن يبدو عظيماً كبيراً ضخماً راسخاً ، ولكنه هش سريع العطب ، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عالياً ثم تخبو سريعاً وتستحيل إلى رماد ، بينما الجمرة الذاكية تدفئ وتبقى ، وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء .(1/89)
{ أن الباطل كان زهوقا } .. لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية ، فإذا تخلخلت تلك العوامل ، ووهيت هذه الأسناد تهاوى وانهار . فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده . وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان .. ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء ، لأنه من عند الله الذي جعل " الحق " من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول .
{ أن الباطل كان زهوقا } .. ومن ورائه الشيطان ، ومن ورائه السلطان . ولكن وعد الله أصدق وسلطان الله أقوى . وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان ، إلا وذاق معه حلاوة الوعد ، وصدق العهد . ومن أوفى بعهده من الله ؟ ومن أصدق من الله حديثاً ؟ " . (1)
وبمثل هذا التوجيه الرباني ، يأمر الله نبيه أن يلقي هذه الحقيقة قذيفة في وجه الباطل وأهله .. إذ يقول الله تعالى :
{ قل : إن ربي يقذف بالحق علاّم الغيوب ، قل جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد } سبأ (48،49) .
أي فهذا " الذي جئتكم به الحق . الحق القوي الذي يقذف به الله. فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله ؟ إنه تعبير مصور مجسم متحرك . وكأنما الحق قذيفة تصدع وتخرق وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق .. يقذف بها الله " علاّم الغيوب " فهو يقذف بها عن علم ، ويوجهها على علم ، ولا يخفى عليه هدف ، ولا تغيب عنه غاية ، ولا يقف للحق الذي يقذف به معترض ولا سد يعوقه . فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور ! ...
جاء هذا الحق في صورة من صوره ، في الرسالة ، وفي قرآنها ، وفي منهجها المستقيم . قل : جاء الحق . جاء بقوته. جاء بدفعته . جاء باستعلائه وسيطرته { وما يبديء الباطل وما يعيد } .. فقد انتهى أمره . وما عادت له حياة ، وما عاد له مجال ، وقد تقرر مصيره وعرف أنه إلى زوال .
إنه الإيقاع المزلزل ، الذي يشعر من يسمعه أن القضاء المبرم قد قضى ، وأنه لم يعد هناك مجال لشيء آخر يقال . وإنه لكذلك . فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح . ولم يعد الباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم . ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق . إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق . غلبة الناس لا المبادئ . وهذه موقوتة ثم تزول . أما الحق فواضح بين صريح " . (2)
وبمثل هذا التقرير يقول الله تعالى في - آية أخرى - : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } الأنبياء(18) .
إذاً " هذه هي السنة المقررة ، فالحق أصيل في طبيعة الكون ، عميق في تكوين الوجود . والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلاً ، طارئ لا أصالة فيه ، ولا سلطان له ، يطارده الله ، ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله ، ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه ! ولقد يخيل للناس أحياناً أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشاً كأنه غالب ، ويبدو فيها الحق منزوياً كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان ، يمهد الله فيها ما يشاء ، للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ، وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء .
والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده ، وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ، وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه .. فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حيناً من الدهر عرفوا أنها الفتنة ، وأدركوا أنه الابتلاء، وأحسوا أن ربهم يربيهم ، لأن فيهم ضعفاً أو نقصاً ، وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر ، وأن يجعلهم ستارة القدرة ، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف .. وكلما سارعوا إلى العلاج قصّر الله عليهم فترة الابتلاء ، وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } والله يفعل ما يريد".(3)
بل جعل الله تعالى انتصار الحق على الباطل من محض إرادته - سبحانه - ولا راد لحكمه وقضائه .. كما في قوله تعالى: { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون } الأنفال(7،8).
وقوله تعالى :{ ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } يونس (82) .
وقوله تعالى - أيضاً - :{ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ، إنه عليم بذات الصدور} الشورى (24) .
وهذا كله موقوت بأمر الله : { فإذا جاء أمر الله قضي بالحق ، وخسر هنالك المبطلون } غافر (78) .(1/90)
وهذه الآيات جملة تقرر بوضوح إرادة الله في انتصار الحق على الباطل ، وأن الحق أصيل وغالب ، وأن الباطل ضعيف طارئ لا أصل له ولا أساس .. وأن الله وراء المعركة القائمة بين أهل الحق ، وأهل الباطل ، وهو - تعالى - الذي يقودها بإرادته ، ويحكم في نهايتها بانتصار الحق على الباطل .. وبهذا تطمئن النفوس ، وتهدأ الضمائر ، ويزول الشك ، ويحل محله اليقين ، فالله مع أهل الحق ينصرهم ويؤيدهم ، ويعينهم ، ولا ينسى عباده ، ولا يتخلى عنهم ، بل يقف إلى جانبهم ، فيحق الحق ويبطل الباطل ، ويمحوه ، حتى لا يعود له أثر ولا وجود.
---------
ثانياً : الآيات القرآنية التي تبين انتصار الإسلام وهيمنته على باقي الأديان .
لقد أتم الله نعمته على المسلمين ، بإكمال الدين ، ورضي لهذا الدين أن يسود ، وأن يقود ، وأن يهيمن على باقي الأديان..
قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا } المائدة (3) .
ولقد وعد الله تعالى عباده المؤمنين أن يمكن لهذا الدين في الأرض ، وأن ينصر هذا الدين وأهله ، وأن يجعله عزيزاً قوياً لا تغلبه قوة ، ولا تعلوه ديانة .. قال تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم ، وعملوا الصالحات ، ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } النور (55-56) .
وعبثاً يظن أهل الباطل انهم قادرون على القضاء على هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده .. رغم جهودهم الجبارة وكيدهم ومكرهم على مدى الزمان ..
ولقد صور الله تعالى هذه المحاولات البائسة الكثيرة منهم - لضرب هذا الدين - بصورة تبين مدى ضعفهم في مواجهة هذا الدين وهذا الحق الذي جاء من عند الله تبارك وتعالى ..
قال تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا إن يتم نوره ولو كره الكافرون ، وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } التوبة (23،33) .
"إن أهل الكتاب هؤلاء لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق ، وعبادة أرباب من دون الله . وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر - وفق المفهوم الصحيح للإيمان بالله واليوم الآخر - إنما هم كذلك يعلنون الحرب على دين الحق ، ويريدون إطفاء نور الله في الأرض المتمثل في هذا الدين ، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض ، وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر ..
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } .. فهم محاربون لنور الله . سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن ، أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله ، والوقوف سداً في وجهه - كما كان هو الواقع الذي تواجهه هذه النصوص وكما هو الواقع على مدار التاريخ - .
وهذا التقرير - وإن كان يراد به استجاشة قلوب المسلمين إذ ذاك- هو كذلك يصور طبيعة الموقف الدائم لأهل الكتاب من نور الله المتمثل في دينه الحق الذي يهدي الناس بنور الله .
{ ويأبى الله إلاً أن يتم نوره ولو كره الكافرون } ..
وهو الوعد الحق من الله ، الدالّ على سنته التي لا تتبدل ، في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون .. وهو وعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا ، فيدفعهم هذا إلى المضي في الطريق على المشقة واللأواء في الطريق ، في ثناياه الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان !
ويزيد السياق في هذا الوعيد وذلك الوعد توكيداً : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون } .. " (4)
وبمثل ذلك يقول الله تعالى في آيات أخرى : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ولو كره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } الصف (8،9) .
وقوله تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيداً } الفتح (28) .
" فلقد ظهر دين الحق ، لا في الجزيرة وحدها ، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان . ظهر في إمبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من إمبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية ( أندونيسيا ) .. وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي .
وما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله-حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها، وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان.(1/91)
أجل ما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله ، من حيث هو دين ، فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ، ومع نواميس الوجود الأصيلة ، ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب!
وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة راشدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة .. { وكفى بالله شهيداً } ..
فوعد الله قد تحقق في الصورة السياسية الظاهرة قبل قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية . ووعد الله ما يزال متحققاً في الصورة الموضوعية الثابتة ، وما يزال هذا الدين ظاهراً على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادراً على العمل ، والقيادة ، في جميع الأحوال .
ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم ! فغير أهله يدركونها ويخشونها ، ويحسبون لها في سياستهم كل حساب ! " (5)
" وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ، ظاهراً بإذن الله على الدين كله تحقيقاً لوعد الله ، الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل ، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل ! ولقد كانت تلك الآيات حافزاً للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى . وكانت تطميناً لقلوبهم وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر ، وإن هم إلا أداة ، وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم ، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله " . (6)
---------
ثالثا : الآيات التي فيها وعد من الله للمؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض.
وعد الله تعالى في - كثير من آياته - المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض ، بل وكتبه على نفسه وجعله حقاً عليه أن يؤيد المؤمنين وينصرهم ، ويقف إلى جانبهم .. ذلك بأنهم يمثلون الحق المنزل من الله عز وجل ، والله تعالى ينصر الحق وأهله ، وينتقم من الباطل وأهله .
ومن الآيات التي تذكر طرفاً من هذا الوعد الرباني بنصرة المؤمنين ما يلي :
* قال تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } الصافات (171-173).
" الوعد واقع وكلمة الله قائمة ، ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض ، وقام بناء الإيمان ، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار ، وذهبت سطوتهم ودولتهم ، وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ، وتكييف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البسر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل ، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعت منها ، وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون .. هذه بصفة عامة ، وهي ظاهرة ملحوظة في جميع بقاع الأرض ، في جميع العصور . وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله ، يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى لدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وإن هي إلا معركة تختلف نتائجها. ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين . " (7)
* وقال تعالى - مؤكداً هذا الوعد - : { إن الذين يحادّون الله ورسوله أولئك في الأذلين ، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . إن الله قوي عزيز } المجادلة (20،21) .
- وكذا قوله تعالى : { فانتقمنا من الذين أجرموا ، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } الروم (47) .
- ومثلها في المعنى قوله تعالى : { ثم ننجي رسلنا والذين أمنوا ، كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين } يونس (103) .(1/92)
" وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لابد أن يكون على الرغم فيما قد يبدو أحياناً من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق . فالذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك . واستقرت العقيدة في الله في هذه الأرض ، ودانت لها البشرية بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية ، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد. وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الإلحاد والشرك إلى الظهور في بعض بقاع الأرض- كما يقع الآن في الدول الملحدة والوثنية - فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة بصفة عامة . فضلاً على أن فترات الإلحاد والوثنية إلى زوال مؤكد ، لأنها غير صالحة للبقاء ، والبشرية تهتدي في كل يوم إلى أدلة جديدة تهدي إلى الاعتقاد في الله والتمكين لعقيدة الإيمان والتوحيد". (8)
* وقال تعالى - بصيغة الجزم - : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } غافر (51،52).
" إن وعد الله قاطع جازم : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا .. } .. بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجرمن أرضه وقومه مكذباً مطروداً ، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد .. فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا ؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل ! ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور . ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير .
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان، وهي مقاييس بشرية صغيرة . فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ، ولا بين مكان ومكان. ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك . وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها . فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها . وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها !
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم . ولكن صور البصر شتى . وقد يتلبس بعضها بصورة الهزيمة عند النظرة القصيرة ..
إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها .. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة ؟ ما من شك - في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار . كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة . وهما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب ! ..
والحسين - رضوان الله عليه - وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب ؟ أكانت هذه نصراً أم هزيمة ؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة . فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً . فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف ، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين - رضوان الله عليه - يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعون من المسلمين وكثير من غير المسلمين ! وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده . وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة ، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه ، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد . وربما كانت حافزاً ومحركاً لخطى التاريخ كله مدى الأجيال .
ما النصر ؟ وما الهزيمة ؟ إننا في حاجة أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور . ومن القيم . قبل أن نسأل : أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا !
على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة . ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة . لقد انتصر محمد - صلى الله عليه وسلم - في حياته . لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض . فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا أن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعاً . من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة . فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ويترك هذه العقيدة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة . ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية . وفق تقدير الله وترتيبه . " (9)
* وكما وعد الله تعالى المؤمنين بالنصر فإنه وعدهم كذلك بوراثة الأرض والاستخلاف فيها ، والتمكين لدينه .. وهذا واضح في آيات الكتاب نذكر منها ما يلي :
- كقوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } الأنبياء (105) .(1/93)
- وقوله تعالى : { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ، ونجعلهم أئمة ، ونجعلهم الوارثين ، ونمكن لهم في الأرض } القصص (5،6).
- وقوله تعالى : { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ، فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننهم الأرض من بعدهم ،ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} إبراهيم (13،14) .
- وقوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } النور (55) .
" ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً .. ذلك وعد الله .. ووعد الله حق .. ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده .. " (10)
-----------
رابعاً : مواضع متفرقة من آيات الكتاب تقرر هزيمة الكافرين ، وانتصار الله - عز وجل - لعباده المؤمنين .
لقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم آيات عديدة متفرقة ، تؤكد في معناها ومدلولها على أن هزيمة الكفار محققة ، وأن الله لا يعجزه أن يهلك الكافرين والظالمين ، وأنهم بكفرهم هذا لن يضروا الله شيئاً ، وأن ما يتعرض له المؤمنون من الأذى - على أيدي الكافرين - ما هو إلا ابتلاء يتبعه نصر الله للمؤمنين على الكافرين .
ومن هذه الآيات والإشارات القرآنية ما يلي :
* قال تعالى : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، وأولئك هم وقود النار . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا ، فأخذهم الله بذنوبهم ، والله شديد العقاب . قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين ، والله يؤيد بنصره من يشاء ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } آل عمران (10-13) .
" إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل ، وتهديدهم بمصير الكفار قبله وبعدهم . وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك .. فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون . وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل . ولكن هذا لا يمنحهم حقاً خاصاً إذا هم ضلوا وكفروا ، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا ، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين أنجاهم الله منهم !
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر - وهم كفار - ليقول لهم : إن سنن الله لا تتخلف . وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش . فالعلة هي الكفر . وليس لأحذ على الله دالة ، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح !
{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، وأولئك هم وقود النار } ..
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية ، ولكنهما لا يغنيان شيئاً في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه ، لأنه لا إخلاف لميعاد الله. وهم فيه : { وقود النار }.. بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص " الإنسان " ومميزاته ، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر " وقود النار " .. لا بل أن الأموال والأولاد ، ومعهما الجاه والسلطان ، لا تغني شيئاً في الدنيا :
{ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم ، والله شديد العقاب } ..
وهو مثل مضى في التاريخ مكروراً ، وقصه الله في هذا الكتاب تفصيلاً : وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته ، يجريها حيث يشاء . فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله .
وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وآيات الكتاب الذي عليه بالحق ، معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء .. ومن ثم يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينذرهم هذا المصير في الدارين ، وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب ، فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } ..
وقوله تعالى : { يرونهم مثليهم رأي العين } يحتمل تفسيرين : فإما أن يكون ضمير "يرون" راجعاً إلى الكفار ، وضمير "هم" راجعاً إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين "مثليهم".. وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين " مثليهم " هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .(1/94)
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره .. وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتاً للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم ..وكان الموقف يقتضي هذا وذاك ..وكان القرآن يعمل هنا وهناك..
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة .. إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ، وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ، و تثق في ذلك الوعد ، وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة، وتصبر حتى يأذن الله ، ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته ، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة :
{ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } ..
ولا بد من بصر ينظر وبصيرة تتدبر ، لتبرز العبرة ، وتعيها القلوب . وإلاّ فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار!"(11)
* ومن الآيات التي تدخل تحت هذا الباب - أيضار - قوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً . ومأواهم النار ، وبئس مثوى الظالمين } آل عمران (151) .
" والوعد من الله الجليل القادر القاهر ، بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، كفيل بنهاية المعركة ، وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه ..
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان . فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم ، ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم . ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين. حقيقة الشعور بولاية الله وحده ، والثقة المطلوبة بهذه الولاية ، والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون ، وأن الله غالب على أمره ، وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه !
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء ، وهم أبداً خوارون ضعفاء ، وهم أبداً في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان ..
وأننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل .. وكم من مرة وقف الباطل مدججاً بالسلاح أمام الحق الأعزل . ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب ، ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود - فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل ، ولو كانت له الحشود ، وكان للحق القلة، تصديقاً لوعد الله الصادق :{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } .. " (12)
* وقال تعالى - أيضاً - : { لن يضروكم إلاّ أذى ، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ، ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }آل عمران (111،112) .
" بهذا يضمن الله للمؤمنين النصر وسلامة العاقبة ، ضمانة صريحة حيثما التقوا بأعدائهم هؤلاء ، وهم معتصمون بدينهم وربهم في يقين : { لن يضروكم إلاّ أذى . وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون } ..
فلن يكون ضرراً عميقاً ولا أصيلاً يتناول أصل الدعوة ، ولن يؤثر في كينونة الجماعة المسلمة ، ولن يجليها من الأرض.. إنما هو الأذى العارض في الصدام ، والألم الذاهب مع الأيام .. فأما حين يشتبكون مع المسلمين في قتال ، فالهزيمة مكتوبة عليهم - في النهاية - والنصر ليس لهم على المؤمنين ، ولا ناصر لهم كذلك ولا عاصم من المؤمنين .. ذلك أنه قد { ضربت عليهم الذلة } وكتبت لهم مصيراً . فهم في كل أرض يذلون ، لا تعصمهم إلاّ ذمة الله وذمة المسلمين - حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها ، وتنيلهم الأمن والطمأنينة - ولم تعرف يهود منذ ذلك الحين الأمن إلاّ في ذمة المسلمين . ولكن يهود لم تعاد أحداً في الأرض عداءها للمسلمين ! .. { وباءوا بغضب من الله } .. كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب . { وضربت عليهم المسكنة } تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم ..
ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية . فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلاّ كتب فيها للمسلمين النصر - ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم ، وأقاموا منهج الله في حياتهم - وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلاّ أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم " . (13)
* ومن الآيات الدالة على ذلك أيضاً قوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } النساء (141) .(1/95)
" وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل . كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال . وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين .
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب . لأنه ليس منه تحديد . والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد .. أما بالنسبة للدنيا، فإن الظواهر أحياناً قد توحي بغير هذا .. ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق :
إنه وعد من الله قاطع . وحكم من الله جامع : أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ، وتمثلت في واقع حياتهم منهجاً للحياة ، ونظاماً للحكم ، وتجرداً لله في كل خاطرة وحركة ، وعبادة الله في الصغيرة والكبيرة.. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ..
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها ! " (14)
* وقال تعالى - كذلك - : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم } محمد(32) .
وهذا قرار من الله مؤكد ، ووعد منه واقع : إن الذين كفروا ، ووقفوا في وجه الحق أن يبلغ إلى الناس ، وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أي وسيلة من الوسائل ، وشاقوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته بإعلان الحرب عليه ، والمخالفة عن طريقه، والوقوف في غير صفه . أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته . وذلك { من بعد ما تبين لهم الهدى } .. وعرفوا أنه الحق ، ولكنهم اتبعوا الهوى ، وجمح بهم العناد، وأعماهم الغرض ، وقادتهم المصلحة العاجلة ..
قرار من الله مؤكد ، ووعد من الله واقع أن هؤلاء { لن يضروا الله شيئا ً} .. وهم أضأل وأضعف من أن يذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله سبحانه وتعالى . فليس هذا هو المقصود . إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته . ولن يحدثوا حدثاً في نواميسه وسننه . مهما بلغ من قوتهم ، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت . فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها وليس ضرراً حقيقياً لناموس الله وسنته ونظامه ونهجه وعباده القائمين على نظامه ونهجه . والعاقبة مقررة : { وسيحبط أعمالهم } .. فتنتهي إلى الخيبة والدمار . كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام ! " . (15)
وبمثل هذا التقرير ذكّر الله تعالى نبيه الكريم - في أعقاب غزوة أحد - في قوله تعالى : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، إنهم لن يضروا الله شيئاً ، يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ، ولهم عذاب عظيم . إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ، ولهم عذاب أليم ، ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيراً لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ، ولهم عذاب مهين } آل عمران (176-178) .
" إن ذهاب الباطل ناجياً في معركة من المعارك . وبقاءه منتفشاً فترة من الزمان ، ليس معناه أن الله تاركه ، أو أنه من القوة بحيث لا يغلب أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً ..
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك ، وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان ، ليس معناه أن الله مجافيه أو ناسيه ! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه ..
كلا إنما هي حكمة وتدبير .. هنا وهناك .. يملي للباطل ليذهب إلى نهاية الطريق ، وليرتكب أبشع الآثام ، وليحمل أثقل الأوزار ، ولينال أشد العذاب باستحقاق ! .. ويبتلي الحق ، ليميز الخبيث من الطيب ، ويعظم الأمر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت .. فهو الكسب للحق والخسارة للباطل ، مضاعفاً هذا وذاك ! هنا وهناك ! " (16)
* * *
ولقد وردت آيات كثيرة في كتاب الله : تطمئن المؤمنين ، وتعدهم بنصر الله ، وتؤكد وتقرر لهم هزيمة الكافرين ، وتبين أن هزيمتهم محققة لا شك فيها ولا جدال ..
ومن هذه الآيات :
* قوله تعالى : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } القمر (45) .
" فلا يعصمهم تجمعهم ، ولا تنصرهم قوتهم . والذي يعلنها عليهم هو القهار الجبار .. ولقد كان ذلك كما لا بد أن يكون !
وقال البخاري بإسناده إلى ابن عباس : إن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال وهو في قبة له يوم بدر : ( أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبداً ) . فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده ، وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع ، وهو يقول :{سيهزم الجمع ويولون الدبر ..}.(1/96)
وفي رواية لابن أبي حاتم بإسناده إلى عكرمة ، قال : لما نزلت { سيهزم الجمع ويولون الدبر } قال عمر : أي جمع يغلب؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثب في الدرع ، وهو يقول : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } فعرفت تأويلها يومئذ !" ) 17) .
* ومنها قوله تعالى : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ، ساء ما يحكمون } العنكبوت (4) .
* وقوله تعالى : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } الشعراء (227) .
* وقوله تعالى : { إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين } المجادلة (20) .
* وقوله تعالى : { فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} الصف (14) .
* وقوله تعالى : { قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } النحل ( 26) .
والآيات في هذا الباب كثيرة ، والعبرة بما تدل عليه ، وما تلقيه في النفس المؤمنة من الظِلال .. ظلال الطمأنينة .. والثقة بنصر الله تعالى وتأييده للمؤمنين .. وهزيمته وسحقه للكافرين .
-----------
خامساً : بيان سنة الله في أخذ الكافرين والظالمين .
دعانا الله تعالى في كثير من آياته إلى السير في الأرض ، لمعرفة سنته تعالى في أخذ الكافرين والظالمين ، وذكّرنا بمصارع الغابرين ، والأقوام السابقين . ليبين الله تعالى لنا أن هذه هي سنته في أخذ الكافرين في كل زمان ومكان ، مهما عظمت دولتهم ، وقويت شوكتهم ، ذلك أنهم لما نسوا الله تعالى هانوا عليه فأهلكهم ، ومضت قصصهم عبرة لكل متجبر ومتكبر وظالم ، وبقيت آثارهم عظة لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .. حتى يعلم المؤمن أن أهل الباطل مهما بلغت قوتهم ، وصالوا وجالوا فلن يعجزوا الله تعالى .. فإن الله لهم بالمرصاد .. وما هو بالإهمال لهم بل هو الإمهال والإملاء حتى يحين أجل الله وموعده بأخذهم وإهلاكهم وزوالهم وذهابهم كما مضى بذلك سلف الأولين :
{ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } الشعراء (227) .
* * *
- أما إن إهلاك الكافرين والظالمين سنة من سنن الله تعالى فهذا مقرر في قوله تعالى : { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ، فهل ينظرون إلاّ سنة الأولين ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا } فاطر (43).
- وأما دعوة الله تعالى لنا بالسير في الأرض ، والنظر في حال الأمم السابقة التي أهلكها الله ، ففي آيات كثيرة منها :
قوله تعالى : { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة ، وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} فاطر(44).
وقوله تعالى : { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ، كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ، ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب} غافر (21،22) .
وقوله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة . وآثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } غافر (82) .
وقوله تعالى : { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } الروم (9) .
وفي هذه الآيات : " دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين ، وهم ناس من الناس ، وخلق من خلق الله ، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية . فسنة الله هي سنة الله في الجميع . وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود ، بلا محاباة لجيل من الناس ، ولا هوى يتقلب فتتقلب معه العواقب . حاشا لله رب العالمين !
وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان وحقيقة هذه الإنسانية الموحدة المنشأ والمصير على مدار القرون ، كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته ، وقيمه وتصوراته ، ويغفل عن الصلة الوثيقة من أجيال البشر جميعاً ، وعن وحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعاً ، ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعاً .(1/97)
فهؤلاء أقوام عاشوا قبل جيل المشركين في مكة {كانوا أشد منهم قوة}.. { وأثاروا الأرض } .. فحرثوها وشقوا عن باطنها ، وكشفوا عن ذخائرها {وعمروها أكثر مما عمروها } فقد كانوا أكثر حضارة من العرب ، وأقدر منهم على عمارة الأرض .. ثم وقفوا عند ظاهر الحياة الدنيا لا يتجاوزونه إلى ما وراءه : { وجاءتهم رسلهم بالبينات } .. فلم تتفتح بصائرهم لهذه البينات ، ولم يؤمنوا فتتصل ضمائرهم بالنور الذي يكشف الطريق . فمضت فيهم سنة الله في المكذبين ، ولم تنفعهم قوتهم ، ولم يغن عنهم علمهم ولا حضارتهم، ولقوا جزاءهم العادل الذي يستحقونه : {فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.."(18)
والله تعالى قد يملى للقرية الظالمة ويمهلها ، ثم يأخذها بعذاب من عنده ، كما فعل الله ببعض القرى السابقة حينما كذبوا برسلهم ، وفي هذا ما يطمئن قلوب المؤمنين كما طمأن الله رسوله الكريم من قبل بقوله تعالى : { وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وأصحاب مدين ، وكذب موسى ، فأمليت للكافرين ثم أخذتهم ، فكيف كان نكير ،فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد، أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } الحج (42-46) .
وبمثل هذه الآيات خاطب الله رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - في موضع آخر فقال تعالى :
{ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ، فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، فلولا أن جاءهم بأسنا تضرعوا ، ولكن قست قلوبهم ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون . فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } الأنعام (42-45)
" إنها لمواجهة بنموذج من بأس الله سبحانه ، نموذج من الواقع التاريخي . نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله ، وكيف تكون عاقبة تضرعهم له ، وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة ، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه ، فإذا نسوا ما ذكروا به ، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع إليه ، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة، كانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لا يرجى منه صلاح ، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لا تصلح معه للبقاء . فحقت عليهم كلمة الله . ونزل بساحتهم الدمار الذي لا ينجو معه ديار ..
{ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ، فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، فلولا أن جاءهم بأسنا تضرعوا ، ولكن قست قلوبهم ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } ..
ولقد عرف الواقع البشري كثيراً من هذه الأمم ، التي قص القرآن الكريم على الإنسانية خبر الكثير منها ، قبل أن يولد " التاريخ " الذي صنعه الإنسان ! فالتاريخ الذي سجله بنو الإنسان حديث المولد ، صغير السن ، لا يكاد يعي إلا القليل من التاريخ الحقيقي للبشر على ظهر هذه الأرض ! وهذا التاريخ الذي صنعه البشر حافل - على قصره - بالأكاذيب والأغاليط ، وبالعجز والقصور عن الإحاطة بجميع العوامل المنشئة ، والمحركة للتاريخ البشري ، والتي يكمن بعضها في أغوار النفس ، ويتوارى بعضها وراء ستر الغيب ، ولا يبدو منها إلا بعضها . وهذا البعض يخطئ البشر في جمعه ، ويخطئون في تفسيره ، ويخطئون أيضاً في تمييز صحيحه من زائفه - إلا قليلا - ودعوى أي بشري أنه أحاط بالتاريخ البشري علماً ، وانه يملك تفسيره تفسيراً " علمياً " ، وأنه يجزم بحتمياته المقبلة أيضاً .. هي أكبر أكذوبة يمكن أن يدعيها بشر ! ومن عجب أن بعضهم يدعيها ! والأشد إثارة للعجب أن بعضهم يصدقها ! ولو قال ذلك المدعي : إنه يتحدث عن (توقعات) لا عن (حتميات) لكان ذلك مستساغاً .. ولكن إذا وجد المفتري من المغفلين من يصدقه فلماذا لا يفتري ؟ !
والله يقول الحق ، ويعلم ماذا كان ، ولماذا كان . ويقص على عبيده- رحمة منه وفضلا - جانباً من أسرار سنته وقدره ، ليأخذوا حذرهم ويتعظوا، وليدركوا كذلك ما وراء الواقع التاريخي من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة ، يفسرون بها هذا الواقع التاريخي تفسيراً كاملاً صحيحاً . ومن وراء هذه المعرفة يمكن أن يتوقعوا ما سيكون ن استناداً إلى سنة الله التي لا تتبدل .. هذه السنة التي يكشف الله لهم عنها ..
وفي هذه الآيات تصوير وعرض لنموذج متكرر في أمم شتى .. أمم جاءتهم رسلهم . فكذبوا . فأخذهم الله بالبأساء والضراء . في أموالهم وفي أنفسهم . في أحوالهم وأوضاعهم .. البأساء والضراء التي لا تبلغ أن تكون " عذاب الله " التي تحدثت عنه الآية السابقة ، وهو عذاب التدمير والاستئصال ..(1/98)
وقد ذكر القرآن نموذجاً محدداً من هذه الأمم ، ومن البأساء والضراء التي أخذها بها .. في قصة فرعون وملئه : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا : لنا هذه ، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه . ألا إنما طائرهم عند الله ، ولكن أكثرهم لا يعلمون . وقالوا : مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين . فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، آيات مفصلات ، فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين } الأعراف (130-133) .
وهو نموذج من نماذج كثيرة تشير إليها الآية ..
لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم ، وينقبوا في ضمائرهم وفي واقعهم ، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله ، ويتذللون له ، وينزلون عن عنادهم واستكبارهم ، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة ، فيرفع الله عنهم البلاء ، ويفتح لهم أبواب الرحمة .. ولكنهم لم يفعلوا ما كان حرياً أن يفعلوا . لم يلجأوا إلى الله ، ولم يرجعوا عن عنادهم ، ولم ترد إليهم الشدة وعيهم ، ولم تفتح بصيرتهم ، ولم تلين قلوبهم . وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد :
{ ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } ..
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة ! ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس! وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه ، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة ، التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة .. والشدة ابتلاء من الله للعبد ، فمن كان حياً أيقضته ، وفتحت مغاليق قلبه ، وردته إلى ربه ، وكانت رحمة له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه .. ومن كان ميتاً حسبت عليه ، ولم تفده شيئاً ، وإنما أسقطت عذره وحجبته ، وكانت عليه شقوة ، وكانت موطئة للعذاب !
وهذه الأمم التي يقص الله -سبحانه - من أنبائها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن وراءه من أمته .. لم تفد من الشدة شيئاً . ولم تتضرع إلى الله ، ولم ترجع عما زينه لها الشيطان من الإعراض والعناد .. وهنا يملي لها الله - سبحانه - ويستدرجها بالرخاء :
{ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبوب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين } ..
إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة ، وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة ! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة . يبتلي الطائعين والعصاة سواء . بهذه وبذاك سواء .. والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ، ويبتلى بالرخاء فيشكر . ويكون امره كله خير .. وفي الحديث : ( عجباً للمؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) (رواه مسلم ) .
فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل ، والتي يقص الله من أنبائها هنا . فإنهم لما نسوا ما ذكروا به ، وعلم الله - سبحانه - أنهم مهلكون ، وابتلاهم بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا .. فأما هؤلاء فقد فتح عليهم أبواب كل شيء للاستدراج بعد الابتلاء..
والتعبير القرآني { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } .. يصور الأرزاق والخيرات ، والمتاع ، والسلطان .. متدفقة كالسيول، بلا حواجز ولا قيود ! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة!
{ حتى إذا فرحوا بما أوتوا } ..
وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة ، واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها - بلا شكر ولا ذكر - وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه ، وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات ، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع . وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع ، بعد فساد القلوب والأخلاق، وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها .. عندئذ جاء موعد السنن التي لا تتبدل :
{ أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } ..
فكان أخذهم على غرة ، وهم في سهوة وسكرة . فإذا هم حائرون منقطعوا الرجاء في النجاة عاجزون عن التفكير في أي اتجاه . وإذا هم مهلكون بجملتهم حتى أخر واحد منهم
{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا } ..
دابر القوم هو آخر واحد منهم يدبرهم أي يجيء على أدبارهم فإذا قطع هذا فأوائلهم أولى ! .. و { الذين ظلموا } تعني هنا الذين أشركوا .. كما هو التعبير القرآني في أغلب المواضع عن الشرك بالظلم وعن المشركين بالظالمين ..
{ والحمد لله رب العالمين } ..
تعقيب على استئصال الظالمين ( المشركين ) بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين .. وهل يحمد الله على نعمة ، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين ، أو على رحمة ، أجل من رحمته لعباده بهذا التطهير ؟(1/99)
لقد أخذ الله قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط ، كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه السنة ، ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها ، ذلك السر المغيب من قدر الله ، وهذا القدر الظاهر من سنته ، وهذا التفسير الرباني لهذا الواقع التاريخي المعروف .
لقد كان لهذه الأمم من الحضارة ، وكان لها من التمكين في الأرض ، وكان لها من الرخاء والمتاع ، ما لا يقل - إن لم يزد في بعض نواحيه - عما تتمتع به اليوم أمم ، مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع ، مخدوعة بما هي فيه، خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء ..
هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة ، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة . والذين يدورون في فلكها يبهرهم اللألاء الخاطف ، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان ، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم ، وهي لا تعبد الله او لا تعرفه ، وهي تتمرد على سلطانه ، وهي تدعي لأنفسها خصائص الألوهية ، وهي تعيث في الأرض فساداً ، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله ..
- ويتابع سيد قطب رحمه الله - في ظلاله حول هذه الآيات فيقول عن نفسه :
" ولقد كنت - في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية - أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } .. فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية .. مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب ! .. لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك !
وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه ، وشعورهم بأنه وقف على " الرجل الأبيض " وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة ، وفي وحشية كذلك بشعة ! وفي صلف على أهل الأرض كلهم لا يقاس إليه صلف النازية الذي شهر به اليهود بالأرض كلها حتى صار علماً على الصلف العنصري . بينما الأمريكي البيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى ! وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونون من المسلمين ..
كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية ، وأتوقع سنة الله ، وأكاد أرى خطواتها وهي تدب إلى الغافلين :
{ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } ..
وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهناك ألوان من العذاب باقية . والبشرية - وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شيء - تذوق منها الكثير . على الرغم من هذا النتاج الوفير ومن هذا الرزق الغزير !
إن العذاب النفسي ، والشقاء الروحي ، والشذوذ الجنسي ، والإنحلال الخلقي .. الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم ، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع ، وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء ! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية ، التي تباع فيها أسرار الدولة ، وتقع فيها الخيانة للأمة ، في مقابل شهوة أو شذوذ .. وهي طلائع لا تخطئ على نهاية المطاف !
وليس هذا كله إلا بداية الطريق .. وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا - على معاصيه - ما يحب . فإنما هو استدراج ) .. ثم تلا : { فلما نسوا ما ذكروا به أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}.. ( رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ) .
غير أنه ينبغي ، مع ذلك ، التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير (الباطل) أن يقوم في الأرض (حق) يتمثل في (أمة) .. ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .. فلا يقعدن أهل الحق كسالى يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد . فإنهم حبنئذ لا يمثلون الحق ، ولا يكونون أهله .. وهم كسالى قاعدون .. والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض، وتدفع المغتصبين لها من الذين يدعون خصائص الألوهية .. هذا هو الحق الأول والحق الأصيل .. { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } .. " (19)
وهكذا تتكرر هذه الآيات والمشاهد في القرآن الكريم تدعو الناس للنظر والتأمل ، وأخذ العبرة والعظة ، ويلمح المؤمن منها تثبيتاً لفؤاده ، وطمأنة لقلبه، ويرى آثار قدرة الله تعالى تصيب الكافرين ، وتهلك الظالمين على قوتهم وكثرتهم .
ولهذا فلا تغرنك قوة الباطل ولا صولته ، فإنه لا يعجز الله تعالى الذي يقول في كتابه :
{ ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغرنك تقلبهم في البلاد ، كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } غافر (4،5) .
فهذا هو مصير الكافرين على مر الزمان إذا ما أصروا على كفرهم ، وعلى تكذيبهم بالرسالة ، وعلى مواجهتهم للحق ، فهي سنة ثابتة متكررة لا تتغير ولا تتبدل ..
قال تعالى : { ألم نهلك الأولين ، ثم نتبعهم الآخرين ، كذلك نفعل بالمجرمين ، ويل يومئذ للمكذبين } المرسلات (16-19).(1/100)
وقال تعالى - أيضا - { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها} محمد (10) .
الورقة الثانية: نماذج وقصص قرآنية تقرر انتصار الحق على الباطل .
وتشتمل على العناوين التالية :
أولاً : انتصار الله لأنبيائه ورسله .
ثانياً : انتصار الله لطالوت على جالوت .
ثالثاً : انتصار الله للروم على الفرس .
رابعاً : انتصار الله لبيته الحرام .
أولاً : انتصار الله لأنبيائه ورسله
لقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم ، قصصاً لعدد من أنبيائه ورسله ، في معرض مواجهتهم لأقوامهم ، وما لا قوه في سبيل دعوتهم من المشاق ، والمصاعب ، والأذى .. وما تعرضوا له من ابتلاءات عدة كادت تودي بحياتهم لولا تدخل يد القدرة الإلهية في إنجائهم ، وانتصارهم في نهاية الأمر على أقوامهم ، وتخلصهم من الأذى الملحق بهم .
وهذه القصص مفادها العظة والعبرة ، والاستفادة منها في كل زمان ومكان بحسبة ، وهي دروس يستشف منها المسلم ما يعينه على مواصلة المسير مهما اشتد عليه البلاء ، فله في الأنبياء مَثَلٌ وقدوة ، وله في قصصهم عظة وعبرة .
وفي هذا الباب سنقتصر على ما حدث لأولي العزم من الرسل - على وجه الإيجاز - ونبين من خلال العرض القرآني كيف تدخلت يد القدرة الإلهية لانتصار هؤلاء الرسل وإنجائهم من أذى أقوامهم .
* انتصار الله تعالى لسيدنا نوح عليه السلام .
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم قصة نوح عليه السلام - في أكثر من موضع - وبينت الآيات مدى الجهد الذي بذله سيدنا نوح عليه السلام في تبليغ رسالة ربه إلى قومه ، وما لاقاه في سبيل دعوته مما بينته الآيات الكريمة .. كما ذكرت الآيات نهاية هذا الجهد النبوي بانتصار الله لنوح عليه السلام ولمن آمن معه ، وإهلاك الله تعالى للكافرين .
قال تعالى : { كذبت قبلهم قوم نوح . فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ، فدعى ربه أني مغلوب فانتصر ، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر ، وحملناه على ذات ألواح ودسر ، تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كفر ، ولقد تركناها آية فهل من مدكر، فكيف كان عذابي ونذر ، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } القمر (9-17) .
وقال تعالى : { قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ، تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، فاصبر ، إن العاقبة للمتقين } هود (48،49) .
"إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلام ، تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر ، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاما كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن ..
إن هذه الحفنة - وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل - قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون ، وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من الأرض ! وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك ، وبذرة العمران فيها والاستخلاف من جديد ..
.. وهذا أمر خطير ..
إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها ، والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة، كما تعاني الأذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل .. إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلاً أمام هذا الأمر الخطير ، وأمام دلالته التي تستحق التدبير والتفكير!
إن وجود البذرة المسلمة أمر عظيم في ميزان الله تعالى .. شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعاً،كما يستحق منه سبحانه أن يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنمو وترث الأرض وتعمرها من جديد!
لقد كان نوح عليه السلام يصنع الفلك بأعين الله ووحيه ، كما قال تعال : { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون }..
وعندما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترون عليه كما قال تعالى في سورة القمر : { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر . فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } ..
عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه " مغلوب " ويدعو ربه أن "ينتصر" هو وقد غلب رسوله .. عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب :
{ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر } ..
وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع المرهوب .. كان الله سبحانه - بذاته العليّة- مع عبده المغلوب : {وحملناه على ذات ألواح ودسر . تجري بأعيننا .. جزاءً لمن كان كفر ..}.
هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية ، وحين " تغلبها " الجاهلية !(1/101)
إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة .. وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان . فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى ! { وما يعلم جنود ربك إلا هو } ..
وإنه ليس عليها وإلاّ أن تثبت وتستمر في طريقها ، وإلاّ أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه ، وإلاّ أن تصبر حتى يأتي الله بأمره ، وإلاّ أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء . وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه ، إلاّ فترة الإعداد والابتلاء ، وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سيصنع لها ويصنع بها في الأرض ما يشاء .
.. وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم ..
إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله سبحانه بالربوبية ، كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده الذي يستنصر به حين يغلب فيدعوه : { أني مغلوب فانتصر } ..
إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة .. إن الجاهلية تملك قواها .. ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله. والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء وكيفما يشاء - وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب !
وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله .. ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله . ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلاّ اثني عشر مسلماً .. ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة والتدمير على البشرية الضالة جميعاً، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها .
إن عصر الخوارق لم يمض ! فالخوارق تتم في كل لحظة - وفق مشيئة الله الطليقة - ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطاً أخرى ، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها . وقد تدِق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها ، ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائماً ، ويلامسون آثارها المبدعة .
والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلاّ أن يؤدوا واجبهم كاملاً ، بكل ما في طاقتهم من جهد ، ثم يدَعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة . وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح : {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} .. ثم ينتظروا فرج الله القريب . وانتظار الفرج من الله عبادة ، فهم على هذا الانتظار مأجورون."(20)
-----------
* انتصار الله تعالى لخليله إبراهيم عليه السلام .
دعى إبراهيم -عليه السلام - قومه ، ولم يترك وسيلة أو حجة أو برهان إلا وعرضه على قومه . ولكنهم قابلوا هذة الدعوة الكريمة بالرفض ، والإصرار على الكفر ، حتى من أقرب الناس إليه .. ثم حاولوا التخلص منه بإحراقه ، ولكن الله تعالى كان لهم بالمرصاد ، فنجى الله تعالى خليله ونبيه ابراهيم - عليه السلام - ورد كيد الكافرين ، بل وألحق بهم الخسارة في الدنيا والآخرة .
وإليك طرفاً من قصة إبراهيم - عليه السلام - مع قومه يحكيها رب العزة في كتابه ..
قال تعالى - في معرض قصة إبراهيم عليه السلام - : { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ، قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون ، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ، ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ، قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئاً ولا يضركم ، أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ، قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ، قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ، وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين } الأنبياء ( 62 - 69) .
* وقال تعالى - في موضع آخر - : { فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه فأنجاه الله من النار ، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } العنكبوت(24) .
* وقال تعالى - كذلك - : { قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم ،فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين} الصافات (97-98).
"إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف الطغاة منطقاً سواه ، عندما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل . وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين .
ويختصر السياق هنا - أي في الآية الأخيرة - ما حدث بعد قولتهم تلك ، ليعرض العاقبة التي تحقق وعد الله لعباده المخلصين ووعيده لأعدائهم المكذبين : { فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين } ..
وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد ؟ وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل - من الطغاة والمتجبرين وأصحاب السلطان وأعوانهم من الكبراء - إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين ؟.."(21).
" { وقالوا حرّقوه } ولكن كلمة أخرى قد قيلت .. فأبطلت كل قول ، وأحبطت كل كيد ، ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد :{ قلنا : يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } ..
فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم ..
كيف ؟(1/102)
ولماذا نسأل عن هذه وحدها . و (كوني ) هذه هي الكلمة التي تكون بها أكوان ، وتنشأ بها عوالم ، وتخلق بها نواميس: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له :كن فيكون } .
فلا نسأل .كيف لم تحرق النار إبراهيم ، والمشهود والمعروف أن النار تحرق الأجسام الحية ؟ فالذي قال للنار : كوني حارقة . هو الذي قال لها : كوني برداً وسلاماً . وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول . مألوفاً للبشر أو غير مألوف .
إن الذين يقيسون أعمال الله سبحانه إلى أعمال البشر هم الذين يسألون : كيف كان هذا ؟ وكيف أمكن أن يكون ؟ فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين ، واختلاف الأداتين ، فأنهم لا يسألون أصلاً ، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلاً . علمياً أو غير علمي . فالمسألة ليست في هذا الميدان أصلاً . ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييس البشر . وكل منهج في تصور مثل هذه المعجزات غير منهج الأصالة إلى القدرة المطلقة هو منهج فاسد من أساسه، لأن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود .
إن علينا فقط أن نؤمن بأن هذا قد كان لأن صانعه يملك أن يكون ، أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام ؟ وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار .. فذلك ما سكت عنه النص القرآني لأنه لا سبيل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود . وليس لنا سوى النص القرآني من دليل.
وما كان تحويل النار برداً وسلاماً على إبراهيم إلا مثلاً تقع نظائره في صور شتى . ولكنها قد لا تهز المشاعر كما يهزها هذا المثل السافر الجاهر . فكم من ضيقات وكربات تحيط بالأشخاص والجماعات من شأنها أن تكون القاصمة القاضية ، وإن هي إلاّ لفتة صغيرة ، فإذا هي تحيي وتميت ، وتنعش ولا تخمد ، وتعود بالخير وهي الشر المستطير .
إن { يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } لتتكرر في حياة الأشخاص والجماعات والأمم ، وفي حياة الأفكار والعقائد والدعوات. وإن هي إلا رمز للكلمة التي تبطل كل قول ، وتحبط كل كيد ، لأنها الكلمة العليا التي لا ترد ! " (22) .
* * *
* انتصار الله تعالى لكليمه موسى عليه السلام :
ذكر الله تعالى -في مواضيع كثيرة من كتابه- قصة موسى -عليه السلام-، فقص الله علينا قصته منذ ولادته ، ونشأته ، ثم دعوته لقومه ولفرعون .. وسنقتصر في هذا المقام على ذكر ما منّ الله به على موسى - عليه السلام - ومن آمن معه بالنجاة من فرعون وجنوده ، ثم ما لحق فرعون وجنوده من الغرق والهلاك .. وكذلك ما منّ به على بني إسرائيل - بعد ذلك - من التمكين في الأرض ، والاستخلاف فيها.. وهذا ما قرره الله تعالى في كتابه بقوله :
{ طسم ، تلك آيات الكتاب المبين ، نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ، إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين ،ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } القصص (1-6) .
كان ذلك الفرعون الطاغية { علا في الأرض } وتكبر وتجبر ، وجعل أهل مصر شيعاً ، كل طائفة في شأن من شئونه .. ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل ، لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه ، فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ، ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف ، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد ، وإنكار أولوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعاً .
وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطراً على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر ، ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف ، فقد يصبحون إلْبا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب ، فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته ، تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال ، واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب . وبعد ذلك كله تذبح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم ، واستبقاء النساء كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم ، وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث ، فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب .
ورُوي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل ، ليبادر بذبح الذكور ، فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة ، التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة ... الخ .
ولكن الله يريد غير ما يريد فرعون ، ويقدر غير ما يقدر الطاغية . والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم ، فينسون إرادة الله وتقديره ، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون ، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون .ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون .(1/103)
والله يعلن هنا إرادته هو ، ويكشف عن تقديره هو ، ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما ، بأن احتياطهم وجذرهم لن يجديهم فتيلا :
{ ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } .
فهؤلاء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع النكير، فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، ويسومهم سوء العذاب والنكال . وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه ، فيبث عليهم العيون والأرصاد ، ويتعقب نسلهم من الذكور فيسلمهم إلى الشفار كالجزار ! هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم بهبّاته من غير تحديد ، وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيداً ولا تابعين ، وأن يورثهم الأرض المباركة ( التي أعطاهم إياها عندما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح ) وأن يمكنهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين . وأن يحقق ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما ، وما يتخذون الحيطة دونه ، وهم لا يشعرون ! " (23)
وبيّن الله تعالى في آيات أخرى طريقة الإنحاء لموسى ومن آمن معه، وطريقة الهلاك لفرعون وجنوده . كما في قوله تعالى : { وأوحينا إلى موسى أن اسر بعبادي إنكم متّبعون ، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون ، وإنا لجميع حاذرون ، فأخرجناهم من جنات وعيون ، وكنوز ومقام كريم ، كذلك وأورثناها بني إسرائيل ، فأتبعوهم مشرقين ، فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا ، إن معي ربي سيهدين ، فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين،ثم أغرقنا الآخرين} الشعراء(52-66) .
" لقد أوحى الله إلى موسى إذن أن يسري بعباده ، وأن يرحل بهم ليلاً ، بعد تدبير وتنظيم ،ونبأه أن فرعون سيتبعه بجنده، وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر ( وهو في الغالب عند التقاء خليج السويس بمنطقة البحيرات ) .
وعلم فرعون بخروج بني إسرائيل خلسة ، فأمر بما يسمى "التعبئة العامة " وأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له الجنود ، ليدرك موسى وقومه ، ويفسد عليهم تدبيرهم ، وهو لا يعلم أنه تدبير صاحب التدبير!
وانطلق عملاء فرعون يجمعون الجند .. ولكن هذا الجمع قد يشي بانزعاج فرعون ، وبقوة موسى ومن معه وعظم خطرهم ، حتى ليحتاج الملك الإله - بزعمه ! - إلى التعبئة العامة . ولا بد إذاً من التهوين من شأن المؤمنين :{ إن هؤلاء لشرذمة قليلون } !
ففيم إذن ذلك الاهتمام بأمرهم ، والاحتشاد لهم ، وهم شرذمة قليلون !
{ وإنهم لنا لغائظون } ..
فهم يأتون من الأفعال والأقوال ما يغيظ ويغضب ويثير !
وإذن فلهم شأن وخطر على كل حال ! فليقل العملاء : إن هذا لا يهم ونحن لهم بالمرصاد :
{ وإنا لجميع حاذرون } ..
مستيقظون لمكائدهم ، محتاطون لأمرهم ، ممسكون بزمام الأمور !
إنها خبرة الباطل المتجبر دائماً في مواجهة أصحاب العقيدة المؤمنين!
وقبل أن يعرض المشهد الأخير ، يعجل السياق بالعاقبة الأخيرة من إخراج فرعون وملئه مما كانوا فيه من متاع . ووراثة بني إسرائيل المستضعفين :
{ فأخرجناهم من جنات وعيون . وكنوز ومقام كريم . كذلك وأورثناها بني إسرائيل } ..
لقد خرجوا يتبعون خطى موسى وقومه ويقفون أثرهم . فكانت خرجتهم هذه هي الأخيرة . وكانت إخراجاً لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم ، فلم يعودوا بعدها لهذا النعيم ! لذلك يذكر هنا المصير الأخير عقب خروجهم يقفون أثر المؤمنين . تعجبلاً بالجزاء على الظلم والبطر والبغي الوخيم.
{ وأورثناها بني إسرائيل } ..
ولا يعرف أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر بعد خروجهم إلى الأرض المقدسة ، وورثوا ملك مصر وكنوز فرعون ومقامه. لذلك يقول المفسرون : إنهم ورثوا مثل ما كان لفرعون وملئه . فهي وراثة لنوع ما كانوا فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم .
وبعد هذا الاعتراض يجيء المشهد الحاسم الأخير :
{ فأتبعوهم مشرقين ، فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا ، إن معي ربي سيهدين ، فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ، ثم أغرقنا الآخرين } ..
لقد أسرى موسى بعباد الله ، بوحي من الله وتدبير . فأتبعهم جنود فرعون في الصباح بمكر من فرعون وبطر . ثم هاهو ذا المشهد يقترب من نهايته . والمعركة تصل إلى ذروتها .. إن موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفن ولا هم يملكون خوضه وما هم بمسلحين . وقد قاربهم فرعون بجنوده وهم شاكي السلاح يطلبونهم ولا يرحمون !
وقالت دلائل الحال كلها : أن لا مفر والبحر أمامهم والعدو خلفهم :
{ قال أصحاب موسى : إنا لمدركون } .
وبلغ الكرب مداه وإن هي إلا دقائق تمر ثم يهجم الموت ولا مناص ولا معين !(1/104)
ولكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه ، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه ، واليقين بعونه ، والتأكد من النجاة ، وإن كان لا يدري كيف تكون . فهي لا بد كائنة والله هو الذي يوجهه ويرعاه .
{ قال : كلا إن معي ربي سيهدين } ..
كلا . في شدة وتوكيد ، كلا لن نكون مدركين . كلا لن نكون هالكين . كلا لن نكون مفتونين . كلا لن نكون ضائعين { كلا إن معي ربي سيهدين} بهذا الجزم والتأكيد واليقين .
وفي اللحظة الأخيرة ينبثق الشعاع المنير في ليل اليأس والكرب ، وينفتح طريق النجاة من حيث لا يحتسبون :
{ فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر } ..
ولا يتمهل السياق ليقول إنه ضرب بعصاه البحر . فهذا مفهوم . إنما يعجل بالنتيجة : { فانفلق . فكان كل فرق كالطود العظيم } ..
ووقعت المعجزة ، وتحقق الذي كان يقول عنه الناس : مستحيل لأنهم يقيسون سنة الله على المألوف المكرور . والله الذي خلق السنن قادر على أن يجريها وفق مشيئته عندما يريد .
وقعت المعجزة وانكشف بين فرقي الماء طريق . ووقف الماء على جانبي الطريق كالطود العظيم . واقتحم بنو إسرائيل ..
ووقف فرعون مع جنوده مبغوتاً مشدوهاً بذلك المشهد الخارق ، وذلك الحادث العجيب .
ولا بد أن يكون قد وقف مبهوتاً فأطال الوقوف - وهو يرى موسى وقومه يعبرون الخضم في طريق مكشوف - قبل أن يأمر جنوده بالاقتحام وراءهم في ذلك الطريق العجيب .
وتم تدبير الله فخرج بنو إسرائيل من الشاطىء الآخر ، بين ما كان فرعون وجنوده بين فرقي الماء أجمعين .
وقد قربهم الله لمصيرهم المحتوم :
{ وأزلفنا ثم الآخرين . وأنجينا موسى ومن معه أجمعين } ..
{ ثم أغرقنا الآخرين } . !!!
ومضت آية في الأمان ، تتحدث عنها القرون . فهل آمن بها الكثيرون ؟ ." (24)
-----------
* انتصار الله تعالى لكلمته عيسى عليه السلام .
أرسل الله تعالى إلى بني إسرائيل رسلاً وأنبياء كثر ، إلا أن أكثرهم بقوا على كفرهم وعنادهم ، بل إنهم تطاولوا على رسلهم ، ومكروا وكادوا لهم . ولكن الله تعالى لم يتخلى عن رسله ، بل نصرهم وأيدهم ورد كيدهم ومكرهم .
ومن بين هؤلاء الرسل سيدنا عيسى - عليه السلام - ، أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل فآمن به البعض وهم الحواريون .. وأما اليهود - كعادتهم - كفروا بعيسى -عليه السلام - بل دبروا له مكيدة ليقتلوه ، ولكن الله كان لهم بالمرصاد فنجى الله تعالى رسوله من بين أيديهم ، ونصر الله دينه ، وأيد الله المؤمنين به ، ونصرهم على أعدائهم . فعن قصة عيسى - عليه السلام - مع قومه يقول الله تعالى: { فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ، قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ، ربنا آمنا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ، إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلىّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } آل عمران (52-55)
" والمكر الذي مكره اليهود الذين لم يؤمنوا برسولهم عيسى -عليه السلام- مكر طويل عريض . فقد قذفوه عليه السلام وقذفوا الطاهرة أمه مع يوسف النجار خطيبها الذي لم يدخل بها كما تذكر الأناجيل.. وقد اتهموه بالكذب والشعوذة ، ووشوا به إلى الحاكم الروماني "بيلاطس" وادعوا انه "مهيج" يدعوا الجماهير للإنتفاض على الحكومة ! وأنه مشعوذ يحرف ويفسد عقيدة الجماهير ! حتى سلم لهم بيلاطس بأن يتولى عقابه بأيديهم ، لأنه لم يجرؤ - وهو وثني - على احتمال تبعة هذا الإثم مع رجل لم يجد عليه ريبة .. وهذا قليل من كثير ..
{ ومكروا ومكر الله . والله خير الماكرين } ..
والمشاكلة هنا في اللفظ هي وحدها التي تجمع بين تدبيرهم وتدبير الله .. والمكر التدبير .. ليسخر من مكرهم وكيدهم إذا كان الذي يواجهه هو تدبير الله . فأين هم من الله ؟ وأين مكرهم من تدبير الله؟
ولقد أرادوا صلب عيسى - عليه السلام - وقتله . وأراد الله ان يتوفاه ، وأن يرفعه إليه ، وأن يطهره من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم وهم رجس ودنس ،وأن يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ..وكان ما أراد الله. وأبطل الله مكر الماكرين:
{ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلىّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } . " (25)
وقال تعالى تأكيداً على انتصاره لرسوله : { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ، ما لهم به من علم إلاّ اتباع الظن ، وما قتلوه يقيناً . بل رفعه الله إليه ، وكان الله عزيزاً حكيماً } النساء (157،158) .(1/105)
كما ذكّرنا الله تعالى بقصة عيسى - عليه السلام - ، في معرض تبشير المؤمنين بالنصر والفتح القريب .. ودعا الله المؤمنين أن ينصروا الله بنصرة دينه وشريعته ، كما نصر الحواريون عيسى عليه السلام .. وعلمهم أن هذه النصرة - لدين الله - هي طريق النصر والتمكين .
وفي ذلك يقول الله تعالى : { وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ، يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله ، قال الحواريون نحن أنصار الله ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } الصف (13،14) .
-------
* انتصار الله تعالى لعبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -:
تعرض رسولنا الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - لما تعرض له الأنبياء والرسل السابقين من الأذى والابتلاء ، وصبر على ذلك كله .. ولما أرادت قريش أن تتخلص من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتقضي على دعوته ، عندها تدخلت يد القدرة الإلهية للانتصار لرسوله ، حتى وصل إلى المدينة المنورة بسلام ، تحت حفظ الله ورعايته .
وفي ذلك مثل للمؤمنين في كل زمان ، وللدعاة إلى الله ، ليعلّمهم أن الله معهم ، يؤيدهم ، وينصرهم .. وإن فقدوا كل أسباب العون ، والقوة ، وفي بيان هذا المثل التاريخي يقول الله تعالى : { إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم } التوبة (40) .
" ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به وقررت أن تتخلص منه ، فأطلعه الله على ما ائتمرت ، وأوحى إليه بالخروج ، فخرج وحيداً إلاّ من صاحبه الصديق ، لا جيش ولا عدة ، وأعداؤه كثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة . والسياق يرسم مشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه : { إذ هما في الغار } ..
والقوم على إثرهم يتعقبون ، والصديق - رضي الله عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب ، يقول له : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . والرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزل الله سكينته على قلبه ، يهديء من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ ) .
ثم ماذا كانت العاقبة ، والقوة المادية كلها في جانب ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - مع صاحبه منها مجرد ؟ كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس . وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } ..
وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة :{ وكلمة الله هي العليا } ..
وقد قرئ { وكلمةَ الله } بالنصب . ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى. لأنها تعطي معنى التقرير . فكلمة الله هي العليا طبيعة وأصلاً ، بدون تصير متعلق بحادثة معينة . والله "عزيز" لا يذل أولياؤه. "حكيم" يقدر النصر في حينه لمن يستحقه .
ذلك مثل على نصرة الله لرسوله ولكلمته ، والله قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون. وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول الله إلى دليل ! " (26)
--------
وهكذا تجلت قدرة الله في نصرته لأنبيائه ورسله مما قصه الله تعالى علينا في كتابه الكريم ، وكما بينا في الآيات السابقة، والتي تلقي في النفس المؤمنة ظلال الطمأنينة والثقة والتثبيت في زمن اليأس والعجز والضعف ، وهذه هي حكمة ذكر قصص الأنبياء والرسل في كتاب الله .. كما ذكر الله تعالى لرسوله بقوله:{ وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحق ، وموعظة ، وذكرى للمؤمنين } هود(120).
" لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة . والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها ، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها ، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية ! فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق ، ويريهم معلمه في مراحله جميعاً ، ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق، وقد بات لاحباً موصولاً بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري ، وبات بهذا الركب الكريم مأنوساً مألوفاً لا موحشاً ولا مخوفاً ! .. وإنهم زمرة من موكب موصول في طريق معروف ، وليسوا مجموعة شاردة في تيه مقطوع ! وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية ، ولا يمضون هكذا جزافاً يتبعون الصدفة العابرة!
وهكذا كان القرآن يتحرك في الصف المسلم ، ويحرك هذا الصف حركة مرسومة مأمونة ..
وهكذا يمكن اليوم وغداً أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي ، ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم ..(1/106)
إن هذه الطلائع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه . تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها ، وتستوحيه فيما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات ، وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق .
والقرآن - بهذه الصورة - لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة . ولكنه ينتفض حياً يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة ، لتتحرك به ، وتتابع توجيهاته وتتوقع موعد الله فيه .
وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به ، لتحقيق مدلوله في عالم الواقع . لا لمن يقرأونه لمجرد التبرك ! ولا لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية ، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه !
إن هؤلاء جميعاً لن يدركوا من هذا القرآن شيئاً يذكر . فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو ، إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه .
إن الذين يواجهون الجاهلية الطاغية بالإسلام الحنيف ، والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى الإسلام من جديد ، والذين يكافحون الطاغوت في الأرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده ..
إن هؤلاء وحدهم هم الذين يفقهون هذا القرآن ، لأنهم يعيشون في مثل هذا الجو الذي نزل فيه : ويحاولون المحاولة التي كان يحاولها من تنزل عليهم أول مرة ، ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوصه لأنهم يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع .. وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من عذابات وآلام . أأقول : جزاء ؟!
كلا . والله إنه لفضل من الله كبير .. { قل فبفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } .. " (27)
ثانياً : انتصار الله تعالى لأوليائه المؤمنين :
كانتصار طالوت على جالوت .
وكما نصر الله تعالى أنبياءه ورسله فإنه تعالى نصر عباده المؤمنين في صراعهم مع الباطل .. ومما قصه الله تعالى علينا في كتابه قصة انتصار طالوت على جالوت ، حيث نصر الله تعالى الفئة المؤمنة القليلة ، على الفئة القوية الكثيرة .. كما نصر الله تعالى المؤمنين في غزوة بدر ..
ودعونا نستعرض قصة انتصار طالوت كما بينها الله في كتابه إذ يقول : { فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ، فشربوا منه إلا قليلاً منهم ، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين ، ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فهزموهم بإذن الله ، وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ، ولكن الله ذو فضل على العالمين ، تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين } البقرة (249-252) .
وفي بداية هذه الآيات : " يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل .. إنه مقدم على معركة ، ومعه جيش من أمة مغلوبة ، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة . وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة . هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في قوة الإرادة . الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات ، وتصمد للحرمان والمشاق ، وتستعلي على الضرورات والحاجات ، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها ، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء .. فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه ، وصموده وصبره : صموده أولاً للرغبات والشهوات ، وصبره ثانياً على الحرمان والمتاعب .. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش ، ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه ، ويؤثر العافية .. وصحت فراسته : { فشربوا منه إلا قليلاً منهم } ..
شربوا وارتووا . فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده ، تبل الضمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف ! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم . انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم . وكان من الحزم ومن الخير أن يتفصلوا عن الجيش الزاحف ، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة . والجيوش ليست بالعدد الضخم ، ولكن بالقلب الصامد ، والإرادة الجازمة ، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق .
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي ولا بد من التجربة العملية ، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها . ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عن التجربة الأولى .. بل مضى في طريقه .
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت - إلى حد - ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد :{ فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } ..(1/107)
لقد صاروا قلة . وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته : بقيادة جالوت . إنهم مؤمنون لم ينكصوا عهدهم مع نبيهم . ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسبون أنهم أضعف من مواجهته . إنها التجربة الحاسمة . تجربة الإعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور . وهذه لا يصمد لها إلاّ من اكتمل إيمانهم ، فاتصلت بالله قلوبهم ، وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم ، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم !
وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة . والفئة ذات الموازين الربانية: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين } ..
هكذا .. { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } .. بهذا التكثير . فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقوا الله . القاعدة : أنة تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار . ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ، ولأنها تمثل القوة الغالبة . قوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين ، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين .
وهم يكلون هذا النصر لله { بإذن الله } .. ويعللونه بعلته الحقيقية : { والله مع الصابرين } .. فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل ..
ونمضي مع القصة . فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله ، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء ، وتستمد قوتها كلها من إذن الله ، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله ، وأنه مع الصابرين .. إذاً هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة ، الثابتة، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته ، مع ضعفها وقلتها .. إذاً هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة . بعد أن تجدد عهدها مع الله ، وتتجه بقلوبها إليه ، وتطلب النصر منه وحده ، وهي تواجه الهول الرعيب :
{ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء } ..
هكذا .. { ربنا أفرغ علينا صبراً } .. وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضاً من الله يفرغه عليهم فيغمرهم ، ويسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالاً للهول والمشقة . { وثبت أقدامنا} .. فهي في يده - سبحانه - فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد . { وانصرنا على القوم الكافرين } .. فقد وضح الموقف .. إيمان تجاه كفر . وحق إزاء باطل . ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين . فلا تلجلج في الضمير ، ولا غبش في التصور ، ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق .
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها : { فهزموهم بإذن الله } .. ويؤكد النص هذه الحقيقة : { بإذن الله } .. ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما . وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون ، ولطبيعة القوة التي تجريه.. إن المؤمنين ستار القدرة ، يفعل الله بهم ما يريد ، وينفذ بهم ما يختار .. بإذنه .. ليس لهم من الأمر شيء ، ولا حول لهم ولا قوة ، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته ، فيكون منهم ما يريده بإذنه .. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين .. إنه عبد الله اختاره الله لدوره . وهذه منة من الله وفضل . وهو يؤدي هذا الدور المختار ، ويحقق قدر الله النافذ . ثم يكرمه الله - بعد كرامة الاختيار - بفضل الثواب .. ولولا فضل الله ما فعل ، ولولا فضل الله ما أثيب .. ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق .. فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي ، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد . استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص .
ويبرز السياق دور داود : { وقتل داود جالوت } ..
وداود كان فتى صغيراً من بني إسرائيل . وجالوت كان ملكاً قوياً وقائداً مخوفاً ..ولكن الله شاء أن يري القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها ، إنما تجري بحقائقها . وحقائقها لا يعلمها إلا هو .ومقاديرها في يده وحده . فليس عليهم إلاّ أن ينهضوا هم بواجبهم ، ويفوا الله بعهدهم . ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده . وقد أراد الله أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير ، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم الناس ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم .. وكانت هناك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله . فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت ، ويرثه ابنه سليمان ، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل ، جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود : { وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء } .. " (28)
-----------(1/108)
ثالثاً : انتصار الله تعالى لعقيدة التوحيد على الوثنية .
كانتصار الله تعالى للروم على الفرس .
" نزلت الآيات الأولى من سورة الروم بمناسبة معينة . وذلك حين غلبت فارس على الروم فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب . وكان ذلك في إبان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل الهجرة والمشركين .. ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب دينهم النصرانية ، وكان الفرس غير موحدين ديانتهم المجوسية ، فقد وجد المشركون من أهل مكة فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد ، وفألاً بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان .
ومن ثم نزلت الآيات الأولى بهذه السورة تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرح لها المؤمنون ، الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين " .
يقول الله تعالى في بيان ذلك : { ألم ، غلبت الروم ، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ،في بضع سنين ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، ويومئذ يفرح المؤمنون ، بنصر الله ، ينصر من يشاء ، وهو العزيز الرحيم ، وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } الروم (1-7).
" روى ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه - قال : كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم : فلما نزلت { ألم . غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين } قالوا يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين . قال : صدق . قالوا : هل لك أن نقامرك ؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين . فمضت السبع ولم يكن شيء . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( ما بضع سنين عندكم؟) قالوا : دون العشر . قال : ( اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجر في الأجل ) . قال فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس . ففرح المؤمنون بذلك .
وقد وردت في هذا الحادث روايات كثيرة اخترنا منها رواية الإمام ابن جرير ، وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان . ومع أن الدول قديماً لم تكن شديدة الاتصال ، والأمم لم تكن وثيقة الارتباط . كما هو الشأن في عصرنا الحاضر . مع هذا فإن المشركين في مكة يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم ، وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب ، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان ، وكانوا يدركون أن دعوتهم وان قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم ، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان .
وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا ، ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ حوالي أربعة عشر قرناً . ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية ، ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان ، وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان.
وما أحوج المسلمون اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة ، وحقيقة القضية ، فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر . فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة ، مهما تنوعت العلل والأسباب .
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله ، كما تبدو في قولة أبي بكر - رضي الله عنه - في غير تلعثم ولا تردد، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه ، فما يزيد على أن يقول صدق . ويراهنونه فيراهن وهو واثق . ثم يتحقق وعد الله ، في الأجل الذي حدده { في بضع سنين } .. وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقيناً وثباتاً في وجه العقبات والآلام والمحن ، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله . وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل .(1/109)
والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر ، من قول الله سبحانه : { لله الأمر من قبل ومن بعد } .. والمسارعة برد الأمر كله لله . في هذا الحادث وفي سواه . وتقرير هذه الحقيقة الكلية، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف ، فالنصر والهزيمة وظهور الدول ودثورها ، وضعفها وقوتها . شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال ، مرده كله إلى الله ، يصرفه كيف يشاء ، وفق حكمته ووفق مراده . وما الأحداث والأحوال إلا آثاراً لهذه الإرادة المطلقة ، التي ليس لأحد عليها من سلطان ، ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة ، ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله . وإذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدرٍ مرسوم . " (29)
00000000000
رابعاً : انتصار الله تعالى لمقدساته :
كانتصاره تعالى لبيته الحرام .
إن أيدي الكفر والضلال ، تطاولت على الحق وأهله ، حتى على مقدساته وشعائره .. وضرب الله لنا على ذلك مثلاً في كتابه .. في قصة أصحاب الفيل، وبين الله تعالى لنا نصرته لبيته ، وإنزاله العقوبة العاجلة على من حاول هدمه أو المساس به أو النيل من قدسيته . وذلك في قوله تعالى :
{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، ألم يجعل كيدهم في تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول } الفيل(1-59 ) .
و " تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة ، عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير ، محضن العقيدة الجديدة ، والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض، وإقرار الهدى والحق والخير فيها ..
وجملة ما تشير إليه الروايات المتعددة عن هذا الحادث ، أن الحاكم الحبشي لليمن - في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها - وتسميه الروايات " أبرهة " ، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة وجمع لها كل أسباب الفخامة ، على نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة ، وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم إلى هذا البيت ، شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشماليها كذلك . وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية.. ولكن العرب لم ينصرفوا عن بيتهم المقدس ، فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي البيت ، وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقة الفخر بالأنساب . وكانت معتقداتهم - على تهافتها - أفضل في نظرهم من معتقدات أهل الكتاب من حولهم ، وهم يرون ما فيها من خلل واضطراب متهافت كذلك .
عنذئذ صح عزم " أبرهة " على هدم الكعبة ليصرف الناس عنها وقاد جيشاً جراراً تصاحبه الفيلة ، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم . فتسامع العرب به وبقصده . وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم . فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن البيت الحرام ، فأجابه إلى ذلك من أجابه . ثم عرض له فقاتله ، ولكنه هزم وأخذه أبرهة أسيراً .
ثم وقف له في الطريق كذلك نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عرب كثير ، فهزمهم كذلك وأسر نفيلاً ، والذي قبل أن يكون دليله في أرض العرب .
حتى إذا مر بالطائف خرج له رجال من ثقيف فقالوا له : إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة . وذلك ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه لللات ! وبعثوا معه من يدله على الكعبة !
فلما كان أبرهة بالمغمس بين الطائف ومكة ، بعث قائداً من قواده حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم ، فأصاب فيها مئتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها . فهمّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله . ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة رسولاً إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد ، ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت ، فإن لم يعترضوا له فلا حاجة له في دمائهم ! فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك .. فلما كلم عبد المطلب فيما جاء به قال له : والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة . هذا بيت الله الحرام . وبيت خليله إبراهيم عليه السلام .. فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه .. فانطلق معه إلى أبرهة..(1/110)
قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم . فلما رآه أبرهة أجلّه وأعظمه ، وأكرمه عن أن يجلس تحته . وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه . فنزل أبرهة عن سريره . فجلس على بساط وأجلسه معه إلى جانبه . ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال ذلك . قال أبرهة لترجمانه ، قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ! أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ؟ قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل . وإن للبيت رب سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني . قال : أنت وذاك ! .. فرد عليه إبله .
ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال . ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه . وروي عن عبد المطلب أنه أنشد :
لاهمّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك .
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك .
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك !
فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له . فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها ، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا . وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء ( أي حرنت ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل .. ) - أخرجه البخاري - ، وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة : ( إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فاليبلغ الشاهد الغائب ) ، فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل ..
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده ، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر ، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة . كما يحكي عنهم القرآن الكريم .. وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، حتى قدموا به صنعاء ، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات .. " (30)
" فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة .. وأول ما توحي به أن الله - سبحانه - لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين ، ولو أنهم كانوا يفترون بهذا البيت ، ويحمونه ويحتمون به . فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركون ينهزمون أمام القوة المعتدية. وتدخلت القدرة سافرة لتدفع عن بيت الله الحرام ، حتى لا تتكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته ، بحميتهم الجاهلية . ولعل هذه الملابسات ترجح ترجيحاً قوياً أن الأمر جرى في إهلاك المعتدين مجرى السنة الخارقة - لا السنة المألوفة المعهودة - فهذا أنسب وأقرب ..
ولقد كان من مقتضى هذا التدخل السافر من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام أن تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع من الإسلام ! وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم ، والتعجب من موقفهم العنيد!
كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدّر لأهل الكتاب - أبرهة وجنوده - أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة . حتى والشرك يدنسه ، والمشركون هم سدنته . ليبقى هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين ، مصوناً من كيد الكائدين . وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة ، لا يهيمن عليها سلطان ، ولا يطغى فيها طاغية ، ولا يهمن على هذا الدين الذي جاء ليهمن على الأديان وعلى العباد ، ويقود البشرية ولا يقاد . وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام !
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن ، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية ، والصهيونية العالمية ، ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة . فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون ، سيحفظه إن شاء الله ، ويحفظ مدينة رسوله - ( ومسجده الأقصى ) _ من كيد الكائدين ومكر الماكرين ! " (31) .
000000
الورقة الثالثة : تكاليف النصر وأعباؤه
إن من معالم النصر أنه إذا جاء نصر الله تعالى لعباده المؤمنين فإن هذا لا يعني نهاية الطريق وبلوغ الغاية.. بل للنصر تكاليفه وأعباؤه في ذات النفس وفي واقع الحياة ..(1/111)
" للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر، وفي عدم التراخي بعده والتهاون ، وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء، ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء، وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر " (32) .
ويمكننا أن نتعرف على هذه التكاليف وهذه الأعباء من خلال الوقوف عند الآيات التالية :
* قال الله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور} الحج(40،41) .
" فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره.. فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله، فيستحقون نصر الله، القوي الذي لا يهزم من يتولاه ؟ .إنهم هؤلاء: {الذين إن مكناهم في الأرض}.. فحققنا لهم النصر، وثبتنا لهم الأمر.. {أقاموا الصلاة}.. فعبدوا الله، ووثقوا صلتهم به، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين.. {وآتوا الزكاة}.. فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهّروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحي -كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).. {وأمروا بالمعروف}.. فدعوا إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس.. {ونهوا عن المنكر}.. فقاوموا الشر والفساد، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقي على منكر وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه..
هؤلاء هم الذين ينصرون الله، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة، معتزين بالله وحده دون سواه. وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين .
فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته، المشروط بتكاليفه وأعبائه.. والأمر بعد ذلك لله، يصرفه كيف شاء، فيبدل الهزيمة نصرا، والنصر هزيمة، عندما تختل القوائم، أو تهمل التكاليف: {ولله عاقبة الأمور } .
إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة. من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح. المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات، والمطامع والشهوات .
وهو نصر له سببه. وله ثمنه. وله تكاليفه. وله شروطه. فلا يعطى لأحد جزافاً أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه.." (33) .
* ومن الآيات المشيرة إلى بعض هذه التكاليف أيضاً -قوله تعالى:{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. يعبدونني لا يشركون بي شيئاً. ومن كفر بعد ذلك فألئك هم الفاسقون، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} النور (55،56) . " فما حقيقة الاستخلاف في الأرض؟
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم.. إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء، وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه، وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقرر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله .
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد. وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان"!
" لقد تحقق وعد الله مرة. وظل متحققاً وواقعاً ما قام المسلمون على شرط الله: {يعبدونني لا يشركون بي شيئاً}.. لا من الآلهة ولا من الشهوات. ويؤمنون -من الإيمان- ويعملون صالحاً. ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة. إنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن، لتخلّف شرط الله في جانب من جوانبه القيمة ، أو في تكليف من تكاليفه الضخمة، حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء، وجازت الابتلاء ، وخافت فطلبت الأمن، وذلّت فطلبت العزة، وتخلّفت فطلبت الاستخلاف.. كل ذلك بوسائله التي أرادها الله، وبشروطه التي قررها الله.. تحقق وعد الله الذي لا يتخلف، ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعاً .(1/112)
لذلك يعقب على هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة، وبألاّ يحسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمته حساباً لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون}... فهذه هي العدة.. الاتصال بالله، وتقويم القلب بإقامة الصلاة. والاستعلاء على الشح، وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة. وطاعة الرسول والرضى بحكمه، وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة، وتحقيق النهج الذي أراده للحياة: {لعلكم ترحمون} في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال، وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال " ..
" إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات. ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية، وهو يدرك شروطها على حقيقتها، قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب، أو يستبطئ وقوعها في حالة من الحالات . إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله، وحكمت هذا النهج في الحياة، وارتضته في كل أمورها.. إلاّ تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن. وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلاّ تخلفت في ذيل القافلة، وذلّت، وطرد دينها من الهيمنة على البشرية، واستبدّ بها الخوف، وتخطفها الأعداء " (34) .
* والله تبارك وتعالى قد جعل هذه الأمة خير الأمم وأخرجها إلى الناس لتقوم بدورها، وتنهض بتبعاتها وتكاليفها .
قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} آل عمران (110) .
" وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة، لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أُخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة. والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض. ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية. إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها. وأن يكون لديها دائما ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور الصحيح، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والعلم الصحيح.. هذا واجبها الذي يحتمها عليها مكانها، وتحتمه عليها غاية وجودها. واجبها أن تكون في الطليعة دائما، وفي مركز القيادة دائما. ولهذا المركز تبعاته، فهو لا يؤخذ ادعاءاً، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلا له.. وهي بتصورها الاعتقادي ، وبنظامها الاجتماعي أهل له. فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي، وبعمارتها للأرض -قياما بحق الخلافة- أهلا له كذلك.. ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير، ويدفعها إلى السبق في كل مجال.. لو أنها تتبعه وتلتزم به، وتدرك مقتضياته وتكاليفه.
وفي أول مقتضيات هذا المكان، أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد.. وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي خير أمة أخرجت للناس. لا عن مجاملة أو محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف -تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا-، وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون.. "نحن أبناء الله وأحباؤه".. كلا! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدده المعروف والمنكر: "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " ..
فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب، وبكل ما في طريقها من أشواك.. إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد.. وكل هذا متعب شاق، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته، ولتحقيق الصورة التي يجب الله أن تكون عليها الحياة..
ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر. فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي. فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل .
ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير والشر، وللفضيلة والرذيلة، والمعروف والمنكر. يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال .
وهذا ما يحققه الإيمان بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه. وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون.. ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية. ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد. ومن سلطان الله في الضمائر، وسلطان شريعته في المجتمع، تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك .(1/113)
ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق، ويحتملوا تكاليفه. وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها، ويواجهون هبوط الأرواح، وكلل العزائم، وثقلة المطامع.. وزادهم هو الإيمان، وعدتهم هي الإيمان. وسندهم هو الله.. وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد. وكل عدة سوى عدة الإيمان تُفل، وكل سند غير سند الله ينهار! "(35) .
ومن الآيات الواضحة التي بينت طرفاً من هذه التكاليف -من تكاليف النصر- هي سورة النصر حيث يقول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} النصر (1-3).
ولنقف مع سيد قطب -رحمه الله- يحدثنا عن ظلال هذه الآيات، وما بينه من تكاليف النصر وأعباءه حيث يقول :-
" في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص،... هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله...} فهو نصر الله يجيء به الله.. وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء... وبناءً على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه بإزاء تكريم الله لهم، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم .
إن شأنه -ومن معه- هو الاتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار .
التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراساً لدينه، وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجاً في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والأحزان .
والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل :
* الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح، وفرحة الظفر بعد طول العناء، وهو مدخل يصعب توقّيه في القلب البشري. فمن هذا يكون الاستغفار
* والاستغفار مما قد يكون ساور القلب، أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاس ، والشدة الطاغية والكرب الغامر.. من ضيق بالشدة، واستبطاء لوعد الله بالنصر، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب} البقرة (214). فمن هذا يكون الاستغفار .
* وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار.. ففيه إيحاء للنفس وإشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز. فأولى أن تطامن من كبريائها، وتطلب العفو من ربها. وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور.. ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلباً للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين، ليرقب المنتصر الله فيهم، فهو الذي سلطه عليهم، وهو العاجز القاصر المقصر. وإنها سلطة الله عليهم تحقيقاً لأمر يريده هو. والنصر نصره، والفتح فتحه، والدين دينه، وإلى الله تصير الأمور .
00000000000
إنه الأفق الوضىء الكريم، الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتتطلع إليه، وترقى في مدارجه ، على حدائه النبيل البار .
الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه، وترف فيه روحه طليقة لأنها تعنوا لله !
إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحاً من روح الله. ليس لها حظ في شيء إلاّ رضاه. ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق، وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة، وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة، بانية عادلة خيرة،.. الاتجاه فيها إلى الله .
وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته، مقيد برغباته، مثقل بشهواته. عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه، ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده .
وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائماً، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه ، أو تتطلع إلى هذه الأفاق دائماً ..
* كان هذا هو أدب يوسف -عليه السلام- في اللحظة التي تم له فيها كل شيء، وتحققت رؤياه: {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً، وقال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً. وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي . إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم} يوسف(100)..(1/114)
وفي هذه اللحظة نزع يوسف -عليه السلام- نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر. كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السماوات والأرض، أنت وليّي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً، وألحقني بالصالحين} يوسف (101).. وهنا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان، ويبدو المشهد الأخير مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ريه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين عنده. من فضله ومنه وكرمه ...
* وكان هذا هو أدب سليمان -عليه السلام- وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضراً بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه: {فلما رآه مستقراً عنده قال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غنيٌ كريم} النمل (40)
* وهذا كان أدب محمد -صلى الله عليه وسلم- في حياته كلها، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له.. انحنى لله شاكراً على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة. مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة.. فلما أن جاءه نصر الله والفتح، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر، وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار، وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده، رضي الله عنهم أجمعين .
وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله، وهكذا أشرقت وأشرفت ورفرفت، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق.."(36).
_________________
فهرس النصوص المنقولة من كتاب "في ظلال القرآن"
لسيد قطب رحمه الله
- بطبعة دار العلم للطباعة والنشر بجدة -
الرقم ... الجزء ... الصفحة ... ... الرقم ... الجزء ... الصفحة
1 ... 4 ... 2247 ... ... 19 ... 2 ... 1088
2 ... 5 ... 2915 ... ... 20 ... 4 ... 1892
3 ... 4 ... 2372 ... ... 21 ... 5 ... 2993
4 ... 3 ... 1643 ... ... 22 ... 4 ... 2387
5 ... 6 ... 3330 ... ... 23 ... 5 ... 2677
6 ... 6 ... 3558 ... ... 24 ... 5 ... 2597
7 ... 5 ... 3001 ... ... 25 ... 1 ... 397
8 ... 6 ... 3514 ... ... 26 ... 3 ... 1656
9 ... 5 ... 3085 ... ... 27 ... 4 ... 1948
10 ... 4 ... 2528 ... ... 28 ... 1 ... 262
11 ... 1 ... 365 ... ... 29 ... 5 ... 2754
12 ... 1 ... 485 ... ... 30 ... 6 ... 3974
13 ... 1 ... 443 ... ... 31 ... 6 ... 3980
14 ... 2 ... 782 ... ... 32 ... 6 ... 3289
15 ... 6 ... 3300 ... ... 33 ... 4 ... 2427
16 ... 1 ... 516 ... ... 34 ... 4 ... 2529
17 ... 6 ... 3435 ... ... 35 ... 1 ... 441
18 ... 5 ... 2760 ... ... 36 ... 6 ... 3996
------------------
ومن أساليب الكفار تكذيب الرسل
قال تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) [يس/13-17] }
في ضوء قصة أصحاب القرية المذكورة في سورة يس
(1)إنّ واقع المسلمين المعاصر مدعاة للتفكير، واستحواذِ الهمّ على قلوبهم، واستنفارِ طاقاتهم لتغيير هذا الواقع المظلم.(1/115)
إذ لا يخفى على أحد أن المسلمين اليوم في ضياع كبير فالبلاد الإسلامية تُحكم بغير ما أنزل الله، والمسلم لا يتميز عن المشرك في أكثر الأحيان، والشباب منغمسون في الشهوات، ويشغل كل منهم نفسه في وقته الفارغ من العمل: بمعصية الله سبحانه ـ والعياذ بالله ـ، والنساء يخرُجْنَ متبرِّجات متزيِّنات لا يراعين ديانةً ولا شرفاً ولا أخلاقاً ولا يميِّزُهن في مظهرن وأخلاقهنّ عن المشركات شيء، وغالب المسلمين يقلّدون الكفار حتى صدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلّم: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ من قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا جُحْر ضَبٍّ ـ حيوان شبيه بالجِرْذَوْن ـ لدخلتموه" أو كما قال عليه الصلاة والسلام. والسبب في ذلك عدم تمسكنا بكتاب الله وسنة نبيه فأصابنا ما أصابنا من الهلاك. ومن هنا فإنّ حلّ هذه المشكلة يكمُنْ بالعودة إلى كتاب الله الخالد الذي قال فيه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (... هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبلُ اللهِ المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم...). فالقرآن هو دستور الإصلاح ومنهج التغيير، وعلى أساسه وحده نترسّم طريق الدعوة بمناهجها وأفكارها ومبادئها وأساليبها وأهدافها. وفيه كنوز يجب أن تنصبّ الجهود لاستخراجها والانتفاع بها وهي ليست كنوزاً من الذهب والفضة وإنما هي كنوز المعرفة والهداية نتعرف بها على الطريق ونهتدي إلى معالمه. ورغم علمنا أننا لن نحصل إلى الإحاطة بكلِّ ما فيه لعجزنا ولقصور عقولنا عن ذلك إلاّ أنه علينا بذل الجهد في هذا المضمار. وإنّا ـ إن شاء الله ـ في "اللمعات" سنحاول التعرف على بعض معالم طريق الدعوة من خلال قصة في القرآن الكريم ألا وهي قصة أصحاب القرية في سورة يس التي عرضها القرآن الكريم لتعليم الرسول صلى الله عليه وسلّم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والدعاة إلى الله سبحانه من بعدهم أموراً لا بد أنهم سيلاقونها أو سيقعون بها في طريق دعوتهم وللاستفادة من سِيَر المصلحين السابقين في الدعوة والإصلاح والمواجهة والجهاد والصبر والثبات. وفي مثل هذا الأسلوب (عرض القصص وضرب الأمثال) فائدتان: أولاهما: للقيادة وهي دراسة الطريق جيداً وتوقع النتائج والتحسُّب لها وعدم التفاجؤ بردات الفعل التي هي في الغالب لا تَسُرّ، لأنها ستلاقي الكثير من العقبات وتعدد الطبائع والأهواء. وثانيتهما: لكل داعية وهي استخدام هذا الأسلوب في الدعوة لتليين قلوب الناس وحثّهم على التفكر وعلى الاعتبار والاتعاظ بعاقبة المكذبين إن استمروا على ما هم عليه من كفر وفسق وعصيان. ونحن بعون الله سوف ندرس الآيات (13 ـ 31) من سورة يس التي تعرض قصة أصحاب القرية وكيف قاموا بالتصدِّي لدعاة الحقّ وأعرضوا عن الإيمان، وكيف كان الإصرار على الدعوة من جانب المرسلين، وكيف قام أحد المخلصين ـ معرِّضاً نفسه للخطر ـ بنصيحة قومه وإقامة الحجة عليهم فكان في موقفه ومنطقه وصفاته قدوة لكل داعية، مركِّزين على بعض التعاليم والعبر التي وفقنا الله تعالى لملاحظتها في هذه القصة دون التوقف عند بعض المبهمات فيها من اسم القرية ومن هم أصحابها وأسماء الرسل لاختلاف الروايات فيها ولا طائل في الجري وراء هذه الرويات وكما قال سيد قطب: (وعدم إفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها أو موضعها لا يزيد شيئاً في دلالة القصة وإيحائها). والله تعالى المستعان والموفّق.
2)المواجهة مع الدعاة:
لكي نمضي في طريق الدعوة إلى الله ـ سبحانه ـ ينبغي أن نتعرّف على طبيعة هذه الطريق وحقيقة العوائق التي يستخدمها المدعوُّون إلاّ من رحم الله ممن شرح صدرَه للإيمان. وفي قصة أصحاب القرية التي نحن بصدد تدبُّرها نموذجٌ شامل يرسم لنا معالَم دعويةً مهمة تحدِّد العوائق التي يتّخذها أصحاب القرية، وكيف كانت معالجة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لهذه العقبات والعوائق. وجدير بالذكر هنا أنّ طريقةَ التصدِّي لدعاة الحق تكاد تكون واحدة في كل آن وحين، وهي تعتمد على سلاحين أساسيَّيْن: الأول: إثارة الشبهات على اختلافها لإحباط الدعاة وحملهم على التوقّف عن الدعوة. وهذا الأسلوب هو سلاحٌ نفسي يهدف إلى تشويه الحقّ وإظهاره بصور مزيَّفة وقد يؤدي ببعض الدعاة إلى الإحباط والتراجع. ولا شك في أنّ لتثبيت الله تعالى، ثم لمتانة إعداد الداعية وقوة إيمانه بدعوته أكبر الأثر في الثبات والصمود ومواصلة الكفاح. ومن هذه الشبهات:
1 ـ اتهام الدعاة بالكذب: فهم يكذِّبونهم بكلِّ ما جاؤوا به {إن أنتم إلا تكذبون} ويرفضون سماعهم ويحاولون الاستهزاء بهم علّم يُثْنونهم عن دعوتهم.(1/116)
2 ـ الطعن بشخصية الداعية ومكانته: وهو بالنسبة للرسل يتركَّز على بشريَّتهم ومكانتهم الاجتماعية، {إن أنتم إلا بشرٌ مثلُنا} وهذه الشبهة واجَهَ بها كلُّ قوم رسولَهم واعتبروها مانعاً من تصديقه وطلبوا أن يكون الرسول مَلَكاً. وبالنسبة لغير الرسل تارة يكون الطعن والاستهزاء بثقافتهم المحدودة أو بتخلّفهم عن ركب الحضارة أو بانغلاقهم وجمودهم أو بضعف جاههم الاجتماعي والمالي، وقد يصل الأمر ببعض الجهات الدينية الرسمية إلى الطعن بالداعية في كونه ليس ممن يلبس الجُبّة والعِمامة فيعرضون عنه وينكرون عليه الدعوة بحجة أنه ليس شيخاً رسميّاً وكأن الدعوة حِكْر على المتخرِّجين من الكليات الشرعية متناسين قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "بلّغوا عني ولو آية".
3 ـ اتهام الدعاة بأنهم يجلبون الشرَّ والأذى: وذلك بادِّعائهم التطيُّر منهم {إنّا تطيّرنا بكم}، ولا شك أنهم يستعملون هذا الأسلوب لدفع الدعاة إلى الوراء وللتهرّب من تحمّل المسؤولية التي تحتم عليها مخالفة أهوائهم وهذا ما يزعجهم.
الثاني: سلاح التهديد والرجم والتعذيب. أما سلاح التهديد فهو آخر الأسلحة الكلامية وهو بلا شك سلاح خطير وامتحان كبير للدعاة وخصوصاً إن كانت أسباب القوّة لدى المدعوِّين أقوى. وهو أسلوب يُستعمل عادة عند عجزهم عن الردّ على الدعاة بالحجة والمناقشة ـ وهو الحاصل في أكثر الأحيان ـ ويأتي مباشرة بعد هذا التهديدِ الرجمُ والتعذيبُ، {لئن لم تنتهوا لنرجُمَنّكم ولَيَمَسَّنّكم منا عذاب أليم}. وهذه الأساليب لم تكن حِكْراً على أصحاب القرية، بل نجدها قد استُعملت قديماً وتُستعمل حديثاً. ولا يخفى كم في هذه الأساليب من أذى نفسي وجسدي يؤكد أن الطريق ليست معبَّدة سهلة، وإنما هي شاقّة تحتِّم على الدعاة الكثير من الصبر والمجاهدة والعمل بحكمة، وقبل كل ذلك قوة يقين بالله عزّ وجلّ وأن يضعوا نصب أعينهم كيف كانت عاقبة المكذِّبين. ولا شك في أن سالك هذه الطريق سيفوز بإحدى الحسنيين: إمّا النصر وإمّا الشهادة، وما أصدق الحديث النبوي الشريف: "ألا إنَّ سلعةَ الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".
(3)دروس في الدعوة:
نتابع مع قصة أصحاب القرية لكي نرى ما كان صنيع الرسل؟ وكيف صبروا على مشاقّ الدعوة راسمين لنا معالم نستضيء بها في طريق الدعوة إلى الله عزّ وجلّ؟. فمن هذه المعالم:
أولاً: الإيمان المطلق بالدعوة والإصرار على متابعتها والصبر على أذى الكفّار وعنادهم، وليس هذا فحسب بل أيضاً استحداث طرقٍ وأساليبَ للدعوة وتعزيزُها باستقدام أشخاص آخرين للمساعدة. فلنتدبَّرْ قولَه تعالى: {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذّبوهما فعزَّزنا بثالثٍ فقالوا إنّا إليكم مُرسلَون}، فهو يُظهر جلياً أهميةَ التعاون بين الدعاة والتسانُدِ في إنجاح الدعوة وسرعة تنفيذ الأوامر.
ثانياً: ردّ الشبهات على أهلها، وقولُ الحقّ في وجه الظالم (وهذا أفضل الجهاد كما جاء في الحديث)، وعدمُ الخوف في الله لومة لائم، وهذا ظاهر في ردّ الرسلِ الكرامِ على شبهةٍ التطيُّر، فقد أجابوا قومهم لمّا عابوا عليهم لزوم الشؤم والطِّيَرَة لهم بما جاء في القرآن: {قالوا طائركم معكم أإن ذُكِّرتم؟ بل أنتم قومٌ مسرفون}. قال الإمام ابن كثير في معنى "طائركم معكم": أي لم نَرَ على وجوهكم خيراً في عيشنا.
ثالثاً: عدم الاقتصار على دعوة أناس ذوي جاه وسلطان بل ينبغي إيصال كلمة الحقّ للجميع لأن الداعية لا يدري في أيِّ إنسان يَكْمُن الخير، فربما يكون أفقر النّاس مَن بإيمانه ينصر اللهُ سبحانه الدعوةَ، وهذا واضح في هذه القصة بخبر المؤمن المجهول، الغيور الصبور، الذي قال فيه القرآن: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ...}. وفي التفسير أن هذا الرجل من المغمورين ولكن دفعه إيمانُه إلى دعوة قومه والسعي في ذلك رغم ما سيترتب على هذا الأمر من تعذيب دنيوي قد يؤدي لقتله في سبيل الدعوة. وتلك الفكرة (وهي الاقتصار على دعوة أصحاب النفوذ والسلطان ليتم التغيير عَبْرَهم) يتوهَّم بعض الناس أولويُتها. ولكنهم نسُوا أن المعيار هو تعلّق القلب بالله سبحانه وتعالى والإيمان به عزّ وجلّ، وأن الفضل في الناس وتجاوبَهم ليس بمكانتهم الدنيوية إنّما بتقواهم وحبِّهم لله سبحانه. ولذلك قال عزّ وجلّ في سورة الكهف: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربَّهم بالغَدَاة والعَشِيِّ يُريدون وَجْهَه ولا تعدُ عيناك عنهم تريدُ زينة الحياة الدنيا ولا تُطِع من أغفلنا قَلْبَه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمرُه فُرُطاً}. ومع ذلك فإن هداية مثل أولئك الأشخاص هو بلا شك كسبٌ كبير للدعوة الإسلامية.(1/117)
رابعاً: اشتمال منهاج تربية الدعاة على تنمية الدوافع العاطفية والوجدانية المقوِّية على الثبات في طريق الدعوة والاستمرار في التضحية لها وإيثارها. ومن ذلك تقوية تطلّع الداعية إلى ثواب الله الجزيل وعطائه الكريم ونعيمه المقيم خاصَّةً إن هو استُشهد في سبيل الله. وهذا مدعاةٌ للتّرغيب ببذل مجهود أكبر والتفاني في هذا الأمر في سبيل الوصول إلى مرضاة الله عزّ وجلّ. فقد قال تعالى مبيِّناً جزاءَ موقف ذلك الداعي الجري: {قيل ادخل الجنّة قال يا ليت قومي يعلمون...}.
خامساً: تجرُّد الداعية لدعوته والإخلاص في قصده بأن لا ينتظر في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى الأجرَ من النّاس ولكن ليحتسب عمله كله عند الله عزّ وجلّ: {اتَّبعوا من لا يسألُكُم أجراً وهم مهتدون}.
سادساً: أهمية وجود أشخاص من الدعوة من داخل القرية ذلك أنّ تأثيرهم عادة أقوى من تأثير الوافدين من الخارج. ولهذا رأينا القرآن الكريم يتحدّث عن هذا الذي أتى يسعى من أقصى المدينة يدعو قومه أكثر مما تتحدّث عن الرسل في هذه القصة.
ولا شك في أن موقفَه وجرأته، ومَنْطِقَه وحِجَاجَه، ومصيرَه وجزاءَه، ذلك كله كما ذُكر في آيات القصة التي نحن بصدد دراستها مدعاة للتوقّف عنده والتدبُّر فيه لنستلهم الصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها الدعاة ولتَتضِح طبيعة الطريق التي يسلكونها. وهو ما سنفرده بعون الله عزّ وجلّ بحلقة مفردة في العداد المقبل.
(4)رجل مجهول يعلم الدعاة:(1/118)
إنّ في الموقف الطيِّب المستجيب من الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى دروساً كثيرة: أوّلُها (إنه استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحقّ المستقيمة، فيه الصدق والبساطة والحرارة واستقامة الإدراك وتلبية الإيقاع القويّ للحق المبين. فهذا الرجل سمع الدعوة واستجاب لها، بعدما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه) كما "في ظلال القرآن". تملّكته فكرة الحقّ وتغلغلت في قلبه حقيقة الإيمان فجعلته يهبُّ مسرعاً لإنذار قومه وبراهين وتحذيرهم وبدأ يسرد عليهم في جرأة متناهية حججاً وبراهين على صدق الرسل في دعوتهم {اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون. وما لِيَ لا أعبد الذي فطرني وإليه تُرجعون...}. وأصرّ في سعيه مع علمه بأن قومه يكذّبون ويهدِّدون الدعاة، فلم يثنِهِ ولم يضعفه لا التكذيبُ ولا التهديدُ في القيام بواجبه في الدعوة إلى الله سبحانه، ومع ذلك نراه يشفقُ عليهم في قوله: {يا قوم اتبعوا المرسلين}، ويدعوهم إلى اتّباع المرسلين ولم يقل لهم: اتبعوني، فدعا إلى اتباع المرسلين الذين أظهروا لهم الأدلة وأوضحوا لهم السبيل. ولا شك أن الخطوة العملية التي صدرت منه تُعتبر مَعْلَماً بارزاً من معالم الطريق إلى الله والدعوة إليه ـ سبحانه ـ حيث أَتْبَعَ القناعةَ النظرية بحركة عملية وهذا دليل على صدق وقوة فعالية إيمانه. وهذا الموقف الشجاع في تبليغ الدعوة رغم ما سيترتّب عليه من أذى يدلّ على أن الحياة مواقف وأن الرجال بمواقفهم لا بأعمارهم وأشكالهم. ونتساءل: متى يقف الدعاة مثل هذه المواقف في وجه الظالمين يعلنون فيها العبودية الكاملة لله والكفر بكل الطواغيت التي تعبد من دون الله؟. عجيبةٌ هي مواقفنا! ألسنا نعلم بأنّ مآلنا إلى الله سبحانه وأن بعد هذه الدنيا الفانية جنّةً وناراً لا تفنيان؟ فلماذا نسعى للدنيا بكل طاقاتنا ولا نتطلّع للآخرة طالما اقتنعنا بأحقيّة الإسلام؟ ما الذي يمنعنا من ذلك الموقف؟ هل هو توقّع الخطر والأذى والتعذيب؟ ومتى كانت هذه الأمور تصرفُ عن الإيمان وتعيقُ عن الدعوة؟ فلنعلم أن الحياة لا يحلو طعمُها إلاّ بنصرة الحق وأهله. وبعد هذا الموقف ما جرى للرجل الذي دعا قوماً يهدِّدون المرسلين ويقولون: {لئن لم تنتهوا لنرجُمَنَّكُم وَلَيَمَسَّنَّكُمْ منّا عَذابٌ أليم}؟ إنها نهاية متوقَّعة. ولكن ما جزاء هذا الرجل؟ وهل كان خاسراً؟ وهل كان نادماً لأنه ضحَّى بحياته في سبيل الله؟ كيف يخسر ويندم وقد قيل له ادخل الجنّة، أليست الجنّة هَدَفَنا وغايتَنا؟ لقد ربح نعيماً دائماً ولذّة متجددة مقابل حياته الفانية وعمره القصير، وذلك مِنّة من الله سبحانه. ومع ذلك وبعد تبشيره بهذا النعيم لم ينس قومه بل تغاضى عن تعذيب قومه له وكظم غيظه فأشفق عليهم وقال: {يا ليت قومي يعلمونَ بما غفر لي ربي وجعلني من المُكْرَمِين}. ومقابل هذا النعيم وهذه المغفرة والتكريم، ماذا كان جزاء المكذّبين بسبب تلك الجرائم؟ إنهم بعصيانهم وتكذيبهم استقدموا عذابَ الله وانتقامَه فجاءهم سريعاً بصيحة واحدة ولم يرسل الله عليهم ملائكة لإهلاكهم: {وما أنزلنا على قومه من بعده من جندٍ من السماء وما كنا منزلين، إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} وموقفهم هذا يستحق حسْرةَ المتحسِّرين إذ تُتاح لهم فُرصُ النجاة فيعرضون عنها ولا يتدبَّرون مهالك الأقوام السابقين ولا يعتبرون مما جرى لهم، قال تعالى: {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}. وهكذا فإننا دوماً بين اختيارين: إمّا أن نتّبع المرسلين ونجهر بالحقّ وإمّا أن نتخاذل. فهنيئاً لمن يتبع المرسلين ويا حسرةً على الباقين. {فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد}.
والحمد لله ربّ العالمين. انتهى
قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية
دعامتا التغيير الحضاري ...
د. حمدي شعيب
(1)
وهي القصة التي وردت في سورة يس من الآية (13) إلى الآية (32).
وهي تحكي قصة رسولين أرسلهما الحق ـ سبحانه ـ إلى إحدى القرى، فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله ـ سبحانه ـ برسول ثالث لتقويتهما؛ فما كان من أصحاب القرية إلا أن استمروا في رفض الرسالة، بل وهددوا الرسل الثلاثة بالرجم والتعذيب.
ثم كان هذا الموقف العظيم للرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة، أي من مكان ليس بالقريب، وكذلك كان يسعى، أي يسرع في مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يُبتلى فيه الرسل، وذلك في مبادرة منه لم يحدها مكان ولا زمان ولا وقت، بل سعى ووصل في الوقت والمكان المناسبين، وعرض رأيه في القضية، وانتصر لهؤلاء الرسل ضد رغبة قومه.
واستمر أهل القرية في رفض الرسالة، وكذبوا الرجل المؤمن، ثم أقدموا على قتله، فلقي الله ـ سبحانه ـ شهيداً، وبشره الحق ـ سبحانه ـ بالجنة، فتمنى لو أن قومه يعلمون بمصيره وحسن عاقبته.(1/119)
وبعد ذلك جاءت التعقيبات القرآنية الخاصة، والتي تبين مصير أهل القرية المكذبين؛ حيث أصابتهم صيحة الدمار، فأهلكتهم، فأصبحوا ميتين خامدين، كما تخمد النار. وهي سنة الله ـ عز وجل ـ الإلهية مع المكذبين.
ثم كانت التعقيبات القرآنية العامة، والتي تعلن الحسرة على كل من لا يقرأ التاريخ، ويشاهد سننه ـ سبحانه ـ الإلهية مع أعداء الدعوة، ومكذبي الرسالة، على مر تاريخ المسيرة الدعوية، ولا يعتبر بها، ولا يعي معنى الرجوع إليه ـ سبحانه ـ للمحاسبة والجزاء.
? أهمية الرؤية المنهجية:
وعندما ننظر إلى هذه القصة القرآنية العظيمة، برؤية منهجية شاملة واعية، نجد أن لها بُعدين:
البعد الأول الظاهر القريب: هو أن هذه القصة تتكون من جولات ثلاث:
الجولة الأولى: هي جولة المواجهة بين الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وبين أصحاب القرية.
الجولة الثانية: هي جولة المواجهة بين الرجل المؤمن وقومه.
الجولة الثالثة: هي جولة التعقيبات القرآنية الخاصة والعامة.
أما البُعد الآخر البعيد: فهو البعد التربوي العظيم الذي نستشعر من خلاله أن هذه القصة قد أوردت تلك التجربة الدعوية من ملفات تاريخ مسيرة الحركة الدعوية كمثال ثابت، وترجمة تطبيقية لسنَّتين اجتماعيتين عظيمتين من سننه ـ سبحانه ـ الإلهية.
والسنن الإلهية منها السنن الإلهية الكونية في الآفاق، أي في مجال عالم المادة.
ومنها كذلك السنن الإلهية الاجتماعية في الأنفس، أي في عالم البشر والأحياء عموماً.
وهذه السنن هي آياته ـ سبحانه ـ الدالة على صدق الرسالة، من حيث البرهان على إعجاز الله ـ جل وعلا ـ في الخلق، وعلى تفسير التحولات الاجتماعية والتغييرات الكونية والحضارية: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
وهذه السنن الإلهية لها سمات ثلاث:
أ - الثبات: أي لا تتبدل ولا تتغير: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62].
ب - العموم: أي أنها تشمل كل البشر والخلائق، دون تفريق، ودون استثناء، وبلا محاباة: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].
ج - الاطِّراد: أي التكرار أينما وجدت الظروف المناسبة مكاناً وزماناً وأشخاصاً وأفكاراً: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
وهي عبارة عن قوانين وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها الحق ـ سبحانه ـ لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتنظم ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية، موضحة عوامل السقوط وعوامل النهوض الحضاري.
والسنن الإلهية الاجتماعية هي المرتكز الذي على أساسه يقوم مجال واسع في المنهج، وهو الفقه الاجتماعي والحضاري، وهذا الفقه يقوم على دراسة عوامل قيام وسقوط الحضارات.
وقد جاءت التأكيدات القرآنية المستمرة والمتعددة، على ضرورة دراسة هذا الفقه، ووضحت أن مدخله هو السير في الأرض، وفتح ملفات الأمم السابقة، لاستجلاء سننه ـ سبحانه ـ لفقهها، ولمعرفة حسن تسخيرها: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11]. والقصص القرآني ما هو إلا برهان ثابت، وتطبيق عملي موثوق حول فاعلية تلك السنن.
أما عن السنَّتين الاجتماعيتين:
أولاً: السنة الإلهية الاجتماعية الأولى: فقد وضحت تجربة أصحاب القرية ـ كغيرها من التجارب الدعوية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ـ أن عملية التغيير الحضاري، وبعث أي أمة جديدة، إنما تقوم على دعامتين أساسيتين، أو قاعدتين رئيسيتين، هما:
الدعامة الأولى: هي وجود القاعدة الصلبة التي تقود التغيير، وتكون بمثابة الطليعة الفاعلة، والأداة المحركة، والقوة المنفذة، والتي تمثلت في وجود هؤلاء الرسل الكرام، وحركتهم بالرسالة داخل تلك القرية.
الدعامة الثانية: هي وجود القاعدة الجماهيرية، أو الرأي العام الذي يناصر الرسالة، ويحب دعاتها ويكره أعداءها، ويحرص على انتصارها؛ والتي تمثلت في حركة الرجل المؤمن الذي جاء يناصر الرسالة، ويدافع عن الدعوة، ويؤيد الدعاة.
ثانياً: لقد بينت القصة سُنَّة إلهية اجتماعية أخرى؛ حيث أوردت صورة من صور سُنَّة التدافع الحضاري، أو قانون المدافعة القرآني.(1/120)
وهي السنَّة الإلهية الاجتماعية التي تبين إرادة الحق ـ سبحانه ـ في أن يستمر الصراع والتنافس والتدافع، سواء كان فردياً أو جماعياً، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الإيمان وأهله والكفر وأهله، ما دامت السماوات والأرض؛ وذلك حتى تتم عملية انتقائية لتفرز الأصوب والأبقى والأصلح في كل شيء، سواء كانت أفكاراً أو آراء أو أفراداً أو أمماً، فإذا توقفت تلك العملية التدافعية الحضارية المختلفة الصور كان الفساد في الأرض، وهذا من فضله ـ سبحانه ـ من أجل ديمومة واستمرارية العملية الاستخلافية الإعمارية في الأرض: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]؛ حيث نجد أن هذه التجربة ـ وكذلك كل التجارب الدعوية التي عرضها القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة ـ قد عرضت أمرين مهمين بارزين:
الأمر الأول: مدى حرص الرسل والدعاة على توصيل عقيدتهم ودعوتهم إلى جماهير الشارع بكل الوسائل.
الأمر الثاني: مدى حرص أعداء الدعوة على كل عمل مضاد، يواجه هذه العدوى الدعوية، ويؤدي إلى عملية عزل الدعوة عن الناس، وتحجيم الدعاة، وإن أدى الأمر إلى سجنهم أو نفيهم أو قتلهم.
? مخزون الأمة المعرفي:
تبدأ القصة بهذا التوجيه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً} [يس: 13].
وهو توجيه يدعوه أن يذكر مثلاً توضيحياً يقرب المعنى للأفهام حول القضية التي كانت موضوع الساعة آنئذ، وهي بيان إحدى صور حركة الداعية بالفكرة أو بالدعوة داخل المجتمع البشري، وبيان طبيعة البشر أمام الرسالة، وانقسامهم إلى فصيلين، أو إلى فريقين، وبيان مصير كل منهم، والذي يكون بناء على موقفهم من الرسالة قبولاً أو رفضاً؛ وذلك في أسلوب قصصي يوضح الأسلوب التقريري الذي ورد في آيات مطلع السورة حول:
الفصيل الأول: فريق أصحاب القلوب المغلقة على دعوة الرسل، المكذبين للرسالة، الرافضين للهداية، وهم أصحاب القرية، فكانت رسالة تهديد واضحة لقريش، ولأعداء الدعوة، في كل عصر.
الفصيل الثاني: فريق الذي يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب، أصحاب الفطر السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيقبل الرسالة، ويتبع الرسل، كما يمثله الرجل المؤمن.
وكانت رسالة تثبيت وتبشير للجماعة المسلمة من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكل المؤمنين في كل عصر. و {لَهُم} تشمل كل من يحضره المثل، سواء في ذلك أعداء الدعوة من الكافرين ـ وهم مشركو مكة في ذلك الحين ـ أو المؤمنون؛ وذلك لأن المنهج القرآني كان يرسخ قواعد ثابتة لقضية عامة، وسنة إلهية اجتماعية، يلزم أن يفقهها الجميع.
ويرى «المحققون المنصفون من العلماء على أن قصص القرآن واقعي وليس رمزياً، وحقيقي وليس تمثيلياً»(1).
ولأن الفائدة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فإننا نستشعر من هذا التوجيه الإلهي أنه توجيه لكل داعية أن يستخدم الأمثلة التوضيحية لبيان عقيدته، ولتوضيح قضيته.
وهي أيضاً دعوة صريحة لقراءة التاريخ، وفتح ملفات الأفراد والأمم السابقة، بغرض التذكير والموعظة، واستجلاء الدروس.
لذا فإننا نضع أيدينا على مرتكزات ثلاثة تكوّن الثلاثية المعرفية المطلوبة من أجل إعادة صياغة وتشكيل العقلية المسلمة:
أ ـ فهم جيد للرسالة.
ب ـ فقه بصير بالواقع يتم من خلاله تقريب العقيدة والقضية بأمثلة توضيحية، من خلال البيئة المحيطة والمألوفة للسامعين.
ج - قراءة عميقة للتاريخ يتعرف بها على السنن الإلهية الكونية والاجتماعية الثابتة والمطردة أي المتكررة، والعامة التي تنطبق على أي واقع بشري مشابه، وعلى ضوئها يمكن تفسير مغزى المقولة: التاريخ يعيد نفسه، أو ما أشبه الليلة بالبارحة.
وانطلاقاً من هذه الثلاثية المعرفية يتم إعادة صياغة العقلية المسلمة، حتى تصل إلى حالة الوعي المنشودة، وهي الحالة التي يمكن من خلالها استقراء الواقع وأحوال الحاضر على ضوء تجارب ورصيد الماضي، مما يعين على النظرة المستقبلية الاستشرافية.
وإذا ارتقت العقلية المسلمة إلى حالة الوعي المنشودة تلك، فيمكننا أن نقول إننا قد نجحنا في عملية تصحيح وتنقية للمخزون المعرفي داخل عقل الأمة.
ومصادر هذه الثلاثية المعرفية التي هي مرتكز تشكيل العقلية المسلمة:
1 - القرآن الكريم.
2 - السنة النبوية المطهرة.
3 - فقه الواقع.
4 - قراءة التاريخ.
وهذه المصادر هي المرتكزات الأربعة التي تكوِّن المخزون المعرفي لأمة الدعوة والرسالة، أمة الوسطية، والمناط بها دور الخلافة الراشدة والشهادة على البشر.
وعن طريق هذا المخزون المعرفي العظيم يمكن إعادة صياغة للعقلية المسلمة، فتتكون حالة معرفية أو إدراكية راقية لعقل الأمة، وحصول أو تكوين ما يسمى بـ (منظومة الوعي البشري) عند أفراد الأمة.(1/121)
وهذه المنظومة المنشودة للوعي البشري هي عبارة عن حالة معرفية راشدة يمتزج فيها الوعي بالماضي والحاضر والمستقبل، فتؤدي إلى الدراية والوعي، بكل شهود التاريخ البشري وبكل سنن الله ـ عز وجل ـ الإلهية في الأنفس؛ أي في عالم الأحياء، وهي السنن الإلهية الاجتماعية، وفي الآفاق؛ أي في عالم المادة، وهي السنن الإلهية الكونية.
وخلاصة ذلك أن يبلغ عقل الأمة مرحلة الرشد المعرفي والإدراكي، مما يساعده على تحمل عبء المواجهة الحضارية. فالقضية هي قبول العقل المسلم للتحدي الحضاري ليقتحم حلبة الصراع الحضاري.
ومنظومة الوعي البشري هي الحصانة ضد أخطار التحدي الحضاري الداخلي والخارجي.
? الدعامة الأولى للتغيير الحضاري:
وهي وجود القاعدة المؤمنة الصلبة؛ وهي الطليعة الفاعلة التي تقود التغيير، وتتحمل عبء المواجهة، وتكون بمثابة الأداة المحركة، أو القوة المنفذة. وقد ورد الحديث عنها في آيات الجولة الأولى من القصة، وهي جولة المواجهة بين الرسل وبين أصحاب القرية. {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 13 - 19].
ومن خلال تدبر الآيات يمكننا أن نبحث حول بعض صفات هذه القاعدة.
ونقول بعض الصفات أو السمات؛ لأننا سنلتزم بما ورد عنها في آيات الجولة الأولى من القصة.
وكذلك سنرتب السمات على حسب ورودها في سياق الآيات، وليس على حسب أولويتها، أو أهميتها.
? السمة الأولى: الإيجابية:
يقول الحق ـ سبحانه ـ إن الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قد جاؤوا إلى القرية، وتحركوا إليها ولم يقعدوا في مكانهم؛ وذلك كما نستشعر مغزى الوصف القرآني: {إذْ جَاءَهَا}؛ أي إنهم قد تحركوا منطلقين بعقيدتهم، وبدؤوا تجربتهم الدعوية التغييرية بالوصول إلى تلك القرية.
ولم يحدد السياق القرآني أي قرية تلك، وإن كان بعض المفسرين قد حدد أنها (أنطاكية)، فالعبرة ليست بالاسم، والبحث عنه لن يفيد تربوياً.
ولم يقعد هؤلاء الرسل في مكانهم ليأتيهم الناس، بل حضروا إليهم.
ولأن من هذه الظواهر المميزة لهذا الوجود الكبير ظاهرة الحركة المستمرة، أو الحيوية المتجددة التي لا تأسن، أو (الظاهرة الارتحالية) التي تشمل الكون والحياة وكذلك الإنسان.
وهذه الظاهرة الحيوية، يستشعرها المرء في كل شيء، في هذا الوجود الكبير.
والله ـ عز وجل ـ يصور هذه الحركة الكونية المستمرة في أكبر جرم كوني نراه، وهو الشمس؛ فهي في حركة دائبة سرمدية لا تهدأ، أو هي تجري فعلاً، لمستقر ونهاية لا يعلمها إلا الله ـ عز وجل ـ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38].
وهذه الحركة الدائبة ليست عشوائية، بل تحكمها قوانين ثابتة، وهي سنن إلهية لا تتبدل ولا تتغير إلا بإذنه ـ تعالى ـ تحافظ على سيرها في توافق عجيب ينتظم فيه كل شيء، بما فيه ظاهرتا الليل والنهار: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
وكذلك لو تأملت أصغر جرم كوني وهو الذرة؛ لوجدت أن العلماء قد أثبتوا أن الحركة المستمرة الدائبة لمكوناتها هي إحدى سماتها ومميزاتها الثابتة.
لذا فإن المسلم يدرك أنه جزء من هذا الوجود الكبير الساجد المسبح لربه سبحانه، ويعلم أن الله ـ عز وجل ـ لا يهب نعمه العظيمة إلا لمن يسعى في أسباب الحصول عليها؛ أي يتعامل بطبيعة إيجابية مع النعم والمقدرات التي وهبها له الحق سبحانه.
وذلك كما ورد عن الرجل الصالح ذي القرنين: {إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 84 - 85].
وتدبر سنة الله ـ عز وجل ـ في مجال نعمة الرزق: {وَهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25].
إن «الرزق وإن كان محتوماً؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد وكَّل ابن آدم إلى سعي ما فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، والأمر بتكليف كسب الرزق سنة الله ـ تعالى ـ في عباده. وإن ذلك لا يقدح في التوكل»(2).(1/122)
أما في مجال التربية؛ فإن الأساس هو الحركة والانطلاق والاختلاط في دنيا الناس؛ لأن الله ـ عز وجل ـ قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها للناس لكل الناس، لتتحمل واجبات القوامة والشهادة، وذلك لتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، حاملة عقيدتها الربانية الخالدة السامية، ألا وهي الإيمان بالله ـ تبارك وتعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وبناء هذه الأمة لا يكون إلا من خلال الواقع، والحركة بالمنهج خلال هذا الواقع.
وشواهد القرآن الكريم كثيرة، وكلها تدل على أن من يحمل رسالة عليه أن يقوم بها، ويتحرك بها، ويدرك تبعاتها.
لذا فقد كانت الخطوة الأولى للحبيب -صلى الله عليه وسلم- هي القيام بالأمر العظيم، وهو الدعوة، وتطليق الراحة والدعة، وذلك استجابة للأمر الإلهي: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} [المزمل: 1 - 2].
وعندما حكى القرآن الكريم عن ذلك الصحب المؤمن، وتجربتهم الدعوية التغييرية، وضّح أنهم قد تحركوا بعقيدتهم إلى عالم الواقع: {إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا} [الكهف: 14].
وكذلك عندما بدأ العبد الصالح تجربته التعليمية التربوية مع موسى ـ عليه السلام ـ انطلق به ومعه وتحركا عملياً: {فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَرًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77].
والداعية عندما يعلم أنه جزء من كل، فهو أحد أعضاء ذلك الركب العظيم، (ركب المرتحلين) الذي يشمل هذا الوجود الكبير.
لذا كان عليه أن يفهم معنى ومدى أهمية التوافق والتناغم مع حركة الوجود المطيع والمسبح لربه، ويدرك خطر النشاز.
فالمطلوب منه ليتوافق ولا يشذ شرطان:
أولاً: عليه أن يتوافق عقدياً بأن يتطور ويستزيد ويتحرك، ولا يقف أسيراً لمرحلة فكرية معينة؛ وذلك من خلال فقه جيد وواع، ليوازن بين ثوابت لا يحيد عنها، ومتغيرات تعطيه حقه من المرونة والحركة والإبداع.
ثانياً: عليه أن يتوافق عملياً ويتناسق جسدياً ومادياً، بالحركة والقيام والانطلاق والاختلاط والخروج للناس لنشر رسالته. فلا يكون مثل بعض الناس الذين يُؤْثِرون التصومع والتقوقع والتحوصل بل والتشرنق، سواء في ذلك الفكري العقلي أو المادي الجسدي. وهذا لا ينطبق فقط على الأفراد، بل على الدعوات والجماعات.
فالحياة حركة حيوية تتميز بالظاهرة الارتحالية.
والوجود ما فيه إلا معبود يُعبد؛ ولا يتغير سبحانه، ... وعابد يَعبد؛ يتميز بأنه متغير وارتحالي.
? السمة الثانية: الجماعية:
وقد أخبر القرآن الكريم عن إرسال رسولين اثنين إلى أهل القرية، ثم عززهما برسول ثالث.
ولقد ورد أنهم أكثر من رسول في أكثر من موضع في السياق، في قوله ـ تعالى ـ:
1 - {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13].
2 - {فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس: 14].
3 - {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16].
4 - {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20].
ومع علمنا بأن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية تبين أنها تبدأ من عقيدة عظيمة في قلب رجل عظيم، ثم يتحرك بعقيدته منتقلاً بها من مرحلة النظرية إلى مرحلة العمل والتطبيق. ويبدأ في عملية التجميع المنظم، فيحرك المجموع حوله، حتى ينتقل بالعمل من الحركة الفردية إلى الحركة السياسية المنظمة.
وهذه الجماعة المنظمة، أو هذا التحرك يقوم على دعامتين:
الدعامة الأولى: الطليعة المؤمنة بالرسالة.
الدعامة الثانية: الرأي العام المناصر.
ثم يبدأ الصراع، أو التدافع الحضاري، بين أصحاب وحملة الرسالة، وبين أعدائها.
ويتحدد مصير الرسالة، أو التغيير الحضاري بناءً على نتيجة هذا الصراع.
وفي هذه القصة ـ ولأمر ما ـ بدأ التحرك بالرسالة الربانية، برسولين قيل إنهما رسل عيسى عليه السلام، وبعض المفسرين رجح أنهما أرسلا من قِبَله ـ سبحانه ـ، ثم قواهما الحق ـ جل وعلا ـ برسول ثالث.
«فهي قرية أرسل الله إليها رسولين، كما أرسل موسى وأخاه هارون ـ عليهما السلام ـ إلى فرعون وملئه، فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله برسول ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله، وتقدم ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد: {فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس: 14]»(3).
«ولعل هذا هو الراجح؛ لأنه هو المتفق مع ظاهر النص القرآني»(4).(1/123)
وهذا الاستثناء من القاعدة الذي نجد فيه أن التحول والتغيير الحضاري قد بدأ بحركة أكثر من فرد؛ فلقد وضحته الآيات أنه كان للتعضيد والتثبت والتصديق، والتقوية والإعزاز.
كما في قوله ـ سبحانه ـ: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14].
وفي قصة موسى ـ عليه السلام ـ: {وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 34 - 35].
وهذه السمة هي مرتكز يؤكد على أهمية الشرط الكمي لجيل التغيير المنشود؛ أي لا بد من حركة جماعية منظمة تقوم بعملية التغيير.
وتدبر قوله -صلى الله عليه وسلم-: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تهزم اثنا عشر ألفاً من قلة»(5).
والعمل الجماعي وصيته -صلى الله عليه وسلم- لمن أراد النجاة: «فعليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية»(6).
والعمل الجماعي طريق إلى الجنة: «ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة»(7).
وللجماعة بركة، ينالها حتى من كان في نيته دَخَن؛ لأنهم: «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم»(8).
وتدبر كيف نال كلب أهل الكهف بركة الصحبة الصالحة؛ لأن «من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل الفضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله»(9).
? السمة الثالثة: الربانية:
ثم يوضح السياق المصدر أو المرجعية التي بدأت منها عملية التغيير.
وذلك كما جاء قوله ـ سبحانه ـ في وصف هؤلاء الرسل للدلالة على المشيئة الربانية في تلك العملية: {إذْ أَرْسَلْنَا}
[يس: 14].
وأيضاً في وصفهم لأنفسهم، وفهمهم لطبيعتهم: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } [يس: 16].
إذن فهي طليعة ربانية مرسلة من قبله سبحانه.
تقوم على العقيدة الربانية، وهي الإيمان بالله.
وتتحرك بناءً على المشيئة الربانية فتقوم بأعظم وظيفة، ألا وهي الدعوة إلى الله عز وجل.
تؤمن بأنها تتحرك في أرض الواقع لتحقيق قدر الله في دنيا الناس.
أي أنهم مجرد ستار لقدر الله، ينفذ بهم وعليهم ـ سبحانه ـ سننه الإلهية الكونية والاجتماعية.
وكما علمنا أن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية؛ تبين أنها تبدأ من رسالة عظيمة، في قلب رجل عظيم.
إذن فالعقيدة هي المنطلق الأول في عملية النهوض الحضاري.
وسلوك أي فرد، أو جماعة، أو أمة من الأمم إنما يكون بناءً على الفكرة التي تحركهم،
وطبيعة الرسالة هي التي تحدد طبيعة السلوك، إما حسناً أو سوءاً.
وبناء على هذا السلوك الذي يترجم طبيعة الفكرة المحركة يكون الجزاء والمصير في الدنيا والآخرة.
إذن فمجال تقييم أي فرد، أو جماعة أو أمة من الأمم، وكذلك أي مشروع حضاري، يكون بناءً على المرجعية العقدية، أو المنطلق العقدي؛ لأن المنطلق العقدي هو الجانب النظري الذي يحدد السلوك الذي هو الترجمة العملية للمنطلق العقدي، والسلوك العملي هو الذي ينبني عليه المصير والجزاء.
ولذلك نستطيع أن نقول ونؤكد على مدى سمو السلوك البشري، وكذلك مدى رقي أي مشروع حضاري ينطلق من فكرة ربانية، أي قاعدة إيمانية تنبثق من منهج إلهي، من رب الناس إلى الناس؛ لذا فإن من أعظم سمات الطليعة الرائدة المنفذة هي الربانية.
والربانية نعني بها أركاناً ثلاثة:
1 - ربانية الرسالة: أي أن المنطلق العقدي يقوم على قاعدة الإيمان بالله.
2 - ربانية الوسائل: أي ربانية وسمو السلوك.
3 - ربانية الغاية: أي أن يكون الهدف النهائي هو هداية الناس لرب الناس، للفوز بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
? السمة الرابعة: الجدية في التنفيذ:
ولقد جاء في سياق القصة أن عملية التغيير قد بدأت برسولين: {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس: 14].
فالرسول الثاني يقوي ويعضد الرسول الأول.
ثم قوى ـ سبحانه ـ هذين الرسولين برسول ثالث، وذلك بعد أن كذب أهل القرية الرسولين: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}.
وتقدموا ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من جديد: {فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس: 14].
فما كان من أصحاب القرية إلا أن شككوا في صدقهم، وفي صدق طبيعتهم البشرية، وفي صدق فكرتهم: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
فأعلن الرسل صدق مرجعيتهم الربانية؛ فهم رسل الله جل وعلا، وبينوا صدق فقههم لدورهم، وهو البلاغ: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس: 16 - 17].
فتشاءم أهل القرية منهم وتوقعوا منهم الشر: {قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18].(1/124)
ثم هددوهم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
فما كان من الرسل الكرام إلا أن ردوا عليهم بثقة: {قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [يس: 19].
من هذا السياق نستشعر سمة مهمة جداً تتصف بها الطليعة الربانية، ألا وهي الإصرار على القيام بالأمر الموكول، والجدية في تحقيق الغاية من المهمة.
وهذه الجدية نلمسها من خلال تدبر جانبين أو أمرين:
الأمر الأول: دور المشيئة الإلهية في جدية إتمام المهمة، من حيث إرسال رسولين، ثم تقويتهما برسول ثالث.
الأمر الثاني: نستشعرها من خلال دور وسلوك الرسل الكرام، وجدية أخذهم بمهمة الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ رغم كل العوائق التي واجهتهم، فكلما ظهرت عقبة، مثل التكذيب، أو التشكيك، أو التهديد ولو بالقتل، نجد أن هناك حلولاً وردوداً مقنعة ومفحمة تبين مدى الإصرار على إنجاز المهمة الربانية الشريفة.
وهذا التعاضد بين الدور الإلهي والدور البشري، في تحقيق أي عمل، يكون على أساس قاعدة الجزاء من جنس العمل، وهي القاعدة التي تربط بين نوع وطبيعة مصير الفرد أو الجماعة بناءً على طبيعة ونوع العمل الذي يؤدونه. فالهداية الإلهية لا تكون إلا لمن جد في طلب الهداية والعمل لها، وتدبر هذا الحديث القدسي: «يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم»(10).
وكذلك أمر الجدية.
وتدبر هذه الجدية، عندما وجد الحق ـ سبحانه ـ يحيى ـ عليه السلام ـ يعد نفسه بجدية منذ نعومة أظافره، ويقول لأقرانه من الصبيان الذين دعوه للعب: ما للعب قد خلقنا!!
فأنعم الله عليه بنعمة الفهم لكتابه ـ سبحانه ـ وهو التوراة، وهو لمَّا يزل بعدُ صغيراً.
ثم أمره أن يواصل المسيرة ويأخذ الأمر بالجد والاجتهاد، والإصرار: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}
[مريم: 12] .
(فإن كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل.
وما تفاوتت منازل الخلق عند الله ـ تعالى ـ في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين؛ وهما اللذان أثنى الله بهما ـ سبحانه ـ على أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في قوله ـ تعالى ـ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45].
فالأيدي: القوة في التنفيذ.
والأبصار: البصائر في الدين.
فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه)(11).
وقد علَّم الحق ـ سبحانه ـ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكل داعية يأتي من بعده أن هذا المنهج آخر حكم عدل، وأنه جد وحق: {إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13 - 14].
وإنه لدرس لكل من أراد أن يكمل المسيرة، ويشارك الطليعة المؤمنة في همومها، وعبئها، أن يدرك مدى جدية المنهج، وجدية الطريق، وجدية التبعة.
وإنه لدرس عظيم أن ندرك قاعدة الجزاء من جنس العمل.
? السمة الخامسة: فهم الدور الموكول، وهو البلاغ المبين:
وتحكي القصة أن الرسل الكرام عندما واجههم أهل القرية المكذبين الرافضين للفكرة؛ حيث: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
فكان ردهم الواثق الهادئ: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [يس: 16 - 17].
أي إن تكذبونا فليس هذا ينقص من الأمر شيئاً فيكفي أن الله ـ عز وجل ـ يعرفنا، ويعرف مهمتنا، وكذلك إن تكذبونا، فلن نحاسب على استجابتكم، بل سيحاسبنا الله ـ عز وجل ـ على المهمة التي حمَّلنا إياها، وهي البلاغ، والبلاغ المبين الواضح الجلي.
فإلى هنا نكون قد أعذرنا إلى الله عز وجل، وبلغناكم الرسالة: {وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
ومن خلال رد الرسل الكرام ندرك سمة مهمة أخرى من سمات أي طليعة مؤمنة، وهي فقه المهمة وفقه الدور المطلوب. وهذه المهمة هي البلاغ، التي هي مهمة رسله ـ سبحانه ـ وأنبيائه: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [النحل: 35].
والبلاغ لا بد أن يكون مبيناً واضحاً جلياً لا غموض فيه، كما جاء على لسان الرسل الكرام: {وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
وهذه المهمة يأتي التأكيد عليها دوماً، عند وصول الرسالة إلى طريق مسدود، كما جاء في سياق القصة.(1/125)
وكما أخبر ربنا على لسان صالح ـ عليه السلام ـ عندما كذبه قومه، وعقروا الناقة، ثم أخذتهم الرجفة المهلكة، فأعلن ـ عليه السلام ـ أنه قد أدى ما عليه، فبلغ رسالة ربه: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 76 - 79].
وحتى نعي خطورة هذه السمة، ألا وهي الدور البشري، في تحقيق أي أمر، لا بد أن نوضح قاعدة مهمة، وهي أن ركيزتي تحقيق أي عمل أو أي إنجاز ـ سواء على المستوى الفردي، أو على المستوى الجماعي، بل حتى في مجال التغيير الحضاري، وكل التحولات الاجتماعية ـ هما الترجمة الواقعية للآية الكريمة: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5].
فالعابد يعبده ـ سبحانه ـ فيقوم بوظيفته المناطة به، وهي العبودية لله ـ عز وجل ـ ثم يطلب الهداية والعون من المعبود سبحانه؛ لأن العبد دوماً في فقر وحاجة إلى الرشد وإلى الإعانة في كل سكناته، ولا يهدي إلى الخير، ولا يعين عليه إلا الحق سبحانه.
والمعبود ـ سبحانه ـ يرشد ويهدي ويعين ويوفق هذا العابد للقيام بأمر العبودية؛ لذا فإن أي عملية تحول حضاري ـ كما تدبرنا الآية الكريمة السابقة، وكما نتأمل في هذه التجربة الدعوية ـ تقوم على ركيزتين أساسيتين:
القاعدة الأولى: الدور الإلهي.
وتلك هي الإرادة أو المشيئة الإلهية في عملية التغيير، أو هو قَدَر الحق سبحانه.
وهذه هي أولى القواعد المهمة في عملية التغيير الحضاري، وهو الدور الإلهي، أو دور القدرة الإلهية في تحقيق العمل.
وفي القصة التي بين أيدينا نجد أن هذا الدور يترجم في إرادة الحق ـ سبحانه ـ في عملية التحول الاجتماعي؛ حيث أرسل الرسل الثلاثة إلى القرية.
القاعدة الثانية: الدور البشري.
وهو الفاعلية أو الحركة الإيجابية البشرية، التزاماً بأمر الله عز وجل.
حيث نجد أن هؤلاء الرسل الكرام، أو تلك الطليعة المؤمنة، قد تحركت بفكرتها الربانية، وذلك بعد صياغتها إيمانياً، وعلى أساس التربية الربانية على الفكرة الربانية.
تحركوا لمهمة أو دور عظيم، ألا وهو البلاغ، أو الدعوة إلى الله عز وجل.
وكأن حركتهم ومشيئتهم دائرة صغرى، داخل دائرة كبرى هي المشيئة الإلهية.
فتدبر دور قدر الله ـ سبحانه ـ في ناموسية التغيير التاريخي، والتحول الحضاري، وهو دور لا يلغي دور البشر بل يتوافق ويتناغم معه. وهو ملمح تربوي يعطي الداعية ثقة في فاعليته وفي طريقه ثم في غايته.
فإن كان له مشيئة يتحرك من خلالها في حرية؛ فإنما هي تحت رعاية المشيئة الإلهية. ووجود إحداهما لا تلغي وجود الأخرى.
إذن فهنالك رعاية وحفظ وقوة تجري به وعليه أقدار الله وسننه في الأنفس والآفاق.
والمشيئة البشرية تدعوه للعمل والفاعلية والذاتية في التحرك، والأخذ بكل الأسباب، حتى يؤدي مهمته البلاغية، المبنية الواضحة.
والمشيئة الإلهية تدعوه، إن أتت النتائج على نحو ما قدر لها فليرضَ وليفرح، وإن لم تأت على نحو ما خطط لها، فلا يعجز ولا يحزن وليصبر، ثم ليبحث عن أسباب الخلل!
________________________________________
(2)
من خلال الجولات الثلاثة في قصة أصحاب القرية (المواجهة بين الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأصحاب القرية، والمواجهة بين الرجل المؤمن وقومه، والتعقيبات القرآنية الخاصة والعامة)، يوضح الكاتب دعامتي التغيير الحضاري. وفي الحلقة الأولى تحدث عن سمات الدعامة الأولى وهي القاعدة المؤمنة الصلبة، فذكر منها: الإيجابية، الجماعية، الربانية، الجدية في التنفيذ، فهم الدور الموكول وهو البلاغ المبين. ويواصل في هذه الحلقة تقديم القطوف التربوية العظيمة من هذه القصة من قصص الحق. البيان
? السمة السادسة: فهم طبيعة الطريق:
فقد أوضحت تلك التجربة الدعوية، كغيرها من التجارب الدعوية على مر تاريخ الحركة الإسلامية، أن الصراع مع الباطل، والصدام مع مكذبي الفكرة أمر حتمي: {الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3].(1/126)
وتدبر التعقيبات القرآنية على مصيبة أُحُد: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179].
أي أن الله ـ عز وجل ـ شاء أن يميز بين الخبيث والطيب على أرض الواقع، وذلك بالاختبار والتمحيص، وهؤلاء الرسل في تجربتهم، قد تعرضوا لأنواع من الأذى والابتلاء، مثل:
1 - التكذيب: في كلتا الحالتين:
حينما كانا اثنين: {إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا}
[يس: 14].
وحينما كانوا ثلاثة: {إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
2 - التشكيك: وذلك من خلال رؤية جاهلية ساذجة، وحجة غريبة، أن رسل الله لا يمكن أن يكونوا بشراً: {قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
وغاب عنهم أن الجانب العملي في أي دعوة، وهو سلوك الداعية، لا بد أن يكون ترجمة صادقة للجانب النظري في تلك الدعوة، وهي الفكرة المحركة.
ونسوا أيضاً أن السلوك إذا كان غير مرتبط بالفكرة، أي إذا كان العمل غير موافق للقول؛ فهو أمر قد ذمه الحق ـ سبحانه ـ في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3].
«والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي، النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به، وهم بشر. فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون أن يقلدوه، ومن ثَمَّ كانت حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- معروضة لأنظار أمته»(1).
3 ـ التطير والتشاؤم بالرسل: فهم مصدر الشر، وعدم النفع، والأذى: {قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18].
4 ـ التهديد بالرجم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس: 18].
5 ـ التهديد بالتعذيب والقتل: {وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18].
فكان من فقه هؤلاء الرسل الكرام لطبيعة الطريق؛ أنهم لم يفاجَؤوا بهذا الابتلاء المتعدد الصور، وكان ردهم: {قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 19].
أي هذا التشاؤم إنما يأتي من داخلكم، وبناء على تصوراتكم، فلا تقذفوا غيركم بخرافة من صنعكم ومن بنات أفكاركم؟!
ولم َتكذبونا وتهددونا بالرجم والتعذيب والقتل؛ أفهذا جزاء من أراد بكم خيراً فوعظوكم، وذكروكم بالله عز وجل، وبينوا لكم سبل النجاة في الدارين؟!
بل أنتم الذين أسرفتم وتجاوزتم التفكير السوي، ورفضتم سبل النجاة!! فتحملوا وزر موقفكم الشاذ، وانتظروا العاقبة منه ـ سبحانه ـ.
وفقه طبيعة الطريق هي سمة لازمة بل أساسية لكل طليعة رائدة، وذلك من شأنه أن يقي الصف من التساقطات، ومن الانتكاسات وظواهر النكول والنكوص.
وكل طليعة مؤمنة تدرك أن لها خيارين، لخّصهما سيد قطب ـ رحمه الله ـ:
فإما إلى النصر فوق الأنام
وإما إلى الله في الخالدين
? السمة السابعة: الثبات:
ويبين سياق القصة، من خلال موقف الرسل الكرام وردهم على أصحاب القرية، معلماً آخر أو سمة أخرى من سماتهم، وهي الثبات على الحق.
وهذه السمة تعدُّ محصلة أو جماع ونتيجة لكل السمات السابقة التي وضحتها الآيات، فما كان هذا الثبات ليأتي إلا من خلال كونهم ربانيين يثقون في مرجعيتهم وفي مصدر فكرتهم.
وما كان هذا الثبات ليأتي إلا من خلال كونهم جماعة تتعاضد ويساند بعضها بعضاً، وما كان لهذا الثبات أن يأتي إلا من خلال جديتهم في حمل الأمانة، ومن خلال فهمهم لدورهم الموكول، وهو حمل تلك الأمانة وتبليغها للناس، ومن خلال فهمهم للطريق واحتمالات النتائج.
ولا يقدر على الثبات إلا ذوو الطبيعة الإيجابية، والثبات على الحق سمة كل أصحاب الدعوات، حيث تبرز هذه الصفة جلية في سيرتهم.
وتدبر ثباته -صلى الله عليه وسلم- وهو يعلن: «ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك؛ على أن تشعلوا لي منها شعلة»(2) ـ يعني الشمس ـ.(1/127)
وتأمل ثبات أخيه هود ـ عليه السلام ـ وهو يواجه قومه، «في حسم كامل، وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة: {إن نَّقُولُ إلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ * إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 54 - 57]، إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر.. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم»(3).
والثبات على الحق في الحياة الدنيا، وفي القبر، وفي الدار الآخرة، نعمة ربانية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
وهو الرصيد الذي لا يضيع، وهو الزاد الذي لا ينضب، الذي يرثه اللاحقون ـ من أجيال الدعاة، وأصحاب الدعوات ـ من السابقين لهم على الطريق، الذين لم يبدلوا تبديلاً. وهو المنارة التي على ضوئها يهتدي كل شارد.
? السمة الثامنة: الاهتمام بنشر الدعوة:
ومن خلال تدبر آيات الجولة الثانية في القصة، والتي تبين المواجهة بين الرجل المؤمن وقومه، يمكننا أن نستشعر بعض السمات الأخرى للطليعة المؤمنة.
فلقد أورد السياق أن الرجل المؤمن قد تحرك {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} [يس: 20].
وهي اللمحة القرآنية التربوية الطيبة التي تهمنا في قضيتنا أو موضوعنا، وهي البحث في سمات الدعامة الأولى في عملية التغيير الحضاري، أو هي صفات الطليعة الفاعلة.
والتي نستشف منها أن هؤلاء الدعاة الربانيين، وهم الرسل الذين أرسلهم الحق ـ سبحانه ـ إلى أصحاب القرية، قد نجحوا في عرض قضيتهم، فاستعصت على محاولات التحجيم والتغييب، وكسرت طوق التعتيم والتجهيل والعزل، واتسعت دائرتها، وأصبحت حديث الشارع، حتى وصلت إلى أقصى مكان بالمدينة.
وهذه سمة مهمة جداً، يتبين منها صورة من صور النصر، ألا وهي النجاح في المهمة الموكولة، وهي البلاغ.
وتبين نجاح الرسل في نشر الفكرة في كل مكان مستطاع، وعدم الركون أو الهزيمة أمام ضغط الواقع، وأمام صعوبة العوائق.
? السمة التاسعة: الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس:
وتبين القصة، في بداية آيات الجولة الثانية، أن الخير قد أتى من حيث لم يُتوقع، وأن الله ـ عز وجل ـ قد سرّى عن هؤلاء الرسل عندما تعرضت فكرتهم للحصار، وتعرضوا للتكذيب والتهديد، فجاء الفرج: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20].
وهي لمسة تسرية ربانية تعطي الأمل لهؤلاء الرسل، فتقول لهم لقد أديتم مهمتكم، ونجحتم في حسن عرض القضية وتقديمها، وبيان عدالتها، فتفاعل الشارع معكم ممثلاً في تحرك هذا الرجل المؤمن، حتى لو كان فرداً، وفرداً واحداً، متفاعلاً مع عدالة قضيتكم وصدقها.
بل يتحمل خطورة عرض دفاعه ورأيه، حتى لو أدى ذلك إلى استشهاده في سبيل موقفه المناصر.
وهي القضية التي ننظر إليها بمنظار آخر، وهي سمة عظيمة يجب أن تتصف بها كل طليعة مؤمنة، ألا وهي الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس؛ وذلك من أجل هدف نهائي، هو إيجاد قاعدة جماهيرية تناصرها وتحميها.
وتدبر كيف أن الحق ـ سبحانه ـ قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها إلى الناس، كل الناس، على مختلف فئاتهم وأجناسهم وألوانهم، لتقودهم إلى خيري الدنيا والآخرة، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وذلك بعد إعادة صياغتها عقدياً، لتنطلق من قاعدة إيمانية، ولتكون شهيدة عليهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
فكان سلوكه -صلى الله عليه وسلم- في كل مراحل الدعوة، هو الالتزام بجانبين مهمين، هما:
1 - تربية قاعدة صلبة تقود التغيير.
2 - تكوين الرأي العام المناصر للفكرة، والمؤيد للداعية.
وعدم الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس، كل الناس، من أجل تكوين تلك القاعدة الجماهيرية، حتى إن تواضع عددها تحول الطليعة المؤمنة إلى حركة نخبوية، فتؤدي إلى عملية عزل بينها وبين جماهير الأمة، فيؤدي إلى سهولة عمليات إجهاضها.
وتكون المحصلة النهائية هي تعرضها إلى عملية وأد مقنعة.
? السمة العاشرة: العفة والنزاهة:(1/128)
وعندما جاء صاحب يس المؤمن إلى مسرح الأحداث، وصف هؤلاء الدعاة بصفتين أو سمتين بارزتين، لا يختلف عليهما اثنان، وهما أخطر صفتين؛ لأنهما جاءتا على لسان الآخر، وكذلك لم ينكرهما أصحاب القرية، والتي جعلت الرجل المؤمن يبني على أساسهما أن هؤلاء الدعاة صادقون، وبعيدون عن مواطن الشبهات أو مواضع الاتهام، وكانتا من أقوى حججه أثناء حواره مع قومه المكذبين.
وأول هاتين الصفتين نلمحها من قوله: {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 21]؛ أي اتبعوا هؤلاء الكرام الذين لم يتكسبوا بفكرتهم، ولم يطلبوا أجراً نظير وعظهم، ولم يتعيشوا بدعوتهم.
ألا ترون من لا يسعى إلى مغنم، ولم يطمع في أجر، وتنزه عما بأيديكم؛ ألا يدل ذلك على صدقه؟!
وهي السمة التي يتميز بها أصحاب الدعوات.
وتأمل كيف أنكر الحق ـ سبحانه ـ على مشركي مكة موقفهم من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي لم يطلب أجراً يثقل كاهلهم، فيدفعهم إلى التكذيب: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40].
وهو الرد نفسه من نوح ـ عليه السلام ـ على قومه المكذبين: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ} [هود: 29].
وهو أيضاً الاستنكار نفسه من هود ـ عليه السلام ـ على موقف عاد: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود: 51].
والترفع عما بأيدي الناس، أو العفة والنزاهة، هي سمة بارزة لكل طليعة مؤمنة، وهذه السمة هي سبيل الكرامة والاحترام، ومن مسوغات قبول الناس للفكرة، وسبب أساس لكسب حبهم، كما قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: «لا تزال كريماً على الناس ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك».
? السمة الحادية عشرة: حسن السيرة والسلوك:
أما الصفة الثانية التي لاحظها الرجل المؤمن؛ فهي أن هؤلاء الرسل: {مُّهْتَدُونَ} [يس: 21].
أي أن السمة الأخرى التي جعلت الرجل المؤمن يتحرك، ويخاطر بنفسه، ويدافع عن هؤلاء الدعاة، هي أن هؤلاء الرسل يتميزون بالصلاح والهداية، ولا يشين سلوكهم أي شائبة أخلاقية تقدح في صدقهم.
وقيل إن وصفه لهم بتلك السمة؛ هي الصفة التي عرف منها قومه أنه على دينهم، وأنه يدرك الفرق بين الهداية والضلال، ويميز بين المهتدي والضال، فرجموه بسببها(1).
وتأمل موقف السجينين عندما احتاجاً لتأويل رؤياهما، فما كان منهما إلا أن قصدا يوسف عليه السلام، وذكرا سبب ثقتهما فيه ـ عليه السلام ـ؛ أن سلوكه كان طيباً، حتى وهو في داخل السجن، فنطقا مقرَّيْن: {إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
[يوسف: 36].
وإنه لدرس عظيم لكل طليعة مؤمنة أن تري ربها ـ عز وجل ـ منها كل قوة وخير، ثم تري المؤمنين من حولها بل كل الناس كل خير وسلوك حسن؛ حتى تنطق الألسنُ فيهم بالذكر الحسن.
وإنها لسمة راقية بارزة أن يتحدث بها الآخر!
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
وقد ورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: «إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم؛ فقل: اعلموا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»(1).
الدعامة الثانية للتغيير الحضاري: وهي وجود القاعدة الجماهيرية:
أو الرأي العام الذي يناصر الفكرة، ويحب دعاتها ويكره أعداءها، ويحرص على انتصارها.
والتي تمثلت في حركة الرجل المؤمن، والذي جاء ليناصر الفكرة، ويدافع عن الدعوة، ويؤيد الدعاة.
وقد ورد الحديث عنها في آيات الجولة الثانية من القصة، وهي جولة المواجهة بين الرجل المؤمن وبين قومه:
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 20 - 27].
ومن خلال تدبر الآيات يمكننا أن نبحث حول بعض صفات هذه القاعدة.
ونقول بعض الصفات أو السمات؛ لأننا سنلتزم بما ورد عنها في آيات الجولة الثانية من القصة، وكذلك سنرتب السمات على حسب ورودها في سياق الآيات، وليس على حسب أولويتها، أو أهميتها.
? السمة الأولى: الوعي بالواقع:(1/129)
تبين آيات الجولة الثانية من القصة؛ أن مؤمن يس قد تحرك في مبادرة وموقف عظيم: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}.
ولا يهمنا أن يكون هذا الرجل هو حبيب النجار أو غيره، ولكن المهم أن نستشعر أنه رجل جاء من مكان ليس بالقريب، وكذلك كان يسعى؛ أي يسرع في مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يبتلى فيه الرسل، وذلك في مبادرة منه لم يحدها مكان ولا زمان ولا وقت، بل سعى ووصل في الوقت والمكان المناسبين، وعرض رأيه في القضية، وانتصر لهؤلاء الرسل ضد رغبة قومه.
ولقد بينت القصة أنه تحرك في وقت معين، وبعد وصول الفكرة مع قومه إلى طريق مسدود، وعندما بدأ التهديد الجاد للرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.
إذن لا فائدة الآن من القعود والسكوت، لا فائدة من الجلوس للمشاهدة والتصفيق.
وهذا ما يبين عمق فقه هذا الرجل للموقف، وحسن تقديره للحظة تدخله ومناصرته.
وهي سمة عظيمة أن تتربى الأمة على فقه الواقع، وحسن تقدير الظروف، وعلى فقه الموازنة بين الأمور. أو على الأقل أن تكون هناك قاعدة جماهيرية، تتربى على شيء من الوعي والدراية بحالة الأمة، ومعاناتها، وخطورة المرحلة التي تعيشها، وإصابتها بأمراض الاستنقاع والتردي الحضاري.
? السمة الثانية: الإيجابية:
لقد تحرك الرجل المؤمن بذاتية فريدة، وحضر بنفسه ومن خلال استشعار ذاتي بخطورة الموقف، ولم تذكر القصة أن أحداً قد استدعاه ليعرض رأيه، ولم يستنصره أحد ليقدم شهادته، وهذه اللمحة نستشعرها من تدبرنا لكلمة: {وَجَاءَ}.
وهذا ما يدل على مدى إيجابيته وتفاعله مع القضية، قضية الظلم، ظلم الفكرة والدعوة من خلال محاولات التحجيم والتعتيم والتجهيل، وظلم الدعاة من خلال وصول المواجهة بينهم وبين قومهم إلى طريق مسدود، ثم تعرضهم للتهديد.
وهذه سمة مهمة تبين مدى حاجة الطليعة المؤمنة التي تقود عملية التغيير الحضاري؛ إلى دعامة جماهيرية تناصرها، وتتميز بالإيجابية، فتتسامى على سلبية المواقف وتمييعها. أو بمعنى أبسط أن تتخلص من أمراض (الأنامالية)!
وكم من فرص ثمينة ضاعت على أمتنا جرّاء سلبية الشارع، وتميّع الجماهير؛ مما أعطى الفرصة لأهل الباطل أن يستأصلوا كل محاولات النهوض والتغيير!
? السمة الثالثة: التوسع والانتشار:
وتذكر القصة أن الرجل المؤمن قد تحرك {مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ}.
وعلى الرغم من أن التحرك كان ممثلاً في حركة رجل واحد، ولكننا نستشعر من مغزى التعبير القرآني: {مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ}؛ أن الفكرة قد انتشرت وشملت كل طوائف المجتمع، ووصلت إلى كل مكان مستطاع.. إلى أقصى المدينة.
وهذا ما يدل على نجاح الدعاة في كسر طوق التعتيم والتجهيل، واختراق الحصار الرهيب للفكرة، وإيصالها لكل المجتمع. ونستشعر أن التحرك الجماهيري للنصرة؛ جاء من الذين يعيشون في أقصى المدينة، ولم يأت من القريبين لمكان الحدث!
وتدبر كيف رفضت قريش دعوته -صلى الله عليه وسلم- بينما قبلها ونصرها الأنصار في المدينة!
إذن لا بد أن تكون القاعدة الجماهيرية واسعة الانتشار، تشمل كل الفئات والطوائف، وتشمل كل الأمكنة؛ لأن الطليعة المؤمنة لا تدري من أين سيأتي التحرك لنصرتها، وهذا هو الشرط الكمي في تكوين الرأي العام المناصر.
? السمة الرابعة: تميز النوعية:
تذكر الآيات أن الذي تحرك في تلك الظروف الحرجة، هو نوعية معينة من البشر، نوعية زكاها الحق ـ سبحانه ـ عندما أخبرنا أن المناصرة جاءت من موقف {رَجُلٌ}.
ولقد ورد عن الرازي ـ رحمه الله ـ حول (تنكير رجل) فائدتان وحكمتان:
الأولى: أن يكون تعظيماً لشأنه؛ أي رجل كامل في الرجولية.
الثانية: أن يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنهم تواطؤوا(1).
وهي سمة مهمة يجب أن تكون مقياس مدى قوة القاعدة المناصرة، وهو أن تكون من نوعية من الرجال بمعنى كلمة الرجال، حتى لو كانوا رجالاً مؤيدين أو محايدين.
فكلمة رجل على الأقل تحمل معنى أنه سيقول رأيه وسيتحمل تبعة ذلك!
فالقضية الكبرى ليست أن يكون هناك من يعلن رأيه، بل أن يكون مستعداً لتحمل تبعة هذا الإعلان.
وهذا هو الشرط النوعي في تكوين الرأي العام المناصر.
? السمة الخامسة: الجدية والقوة في التنفيذ:
وعندما نستمر في تدبرنا لموقف الرجل المؤمن؛ نجد أنه قد تحرك وجاء بنفسه، بل أتى من أقصى المدينة، ثم تذكر القصة أنه جاء {يَسْعَى}.
أي أنه جاء يسرع في مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يبتلى فيه الرسل، وذلك حتى يصل في الوقت والمكان المناسبين، ليعرض رأيه في القضية، ولينتصر لهؤلاء الرسل ضد رغبة قومه.
وهو ما يبين مدى الجدية والقوة في محاولة تنفيذ ما عنّ له، ومدى حرصه على عرض رأيه في الوقت المناسب.(1/130)
وقد بينا أن مقياس الكمال البشري أن يعرف الإنسانُ الحقَّ من الباطل، ثم يتبع هذا الحق بقوة وجدية، فالمواقف الحاسمة لا يلزمها مجرد الأداء الوظيفي الراتب، بل الجدية في الأداء، والإصرار على الموقف، وهما من السمات المهمة للتحولات الاجتماعية.
? السمة السادسة: معرفة تاريخها وأصلها:
لقد بدأ الرجل المؤمن خطابه مناشداً قومه: {قَالَ يَا قَوْمِ}.
ناداهم بخطاب فيه حكمة وشفقة وعاطفة؛ لأنه منهم ويعرف طبيعتهم، ويعرفونه.
ونستشعر من مغزى كلمة {يَا قَوْمِ} أنه ـ وإن ذكرت الآيات أنه كان رجلاً ـ ليس في عزوة أو منعة من قومه، ولكنه مجرد رجل عامي، وأنه من هؤلاء القوم ومن تلك العشيرة.
وذلك أدعى أن لا يشكك أحد في سابق معرفته بالدعاة، أي ليست هنالك شبهة للتواطؤ، كما ذكر الإمام الرازي ـ رحمه الله ـ.
وكذلك فليس هنالك مجال للشك في أصله، فهو من هؤلاء القوم، ومن البيئة نفسها.
وما دام من البيئة نفسها فهو الأعرف بطبيعة قومه وبمداخل إقناعهم، وأعلم بنفوسهم وأمراضهم الاجتماعية، وأدرى بمشكلات حياتهم.
وهذا ما يبين لنا سمة مهمة من سمات القاعدة الجماهيرية، وهي أن تكون معروفة النسب، ومن البيئة نفسها، وأن تكون فوق مستوى الشبهات.
? السمة السابعة: الوعي بطبيعة الدعاة:
ثم جاء في خطاب الرجل المؤمن وشهادته، أثناء مواجهته لقومه أنه بعد أن استهل خطابه بالنداء الرقيق الشفيق؛ أخذ في عرض موجز يعرِّف بطبيعة هؤلاء الدعاة الجدد، حيث {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس: 20 -21].
أي أنه يعرف أن هؤلاء رسل من عند الله سبحانه، وأنهم يتميزون بالنزاهة والعفّة، وأنهم صالحون مهتدون محسنون، ونستشعر من تلك الآيات القرآنية الطيبة ملمحاً تربوياً طيباً، وهو أن الرجل المؤمن كان يملك من المُثُل والمقاييس التي تجعله يحكم بالعدل والإنصاف على سلوك البشر، خاصة هؤلاء الدعاة، فيعرف طبيعتهم، ويعرف أصلهم.
لذا فنحن نستشعر أنه قد خبر ميزاتهم وصفاتهم الربانية السامية الطيبة، وعرف الرسالة الربانية التي يحملونها.
فمن ناحية أن هؤلاء الرسل كانوا مختلطين بالناس، ومندمجين بطبقات المجتمع، وكان سلوكهم في التعامل طيباً، وأنهم لم يضعوا بينهم وبين الناس حواجز تمنعهم من معرفتهم واختبار سلوكهم.
ومن ناحية أخرى: أن هذا الرجل كان يعرفهم جيداً؛ أي أن شهادته كانت قوية وعلى أساس متين، وعلى معرفة حقة.
وهي سمة طيبة لأي قاعدة بشرية أن تكون على وعي بالناس، خاصة أصحاب الأفكار الجديدة، وأنها لا تشهد إلا بما خبرت وعلمت.
? السمة الثامنة: الوعي بطبيعة الفكرة:
وعندما نستمر في قراءة شهادة الرجل المؤمن نجد أنه ـ وبعد عرضه لطبيعة الدعاة، ودعوته قومه لاتباع هؤلاء الرسل ـ بدأ عرضاً آخر موجزاً يشرح فيه الدعوة، ويوضح العقيدة الربانية، ويبين الرسالة التي جاء بها هؤلاء الرسل، فاستطرد قائلاً: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}
[يس: 22 - 25].
أي ما الذي يدعوني أن لا أعبد الذي خلقني، وهو ـ سبحانه ـ سيحاسبني وسيحاسبكم على ما قدمنا في هذه الحياة الدنيا.
وكيف ألجأ إلى آلهة أخرى من دون الله، آلهة لا تضر ولا تنفع ولا تشفع، ولا تنقذ من النار ومن سوء المصير؟!
فإن زللت عن ذلك الطريق والصراط المستقيم، إنه والله! لهو الضلال المبين، وهذا هو قراري الأخير، وأعلنكم به بصراحة: أنني آمنت به سبحانه، وهذه هي شهادتي كاملة واضحة، فاسمعوها!
ويمكننا أن نخرج بملمح تربوي طيب من هذه الشهادة، أن هذا الرجل كان على معرفة جيدة بالعقيدة، وكان على قناعة بتلك الدعوة، وكان على يقين وإيمان ثابت صادق بها.
وهذا يدعو القائمين على عملية التغيير الحضاري إلى أن يهتموا ببيان العقيدة ودعوة جماهير الشارع؛ حتى يتكون رأي عام مناصر على قناعة راسخة بالرسالة، وعلى إيمان ثابت بالفكرة.
? السمة التاسعة: القدرة على التعبير عن الرأي:
يبدو من خطاب الرجل المؤمن أنه يتميز بالشجاعة والقدرة على عرض شهادته، حيث جاء وتحرك وأعلن رأيه كاملاً واضحاً، وأعلن قراره أنه قد اتبع الدعاة وآمن بالفكرة.
وكانت أعظم مفردات خطابه، وأعظم بنود شهادته تحدياً، هي صرخته الأخيرة المدوية: {إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}.
وهي لمحة طيبة، أن تكون الأمة أو رموزها الاجتماعية على وعي بأهمية حرية إبداء الرأي، والشجاعة في التعبير عن أفكارها، تحت كل الظروف.
فلا يكفي أن تكون هنالك قاعدة جماهيرية لها رأي مناصر، بل الأهم منه أن تكون عندها الجرأة في التعبير عن آرائها.(1/131)
وحرية الرأي أو حرية الحوار؛ إنما تدل على صحة المناخ الاجتماعي السائد، وهو الدعامة التي تصنع الأحرار، وتعمل على تفعيل وتنشيط عوامل الوحدة الفكرية عند الأمة.
وحرية الرأي هي المرتكز الذي على أساسه يتم تنقية العقلية المسلمة من آثار المناخات الاستبدادية، وهي الأمراض الفكرية التي تكاثرت جراثيمها في أروقة العقليات المكبوتة، فأثمرت: عقلية العوام، وطبيعة القطيع، ونفسية العبيد(1).
? السمة العاشرة: حب فعل الخير:
ولا يبين سياق القصة ما جرى للرجل المؤمن، «وتركها فجوة فنية، وترك لخيال القارئ أن يملأها، من خلال تصوره أو توقعه ما سيصيبه، إن ما جرى له معروف من خلال الجو الذي يعيشه، إنهم سيرجمون الرجل الذي تجرأ وتحداهم.
وقد وقف المفسرون أمام حقيقة قوله ـ سبحانه ـ: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}.
فذهب بعضهم إلى أنه قيل له ذلك، وأن الملائكة قد أخذته وأدخلته الجنة فعلاً، وأنه يعيش فيها حقيقة.
وذهب بعضهم إلى أن المراد هو إخباره بأنه استحق دخول الجنة بموقفه الإيماني، وتبشيره بذلك، لينال عاجل البشرى(2).
ونحن مع القول الثاني ـ والله أعلم ـ.
وبعد تبشيره باستحقاقه الجنة تذكّر قومه الذين آذوه، حيث {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.
لقد قتله قومه، فقدموا له خيراً ومعروفاً من حيث لم يقصدوا أو يريدوا.
ولهذا تمنى لهم الهداية.
فنصحهم في حياته ونصحهم في مماته(3).
ونستشعر من خلال هذه النهاية، ومن خلال تدبر آخر كلماته، أن هذا الرجل المؤمن كان يتميز بصفة إنسانية راقية، وهي حب فعل الخير.
وتدبر ما ورد في قصة صاحب الجنتين، عندما نتأمل الرجل المؤمن في حواره، وعرض أفكاره، ونقف عند نقطة مهمة جاءت على لسانه، والحوار في مرحلة ساخنة، وهي نصحيته المشفقة: {وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39]، حيث أرشد الرجل المؤمن صاحبه الكافر، وهو يحاوره، إلى التصرف اللائق الصحيح الذي يشكر فيه ربه، ويعمل على دوام نعمة الله عليه.
وكذلك نتذكر ما ورد في قصة الغلام والراهب(4)، أنه ما أن استقر الإيمان في قلبه، بدأ في الاختلاط والخروج إلى الناس، وأخذ بالاندماج في مشاكل حياتهم، وقدم إليهم الخير والخدمات الجليلة، مثل قتل الدابة، ومعالجة المرضى.
وحب فعل الخير هي الصفة التي تفتح الأبواب الموصدة أمام الفكرة، وذلك من خلال فتح القلوب، ومعالجة النفوس التي تحب فعل الخير إليها.
فهي تقوم على فقه استعباد قلوب الناس.
وتلك ركيزة يستشعرها أبناء التيار الإسلامي من باب مسؤوليتهم، وتمثيلهم لتيار جاء ليحمل الخير للبشرية التعيسة الرافضة الجامحة.
ومن باب تلك العاطفة الجياشة التي يحملها دعاة التيار الديني دوماً في كل عصر، وفي كل موقف، حتى لمخالفيهم.
ذلك التيار الذي يحمل شعاراً، وأمراً ربانياً لبث الخير أينما حل، وهو طريق الفلاح {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الحج: 77].
الجولة الثالثة: جولة التعقيبات القرآنية:
وهي التعقيبات التي تعرض خلاصة السنن الإلهية التي تدور حولها قصة أصحاب القرية.
وهي السنن الإلهية الاجتماعية التي تنطبق على أي واقع إذا وجدت أسبابها وظروفها زماناً ومكاناً وأشخاصاً وأفكاراً.
ومن ثم يمكن التفاعل معها، وحسن تسخيرها في المهمة الإنسانية الاستخلافية.
وفي عملية التغيير أو التبادل الحضاري.
خاصة في المواجهة الحضارية المعاصرة، وحسن عرض وتقديم المشروع الحضاري الإسلامي.
ومن خلال تلك التعقيبات يمكننا أن نتبين كيف أن القصة القرآنية تساهم في عملية البناء الفكري للأمة.
فالفكرة هي المنطلق الأول في عملية النهوض الحضاري.
والقصة تؤدي دوراً خطيراً في عملية البناء الفكري.
والبناء الفكري هو مرتكز التحول النفسي للأمة.
فما أحوج الدعاة لفقه دور القصة القرآنية؛ بما تحمله من رصيد فكري!
أولاً: التعقيبات القرآنية الخاصة:
وهي التعقيبات التي تبين مصير أهل القرية، الرافضين للدعوة، والمكذبين للرسل وللذي آمن معهم، ولعلهم قتلوهم جميعاً. وهي السنن الإلهية الاجتماعية التي برهنت القصة على صدقها وفعاليتها، {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 28 - 29].
لقد استقدموا عذابه وانتقامه ـ سبحانه ـ، فجاءهم سريعاً باغتاً ساحقاً ماحقاً، على هيئة صيحة الدمار، فأهلكتهم، فأصبحوا ميتين هامدين كما تخمد النار.(1/132)
وسواء كان المعنى أنه ـ سبحانه ـ قد حقّر من شأنهم، وهوّن من أمرهم، فكان الانتقام الرباني من السهولة واليسر؛ أنه ـ سبحانه ـ لم يرسل إليهم الملائكة أو الجنود والعساكر لتهلكهم، بل كان الأمر أهون عليه ـ سبحانه ـ من ذلك، فكان الأمر إلى جبريل ـ عليه السلام ـ أن يرسل عليهم الصيحة المدمرة المهلكة.
أو كان المعنى الآخر أنه ـ سبحانه ـ قد صغَّر من قدرهم، فلم يرسل إليهم جنوداً أي أنبياء أو رسل آخرين لهدايتهم، بل إنهم لا يستحقون ذلك لأنهم أصغر وأحقر.
ففي كلا المعنيين نستشعر مدى التحقير والهوان والصغار الذي استحقه هؤلاء المكذبون الرافضون.
وهي سنة الله ـ عز وجل ـ الإلهية الاجتماعية، العامة المطردة المتكررة، الثابتة والتي لا تتحول ولا تتبدل، مع كل الرافضين للهداية.
مع الذين يرفضون الفكرة ويحاربون الدعوة، مع الذين يكذبون الرسل والدعاة.
ثانياً: التعقيبات القرآنية العامة:
وهي التعقيبات التي توضح الدروس التربوية والعبر العامة التي وضحتها القصة.
وهي كذلك السنن الإلهية الاجتماعية العامة، والتي كانت القصة مثالاً تطبيقياً لها وبرهاناً ثابتاً حول فعاليتها.
{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 30 - 32] .
لقد جاءت هذه التعقيبات وكأنها إعلان علوي رهيب عام، ينادي بالحسرة والتندم والويل والبوار لنوعية من العباد، تبين الآيات أسباب أو مسوِّغات استحقاقهم لهذا الإعلان:
1 - عدم استغلال فرص النجاة والفوز في الدارين، وذلك باتباع الحق.
2 - الاستهزاء بالرسل والدعاة، ومحاربتهم، والاستهزاء بالفكرة ورفضها.
3 - عدم قراءة التاريخ، للوقوف على أحداثه، واستقراء سننه ـ سبحانه ـ الإلهية الكونية والاجتماعية، ومشاهدة سِيَر أعداء الدعوة، ومكذبي الفكرة، على مر تاريخ المسيرة الدعوية.
وإدراك معنى الرجوع إليه ـ سبحانه ـ للمحاسبة والجزاء.
4 - الغفلة عن اليوم الآخر، وأن كل البشر مجموعون للحساب، على موقفهم من الدعوة والدعاة، ولتحديد المصير، {أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 4 - 6].
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
________________________________________
(1)
(1) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 2/ 130.
(2) الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي، بتصرف.
(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، 23 / 2961.
(4) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 3 / 238.
(5) صحيح الجامع، الألباني، 3278.
(6) سنن أحمد بن شعيب النسائي، 2 / 107.
(7) سنن الترمذي، حسن صحيح غريب، 2254.
(8) متفق عليه.
(9) تفسير القرطبي، 6 / 47، نقلاً عن: مسافر في قطار الدعوة، الدكتور عادل الشويخ، 347.
(10) رواه مسلم.
(11) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 146 ـ 147.
(2)
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، 23/ 2961.
(2) أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم 92، وإسناده حسن.
(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، 12 / 1905.
(4) تفسير الجلالين.
(5) رواه البخاري.
(6) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 3 / 249.
(7) دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، الدكتور عبد المجيد النجار، طبعة السعود العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة أبحاث علمية (6 ـ 15).
(8) الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي، 15 ـ 19 بتصرف.
(9) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 3/ 258 ـ 261، بتصرف.
(10) صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود، 4/ 2299، ورقمه 3005، ورواه الترمذي في سننه في كتاب التفسير، تفسير سورة البروج، 4/ 437.
------------
مجلة البيان، العدد (192)، شعبان 1424،اكتوبر 2003 .
مجلة البيان، العدد (193)، رمضان 1424،نوفمبر 2003 .
--------------
ومن أساليبهم اتهام الرسل بأنهم بشر
قال تعالى :{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) [الفرقان/7-9] }(1/133)
إن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق ، ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون ، وأنهم موتى ، وأن الله لم يقسم لهم الهدى - وفق سنة الله في الهدى والضلال كما أسلفنا - ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لاتتبدل ، وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم!
وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني .
إنه ليس خاصاً بزمن ، ولا محصوراً في حادث ، ولا مقيداً باقتراح معين . فالزمن يتغير ، وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى . وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر . . إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة « نظرية مذهبية » على الورق كالذي يجدونه في النظريات المذهبية الأرضية الصغيرة ، التي يصوغها البشر لفترة من الفترات؛ ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات! . . وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام - على الورق - أو صورة تشريعات مفصلة - على الورق أيضاً - تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع لا علاقة لها بإلاسلام ( لأن أهل هذه الجاهلية يقولون : إن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة! ) وتنظم لهم هذه الأوضاع؛ بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة الله . . وكلها محاولات ذليلة ، لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة ، التي لا تثبت على حال . باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله!
وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى ، ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات . . كالاشتراكية . . والديمقراطية . . وما إليها . . ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة! . . إن « الاشتراكية » مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر؛ قابل للصواب والخطأ . وإن « الديمقراطية » نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك ، يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضاً . . والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي ، والنظام الاجتماعي الاقتصادي ، والنظام التنفيذي والتشكيلي . . وهو من صنع الله المبرأ من النقص والعيب . . فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله - سبحانه - عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر؟ بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله - سبحانه - عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد؟! . .(الظلال)
---------------
ومن أساليبهم طلب المعجزات من الرسل عنادا وتكذيبا
قال تعالى : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) [الإسراء/90-93] }
ومن مثل هذه الاقتراحات يتبين التعنت كما تتبين الجهالة . . وإلا فقد كان لهم من خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرفونه جيداً بالخبرة الطويلة؛ ما يدلهم على صدقة وأمانته وهم كانوا يلقبونه الأمين ، ويودعون لديه أماناتهم حتى وهم معه على أشد الخلاف؛ وقد هاجر - صلى الله عليه وسلم - وترك ابن عمه علياً - رضي الله عنه - يرد إلى قريش ودائعهم التي كانت ما تزال عنده؛ وهم معه على الخلاف الذي يدبرون معه قتله! وكذلك كان صدقه عندهم مستيقناً كأمانته؛ فإنه لما دعاهم أول مرة دعوة جماعية جهرية على الصفا - حين أمره ربه بذلك - وسألهم : إن كانوا يصدقونه لو أنبأهم بنبأ ، أجابوه كلهم بأنه عندهم مصدق .
. فلو كانوا يريدون أن يعلموا صدقه لقد كان لهم في ماضيه برهان ، ولقد كانوا يعلمون : إنه لصادق . . وسيأتي في سياق السورة خبر الله الصادق لنبيه : أنهم لا يكذبونه { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك . ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } فهي الرغبة في الإنكار والإعراض؛ وهو العناد والاستكبار عن الحق . وليس أنهم يشكون في صدقه صلى الله عليه وسلم !(1/134)
ثم لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون . فإن هذا القرآن شاهد بذاته ، بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير ، على أنه من عند الله . . وهم لم يكونوا يجحدون الله . . وهم - على وجه التأكيد - كانوا يحسون ذلك ويعرفونه . . كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية؛ ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى - وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة . وكل من مارس فن القول يدرك إدراكاً واضحاً أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا؛ لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه! كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقادي والمنهج الذي يتخذه لتقرير هذا الاعتقاد في الإدراك البشري ، ونوع المؤثرات واللمسات الموحية . . كلها غير معهود في طبيعة التصورات البشرية والمناهج البشرية ، والطرائق البشرية في الأداء النفسي والتعبيري أيضاً . . والعرب لم يكن يخفى عليهم الشعور بهذا في قرارة نفوسهم . وأقوالهم ذاتها وأحوالهم تقرر أنهم ما كانوا يشكون في أن هذا القرآن من عند الله . .
وهكذا يبدو أن هذه الاقتراحات لم تكن طلبا للبرهان؛ إنما كانت وسيلة من وسائل الإعنات؛ وأسلوباً من أساليب التعنت؛ وخطة للمماحكة والمعاندة؛ وأنهم كانوا كما قال الله سبحانه عنهم في الآية السابقة : { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم ، لقال الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين } !
-----------
إن إعجاز القرآن أبعد مدى من إعجاز نظمه ومعانيه ، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله هو عجز كذلك عن إبداع منهج كمنهجه يحيط بما يحيط به .
{ ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا؛ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا؛ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً؛ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا؛ أو يكون لك بيت من زخرف؛ أو ترقى في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه . . . } .
وهكذا قصر إدراكهم عن التطلع إلى آفاق الإعجاز القرآنية ، فراحوا يطلبون تلك الخوارق المادية ، ويتعنتون في اقتراحاتهم الدالة على الطفولة العقلية ، أو يتبجحون في حق الذات الإلهية بلا أدب ولا تحرج . . لم ينفعهم تصريف القرآن للأمثال والتنويع فيها لعرض حقائقه في أساليب شتى تناسب شتى العقول والمشاعر ، وشتى الأجيال والأطوار . { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } وعلقوا إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم بأن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً! أو بأن تكون له جنة من نخيل وعنب يفجر الأنهار خلالها تفجيراً! أو أن يأخذهم بعذاب من السماء ، فيسقطها عليهم قطعاً كما أنذرهم أن يكون ذلك يوم القيامة! أو أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً يناصره ويدفع عنه كما يفعلون هم في قبائلهم! أو أن يكون له بيت من المعادن الثمينة . أو أن يرقى في السماء . ولا يكفي أن يعرج إليها وهم ينظرونه ، بل لا بد أن يعود إليهم ومعه كتاب محبر يقرأونه!
وتبدو طفولة الإدراك والتصور ، كما يبدو التعنت في هذه المقترحات الساذجة . وهم يسوون بين البيت المزخرف والعروج إلى السماء! أو بين تفجير الينبوع من الأرض ومجيء الله سبحانه والملائكة قبيلاً! والذي يجمع في تصورهم بين هذه المقترحات كلها هو أنها خوارق . فإذا جاءهم بها نظروا في الإيمان له والتصديق به!
وغفلوا عن الخارقة الباقية في القرآن ، وهم يعجزون عن الإتيان بمثله في نظمه ومعناه ومنهجه ، ولكنهم لا يلمسون هذا الإعجاز بحواسهم فيطلبون ما تدركه الحواس!
والخارقة ليست من صنع الرسول ، ولا هي من شأنه ، إنما هي من أمر الله سبحانه وفق تقديره وحكمته .
وليس من شأن الرسول أن يطلبها إذا لم يعطه الله إياها . فأدب الرسالة وإدراك حكمة الله في تدبيره يمنعان الرسول أن يقترح على ربه ما لم يصرح له به . . { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا } يقف عند حدود بشريته ، ويعمل وفق تكاليف رسالته ، لا يقترح على الله ولا يتزيد فيما كلفه إياه .
ولقد كانت الشبهة التي عرضت للأقوام من قبل أن يأتيهم محمد صلى الله عليه وسلم ومن بعد ما جاءهم ، والتي صدتهم عن الإيمان بالرسل وما معهم من الهدى ، أنهم استبعدوا أن يكون الرسول بشراً؛ ولا يكون ملكاً :{ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشرا رسولا؟ } .
وقد نشأ هذا الوهم من عدم إدراك الناس لقيمة بشريتهم وكرامتها على الله ، فاستكثروا على بشر أن يكون رسولاً من عند الله . كذلك نشأ هذا الوهم من عدم إدراكهم لطبيعة الكون وطبيعة الملائكة ، وأنهم ليسوا مهيئين للاستقرار في الأرض وهم في صورتهم الملائكية حتى يميزهم الناس ويستيقنوا أنهم ملائكة .
{ قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولا } .(1/135)
فلو قدر الله أن الملائكة تعيش في الأرض لصاغهم في صورة آدمية ، لأنها الصورة التي تتفق مع نواميس الخلق وطبيعة الأرض ، كما قال في آية أخرى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلاً } والله قادر على كل شيء ، ولكنه خلق نواميس وبرأ مخلوقاته وفق هذه النواميس بقدرته واختياره ، وقدر أن تمضي النواميس في طريقها لا تتبدل ولا تتحول ، لتحقق حكمته في الخلق والتكوين غير أن القوم لا يدركون!
وما دامت هذه سنة الله في خلقه ، فهو يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينهي معهم الجدل ، وأن يكل أمره وأمرهم إلى الله يشهده عليهم ، ويدع له التصرف في أمرهم ، وهو الخبير البصير بالعباد جميعاً :
ومن هذه السنن أن الإنسان مهيأ للهدى والضلال ، وفق ما يحاوله لنفسه من السير في طريق الهدى أو طريق الضلال . فالذي يستحق هداية الله بمحاولته واتجاهه يهديه الله؛ وهذا هو المهتدي حقاً ، لأنه اتبع هدى الله . والذين يستحقون الضلال بالإعراض عن دلائل الهدى وآياته لا يعصمهم أحد من عذاب الله : { فلن تجد لهم أولياء من دونه } ويحشرهم يوم القيامة في صورة مهينة مزعجة : { على وجوهم } يتكفأون { عمياً وبكماً وصماً } مطموسين محرومين من جوارحهم التي تهديهم في هذا الزحام . جزاء ما عطلوا هذه الجوارح في الدنيا عن إدراك دلائل الهدى . و { مأواهم جهنم } في النهاية ، لا تبرد ولا تفتر { كلما خبت زدناهم سعيراً } .
وهي نهاية مفزعة وجزاء مخيف . ولكنهم يستحقونه بكفرهم بآيات الله : { ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا } واستنكروا البعث واستبعدوا وقوعه : { وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً؟ }
والسياق يعرض هذا المشهد كأنه هو الحاضر الآن ، وكأنما الدنيا التي كانوا فيها قد انطوت صفحتها وصارت ماضياً بعيداً . . وذلك على طريقة القرآن في تجسيم المشاهد وعرضها واقعة حية ، تفعل فعلها في القلوب والمشاعر قبل فوات الأوان .
ثم يعود ليجادلهم بالمنطق الواقعي الذي يرونه فيغفلونه .
{ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم؟ } فأية غرابة في البعث؛ والله خالق هذا الكون الهائل قادر على أن يخلق مثلهم ، فهو قادر إذاً على أن يعيدهم أحياء . { وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه } أنظرهم إليه ، وأجلهم إلى موعده { فأبى الظالمون إلا كفورا } فكان جزاؤهم عادلاً بعد منطق الدلالات ومنطق المشاهدات ، ووضوح الآيات .
على أن أولئك الذين يقترحون على الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المقترحات المتعنتة ، من بيوت الزخرف ، وجنات النخيل والأعناب ، والينابيع المتفجرة . . بخلاء أشحاء حتى لو أن رحمة الله قد وكلت إليهم خزائنها لأمسكوا وبخلوا خوفاً من نفادها ، ورحمة الله لا تنفد ولا تغيض :
{ قل : لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا } .
وهي صورة بالغة للشح ، فإن رحمة الله وسعت كل شيء ، ولا يخشى نفادها ولا نقصها . ولكن نفوسهم لشحيحة تمنع هذه الرحمة وتبخل بها لو أنهم كانوا هم خزنتها!
وعلى أية حال فإن كثرة الخوارق لا تنشئ الإيمان في القلوب الجاحدة . وها هو ذا موسى قد أوتي تسع آيات بينات ثم كذب بها فرعون وملؤه ، فحل بهم الهلاك جميعاً .
{ قل : كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ، إنه كان بعباده خبيراً بصيرا } . .
وهو قول يحمل رائحة التهديد . أما عاقبته فيرسمها في مشهد من مشاهد القيامة مخيف :
{ ومن يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ، ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً ، مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا . ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا ، وقالوا : أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديدا؟ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم؟ وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه ، فأبى الظالمون إلا كفورا } . .
ولقد جعل الله للهدى وللضلال سنناً ، وترك الناس لهذه السنن يسيرون وفقها ، ويتعرضون لعواقبها .(الظلال)
---------------
محاولتهم زحزحة أهل الحق عنه بأية وسيلة
قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) [القلم/7-9] }
فهي المساومة إذن ، والالتقاء في منتصف الطريق . كما يفعلون في التجارة . وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها؛ لأن الصغير منها كالكبير . بل ليس في العقيدة صغير وكبير . إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء . لا يطيع فيها صاحبها أحداً ، ولا يتخلى عن شيء منها أبداً .(1/136)
وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق ، ولا أن يلتقيا في أي طريق . وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان . جاهلية الأمس وجاهلية اليوم ، وجاهلية الغد كلها سواء . إن الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر ، ولا تقام عليها قنطرة ، ولا تقبل قسمة ولا صلة . وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق!
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم ليدهن لهم ويلين؛ ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم ، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه ، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب! على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول! ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسماً في موقفه من دينه ، لا يدهن فيه ولا يلين . وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانباً وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير . فأما الدين فهو الدين! وهو فيه عند توجيه ربه : { فلا تطع المكذبين } !
ولم يساوم صلى الله عليه وسلم في دينه وهو في أحرج المواقف العصبية في مكة . وهو محاصر بدعوته . وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون . ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين ، تأليفاً لقلوبهم ، أو دفعاً لأذاهم . ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد . .
روى ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق قال :
« فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام . وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه فيما بلغني حتى ذكر آلهتهم وعابها . فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه ، وقام دونه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهراً لأمره ، لا يرده عنه شيء » .
« فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب . . عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب بن أمية . وأبو البختري واسمه العاص بن هشام . والأسود بن المطلب بن أسد . وأبو جهل ( واسمه عمرو بن هشام وكان يكنى ابا الحكم ) والوليد بن المغيرة ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر . . أو من مشى منهم . . فقالوا : يا أبا طالب . إن ابن اخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه؛ فنكفيكه! فقال لهم أبو طالب قولاً وفيقاً ، وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه .
» ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه : يظهر دين الله ، ويدعو إليه . ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعدوا وتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذامروا فيه . وحض بعضهم بعضاً عليه . ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى . فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا . وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا؛ وإنا والله لا نصبر على هذا : من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قالوا له . . ثم انصرفوا عنه . فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه . قال ابن إسحق : وحدثني يعقوب بن عقبة بن المغيرة بن الأخنس ، أنه حدّث ، أن قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا بن أخي . إن قومك قد جاءوني فقالوا لي : كذا وكذا ( للذي كانوا قالوا له ) فأبق عليَّ وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق . قال : فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : « يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته » . قال : واستعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى .
ثم قام . فلما ولى ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا بن أخي . قال : فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً « .
فهذه صورة من إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته في اللحظة التي تخلى عنه فيها عمه . حاميه وكافيه ، وآخر حصن من حصون الأرض يمنعه المتربصين به المتذامرين فيه!(1/137)
هذه هي صورة قوية رائعة جديدة في نوعها من حيث حقيقتها ، ومن حيث صورها وظلالها ومن حيث عباراتها وألفاظها . . جديدة جدة هذه العقيدة ، رائعة روعة هذه العقيدة ، قوية قوة هذه العقيدة . فيها مصداق قول الله العظيم : { وإنك لعلى خلق عظيم } . .
وصورة أخرى رواها كذلك ابن اسحق ، كانت في مساومة مباشرة من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إذ أعياهم أمره ، ووثبت كل قبيلة على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه .
قال ابن إسحق : وحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيداً ، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : » يا معشر قريش . ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون . فقالوا : يا أبا الوليد قم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا بن أخي . إنك منا حيث علمت : من السطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها . قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - : « قل يا أبا الوليد أسمع » . قال : يا بن أخي . إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا . وإن كنت إنما تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك . وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه! أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : « أقد فرغت يا أبا الوليد؟ » قال : نعم . قال : « فاستمع مني » . قال : أفعل . فقال : { بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون . بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون؟ وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب ، فاعمل إننا عاملون . قل : إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنمآ إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين . . . } ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه . فلما سمعها منه عتبة أنصت لها . وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه . ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد . ثم قال . « قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت . فأنت وذاك » . . فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أنني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني ، واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم . فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم . وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم . . «
وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } فقام مذعوراً فوضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنشدك الله والرحم يا محمد! وذلك مخافة أن يقع النذير . وقام إلى القوم فقال ما قال!
وعلى أية حال فهذه صورة أخرى من صور المساومة . وهي كذلك صورة من صور الخلق العظيم . تبدو في أدبه صلى الله عليه وسلم وهو يستمع إلى عتبة حتى يفرغ من قوله الفارغ الذي لا يستحق الانتباه من مثل محمد صلى الله عليه وسلم في تصوره لقيم هذا الكون ، وفي ميزانه للحق ولعرض هذه الأرض . ولكن خلقه يمسك به لا يقاطع ولا يتعجل ولا يغضب ولا يضجر ، حتى يفرغ الرجل من مقالته ، وهو مقبل عليه . ثم يقول في هدوء : « أقد فرغت يا أبا الوليد؟ » زيادة في الإملاء والتوكيد . إنها الطمأنينة الصادقة للحق مع الأدب الرفيع في الاستماع والحديث .
. وهما معاً بعض دلالة الخلق العظيم .
وصورة ثالثة للمساومة فيما رواه ابن اسحق قال :(1/138)
« واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة فيما بلغني الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي . وكانوا ذوي أسنان في قومهم . فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر . فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه! فأنزل الله تعالى فيهم : { قل : يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون } السورة كلها . .
وحسم الله المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة . وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره ربه أن يقول . .(الظلال)
-----------------
زعمهم أن الكتب السماوية أساطير الأولين
قال تعالى :{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) [الأنعام/25] }
وقال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) [الأنفال/31، 32] }
وقال تعالى :{ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) [المؤمنون/79-83] }
وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) [الفرقان/4-7] }
إنهما صفحتان متقابلتان : صفحة في الدنيا يرتسم فيها العناد والإعراض؛ وصفحة في الآخرة يرتسم فيها الندم والحسرة . . يرسمها السياق القرآني ، ويعرضهما هذا العرض المؤثر الموحي؛ ويخاطب بهما الفطر الجاسية؛ ويهز بها هذه الفطر هزاً ، لعل الركام الذي ران عليها يتساقط ، ولعل مغاليقها الصلدة تتفتح ، ولعلها تفيء إلى تدبر هذا القرآن قبل فوات الأوان
{ ومنهم من يستمع إليك ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } . .
والأكنة : الأغلفة التي تحول دون أن تتفتح هذه القلوب فتفقه؛ والوقر : الصمم الذي يحول دون هذه الآذان أن تؤدي وظيفتها فتسمع . .
وهذه النماذج البشرية التي تستمع؛ ولكنها لا تفقه ، كأن ليس لها قلوب تدرك؛ وكأن ليس لها آذان تسمع . . نماذج مكرورة في البشرية في كل جيل وفي كل قبيل ، في كل زمان وفي كل مكان . . إنهم أناسي من بني آدم . . ولكنهم يسمعون القول وكأنهم لا يسمعونه . كأن آذانهم صماء لا تؤدي وظيفتها . وكأن إدراكهم في غلاف لا تنفذ إليه مدلولات ما سمعته الآذان!
{ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . حتى إذا جاءوك يجادلونك . يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين } .
فأعينهم ترى كذلك . ولكن كأنها لا تبصر . أو كأن ما تبصره لا يصل إلى قلوبهم وعقولهم!
فما الذي أصاب القوم يا ترى؟ ما الذي يحول بينهم وبين التلقي والاستجابة . بينما لهم آذان ولهم عيون ولهم عقول؟ يقول الله - سبحانه - :
{ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً . وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } . .
وهذا يعبر عن قضاء الله فيهم بألا يتلقى إدراكهم هذا الحق ولا يفقهه؛ وبألا تؤدي أسماعهم وظيفتها فتنقل إلى إدراكهم ما تسمع من هذا الحق فتستجيب له ، مهما يروا من دلائل الهدى وموحيات الإيمان .(1/139)
غير أنه يبقى أن نلتمس سنة الله في هذا القضاء . . إنه سبحانه يقول : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } ويقول : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها } . فشأن الله - سبحانه - أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى؛ وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها . . فأما هؤلاء فلم يتجهوا إلى الهدى ليهديهم الله؛ ولم يحاولوا أن يستخدموا أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانهم ، فييسر الله لهم الاستجابة . . هؤلاء عطلوا أجهزتهم الفطرية ابتداء؛ فجعل الله بينهم وبين الهدى حجاباً؛ وجرى قضاؤه فيهم بهذا الذي جرى جزاء على فعلهم الأول ونيتهم الأولى . . وكل شيء إنما يكون بأمر الله . ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد ، وأن يفلح من يتزكى . ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . . والذين يحيلون ضلالهم وشركهم وخطاياهم على إرادة الله بهم ، وعلى قضائه فيهم ، إنما يغالطون في هذه الإحالة . والله سبحانه يجبههم بالحق ، وهو يحكي أقوالهم في هذا الشأن ويسفهها : { وقال الذين أشركوا : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دونه من شيء . كذلك فعل الذين من قبلهم . فهل على الرسل إلا البلاغ المبين؟ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً : أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، فمنهم من هدى الله ، ومنهم من حقت عليه الضلالة ، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } . فدل هذا على إنكار الله عليهم قولهم؛ وعلى أن الضلالة إنما حقت عليهم - بعد النذارة - بفعلهم . .
والذين أثاروا قضايا القضاء والقدر ، والجبر والاختيار ، وإرادة العبد وكسبه . . ليجعلوا منها مباحث لاهوتية ، تخضع لما تتصوره عقولهم من فروض وتقديرات ، إنما يجانبون منهج القرآن في عرض هذه القضية في صورتها الواقعية التقريرية البسيطة؛ التي تقرر أن كل شيء إنما يكون بقدر من الله؛ وأن اتجاه الإنسان على هذا النحو أو ذاك داخل في حدود فطرته التي خلقه الله عليها ، والتي جرى بها قدر الله فكانت على ما كانت عليه؛ وأن اتجاهه على هذا النحو أو ذاك تترتب عليه نتائج وآثار في الدنيا والآخرة يجري بها قدر الله أيضاً ، فتكون .
وبهذا يكون مرجع الأمر كله إلى قدر الله . . ولكن على النحو الذي يرتب على إرادة الإنسان الموهوبة له ما يوقعه قدر الله به . . وليس وراء هذا التقرير إلا الجدل الذي ينتهي إلى المراء!
والمشركون كانت معروضة عليهم أمارات الهدى ودلائل الحق وموحيات الإيمان ، في هذا القرآن ، الذي يلفتهم إلى آيات الله في الأنفس والآفاق؛ وهي وحدها كانت كفيلة - لو اتجهت إليها قلوبهم - أن توقع على أوتار هذه القلوب ، وأن تهز فيها المدارك الغافية فتوقظها وتحييها ، لتتلقى وتستجيب . . إلا أنهم هم لم يجاهدوا ليهتدوا؛ بل عطلوا فطرتهم وحوافزها؛ فجعل الله بينهم وبين موحيات الهدى حجاباً؛ وصاروا حين يجيئون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجيئون مفتوحي الأعين والآذان والقلوب؛ ليتدبروا ما يقوله لهم تدبر الباحث عن الحق؛ ولكن ليجادلوا ويتلمسوا أسباب الرد والتكذيب :
{ حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا : إن هذا إلا أساطير الأولين } . .
والأساطير جمع أسطورة . وكانوا يطلقونها على الحكايات التي تتضمن الخوارق المتعلقة بالألهة والأبطال في قصص الوثنيات . وأقربها إليهم كانت الوثنية الفارسية وأساطيرها .
وهم كانوا يعلمون جيداً أن هذا القرآن ليس بأساطير الأولين . ولكنهم إنما كانوا يجادلون؛ ويبحثون عن أسباب الرد والتكذيب؛ ويتلمسون أوجه الشبهات البعيدة . . وكانوا يجدون فيما يتلى عليهم من القرآن قصصاً عن الرسل وأقوامهم؛ وعن مصارع الغابرين من المكذبين . فمن باب التمحل والتماس أوهى الأسباب ، قالوا عن هذا القصص وعن القرآن كله : { إن هذا إلا أساطير الأولين } !
وإمعاناً في صرف الناس عن الاستماع لهذا القرآن ، وتثبيت هذه الفرية . . فرية أن هذا القرآن إن هو إلا أساطير الأولين . . كان مالك بن النضر ، وهو يحفظ أساطير فارسية عن رستم واسفنديار من أبطال الفرس الأسطوريين ، يجلس مجلساً قريباً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو القرآن . فيقول للناس : إن كان محمد يقص عليكم أساطير الأولين ، فعندي أحسن منها! ثم يروح يقص عليهم مما عنده من الأساطير ، ليصرفهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم!
ولقد كانوا كذلك ينهون الناس عن الاستماع إليه - وهم كبراؤهم - وينأون هم عن الاستماع خشية التأثر والاستجابة :
{ وهم ينهون عنه ، وينأون عنه ، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } . .(1/140)
لقد كانوا على يقين من أنه ليس أساطير الأولين . وأن مواجهته بأساطير الأولين لا تجدي لو ترك الناس يسمعون! وكان كبراء قريش يخافون على أنفسهم من تأثير هذا القرآن فيها كما يخافون على أتباعهم . فلم يكن يكفي إذن في المعركة بين الحق النفاذ بسلطانه القوي ، والباطل الواهن المتداعي ، أن يجلس النضر بن الحارث يروي للناس أساطير الأولين! ومن ثم كانوا ينهون أتباعهم أن يستمعوا لهذا القرآن؛ كما كانوا هم أنفسهم ينأون بأنفسهم - خوفاً عليها أن تتأثر وتستجيب - وحكاية الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وعمرو بن هشام وهم يقاومون جاذبية القرآن التي تشدهم شداً إلى التسمع في خفية لهذا القرآن حكاية مشهورة في السيرة .
وهذا الجهد كله الذي كانوا يبذلونه ليمنعوا أنفسهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع لهذا القرآن؛ ومن التأثر به والاستجابة له . . هذا الجهد كله إنما كانوا يبذلونه في الحقيقة لإهلاك أنفسهم - كما يقرر الله - سبحانه - :
{ وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } !
وهل يهلك إلا نفسه من يجاهد نفسه ويجاهد غيره دون الهدى والصلاح والنجاة ، في الدنيا والآخرة؟
إنهم مساكين أولئك الذين يجعلون همهم كله في الحيلولة بين أنفسهم والناس معهم وبين هدى الله! مساكين! ولو تبدوا في ثياب الجبابرة وزي الطواغيت! مساكين فهم لا يهلكون إلا أنفسهم في الدنيا والآخرة . وإن بدا لهم حيناً من الدهر وبدا للمخدوعين بالزبد أنهم رابحون مفلحون .
ومن شاء أن يرى فلينظر في الصفحة الأخرى المواجهة لهذه الصفحة الأولى :
{ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا : يا ليتنا نرد ، ولا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين } !
إنه المشهد المقابل لمشهدهم في الدنيا . . مشهد الاستخذاء والندامة والخزي والحسرة . في مقابل مشهد الإعراض والجدال والنهي والنأي والادعاء العريض!
{ ولو ترى إذ وقفوا على النار } . .
لو ترى ذلك المشهد! لو تراهم وقد حبسوا على النار لا يملكون الإعراض والتولي! ولا يملكون الجدل والمغالطة!
لو ترى لرأيت ما يهول! ولرأيتهم يقولون :
{ يا ليتنا نرد ، ولا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين } . .
فهم يعلمون الآن أنها كانت « آيات ربنا »! وهم يتمنون لو يردون إلى الدنيا . وعندئذ فلن يكون منهم تكذيب بهذه الآيات ، وعندئذ سيكونون من المؤمنين!
ولكنها ليست سوى الأماني التي لا تكون!
على أنهم إنما يجهلون جبلتهم . فهي جبلة لا تؤمن . وقولهم هذا عن أنفسهم : إنهم لو ردوا لما كذبوا ولكانوا مؤمنين ، إنما هو كذب لا يطابق حقيقة ما يكون منهم لو كان لإجابتهم من سبيل! وإنهم ما يقولون قولتهم هذه ، إلا لأنه تكشف لهم من سوء عملهم وسوء مغبتهم ما كانوا من قبل يخفونه على أتباعهم ليوهموهم أنهم محقون ، وأنهم ناجون ، وأنهم مفلحون .
{ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل . ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه . وإنهم لكاذبون } . .
إن الله يعلم طبيعتهم؛ ويعلم إصرارهم على باطلهم؛ ويعلم أن رجفة الموقف الرعيب على النار هي التي أنطقت ألسنتهم بهذه الأماني وهذه الوعود . . { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } . .
-------------
ويحاولون التشكيك بهذا الحق
قال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) [الأحقاف/11، 12]}
ولقد سارع إلى الإسلام وسبق إليه نفر من الفقراء والموالي في أول الأمر . فكان هذا مغمزاً في نظر الكبراء المستكبرين . وراحوا يقولون : لو كان هذا الدين خيراً ما كان هؤلاء أعرف منا به ، ولا أسبق منا إليه فنحن ، في مكانتنا وسعة إدراكنا وحسن تقديرنا ، أعرف بالخير من هؤلاء!
والأمر ليس كذلك . فما كان يمنعهم عنه أنهم يشكون فيه أو يجهلون الحق الذي يقوم عليه . والخير الذي يحتويه ، إنما كان هو الكبر عن الإذعان لمحمد - كما كانوا يقولون - وفقدان المراكز الاجتماعية ، والمنافع الاقتصادية ، كما كان هو الاعتزاز الأجوف بالآباء والأجداد وما كان عليه الآباء والأجداد . فأما الذين سارعوا إلى الإسلام وسبقوا إليه فلم تكن في نفوسهم تلك الحواجز التي منعت الكبراء والأشراف .
إنه الهوى يتعاظم أهل الكبر أن يذعنوا للحق ، وأن يستمعوا لصوت الفطرة ، وأن يسلموا بالحجة . وهو الذي يملي عليهم العناد والإعراض ، واختلاق المعاذير ، والادعاء بالباطل على الحق وأهله . فهم لا يسلمون أبداً أنهم مخطئون؛ وهم يجعلون من ذواتهم محوراً للحياة كلها يدورون حوله ويريدون أن يديروا حوله الحياة :
{ وإذ لم يهتدوا به فسيقولون : هذا إفك قديم } . .
طبعاً! فلا بد من عيب في الحق ما داموا لم يهتدوا به ، ولم يذعنوا له . لا بد من عيب في الحق لأنهم هم لا يجوز أن يخطئوا . وهم في نظر أنفسهم ، أو فيما يريدون أن يوحوا به للجماهير ، مقدسون معصومون لا يخطئون! ( الظلال)
---------------(1/141)
ويحاولون صد المسلمين عن هذا الحق
قال تعالى :{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) [العنكبوت/12، 13] }
---------------
اتهام المؤمنين بالحق بأنهم لا يفهمون
قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) [هود/25-28] }
ذلك رد العلية المتكبرين . . الملأ . . كبار القوم المتصدرين . . وهو يكاد يكون رد الملأ من قريش : ما نراك إلا بشراً مثلنا ، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين .
الشبهات ذاتها ، والاتهامات ذاتها ، والكبرياء ذاتها ، والاستقبال الغبي الجاهل المتعافي!
إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر : أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة الله؛ فإن تكن رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر . وهي شبهة جاهلة ، مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه الله في أرضه ، وهي وظيفة خطيرة ضخمة ، لا بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا الإنسان ما يكافئها من الإستعداد والطاقة ، وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيأون لحمل الرسالة ، باختيار الله لهم ، وهو أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه .
وشبهة أخرى جاهلة كذلك . هي أنه إذا كان الله يختار رسولاً ، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبراء في قومهم ، المتسلطين العالين؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق الإنساني ، والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه ، واستحق حمل رسالة الله بخصوصيته في المختارين من صفوفه . وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الأرض ، إنما هي في صميم النفس ، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى ، بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي ، واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على إبلاغها . . إلى آخر صفات النبوة الكريمة . . وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو استعلاء!
ولكن الملأ من قوم نوح ، كالملأ من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية ، فلا يدركون مبرراً لاختصاص الرسل بالرسالة . وهي في زعمهم لا تكون لبشر . فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض!
{ وما نراك إلا بشراً مثلنا } . .
ولأن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف . ولم تعوقها المصالح عن الإستجابة؛ ولأنهم لا يخافون من العقيدة في الله أن تضيع عليهم مكانة مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها . وأول صور الوثنية الدينونة والعبودية والطاعة والاتباع للأشخاص الزائلة بدلاً من الإتجاه بهذا كله لله وحده دون شريك . فرسالات التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض . ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائماً ، ويصدون عنها الجماهير؛ ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير .
{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } . .
أي دون ترو ولا تفكير . . وهذه تهمة كذلك توجه دائماً من الملأ العالين لجموع المؤمنين . . أنها لا تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات . ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها ، ولا يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها ، ولا أن يسلكوا طريقها . فإذا كان الأراذل يؤمنون ، فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل؛ ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون!
{ وما نرى لكم علينا من فضل } . .(1/142)
يدمجون الداعي بمن تبعوه من الأراذل! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى ، أو أعرف بالصواب . فلو كان ما معكم خيراً وصواباً لاهتدينا إليه ، ولم تسبقونا أنتم إليه! وهم يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ الذي تحدثنا عنه . قياس الفضل بالمال ، والفهم بالجاه ، والمعرفة بالسلطان . . فذو المال أفضل . وذو الجاه أفهم . وذو السلطان أعرف!!! هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائماً حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع ، أو تضعف آثارها ، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية ، وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب . وهي انتكاسة للبشرية من غير شك ، لأنها تصغر من القيم التي بها صار الإنسان إنساناً ، واستحق الخلافة في الأرض ، وتلقى الرسالة من السماء؛ وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية!
{ بل نظنكم كاذبين } . . .
وهي التهمة الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه . ولكنهم على طريقة طبقتهم . . « الأرستقراطية » . . يلقونها في أسلوب التحفظ اللائق « بالأرستقراط! » { بل نظنكم! } لأن اليقين الجازم في القول والإتجاه من طبيعة الجماهير المندفعة بادي الرأي التي يترفع عنها السادة المفكرون المتحفظون!
إنه النموذج المتكرر من عهد نوح ، لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب ، المتعاظمة المدعية المنتفخة الأوداج والأمخاخ!! ( الظلال)
----------------
البطش بالمؤمنين والتنكيل بهم :
قال تعالى : { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) [طه/70-76]}
وقال تعالى : { قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) [الشعراء/43-51] }
والمسألة واضحة المعالم . . إنها دعوة موسى إلى « رب العالمين » . . هي التي تزعج وتخيف . . إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين . وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته . وإقامة أنفسهم أرباباً من دون الله يشرعون للناس ما يشاءون ، ويعبدون الناس لما يشرعون! . . إنهما منهجان لا يجتمعان . . أو هما دينان لا يجتمعان . . أو هما ربان لا يجتمعان . . وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون . . ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين . فأولى أن يفزعوا الآن وقد ألقي السحرة ساجدين . قالوا : آمنا برب العالمين . رب موسى وهارونَ والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون ، وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين!
وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع :
{ فسوف تعلمون . لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ثم لأصلبنكم أجمعين } . .
إنه التعذيب والتشويه والتنكيل . . وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق ، الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان . . وعدة الباطل في وجه الحق الصريح . .(1/143)
ولكن النفس البشرية حين تستعلن فيها حقيقة الإيمان؛ تستعلي على قوة الأرض ، وتستهين ببأس الطغاة؛ وتنتصر فيها العقيدة على الحياة ، وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم . إنها لا تقف لتسأل : ماذا ستأخذ وماذا ستدع؟ ماذا ستقبض وماذا ستدفع؟ ماذا ستخسر وماذا ستكسب؟ وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؟ . . لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك ، فهي لا تنظر إلى شيء في الطريق . .
{ قالوا : إنا إلى ربنا منقلبون . وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ، ربنا أفرغ علينا صبراً ، وتوفنا مسلمين } . .
إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع . كما أنه لا يخضع أو يخنع . الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها ، ويستيقن من الرجعة إلى ربه فيطمئن إلى جواره :
{ قالوا : إنا إلى ربنا منقلبون } . .
والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت . . وأنها معركة العقيدة في الصميم . . لا يداهن ولا يناور . . ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة ، لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة :
{ وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } . .
والذي يعرف أين يتجه في المعركة ، وإلى من يتجه؛ لا يطلب من خصمه السلامة والعافية ، إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام :
{ ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين } . .
ويقف الطغيان عاجزاً أمام الإيمان ، وأمام الوعي ، وأمام الاطمئنان . . يقف الطغيان عاجزاً أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام . فإذا هي مستعصية عليه ، لأنها من أمر الله ، لا يملك أمرها إلا الله . . وماذا يملك الطغيان إذا رغبت القلوب في جوار الله؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان!
إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية . هذا الذي كان بين فرعون وملئه ، والمؤمنين من السحرة . . السابقين . .
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية . بانتصار العقيدة على الحياة . وانتصار العزيمة على الألم . وانتصار « الإنسان » على « الشيطان »!
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية . بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية . فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة . والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح . ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب .
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية! فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز ، وتمنى بالقرب من السلطان . . هي ذاتها التي تستعلي على فرعون؛ وتستهين بالتهديد والوعيد ، وتُقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب . وما تغير في حياتها شيء ، ولا تغير من حولها شيء - في عالم المادة - إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى . وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت ، وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد . . وقعت اللمسة التي تحوّل الإبرة ، فيلتقط القلب إيقاعات القدرة ، ويتسمع الضمير أصداء الهداية ، وتتلقى البصيرة إشراقات النور . . وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي؛ ولكنها هي تغير الواقع المادي؛ وترفع « الإنسان » في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال!
ويذهب التهديد . . ويتلاشى الوعيد . . ويمضي الإيمان في طريقه . لا يتلفت ، ولا يتردد ، ولا يحيد!
ينبغي أن نقف وقفة قصيرة أمام هذا المشهد الباهر الأخاذ . . .
* نقف ابتداء أمام إدراك فرعون وملئه أن إيمان السحرة برب العالمين ، رب موسى وهارون ، يمثل خطراً على نظام ملكهم وحكمهم؛ لتعارض القاعدة التي يقوم عليها هذا الإيمان ، مع القاعدة التي يقوم عليها ذلك السلطان . . وقد عرضنا لهذا الأمر من قبل . . ونريد أن نقرر هذه الحقيقة ونؤكدها . . إنه لا يجتمع في قلب واحد ، ولا في بلد واحد ، ولا في نظام حكم واحد ، أن يكون الله رب العالمين ، وأن يكون السلطان في حياة الناس لعبد من العبيد ، يباشره بتشريع من عنده وقوانين . . فهذا دين وذلك دين . .
* ونقف بعد ذلك أمام إدراك السحرة - بعد أن أشرق نور الإيمان في قلوبهم ، وجعل لهم فرقاناً في تصورهم - أن المعركة بينهم وبين فرعون وملئه هي معركة العقيدة؛ وأنه لا ينقم منهم إلا إيمانهم برب العالمين .(1/144)
فهذا الإيمان على هذا النحو يهدد عرش فرعون وملكه وسلطانه؛ ويهدد مراكز الملأ من قومه وسلطانهم المستمد من سلطان فرعون . . أو بتعبير آخر مرادف : من ربوبية فرعون ، ويهدد القيم التي يقوم عليها المجتمع الوثني كله . . وهذا الإدراك لطبيعة المعركة ضروري لكل من يتصدى للدعوة إلى ربوبية الله وحده . فهو وحده الذي أهل هؤلاء المؤمنين للاستهانة بما يلقونه في سبيله . . إنهم يقدمون على الموت مستهينين ليقينهم بأنهم هم المؤمنون برب العالمين؛ وأن عدوهم على دين غير دينهم؛ لأنه بمزاولته للسلطان وتعبيد الناس لأمره ينكر ربوبية رب العالمين .
فهو إذن من الكافرين . . وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين - على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل - إلا بمثل هذا اليقين بشقيه : أنهم هم المؤمنون ، وأن أعداءهم هم الكافرون ، وأنهم إنما يحاربونهم على الدين ، ولا ينقمون منهم إلا الدين .
*ونقف بعد ذلك أمام الروعة الباهرة لانتصار العقيدة على الحياة . وانتصار العزيمة على الألم . وانتصار « الإنسان » على الشيطان . وهو مشهد بالغ الروعة . . نعترف أننا نعجز عن القول فيه . فندعه كما صوره النص القرآني الكريم! ( الظلال)
وفي قصة أصحاب الأخدود كذلك
قال تعالى : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) [البروج/1-10] }(1/145)
وفي صحيح مسلم عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّى قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِى طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِى أَهْلِى. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِى السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَىْ بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ . وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِى فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِى قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَىْ بُنَىَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِىءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِى قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ.
فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.
فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِى حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِى عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِى ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ.(1/146)
ثُمَّ ارْمِنِى فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِى. فَجَمَعَ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِى صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى صُدْغِهِ فِى مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ.
فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِى فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ».
---------------
مطاردة الحق أينما كان في هذه الأرض
ففي مسند أحمد بسند حسن عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِىَّ أَمَّنَا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ لاَ نُؤْذَى وَلاَ نَسْمَعُ شَيْئاً نَكْرَهُهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشاً ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِىِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلِدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِىِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الأَدَمُ فَجَمَعُوا لَهُ أَدَماً كَثِيراً وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقاً إِلاَّ أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِىِّ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِىِّ وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ وَقَالُوا لَهُمَا ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِىَّ فِيهِمْ ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِىِّ هَدَايَاهُ ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَتْ فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِىِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلاَّ دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِىَّ ثُمَّ قَالاَ لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَم يَدْخُلُوا فِى دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتُمْ وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْنَا وَلاَ يُكَلِّمَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ.(1/147)
فَقَالُوا لَهُمَا نَعَمْ. ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِىِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالاَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِى دِينِكَ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِىُّ كَلاَمَهُمْ فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلاَدِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَ فَغَضِبَ النَّجَاشِىُّ ثُمَّ قَالَ لاَهَا اللَّهِ ايْمُ اللَّهِ إِذاً لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا وَلاَ أَكَادُ قَوْماً جَاوَرُونِى وَنَزَلُوا بِلاَدِى وَاخْتَارُونِى عَلَى مَنْ سِوَاىَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَا يَقُولُ هَذَانِ فِى أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولاَنِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِى قَالَتْ ثُمَّ أَرسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلَّمَنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- كَائِنٌ فِى ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِىُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِى فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِى دِينِى وَلاَ فِى دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ قَالَتْ فَكَانَ الَّذِى كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِىءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِىُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ - قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلاَمِ - فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً وَحَرَّمْنَا مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أُحِلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِى جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِىُّ هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ قَالَتْ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِىُّ فَاقْرَأْهُ عَلَىَّ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْراً مِنْ (كهيعص) قَالَتْ فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِىُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلاَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِىُّ إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ وَالَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ(1/148)
انْطَلِقَا فَوَاللَّهِ لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَداً وَلاَ أَكَادُ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَاللَّهِ لأُنَبِّئَنَّهُ غَداً عَيْبَهُمْ عِنْدَهُ ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ. قَالَتْ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ - وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا - لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَاماً وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا . قَالَ وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيماً. فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ قَالَتْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ - قَالَتْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ - فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَاذَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ فِيهِ مَا قَالَ اللَّهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِناً فِى ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ نَقُولُ فِيهِ الَّذِى جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ . قَالَتْ فَضَرَبَ النَّجَاشِىُّ يَدَهُ إِلَى الأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُوداً ثُمَّ قَالَ مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ. فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِى - وَالسُّيُومُ الآمِنُونَ - مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِى دَبْراً ذَهَباَ وَأَنِّى آذَيْتُ رَجُلاً مِنْكُمْ - وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْجَبَلُ - رَدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلاَ حَاجَةَ لَنَا بِهَا فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّى الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَىَّ مُلْكِى فُآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِىَّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ. قَالَتْ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُوداً عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ - قَالَتْ - فَوَاللَّهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ - يَعْنِى - مَنْ يُنَازِعُهُ فِى مُلْكِهِ - قَالَتْ - فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْناً قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزِنٍ حَزَنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَخَوُّفاً أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِىِّ فَيَأْتِى رَجُلٌ لاَ يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِىُّ يَعْرِفُ مِنْهُ - قَالَتْ - وَسَارَ النَّجَاشِىُّ وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ قَالَتْ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِينَا بِالْخَبَرِ قَالَتْ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ أَنَا. قَالَتْ وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا - قَالَتْ - فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِى صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِى بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ - قَالَتْ - وَدَعَوْنَا اللَّهَ لِلنَّجَاشِىِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِى بِلاَدِهِ وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ فَكُنَّا عِنْدَهُ فِى خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِمَكَّةَ.
==================
حقيقة الانتصار
تقديم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(1) [سورة آل عمران: الآية: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(2) [سورة النساء، الآية: 1].(1/149)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(3) [سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71].
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة، في النار.
وبعد:
فقد تأملت في واقع الدعوة اليوم، وما مرت به في خلال هذا العصر من محن وابتلاءات، ورأيت أن الأمة تعيش يقظة مباركة، وصحوة ناهضة، والدعاة يجوبون الآفاق، والجماعات الإسلامية انتشرت في البلدان، حتى وصلت إلى أوربا وأمريكا، وقامت حركات جهادية في بعض بلاد المسلمين كأفغانستان وفلسطين وأرتيريا والفلبين وغيرها.
ولكن لحظت أن هناك مفاهيم غائبة عن فهم كثير من المسلمين، مع أن القرآن الكريم قد بينها، بل وفصلها، ورأيت أن كثيرا من أسباب الخلل في واقع الدعوة والدعاة، يعود لغياب هذه الحقائق.
ومن هذه المفاهيم مفهوم "حقيقة الانتصار"، حيث إن خفاءه أوقع في خلل كبير، ومن ذلك: الاستعجال، والتنازل، واليأس والقنوط ثم العزلة، وهذه أمور لها آثارها السلبية على المنهج وعلى الأمة.
من أجل ذلك كله عزمت على بيان هذه الحقيقة الغائبة، ودراستها في ضوء القرآن الكريم.
وأسأل الله التوفيق والسداد والإعانة.
أهمية الموضوع
تبرز أهمية الموضوع وسببه من خلال الفهم الخاطئ لمعنى حقيقة انتصار الداعية، والخلط فيه بين معنى انتصار الداعية وبين انتصار الدعوة، وظهور الدين، حيث نتج عن هذا الفهم وهذا الخلط عدة أمور -سلبية- أهمها:
1- تصور كثير من الناس أن هذا الداعية لم ينتصر ولم ينجح في دعوته؛ لأنه لم يتمكن من تحقيق الأهداف التي يدعو إليها، ويسعى لتحقيقها، مما يؤدي إلى التشكيك في منهجه، وانصراف بعض المدعوين عنه.
2- استعجال النتائج وتحقيق الأهداف.
مِن قِبَل كثير من الدعاة، فإن بعض الدعاة إذا بدأ في دعوته فإنه يرسم منهجًا جيدًا يسير من خلاله لتحقيق أهدافه، ولكن إذا مضى زمن ولم يتحقق شيء من ذلك، أو تحقق شيء يرى أنه لا يساوي الجهود المبذولة، فيقوم بتعديل منهجه السليم إلى منهج خاطئ يستعجل فيه الثمار، وذلك ناتج عن تصوره الخاطئ في فهم حقيقة ما يجب عليه، وإنه إذا لم تتحقق أهدافه فإنه لم يقم بما أوجبه الله عليه، غافلا عن الفرق بين الأمرين، أو جاهلا لذلك.
3- الانحراف عن المنهج.
وذلك أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالداعية ملزم بأن يلتزم بمنهج أهل السنة والجماعة، وهو ما كان عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته.
بل هو ما ورد في الحديث الصحيح: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ " (4).
وهو ما نفهمه من قوله -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(5) [سورة الأنعام الآية: 153].
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين وجوب الالتزام بمنهج الكتاب والسنَّة.
فبعض الجماعات والدعاة، حرصًا منهم على نصر الإسلام، وتصورا منهم أن ظهور الدين وزوال الكفر والفساد مقياسا لنجاح دعوتهم، وأمام ضغط الظالمين ومساوماتهم، واستعجال الأتباع وعدم صبرهم، يسعى هؤلاء للحصول على بعض المكاسب نصرة لهذا الدين ودفاعا عنه، ولكن هذا الأمر قد يقتضي التنازل عن بعض أصول الإسلام، وهنا يأتي الداعية إلى محاولة تطبيق قاعدة المصالح والمفاسد، فينحرف عن المنهج وهو لا يدري، ويستسلم لمساومات الأعداء وألاعيبهم.
4- اليأس والقنوط ثم الاعتزال.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 102.
(2) - سورة النساء آية: 1.
(3) - سورة الأحزاب آية: 70-71.
(4) - أخرجه أحمد: 4/126، 127 وأبو داود (4607) وابن ماجة (43) والترمذي (2676) وقال هذا حديث حسن صحيح.
(5) - سورة الأنعام آية: 153.
طريق الدعوة طريق طويل وشاق، مليء بالعقبات والمحن والابتلاءات، وقليل من الدعاة من يجتاز هذا الطريق وهو ثابت على دعوته، ملتزم بمنهجه.
وكثير من الدعاة عندما يسير في الطريق ثم يجد أن الأعوام تمضي وهو لم يحقق شيئا مما يدعو إليه، ويحاول إعادة الكرة مرة بعد أخرى، ولا يرى أثرا مباشرا لدعوته، تبدأ عنده الشكوك والأوهام، فمرة: يتهم نفسه، وأخرى قومه، وثالثة: أتباعه ومؤيديه، ثم يصل في النهاية إلى أن هؤلاء القوم لا تنفع معهم دعوة، ولا يستجيبوا لداع أو نذير، ويقول لنفسه: كفاني ما كفانيا، وعليك بخاصة نفسك والسلام، و(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)(1) - [سورة البقرة، الآية: 272] يفهمها فهما خاطئا- و(لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(2) [سورة المائدة، الآية: 105] يضعها في غير موضعها.(1/150)
وهنا ييئس من قومه، ويقنط من هداية الله لهم، ثم يعتزل الدعوة ويترك القوم وشأنهم.
ومنشأ هذه النتيجة التي وصل إليها عدم إدراكه واستيعابه لحقيقة الانتصار، وأنه قد يكون صبره على قومه مع عدم استجابتهم أعظم له أجرا، وذخرا ونصرا، مما لو آمنوا بما يدعو إليه واتبعوه.
هذه الآثار -وغيرها- التي نتجت في أغلب أحوالها عن الخلط في مفهوم الانتصار، وعدم قدرة كثير من الدعاة التفريق بين انتصار الدين وبين انتصار الداعية.
ومما سبق تتضح أهمية هذا الموضوع، وحاجة الدعاة وطلاب العلم إلى تجليته وبيانه، وبخاصة أن القرآن الكريم، قد وردت فيه آيات كثيرة، تقرر مفهوم الانتصار، ومهمة الداعية، والفرق بين المهمة وبين النتيجة والأثر.
وفي الصفحات التالية تقرير لهذه الحقيقة وتجلية لها، ومن الله نستمد العون والتأييد.
مفهوم النصر وحقيقته
قال الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(3) [سورة غافر، الآية: 51].
وقال -سبحانه-: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة الروم، الآية: 47]. وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)(5) [سورة محمد، الآية: 7]. وقال -جل ذكره-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)(6) [سورة الحج، الآية: 40]. وقال: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(7) [سورة الصافات، الآيات: 171 - 173].
هذه الآيات وأمثالها تدل على انتصار الداعية، سواء أكان رسولا أو أحد المؤمنين، وهذا الانتصار يكون في الحياة الدنيا قبل الآخرة.
والذي علمناه من القرآن والسنة، أن من الأنبياء من قتله أعداؤه ومثّلوا به، كيحيى وشعياء وأمثالهما، ومنهم من هم بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء، إذ أراد قومه قتله، ونجد من المؤمنين من يسام سوء العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ (8) وقد طُردوا أو قتلوا أو عذبوا؟
نحن نعلم يقينا، أن وعد الله لا يتخلف أبدا، ومنشأ السؤال والإشكال أننا قصرنا النظر على نوع واحد من أنواعه، وهو النصر الظاهر وانتصار الدين، ولا يلزم أن يكون هذا هو النصر الذي وعد الله به أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين.
والله قد وعدهم بالنصر، وهو متحقق لا شك في ذلك، ولا مرية، وذلك في الحياة الدنيا قبل الآخرة، لأن الله -سبحانه- قال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(9) [غافر الآية: 51]. ومن أصدق من الله قيلا.
وتجلية لهذه القضية، وبيانا لهذا الجانب لا بد من إيضاح معنى النصر، وأنه أشمل مما يتبادر إلى أذهاننا، ويسبق إلى أفهامنا إن النصر له وجوه عدة، وصور متنوعة أهمها ما يلي:
__________
(1) - سورة البقرة آية: 272.
(2) - سورة المائدة آية: 105.
(3) - سورة غافر آية: 51.
(4) - سورة الروم آية: 47.
(5) - سورة محمد آية: 7.
(6) - سورة الحج آية: 40.
(7) - سورة الصافات آية: 171-173.
(8) - انظر تفسير الطبري 24/74 وفي ظلال القرآن 5/3085.
(9) - سورة غافر آية: 51.
1- أن النصر قد يكون بالغلبة المباشرة والقهر للأعداء على أيدي هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حصل لداود وسليمان، عليهما السلام (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)(1) [سورة البقرة، الآية: 251]. (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) (2) [سورة الأنبياء، الآية: 79]. (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)(3) [سورة البقرة، الآية: 102]. (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)(4) [سورة ص، الآية: 35].
وكذلك موسى، عليه السلام، نصره الله على فرعون وقومه، وأظهر الدين في حياته، (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)(5) [سورة الأعراف، 137]. (فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(6) [البقرة، الآية: 50].
ونبينا محمد، صلى الله عليه وسلم نصره الله نصرا مؤزرا، وأهلك أعداءه في بدر، وما بعدها حتى ظهر دين الله، وقامت دوله الإسلام. (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(7) [سورة الفتح، الآية: 1]. (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً)(8) [سورة النصر، الآيتان: 1- 2].
وهذا النوع من الانتصار هو النصر الظاهر، وهو أول ما يتبادر إلى الأذهان عند إطلاق كلمة النصر، للأسباب التالية:(1/151)
أ- لأنه نصر ظاهر يراه الناس ويحسون به.
ب- أنه هو الانتصار الذي يجمع بين انتصار الدين وظهوره وانتصار الداعية.
ج - أنه محبب إلى النفوس، وهو النصر العاجل، "والنفس مولعة بحب العاجل" ولذلك قال -سبحانه-: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ )(9) [سورة، الصف: 13].
2- أن النصر قد يكون بإهلاك هؤلاء المكذبين، ونجاة الأنبياء والمرسلين، ومن آمن معهم، كما حدث لنوح، عليه السلام، حيث نجاه الله وأهلك قومه، )فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)(10) [سورة القمر، الآيات: 10-14].
وكذلك قوم هود، (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)(11) [سورة الأعراف، الآية: 72].
وقوم صالح، (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)(12) [سورة الأعراف، الآية: 78].
وقوم لوط، (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(13) [سورة الأعراف، الآية: 84].
وقوم شعيب، (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(14) [سورة الشعراء، الآية: 189]. إن أخذ المجرمين بالعذاب الأليم نصر عظيم للداعية، وكبت للمكذبين والمرجفين، والله يمهل ولا يهمل أبدا:
(فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(15) [سورة العنكبوت، الآية: 40].
3- قد يكون الانتصار بانتقام الله من أعدائهم، ومكذبيهم، بعد وفاة هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حدث مع من قتل يحيى، -عليه السلام- وشعياء، ومن حاول قتل عيسى، عليه السلام، قال الإمام الطبري في تفسير الآية:
__________
(1) - سورة البقرة آية: 251.
(2) - سورة الأنبياء آية: 79.
(3) - سورة البقرة آية: 102.
(4) - سورة ص آية: 35.
(5) - سورة الأعراف آية: 137.
(6) - سورة البقرة آية: 50.
(7) - سورة الفتح آية: 1.
(8) - سورة النصر آية: 1-2.
(9) - سورة الصف آية: 13.
(10) - سورة القمر آية: 10-11-12-13-14.
(11) - سورة الأعراف آية: 72.
(12) - سورة الأعراف آية: 78.
(13) - سورة الأعراف آية: 84.
(14) - سورة الشعراء آية: 189.
(15) - سورة العنكبوت آية: 40.
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(1) [سورة غافر، الآية: 51] "إما بإعلائنا لهم على من كذبنا.. أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتلته من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له، وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم (2) " وهذا يدخل تحت قوله -تعالى-: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ)(3) [سورة محمد، الآية: 4]. أي: لانتقم.
4- أن ما يتصوره الناس هزيمة قد يكون هو النصر الحقيقي، كالقتل، والسجن والطرد والأذى.
أليس قتل الداعية شهادة في سبيل الله. (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 169]. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(5) [سورة يس، الآيتان: 26، 27].
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)(6) [سورة التوبة، الآية: 52]. فقتل الداعية انتصار للداعية من عدة جوانب، أهمها:
(أ) الشهادة، وهي من أعظم أنواع الانتصار، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(7) [سورة آل عمران، الآيتان: 169، 170].
(ب) انتصار المنهج وظهوره، كما حدث لعبد الله الغلام عندما قتله الملك، فقال قوم: "آمنا بالله رب الغلام" (8).
ونجد في العصر الحاضر سيد قطب -رحمه الله- كان قتله انتصارا لمنهجه الذي عاش من أجله، ومات في سبيله، حتى قال أحد الشيوعيين وهو في سجنه: إنني أتمنى أن أقتل كما قتل سيد وينتشر مبدئي وكتبي كما انتشرت كتب سيد قطب.(1/152)
بل إننا وجدنا مطابع النصارى في لبنان تسارع إلى طباعة ونشر كتب سيد -يرحمه الله- كالظلال، والمعالم، وخصائص التصور الإسلامي، لما تدره من أرباح هائلة، نظرا لكثرة القراء والمستفيدين.
وهذا ما قصده سيد عندما قال: إن كلماتنا وأقوالنا تظل جثثا هامدة حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء عاشت وانتفضت بين الأحياء.
(ج) الذكر الطيب بعد وفاته، قال إبراهيم، عليه السلام، (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(9) [سورة الشعراء، الآية: 84 ]. والمقتول في سبيل الله له ذكر طيب عند المؤمنين، وهذا أمر مشاهد ومحسوس.
وكذلك الطرد والإخراج، قد يكون انتصارا للداعية، حين يتصور كثير من الناس أن هذا هزيمة له، ولذا فإن الله -جل وعلا- قال عن رسوله، صلى الله عليه وسلم حين أخرجته قريش من مكة. (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)(10) [سورة التوبة، الآية: 40].
ولا شك أن خروجه من مكة كان انتصارا من عدة أوجه، أهمها:
(1) أن الله نجاه من المشركين، وحماه منهم، وأعماهم عنه، حيث أرادوا قتله.
(ب) أن الدعوة انتقلت إلى بيئة أخرى تحميها وتؤازرها بدل أن كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم محاربا مطاردا، وأصحابه يعذبون ويقتلون، ولا يتمكنون من إظهار عبادتهم لله كما حدث لهم في المدينة.
(ج) قيام دولة الإسلام في المدينة، وانطلاقة الجهاد بعد ذلك، ثم بدء دخول الناس في دين الله أفواجا.
وكذلك نجد أن هجرة الصحابة للحبشة كانت انتصارا لهم، وكبتا لأعدائهم، ولذلك لاحقتهم قريش إلى هنالك، ولكنهم عادوا خائبين حيث حماهم النجاشي، بل أسلم ودخل في دين الله !!
وقل مثل ذلك عن السجن والتعذيب والأذى، فإن انطلاقة الداعية قد تكون بداية من سجنه أو إيذائه.
فهذا داعية اتهم في عرضه من قبل أعدائه، وتصور كثير من الناس أن هذا الداعية قد انتهى، ولن يكون له شأن بعد اليوم، ولكن كانت هذه التهمة انطلاقة كبرى لهذا الداعية، من عدة أوجه:
(1) انتصر على نفسه حيث عرف أن رهبة السجن أكبر من حقيقته، حيث أدخل السجن مرتين، فأصبحت لديه مناعة من الخوف أو الرهبة من غير الله.
(ب) تكشف له الباطل، وعرف زيف بعض من كان يتلبس بالحق تمويها وخداعا.
(جـ) عرف صديقه من عدوه، وكما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد عني كل خير ... عرفت بها صديقي من عدوي
__________
(1) - سورة غافر آية: 51.
(2) - تفسير الطبري 24/74.
(3) - سورة محمد آية: 4.
(4) - سورة آل عمران آية: 169.
(5) - سورة يس آية: 26-27.
(6) - سورة التوبة آية: 52.
(7) - سورة آل عمران آية: 169-170.
(8) - قطعة من قصة أصحاب الأخدود أخرجها مسلم (3005) من حديث صهيب.
(9) - سورة الشعراء آية: 84.
(10) - سورة التوبة آية: 40.
(د) زاد عدد طلابه ومحبيه، وكثر المستمعون للحق الذي يدعو إليه، فأصبحوا عشرات الآلاف بل ويزيدون.
(هـ) كبت الله أعداءه وخصومه، وتجرعوا كأس الهزيمة وهم ينظرون.
أليس هذا هو الانتصار في الحياة الدنيا قبل الآخرة؟! (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(1) [سورة المنافقون، الآية: 8]. وقبل أن نغادر هذا النوع من أنواع الانتصار، لا بد من الوقوف أمام حقيقة تخفى على الكثيرين، وهي نوع من أنواع انتصار الداعية، ذلك أن الداعية عندما يقتل أو يسجن أو يؤذى أو يطرد فإن خصمه قد ذاق ألوان الأذى المعنوي والعذاب النفسي قبل أن يقدم على ما أقدم عليه، بل وأحيانا بعد أن يفعل فعلته، فإنه لا يجد للراحة مكانا، ولا للسعادة طعما، ولذا فإن الحجاج بن يوسف عند ما قتل سعيد بن جبير، ذاق ألوان العذاب النفسي حتى كان لا يهنأ بنوم، ويقوم من فراشه فزعا ويقول: ما لي ولسعيد، حتى مات وهو في همه وغمه.
ولهذا جاء القرآن معبرا عن هذه الحقيقة، كما في سورة آل عمران، فقال -سبحانه-: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(2) [سورة آل عمران، الآيتان: 119، 120].
وقال -سبحانه-: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً)(3) [سورة الأحزاب، الآية: 25].(1/153)
بينما نجد الداعية يعيش في سعادة وهناء، قال الإمام الطبري في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(4) [سورة الصافات، الآيات: 171 - 173] قال: كان بعض أهل العربية يتأول ذلك، ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين بالسعادة (5) وهذا -أيضا- معنى حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عجبا لأمر المؤمن أن أمره كله خير -وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " (6).
ولذلك قال شيخ الإسلام معبرا عن هذه الحقيقة: ماذا ينقم مني أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، قتلي شهادة، ونفي سياحة، وسجني خلوة.
وهو ما عناه أحد الزهاد عندما قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من اللذة والنعيم لجالدونا عليه بالسيوف.
وهنا ندرك من المنتصر ومن المنهزم، وأن الانتصار والهزيمة أبعد معنى مما يراه الناس في الظاهر، بل هناك حقائق قد لا تدرك بالعيون، وصدق من قال:
اصبر على مضض الحسو د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
5- أن ثبات الداعية على مبدئه، هو انتصار باهر، وفوز ساحق، حيث يعلو على الشهوات والشبهات، ويجتاز العقبات بشجاعة وثبات، بل إنه لا يمكن أن يتحقق الانتصار الظاهر إلا بعد تحقق هذا الانتصار، فإبراهيم، عليه السلام، وهو يلقى في النار كان في قمة انتصار، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(7) [سورة الصافات، الآيتان: 97، 98].
والإمام أحمد -رحمه الله- عندما ثبت على مبدئه في محنة القول بخلق القرآن، ورفض الاستجابة لجميع الضغوط ومحاولات التراجع كان في قمة انتصاره.
وأصحاب الأخدود وهم يلقون في النار، ولا يقبلون المساومة على دينهم، ويفضلون الموت في سبيل الله كانوا هم المنتصرين، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(8) [سورة البروج، الآية:8].
ونجد هذا المعنى من معاني الانتصار في الحديث الذي رواه خباب عندما جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وقال له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ قال: " كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق بأثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه " (9) الحديث.
فبين، صلى الله عليه وسلم أن الانتصار هو الثبات على الدين، وعدم التراجع مهما كانت العقبات والمعوقات.
__________
(1) - سورة المنافقون آية: 8.
(2) - سورة آل عمران آية: 119-120.
(3) - سورة الأحزاب آية: 25.
(4) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(5) - تفسير الطبري 23/114.
(6) - أخرجه مسلم (3999).
(7) - سورة الصافات آية: 97-98.
(8) - سورة البروج آية: 8.
(9) - أخرجه البخاري (3612).
6 -أن النصر قد يكون بقوة الحجة، وصحة البرهان، قال الإمام الطبري في قوله تعالى: )وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(1) [سورة الصافات، الآيتان: 171، 172]. يقول -تعالى ذكره- ولقد سبق منا القول لرسلنا أنهم لهم المنصورون، أي مضى بهذا منا القضاء والحكم في أم الكتاب، وهو أنهم لهم النصرة والغلبة بالحجج.
قال السدي: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(2) بالحجج. (3)
وقال الطبري في قوله -تعالى-: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(4) أي فجعلنا قوم إبراهيم الأذلين حجة، وغلبنا إبراهيم عليهم بالحجة. (5).
وكذلك نجد هذا المعنى في قوله - تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)(6) [سورة الأنعام، الآية: 83]. والرفع هو الانتصار.
وكذلك في سورة البقرة بعد أن ذكر الله محاجة الذي كفر لإبراهيم في ربه، قال الله -تعالى- (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)(7) [سورة البقرة، الآية: 258]. والبهت هو الهزيمة، أي انهزم الكافر وانتصر إبراهيم بالحجة والبرهان.
إذن فانتصار الداعية بقوة حجته هو انتصار حقيقي، بل هو وسيلة من أهم وسائل انتصار الدين وظهوره.
7- أن انتصار الداعية، غير محصور في زمان أو مكان، فزمانه الحياة الدنيا ثم الآخرة، ومكانه أرض الله الواسعة.
ولذا فقد يضطهد الداعية في مكان وينتصر في مكان آخر، كما حدث لنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم فقد اضطهد في مكة، ثم انتصر في المدينة أولا ثم في مكة ثانيا.
وموسى، عليه السلام، اضطهد في أرض فرعون وانتصر بعد ذلك في مكان آخر، وقد يضطهد الداعية في زمان، ثم ينتصر في زمان آخر. كما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية، فمات في سجنه -رحمه الله- ولكن انتصرت دعوته أعظم الانتصار بعد عدة قرون من وفاته ولا تزال.(1/154)
وهذا أمر معلوم ومشاهد، فكم من داعية هزم في مكان وانتصر في مكان آخر، وأوذي في زمان وانتصر في زمان آخر، سواء في حياته أو بعد وفاته.
8- أخيرا، فإن النصر قد يكون بالمنع، أي بحماية الداعية ومنع أعدائه من الوصول إليه، قال -سبحانه-: (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(8) [سورة البقرة، الآية: 48]. أي يمنعون (9)
وقال- جل وعلا-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ)(10) [سورة الحجر، الآية: 94، 95].
قال الإمام الطبري في معنى هذه الآية: فاصدع بأمر الله، ولا تخف شيئا سوى الله، فإن الله كافيك من ناصبك وآذاك، كما كفاك المستهزئين. (11).
وقال -سبحانه-: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(12) [سورة المائدة، الآية: 67].
هذه بعض أوجه النصر، بل أهم أنواع النصر، ولو تأملنا في هذه الأوجه ثم نظرنا إلى سيرة الأنبياء والرسل، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، لوجدنا أن كل واحد منهم قد تحقق له نوع من هذه الأنواع أو أكثر من نوع، كما حدث لنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم فقد انتصر بظهور الدين وتمامه، وانتصر بإهلاك من كذبه في بدر وما بعدها، وانتصر، وهو يخرج من مكة، وانتصر بالحجة والبرهان، وانتصر بالمنع من الأعداء، وانتصر في مكان غير بلده، وانتصر بالثبات على دين الله والصدع بكلمة الحق، (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)(13) [سورة الإسراء، الآية: 74].
ويتفاوت الأنبياء والرسل، عليهم السلام، في الانتصارات التي حققوها، ولكن وعد الله قد تحقق لهم (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(14) [سورة الصافات، الآيات:171، 172، 173].
وكذلك كل مؤمن صادق فسيتحقق له الانتصار، سواء في حياته أم بعد مماته تحقيقا لوعد الله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(15) [سورة غافر، الآية: 51].
ومن خلال ما سبق يتضح لنا المفهوم الشامل للانتصار، وأنه لا يجوز لنا أن نحدد نوع الانتصار الذي نريده.
__________
(1) - سورة الصافات آية: 171-172.
(2) - سورة الصافات آية: 172.
(3) - تفسير الطبري 23/114.
(4) - سورة الصافات آية: 98.
(5) - تفسير الطبري 23/75.
(6) - سورة الأنعام آية: 83.
(7) - سورة البقرة آية: 258.
(8) - سورة البقرة آية: 48.
(9) - انظر تفسير الطبري 1/269 وهو قول لابن عباس.
(10) - سورة الحجر آية: 94-95.
(11) - تفسير الطبري 14/69.
(12) - سورة المائدة آية: 67.
(13) - سورة الإسراء آية: 74.
(14) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(15) - سورة غافر آية: 51.
فالأمر لله من قبل ومن بعد، ولسنا سوى عبيد له، سبحانه، نسعى لتحقيق عبوديته، ومن كمال العبودية أن نعلم ونوقن يقينا جازما لا شك فيه أن وعد الله متحقق لا محالة، ولكننا قد لا ندرك حقيقة هذا الأمر لحكمة يعلمها الله، وقد يتأخر النصر ابتلاء وامتحانا، وصدق الله العظيم: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) [سورة الروم، الآية: 47].
ما مهمتنا ؟
من أجل أن نفقه حقيقة الانتصار لا بد من أن نعرف المهمة التي كلفنا الله بها فبمقدار القيام بهذه المهمة يتحقق الانتصار.
هل مهمتنا أن نقوم بهداية الناس؟ أو مهمتنا أن نسعى ونجد في دعوة الناس للهداية والإيمان؟.
هل مهمتنا أن نجبر الناس على الإيمان؟ أو مهمتنا أن نبين لهم الطريق إلى الإيمان؟ إن مهمة الأنبياء والرسل والدعاة تتلخص في كلمة واحدة، إنها: البلاغ.
بل إن مسئوليتهم محصورة في هذا الجانب وحده.
والآيات في هذا كثيرة، جاءت مقررة لهذه الحقيقة، التي تغيب عن أذهان كثير من الدعاة والمصلحين.
ونقف قليلا مع بعض هذه الآيات: قال -سبحانه-: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2) [سورة النحل، الآية: 35]. وقال: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(3) [سورة النور، الآية: 54]. وقال في سورة الشورى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ)(4) [سورة الشورى الآية: 48]. وفي سورة أخرى: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(5) [سورة التغابن، الآية: 12] وفي المائدة: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(6) [سورة المائدة، الآية: 92].(1/155)
قال الإمام الطبري في قوله -تعالى-: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)(7) [سورة آل عمران، الآية: 20]. إن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام، وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، فإنما أنت رسول مبلغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلفتك من طاعتي (8).
وقال ابن عاشور في الآية نفسها: وإن تولوا وأعرضوا عن قولك لهم: آسلمتم، فليس عليك من إعراضهم تبعة، فإنما عليك البلاغ، فقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)(9) وقع موقع جواب الشرط، وهو في المعنى علة الجواب، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع، أي لا تحزن، ولا تظنن أن عدم اهتدائهم، وخيبتك في تحصيل إسلامهم، كان لتقصير منك، إذ لم تبعث إلا للتبليغ، لا لتحصيل اهتداء المبلغ إليهم (10).
ومن أجل تأكيد هذه الحقيقة، وهي أن مهمة الأنبياء والرسل هي البلاغ، جاءت آيات أخرى تبين أن هداية الناس ليست لا للأنبياء ولا للرسل ولا لغيرهم، قال -سبحانه-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(11) [سورة يونس، الآية: 99]. وقال -جل وعلا -: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(12) [سورة القصص، الآية: 56]. وقال: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(13) [سورة الكهف، الآية: 6]. ومثلها: )(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(14) [سورة الشعراء، الآية: 3].
وفي سورة أخرى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)(15) [سورة فاطر، الآية: 8].
وتتحدد مهمتنا بقول الحق -وهو البلاغ- كما في هذه الآية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(16) [سورة الكهف، الآية: 29].
ونختم هذه الآيات بهاتين الآيتين: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(17) [سورة الأنعام، الآية: 35].
أما آية الذاريات فجاءت مؤكدة المعنى بأسلوب آخر: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(18) [سورة الذاريات، الآيتان: 54، 55].
__________
(1) - سورة الروم آية: 47.
(2) - سورة النحل آية: 35.
(3) - سورة النور آية: 54.
(4) - سورة الشورى آية: 48.
(5) - سورة التغابن آية: 12.
(6) - سورة المائدة آية: 92.
(7) - سورة آل عمران آية: 20.
(8) - انظر تفسير الطبري 3/215.
(9) - سورة آل عمران آية: 20.
(10) - التحرير والتنوير 3/205.
(11) - سورة يونس آية: 99.
(12) - سورة القصص آية: 56.
(13) - سورة الكهف آية: 6.
(14) - سورة الشعراء آية: 3.
(15) - سورة فاطر آية: 8.
(16) - سورة الكهف آية: 29.
(17) - سورة الأنعام آية: 35.
(18) - سورة الذاريات آية: 54-55.
هذه بعض الآيات التي وردت في كتاب الله محددة مهمة الأنبياء والرسل والدعاة، ونافية أي مهمة أخرى قد يتصور الدعاة أنها من مسئوليتهم، وهي ليست كذلك.
إن مهمتنا هي البلاغ، وليس الإكراه، والسعي لهداية الناس، وليس تحقيق هدايتهم، واتخاذ الخطوات والسبل المشروعة لتغيير الواقع السيئ، لا تغيير الواقع.
إننا عندما ندرك هذه الحقائق، ونتعامل معها، نفهم حقيقة النصر الذي نسعى للفوز به، ونعلم من المنتصر ومن المهزوم، وعندما تغيب هذه الأسس والأصول والمنطلقات قد يحيد الداعية عن الطريق، ويخشى أن يكون ممن قال الله فيه: )قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (1) [ سورة الكهف، الآيتان: 103، 104] وإن كانت هاتان الآيتان في الكفار، فإن معناهما قد يشمل في بعض مدلوله أولئك.
أمثلة من القرآن
تأصيلا لهذا المفهوم، ومزيد بيان لهذه القضية، سأختار أمثلة من كتاب الله، تقصّ سير الأنبياء والمرسلين وبعض الدعاة من الأمم السابقة، حيث يتضح من خلال هذه القصص، المنهج الذي سلكه أولئك، والنتائج التي حققوها، ليكون عبرة ونبراسًا لنا ومن يأتي بعدنا.
وسأعرض كل قصة بالقدر الذي أرى أنه يحقق الغرض من إيرادها، مقتصرًا على أبرز هذه القصص، وأقربها صلة بموضوعنا.
1- قصة نوح
ذكر الله -سبحانه وتعالى- نوحا، عليه السلام، في تسع وعشرين سورة من سور القرآن، وقد جاء في بعضها في أكثر من موضع، ومنها سورة نزلت بكاملها في نوح وقومه، وهي سورة نوح.
إن قصة نوح مع قومه قصة عظيمة مليئة، بالدروس والعبر، ومما يكسبها أهمية خاصة ما تميزت به، ومن ذلك:(1/156)
(أ) أن نوح، عليه السلام، أول رسول إلى البشر، وكل أول له خصوصيته وميزته.
(ب) طول المدة التي قضاها في قومه، حيث مكث (950) سنة.
(جـ) أن نوحا، عليه السلام، من أولي العزم من الرسل.
(د) كثرة وروده في القرآن، حيث ورد (43) مرة. في (29) سورة من سور القرآن، أي في ربع سور القرآن - تقريبا (2).
وسأذكر بعض الآيات التي وردت تقص علينا سيرة نوح مع قومه، ثم أقف بعض الوقفات حولها:
قال -سبحانه وتعالى- في سورة الأعراف: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(3) [سورة الأعراف، الآية: 59].
هذا جوهر دعوة نوح، حيث دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده، وحذرهم من مغبة مخالفته.
وتأتي مرحلة أخرى يواجه فيها قومه بعد استكبارهم وعدم استجابتهم، قال -سبحانه- في سورة يونس: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)(4) [سورة يونس، الآية: 71].
وتأتي أطول قصة لنوح مع قومه في سورة هود، حيث حاجهم وجادلهم وبين لهم طريق الهداية، حتى قالوا: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(5) [سورة هود، الآية: 32].
ثم يبين الله له النهاية في هؤلاء (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(6) [سورة هود، الآيتان: 36، 37].
ونقف بعض الوقفات المهمة حول قصة نوح، مما له ارتباط بموضوعنا:
1- كم لبث نوح في قومه؟ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً)(7) [سورة العنكبوت، الآية: 14].
2- ما هي الأساليب التي اتخذها نوح لتبيلغ رسالة ربه؟ لقد اتخذ كل وسيلة مشروعة في محاولة لهدايتهم وتعبيدهم لله؛ (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً)(8) [سورة نوح، الآيات: 5-9].
3- ماذا كانت النتيجة من هؤلاء؟:
__________
(1) - سورة الكهف آية: 103-104.
(2) - لأن سور القرآن (114)، و (29) ربع (116).
(3) - سورة الأعراف آية: 59.
(4) - سورة يونس آية: 71.
(5) - سورة هود آية: 32.
(6) - سورة هود آية: 36-37.
(7) - سورة العنكبوت آية: 14.
(8) - سورة نوح آية: 5-6-7-8-9.
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(1) [سورة الشعراء، الآية: 111] ثم قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)(2) سورة [الشعراء، الآية: 116].
4- من آمن مع نوح؟ لم يؤمن معه إلا قليل، حتى إن زوجته لم تؤمن به، وكذلك أحد أبنائه، ولنقرأ هذه الآيات:
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)(3) [سورة هود، الآية: 40].
(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)(4) [سورة هود، الآية: 45.] (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )(5) [سورة هود، الآية: 46].
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)(6) [سورة التحريم، الآية: 10].(1/157)
5- وأخيرا ماذا قال نوح، عليه السلام؟ (قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(7) [سورة الشعراء، الآيتان: 117، 118]. (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(8) [سورة القمر، الآية: 10]. (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(9) [سورة نوح، الآيتان: 26، 27].
6- وتحقق الانتصار لنوح بعد هذه الرحلة الشاقة العسيرة: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(10) [سورة القمر، الآيات: 10-15].
هذه قصة نوح، ومع هذه السنوات التي قضاها، بل القرون، حيث لبث قرابة عشرة قرون، ماذا كانت النتيجة؟
(أ) لم يؤمن من قومه إلا قليل، قيل: إنهم ثلاثة عشر بنوح، عليه السلام، قال ابن إسحاق: نوح وبنوه الثلاثة، سام، وحام، ويافث، وأزواجهم، وستة أناس ممن كان آمن به (11).
(ب) لم تؤمن زوجته ولا أحد أبنائه كما سبق، وهم أقرب الناس إليه.
(جـ) ومع ذلك، فإنه يعد منتصرا، بل إنه حقق أعظم الانتصارات، ويتمثل ذلك فيما يلي:
1- صبره وثباته طوال هذه القرون، وعدم ميله إلى محاولات قومه -وحاشاه من ذلك- أو تأثره باستهزائهم وسخريتهم (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)(12) [سورة هود، الآية: 38].
2- حماية الله له من كيدهم ومؤامراتهم: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)(13) [سورة الشعراء، الآية: 116].
3- إهلاك قومه الذين كذبوه بالغرق، (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ)(14) [سورة الأعراف، الآية: 64].
4- نجاة نوح ومن آمن معه، (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ )(15) [سورة الأعراف، الآية: 64]. (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)(16) [سورة القمر، الآيتان: 13، 14].
5- إن قصة انتصار نوح وإهلاك قومه أصبح آية يعتبر بها، وجعل الله لنوح لسان صدق في الآخرين (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(17) [سورة القمر، الآية: 15].
__________
(1) - سورة الشعراء آية: 111.
(2) - سورة الشعراء آية: 116.
(3) - سورة هود آية: 40.
(4) - سورة هود آية: 45.
(5) - سورة هود آية: 46.
(6) - سورة التحريم آية: 10.
(7) - سورة الشعراء آية: 117-118.
(8) - سورة القمر آية: 10.
(9) - سورة نوح آية: 26-27.
(10) - سورة القمر آية: 10-11-12-13-14-15.
(11) - انظر تفسير الطبري 8/215.
(12) - سورة هود آية: 38.
(13) - سورة الشعراء آية: 116.
(14) - سورة الأعراف آية: 64.
(15) - سورة الأعراف آية: 64.
(16) - سورة القمر آية: 13-14.
(17) - سورة القمر آية: 15.
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)(1) [سورة الإسراء، الآية: 3]. (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ)(2) [سورة الصافات، الآية: 79]. (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 33].
وهكذا تتضح حقيقة النصر، من خلال قصة نوح وقومه.
وقبل أن أتجاوز قصة نوح، عليه السلام، وقفت عند آية وردت في سورة نوح، حيث، قال: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(4) [سورة نوح، الآية: 27].
وبما أنه لم يكن في الأرض يومئذ إلا قوم نوح، وقد كفروا بالله، وتمردوا على رسوله، سوى فئة قليلة هي التي آمنت به، فإن الله -سبحانه- أهلك جميع من في الأرض، يومئذ سوى نوح ومن آمن معه، حماية للمنهج الذي ذكر نوح أنه معرض للزوال إن بقي هؤلاء، فأهلك هؤلاء على كثرتهم من أجل عدد من البشر يحملون الحق ويذودون عنه. والدليل على أنه لم يبق سوى من يحمل رسالة التوحيد أن الله -تعالى- قال: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)(5) [سورة الإسراء، الآية 3]. قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: وذلك أن كل من على الأرض من بني آدم فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة.
قال قتادة: والناس كلهم ذرية من أنجى الله في تلك السفينة.
قال مجاهد: بنوه ونساؤهم ونوح (6).
وقيل هم ثلاثة عشر، رجالا ونساء (7).(1/158)
قال -سبحانه-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)(8) [سورة نوح، الآية: 58]. إن الانتصار وهو انتصار المنهج لا الأفراد، والعبرة ليست بكثرة المؤمنين والمستجيبين للحق، وإنما في المنهج الذي يحمله أولئك سواء أقلوا أم كثروا، ولذا فإن بضعة نفر أو يزيدون، ولا يتجاوزون ثلاثة عشر فردا يحملون الإسلام ويحققون معنى العبودية، يهلك أهل الأرض جميعا حماية لهؤلاء وللمنهج الذي يمثلونه ويحملونه، ما دام أن هناك خطرا يهدد بزوالهم، ومن ثم زوال المنهج الذي يحملونه: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(9) [سورة نوح، الآية: 27].
ولهذا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم في بدر وهو يناجي ربه: " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض... " (10) الحديث. واستجاب الله لمحمد، صلى الله عليه وسلم ونصره في بدر وما بعدها، كما استجاب لنوح، عليه السلام، من قبله.
ومن علامات انتصار دين الإسلام، أنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تهلك جميع المؤمنين كما كان يخشى في عهد نوح أو في أول الرسالة -كما سبق-، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم بين هذا كما ورد في الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " (11).
2- أصحاب القرية
وهي القصة التي ذكرها الله في سورة (يس)، ولنقرأ هذه الآيات: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(12) [سورة يس، الآيات: 13-18]. قرية واحدة، وهي قرية أنطاكية كما ذكر المفسرون، يرسل إليها رسولان، وعندما لم يؤمن بهما أهل هذه القرية، يرسل الله ثالثا، ومع ذلك فيبقى هؤلاء على إصرارهم وكفرهم، وما زادهم إرسال الرسول الثالث إلا عتوا ونفورا، بل هددوا برجم هؤلاء الرسل وقتلهم: (لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(13) [سورة يس، الآية: 18].
__________
(1) - سورة الإسراء آية: 3.
(2) - سورة الصافات آية: 79.
(3) - سورة آل عمران آية: 33.
(4) - سورة نوح آية: 27.
(5) - سورة الإسراء آية: 3.
(6) - انظر تفسير الطبري 15/19.
(7) - انظر تفسير الطبري 8/215.
(8) - سورة مريم آية: 58.
(9) - سورة نوح آية: 27.
(10) - أخرجه مسلم (1763).
(11) - أخرجه البخاري (3641)، ومسلم (1037).
(12) - سورة يس آية: 13-14-15-16-17-18.
(13) - سورة يس آية: 18.
وهل انتهت القصة عند هذا الحد، بل جاءهم رجل رابع، وهو من بني جلدتهم وناصح لهم، (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)(1) [سورة يس، الآية: 20]. ويستمر في حواره معهم ودعوتهم، وهذه المرة لم يهددوه، كما هددوا من قبله بل قتلوه عندما خالفهم، وهذا شأن الطغاة فإنهم لا يتحملون أن يخالفهم أحد من بني قومهم أو حاشيتهم.
وهكذا ثلاثة رسل وداعية من أهل هذه القرية لقرية واحدة، ومع ذلك لم يستجيبوا للدعاة، ولم يكتفوا بعدم الاستجابة، بل هددوا الرسل -وقيل قتلوهم- وقتلوا الداعية الرابع.
إن مقاييس الأرض تظهر أن هؤلاء الرسل لم ينتصروا ولم يحققوا أهدافهم، وأن هذا الداعية استعجل في الكشف عن هويته وإيمانه، ولذلك لقي جزاءه؟ هكذا يقوم الحدث في نظر من لم يفهم حقيقة الانتصار، ولا معنى الهزيمة.
أما منطق الحق، ومنهج النبوة، فيعلن أن هؤلاء قد نصروا نصرا مؤزرا، وأن أصحاب القرية هم الخاسرون، ويتمثل النصر في الحقائق التالية:
1- أن هؤلاء الرسل قد بلغوا رسالة الله، ولم يستسلموا لشبه أهل القرية أولا، وتهديدهم ثانيا، وهذه هي مهمتهم: (وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2) [سورة يس، الآية: 17]. ومن أدى ما عليه فقد انتصر وفاز ونجح.
2- إيمان رجل من أهل القرية بهم، وتأييده لهم علانية، يعد نصرا وانتصارا له ولهم، ولذلك كان رد أهل القرية عنيفا تجاهه، لأنهم شعروا بخذلانه لهم، وخذلانهم نصر لأولئك الرسل.(1/159)
3- أن قتل هذا الداعية نصر له ولمنهجه (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)(3) [سورة التوبة: 52]. ولذلك، (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ)(4) [سورة يس، الآية: 26]. فتمنى أن يعلن عن فوزه وانتصاره، (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(5) [سورة يس، الآيتان: 26، 27].
4- وتتويجا لانتصارات هؤلاء الرسل وهذا الداعية، جاءت النهاية المحققة: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)(6) [سورة يس، الآيتان: 28، 29].
إن الدعاة في أمس الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة أصحاب القرية، ويتدبروا أبعادها ونهاياتها.
ثلاثة رسل، وداعية مخلص صادق لقرية واحدة، ومع ذلك فلم يؤمنوا، وعدم إيمانهم لم يفت في عضد هؤلاء الرسل، ولم يمنع هذا الداعية من قول كلمة الحق، دون استعجال أو تنازل أو يأس.
بل إن هذا الداعية، كما ورد عند الطبري، كان يقول أثناء قتل قومه له: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، بل إننا نلمس من قوله (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)(7) أنه لا يقول هذا تشفيا ولا من أجل إغاظتهم، ولكن من أجل هدايتهم، لأنهم إذا علموا أنه كان على الحق وقد قالوا للرسل: (وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(8) [سورة يس، الآية: 15]. كان أرجى لهدايتهم.
وهذا من حرصه على هداية قومه، وهكذا يكون الداعية، محبا لهداية الناس، لا يحمل الحقد ولا الضغينة، وهذا هو الانتصار على النفس الذي يسبق الانتصار الظاهر، ومن حرم الانتصار على نفسه، فلن ينتصرعلى غيره.
3- أصحاب الأخدود
قال الله - تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(9) [سورة البروج، الآية: 4-8].
قصة أصحاب الأخدود قصة عجيبة، تصور لنا معنى من معاني الانتصار الذي نتحدث عنه، وتبين أن استجابة الناس، أو ظهور الدين ليس هو المقياس الوحيد للانتصار، بل إن ثبات الداعية وانتصار المنهج هو قمة الانتصار.
ولأهمية هذه القصة، فسأذكرها بتمامها، كما أوردها العلامة ابن كثير -رحمه الله- حيث قال في تفسير هذه الآيات:
__________
(1) - سورة يس آية: 20.
(2) - سورة يس آية: 17.
(3) - سورة التوبة آية: 52.
(4) - سورة يس آية: 26.
(5) - سورة يس آية: 26-27.
(6) - سورة يس آية: 28-29.
(7) - سورة يس آية: 26.
(8) - سورة يس آية: 15.
(9) - سورة البروج آية: 4-5-6-7-8.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: " كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي.(1/160)
فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم (1) وكان للملك جليس فعمي، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني، فقال ما أنا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي. فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني: بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل قال: أنا؟ قال: لا، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه -أيضا- بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب، فقال ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون. وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله -تعالى- فبعث به مع نفر في قرقور، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله -تعالى- ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد قوسه، ئم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فقيل للملك أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدد فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنما تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق " (2).
هذه قصة أصحاب الأخدود بطولها، وقد أوردتها لأهميتها، وقد أعجبت بما قاله سيد قطب -رحمه الله- حول هذه القصة مبينا حقيقة الانتصار فيها، ولذا سأذكر بعض ما قاله، ثم أضيف ما أراه حولها مما له صلة بموضوعنا:
وكان مما قال -رحمه الله-: (3)
"في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان، وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية، لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان".
في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة.
حساب الأرض يجيك في الصدر شيء أمام هذه الخاتمة الأسيفة.
ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام، ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.
__________
(1) - بإذن الله.
(2) - رواه مسلم (3005) من حديث صهيب رضي الله عنه [73 - (3005) كتاب الزهد].
(3) - سأختار من كلامه ما له صلة بهذا الموضوع.
إن الناس جميعا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون -جميعا- هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون -كثير من- الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس -أيضا- إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال.
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون أنفسهم، وكم كانت البشرية كلها تخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح، بعد سيطرتهم على الأجساد.
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(1) [سورة البروج، الآية: 8]. حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله، في كل أرض، وفي كل جيل.(1/161)
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئا آخر على الإطلاق وإن خصوهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة (2)
وبعد هذه الدروس التي استخلصها سيد قطب من هذه القصة، أقف عدة وقفات حولها:
1- ثبات الراهب والأعمى، وتخلي الأعمى عن جميع متع الحياة الدنيا في مقابل أن يظفر بعقيدته، إن الراهب قد انتصر في معركة بقائه أو بقاء عقيدته، فاختار أن تبقى العقيدة ولو خسر حياته.
أما الأعمى فقد انتصر مرتين، انتصر عندما تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة، وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته.
إن الراهب والأعمى قد خلدا لنا معاني عظيمة من معاني الانتصار الحقيقي، بعيدا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الآخرين أنهم إنما فعلوا ذلك من أجل الدين، ولو صدقوا لعلموا أن انتصار الدين بأن يفعلوا ما فعله الراهب والأعمى.
2- عجيب أمر هذا الغلام! لماذا دل الملك على مقتله، ولماذا -مادام أن الله قد منعه من الملك- لم يؤثر البقاء ليبلغ رسالة ربه، ويدل الناس على الدين الحق، ويبقي على حياته سالما.
هذا سؤال قد يتبادر إلى الأذهان:
والمفهوم التي لم تعرف حقيقة الانتصار. إن الغلام قد أدرك -بتوفيق من الله- أن كلمة في لحظة حاسمة صادقة، تفعل ما لا تفعله آلاف الكلمات في عشرات السنين.
إن الحياة مواقف، يتميز فيها الصادق من غيره، وقد سنحت فرصة عظيمة لا يجوز تفويتها، ولا يليق تبرير ضياعها، وكما قيل: "إذا هبت رياحك فاغتنمها" وقد هبت رياح هذا الغلام، وهل رياحه إلا تبليغ رسالة ربه، ولو دفع حياته ثمنا رخيصا في سبيل الله؟
إنه انتصار الفهم، وانتصار الإرادة، وانتصار العقيدة عندما تتحول في صدر صاحبها إلى قوة مؤثرة، وحياة صادقة، وليست على هامش حياته وسلوكه وتفكيره، إن هذا الغلام قد انتصر عدة مرات في معركة واحدة، وموقف واحد:
انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور.
وانتصر بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطيا جميع العقبات، ومستعليا على الشهوات وحظوظ النفس ومتاع الحياة الدنيا.
وانتصر على هذا الملك الغبي، الذي أعمى الله بصيرته، فأخرب ملكه بيده، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إن الناس قد يتعجبون لأن الغلام قد دل الملك على مقتله، ولكنهم لا يدركون أن الملك قد قتل نفسه بيده لا بيد غيره، فأيهما أولى بالعجب والتعجب؟
إن الغلام أقدم وهو يعي حقيقة ما يفعل: أما الملك فأعمته سكرة الملك وشهوة السلطان عن أن يدرك ما خطط له هذا الغلام، في هذه المعركة الفاصلة التي مات فيها فرد وحيت أمة.
وانتصر الغلام عندما تحقق ما كان يتصوره ويتوقعه وقدم نفسه من أجله، فآمن الناس وقالوا: آمنا بالله رب الغلام.
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، نجاح باهر، وفوز ظاهر.
وانتصر الغلام عندما فاز بالشهادة في سبيل الله، فكل الناس يموتون، ولكن القليل منهم من يستشهدون.
وانتصر أخيرا عندما خلد الله ذكره قدوة لمن بعده، وذكرا حسنا على لسان المؤمنين، حيث جعل الله له لسان صدق في الآخرين.
3- وتتويجا لهذه الانتصارات المتلاحقة:
تأتي نهاية القصة، عندما آمن الناس برب الغلام، آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنا جن جنون الملك، وفقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة، للإبقاء على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له.
__________
(1) - سورة البروج آية: 8.
(2) - انظر معالم في الطريق فصل: هذا هو الطريق ص 173.
ثم يحفر أخاديده، ويوقد نيرانه، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار، وتأتي المفاجأة المذهلة، بدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب، لا تسجل الرواية أن أحدا منهم تراجع أو جبن أو هرب، بل نجد الإقدام والشجاعة، وذلك بالتدافع إلى النار، وكأن الغلام قد بث فيهم الشجاعة، والثبات وها هم يجدون في اللحاق به، وكأنهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداء لدينهم، تموت الأجسام وتحيا الأرواح عند خالقها: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 169].
من لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد
والحالة الفريدة التي وردت في الرواية، هي تلك المرأة التي خافت على رضيعها، ولكنها نسيت أنها قد أرضعته الإيمان والشجاعة والإقدام مع اللبن الذي كان يشربه، فطلب منها التقدم، فأقدمت.(1/162)
أي أمة تلك، وأي قوم أولئك، مع الزمن الطويل الذي عاشوه في الظلام، والسنوات التي استعبدهم فيها هذا الملك، ومع قصر المدة التي عرفوا فيها الإيمان، فقد عرفوا المنهج حق المعرفة، وكأنهم عاشوا فيه كما عاش الراهب طول عمره، أو تربوا عليه كما تربى الغلام في صباه.
إنه الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب، ولامس الأرواح يفعل العجب.
لقد رأينا في قصة الراهب والأعمى ثم الغلام انتصارا فرديا.
ولكننا في قصة أولئك المؤمنين نرى انتصارا جماعيا، قل أن يحدث له في التاريخ مثيلا.
إنه صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، وفهم حقيقة الانتصار.
4- وقبل أن نغادر هذه القصة، يرد سؤال في الأذهان:
ماذا حل بهذا الملك وحاشيته وجنده؟
وهل ذهبت دماء هؤلاء المؤمنين وأرواحهم دون انتقام من الله لمن قتلهم؟
إننا لا نجد في القرآن ولا في السنة أي ذكر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا، ولله في ذلك حكمة قد تخفى علينا.
نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)(2) [سورة البروج الآية: 10].
قال الحسن البصري: "انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة" (3).
إن هذه النهاية تحقق معنى من معاني الانتصار، من المنتصر؟ الذي نصر عقيدته ودين ربه، وحرق بضع دقائق، ثم انتقل إلى جنات النعيم، أو ذلك الذي تمتع بأيام في الحياة الدنيا ثم مآله -إن لم يتب- إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق؟.
هل هناك مقارنة بين الحريق الأول، والحريق الثاني، حريق الدنيا، وحريق الآخرة؟ إنها نقلة بعيدة، وبون شاسع، أما المؤمنون الذين حرقوا في الدنيا، فـ (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)(4) [سورة البروج الآية: 11] وتعلن النتيجة التي لا مراء فيها، ولا جدال:
(ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(5) أليس هذا هو الانتصار؟.
أحاديث في الانتصار
وردت بعض الأحاديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم نجد فيها دلالة لحقيقة الانتصار، وإزالة لما يتوهم من معنى الهزيمة.
وسأذكر أربعة أحاديث، وأقف مع كل حديث مبينا وجه الاستدلال فيه.
1-الحديث الأول
أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عرضت علي الأمم فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل: هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير، قال هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب " (6) الحديث.
وفي رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج علينا النبي، صلى الله عليه وسلم يوما فقال: " عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد... " (7) الحديث.
وفي رواية لمسلم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم... " (8) (9) الحديث.
وقد ورد الحديث بروايات أخرى في معنى هذه الروايات.
وتبرز صلة هذا الحديث في موضوعنا من خلال ما يلي:
1- ورد في الحديث، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم نظر إلى سواد كثير، وفي رواية: سواد عظيم، ثم رأى سوادا كثيرا -آخر- سد الأفق.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 169.
(2) - سورة البروج آية: 10.
(3) - تفسير ابن كثير4/496.
(4) - سورة البروج آية: 11.
(5) - سورة البروج آية: 11.
(6) - أخرجه البخاري (6541).
(7) - أخرجه البخاري (5752).
(8) - الرهيط: قال النووي هم بضم الراء تصغير الرهط. وهي الجماعة دون العشرة. مسلم بشرح النووي 3/53.
(9) - أخرجه مسلم (220).
والسواد الأول هم ممن آمن بموسى، عليه السلام، والسواد الآخر هم أمة محمد، صلى الله عليه وسلم وهذا يمثل نوعا من أنواع الانتصار الظاهر، حيث انتشر الدين وآمن الناس، حتى بلغوا هذا المبلغ، وهو النوع الأول من أنواع الانتصار التي أشرت إليها سابقا، ومثل ذلك النبي الذين يمر ومعه الأمة.
2- ورد في الحديث، أن النبي يمر معه العشرة، والنبي ومعه الخمسة، والنبي يمر وحده، وفي رواية: فجعل النبي يمر معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد.
ونحن لا نشك في انتصار الأنبياء والرسل كما أخبرنا الله -جل وعلا- بذلك فقال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(1) [سورة غافر، الآية: 51]. وغيرها من الآيات التي سبق ذكرها.(1/163)
وها نحن نجد النبي يأتي يوم القيامة، ومعه العشرة، والآخر معه الخمسة، وثالث ومعه الرجلان، ورابع ومعه رجل واحد، والخامس وليس معه أحد.
والأمر الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن النبي الذي معه العشرة والخمسة والرهيط قد لا يكونون قد آمنوا به واتبعوه في حياته، بل قد يكون بعضهم بعد وفاته، لأن الذين رآهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم من أمته ليسوا الذين آمنوا به في حياته صلى الله عليه وسلم فقط، بل منهم من آمن به في حياته، ومنهم من آمن به بعد وفاته إلى قيام الساعة، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف عن غيره من الأنبياء بأنه خاتمهم وآخرهم.
وبهذا نفهم أن الانتصار ليس بكثرة الأتباع فحسب، وقبول الناس واستجابتهم، هذا نوع من أنواع الانتصار كما سبق، وبخاصة إذا كان الأتباع على المنهج الحق، وإلا فلا عبرة بالكثرة والقلة.
والمعادلة التي نخرج منها، والحقيقة التي نظفر بها، أن النبي -كل نبي- لا شك في انتصاره في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وها نحن نجد عددا من الأنبياء ليس معهم إلا أفرادا، بل بعضهم ليس معه أحد.
فالنتيجة أن هناك أنواعًا أخرى من الانتصار، أشمل مما قد يتبادر إلى أذهان كثير من الناس، وبعض الدعاة. إن إدراكنا لهذه الحقيقة وتعاملنا معها هو نوع من الانتصار الذي نبحث عنه بل هو أول الخطوات لتحقيق الانتصار.
2- الحديث الثاني
عن خباب بن الأَرَتْ ( قال: " شكونا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: إلا تستنصر لنا، أو تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يبعده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله -تعالى- هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون " (2).
ولنقف هذه الوقفات:
1- خبّاب ( جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء بالنصر - هكذا أطلق خباب، وهو يريد النصر الظاهر، برفع العذاب والأذى الذي كانت قريش تصبه على رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته.
فنقله رسول الله، صلى الله عليه وسلم نقلة أخرى مبينا له معنى آخر من معاني الانتصار، وهو الثبات على دين الله، وتحمل المشاق والعقبات، حتى لو ذهبت روح المسلم فداء لدينه وعقيدته.
2- ثم يذكر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم النصر الظاهر وأنه متحقق، ويقسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولكنه لا يتحقق إلا بعد الثبات والصبر.
3- ونجد أن ما ذكره رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأقسم على حصوله وهو إتمام هذا الدين -وهو نوع من الانتصار- قد لا يتحقق في حياة الداعية، فمسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت حدث بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فعلى الداعية أن يعي هذا الأمر، وأن انتصار الدين لا يتعلق بشخصه.
4- " ولكنكم تستعجلون " صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم إن حرص كثير من الدعاة على انتصار هذا الدين قد يؤدي بهم إلى ارتكاب ما يعوقه، وهو الاستعجال، إنهم يريدون أن يروا النتائج في حياتهم، بل في أول حياتهم -أحيانا- وهذا لم يتحقق لكثير من الأنبياء والرسل.
ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النصر يحتاج إلى الصبر والثبات والتفاؤل مع عدم العجلة.
ويعلمنا أن النصر أشمل مما قد يتبادر إلى أذهاننا.
فليس النصر مقصورا على النصر الظاهر، والنصر الظاهر لا يلزم أن يتحقق في حياة الداعية.
3- الحديث الثالث
عن أبي هريرة ( قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم
أن الله عز وجل قال: " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " (3). الحديث.
__________
(1) - سورة غافر آية: 51.
(2) - أخرجه البخاري (3612).
(3) - أخرجه البخاري (6502).
والشاهد من هذا الحديث القدسي، أن المؤمن إذا أيقن أن الله معه، ويجب أن يوقن بذلك، ومن كان وليا لله فإن الله معه، وإذا الله كان معه، يعلن الحرب على من آذاه أو عاداه، فيستلزم ذلك أن يؤمن إيمانا لا شك فيه أن الله سينصره، لأن المعركة لم تعد بين الداعية وعدوه، وإنما هي حرب من الله على هذا المعادي، وبدهي أن نعلم من المنتصر ومن الخاسر؟ !!.
ومادام الأمر كذلك، فإن الله -جل وعلا- هو الذي يقدر نوع الانتصار وزمانه ومكانه، ولا يخضع هذا لرؤيتنا القاصرة، أو رغباتنا المحدودة، أو اجتهاداتنا البشرية.
وما علينا إلا أن نعلم يقينًا أن المعركة محسومة من أولها، معروفة نتائجها قبل بدايتها، وأن نتعامل بإيجاب مع هذا اليقين، فلا نستعجل ولا نيأس، ولا نتصرف تصرفا قد يكون سببا لحرماننا من النصر الذي لا شك فيه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) [سورة الروم، الآية: 47].
4- الحديث الرابع
عن عثمان بن عفان ( قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول: " صبرا، آل ياسر فإن موعدكم الجنة " (2).(1/164)
إن الصبر نوع من أعظم أنواع الانتصار، فبالصبر يسمو الإنسان على رغباته ويعلو على متع الحياة الدنيا.
والصبر سمة الرجال الأخيار (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(3).
إنه بالصبر ينتصر على نفسه أولا، وينتصر على عدوه، ثانيا، وينصر مبدأه ثالثا. إننا عندما نذكر انتصار الإسلام في مراحله الأولى نتذكر آل ياسر: ياسر وسمية وعمار.
إن هذا البيت بصبره وجهاده، وتقديم حياته فداء لهذا الدين، ممن وضع اللبنات الأولى لعزة هذا الدين وظهوره.
لقد انتصروا على ذواتهم أولا، وعلى المشركين ثانيا، ونصروا الإسلام ثالثا.
ثم لهم الجنة بعد ذلك، (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 185]. (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(5) [سورة البروج الآية: 11].
وأجد أنّ قصة الصحابي الجليل عمير بن الحمام في بدر قصة تسجل انتصارًا باهرًا للداعية، فالوقوف عندها واستخلاص ما فيها من دورس وعبر يعطي دلالة على ما نحن بصدده.
سورة العصر و حقيقة النصر:
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم". (6).
فما علاقة هذه السورة بحقيقة الانتصار؟
إن هذه السورة ترسم منهج النصر بصورة واضحة جلية، وتصحح الفهم الخاطئ بحصر قضية الانتصار بصورة واحدة أو نوع منفرد.
كيف ذلك؟
يقسم الله - سبحانه وتعالى- أن كل إنسان في خسر، أي خسارة وهلاك وبوار، إلا من استثنى بعد ذلك.
والمستثنى من الخاسرين، هو الفائز والرابح والمنتصر.
فلننظر في شروط الانتصار
1- الإيمان، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(7).
2- عمل الصالحات، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(8).
3- التواصي بالحق، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)(9).
4- التواصي بالصبر، (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(10).
هذه شروط النصر، فمن استكملها فقد خرج من الخسران ونجا، وبالتالي فقد انتصر وفاز وأفلح.
وهنا -بعد تقرير هذه القضية- نأتي للدلالة على فهم حقيقة الانتصار في هذه السورة.
فالله -سبحانه وتعالى- لم يذكر من شروط الانتصار تحقق النتائج، واهتداء الناس واستجابتهم.
إذن النصر ليس محصورا في تلك السورة فقط، والله -سبحانه- حكم بانتصار المسلم ونجاته من الخسران إذا استكمل الشروط الأربعة، وليس منها أن يستجيب الناس له، أو أن تتحقق الأهداف التي يسعى إليها، فهذا الأمر ليس له، وليس من لوازم النصر، وهذا رحمة من الله وفضل (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(11) [سورة البقرة، الآية: 105].
بل قد استوقفني في هذه السورة أمران مهمان، لهما علاقة في رسم منهج الانتصار، وهما:
1- التواصي بالحق، لأن الإنسان قد يضعف أو يزل أو ينحرف، فيحتاج إلى من يوصيه بالمنهج، محافظة عليه وصيانة له، فكم من إنسان يتصور أنه على الحق، وهو قد حاد عنه، واتبع السبل من حيث لا يدري، ومع ذلك يقول:
لماذا لم أنتصر، وما سر تأخر النصر؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(12) [سورة آل عمران، الآية: 165].
فالتواصي بالحق سبيل لتحقق النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين، وعاصم من الانحراف عن صراط الله المستقيم.
2- التواصي بالصبر:
ولا يمكن أن يتحقق النصر لمستعجل الشيء قبل أوانه، ولا لليائس والقانط من رحمة الله.
والتواصي بالصبر يمنع من الاستعجال، ويبعد اليأس والقنوط.
__________
(1) - سورة الروم آية: 47.
(2) - رواه الحاكم 3/388 - 389 وصححه الألباني في فقه السيرة (107).
(3) - سورة ص آية: 30.
(4) - سورة آل عمران آية: 185.
(5) - سورة البروج آية: 11.
(6) - تفسير ابن كثير 4/547.
(7) - سورة العصر آية: 3.
(8) - سورة آية: 3.
(9) - سورة العصر آية: 3.
(10) - سورة العصر آية: 3.
(11) - سورة البقرة آية: 105.
(12) - سورة آل عمران آية: 165.
ومن هنا فإن المؤمن إذا التزم بالحق وتمسك به وسار عليه ولم يحد عنه، ثم صبر وصابر غير مستعجل ولا يائس، فإن النصر متحقق له لا محالة (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)(1) [سورة النساء، الآية: 122]. بل إن التزام الحق والصبر، هو النصر الذي لا يتحقق نصر دونه.
أسباب تأخر النصر الظاهر
النفس مجبولة على حبّ العاجل، وتحقق النصر الظاهر لدين الله أمر محبب إلى النفس كيف لا، وهو ظهور دين الله وقمع الباطل وأهله، ولذلك قال -سبحانه-: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(2) [سورة الصف، الآية: 13].
ونحن مأمورون بالسعي لإقامة دين الله (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)(3) [سورة البقرة، الآية: 193].
وكثير من الناس -وأخص الدعاة منهم- يستبطئون تحقق النصر، وقد يسبب لهم هذا الأمر شيئا من اليأس أو الانحراف عن المنهج، ويغفلون عن الأسباب التي تؤخر النصر الظاهر، مع أن معرفة هذه الأسباب أمر مهم، وله آثاره الإيجابية على حياة الدعاة والمدعوين والأتباع، وذلك أن هذه الأسباب على نوعين:(1/165)
1- أسباب سلبية، والمعرفة بها سبيل إلى تلافيها وإزالتها.
2- أسباب إيجابية، وفقهها وإدراكها عامل مؤثر في ثبات الداعية على المنهج الرباني، سواء تحقق النصر عاجلا أو آجلا.
وسأقف مع أبرز الأسباب التي تكون عاملا مؤثرا في تأخير النصر أو عدم وقوعه في حياة الداعية أو على يديه، وسأختصر فيها حسب مقتضى المقام:
1- تخلف بعض أسباب النصر المشروعة:
وذلك أن للنصر أسبابًا، فإذا تخلّفتْ هذه الأسباب أو بعضها تخلف النصر؛ لأن السبب عند الأصوليين، هو ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته، وإن كان لا يلزم من وجود السبب هنا وجود النصر لمانع آخر، ولكن يلزم من عدمه العدم.
فمثلا: نجد من أسباب النصر المشروعة الإعداد للمعركة لأن الله -تعالى- يقول:
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)(4) [سورة الأنفال، الآية: 60]. فعدم الأخذ بالأسباب سبب من أسباب الهزيمة أو تأخر النصر.
10- قد يكون انتصار الداعية بعد وفاته أعظم من انتصاره في حياته، لأن المراد هو انتصار المنهج، أما الأشخاص فإن الله قد تكفل بإثابتهم وإكرامهم، جزاء دعوتهم وصدقهم، ولذلك جاءت الآيات تبين هذا الأمر:
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(5) [سورة آل عمران، الآية: 169]. (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(6) [سورة يس، الآية: 26، 27]. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(7) [سورة النحل، الآية: 32]. (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)(8) [سورة فصلت، الآية: 30، 31]. إلى غير ذلك من الآيات.
وكم من داعية لم ينتصر الدين في حياته، ولكنه انتصر أعظم الانتصار بعد مماته، فهذا عبد الله الغلام، وسبق بيان قصته، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية مات في سجنه، ولكن منهجه انتصر انتصارا باهرا بعد عدة قرون من وفاته.
وسيد قطب سجن ثم قتل، ولكن مؤلفاته انتشرت أكبر الانتشار بعد قتله!!.. وهكذا.
__________
(1) - سورة النساء آية: 122.
(2) - سورة الصف آية: 13.
(3) - سورة البقرة آية: 193.
(4) - سورة الأنفال آية: 60.
(5) - سورة آل عمران آية: 169.
(6) - سورة يس آية: 26-27.
(7) - سورة النحل آية: 32.
(8) - سورة فصلت آية: 30-31.
11- أن تأخر النصر فيه ابتلاء وتمحيص للدعاة، وفيه من العبر والدروس ما يفيد اللاحقون منه فوائد جمة. قال -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)(1) [سورة البقرة، الآية: 214]. وقال: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(2) [سورة العنكبوت، الآية 1 - 3]. والآيات كثيرة معلومة.
وبعد:
فهذه أبرز أسباب تأخر النصر الظاهر حسب ما تبين لي، وقد تتكشف لنا أسباب تأخر النصر، وقد لا تتكشف.
والذي يجب أن نعتقده أن علينا فعل الأسباب الشرعية، سعيا لنصرة دين الله، أما تحقق النصر فليس لنا بل هو لله (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 126].
والنصر لن يتحقق إلا إذا حان موعده في علم الله لا في تقديرنا القاصر.
ولن يتحقق النصر إلا بعد الإيمان الجازم بوعد الله، (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة الروم، الآية: 47].
أما من عنده شك وريبة فلا يستحق النصر (5).(1/166)
2- قد يكون سبب تأخر النصر حدوث مانع من الموانع، والمانع هو: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته. والموانع كثيرة جدا، كالظلم والركون للكفار والمعاصي وغيرها. وموانع النصر هي أسباب الهزيمة، ولذلك نجد في غزوة أحد لما بدت علامات النصر ثم وقعت المخالفة من الرماة لأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم حلت الهزيمة، كما قال - تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(6) [سورة آل عمران، الآية: 165]. قال محمد بن إسحاق وابن جرير والربيع بن أنس والسدي. (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(7) أي بسبب عصيانكم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم حين أمركم ألا تبرحوا مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة. (8).
وفي حنين لماذا تأخر النصر، يقول - سبحانه-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(9).
حيث ذكر الله - سبحانه- أن قول أحد المسلمين لن نغلب اليوم من قلة، وكان عددهم (12) ألفا (10) مانعا من موانع النصر، لأن الله - سبحانه- وكلهم إلى كثرتهم فلم تنفعهم شيئا، ثم تحقق النصر بعد ذلك عندما زال هذا المانع حيث ثبت أن الكثرة وحدها لا تجلب النصر، وإنما الاعتماد على الله -سبحانه- بعد الأخذ بالأسباب.
ومن خلال ما سبق يتضح أهمية مراعاة الأسباب، والحرص على تحصيلها، مع تلافي الموانع واجتنابها.
3- الانحراف عن المنهج
الانحراف عن المنهج مانع من الموانع، ولكن أفردته لأهمية التنبيه عليه، فقد تتبعت بالاستقراء واقع كثير من الجماعات الإسلامية والحركات الجهادية المعاصرة، وبحثت عن سر عدم انتصارها وتحقق ما تعلنه من أهداف خيرة نبيلة، حيث إن تلك الجماعات تسعى لنصرة دين الله، وتحكيم شرعه، فوجدت إن من أبرز الأسباب -حسب ما ظهر لي- انحرافها عن المنهج الصحيح -منهج أهل السنة والجماعة- في ثوابتها أو وسائلها.
وقد يكون الانحراف يسيرا -في نظر البعض- ولكنه خطير جدا ومؤثر في تحقيق النصر.
فمن ذلك التساهل في قضية العقيدة وعدم اعتبارها من الأولويات التي تتميز بها تلك الجماعة.
وكذلك تمييع مفهوم الولاء والبراء، والركون إلى الظالمين ومداهنتهم.
ومن ذلك تأصيل الحزبية، مما يؤدي إلى تفريق كلمة المسلمين، وتنافر القلوب. وكذلك اعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة، وهلم جرا.
إن تحرير الأصول والثوابت، وتنقيتها مما قد يشوبها، أمر جوهري وأساس في سلامة منهج الدعوة وصدق التوجه.
وكذلك عرض كل وسيلة من الوسائل على القواعد والأصول الشرعية، حماية لها من الانحراف تحت ضغط الواقع وحجية المصلحة المتوهمة.
4- عدم نضوج الأمة، وضعف استعدادها إن دين الله عظيم، ويحتاج إلى أمة قد تربّت على هذا الدين زمنا حتى تتمكن من حمله وتبليغه للناس.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 214.
(2) - سورة العنكبوت آية: 1-3.
(3) - سورة آل عمران آية: 126.
(4) - سورة الروم آية: 47.
(5) - انظر في ظلال القرآن تفسير سورة الحج 4/2427 ففيه كلام قيم حول بعض ما ذكر.
(6) - سورة آل عمران آية: 165.
(7) - سورة آل عمران آية: 165.
(8) - انظر تفسير ابن كثير 1/425.
(9) - سورة التوبة آية: 25.
(10) - انظر تفسير الطبري 10/100 وتفسير ابن كثير 2/343.
أمة قد اجتازت المشقة والعقبات قبل أن تحصل على النصر، بل من أجل الحصول عليه.
ئم إن قيام هذا الدين يحتاج إلى طاقات ضخمة، كثيرة العدد، متعددة المواهب والتخصصات، وهذا الأمر يحتاج إلى زمن ليس باليسير، فإعداد الرجال وتربيتهم من أشق المهمات وأصعبها.
ولذلك نجد أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم بقي ثلاثة عشر عاما يربي الرجال واحدا واحدا، ويهيئ الأمة جماعة جماعة، استعدادا لحمل الرسالة والذود عنها.
فقوم في دار الأرقم، وآخرون يهاجرون إلى الحبشة، ومرة يحصر الجمع في شعب أبي طالب، ثم تأتي الهجرة إلى المدينة.
كل هذا وغيره هيأ هذه الأمة لحمل الرسالة حتى كمل الدين وفتح الله على المسلمين فتحا عظيما.
ومما سبق يتضح أن هذا الأمر يحتاج إلى زمن لتمامه، واكتمال بنائه، وهو سبب من أسباب تأخر النصر وظهور دين الله مهيمنا على البشر.
5- عدم إدراك قيمة النصر:
إن مجيء النصر سريعا دون كبير مشقة ولا عناء، يجعل الأمة المنتصرة لا تعرف قيمة هذا الانتصار، ومن ثم لا تبذل من الجهود للمحافظة عليه ما يستحقه وما يحتاج إليه.
وسأضرب مثلين يوضحان هذه الحقيقة:
(1) الرجل الذي عاش في الفقر ثم جد واجتهد في تحصيل المال حتى أصبح غنيا، نجد أنه يحافظ على هذا المال محافظة عجيبة، ويبذل كل الوسائل الممكنة للذود عنه وحمايته.(1/167)
وذلك لأنه ذاق طعم الفقر ومذلته، ثم إنه تعب في جمع هذا المال وتنميته، فليس من السهولة أن يفرط فيه، ويكره أن يعود للفقر بعد أن أخرجه الله منه، كما يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه.
أما أولاده وورثته، فتجد أن الكثير منهم لا يولي هذا المال ما يستحقه من عناية واهتمام، بل قد يعبث فيه حتى يصبح فقيرا.
وذلك أنه لم يعرف قيمة هذا المال، ولم يتعب في جمعه وكسبه، ولم يذق طعم الفقر كما ذاقه مورثه.
(ب) قيام الدول وسقوطها:
مما يلحظ بالاستقراء والتتبع أن الدول تكون إبان قيامها قوية مهابة، وتجد أن الأمراء والخلفاء يبذلون جهودا مضاعفة للمحافظة على الدولة، وتلافي جميع أسباب ضعفها.
ثم تأتي أجيال لم تساهم في قيام الدولة، وورثت الملك كما يرث الوارث المال، وهنا ينشغلون عن الدولة بمكاسبها، ويغفلون عن تبعاتها، وتبدأ الدولة في الضعف والتفكك حتى قد يئول الأمر إلى سقوطها.
ولذا فإن مجيء النصر دون تعب أو عناء قد يكون سبباً في عدم استمراره، وصعوبة المحافظة عليه، ومن هنا فقد تقتضي حكمة الله أن يتأخر النصر حتى يستوي الأمر ويوجد الرجال الذين يعرفون قيمة النصر، والثمن الذي يستحقه.
6- قد يكون في علم الله -جل وعلا- أن هؤلاء لو انتصروا لن يقوموا بتكاليف الانتصار، (1) من إقامة حكم الله في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وذلك أن الانتصار ليس مرادا لذاته، وإنما لما يتحقق منه، وهو إخماد الفتنة، وأن يكون الدين كله لله.
وهذا مما يفهم من قوله -تعالى-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(2) [سورة الحج، الآية: 40، 41]. وقد لا نعلم نحن سبب ذلك ولكن الله يعلمه.
وذلك أن هناك فئة من الناس تثبت في حالة الشدة والعناء، وتصمد في حالة المواجهة والبلاء ولكنها تضعف وتتقهقر في حالة النعم والرخاء والأمن.
وقوم هذه حالهم لا يستحقون النصر، والله أعلم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
7- من أسباب تأخر النصر أن الباطل الذي يحاربه الدعاة لم ينكشف زيفه للناس تماما، فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه، ممن هم ليسوا على هذا الباطل، ولا يقرونه لو اكتشفوا حقيقته.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك قصة المنافقين، فكثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعرفون عددا من أقطاب النفاق، بل إنهم يحسنون الظن بهم، ولذلك وجدنا من يدافع عنهم، حتى إن بعض كبار الصحابة من الأنصار كانوا يدافعون عن عبد الله بن أُبَيٍّ، لعدم معرفتهم بما كان عليه من الباطل وبخاصة في أول العهد المدني.
ولما جاء زيد بن أرقم وأخبر عن مقولة عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة بني المصطلق، قال عمر بن الخطاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم مر عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا!! ولكن أذن بالرحيل "
إذن المنافقون في نظر كثير من الناس أصحاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم لأن حقيقتهم لم تنكشف للناس، وحقيقتهم، (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(3) [سورة المنافقون، الآية: 4].
__________
(1) - هذا السبب يختلف عن الذي قبله فتأمل.
(2) - سورة الحج آية: 40-41.
(3) - سورة المنافقون آية: 4.
ولذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لعمر في نهاية المطاف لما تكشفت حقيقة هؤلاء عند كثير من المسلمين: " كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري "
فهذا الحديث يصور معنى هذا السبب الذي ذكرته أدقّ تصوير وبيان.
والدخول في معركة مع قوم لم تنكشف حقيقة أمرهم تماما، له آثاره السلبية على الأمة المسلمة، إذ أن بعض المسلمين سيقف في صف أولئك، كما وقف بعض الصحابة مع المنافقين.
كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة في قصة الإفك وجاء فيه:(1/168)
" فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري ( فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا بأمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج- وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك، ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
فثار الحيان، الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله، صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله، صلى الله عليه وسلم... " " الحديث (1).
وقد لا يقف بعض المسلمين مع هؤلاء، ولكن سيكون وقوفهم مع الدعاة ضعيفا ومترددا، لأنهم لم يتيقنوا أن هؤلاء على الباطل، مما يؤثر على المعركة التي يخوضها المسلمون ضد أعدائهم، وقد يؤدي إلى فرقة المسلمين وتأخر النصر.
8- ومن أسباب تأخر النصر، أن البيئة المحَارَبَة قد تكون غير صالحة بعد لاستقبال الحق والخير والعدل، مما يقتضي أمورًا تهيئها لذلك قبل الدخول معها في معركة، ومن ذلك بذل جميع الوسائل الشرعية لبيان أن هؤلاء القوم -المحاربين- على الباطل، ومحاولة إقناعهم ودعوتهم وبيان حقيقة الإسلام، وفساد ما هم عليه من باطل.
فإن هذا الأمر إن لم يكن سببًا في هدايتهم قبل المعركة فإنه وسيلة لمعرفة الحق، ومن ثم القبول به بعد المعركة، ولذا فإن الدعوة إلى الإسلام تسبق الدخول في المعركة.
9- ومن أسباب عدم الاستجابة لدين الله(2) أن عوامل النصر قد تتوافر بالنسبة للداعية، لكن هناك موانع تتعلق بالمدعوين - كالأمر السابق- ومن ذلك عدم تقدير الله هداية هؤلاء القوم، حيث كتب عليهم الضلالة، قال -سبحانه-: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)(3) [سورة الرعد، الآية: 31]. وقال: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)(4) [سورة النحل، الآية: 36]. وقال -جل وعلا-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ)(5) [سورة المائدة، الآية: 41]. إلى غير ذلك من الآيات (6).
التنازل من أجل الانتصار
مما لفت نظري في واقع كثير من الدعاة والجماعات الإسلامية المعاصرة أنها قد تستبطئ النصر، وحرصا منها على دين الله، وتأثرا بكثرة الانتقادات التي توجه لها، لماذا لم تحقق أهدافها بالرغم مما تبذله من جهود، وما مضى من زمن، فإنها من أجل ذلك كله ولغيره من الأسباب قد تقدم بعض التنازلات للحصول على بعض المكاسب للدعوة.
وقد تنوعت صور هذه التنازلات وتعددت، وهم بين مقل ومكثر.
ولأن من أبرز أسباب هذا الأمر -كما ذكرت- هو الحرص لتحقيق الانتصار لدين الله، أو للدعاة وللجماعات (7) ولارتباطه الوثيق في موضوعنا، حيث أشرت إلى ذلك في أول هذا البحث.
فإنني سأقف وقفة مناسبة مع هذه القضية وسأحاول بيانها بإيجاز، نظرا لأن هذا الأمر يستحق بحثا مستقلا مفصلا، ولا أستطيع أن أقوم بذلك من خلال هذا البحث، ولعل الله أن يقيض له من يجليه.
__________
(1) - أخرجه البخاري (4141) ومسلم (2770).
(2) - واستجابة الناس انتصار لدين الله، حتى لو لم يكن هناك معركة وقتال "إذا جاء نصر الله والفتح".
(3) - سورة الرعد آية: 31.
(4) - سورة النحل آية: 36.
(5) - سورة المائدة آية: 41.
(6) - وانظر تفسير الطبري 30/331 تفسير سورة الكافرون لتجد كلاما جيدا.
(7) - وانتصار الداعية انتصار لدين الله، كما أن انتصار الدين نصر للداعية.
وقد ذهبت أتأمل ما ورد في ذلك في كتاب الله -في ضوء منهجي في هذه الرسالة- فوقفت أمام ثلاث قضايا وردت في القرآن الكريم، عالجها القرآن، ورسم لنا من خلالها منهجا نسير عليه دون زلل أو خلل.
وسأذكر كل قضية، وأسلوب معالجتها، ثم أذكر في النهاية خلاصة ما توصلت إليه حول هذا الأمر، وأسأل الله التوفيق والسداد.
القضية الأولى: سبب نزول سورة الكافرون:(1/169)
قال الإمام الطبري: حدثني محمد بن موسى الخرشي قال: ثنا أبو خلف، قال: ثنا داود، عن عكرمة عن ابن عباس، " أن قريشا وعدوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح، قال: ما هي، قالوا: تعبد آلهتنا سنة، اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " السورة، وأنزل الله: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) إلى قوله: (فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) " (1) [سورة الزمر، الآية: 64، 65، 66].
وقال الطبري: أيضا -حدثني يعقوب، قال حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني سعيد بن ميناء مولى البختري، قال: " لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خير مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) " [سورة الكافرون، الآية: 1]. حتى انقضت السورة (2).
إننا نجد في هذه الأسباب أن قريشا طلبت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يتنازل لها، وتتنازل له حتى يلتقيا حول نقطة واحدة.
وقد يقول قائل: لو أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وافقهم على ذلك، وطلب منهم أن يبدأوا بعبادة الله أولا، فإنهم إذا عرفوا الإسلام لن يرجعوا عنه، وفي هذا تحقيق مكسب كبير للإسلام، وتحقيق انتصار، ورفع للبلاء الذي يلاقيه المسلمون.
والجواب أن الله قد حسم هذه القضية، (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(3) وفي آخرها (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(4) [سورة الكافرون، الآية:6].
فالقضية قضية مبدأ، غير قابلة للمساومة ولا لتنازل قيد أنملة، فهذه مسألة من مسائل العقيدة، بل هي العقيدة نفسها.
ودفعا لأي احتمال أو طمع في هؤلاء قال -سبحانه-: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(5) مرتين، فهو تأكيد حاسم، وخبر جازم من عند علام الغيوب، أنهم لن يعبدوا الله أبدا، لا في الحاضر، ولا في المستقبل، وكأن بعد إيمانهم كبعد استجابة الرسول، صلى الله عليه وسلم لمطلبهم، وهكذا كان، قال الإمام الطبري:
(وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(6) فيما تستقبلون أبدا "ما أعبد" أنا الآن، وفيما أستقبل، وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه، صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه، وحدثوا به أنفسهم، وإن ذلك غير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات، وآيس نبي الله، صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدا، فكانوا كذلك لم يفلحوا، ولم ينجحوا إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرا، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت به الآثار.(7)
إن التأمل في هذه القضية، وكيف حسمها القرآن، يعطي من الدورس ما نحن بأمس الحاجة إليه، بل يرسم منهجا واضحا جليا في كيفية مواجهة أساليب كثير من أعداء الإسلام حاضرا ومستقبلا.
القضية الثانية: سبب نزول قوله -تعالى-: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(8) [سورة الأنعام، الآية: 52].
__________
(1) - تفسير الطبري 3/331.
(2) - تفسير الطبري 30/331.
(3) - سورة الكافرون آية: 2.
(4) - سورة الكافرون آية: 6.
(5) - سورة الكافرون آية: 3.
(6) - سورة الكافرون آية: 3.
(7) - تفسير الطبري 3/331.
(8) - سورة الأنعام آية: 52.
قال الطبري -مسندا إلى ابن مسعود، قال: " مر الملأ من قريش بالنبي، صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد: أرضيت بهؤلاء من قومك، هؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا، أنحن نكون تبعا لهؤلاء، اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية: " وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ " " (1).
وفي رواية أخرى قال الطبري -مسند إلى مجاهد- قال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(2) بلال وابن أم عبد كانا يجالسان محمدا، صلى الله عليه وسلم فقالت قريش محقرتهما: لولاهما وأمثالهما لجالسناه، فنهي عن طردهم (3).(1/170)
وفي رواية قال الطبري: حدثني القاسم، قال: ثنا حسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ)(4) الآية.
قال: " جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحرث بن نوفل، وقرضة بن عيد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وخلفاءنا، فإنما هم عبيدنا، وعسفاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له، قال: فأتى أبو طالب النبي، صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم، فأنزل الله تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [سورة الأنعام، الآية: 51، 52].
فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر عن مقالته، فأنزل الله - تعالى-: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) " (5) [سورة الأنعام، الآية: 54].
وفي رواية أخرى للطبري عن خباب قال فيها:
فقال كفار قريش: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، ثم نزل قوله -تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(6)(7) [سورة الأنعام، الآية:52].
وقد وردت أحاديث أخرى، ولا يخلو بعضها من ضعف ولكن، يقوي بعضها بعضا فترتقي بمجموعها إلى درجة الحسن لغيره، ومعناها متقارب، وكلها تذكر سببا واحدا للنزول، ولكن في بعض هذه الروايات زيادات على بعض، ويؤكد هذه الروايات الحديث التالي:
من أصح ما ورد في هذا ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن إسرائيل، عن المقدام بن شريح، عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص، قال: " كنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي، صلى الله عليه وسلم اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله، صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل " وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ " " الآية (8)
وذكر ابن كثير في قوله -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(9) الآية، إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من الرسول، صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(10) الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء فقال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(11) الآية (12) [سورة الكهف، الآية: 28].
إن الوقوف مع سبب نزول هاتين الآيتين يضع حدا لكثير من الاجتهادات التي يقدم عليها كثير من الدعاة والجماعات، وهم -ولا شك- يقدمون عليها حرصا على دينهم، ورغبة في انتصار الدين وظهوره، وتحقيقا لبعض الأهداف التي يسعون إليها.
ولكن الغاية -مهما كانت شريفة- فإنها لا تبرر الوسيلة.
تصوروا القضية هكذا:
__________
(1) - تفسير الطبري 7/ 200.
(2) - سورة الأنعام آية: 52.
(3) - انظر تفسير الطبري 7/202.
(4) - سورة الأنعام آية: 51.
(5) - انظر تفسير الطبري7/202 وهذا الحديث مرسل.
(6) - سورة الأنعام آية: 52.
(7) - انظر تفسير الطبري 7/201 وفي سنده السدي وهو ضعيف.
(8) - أخرجه مسلم (2413)، وانظر تفسير ابن كثير 3/80.
(9) - سورة الكهف آية: 28.
(10) - سورة الأنعام آية: 52.
(11) - سورة الكهف آية: 28.
(12) - انظر تفسير ابن كثير 3/80.
لو أن جماعة من الجماعات الإسلامية، التي توجد في دول كافرة، وتسعى جاهدة للدعوة إلى دين الله، ونشر رسالة الإسلام، قالت لها تلك الدولة: نحن مستعدون للتفاوض معكم من أجل النظر في الاعتراف بكم، للدخول في الانتخابات مثلا، أو للحصول على بعض الامتيازات للدعوة، ولكن نشترط عليكم أن تبعدوا فلانا وفلانا من قيادتكم، وآخرين من جماعتكم، فإننا لا نعترف بجماعة فيها هؤلاء، والجماعة لا تنقم على هؤلاء الدعاة شيئا في أمر دينهم وعقيدتهم، ولم تكن تفكر في ذلك قبل هذا الطلب، ولكن الدولة لا تريدهم احتقارا لهم.(1/171)
فيا ترى هل تصمد تلك الجماعة، وترفض الموضوع جملة وتفصيلا وتقول: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(1) [سورة البروج، الآية: 8]. أو تبدأ مناقشة ما يسمى بالمصلحة؟ وماذا يضير لو أبعد هؤلاء من أجل مصلحة الدعوة، وتحقيقا للمكتسبات المتوقعة، إلى غير ذلك من التبريرات؟ أظن. - بحكم معرفتي بواقع بعض الجماعات -أنها ستستجيب لهذه المساومات، وقد استجابت لأقل من ذلك.
بينما حسم القرآن هذه القضية منذ العهد المكي، ورسم لنا منهجا لا لبس فيه ولا غموض (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)(2) [سورة الأنعام، الآية: 52].
إنه أمر مخيف جدا، رسول الله، صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وإمام المرسلين، لو فعل هذا، وهو لن يفعله إلا من أجل مصلحة الدعوة، ورسالة الإسلام، لو فعله -وحاشاه من ذلك- سيكون من الظالمين.
ويبين لنا المنهج الذي نسلكه في مثل هذه الطلبات والمساومات، عندما تبدو لنا قضية المصلحة: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(3) [سورة الكهف، الآية: 29]. الآية.
هذا واجبنا، وتلك مسئوليتنا، أن نقول الحق، أما هل يؤمن الناس أو يكفروا فليس لنا (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)(4) إن القضية عندما تتعلق بالمبادئ فلا مجال للمفاوضة ولا للتنازل، والمسألة محسومة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(5) [سورة الكافرون، الآية: 6].
القضية الثالثة: ما ورد في سورة الفتح: قال ابن كثير: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، فيقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك: على تكره من جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب (
وقد وردت قصة الصلح في روايات عديدة، منها في الصحيحين وغيرهما. وهي قصة طويلة سأقتصرعلى جزء يسير منها مما له صلة بموضوعنا، وهو مما ثبت في الصحيح.
1- جاء في صحيح البخاري: " فدعا النبي، صلى الله عليه وسلم الكاتب (6) فقال النبي، صلى الله عليه وسلم اكتب: ( فقال سهيل (7) أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا ( فقال النبي، صلى الله عليه وسلم اكتب: باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله " (8).
2- ومما جاء في الصلح: " وإنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فتدخلها بأصحابك " (9).
3- وجاء -أيضا-: " على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليه، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه " (10).
هذا بعض ما ورد في الصلح، ولذلك فإن عمر لما بلغه عزم الرسول، صلى الله عليه وسلم على عقد الصلح ولم يبق إلا الكتاب غضب غضبا شديدا وذهب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، أولسنا بالمسلمين، أوليسوا بالمشركين؟ " قال صلى الله عليه وسلم بلى، قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ فقال، صلى الله عليه وسلم أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني " (11)
__________
(1) - سورة البروج آية: 8.
(2) - سورة الأنعام آية: 52.
(3) - سورة الكهف آية: 29.
(4) - سورة الرعد آية: 31.
(5) - سورة الكافرون آية: 6.
(6) - وهو علي بن أبي طالب.
(7) - سهيل بن عمرو رئيس المفاوضين من قريش.
(8) - أخرجه البخاري (2731، 2732).
(9) - مسند الإمام أحمد 4/330 وانظر تفسير ابن كثير 4/196.
(10) - مسند الإمام أحمد 4/330 وانظر تفسير ابن كثير 4/196.
(11) - انظر المصدر السابق وتفسير ابن كثير 4/196.
إن هذا الصلح الذي اعتبره عمر ( دنية في دينه، ومع ما قد يبدو لأول وهلة من صعوبة القبول في بعض الشروط التي كتبت، وبخاصة في نظر المتحمس، هذا الصلح بشروطه سماه الله فتحا مبينا، قال ابن مسعود: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.(1/172)
وقال جابر: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء ( قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، وفي مسند أحمد: فقال النبي، صلى الله عليه وسلم " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) " [سورة الفتح، الآية: 1].
وفي رواية أخرى لأحمد عن أنس ( قال: نزلت على النبي، صلى الله عليه وسلم (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)(1) [سورة الفتح، الآية: 2]. مرجعه من الحديبية، قال النبي، صلى الله عليه وسلم " لقد نزلت على الليلة آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها، صلى الله عليه وسلم " (2).
إننا نجد في هذه القضية أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وافقهم على عدة أمور أهمها:
1- أن يكتب باسمك اللهم، بدلا من بسم الله الرحمن الرحيم.
2- أن يكتب: محمد بن عبد الله، بدلا من: محمد رسول الله.
3- أن يؤخر دخول مكة إلى العام القادم.
4- أن يرد من جاء من المشركين مسلما دون إذن وليه، مع أنهم لن يردوا من جاء إليهم مشركا. بل إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال للصحابة عندما احتج بعضهم على هذه الشروط: " لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " رواه البخاري (3).
ولو دققنا النظر في هذه الأمور التي أجابهم إليها رسول الله، لوجدنا أنها لا تتعلق بالعقيدة ولا بالمبدأ، وفرق كبير بينها وبين ما سبق في سورة (الكافرون). وسورة (الأنعام)، وليس فيها اعتراف بالباطل أو إقرار له.
كيف وقد سمى الله هذا الصلح: (فَتْحاً مُبِيناً)(4) ولنقف مع هذه المطالب الأربعة، وقفة يسيرة موجزة، تبين ذلك.
فكتابة "باسمك اللهم" ليس فيها محذور شرعي، فلو أن مسلما قال: باسمك اللهم، وهو لا يعتقد تأويل أو نفي اسم الرحمن الرحيم ولا صفته، فإنه لا يأثم.
وأما: كتابة محمد بن عبد الله، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله، وقد نفى، صلى الله عليه وسلم أي احتمال قد يتطرق إلى الأذهان، فقال لهم: " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني " فإذا انتفى اللبس جاز الأمر.
وأما رجوعهم هذا العام إلى العام المقبل، فهذه قضية مصلحية تقدر بقدرها، بل إن فيها عدم استجابة للعواطف الجياشة إذا كان سيترتب على هذه الاستجابة مفسدة.
وكم من التصرفات يقوم بها بعض الناس استجابة لعاطفة غير منضبطة تسبب مفاسد عظيمة، قد لا تقدر المفسدة أثناء العاطفة.
وقضية إعادة من جاء مسلما إلى المشركين. قد تبدو مجحفة، وهذه هي النظرة العجلى، أما النظرة المتأنية والبعيدة، والتي تتجاوز مصلحة الأفراد إلى مصلحة الأمة، بل هي في مصلحة الأفراد أنفسهم، فلا يلزم أن يقبلهم المسلمون فأرض الله واسعة، يدل على ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم لأبي جندل: " يا أبا جندل: اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا " الحديث. (5).
وقوله لأبي بصير لما جاءه في المدينة: " ويل أمة مسعر حرب لو كان معه أحد " (6).
وهكذا كان فقد كان ردهما بداية فتح عظيم للمسلمين.
وبعد:
هذه هي القضايا التي ذكرت أنني سأبين منهج القرآن فيها، وقد فعلت، وهنا آتي لخلاصة الموضوع ونتيجته، فأقول:
إن مفهوم التنازل قد اختلط على كثير من الدعاة والجماعات، وكل منهم يتمسك بدليل يناسبه، دون نظرة شمولية، فنحن بين إفراط وتفريط، والموضوع يحتاج -كما ذكرت سابقا- إلى دراسة شاملة مؤصلة، تجمع فيها الأدلة، وتعرض الوقائع والأحوال، مما يساعد على حسم الموضوع وبيانه.
ومن خلال ما سبق فقد اتضح لي ما يلي:
أولا: لا يجوز التنازل عن أمر يتعلق بأصل من أصول الإسلام، أو مبدأ من مبادئه، أو حكم من أحكامه التي حسمها الكتاب والسنة، أو أجمع عليها المسلمون.
ثانيا: أما مسائل الاجتهاد، ووسائل الدعوة ومراحلها، والسياسات الشرعية، فتراعى فيها القواعد، الشرعية الكلية العامة، كقاعدة، درء المفاسد وجلب المصالح، وقاعدة سد الذرائع، وقواعد وأصول: المصالح المرسلة والاستحسان، وغيرها من القواعد المعروفة.
وذلك لا يكون إلا من العلماء المتبحرين، الذين يسوغ لهم الاجتهاد.
__________
(1) - سورة الفتح آية: 2.
(2) - انظر مسند الإمام أحمد. وتفسير ابن كثير 4/182.
(3) - أخرجه البخاري (2731، 2732).
(4) - سورة الفتح آية: 1.
(5) - رواه أحمد 4/325 انظر تفسير ابن كثير 4/197.
(6) - رواه أبو داود (2765)، وانظر تفسير ابن كثير 4/199.
وأخيرا أقول: إن حرصنا على نصر دين الله، وشدة محبتنا لظهوره على الدين كله يجب ألا تكون مخرجة لنا عن الالتزام بالمنهج الشرعي، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.
صور النصر العاجل والآجل في القرآن(1/173)
جاء النصر في القرآن على عدة صور، أشرت إليها سابقا، ولكن أحببت أن أذكرها مجتمعة باختصار؛ لتكون واضحة أمام الدعاة، ولئلا يتعجلوا وعد الله، فكل شيء عنده بمقدار، فلا يعجله حرص حريص، ولا يردّه كره كاره، وهو العليم الحكيم.
1 -من الأنبياء من أذاه قومه، فنصره الله عليهم، فأهلكهم وأقام الدين في حياته، كموسى ومحمد، عليهما أفضل الصلاة والسلام.
2- ومنهم من ولاه الله الملك - وهذا نصر عظيم- كداود وسليمان، عليهما السلام.
3- ومنهم من أذاه قومه ولم يؤمنوا به، سوى قليل منهم فنجاه الله ومن معه، وأهلك عدوه، ثم لم يبين لنا القرآن ماذا حدث للنبي بعد ذلك، أي: هل آمن به قوم آخرون، أو بقي على من آمن معه ومن آمن من ذرياتهم، كنوح وهود وصالح ولوط.
4-ومنهم من قتله قومه، أو حاولوا قتله، فانتقم الله له بعد حين، كيحيى وعيسى، ومن أرسل لأصحاب القرية (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)(1) [سورة يس، الآية: 29].
5- ومنهم من يئس من قومه فتركهم، فعاقبه الله، ثم عفا عنه، ولما عاد إليهم، نصره الله نصرا مؤزرا، وظهر الدين وهو يونس (2).
6- ومن الدعاة من قتله قومه فآمن به بعض قومه فقتلوا وحرّقوا، ولكن لا نعلم ماذا حل بهؤلاء القتلة، سوى أن الله دعاهم للتوبة، وتوعدهم إن لم يتوبوا بعذاب جهنم وعذاب الحريق في الآخرة.
وهؤلاء هم أصحاب الأخدود (3)
ولا يعنى هذا أنهم لم ينصروا في الدنيا، فقد بينت أوجه النصر عند ذكر قصتهم.
إن استحضار هذه الصور في ذهن الداعية عامل مساعد في تخطي الصعاب، وتجاوز العقبات الحسية والمعنوية، وتزيد من إيمان الداعية بربه في تحقق موعوده، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(4) [سورة يوسف، الآية: 21].
وقفة مع قصة يونس عليه السلام.
قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(5) [سورة القلم، الآية: 48]. لقد وردت قصة يونس، عليه السلام، في القرآن في عدة مواضع، منها في سورة الأنبياء:
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(6) [سورة الأنبياء، الآية: 87].
وأطول قصة له وردت في الصافات (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(7) [سورة الصافات، الآيات: 139-148]. ووردت في سورة القلم: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)(8) [سورة القلم، الآيات: 48 - 50]. قد وردت قصة يونس بروايات متعددة، واختلف المفسرون حول سبب تركه لقومه، ومعنى قوله -تعالى-: (إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً)(9) على قولين:
1- قيل ذهب مغاضبا لربه.
2- قيل ذهب مغاضبا لقومه.
وقد روى الطبري عن ابن عباس والضحاك أنه ذهب مغاضبا لقومه.
وروى عن الشعبي، وسعيد بن أبي الحسن، وسعيد بن جبير أنه ذهب مغاضبا لربه.
وقد رجّح الإمام الطبري بعد ذكر عدة روايات، أنه ذهب مغاضبا لربه، فقال:
وهذا القول -أعني قول من قال إنه ذهب مغاضبا لربه- أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)(10) على ذلك، على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبي من الأنبياء ربه، واستعظاما له، وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا. (11)
__________
(1) - سورة يس آية: 29.
(2) - هناك خلاف حول سبب تركه لقومه سيأتي بيانه بعد صفحات.
(3) - انظر كتاب معالم في الطريق ص180، وفي ظلال القرآن تفسير سورة البروج 6/3873.
(4) - سورة يوسف آية: 21.
(5) - سورة القلم آية: 48.
(6) - سورة الأنبياء آية: 87.
(7) - سورة الصافات آية: 139.
(8) - سورة القلم آية: 48-50.
(9) - سورة الأنبياء آية: 87.
(10) - سورة الأنبياء آية: 87.
(11) - انظر تفصيل ذلك في تفسير الطبري 17/76.(1/174)
والذي يعنينا -هنا- أن يونس، عليه السلام، سواء كان قد ذهب مغاضبا لربه أو لقومه، فإنه قد استعجل الأمر، ولم يصبر كما قال -تعالى- لمحمد، صلى الله عليه وسلم (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(1) فإنه لم يصبر، وسواء كان، عليه السلام، استعجل إيمانهم أو استعجل العذاب لهم (2) لأنهم قد كذبوه، والإيمان انتصار، وتعذيب المكذبين انتصار للداعية، فإنه قد استعجل الانتصار، عليه السلام، ولذلك عاقبه الله، بأن ابتلعه الحوت، وهو مليم، أي: مذنب.
ولكن الله عفا عنه وكفر له بعد أن نادى في الظلمات واعترف بذنبه، عليه السلام، بل اجتباه ربه فجعله من الصالحين.
فلما رجع إلى قومه بأمر من الله، آمنوا كلهم، (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(3) [سورة الصافات، الآيتان: 147، 148]. وهذا من أعظم الانتصار.
قال الإمام الطبري في تفسير قوله -تعالى-: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(4) [سورة القلم، الآية: 48]. يقول -تعالى- ذكره لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم فاصبر يا محمد لقضاء ربك وحكمه فيك، وفي هؤلاء المشركين، بما أتيتهم به من القرآن وهذا الدين، وامض لما أمرك به ربك، ولا يثنينك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه تكذيبهم إياك وأذاهم لك.
(وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(5) قال قتادة: لا تعجل كما عجل، ولا تغضب كما غضب، "وهو مذموم" أي: مذنب أو مليم.
قال الطبري: أي لا تكن كصاحب الحوت فيعاقبك ربك على تركك تبليغ ذلك، كما حبس يونس في بطن الحوت (6).
إنه أمر عظيم حري بالدعاة أن يفقهوه.
وقفات مهمة
أولا: إذا فهم الداعية حقيقة الانتصار، فإن هذا لا يعني أن يتساهل الداعية في أمر الدعوة، وفي السعي الحثيث لإزالة المنكرات، والجد في محاولة هداية الناس، وذلك أن الشيطان قد يوسوس له فيقول:
أنت مهمتك البلاغ، أما النتائج فليست لك -وهذا حق- فإذن لماذا تحزن أو تتعب نفسك فيما ليس لك. ثم يوسوس له أن هؤلاء الناس لا خير فيهم، ويكفي أنك بيّنت مرة أو مرتين، أو ثلاثا، فإذا لم يستجيبوا فإنك معذور، ولا داعي للاستمرار والإصرار، لأن جهودك ضائعة، ولو استفدت من وقتك في غير هذا الأمر لكان أحسن.
ثم يبدأ الداعية يتراخى شيئا فشيئا، حتى يترك الدعوة وينعزل عن الناس وشأنهم وليس هذا هو المراد، ولكن إدراك حقيقة الانتصار يزيد من حماس الداعية -مع الانضباط- سعيا وراء تحقيق هذا المطلب الذي عز مناله، سواء أكان انتصارا ظاهرا لدين الله، أو كان انتصارا للداعية نفسه -كما سبق تفصيله-.
وعلى الداعية أن يحزن ويفرح، ولكن لا بد أن يكون حزنه وفرحه إيجابيا فعالا.
فحزنه يزيد من حرصه وإصراره على إنقاذ أمته، وهداية قومه، وتعبيد الناس لله جل وعلا.
وفرحه يقوي عزيمته ويشد من أزره للمضي قدما في تحقيق أهدافه متلذذا بنشوة الانتصار وحب الخير للناس.
ثانيا: كل داعية يجب أن يرسم لنفسه منهجا يسير عليه ويحدد أهدافا يسعى لتحقيقها، يستمد ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مراعيا حاجة المجتمع الذي يعيش فيه، والواقع الذي يعاصره ولكن بعض الدعاة عندما يسير زمنا في دعوته، ثم يرى ما تحقق على يديه، فيلحظ أنه لم تتحقق الأهداف التي رسمها، ولكن تحقق جزء منها، يشعر أنه فشل في مهمته، وخسر في دعوته، فييئس ثم يتوقف.
وهذا أمر خطير، فإذا كان بعض الأنبياء لم يتحقق على أيديهم هداية رجل واحد، ومع ذلك لم يشكوا في دعوتهم أو يتوقفوا في طريقهم، فكيف برجل ليس نبيا، ومع ذلك حقق بعض ما يدعو إليه؟! ولذلك فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي: " فوالله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " (7). يدل علي أن هداية رجل واحد انتصار عظيم للداعية، فكيف يكون الداعية مثاليا، إما كل شيء، أو لا شيء؟!
ولذلك فإن كلمة سيد -رحمه الله- "خذوا الإسلام جملة أو دعوه". تحتاج إلى تفصيل، ولا تؤخذ على إطلاقها، فبعض وجوه معانيها حق، وهناك وجوه أخرى فسرت بها هذه الكلمة، يستشهد بها بعض الدعاة، مما يخالف المنهج الصحيح.
__________
(1) - سورة القلم آية: 48.
(2) - انظر تفسير الطبري 17/76 وما بعدها.
(3) - سورة الصافات آية: 147-148.
(4) - سورة القلم آية: 48.
(5) - سورة القلم آية: 48.
(6) - انظر تفسير الطبري 29/44.
(7) - أخرجه البخاري (2942) مسلم، (2406).(1/175)
ثالثا: من أهم أنواع الانتصار هو الانتصار على النفس بل لا يمكن أن يتحقق له أي نوع من أنواع النصر إلا إذا انتصر على نفسه وشهواتها (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 165]. (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(2) [سورة النازعات، الآيتان: 40، 41]. (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(3) [سورة النساء، الآية:79]. (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(4) [سورة المائدة، الآية: 30]. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(5) [سورة الرعد، الآية: 11]. إلى غير ذلك من الآيات.
ومن هنا فإذا تأخر النصر فلنبدأ في بحثنا عن سبب ذلك من أنفسنا، فمِن مأمنه يؤتى الحذر.
الخاتمة
وبعد أن عشنا (6) مع هذا الموضوع وعايشناه، نصل إلى خاتمة المطاف فأقول:
مما سبق اتضح لنا أن حقيقة انتصار الداعية تتمثل فيما يلي:
1- التجرد لله والإخلاص له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(7) [سورة الأنعام، الآيتان: 162، 163]. وقال سبحاله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(8) [سورة البينة، الآية: 5]. والعمل الذي لا يصاحبه الإخلاص حري بالرد وعدم القبول.
2- سلامة المنهج، وهو أن يكون وفق ما كان عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وهو منهج الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله، قال -سبحانه-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(9) وقال صلى الله عليه وسلم " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " وقال: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي " (10).
3- الالتزام التام بما يدعو إليه والثبات على الطريق حتى يلقى الله، قال -سبحانه-: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(11) [سورة الزخرف، الآية: 43]. وقال: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(12) [سورة لقمان، الآية: 22]. وقال: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)(13) [سورة البقرة، الآيتان: 44، 45]. فالثبات على الطريق، من أقوى عوامل النصر وعلاماته.
بل إن صاحب الباطل إذا ثبت على باطله فغالبا ما ينتصر (14) فكيف بمن هو على الحق المبين؟.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 165.
(2) - سورة النازعات آية: 40-41.
(3) - سورة النساء آية: 79.
(4) - سورة المائدة آية: 30.
(5) - سورة الرعد آية: 11.
(6) - أنا والقراء.
(7) - سورة الأنعام آية: 162-163.
(8) - سورة البينة آية: 5.
(9) - سورة الأنعام آية: 153.
(10) - رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني في صحيح الجامع رقمه 2937.
(11) - سورة الزخرف آية: 43.
(12) - سورة لقمان آية: 22.
(13) - سورة البقرة آية: 44-45.
(14) - أي يحقق أهدافه في الدنيا.
4- الصدع بالحق، وعدم المداهنة أو الخوف من غير الله قال-تعالى-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ)(1) [سورة الحجر، الآيتان: 94، 95]. وقال: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(2) [سورة الكهف، الآية: 29]. وقال -سبحانه- (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(3) [سورة المائدة، الآية: 67]. وقال: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)(4) [سورة آل عمران، الآية:187]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)(5) [سورة المائدة، الآية: 8]. إلى غير ذلك من الآيات التي توجب الصدع بالحق والدعوة إليه.(1/176)
5- الصبر وعدم اليأس والإيقان الجازم بوعد الله ونصره لعباده (6) قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(7) [سورة الصافات، الآيات: 171، 172، 173]. وقال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(8) [سورة غافر، الآية: 51]. وقال: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)(9) [سورة يونس، الآية: 110]. وقال: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(10) [سورة يوسف، الآية: 87]. وقال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)(11) [سورة الأحقاف، الآية: 35]. وقال: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(12) [سورة القلم، الآية: 48]. وقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)(13).
(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(14) [سورة الروم، الآية: 60]. وقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)(15) [سورة السجدة، الآية: 24]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(16) [سورة آل عمران، الآية: 200].
فإذا تحققت هذه المقومات، جاء النصر، فوعد الله لا يتخلف أبدا، بل إن تحقق هذه الأركان في فرد أو جماعة نصر عظيم، وما يأتي بعد ذلك من نصر هو أثر من آثار هذا الانتصار.
__________
(1) - سورة الحجر آية: 94-95.
(2) - سورة الكهف آية: 29.
(3) - سورة المائدة آية: 67.
(4) - سورة آل عمران آية: 187.
(5) - سورة المائدة آية: 8.
(6) - ذكر الطبري وابن كثير أن ابن جريج قال إن موسى عليه السلام -لما دعا على فرعون بقوله: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). قال الله تعالى: (قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون). [سورة يونس، الآية: 89.] قال ابن جريج: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، قبل أن يهلكه الله بالغرق. انظر تفسير الطبري 11/161 وتفسير ابن كثير 2/429.
(7) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(8) - سورة غافر آية: 51.
(9) - سورة يوسف آية: 110.
(10) - سورة يوسف آية: 87.
(11) - سورة الأحقاف آية: 35.
(12) - سورة القلم آية: 48.
(13) - سورة الروم آية: 60.
(14) - سورة الروم آية: 60.
(15) - سورة السجدة آية: 24.
(16) - سورة آل عمران آية: 200.
وختاما: نقول: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(1) [سورة البقرة، الآية: 250]. (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(2) [سورة آل عمران، الآية: 8]. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 147]. (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(4) [سورة البقرة، الآية: 286].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 250.
(2) - سورة آل عمران آية: 8.
(3) - سورة آل عمران آية: 147.
(4) - سورة البقرة آية: 286.
=====================
حسد وحقد أهل الكتاب على الإسلام والمسلمين
قال تعالى :{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (59) سورة المائدة
إن أهل الكتاب لم يكونوا ينقمون على المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي - إلا أن هؤلاء المسلمين يؤمنون بالله ; وما أنزله الله إليهم من قرآن ; وما صدق عليه قرآنهم مما أنزله الله من قبل من كتب أهل الكتاب . .
إنهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون !(1/177)
لأنهم ليسوا يهودا ولا نصارى . ولأن أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله الله إليهم ; وآية فسقهم وانحرافهم أنهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدقة لما بين أيديهم - لا ما ابتدعوه وحرفوه - ولا يؤمنون بالرسول الأخير , وهو مصدق لما بين يديه ; معظم لرسل الله أجمعين .
إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء ; التي لم تضع أوزارها قط , ولم يخب أوارها طوال ألف وأربعمائة عام ; منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة ; وتميزت لهم شخصية ; وأصبح لهم وجود مستقل ; ناشى ء من دينهم المستقل , وتصورهم المستقل , ونظامهم المستقل , في ظل منهج الله الفريد .
إنهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنهم - قبل كل شيء - مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم ; فيصبحوا غير مسلمين . .
ذلك أن أهل الكتاب أكثرهم فاسقون ; ومن ثم لا يحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين !
والله - سبحانه - يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة , وهو يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم في السورة الأخرى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) . . ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم:
(قل:يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ; وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ?) . .
وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين , هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهل الكتاب , وكثيرون ممن يسمون أنفسهم "مسلمين" . . باسم تعاون "المتدينين" في وجه المادية والإلحاد كما يقولون !
أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها , لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح - وتخدير الوعي الذي كان قد بثه فيهم الإسلام بمنهجه الرباني القويم . ذلك أنه حين كان هذا الوعي سليما لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي , فضلا على أن يستعمر الوطن الإسلامي . .
ولم يكن بد لهؤلاء - بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة , وفي حرب التبشير السافرة كذلك - أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير , فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين , أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت ! وأنها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعا ! ثم تنور العالم و"تقدم" فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة . .
وأنما الصراع اليوم على المادة !
على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب ! وإذن فما يجوز للمسلمين - أو ورثة المسلمين - أن يفكروا في الدين ولا في صراع الدين !
وحين يطمئن أهل الكتاب - وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين - إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير ;وحين تتميع القضية في ضمائرهم ; فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله ; وللعقيدة . . الغضبة التي لم يقفوا لها يوما . . ويصبح الأمر سهلا بعد التنويم والتخدير . . ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها . بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلاب والمغانم والاستثمارات والخامات ; ويغلبون في معركة "المادة " بعدما يغلبون في معركة "العقيدة " . . فهما قريب من قريب . .
وعملاء أهل الكتاب في الوطن الإسلامي , ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أو في خفية , يقولون القول نفسه . .
لأنهم عملاء يؤدون الدور من داخل الحدود . . وهؤلاء يقولون عن "الحروب الصليبية " ذاتها:إنها لم تكن "صليبية " !!! ويقولون عن "المسلمين" الذين خاضوها تحت راية العقيدة:إنهم لم يكونوا "مسلمين" وإنما هم كانوا "قوميين" !
وفريق ثالث مستغفل مخدوع ; يناديه أحفاد "الصليبين" في الغرب المستعمر:أن تعالوا إلينا . تعالوا نجتمع في ولاء ; لندفع عن "الدين" غائلة "الملحدين" ! فيستجيب هذا الفريق المستغفل المخدوع ; ناسيا أن أحفاد الصلييبين هؤلاء وقفوا في كل مرة مع الملحدين ; صفا واحدا , حينما كانت المواجهة للمسلمين ! على مدار القرون ! وما يزالون !
وأنهم لا يعنيهم حرب المادية الالحادية قدر ما تعنيهم حرب الإسلام , ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإلحادية المادية عرض طارى ء وعدو موقوت ; وأن الإسلام أصل ثابت وعدو مقيم ! وإنما هذه الدعوة المموهة لتمييع اليقظة البادئة عند طلائع البعث الإسلامي ; وللانتفاع بجهد المستغفلين المخدوعين - في الوقت ذاته - ليكونوا وقود المعركة مع الملحدين لأنهم أعداء الاستعمار السياسيون !
وهؤلاء كهؤلاء حرب على الإسلام والمسلمين . .
حرب لا عدة فيها للمسلم إلا ذلك الوعي الذي يربيه عليه المنهج الرباني القويم . .(1/178)
إن هؤلاء الذين تخدعهم اللعبة أو يتظاهرون بالتصديق , فيحسبون أهل الكتاب جادين إذ يدعونهم للتضامن والولاء في دفع الإلحاد عن "الدين" إنما ينسون واقع التاريخ في أربعة عشر قرنا - لا استثناء فيها - كما ينسون تعليم ربهم لهم في هذا الأمر بالذات , وهو تعليم لا مواربة فيه , ولا مجال للحيدة عنه , وفي النفس ثقة بالله ويقين بجدية ما يقول !
إن هؤلاء يجتزئون فيما يقولون ويكتبون بالآيات القرآنية , والأحاديث النبوية , التي تأمر المسلمين أن يحسنوا معاملة أهل الكتاب ; وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك . ويغفلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم ; والتقريرات الواعية عن بواعثهم , والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة الإسلامية , وخطة التنظيم , التي تحرم التناصر والموالاة , لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية , وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه - مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها - إذ هم لا ينقمون منه إلا هذا الدين , ولا يرضون عنه إلا بترك هذا الدين . . كما يقول رب العالمين . .
إن هؤلاء ممن يجعلون القرآن عضين ; يجزئونه ويمزقونه , فيأخذون منه ما يشاءون - مما يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها - ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أو المريب !
ونحن نؤثر أن نسمع كلام الله , في هذه القضية , على أن نسمع كلام المخدوعين أو الخادعين ! وكلام الله - سبحانه - في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين . .
ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى - بعد تقرير أن سبب النقمة هو الإيمان بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل - أن بقية السبب:
(وأن أكثركم فاسقون)
فهذا الفسق هو شطر الباعث ! فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم . . وهي قاعدة نفسية واقعية ; تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة . .
إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم . . إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه . إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه . . ومن ثم يكرهه وينقم عليه . يكره استقامته وينقم منه التزامه ; ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه ; أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده !
إنها قاعدة مطردة , تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة , إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة . إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة ملتزمة مستقيمة . . والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار , وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين , وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين . .
هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب . .
ولقد علم الله - سبحانه - أن الخير لا بد أن يلقى النقمة من الشر , وأن الحق لا بد أن يواجه العداء من الباطل , وأن الاستقامة لا بد أن تثير غيظ الفساق , وأن الالتزام لا بد أن يجر حقد المنحرفين .
وعلم الله - سبحانه - أن لا بد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف . وأنها معركة لا خيار فيها , ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل . لأن الباطل سيهاجمه , ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه . .
وغفلة - أي غفلة - أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف ; وأنهم يملكون تجنب المعركة ; وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة ! وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة ; من أن يستسلموا للوهم والخديعة . . وهم يومئذ مأكولون مأكولون !
================
وكذلك المنافقون يعتبرون من أخطر أعداء الإسلام داخليا
قال تعالى :{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) [النساء/88، 89]}(1/179)
وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) [الممتحنة/1-4]}
=================
وغير ذلك كثير وقد رد الرسل على هذه الشبهات ، ورد أتباع الرسل كذلك عليها عبر التاريخ كله
----------------
واليوم بعدما سقطت الخلافة الإسلامية ، واستولى أعداء الإسلام على بلاد المسلمين ، وفرقوها أيدي سبأ كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم
فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ». أخرجه أبو داود بسند صحيح
-----------------
وبعد ذلك غير وا مناهج التعليم ، ووضعوا مناهج تخدم أغراضهم ، وربَّوا جيلا يؤمن بهذه الأغراض ليكون مؤتمنا على فرضها وإبقائها في بلاد المسلمين
------------------
وغزوا بلاد المسلمين من خلال الجمعيات التبشيرية وغيرها والتي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب لتقوم بالدور المرسوم لها على أتم وجه
------------------
وكان من خططهم تشكيك المسلمين بدينهم ، وبقيمهم ، وبرسولهم ، وبسلفهم الصالح ، وبتاريخهم ، وبحضارتهم ، وبوجودهم .....
------------------
وحاولوا حصر الدين في المسجد ليس إلا كما هو الحال في أوروبا وأمريكا ، يعني حاولوا إقصاء الدين عن الحياة ، وهذا بيت القصيد
------------------
وصار التشكيك بالدين وبمعالمه أمرا مألوفا في بلاد المسلمين نتيجة هذا الغزو الفكري
-----------------
وقد انقسم المسلمون إزاء هذه الحملة المسعورة على الإسلام والمسلمين إلى أقسام :
*قسم صدقوا هذه الترهات وصاروا يرددوها ترديد الببغاوات ، وذلك من أجل لعاعة يمنُّ بها عليهم أعداء الإسلام
بل غدا هؤلاء من أكبر المروجين لهذه الشبهات ، تحت ستار العلمانية ، والعقلانية ، والشيوعية ، والوجودية ، والحداثية ، والعصرانية والإنسانية ، والديمقطراية وغيرها
وبنظر هؤلاء فإن الإسلام لا يصلح لعصرنا هذا لأن الزمان قد تجاوزه على حد زعمهم
*وقسم لاذوا بالروحيات كالمتصوفة ومن لفَّ لفَّهم ، فلا علاقة لهم بما يجري ، وبما يمكر بهذه الأمة ، فلاذوا بأذكارهم وأورادهم ، بعيدين عما يجري من شر مستطير بهذه الأمة
*وقسم تمسكوا بهذا الدين دون التمييز بين ما صح فيه وبين ما نسب إليه من خرافات وأوهام
*والقسم الرابع بقيت طائفة من المسلمين متمسكة بهذا الحق المبين متمثلة قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :{ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) [الزخرف/43] }
واعتصم هؤلاء بالله استنادا لقوله تعالى :{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) [آل عمران/101، 102] }(1/180)
فعكفت على فهم هذا الدين فهمما صحيحا من مصادره الصحيحة وفق فهم منهج السلف الصالح ، ثم قاموا بالرد على جميع شبهات أعداء الإسلام في الداخل والخارج ، وهم الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله
فعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ » رواه البخاري
وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - قَالَ - فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ لاَ. إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ. تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ ».رواه مسلم
وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ».رواه مسلم
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ هَانِئٍ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ » رواه مسلم
------------------
ومن أهم العلماء الذين قاموا بالرد على شبهات أعداء الإسلام :
شكيب أرسلان رحمه الله
الشيخ عبد الرحمن حسن الحبنكة رحمه الله
أنور الجندي رحمه الله
الشهيد سيد قطب رحمه الله
العلامة محمد قطب
محمد محمد حسين رحمه الله
محب الدين الخطيب رحمه الله
أبو الأعلى المودودي رحمه الله
الشهيد عبد القادر عودة رحمه الله
أحمد الديدات رحمه الله
الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله
الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
الشيخ صالح بن عثيمين رحمه الله
الشيخ حامد الفقي رحمه الله
الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق
الشيخ عثمان خميس
وغيرهم كثير بفضل الله تعالى
-----------------
والآن فإن مواقع النت مملوءة بمواقع أعداء الإسلام وخاصة نصارى العرب ومواقع العلمانيين والملحدين والمستغربين والرافضة
الذين ينثرون الشبهات لكي يوقعوا المسلمين في شركها ، وخاصة الذين ليس عندهم اضطلاع دقيق على منهج أهل السنة والجماعة
-----------------
وقد جمعت هذه الموسوعة من مواقع كثيرة ، فلم أترك موقعا يتعرض لهذا الموضوع إلا وقد نظرت فيه وأفدت منه .
وخاصة موقع سبيل الإسلام http://www.sbeelalislam.com/
وصيد الفوائد وموقع الأزهر ، وموقع فيصل نور ، وغيرها كثير
فجاءت هذه الموسوعة بفضل الله تعالى جامعة لجل شبهات أعداء الإسلام المعاصرة في الداخل والخارج ، مع الرد الكافي عليها ، وتفنيدها ، وبيان خطلها وعورها
وقد قسمتها لمقدمة و سبعة أبواب رئيسة :
الباب الأول - شبهات حول الإسلام
الباب الثاني -شبهات حول القرآن الكريم
الباب الثالث - شبهات حول الأنبياء
الباب الرابع - شبهات حول الرسول صلى الله عليه وسلم
الباب الخامس- شبهات حول السنة النبوية
الباب السادس- شبهات حول الصحابة
الباب السابع- شبهات حول المرأة المسلمة
وقد بلغ اثني عشر جزء كبيرا
-----------------
وأنت أخي المسلم على ثغر من تغور الإسلام فالحذر الحذر أن يؤتى الإسلام من قبلك
فتسلح بالإيمان الراسخ والعمل الصالح والعلم النافع والعقل النير حتى تستطيع أن تؤدي هذه الرسالة المنوطة بك على أتمِّ وجهٍ ، واحذر أن تفرط بها ، قال تعالى :{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) [الأحزاب/72، 73] }
----------------
ومهما مكر هؤلاء الأعداء فإن الحقَّ لا بد منصور عليهم جميعاً ، لأنه من عند الله تعالى
قال تعالى :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) [النحل/24-26] }(1/181)
قال تعالى : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) [الرعد/17]}
هذا وأسأل الله تعالى أن ينفع به جامعه وقارئه وناشره والدال عليه ، وأن يكون حجة لنا لا حجة علينا
وكتبه الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 14رمضان 1427 هـ الموافق ليوم الجمعة 6/10/2006 م
***************
الفهرس العام :
مقدمة هامة ... 1
الأعداء يحاربوننا على كل الأصعدة ... 3
الصراع بين الحق والباطل في ظلال القرآن ... 4
تعقيب على قصة نوح عليه السلام مع قومه ... 14
الصراع بين الحق والباطل ... 35
حقيقة الصراع بين الحق والباطل..ودور الجاهلية فى ذلك ... 49
السنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل من خلال دعوة الرسل لأقوامهم ... 57
موكب الأنبياء والرسل .. وقضية الصراع بين الحق والباطل ... 65
سنة التدافع والمدافعة ... 71
عناصر المؤامرة على الإسلام ... 77
قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر ... 104
المحنة في حياة الدعوة والداعية ... 108
صِرَاعُ الحَضَارات مَفهُومُهُ، وحَقِيقَتُهُ، وواقِعُه ... 121
صراع الأفكار ... 168
توحيد الكلمة على كلمة التوحيد ... 172
" نهاية الصراع ... انتصار الحق على الباطل" ... 192
ومن أساليب الكفار تكذيب الرسل ... 261
قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية ... 268
ومن أساليبهم اتهام الرسل بأنهم بشر ... 307
ومن أساليبهم طلب المعجزات من الرسل عنادا وتكذيبا ... 308
محاولتهم زحزحة أهل الحق عنه بأية وسيلة ... 314
زعمهم أن الكتب السماوية أساطير الأولين ... 319
ويحاولون التشكيك بهذا الحق ... 325
ويحاولون صد المسلمين عن هذا الحق ... 326
اتهام المؤمنين بالحق بأنهم لا يفهمون ... 326
البطش بالمؤمنين والتنكيل بهم : ... 329
مطاردة الحق أينما كان في هذه الأرض ... 335
حقيقة الانتصار ... 338
حسد وحقد أهل الكتاب على الإسلام والمسلمين ... 415
وكذلك المنافقون يعتبرون من أخطر أعداء الإسلام داخليا ... 420(1/182)
الباب الأول- شبهات حول الإسلام (1)
الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده وجبل عليه رسله وأنبياءه من لدن آدم حتى حبيبه و مصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم والذي جعله خاتم الأنبياء والمرسلين, وإذا استلهمنا آيات القرآن الكريم واسترشدنا بمعانيه الجليلة السامية لوجدنا ذلك واضحا ومؤكدا في العديد والعديد من المواضع والآيات بدءا من قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} ومرورا بتأكيد إسلام الأنبياء والمرسلين جميعا في قوله تعالى في أمر إبراهيم وإسماعيل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمةً لك وأرنا مناسكنا وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم} ، وقوله: {ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين} وقوله تعالى على لسان يوسف : {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين} ، وقوله تعالى: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}
مما يدل دلالة قاطعة أن دين الله واحد من حيث الفطرة السليمة التي تقوم على الإيمان بالله الواحد المتفرد بكل صفات القدرة والكمال وملائكته وبالموت بعد الحياة وبالبعث والنشور والحساب والجنة والنار, على تلك العقيدة الواحدة والفطرة السليمة بعث وآمن ودعا إليها كل الرسل والأنبياء وإن جعل الله لكل منهم شرعة ومنهاجا, حتى جاء محمد خاتم الأنبياء والمرسلين يناسب زمانهم وينفع أقوامهم فسمى الله رسالته الخاتمة بالإسلام الذي يحمل نفس العقيدة الواحدة السليمة ويستكمل الشريعة القوية في كل ما يصلح الدين والدنيا من عبادات ومعاملات وأخلاق تجدر بالإنسان في كل مكان وزمان من يوم أرسل محمد صلى الله عليه وسلم وإلى يوم القيامة, وترفع ذلك الإنسان إلى أرقى درجات الإيمان والإذعان والإخلاص والصفاء والسلام النفسي والاجتماعي مع النفس والأهل والجار والمجتمع بأسره، لتتكون أمة مسلمة مؤمنة امتدحها ربها في كتابه العزيز حيث قال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس{ وذلك ما التزموا بتعاليم ربهم وهديه وأمرهم بمواصلة التمسك بدينه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون{ وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون{
ومنذ فجر الدعوة المحمدية وكعهد الكفار والمعاندين والمشككين على مر العصور والأجيال كان للدعوة أعداؤها الذين حاربوها بشتى الأساليب بدءا من الأباطيل والأكاذيب وانتهاء بالحرب في ميادين القتال.
نقول إنه منذ أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته وجهر بها وإلى يومنا هذا وما زال أعداء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها يكيدون للإسلام كيدا ويشنون عليه حربا لا هوادة فيها في كل مجال وكل ميدان, وبشتى الوسائل والأساليب قولا وفعلا, كيدا ودسا وخبثا ومكرا وغزوا وافتراء واجتراء على العقيدة الغراء والشريعة السمحاء, وتفريقا وتشتيتا وإضعافا للأمة المسلمة, يتناولون بذلك لا جوهر الإسلام وعقيدة المسلمين وحسب بل يتخطون ذلك إلى كل مقومات الإسلام كدين من عقيدة وشريعة وكتاب وسنة ثم أمة الإسلام ذاتها من شعوب ودول قائمة أو تاريخ وعلم وحضارة شيدها المسلمون في شتى بقاع الأرض على مر القرون والأزمان.
إن الهجمة الشرسة على الإسلام وأمة الإسلام والتي بدأت منذ فجر الدعوة وإلى يومنا هذا لم تتوقف ولن تتوقف حتى تقوم الساعة, أنبأنا بذلك ربنا في كتابه العزيز حيث قال عز من قائل: {.يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} , وأنبأنا بذلك رسوله الكريم في حديثه الشريف, عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفقٍ كما تداعى الأكلة على قصعتها قال قلنا يا رسول الله أمن قلةٍ بنا يومئذٍ قال أنتم يومئذٍ كثيرٌ ولكن تكونون غثاءً كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن قال قلنا وما الوهن قال حب الحياة وكراهية الموت) أخرجه أبو داود وأحمد في المسند.
وإن ما نشاهده اليوم من اشتداد الهجوم على الإسلام والمسلمين في كل مجال وميدان لهو أصدق دليل على ذلك.(2/1)
ولقد وعدنا الله وقد صدق وعده أن ينصر الإسلام دائما: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريبٌ} وأكد دفاعه عن عباده المؤمنين }إن الله يدافع عن الذين آمنوا{ , وقال جل شأنه: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} وبين أن كل تلك المحاولات الغاشمة فكرية كانت أو فعلية ستبوء بالفشل الذريع.
مع علمنا بذلك وإيماننا الراسخ بأن الله منجز وعده فإننا قد أمرنا وكلفنا من ربنا وخالقنا بأن ندافع ما استطعنا عن ديننا وعن مقدساتنا وعن أمتنا وعن أوطاننا حيث قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرجٍ ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير{. وأكد على ذلك نبيه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم: عن تميمٍ الداري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليلٍ عزًا يعز الله به الإسلام وذلًا يذل الله به الكفر ) أخرجه أحمد وإذا كان الدفاع عن الإسلام فرضا على أمة الإسلام في كل زمان ومكان فإن للدفاع صوره وأشكاله المختلفة التي أمر بها المسلمون.
وفي إطار الدفاع عن الإسلام فإن حالنا هنا ـ وهو الدفاع بالكلمة والحجة والحقيقة الناصعة الساطعة هام وخطير وجليل ـ لا تقل أهميته عن المنافحة عن الإسلام في ميادين القتال لأنه يجابه خطرا أشد على الإسلام مما يلقيه علينا أعداء الإسلام من قنابل ونيران وما يسلطه علينا من مدافع وطائرات ودبابات.
إن هجوم أعداء الإسلام – وهم كثر – على العقيدة الإسلامية ذاتها وعلى رسولنا الكريم وعلى مبادئ شريعتنا الغراء وعلى تاريخنا الإسلامي كله لهو أشد خطرا مما ذكرنا من حروب وغزوات.
ولكي نستطيع أن ندافع عن الإسلام في هذا المجال يجدر بنا أن نعرف الأعداء ظاهرهم وخافيهم حتى نحذر المسلمين من شرورهم ونفضح أساليبهم ونفند حججهم ونكشف أكاذيبهم وادعاءاتهم ونخرس ألسنتهم التي تمتد بالسوء إلى ديننا الحنيف.
لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجادل أعداءه فكريا بالتي هي أحسن لذلك فنحن هنا لا ننصب منبرا للسباب والشتائم ولا نتعرض للعقائد الفاسدة التي يتبعها ويعيش عليها الآن معظم من يهاجمون الإسلام أو يعادونه أو يخالفونه بل سيقتصر دفاعنا هنا على الرد على شبهات المشككين في عقيدة المسلمين وكتابنا الكريم ورسولنا العظيم وشريعتنا الغراء وتاريخنا المجيد وحضارتنا الزاهرة لقرون طويلة.
إننا هنا نذكر كل شائعة كاذبة وكل دسيسة خبيثة وكل مقولة خاطئة, نبين مصدرها وأصلها ومن روجها ودعا لها ثم نفند ذلك بالعقل والحكمة والحجة البالغة قاصدين من وراء ذلك أن يفهم أبناء الإسلام الغرض الأساس من الهجمة الشرسة على دينهم الحنيف, ليتثبتوا من قوة حجتهم وصحة دينهم ويثبتوا ويجادلوا من جادلهم بنفس الحجة وذات الأسلوب، كما نقصد ونأمل أن يقرأها من استطاع أن يقف بالمرصاد لهؤلاء الأعداء المتحدين للإسلام وأهله, موضحين ضلال كل مضلٍ لعله يثوب إلى رشده ويعرف موطن خطئه وزيف ادعائه هو ومن كانوا على شاكلته فإذا عرف ذلك وأدرك صدقه ربما كف عن ادعائه أو أوقف هجومه وربما هداه الله بعد ضلال وأخذ بيده بل وبقلبه إلى الإيمان الصحيح والدين القويم. هذا هدفنا وتلك بغيتنا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
======================
هل في الإسلام رواسب وثنية ؟
لماذا تقدس الكعبة؟
?لماذ يقبل الحجر الأسود؟
?الصلاة لماذا شرعت؟ وما قيمتها في عصر العلم والتقدم؟
تقدس الكعبة:
- دعا إبراهيم عليه السلام ربه (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) فاستجاب له ربه وجعل من بيت إبراهيم محجة ومكان التقاء تهوي إليه أفئدة البشر في مشارق الأرض ومغاربها.
- إن الله تعالى كرم العرب بأن جعل عاصمتهم قبلة يتوجه إليها الناس.
- فيه رمز لتكريم إبراهيم ومحمد عليهما السلام (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلتولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شهر المسجد الحرام ..)
- فيه رمز لتوحيد الفكر والقلب.
-في اتجاه المسلمين اتجاهاً واحداً رمزاً لوحدة العقيدة والهدف.
-الاتجاه إلى الكعبة إنما يتم بالجسد وحده أما القلب والروح فإلى الله اتجاههما وبه تعلقهما.
-روحانية الاتجاه فالمسلم لا يتجه إلى الكعبة بذاتها بل يدرك بأنه يتجه بفكره وروحه إلى الله تعالى.
-أن الجسد يطوف بالبيت الجامد واللسان والقلب يلهجان بقولهما (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك)(2/2)
الحجر الأسود:
-اتخذ العرب آلهتهم من أشياء لا تحصى ومع ذلك لم يكن الحجر الأسود ضمن آلهتهم.
-كان للحجر الأسود مكانة محترمة لأنه من بقايا بناء إبراهيم للكعبة.
-اعتماد الإسلام على الحجر مع أن الإسلام لا يقر (وثنية) كانت في الجاهلية.
-أن استلام الحجر الأسود يرجع إلى اعتبار رمزي لا إلى تقديس الحجر ذاته.
-أعاد محمد الحجر إلى مكانه بيده الشريفة قبل بعثته وأنهى مشكلة حرجة كادت أن تقع بين قريش.
-وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً أمام هذا الحجر وقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أنني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك).
-ليس تقبيله واجباً على الناس ، ولا يشترط على الحاج أو المعتمر تقبيله.
الصلاة لماذا شرعت؟ وما قيمتها في عصر العلم والتقدم؟
?تتحقق فيها أهداف عظيمة منها:
1-وحدة الهدف وذلك باتجاه المصلين إلى قبلة واحدة ، وتلاوة واحدة ، وحركة واحدة ، قال فيليب حتي: (وإذا نظرت إلى العالم الإسلامي في ساعة الصلاة بعين طائر في الفضاء وقدّر لك أن تستوعب جميع أنحائه بقطع النظر عن خطوط الطول والعرض لرأيت دوائر عديدة من المتعبدين تدور حول مركز واحد وهو الكعبة وتنتشر في مساحة تزداد قدراً وحجماً).
2-في الصلاة مساواة:حيث لا فرق بين غني وفقير ، صغير وكبير ، وفي هذا تحقق عملي للمساواة.
3-تدارس لأحوال الحي:فيُتساءل عن من غاب وما سبب غيابه ، فإن كان مريضاً عادوه ، وإن كان محتاجاً ساعدوه.
4-في الصلاة ثورة روحية لا يعرفها إلا من تذوق حلاوتها.
?الإنسان العصري أصبح جزءاً من آلة وتكالبت عليه الدنيا فأصبح أحوج ما يكون إلى الصلاة ليجد فيها راحته ، ويتمم فيها إنسانيته بعالميها المادي والروحي.
?المسلم الذي يتذوق طعم هذا اللقاء الذي يكون خمس مرات في اليوم الواحد يتمنى أن يطول.
?الصلاة اليوم عند الكثيرين طقوس وحركات جسدية فقدت فيها الصلة الروحية بين العبد وربه وليست الصلاة التي يريدها الإسلام.
?الصلاة التي يريدها الإسلام لقاء مع الله ووقوف في حضرته.
?الصلاة الحية ترقي الإنسان إلى مصاف الملائكة فتدعوه إلى ترك الصفات الذميمة وتنهاه عنها وتدعوه إلى كل صفة حميدة.
?قال مونتسكيو:(إن المرء لأشد ارتباطاً بالدين الحافل بكثير من الشعائر منه بأي دين آخر أقل منه احتفالاً بالشعائر ، وذلك لأن المرء شديد التعلق بالأمور التي تسيطر دائماً على تفكيره).
?كتب سعيد بن الحسن أحد يهود الإسكندرية الذي اعتنق الإسلام:(إذا كان الله قد تحدث مرتين إلى بني إسرائيل في كل العصور ، فإنه يتحدث إلى هذه الجماعة في كل وقت من أوقات الصلاة ، وأيقنت في نفسي أني خلقت لأكون مسلماً)
يقول رينان:(ما دخلت مسجداً قط دون أن تهزني عاطفة حارة ، أو بعبارة أخرى دون أن يصيبني أسف على أنني لم أكن مسلماً)
? كانت الصلاة سبب انتشار الإسلام في كثير من بلدان العالم.فهل تجد في الكعبة أو الحجر الأسود أو الصلاة أية رواسب وثنية؟
أم أنها تمام السعادة البشرية التي لا تتحقق إلا بها؟
================
مفهوم الحرية عند دعاة الإصلاح
إن الحرية الحقة هي التحرر من ضغط شطحات النفس وهواها وشهواتها ، وهي التحرر من تقاليد المجتمع المنحرفة ، وأعرافه الضالة ، وهي التحرر من القوى ، والمصالح الاقتصادية الطاغية ، المهيمنة على الحياة ، المواجهة لسلوك الإنسان في هذا العصر.
الحرية هي التحرر من أغلال السيطرة ، وقوى الضغوط الموجهة للإنسان من داخل نفسه ومن خارجها على السواء.
إن الحرية الحقة كما يراها دعاة الإصلاح هي المستمدة من العبودية المطلقة لله وحده ، المرتكزة عليها ، فإذا استشعر الإنسان بهذه العبودية تحرر من كل عبودية سواها ، وأحس من لحظته بضآلة كل قوة أخرى على الأرض ، وكل قيمة أخرى ، وكل جاه ، وكل سلطان.
وهذه الحرية ، لا ينافيها أن يخضع الإنسان لنظام ، ويتقيد بقيود ذلك النظام ، لأن الحياة لا بد لها من نظام يحكمها ، والنظام لا بد له من قيود ، وهو حين يخضع للنظام الذي يرتضيه الله ، إنما يخضع ? في الحقيقة ? لله ، ومن ثم يطيع ولي الأمر ، ويطيع نظامه المستمد من شريعة الله.
وهذه الحرية لا يعارضها أن تطيع المرأة زوجها ، وتقر بأحقيته في القوامة عليها ، في الحدود المرسومة في شريعة الله ، لأنها حين تطيعه لا تفقد كيانها ، ولا شخصيتها.
ولا ينقص من تلك الحرية للمرأة أن تكون في البيت ترعى شؤونه وتربي صغاره وتوفر فيه السكينة.
وليس نقصاً لتلك الحرية حينما تؤمر المرأة بالحجاب الشرعي لتستر بذلك مفاتنها عن الأجانب وليُقضي على مثيرات الشهوة ومحركاتها في المجتمع ، ولا ينقص من تلك الحرية ولا ينافيها ? ولن يكون ذلك ? حينما يُحَدّ للرجال والنساء على سواء طريق يسلكونه ومعالم ينتهون إليها لتضبط تصرفاتهم ويحد من شطحاتهم.(2/3)
لا ينافي شيء من هذه الأشياء جميعها الحرية الحقة ، لأنها حرية الإنسان الراقي المنظم ، ذي الرسالة السامية ، المنظمة ، والمنظمة للحياة أيضاً ، ولكن ليس المقصود من الحجاب ? كما يتخيله الجاهلون أو يصوره المغرضون ? أن تحبس المرأة في بيتها لا ترى الناس ، ولا تتنسم الهواء ، وأن تختفي عن الحياة في الخارج اختفاء كاملاً.
وليس معنى القرار في البيت ، أن تدخله عروساً ، ولا تخرج منه إلا إلى القبر ، لا بل إنها تخرج ، لا بد أن ترى الرجال ويرونها لأن الحياة وضروراتها تحتم ذلك ، ولكن بضوابط الإسلام وفي إطار حدوده.
فليس الخروج هو الممنوع في ذاته ، وإنما الهدف منه هو موضع السؤال ، هل تخرج لتتعلم؟ أو لتعمل؟ أو لترى الشمس وتشم الهواء لا بأس في هذا كله في الشرع.
أما أن يكون في باطن إحساسها إثارة الفتنة ، ويكون العلم والعمل والنزهة ساتراً لكل ذلك ، فهنا يقع الحجر.
وهي تتعامل مع الرجل ويتعامل معها ، ويكلمها وتكلمه ، ويتبادلان الخدمات التي تحتمها ضرورات الحياة ، في هذا الجو النظيف المكشوف الذي لا يخفي وراءه الفتنة ، ولا دفع إليه غرض دنيء.
أما العواطف التي تثير في نفسها الحنين الفطري إلى الجنس الآخر ، فهي شيء طبيعي ، تستلزمه الفطرة ، فلا تحتقر ، ولا تكبت ، ولا تستقذر ، فليس الجنس دنساً في ذاته ، ولا هو حرام ، ولكن يجب أن يوضع في إطاره الصحيح النظيف ، وفي الزواج يجد الجنس مصرفه الطبيعي ، يجده مرتبطاً بهدف أعلى وأسمى ، وليس هو في ذاته كل الهدف المطلوب.
أما إذا لم يكن زواج فهناك علاج مؤقت ، للتخفيف من سَورة تلك الغريزة وتحد من فورتها حتى يحين الزواج:
أولاً: يجب أن ينظف المجتمع من دواعي الإثارة المجنونة التي تستفز الشهوة وتحركها.
ثانياً: يجب أن تجعل للحياة أهداف جادة تستنقذ الطاقة النفيسة ، وترفعها عن الدنس المحظور.
ثالثاً: تستنفذ الطاقة الحيوية الفائضة في أعمال جسدية دائمة ، فيشغل الشباب بالرياضة والعمل ، والفتاة في تدبير المنزل وشؤونه ، وكلاهما جيد يرفع المشاعر ويشغلها إلى حين.
رابعاً: إن العبادة جزء من النشاط الحي للإنسان وهي وسيلة ناجحة للتسامي والارتفاع بالإنسان إلى أعلى.
وبهذا يُخفف من سورة تلك الغريزة ويُحد من اندفاعها ، حتى يُقدر لهما الزواج فهو العلاج الحاسم.
هذا هو التحرير الحقيقي للمرأة وللرجل كما رسمه الإسلام ، وكما ينادي به دعاته ، أما التحرير المزعوم الذي وصلت إليه المرأة في الغرب ، والذي ينادي به دعاة التحرير في الشرق الإسلامي بدافع التقليد فهو مسخ للمرأة ، ومسخ للرجل ، ومسخ للأجيال.
=================
حول الاستغناء بالقرآن عن السنة وعلاقة السنة بالقرآن
هناك مَنْ يكتفون بالقرآن الكريم.. ويشككون فى صحة الأحاديث ، ويظهرون التناقضات بينها ، ويذكرون الحديث الذى ينص على عدم زيارة المرأة للقبول ، والحديث الذى يقول (فى معناه) أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال إننى قد أمرتكم بعدم زيارة القبور من قبل ، والآن أسمح لكم بزيارة القبور.. فيشيرون إلى ذلك بأنه تناقض.. ويدللون على ذلك بأن الأمة قد فقدت الكثير من الأحاديث النبوية عبر الزمان ، أو أن هذه الأحاديث قد حرفت عن معانيها الصحيحة.. (انتهى).
الرد على الشبهة:
فى بداية الجواب عن شبهة هؤلاء الذين يشككون فى الأحاديث النبوية. ننبه على مستوى جهل كل الذين يثيرون مثل هذه الشبهات حول الحديث النبوى الشريف.. ذلك أن التدرج والتطور فى التشريع الذى يمثله حديث النهى عن زيارة القبور ثم إباحتها.. هذا التدرج والتطور فى التشريع لا علاقة له بالتناقض بأى وجه من الوجوه ، أو أى حال من الأحوال.
ثم إن التشكيك فى بعض الأحاديث النبوية ، والقول بوجود تناقضات بين بعض هذه الأحاديث ، أو بينها وبين آيات قرآنية.. بل والتشكيك فى مجمل
الأحاديث النبوية ، والدعوة إلى إهدار السنة النبوية والاكتفاء بالقرآن الكريم.. إن هذه الدعوة قديمة وجديدة ، بل ومتجددة.. وكما حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه.. فلقد حذّر من إنكار سنته ، ومن الخروج عليها.
ونحن بإزاء هذه الشبهة نواجه بلونين من الغلو:
أحدهما: يهدر كل السنة النبوية ، اكتفاء بالقرآن الكريم.. ويرى أن الإسلام هو القرآن وحده.
وثانيهما: يرى فى كل المرويات المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم سنة نبوية ، يكفر المتوقف فيها ، دونما فحص وبحث وتمحيص لمستويات " الرواية " و " الدراية " فى هذه المرويات. ودونما تمييز بين التوقف إزاء الراوى وبين إنكار ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..(2/4)
وبين هذين الغلوين يقف علماء السنة النبوية ، الذين وضعوا علوم الضبط للرواية ، وحددوا مستويات المرويات ، بناء على مستويات الثقة فى الرواة.. ثم لم يكتفوا ـ فى فرز المرويات ـ بعلم " الرواية " والجرح والتعديل للرجال ـ الرواة ـ وإنما اشترطوا سلامة " الدراية " أيضًا لهذه المرويات التى رواها العدول الضابطون عن أمثالهم حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أى أن هؤلاء العلماء بالسنة قد اشترطوا " نقد المتن والنص والمضمون " بعد أن اشترطوا " نقد الرواية والرواة " وذلك حتى يسلم المتن والمضمون من " الشذوذ والعلة القادحة " ، فلا يكون فيه تعارض حقيقى مع حديث هو أقوى منه سندًا ، وألصق منه بمقاصد الشريعة وعقائد الإسلام ، ومن باب أولى ألا يكون الأثر المروى متناقضًا تناقضًا حقيقيًّا مع محكم القرآن الكريم..
ولو أننا طبقنا هذا المنهاج العلمى المحكم ، الذى هو خلاصة علوم السنة النبوية ومصطلح الحديث ، لما كانت هناك هذه المشكلة ـ القديمة..
المتجددة ـ.. ولكن المشكلة ـ مشكلة الغلو ، بأنواعه ودرجاته ـ إنما تأتى
من الغفلة أو التغافل عن تطبيق قواعد هذا المنهج الذى أبدعته الأمة الإسلامية ، والذى سبقت به حضارتنا كل الحضارات فى ميدان " النقد الخارجى والداخلى للنصوص والمرويات ".. وهذه الغفلة إنما تتجلى فى تركيز البعض على " الرواية " مع إهمال " الدراية " أو العكس.. وفى عدم تمييز البعض بين مستويات المرويات ، كأن يطلب من الأحاديث ظنية الثبوت ما هو من اختصاص النصوص قطعية الثبوت.. أو من مثل تحكيم " الهوى " أو " العقل غير الصريح " فى المرويات الصحيحة ، الخالية متونها ومضامينها من الشذوذ والعلة القادحة..
وهناك أيضًا آفة الذين لا يميزون بين التوقف إزاء " الرواية والرواة " ـ وهم بشر غير معصومين ، وفيهم وفى تعديلهم وقبول مروياتهم اختلف الفقهاء وعلماء الحديث والمحدثون ـ وبين التوقف إزاء " السنة " ، التى ثبتت صحة روايتها ودرايتها عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.. فتوقف العلماء المتخصصين ـ وليس الهواة أو المتطفلين ـ إزاء " الرواية والرواة " شىء ، والتوقف إزاء " السنة " التى صحت وسلمت من الشذوذ والعلل القادحة شىء آخر.. والأول حق من حقوق علماء هذا الفن ، أما الثانى فهو تكذيب للمعصوم صلى الله عليه وسلم ، والعياذ بالله..
أما الذين يقولون إننا لا حاجة لنا إلى السنة النبوية ، اكتفاء بالبلاغ القرآنى ، الذى لم يفرط فى شىء.. فإننا نقول لهم ما قاله الأقدمون ـ من أسلافنا ـ للأقدمين ـ من أسلافهم ـ:
إن السنة النبوية هى البيان النبوى للبلاغ القرآنى ، وهى التطبيق العملى للآيات القرآنية ، التى أشارت إلى فرائض وعبادات وتكاليف وشعائر ومناسك ومعاملات الإسلام.. وهذا التطبيق العملى ، الذى حوّل القرآن إلى حياة معيشة ، ودولة وأمة ومجتمع ونظام وحضارة ، أى الذى " أقام الدين " ، قد بدأ بتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم للبلاغ القرآنى ، ليس تطوعًا ولا تزيّدًا من الرسول ، وإنما كان قيامًا بفريضة إلهية نص عليها القرآن الكريم (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) (1). فالتطبيقات النبوية للقرآن ـ التى هى السنة العملية والبيان القولى الشارح والمفسر والمفصّل ـ هى ضرورة قرآنية ، وليست تزيّدًا على القرآن الكريم.. هى مقتضيات قرآنية ، اقتضاها القرآن.. ويستحيل أن نستغنى عنها بالقرآن.. وتأسيًا بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وقيامًا بفريضة طاعته ـ التى نص عليها القرآن الكريم: (قل أطيعوا الله والرسول ) (2) (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) (3) (من يطع الرسول فقد أطاع الله ) (4) (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ) (5) (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) (6). تأسيًا بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وطاعة له ، كان تطبيق الأمة ـ فى جيل الصحابة ومن بعده ـ لهذه العبادات والمعاملات.. فالسنة النبوية ، التى بدأ تدوينها فى العهد النبوى ، والتى اكتمل تدوينها وتمحيصها فى عصر التابعين وتابعيهم ، ليست إلا التدوين للتطبيقات التى جسدت البلاغ القرآنى دينًا ودنيا فى العبادات والمعاملات.
فالقرآن الكريم هو الذى تَطَلَّبَ السنة النبوية ، وليست هى بالأمر الزائد الذى يغنى عنه ويستغنى دونه القرآن الكريم.
أما العلاقة الطبيعية بين البلاغ الإلهى ـ القرآن ـ وبين التطبيق النبوى لهذا البلاغ الإلهى ـ السنة النبوية ـ فهى أشبه ما تكون بالعلاقة بين " الدستور " وبين " القانون ". فالدستور هو مصدر ومرجع القانون.. والقانون هو تفصيل وتطبيق الدستور ، ولا حُجة ولا دستورية لقانون يخالف أو يناقض الدستور.. ولا غناء ولا اكتفاء بالدستور عن القانون.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس مجرد مبلّغ فقط ، وإنما هو مبلّغ ، ومبين للبلاغ ، ومطبق له ، ومقيم للدين ، تحوّل القرآن على يديه إلى حياة عملية ـ أى إلى سنة وطريقة يحياها المسلمون.(2/5)
وإذا كان بيان القرآن وتفسيره وتفصيله هو فريضة إسلامية دائمة وقائمة على الأمة إلى يوم الدين.. فإن هذه الفريضة قد أقامها ـ أول من أقامها ـ حامل البلاغ ، ومنجز البيان ، ومقيم الإسلام ـ عليه الصلاة والسلام.
والذين يتصورون أن الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد مبلِّغ إنما يضعونه فى صورة أدنى من صورتهم هم ، عندما ينكرون عليه البيان النبوى للبلاغ القرآنى ، بينما يمارسون هم القيام بهذا البيان والتفسير والتطبيق للقرآن الكريم !.. وهذا " مذهب " يستعيذ المؤمن بالله منه ومن أهله ومن الشيطان الرجيم !.
00000000000000
(1) النحل: 44.
(2) آل عمران: 32.
(3) النساء: 59.
(4) النساء: 80.
(5) آل عمران: 31.
(6) الفتح: 10.
=================
الإسلام انتشر بالسيف ، ويحبذ العنف
الرد على الشبهة:
وهى من أكثر الشبه انتشارًا ، ونرد عليها بالتفصيل حتى نوضح الأمر حولها:
يقول الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (1).
إن هذا البيان القرآنى بإطاره الواسع الكبير ، الذى يشمل المكان كله فلا يختص بمكان دون مكان ، والزمان بأطواره المختلفة وأجياله المتعاقبة فلا يختص بزمان دون زمان ، والحالات كلها سلمها وحربها فلا يختص بحالة دون حالة ، والناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم عربهم وعجمهم فلا يختص بفئة دون فئة ؛ ليجعل الإنسان مشدوها متأملاً فى عظمة التوصيف القرآنى لحقيقة نبوة سيد الأولين والآخرين ، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) رحمة عامة شاملة ، تجلت مظاهرها فى كل موقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه الكون والناس من حوله.
والجهاد فى الإسلام حرب مشروعة عند كل العقلاء من بنى البشر ، وهى من أنقى أنواع الحروب من جميع الجهات:
1- من ناحية الهدف.
2- من ناحية الأسلوب.
3- من ناحية الشروط والضوابط.
4- من ناحية الإنهاء والإيقاف.
5- من ناحية الآثار أو ما يترتب على هذه الحرب من نتائج.
وهذا الأمر واضح تمام الوضوح فى جانبى التنظير والتطبيق فى دين الإسلام وعند المسلمين.
وبالرغم من الوضوح الشديد لهذه الحقيقة ، إلا أن التعصب والتجاهل بحقيقة الدين الإسلامى الحنيف ، والإصرار على جعله طرفاً فى الصراع وموضوعاً للمحاربة ، أحدث لبساً شديداً فى هذا المفهوم ـ مفهوم الجهاد ـ عند المسلمين ، حتى شاع أن الإسلام قد انتشر بالسيف ، وأنه يدعو إلى الحرب وإلى العنف ، ويكفى فى الرد على هذه الحالة من الافتراء ، ما أمر الله به من العدل والإنصاف ، وعدم خلط الأوراق ، والبحث عن الحقيقة كما هى ، وعدم الافتراء على الآخرين ، حيث قال سبحانه فى كتابه العزيز: (لِمَ تَلبِسُونَ الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) (2).
ولقد فطن لبطلان هذا الادعاء كاتب غربى كبير هو توماس كارليل ، حيث قال فى كتابه " الأبطال وعبادة البطولة " ما ترجمته: " إن اتهامه ـ أى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ بالتعويل على السيف فى حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم ؛ إذ ليس مما يجوز فى الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس ، أو يستجيبوا له ، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم ، فقد آمنوا به طائعين مصدقين ، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها " (3).
ويقول المؤرخ الفرنسى غوستاف لوبون فى كتابه " حضارة العرب " وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام فى عهده صلى الله عليه وسلم وفى عصور الفتوحات من بعده ـ: " قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة ، ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها ، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التى قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول ، وبلغ القرآن من الانتشار فى الهند ـ التى لم يكن العرب فيها غير عابرى سبيل ـ ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها.. ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً فى الصين التى لم يفتح العرب أى جزء منها قط ، وسترى فى فصل آخر سرعة الدعوة فيها ، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا فى الوقت الحاضر " (4).(2/6)
هذا وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاماً ، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وقد كان نتاج هذه المرحلة أن دخل فى الإسلام خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم ، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء ، ولم يكن لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثروة عظيمة يغرى بها هؤلاء الداخلين ، ولم يكن إلا الدعوة ، والدعوة وحدها ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحمَّل المسلمون ـ لاسيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم ـ من صنوف العذاب وألوان البلاء ما تعجز الجبال الرواسى عن تحمله ، فما صرفهم ذلك عن دينهم وما تزعزعت عقيدتهم ، بل زادهم ذلك صلابة فى الحق ، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم ، وما سمعنا أن أحداً منهم ارتدّ سخطاً عن دينه ، أو أغرته مغريات المشركين فى النكوص عنه ، وإنما كانوا كالذهب الإبريز لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء ، وسنتكلم هنا على الجانبين التنظيرى والتطبيقى ، ونقصد بالتنظيرى ما ورد فى مصادر الإسلام (الكتاب والسنة) ، ونعنى بالتطبيقى ما حدث عبر القرون ابتداء من الحروب التى شارك فيها النبى صلى الله عليه وسلم ، وانتهاء بعصرنا الحاضر ، ثم نختم ببيان هذه النقاط الخمسة التى ذكرناها سابقاً.
أولاً: الجانب التنظيرى
ورد فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية آيات وأحاديث تبين شأن الجهاد فى الإسلام ، ويرى المطالع لهذه الآيات والأحاديث ، أن المجاهد فى سبيل الله ، هو ذلك الفارس النبيل الأخلاقى المدرب على أخلاق الفروسية العالية الراقية ؛ حتى يستطيع أن يمتثل إلى الأوامر والنواهى الربانية التى تأمره بضبط النفس قبل المعركة وأثناء المعركة وبعد المعركة ، فقبل المعركة يجب عليه أن يحرر نفسه من كل الأطماع ، وألا يخرج مقاتلا من أجل أى مصلحة شخصية ، سواء كانت تلك المصلحة من أجل نفسه أو من أجل الطائفة التى ينتمى إليها ، أو من أجل أى عرض دنيوى آخر ، وينبغى أن يتقيد بالشروط التى أحل الله فيها الجهاد ، وأن يجعل ذلك لوجه الله تعالى ، ومعنى هذا أنه سوف يلتزم بأوامر الله ، ويستعد لإنهاء الحرب فوراً ، إذا ما فقدت الحرب شرطاً من شروط حلها أو سبباً من أسباب استمرارها ، وسواء أكان ذلك الفارس منتصراً ، أو أصابه الأذى من عدوه ، فإن الله يأمره بضبط النفس ، وعدم تركها للانتقام ، والتأكيد على الالتزام بالمعانى العليا ، وكذلك الحال بعد القتال ، فإنه يجب عليه أن يجاهد نفسه الجهاد الأكبر ؛ حتى لا يتحول الفارس المجاهد إلى شخصٍ مؤذٍ لمجتمعه أو لجماعته أو للآخرين ، وبالرغم من أن لفظة الجهاد إذا أطلقت انصرف الذهن إلى معنى القتال فى سبيل الله. إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسماه بالجهاد الأصغر ، وسمى الجهاد المستمر بعد القتال بالجهاد الأكبر ؛ لأن القتال يستمر ساعات أو أيام ، وما بعد القتال يستغرق عمر الإنسان كله.
وفيما يلى نورد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى تحدثت عن هذه القضية ، ثم بعد ذلك نستخرج منها الأهداف والشروط والضوابط والأساليب ، ونعرف منها متى تنتهى الحرب ، والآثار المترتبة على ذلك:
أولاً: القرآن الكريم:
1- (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) (5).
2- (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) (6).
3- (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (7).
4- (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) (8).
5- (وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ) (9).
6- (ولا تحسبن الذين قُتِلُوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرْزَقُون ) (10).
7- (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ) (11).
8- (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيُقتل أو يَغِلب فسوف نؤتيه أجرا عظيماً ) (12).
9- (وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيراً ) (13).
10- (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ) (14).(2/7)
11- (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولوكره المجرمون ) (15).
12- (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) (16).
13- (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) (17).
14 (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) (18).
15- (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ) (19).
16- (يا أيها النبى قل لمن فى أيديكم من الأسرى إن يعلم الله فى قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) (20).
17- (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) (21).
18- (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فَيَقتُلُون وَيُقتَلُون ) (22).
19- (أُذِنَ للذين يُقَاتَلُون بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخْرِجُوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا رَبُّنَا الله) (23).
ثانياً: الأحاديث النبوية الشريفة:
1- عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " تكفل الله لمن جاهد فى سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد فى سبيله وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذى خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة " (24).
2- عن وهب بن منبه ، قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت ، قال: اشترطت على النبى صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد ، وأنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: " سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا " (25).
3- عن سعد بن زيد بن سعد الأشهلى أنه أهدى إلى رسول صلى الله عليه وسلم سيفاً من نجران فلما قدم عليه أعطاه محمد بن مسلمة ، وقال: " جاهد بهذا فى سبيل الله فإذا اختلفت أعناق الناس فاضرب به الحجر ، ثم ادخل بيتك وكن حلساً ملقى حتى تقتلك يد خاطئة أو تأتيك منية قاضية. قال الحاكم: فبهذه الأسباب وما جانسها كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع على ـ رضى الله عنه ـ وقتال من قاتله " (26).
4- عن سعيد بن جبير قال: " خرج علينا أو إلينا ابن عمر فقال رجل كيف ترى فى قتال الفتنة فقال وهل تدرى ما الفتنة كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس كقتالكم على الملك " (27).
5- عن عبد الله بن عمرو ـ رضى الله عنهما ـ قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أريد الجهاد فقال: " أحى والداك ؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد " (28).
ويتضح من هذه الآيات والأحاديث أن هدف الحرب فى الإسلام يتمثل فى الآتى:
1- رد العدوان والدفاع عن النفس.
2- تأمين الدعوة إلى الله وإتاحة الفرصة للضعفاء الذين يريدون اعتناقها.
3- المطالبة بالحقوق السليبة.
4- نصرة الحق والعدل.
ويتضح لنا أيضا أن من شروط وضوابط الحرب:
(1) النبل والوضوح فى الوسيلة والهدف.
(2) لا قتال إلا مع المقاتلين ولا عدوان على المدنيين.
(3) إذا جنحوا للسلم وانتهوا عن القتال فلا عدوان إلا على الظالمين.
(4) المحافظة على الأسرى ومعاملتهم المعاملة الحسنة التى تليق بالإنسان.
(5) المحافظة على البيئة ويدخل فى ذلك النهى عن قتل الحيوان لغير مصلحة وتحريق الأشجار ، وإفساد الزروع والثمار ، والمياه ، وتلويث الآبار ، وهدم البيوت.
(6) المحافظة على الحرية الدينية لأصحاب الصوامع والرهبان وعدم التعرض لهم.
الآثار المترتبة على الجهاد
يتضح لنا مما سبق أن الجهاد فى الإسلام قد اتسم بنبل الغاية والوسيلة معا ، فلا غرو أن تكون الآثار والثمار المتولدة عن هذا الجهاد متناسقة تماما فى هذا السياق من النبل والوضوح ؛ لأن النتائج فرع عن المقدمات ، ونلخص هذه الآثار فى النقاط التالية:
(1) تربية النفس على الشهامة والنجدة والفروسية.
(2) إزالة الطواغيت الجاثمة فوق صدور الناس ، وهو الشر الذى يؤدى إلى الإفساد فى الأرض بعد إصلاحها.
(3) إقرار العدل والحرية لجميع الناس مهما كانت عقائدهم.
(4) تقديم القضايا العامة على المصلحة الشخصية.
(5) تحقيق قوة ردع مناسبة لتأمين الناس فى أوطانهم.
يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة الحج:
(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (29).
قال الإمام القرطبى عند تفسيره لهذه الآية:(2/8)
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) أى لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء ، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات ، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم فى الأمم ، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات ؛ فكأنه قال: أذن فى القتال ، فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر فى القتال بقوله: (ولولا دفع الله الناس) الآية ؛ أى لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق فى كل أمة. فمن استشبع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه ؛ إذ لولا القتال لما بقى الدين الذى يذب عنه. وأيضاً هذه المواضع التى اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى ؛ أى لولا هذا الدفع لهُدمت فى زمن موسى الكنائس ، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفى زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. " لهدمت " من هدمت البناء أى نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل فى تأويل الآية " (30).
ثانياً: الناحية التطبيقية
(1) حروب النبى صلى الله عليه وسلم:
(أ) الحرب ظاهرة اجتماعية:
الحرب ظاهرة إنسانية قديمة قدم الإنسان على ظهر هذه البسيطة ، فمنذ وُجد الإنسان وهو يصارع ويحارب ، وكعلاقة من العلاقات الاجتماعية الحتمية نشأت الحرب ، فالاحتكاك بين البشر لابد وأن يُوَلِّد صداماً من نوع ما ، لقد جبل الإنسان على غريزة التملك التى تدعوه إلى التشبث بما يملكه ، حيث إن هذه الغريزة هى التى تحفظ عليه البقاء فى الحياة ، وهى بالتالى التى تتولد عنها غريزة المقاتلة ، فى أبسط صورها دفاعاً عن حقه فى الاستمرار والحياة ، وقد تتعقد نفسية الإنسان وتصبح حاجاته ومتطلباته مركبة ، فلا يقاتل طالباً للقوت أو دفاعاً عنه فقط ، وإنما يقاتل طلباً للحرية ورفعاً للظلم واستردادا للكرامة. ويُفَصِّل العلامة ابن خلدون هذه الحقيقة فى مقدمته فيقول: " اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة فى الخليقة منذ برأها الله ، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته ، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان ؛ إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع ، كانت الحرب وهو أمر طبيعى فى البشر ، إما غيرة ومنافسة وإما عدوان وإما غضب لله ولدينه ، وإما غضب للملك وسعى فى تمهيده " (31).
(ب) الحرب فى الكتب المقدسة قبل الإسلام:
إذا ما تجاوزنا الأمم والحضارات البشرية ، وتأملنا فى الكتب السماوية المقدسة (التوراة ـ الإنجيل) ، نرى أن هذه الكتب المقدسة قد تجاوزت الأسباب المادية الغريزية التى يقاتل الإنسان من أجلها إلى أسباب أكثر رُقِيًّا وحضارة ، فبعد أن كان الإنسان يقاتل رغبة فى امتلاك الطعام أو الأرض ، أو رغبة فى الثأر الشخصى من الآخرين ، أو حتى ردا للعدوان ، نرى أن الكتب المقدسة قد أضافت أسباباً أخرى ، أسباباً إلهية تسمو بالبشرية عن الدنايا وظلم الآخرين ، إلى بذل النفس إقامة للعدل ، ونصرة للمظلوم ، ومحاربة للكفر والخروج عن منهج الله ، لقد حددت الكتب السماوية المناهج والأطر التى يُسْمَح فيها بإقامة القتال وعبرت بالإنسان مرحلة بناء المجد الشخصى المؤسس على الأنا ، إلى مرحلة التضحية من أجل المبادئ والمثل الإلهية العليا ، التى تعمل فى إطار الجماعة البشرية لا فى محيط الفرد الواحد.
الحرب فى العهد القديم:
وردت أسباب الحرب فى ست وثلاثين آية تقع فى ثمانية أسفار من أسفار العهد القديم هى: (التكوين ـ العدد ـ التثنية ـ يوشع ـ القضاة ـ صموئيل الأول ـ الملوك الثانى ـ حزقيال).
(1) ففى سفر العدد ـ الإصحاح الثالث عشر ، ورد ما يفيد أن موسى ـ عليه السلام ـ بعد خروجه بقومه من مصر بعث رسلا يتحسسون أمر أرض كنعان ـ فلسطين ـ ليستقروا فيها:
" فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بنى إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش ، وردوا إليهما خبرًا وإلى كل الجماعة ، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه ، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التى أرسلتنا إليها وحقا إنها تفيض لبناً وعسلاً وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكن فى الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جداً وأيضا قد رأينا بنى عناق هناك " (32).
(2) وجاء فى سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الخامس والعشرون:
" فأجاب نابال عبيد داود وقال: من هو داود ومن هو ابن يسى قد كثر اليوم العبيد الذين يقحصون كل واحد من أمام سيده ، أآخذ خبزى ومائى وذبيحى الذى ذبحت لجارى وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم ؟ فتحول غلمان داود إلى طريقهم ورجعوا وجاءوا وأخبروه حسب كل هذا الكلام ، فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه وتقلد داود سيفه وصعد وراء داود نحو أربعمائة رجل ومكث مائتان مع الأمتعة " (33).
(3) وفى سفر الملوك الثانى ـ الإصحاح الثالث:(2/9)
" وكان ميشع ملك موآب الثانى صاحب مواش ، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف ومائة ألف كبش بصوفها ، وعند موت آخاب عصى ملك موآب على ملك إسرائيل وخرج الملك يهورام فى ذلك اليوم من السامرة وعد كل إسرائيل وذهب وأرسل إلى يهو شافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى على ملك موآب ، فهل تذهب معى إلى موآب للحرب ؟ " (34).
(4) جاء فى حزقيال الإصحاح الواحد والعشرون:
" وكان إلى كلام الرب قائلا: يا ابن آدم اجعل وجهك نحو أورشليم وتكلم على المقادس وتنبأ على أرض إسرائيل وقل لأرض إسرائيل هكذا قال الرب هأنذا عليك وأستل سيفى من غمده فأقطع منه الصديق والشرير من حيث إنى أقطع منك الصديق والشرير فلذلك يخرج سيفى من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال فيعلم كل بشر أنى أنا الرب سللت سيفى من غمده لا يرجع أيضاً " (35).
(5) وجاء فى سفر يوشع الإصحاح الثالث والعشرون:
" وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم هو المحارب عنكم انظروا: قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التى قرضتها والبحر العظيم نحو غروب الشمس والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم " (36).
(6) وجاء فى سفر القضاة الإصحاح الأول:
" وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل ".
(7) وفى سفر القضاة الإصحاح الثامن عشر:
" فأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخاً والكاهن الذى له وجاءوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن فضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار ولم يكن مَنْ ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهى فى الوادى الذى لبيت رحوب فبنوا المدينة وسكنوا بها ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذى ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولا: لايش " (37).
(8) وفى صموئيل الأول الإصحاح الرابع:
" وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة ، وأما الفلسطينيون فنزلوا فى أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف فى الحقل نحو أربعة آلاف رجل " (38).
(9) وفى التكوين الإصحاح الرابع والثلاثون: " فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابنى يعقوب شمعون ولاوى أخوى دينة أخذ كل واحد منهما سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف لأنهم بخسوا أختهم ، غنمهم وبقرهم وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما فى البيوت " (39).
(10) وفى سفر التكوين الإصحاح الرابع عشر:
" فلما سمع إبرام أن أخاه سبى جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التى من شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطاً أخاه أيضاً وأملاكه والنساء أيضاً والشعب " (40).
(11) وفى سفر العدد الإصحاح الواحد والعشرون:
" فقال الرب لموسى لا تخف منه لأنى قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الساكن فى حبشون فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبق لهم شارد وملكوا أرضه " (41)
(12) وفى سفر العدد الإصحاح الخامس والعشرون:
" ثم كلم الرب موسى قائلا ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التى كادوكم بها " (42).
(13) وفى سفر العدد الإصحاح الثالث والثلاثون:
تطالعنا التوراة ، أن الله قد أمر موسى ـ عليه السلام ـ أن يشن حرباً على أقوام قد عبدوا غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ: " وكلم الرب موسى فى عربات مو آب على أردن أريحا قائلا: " كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم " (43).
(14) وشبيه به ما ورد فى سفر صموئيل الإصحاح السابع عشر آية 45: 47
" فقال داود للفلسطينى: أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس ، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم 000 فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل " (44).
(15) وفى سفر صموئيل الأول الإصحاح الثالث والعشرون:
" فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلص داود سكان قعيلة " (45).
(16) فى سفر المزامير المزمور الثامن عشر:
يسبح داود الرب ويمجده لأنه يعطيه القوة على محاربة أعدائه: " الذى يعلم يدى القتال فتحنى بذراعى قوس من نحاس.. أتبع أعدائى فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام ، يسقطون تحت رجلى تمنطقنى بقوة للقتال تصرع تحتى القائمين على وتعطينى أقفية أعدائى ومبغضى أفنيهم " (46).(2/10)
هذه بعض من حروب بنى إسرائيل التى سجلتها نصوص كتبهم وأسفارهم ، فمفهوم الحرب والقتال ، ليس مفهوماً كريهاً من وجهة النظر التوراتية ، وكأنها حروب مستمدة من الشريعة الدينية التوراتية ، وهى كانت دائما تتم بمباركة الرب ومعونته وكأن الرب ـ حسب تعبير التوراة ـ قد استل سيفه من غمده فلا يرجع (47).
الحرب فى العهد الجديد:
كذلك نرى الإنجيل لم يهمل الكلام عن الحروب بالكلية ، بل جاء نص واضح صريح ، لا يحتمل التأويل ولا التحريف يقرر أن المسيحية على الرغم من وداعتها وسماحتها التى تمثلت فى النص الشهير " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر " ـ إلا أنها تشير إلى أن السيد المسيح ـ عليه السلام ـ قد يحمل السيف ويخوض غمار القتال إذا دعته الظروف لذلك ؛ فجاء فى الإنجيل على لسان السيد المسيح:
" لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض ، ما جئت لأرسى سلاماً ، بل سيفاً ، فإنى جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه ، والبنت مع أمها والكنة مع حماتها وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته " (48).
ولعلنا نلاحظ التشابه الكبير بين هذه المقولة وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [ بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده ] (49).
مما سبق يتبين لنا واضحاً وجليا أن الحرب والقتال سنة كونية سرت فى الأمم جميعاً، ولم نر فى تاريخ الأمم أمة خلت من حروب وقتال ، ورأينا من استعراض الكتب المقدسة ـ التوراة والإنجيل ـ أنه سنة شرعية لم تخل شريعة من الشرائع السماوية السابقة على الإسلام من تقريره والقيام به كما مر.
لقد كان هذا القدر كافيا فى إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم سائر على سنن من سبقه من الأنبياء ، وأن الجهاد لتقرير الحق والعدل مما يمدح به الإسلام ؛ لا مما به يشان ، وأن ما هو جواب لهم فى تبرير هذه الحروب وسفك الدماء كان جواباً لنا فى مشروعية ما قام به النبى صلى الله عليه وسلم من القتال والجهاد.
ولنشرع الآن فى تتميم بقية جوانب البحث مما يزيل الشبهة ويقيم الحجة ويقطع الطريق على المشككين ، فنتكلم عن غزوات النبى صلى الله عليه وسلم ، ممهدين لذلك بالحالة التى كانت عليها الجزيرة العربية من حروب وقتال وسفك للدماء لأتفه الأسباب وأقلها شأناً ، حتى يبدو للناظر أن القتال كان غريزة متأصلة فى نفوس هؤلاء لا تحتاج إلى قوة إقناع أو استنفار.
الحرب عند العرب قبل الإسلام سجلت كتب التاريخ والأدب العربى ما اشتهر وعرف بأيام العرب ، وهى عبارة عن مجموعة من الملاحم القتالية التى نشبت بين العرب قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم ، وليس يعنينا سرد هذه الملاحم وتفاصيلها ولكن الذى يعنينا هنا أن نقف على بعض الجوانب التى تصلح للمقارنة (الأسباب ـ الزمن المستغرق ـ الآثار التى خلفتها هذه الحروب).
قال العلامة محمد أمين البغدادى: " اعلم أن الحروب الواقعة بين العرب فى الجاهلية أكثر من أن تحصر ، ومنها عدة وقائع مشهورة لا يتسع هذا الموضع لذكرها ولنذكر بعضاً منها على سبيل الإجمال " (50).
وقد ذكرت كتب التواريخ أياماً كثيرة للعرب (البسوس ـ وداحس والغبراء ـ يوم النسار ـ يوم الجفار ـ يوم الفجار ـ يوم ذى قار ـ يوم شعب جبلة ـ يوم رحرحان 000 إلخ) والمتأمل فى هذه الملاحم والأيام يرى أن الحماسة الشديدة والعصبية العمياء وعدم الاكتراث بعواقب الأمور والشجاعة المتهورة التى لا تتسم بالعقل ، كانت هى الوقود المحرك لهذه الحروب ، هذا فضلاً عن تفاهة الأسباب التى قامت من أجلها هذه المجازر ، والمدة الزمنية الطويلة التى استمرت فى بعضها عشرات السنين ، والآثار الرهيبة التى خلفتها هذه الحروب ، وعلى الرغم من أننا لم نقف على إحصاء دقيق لما خلفته هذه الحروب إلا أن الكلمات التى قيلت فى وصف آثارها من الفناء والخراب وتيتم الأطفال وترمل النساء 000 إلخ لتوقفنا على مدى ما أحدثته الحرب فى نفوس الناس من اليأس والشؤم ، ويصف لنا الشاعر زهير بن أبى سلمى طرفاً من ذلك فى معلقته المشهورة وهو يخاطب الساعين للسلام بين عبس وذبيان:
تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فهو يقول للساعين للسلام: إنكما بتحملكما ديات الحرب من مالكما ، أنقذتما عبسا وذبيان بعدما يأسوا ، ودقوا بينهما عطر منشم ، ومنشم هو اسم لامرأة كانت تبيع العطر يضرب بها المثل فى التشاؤم ، دليل على عظم اليأس الذى أصاب نفوس الناس من انتهاء هذه الحرب (51).
هذه إطلالة سريعة ومختصرة على الحروب وأسبابها لدى العرب قبل الإسلام والآن نشرع فى الكلام على تشريع الجهاد فى الإسلام ثم نتبع ذلك بتحليل موثق لغزوات النبى صلى الله عليه وسلم.
الجهاد فى شرعة الإسلام:(2/11)
لما استقر النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأسس حكومته النبوية بها ، بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة إلى الله وتحمل الأذى والعذاب فى سبيل ذلك تخللتها ثلاث هجرات جماعية كبيرة ـ هاجت ثائرة قريش وحقدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحرزه من استقرار ونجاح لهذه الدولة الوليدة ـ دون ظلم أو استبداد أو سفك للدماء ـ ولذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم مقصوداً بالقتل ، إذ ليس معقولاً أن تنام أعينهم على هذا التقدم والنمو ، ومصالحهم قائمة على الزعامة الدينية فى جزيرة العرب ، وهذه الدولة الجديدة قائمة على أساس دينى ربما يكون سبباً فى زوال هذه الزعامة الدينية الوثنية الموروثة. وإذا كان الإسلام ديناً بلغت الميول السلمية فيه مداها فى قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام ) (53) إلا أن الميول السلمية لا تتسع لمنع القائمين بهذا الدين الجديد من الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم الذى أنزله الله للإنسانية كافة ، فى عالم يضيع فيه الحق والعدل إن لم يكن لهما قوة تحميهما، فكان لا مناص من السماح للمسلمين بحماية أنفسهم ودينهم بالسلاح الذى يشهره خصومهم فى وجوههم ، ولذلك كان التعبير بقوله تعالى:(أُذِنَ للذين يُقَاتَلُونَ بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (53).
أقول: كان التعبير بالإذن الذى يدل على المنع قبل نزول الآية يدل على طروء القتال فى الإسلام وأنه ظل ممنوعاً طيلة العهد المكى وبعضاً من العهد المدنى.
" هذا ولم يغفل الإسلام حتى فى هذا الموطن ـ موطن الدفاع عن النفس والدين ـ أن ينصح لأتباعه بعدم العدوان ؛ لأن الموضوع حماية حق لا موضوع انتقام ولا شفاء حزازات الصدور ، وهذا من مميزات الحكومة النبوية ، فإن القائم عليها من نبى يكون كالجراح يضع مشرطه حيث يوجد الداء لاستئصاله ، مع عدم المساس بالأعضاء السليمة ، ومقصده استبقاء حياة المريض لا قتله ، والعالم كله فى نظر الحكومة النبوية شخص مريض تعمل لاستدامة وجوده سليماً قوياً.. إن طبيعة هذا العالم مبنية على التدافع والتغالب ليس فيما بين الناس فحسب ، ولكن فيما بينهم وبين الوجود المحيط بهم ، وبين كل فرد والعوامل المتسلطة عليه من نفسه ، ولا أظن أن قارئاً من قرائنا يجهل الناموس الذى اكتشفه دارون وروسل ولاس ودعوه ناموس تنازع البقاء وبنوا عليه كل تطور أصاب الأنواع النباتية والحيوانية والإنسان أيضاً " (54).
" ألم تر كيف تصدى خصوم الدين النصرانى للمسيح ، وما كان يدعو إلا للصلاح والسلام حتى إنهم استصدروا أمراً بصلبه فنجاه الله منهم ، وما زالوا بالذين اتبعوه يضطهدونهم ويقتلونهم حتى مضت ثلاثة قرون وهم مشردون فى الأرض لا تجمعهم جامعة ، إلى أن حماهم من أعدائهم السيف على يد الإمبراطور قسطنطين الذى أعمل السيف فى الوثنيين من أعدائهم.. أفيريد مثيرو هذه الشبهة أن يقوم دين على غير السنن الطبيعية فى عالم مبنى على سنن التدافع والتنازع واستخدام القوة الحيوانية لطمس معالم الحق ودك صروح العدل " ؟
" يقول المعترضون: وماذا أعددتم من حجة حين تجمع الأمم على إبطال الحروب وحسم منازعاتها عن طريق التحكيم ، وهذا قرآنكم يدعوكم إلى الجهاد وحثكم على الاستبسال فيه ؟
نقول: أعددنا لهذا العهد قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (55).
" هذه حكمة بالغة من القرآن ، بل هذه معجزة من معجزاته الخالدة ، وهى أدل دليل على أنه لم يشرع الحرب لذاتها ، ولكن لأنها من عوامل الاجتماع التى لابد منها ما دام الإنسان فى عقليته ونفسيته المأثورتين عنه ، غير أنه لم ينف أن يحدث تطور عالمى يتفق فيه على إبطال الحرب فصرح بهذا الحكم قبل حدوثه ليكون حُجة لأهله من ناحية ، وليدل على أنه لا يريد الحرب لذاتها من ناحية أخرى ، ولو كان يريدها لذاتها لما نوه لهذا الحكم " (56).
ثانياً: نظرة تحليلية لغزوات النبى صلى الله عليه وسلم:
إذا تتبعنا هذه الغزوات وقسمناها حسب الطوائف التى ضمتها ، أمكننا التعرف على القبائل التى حدثت معها هذه المعارك وهى كالآتى:
(1) قريش مكة:
وهى القبيلة التى ينتمى إليها النبى صلى الله عليه وسلم ، حيث أن قريش هو فهر بن مالك ، وقيل النضر بن كنانة ، وعلى كلا القولين فقريش جد للنبى صلى الله عليه وسلم ، وكانت معهم الغزوات: سيف البحر ـ الرابغ ـ ضرار ـ بواط ـ سفوان ـ ذو العشيرة ـ السويق ـ ذو قردة ـ أحد ـ حمراء الأسد ـ بدر الآخرة ـ الأحزاب ـ سرية العيص ـ سرية عمرو بن أمية ـ الحديبية ـ سيف البحر الثانية 8هـ ـ فتح مكة.
(2) قبيلة بنو غطفان وأنمار:(2/12)
غطفان من مضر ، قال السويدى: " بنو غطفان بطن من قيس ابن عيلان بن مضر ، قال فى العبر: وهم بطن متسع كثير الشعوب والبطون " (57) ، قال ابن حجر فى فتح البارى: " تميم وأسد وغطفان وهوازن جميعهم من مضر بالاتفاق " (58) ، أما أنمار فهم يشتركون فى نفس النسب مع غطفان ، قال ابن حجر: " وسيأتى بعد باب أن أنمار فى قبائل منهم بطن من غطفان " (59) ، أى أن أنمار ينتسبون إلى مضر أيضاً ونسبهم كالتالى: أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر (60).
والغزوات التى ضمتها هى: قرقرة الكدر ـ ذى أمر ـ دومة الجندل ـ بنى المصطلق ـ الغابة ـ وادى القرى ـ سرية كرز بن جابر ـ ذات الرقاع ـ تربة ـ الميفعة ـ الخربة ـ سرية أبى قتادة ـ عبد الله بن حذافة (61).
(3) بنو سليم:
قال السويدى: " بضم السين المهملة قبيلة عظيمة من قيس عيلان والنسبة إليهم سلمى ، وسليم من أولاد خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر (62) ، والغزوات التى خاضها صلى الله عليه وسلم مع بنى سليم هى: بئر معونة ـ جموم ـ سرية أبى العوجاء ـ غزوة بنى ملوح وبنى سليم (63).
(4) بنو ثعلبة:
ثعلبة هو ابن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر (64) ، نسبه الدكتور على الجندى إلى مر بن أد هكذا: ثعلبة بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر (65) ، والغزوات التى غزاها صلى الله عليه وسلم معهم هى: غزوة ذى القصة ـ غزوة بنى ثعلبة ـ غزوة طرف ـ سرية الحسمى (66).
(5) بنو فزارة وعذرة:
قال فى سبائك الذهب: " بنو فزارة بطن من ذبيان من غطفان ، قال فى العبر: وكانت منازل فزارة بنجد ووادى القرى ، ونسب فزارة: فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر.
أما بنو عذرة: بنوه بطن من قضاعة ، ونسبهم هكذا: عذرة بن سعد بن جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافى بن قضاعة (67). ونسبهم إلى قضاعة أيضاً الدكتور على الجندى معتمداً على أنساب ابن حزم هكذا: عذرة بن سعد بن أسلم بن عمران بن الحافى بن قضاعة (68) ، وعلى هذا فبنو عذرة ليسو من مضر وإنما كانوا موالين لبنى فزارة وهم من مضر. وكان معهما الغزوات والسرايا الآتية:
سرية أبى بكر الصديق ـ سرية فدك ـ سرية بشير بن سعد ـ غزوة ذات أطلح (69).
(6) بنو كلاب وبنو مرة:
أما بنو كلاب فهم: بنو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وبنو مرة هم أبناء كعب بن لؤى فيكون كلاب بطن من مرة ، وهذه نفس سلسلة النسب التى ذكرها الدكتور على الجندى معتمداً على أنساب ابن حزم (70) ، والغزوات التى كانت معهم: غزوة قريظة ـ غزوة بنى كلاب ـ غزوة بنى مرة ـ سرية ضحاك (71).
(7) عضل والقارة:
قال فى سبائك الذهب: "عضل بطن من بنى الهون من مضر" ، ونسبهم هكذا: عضل بن الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وأما القارة فلم يذكرها السويدى فى السبائك ولا الدكتور الجندى ، إلا أن الأستاذ الشيخ محمد الخضرى نسبها إلى خزيمة بن مدركة ، وذكر الفارة بالفاء الموحدة لا بالقاف المثناة (72) وقد غزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوة واحدة هى غزوة الرجيع (73).
(8) بنو أسد:
قال السويدى: " بنو أسد حى من بنى خزيمة ، ونسبهم هكذا: أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر (74) ، والغزوات التى غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هى: سرية قطن ـ سرية عمر مرزوق ـ غزوة ذات السلاسل (75).
(9) بنو ذكوان: قال السويدى: " بنو ذكوان بطن من بهتة من سليم ، وهم من الذين مكث النبى صلى الله عليه وسلم شهراً يقنت فى الصلاة يدعو عليهم وعلى رعل (76) ونسبهم هكذا: ذكوان بن بهتة بن سليم بن منصور بن عكرمة خصفة بن قيس عيلان بن مضر (77) ، ولم يغزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة واحدة هى غزوة بئر معونة.
(10) بنو لحيان:
من المعروف أن بنى لحيان من هذيل ، وهذيل هو: ابن مدركة بن مضر(78)، وغزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوة واحدة هى:غزوة بنى لحيان (79).
(11) بنو سعد بن بكر:
نسبهم: سعد بن بكر بن هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة ابن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (80) ، وقد أرسل لهم النبى صلى الله عليه وسلم سرية واحدة هى سرية فدك.
(12) بنو هوازن:
بنو هوازن بطن من قيس عيلان ، ونسبهم هكذا: هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (81)، وقد غزاهم صلى الله عليه وسلم غزوة ذات عرق.
(13) بنو تميم:
بنو بطن من طابخة ، قال فى العبر: " وكانت منازلهم بأرض نجد دائرة من هنالك على البصرة واليمن ، ونسبهم هكذا: تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر " (82).
(14) بنو ثقيف:
بنو ثقيف بطن من هوازن اشتهروا باسم أبيهم ثقيف ، ونسبهم: ثقيف بن منبه بن بكر بن بهتة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (83) ، وقد غزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوتين هما: غزوة حنين ـ غزوة الطائف.(2/13)
ونستطيع من خلال هذا التتبع أن نقول:
إن هذه القبائل كانت جميعها تنتسب إلى مضر وهو جد النبى صلى الله عليه وسلم أو من والاهم ، وبالمعنى الأدق كانت نتيجة غضب إخوته من أجداده ، أما اليهود فقد كانوا مع قريش حسب معاهدتهم معهم ، وبذلك ظهر جلياً أن الغزوات والسرايا التى خاضها أو أرسلها النبى صلى الله عليه وسلم ، كانت موجهة فى نطاق ضيق هو نسل مضر ، فلا يمكن أن يقال حينئذ: أن النبى صلى الله عليه وسلم قد أشعل نار الحرب ضد العرب جميعاً ، أو أنه خاض الحروب لإكراه الناس على اعتناق الإسلام ، ولو كان الأمر كما يقولون لوقعت حرب عدوانية أو دفاعية ضد أى قبيلة من مئات القبائل العربية ، وهذه الحقيقة تحتاج إلى مزيد من التعمق والتحليل فى بعض خصائص القبائل العربية ؛ إذ قد يقول قائل أو يعترض معترض: إن هذا الذى توصلنا إليه بالبحث ـ ألا وهو انحصار القتال مع المضريين ـ لم يحدث إلا اتفاقاً ، والأمور الاتفاقية لا تدل على شىء ولا يستخرج منها قانون كلى نحكم به على جهاد النبى صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من الممكن أن يقاتل النبى صلى الله عليه وسلم ربيعة بدلاً من مضر ، أو يقاتل ربيعة ومضر معاً ، أو يقاتل القحطانية بدلاً من العدنانية أو يقاتلهما معاً ، وهكذا.
ذلك المتوقع أن تزيد الألفة والمودة بين أفراد وقبائل الجد الواحد لا أن تشتعل نار الحرب والقتال بينهم ، فما الذى عكس هذا التوقع وقلب الأمر رأساً على عقب ؟!
وللإجابة على هذه الشبهة نقول:
كان من أشهر الأمثلة العربية المثل المشهور " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " وقد كان العرب يطبقون هذا المثل تطبيقاً حرفياً ـ دون هذا التعديل الذى أضافه الإسلام عليه ـ فكانوا ينصرون إخوانهم وبنى أعمامهم نصراً حقيقياً على كل حال فى صوابهم وخطئهم وعدلهم وظلمهم ، وإذا دخلت قبيلتان منهم فى حلف كان لكل فرد من أفراد القبيلتين النصرة على أفراد القبيلة الأخرى ، وهذا الحلف قد يعقده الأفراد وقد يعقده رؤساء القبائل والأمر واحد فى الحالين.
بينما هم كذلك فى بنى أبيهم وفى حلفائهم ، إذ بك تراهم حينما تتشعب البطون قد نافس بعضهم بعضاً فى الشرف والثروة ، فنجد القبائل التى يجمعها أب واحد كل واحدة قد وقفت لأختها بالمرصاد تنتهز الفرصة للغض منها والاستيلاء على موارد رزقها ، وترى العداء قد بلغ منها الدرجة التى لا تطاق ، كما كان بين بطنى الأوس والخزرج ، وبين عبس وذبيان ، وبين بكر وتغلب ابنى وائل ، وبين عبد شمس وهاشم ، 000 إلخ ، فكانت روح الاجتماع سائدة بين القبيلة الواحدة ، تزيدها العصبية حياة ونمواً ، وكانت مفقودة تماماً بين القبائل المختلفة ؛ فكانت قواهم متفانية فى قتالهم وحروبهم ونزاعاتهم.
وقد علل الشيخ محمد الخضرى بك هذه الحقيقة العجيبة بأمرين:
الأمر الأول:
التنافس فى مادة الحياة بين بنى الأب الواحد ، إذ أن حياتهم كانت قائمة على المراعى التى يسيمون فيها أنعامهم ، والمناهل التى منها يشربون.
الأمر الثانى:
تنازع الشرف والرياسة ، وأكثر ما يكون ذلك إذا مات أكبر الإخوة وله ولد صالح لأن يكون موضع أبيه ، فينازع أعمامه رياسة العشيرة ولا يسلم أحد منهما للآخر ، وقد يفارق رئيس أحد البيتين الديار مضمراً فى نفسه ما فيها من العداوة والبغضاء ، وقد يبقيا متجاورين ، وفى هذه الحالة يكون التنافر أشد كما كان الحال بين الأوس والخزرج من المدينة ، وبين هاشم وأمية من مكة ، وبين عبس وذبيان من قيس ، وبين بكر وتغلب من ربيعة. ومتى وجد النفور بين جماعتين أو بين شخصين لا يحتاج شبوب نار الحرب بينهما إلى أسباب قوية ، بل إن أيسر النزاع كاف لنشوب نار الحرب وتيتم الأطفال وتأيم النساء ؛ لذلك كانت الجزيرة العربية دائمة الحروب والمنازعات (84).
هذه الحقيقة التى توصلنا إليها ـ وهى أن نار الحرب سريعة النشوب بين أبناء الأب أو الجد الواحد ـ تدعم ما توصلنا إليه من أن الحرب إنما كانت نتيجة غضب إخوته من أجداده ، وإذا كان الخلاف محصوراً فى السببين السابقين ، فأى سبب هو الذى أجج نار الغيرة والحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ هل السبب هو التنافس فى مادة الحياة الدنيا ، أم الخوف من انتزاع الشرف والسيادة التى تؤول إلى النبى صلى الله عليه وسلم إذ هم أذعنوا له بالرسالة والنبوة ؟(2/14)
أما عن السبب الأول فليس وارداً على الإطلاق ، فلقد ضرب كفار مكة حصاراً تجويعياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بنى هاشم وبنى عبد المطلب ، فانحازوا إلى شعب أبى طالب ثلاث سنوات كاملة ، عاشوا فيها الجوع والحرمان ما لا يخطر ببال ، حتى إنهم من شدة الجوع قد أكلوا ورق الشجر وكان يسمع من بعيد بكاء أطفالهم وأنين شيوخهم ، ومع ذلك فقد التزم النبى صلى الله عليه وسلم الصبر والثبات ، ولم يأمر أصحابه أن يشنوا حرباً أو قتالاً لفك هذا الحصار ، والخبير يعلم ما الذى يمكن أن يفعله الجوع بالنفس البشرية ، إن لم يصحبها نور من وحى أو ثبات من إيمان.
كان السبب الثانى إذن كفيلاً بإشعال هذه النار فى قلوب هؤلاء وعلى حد تعبير الأستاذ العلامة محمد فريد وجدى: " كان مقصوداً بالقتل من قريش ، وليس يعقل أن تغمض قريش عينها ، ومصلحتها الحيوية قائمة على زعامة الدين فى البلاد العربية ، وعن قيام زعامة أخرى فى البلاد كيثرب يصبح منافساً لأم القرى ، وربما بزها سلطاناً على العقول ، وكر على قريش فأباد خضراءها وسلبها حقها الموروث " (85) ، والذى يؤيد هذا ويقويه ذلك الحوار الذى دار بين الأخنس بن شريق وبين أبى جهل ؛ إذ قال له الأخنس: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ ـ يعنى القرآن ـ فقال ما سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسى رهان قالوا منا نبى يأتيه الوحى من السماء ، فمتى ندرك هذا ؟! والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
ليست الصدفة إذن ولا محض الاتفاق هما اللذان دفعا النبى صلى الله عليه وسلم لقتال أبناء أجداده من مضر دون ربيعة أو غيرها من العرب ، بل الطبيعة العربية المتوثبة دائماً ، لمن ينازعها الشرف والسيادة من أبناء الأب الواحد ـ على ما بيناه آنفاً ـ كانت هى السبب الرئيسى لاشتعال هذه الحروب ولولاها لما اضطر صلى الله عليه وسلم للقتال بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة والصبر تخللها من المشاق والعنت ما الله به عليم ، ومع ذلك فقد كان هجيراه ـ بأبى هو وأمى ـ " اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون ".
وثمة أمر آخر ينبغى الإشارة إليه ، يتعلق بالآثار الناجمة عن هذا القتال ، من حيث أعداد القتلى التى نجمت عن هذه الغزوات والجدول الآتى يعطينا صورة بيانية عن هذه الآثار كالآتى:
الغزوة / شهداء المسلمين / قتلى المشركين / الملاحظة
بدر / 14 / 70 /
أُحد / 70 / 22 /
الخندق / 6 / 3 /
بنو المصطلق / ـ / 3 /
خيبر / 19 / لم يدخل اليهود فى هذه الإحصائية لأن لهم حكم آخر بسبب خيانتهم ، فهم قُتلوا بناء على حكم قضائى ، بسبب الحرب.
بئر مونة 69 / ـ /
مؤتة / 14 / 14 /
حنين / 4 / 71 /
الطائف / 13 / ـ /
معارك أخرى / 118 / 256 /
المجموع / 317 / 439 / 756 من الجانبين.
وبعد فقد بدا للناظرين واضحًا وجليًا أن الإسلام متمثلاً فى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد ما يكون عن حمل الناس على اعتناق الإسلام بالسيف ، وهو الذى قال صلى الله عليه وسلم لأعدائه بعدما قدر عليهم: " اذهبوا فأنتم الطلقاء " هكذا دون شرط أو قيد ، أقول حتى دون اشتراط الإسلام.
والنتائج الحقيقية:
(1) تحويل العرب الوحوش إلى عرب متحضرين ، والعرب الملحدين الوثنيين إلى عرب مسلمين موحدين.
(2) القضاء على أحداث السلب والنهب وتعزيز الأمن العام فى بلاد تفوق مساحتها مساحة فرنسا بضعفين.
(3) إحلال الأخوة والروحانية محل العداوة والبغضاء.
(4) إثبات الشورى مكان الاستبداد (86).
هذا وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضوابط وقيود كان من شأنها أن تحدد وظيفة الجهاد فى نشر الإسلام فى ربوع المعمورة ، دون سفك للدماء ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً .
ومن هذه الضوابط قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) (87).
فإن كان بين المسلمين والكفار عهد أو أمان فلا يجوز للمسلمين الغدر حتى ينقضى الأمد ، فإن خاف المسلمون من أعدائهم خيانة بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم ، فحينئذ يخبرهم المسلمون أنه لا عهد بيننا وبينكم حتى يستوى علم المسلمين وعلم أعدائهم بذلك.
ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة من الأعداء لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم ، لأنه لم يخف منهم بل علم ذلك.
ودل مفهوم الآية أيضاً على أنه إذا لم يخف منهم خيانة بأن يوجد منهم ما يدل على عدم الخيانة ، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم ، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته (88).
انتشار الإسلام
أ ـ معدلات انتشار الإسلام:(2/15)
الذى يؤكد على الحقيقة التى توصلنا إليها ـ وهى أن انتشار الإسلام كان بالدعوة لا بالسيف ـ أن انتشار الإسلام فى الجزيرة العربية وخارجها ، كان وفق معدلات متناسبة تماماً من الناحيتين الكمية والكيفية ، مع التطور الطبيعى لحركة الدعوة الإسلامية ، ولا يوجد فى هذه المعدلات نسب غير طبيعية أو طفرات تدل على عكس هذه الحقيقة ، والجدول الآتى يوضح هذه النسب:
السنوات بالهجرى / فارس / العراق / سورية / مصر / الأندلس
نسبة المسلمين مع نهاية أول مائة عام / 5%/ 3%/ 2%/ 2%/أقل من 1%
السنوات التى صارت النسبة فيها 25% من السكان/ 185/ 225/ 275/ 275/ 295
السنوات التى صارت النسبة فيها 50% من السكان/ 235/ 280/ 330/ 330/ 355
السنوات التى صارت النسبة فيها 75% من السكان/ 280/ 320/ 385/ 385/ 400
* حسبت السنوات منذ عام 13 قبل الهجرة عندما بدأ تنزيل القرآن الكريم.
وتوضح معلومات أخرى أن شعب شبه الجزيرة العربية كان الشعب الأول فى الدخول فى الإسلام ، وقد أصبح معظمهم مسلمين فى العقود الأولى بعد تنزيل القرآن الكريم.
وهكذا كان عدد العرب المسلمين يفوق عدد المسلمين من غير العرب فى البداية ، ومهدوا الطريق للتثاقف الإسلامى والتعريب من أجل المسلمين غير العرب ، ولم يمض وقت على هؤلاء فى أصولهم من أديان ومذاهب متعددة من كل الأمم والحضارات السابقة.
كان على هؤلاء جميعاً أن يوظفوا بشكل موحد عمليات توأمية للتقليد والابتكار فى وقت واحد وذلك حسب خلفياتهم الأصلية تحت التأثير الثورى والمتحول الأكثر عمقاً للفكر الإسلامى ومؤسساته ، وقاموا عن طريق عملية التنسيق المزدوجة بتنقية تراثهم من علوم وتكنولوجيا وفلسفات عصر ما قبل القرآن الكريم وذلك إما بالقبول الجزئى أو الرفض الجزئى ، وقاموا كذلك بالابتكار من خلال انطلاقهم من أنظمتهم الفكرية الحسية وتراثهم فى ضوء القرآن الكريم والسنة.
ومن هنا ولدت العلوم الإسلامية والتكنولوجيا الإسلامية والحضارة الإسلامية الحديثة متناسبة مع الأيدولوجية والرؤية الإسلامية الشاملة (89).
خصائص ذلك الانتشار:
ـ عدم إبادة الشعوب.
ـ جعلوا العبيد حكاماً.
ـ لم يفتحوا محاكم تفتيش.
ـ ظل اليهود والنصارى والهندوك فى بلادهم.
ـ تزاوجوا من أهل تلك البلاد وبنوا أُسراً وعائلات على مر التاريخ.
ـ ظل إقليم الحجاز ـ مصدر الدعوة الإسلامية ـ فقيراً إلى عصر البترول فى الوقت الذى كانت الدول الاستعمارية تجلب خيرات البلاد المستعمرة إلى مراكزها.
ـ تعرضت بلاد المسلمين لشتى أنواع الاعتداءات (الحروب الصليبية ـ الاستعباد فى غرب إفريقيا ـ إخراج المسلمين من ديارهم فى الأندلس وتعذيب من بقى منهم فى محاكم التفتيش) ونخلص من هذا كله أن تاريخ المسلمين نظيف وأنهم يطالبون خصومهم بالإنصاف والاعتذار ، وأنهم لم يفعلوا شيئاً يستوجب ذلك الاعتذار حتى التاريخ المعاصر.
1 ـ سرية سيف البحر ـ رمضان 1 هجرية ـ 30 راكب ـ حمزة بن عبد المطلب ـ 300أبو جهل ـ انصرف المسلمون بدون قتال ـ بعثت هذه السرية لدراسة أحوال مكة ووجد الأعداء أن المسلمين منتبهون فانصرفوا عنهم.
2 ـ سرية الرابغ ـ شوال سنة 1 هجرية ـ 60 ـ عبيدة بن الحارث ـ 200 عكرمة بن أبى جهل أو أبو صيان ـ انصرف المسلمون بدون قتال ـ بعثت هذه السرية لتفقد أحوال أهل مكة فرأت جمعاً عظيماً من قريش بأسفل ثنية المرة.
3 ـ سرية ضرار ـ فى ذى القعدة سنة 1 هجرية ـ 80 سعد بن أبى وقاص ـ خرج حتى بلغ الجحفة ثم رجع ولم يلق كيداً.
4 ـ غزوة ودان وهى غزوة الأبواب ـ صفر 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ عاهد عمرو بن مخثى الضمرى على ألا يعين قريش ولا المسلمين.
5 ـ غزوة بواط ـ ربيع الأول 2 هجرية ـ 200 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ 100 ـ أمية بن خلف ـ بلغ إلى بواط ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة لقى فى الطريق قريشاً وأمية ـ رضوى اسم جبل بالقرب من ينبع.
6 ـ غزوة صفوان أو بدر الأولى ـ ربيع الأول 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ كرز بن جابر الفهرى ـ خرج فى طلب العدو حتى بلغ صفوان فلم يدركه ـ كان كرز بن جابر قد أغار على مواشى لأهل المدينة.
7 ـ غزوة ذى العشيرة ـ جمادى الآخرة 2 هجرية ـ 150 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ وادع بنى مذلج وحلفائهم من بنى ضمرة ـ ذو العشيرة موضع بين مكة والمدينة من بطن ينبع.
8 ـ سرية النخلة ـ فى رجب 2 هجرية ـ 12 ـ عبد الله بن جحش ـ قافلة تحت قيادة بنى أمية ـ أطلق الأسيران وودى القتيل ـ أرسلوا لاستطلاعن قريش فوقع الصدام.
9 ـ غزوة بدر الكبرى ـ رمضان 2 هجرية ـ 313 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ 1000 ـ أبو جهل ـ 22 ـ 70 ـ 70 ـ انتصر المسلمون على العدو ـ بين بدر ومكة سبعة منازل وبين بدر والمدينة ثلاثة منازل لما علم بخروج قريش إلى المدينة ارتحل دفاعاً عن المسلمين.(2/16)
10 ـ سرية عمير بن العدى الخطمى ـ فى رمضان 2 هجرية ـ 1 ـ عمير ـ 1 ـ عصماء بن مروان ـ 1 ـ قتل عمير اخته التى كانت تحض قومها على الحرب ضد المسلمين.
11 ـ سرية سالم بن عمير الأنصارى ـ فى شوال 2 هجرية ـ 1 ـ سالم ـ 1 ـ الخطمية أبو عكفة ـ كان أبو عكفة اليهودى يستفز اليهود على المسلمين فقتله سالم.
12 ـ غزوة بنى قينقاع ـ فى شوال 2 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قبيلة بنى قينقاع ـ تم إجلائهم ـ أتوا بالشر فى المدينة حين كان المسلمون فى بدر فأجلوا لذلك.
13 ـ غزوة السويق ـ فى ذى الحجة 2 هجرية ـ 200 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 200 ـ أبو سفيان ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى طلبه فلم يدركه ـ بعث أبو سفيان من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها فحرقوا فى أسوال من نخل ووجدوا بها رجلين فقتلوهما.
14 ـ غزوة قرقرة الكدر أو غزوة بنى سليم ـ محرم 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ كرز بن جابر الفهرى ـ 1 ـ خرج العدو يغزو المدينة فانصرف حين رأى جمعاً من المسلمين ـ أسر عبد اسمه يسار فأطلق سراحه.
15 ـ سرية قررة الكدر ـ 2 هجرية ـ 1 ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ قبيلة بنى غطفان وبنى سليم ـ 3 ـ قتل من الأعداء وفر الباقون ـ بعثت هذه السرية إكمالاً إذ اجتمع الأعداء مرة أخرى.
16 ـ سرية محمد بن مسلمة ـ ربيع الأول ـ 3 هجرية ـ محمد بن مسلمة الأنصارى الخزرجى ـ 1 ـ كعب بن الأشرف اليهودى ـ 1 ـ 1 ـ كان كعب بن الأشرف يحرض القبائل من اليهود ضد المسلمين ودعا قريشاً للحرب فوقعت غزوة أحد.
17 ـ غزوة ذى أمر أو غزوة غطفان أو أنمار ـ فى ربيع سنة 3 هجرية ـ 450 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثعلبة وبنو محارب ـ اجتمعت بنو ثعلبة وبنو محارب للإغارة على المدينة فانصرفوا حين رأوا جمعاً من المسلمين ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى أصحابه حتى بلغ نجد وهنا أسلم وعثود الذى هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
18 ـ سرية قردة ـ فى جمادى الآخرة سنة 3 هجرية ـ 100 ـ زيد بن حارثة ـ أبو سفيان ـ 1 ـ خرج زيد بن حارثة فى بعث فتلقى قريشاً فى طريقهم إلى العراق ـ أسر فراء بن سفيان دليل القافلة التجارية فأسلم.
19 ـ غزوة أُحد ـ شوال 3 هجرية ـ 650 راجل ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 2800 راجل ـ 200 راكب أبو سفيان الأموى ـ 40 ـ 70 ـ 30 ـ لحقت خسارة فادحة بالمسلمين ولكن فشل الكفار نتيجة لرعب أصابهم ـ بين أحد والمدينة ثلاثة أيمال كانوا الأعداء زحفوا من مكة إلى أُحد.
ـ غزوة حمراء الأسد ـ فى 7 من شوال المكرم سنة 3 هجرية ـ 540 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 2790 ـ أبو سفيان ـ 2 أبو عزة ومعاوية بن المغيرة ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم مرعباً للعدو ـ لما آن الغد من يوم أُحد خرج المسلمون إلى معسكر العدو لئلا يغير عليهم ثانية ظاناً بهم ضعفاً ، أسر رجلان ، وقتل أبو عزة الشاعر لأن كان وعد فى بدر بأنه لا يظاهر أبداً على المسلمين ثم نقض عهده وحث المشركين على المسلمين.
21 ـ سرية قطن أو سرية أبى سلمة المخزومى ـ فى غرة محرم الحرام سنة 4 هجرية ـ 150 أبو سلمة المخزومى ـ طلحة وسلمة ـ لم يتمكنوا من الإغارة على المدينة بمظاهرة قام بها المسلمون ـ هو رئشيس قطاع الطريق أراد الإغارة على المدينة ولكن المسلمين تظاهروا فوصلوا إلى قطن وهو مسكنه فتفرق جمعه.
22 ـ سرية عبد الله بن أنيس ـ فى 5 من محرم الحرام سنة 4 هجرية ـ 1 ـ عبد الله بن أنيس الجهنى الأنصارى ـ 1 ـ سفيان الهذيلى ـ 1 ـ سمع عبد الله بأن سفيان استنفر قوماً ضد المسلمين بعرفى فوصل عليها وقتل بها أبا سفينان.
23 ـ سرية الرجيع ـ فى صفر 4 هجرية ـ 10 عاصم بن ثابت ـ 100 ـ من عضل والقارة ـ 10 ـ استشهاد عشرة قراء.
24 ـ سرية بئر معونة ـ 70 ـ منذر بن عمر ـ جماعة كبيرة ـ عامر بن مالك ـ 1 ـ 69.
25 ـ سرية عمر بن أمية الضميرى ـ ربيع الأول 4 هجرية ـ 1 ـ عمر بن أمية الضمرى ـ 2 قبيلة بنى كلاب.
26 ـ غزوة بنى النضير ـ ربيع أول 4 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قبيلة النضير ـ تم إجلائهم بأنهم هموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
27 ـ غزوة بدر الأخرى ـ ذى القعدة 4 هجرية ـ 1510 النبى صلى الله عليه وسلم ـ 2050 أبو سفيان ـ لم تحدث مواجهة ـ خرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل بناحية الظهران أو عسفان ولما علم النبى صلى الله عليه وسلم خرج إليه فرجع أبو سفينان رجع النبى أيضاً.
28 ـ غزوة دومة الجندل ـ سنة 5 هجرية ـ 1000 النبى صلى الله عليه وسلم ـ أهل الدومة ـ رجع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليها ولم يلق كيداً.
29 ـ غزوة بنى المصطلق ـ 2 شعبان 5 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ الحارث بن ضرار سيد بنى المصطلق ـ 19 ـ 10 ـ انهزم العدو وأطلق الأسرى كلهم.
30 ـ غزوة الأحزاب أو الخندق ـ شوال 5 هجرية ـ 3000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 10000 أبو سفيان ـ 6 ـ 10 ـ انقلب العدو خاسراً.(2/17)
31 ـ سرية عبد الله بن عتيك ـ ذى القعدة 5 هجرية ـ 5 ـ عبد الله بن عتيك الأنصارى ـ 1 ـ سلام بن أبى الحقيق ـ 1.
32 ـ غزوة بنى قريظة ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو قريظة ـ 4 ـ 200 ـ 400 ـ من الأعداء من قتل ومنهم من أسر ـ قتلهم كان حكماً قضائياً بسبب الخيانة وكان هذا الحكم موافقاً لنصوص التوراة التى كانوا يؤمنون بها.
33 ـ سرية الرقطاء ـ 30 ـ محمد بن مسلمة ـ 30 ـ ثمامة بن آثال ـ 1 ـ أثر ثمالة فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كان ثمامة سيد نجد ، وأسلم بعد أن أطلق سراحه من الأسر.
34 ـ غزوة بنى لحيان ـ 6 هجرية ـ 200 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو لحيا من بطون هذيل ـ تفرق العدو حين علم بمقدم المسلمون إليه ـ كانت الغزوة لتأديب أهل الرجيع الذين قتلوا عشرة من القراء.
35 ـ غزوة ذى قردة ـ 6 هجرية ـ 500 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ خيل من غطفن تحت قيادة عيينة الفزارى ـ امرأة واحدة ـ 3 ـ 1 ـ أغاروا على لقاح لرسول الله فخرج المسلمون ولحقوا بهم.
36 ـ سرية عكاشة محصن ـ 40 ـ عكاشة بن محصن الأسدى ـ بنو أسد ـ تفرق الأعداء ولم تحدث مواجهة ـ كان بنو أسد قد أجمعوا الإغارة على المدينة فبعثت إليهم هذه السرية.
37 ـ سرية ذى القصة ـ 6 هجرية ـ 10 ـ محمد بن مسلمة ـ 100 بنو ثعلبة ـ 1 جريح ـ 9 ـ استشهد تسعة من الدعاة وأصيب محمد بن مسلمة بجرح ـ كان عشرة من القراء ذهبوا للدعوة وبينما هم نائمون قتلهم بنو ثعلبة وذو القصة اسم موضع.
38 ـ سرية بنى ثعلبة ـ 6 هجرية ـ 40 ـ أبو عبيدة بن الجراح ـ بنو ثعلبة ـ 1 ـ انصرف العدو وغنم المسلمون ما كان لهم من متاع.
39 ـ سرية الجموم ـ 6 هجرية ـ زيد بن حارثة ـ بنو سليم ـ 10 ـ أسر مجموعة رجال وأطلقهم النبى صلى الله عليه وسلم.
40 ـ سرية الطرف أو الطرق ـ 6 هجرية ـ 15 ـ زيد بن حارثة ـ بنو ثعلبة ـ هرب الأعداء وأصاب المسلمون عشرين بعيراً ـ بعثت هذه السرية لمعاقبة المجرمين بذى القصة.
41 ـ سرية وادى القرى ـ 12 ـ زيد بن حارثة ـ سكان وادى القرى ـ 1 جريح ـ 9 ـ قتل من المسلمين تسعة رجال وجرح واحد ـ كان زيداً ذاهباً للجولة فحملوا عليه وعلى أصحابه.
42 ـ دومة الجندل ـ 6 هجرية ـ عبد الرحمن بن عوف ـ قبيلة بنى كلب ـ الأصبغ بن عمرو ـ تحقق نجاح ملموس فى مجال الدعوة ـ أسلم الأصبغ بن عمرو وكان نصرانياً وأسلم معه كثير من قومه.
43 ـ سرية فداك ـ 6 هجرية ـ 200 ـ على بن أبى طالب ـ بنو سعد بن بكر ـ هربت بنو سعد وأصاب المسلمون مائة بعير وألفى شاة ـ بلغ النبى صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون أن يمدوا يهود خيبر فقام علىّ رضى الله الله عنه بالمظاهرة عليهم.
44 ـ سرية أم فرقة ـ 7 هجرية ـ أبو بكر الصديق رضى الله عنه ـ بنو فزارة تحت قيادة أم قرفة ـ 2 ـ انهزم العدو ـ كانت بنو فزارة قد أغاروا على قافلة زيد بن حارثة.
45 ـ سرية عبد الله بن رواحة ـ 6 هجرية ـ 30 ـ عبد الله بن رواحة ـ 30 ـ أسير بن رزام اليهودى ـ 1 ـ 30 ـ وقع اشتباك لسوء فهم الفريقين فقتل اليهود جميعاً.
46 ـ سرية العرنيين ـ 6 هجرية ـ 20 ـ كرز بن جابر الفهرى ـ رجال من عكل وعريننة ـ 1 ـ 8 ـ قتلوا الراعى واستاقوا الإبل فأسروا ومثل بهم ـ استوخموا المدينة فشربوا من ألبان الإبل وأبوالها فصحوا ثم قتلوا يسارا راعى النبى صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل.
47 ـ سرية عمرو بن أمية الضمرى ـ 6 هجرية ـ 1 ـ عمرو بن أمية الضمرى ـ كان عمرو قد جاء إلى مكة ليقتل النبى صلى الله عليه وسلم ثم أسلم من حسن خلقه الشريف ثم ذهب إلى مكة يدعو أهلها.
48 ـ غزوة الحديبية ـ 6 هجرية ـ 1400 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ أهل مكة ـ سهيل بن عمرو القرشى ـ تم الصلح بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين ريش عشر سنوات ـ كان النبى قد خرج معتمراً فصدته قريش عن البيت فى الحديبية.
49 ـ غزوة خيبر 7 هجرية ـ 100 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 10000 ـ يهود خيبر كنانة بن أبى الحقيق ـ 50 جريحاً ـ 18 ـ 93 ـ فتح الله للمسلمين فتحاً مبيناً ـ كان اليهود قد قاتلوا المسلمين فى أُحد والأحزاب ونقضوا عهدهم مع النبى صلى الله عليه وسلم فأفسد خططهم العدوانية.
50 ـ غزوة وادى القرى ـ المحرم 6 هجرية ـ 1382 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ اليهود من وادى القرى.
51 ـ غزوة ذات الرقاع ـ 7 هجرية ـ 400 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو غطفان وبنو محارب وبنو ثعلبة وبنو أنمار ـ تفرق العدو ـ كانت بنو عطفان قد جمعوا جموعاً من القبائل للإغارة على المسلمين فلما قام المسلمون بحشودهم تفرقوا جميعاً.
52 ـ سرية عيص ـ فى صفر 7 هجرية ـ 72 ـ أبو جندل وأبو بصير ـ قافلة قريش ـ 9 ـ أخذ أموال العدو ثم ردها إليهم بأمر النبى صلى الله عليه وسلم.(2/18)
53 ـ سرية الكديد ـ صفر 7 هجرية ـ 60 ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ بنو الملوح ـ 1 ـ وقع اشتباك ـ كانت بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سويد فبعثت إليهم هذه السرية للتوبيخ.
54 ـ سرية فدك ـ فى صفر سنة 7 هجرية ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ أهل فدك ـ قتل ناس من العدو.
55 ـ سرية حسمى ـ فى جمادى الآخرة 7 هجرية ـ 500 ـ زيد بن حارثة ـ 102 ـ الهنيد بن عوض الجزرى ـ 100 ـ 2 ـ انتصر المسلمون وقتل الهنيد مع ابنه وأطلق الباقون بعد توبتهم ـ كان دحية الكلبى محملاً ببعض الهدايا من قيصر فقابله الهنيد فى ناس وقطع عليه الطريق.
56 ـ سرية تربة ـ فى شعبان سنة 7 هجرية ـ عمر بن الخطاب ـ أهل تربة ـ تفرق العدو ـ بين تربة ومكة منزلان كان أهل تربة قد اصطلحوا مع بنى غطفان فقام المسلمون بالمظاهرة فى محالهم.
57 ـ سرية بنى كلاب ـ فى شعبان 7 هجرية ـ أبو بكر الصديق رضى الله عنه ـ بنو كلاب ـ انتصر المسلمون سبى من الأعداء جماعة وقتل آخرون ـ كانوا أجمعوا الهجوم على المسلمين مع بنى محارب وبنى أنمار.
58 ـ سرية الميفعة ـ رمضان 7 هجرية ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ أهل الميفعة ـ وقع اشتباك ـ كانوا حلفاء أهل خيبر.
59 ـ سرية خربة ـ فى رمضان 7 هجرية ـ أسامة بن زيد ـ أهل خربة ـ بينما أسامة وأصحابه يمشون فى الطريق إذ هبط إليهم رجل من الجبل فقتله أسامة بعد أن قال لا إله إلا الله.
60 ـ سرية بنى مرة ـ شوال 7 هجرية ـ 30 بشير بن سعد ـ بنو مرة بالقرب من فدك ـ وقع اشتباك كانوا حلفاء أهل خيبر.
61 ـ سرية بشير بن سعد الأنصارى ـ فى شوال 7 هجرية ـ 30 بشير بن سعد ـ بنو فزارة وعذرة ـ جرح جميع المسلمين وأسر منهم رجلان ـ كانت بنو فزارة وعذرة قد ساعدوا اليهود فى خيبر فبعثت إليهم هذه السرية للترويع.
62 ـ سرية ابن أبى العوجاء ـ 7 هجرية ـ 50 ـ ابن أبى العوجاء ـ بنو سليم ـ 1 ـ 49 ـ أصيب ابن أبى العوجاء بجرح واستشهد الباقون ـ قام المسلمون بحشد قواهم فى محالهم لأنهم كانوا يجمعون للإغارة على المدينة.
63 ـ سرية ذات أطلح ـ 8 هجرية ـ 15 ـ كعب بن عمير الأنصارى ـ أهالى ذات أطلح بنو قضاعة ـ 14 ـ استشهد المسلمون جميعاً وبرأ واحد منهم ـ كانوا يجمعون فى عدد كبير للإغارة على المسلمين فبعث إليهم كتيبة لتخوفيهم فاستشهد المسلمون جميعاً.
64 ـ سرية ذات عرق ـ فى ربيع الأول 8 هجرية ـ 25 ـ شجاع بن وهب الأسدى ـ بنو هوازن أهالى ذا عرق ـ كانت هوازن قد مدّوا يد المعونة لأعداء المسلمين مراراً ثم اجتمعوا على مشارف المدينة فاحتشد المسلمون لتخويفهم.
65 ـ سرية مؤنة ـ فى جمادى الأولى سنة 8 هجرية ـ 3000 ـ زيد بن حارثة ـ مائة ألف ـ شرحبيل الغسانى ـ 12 ـ لم نعرف عدد المفقودين ـ انتصر المسلمون ـ كان شرحبيل قد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعت لذلك الحرب وهزم ثلاثة آلاف مائة ألف.
66 ـ سرية ذات السلاسل ـ جمادى الآخرة 8 هجرية ـ 500 ـ عمرو بن العاص القرشى ـ بنو قضاعة ساكنوا السلاسل ـ هرب الأعداء بمظاهرة المسلمين ـ كانت قضاعة قد تجمعت للإغارة على المدينة.
67 ـ سرية سيف البحر ـ فى رجب 8 هجرية ـ 300 ـ أبو عبيدة ـ قريش ـ أقام المسلمون على الساحل أياماً ثم انصرفوا ـ كان الغرض من هذه السرية تشتيت همم قريش.
68 ـ سرية محارب ـ فى شعبان 8 هجرية ـ 15 ـ أبو قتادة الأنصارى ـ بنو غطفان ـ هرب العدو خائفاً وأصاب المسلمون أنعاماً ـ تجمع بنو غطفان بخضرة فأرسلت إليهم سرية مكونة من خمسة عشر رجلاً للاستطلاع.
69 ـ غزوة فتح مكة ـ رمضان 8 هجرية ـ 10000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قريش مكة ـ 2 ـ 12 ـ انتصر المسلمون ـ لم يتعرض للمسلمين أحد إلا كتيبة واحدة ثم دخل النبى صلى الله عليه وسلم مكة وجعل الناس كلهم طلقاء ولا تثريب عليهم.
70 ـ سرية خالد ـ فى رمضان 8 هجرية ـ خالد بن الوليد ـ الصنم العزى ـ كانت العزى صنم بنى كنانة فحطمها خالد رضى الله عنه.
71 ـ سرية عمرو بن العاص ـ 8 هجرية ـ عمرو بن العاس ـ الصنم سواع ـ كانت سواع صنم بنى هذيل فحطمها عمرو بن العاص رضى الله عنه.
72 ـ سرية سعد الأشهلى ـ رمضان 8 هجرية ـ سعد بن زيد الأشهلى الأنصارى ـ الصنم مناة ـ كانت مناة صنماً للأوس والخزرج فهدمها سعد الأشهلى رضى الله عنه.
73 ـ سرية خالد بن الوليد ـ شوال 8 هجرية ـ 350 ـ خالد بن الوليد ـ بنو جذيمة ـ 95 ـ قتل خمسة وتسعون رجلاً من بنى جذيمة ممن كانوا أسلموا فكره الرسول صلى الله عليه وسلم قتلهم وودى بهم الدية ـ كان خالد بن الوليد بعث داعياً وكانت بنو جذيمة قد أسلموا من قبل فشك خالد فى إسلامهم وقتل منهم رجالاً.
74 ـ غزوة حنين أو أوطاس أو هوازن ـ شوال 8 هجرية ـ 12000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثقيف وبنو هوازن وبنو معز وبنو أحسم ـ 6 ـ 6000 ـ 71 ـ انتصر المسلمون ـ أطلق النبى صلى الله عليه وسلم سراح جميع الأسرى وأعطاهم الكسوة كذلك.(2/19)
75 ـ غزوة الطائف ـ شوال 8 هجرية ـ 12000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثقيف ـ جمع كثير ـ 13 ـ جمع كثير ـ رجع النبى صلى الله عليه وسلم بعد محاصرة دامت شهراً ـ لما رفع النبى صلى الله عليه وسلم عنهم الحصار قدموا عليه وأسلموا.
76 ـ سرية عيينة بن حصن ـ فى محرم 9 هجرية ـ 150 ـ عيينى بن حصن الفزارى ـ قبيلة بنى تميم ـ 62 ـ تم القضاء على الثورة ـ قامت هذه القبيلة بإغراء القبائل التابعة لها ومنعتها عن أداء الجزية ولما خرج إليهم عيينى أسر منهم 11 رجلاً و21 امرأة و 20 ولداً فأطلقهم النبى صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه سيدهم.
77 ـ سرية قطبة بن عامر ـ فى صفر 9 هجرية ـ 20 ـ قطبة بن عامر ـ قبيلة خثم ـ أكثر من النصف ـ أكرهم ـ تفرقوا وانتشروا ـ كانوا يدبرون مؤامرة ضد المسلمين فجاء قطبة ببعضهم أسيراً فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
78 ـ سرية الضحاك ابن سفيان الكلابى ـ ربيع أول 9 هجرية ـ الضحاك رضى الله عنه ـ قبيلة بنى كلاب ـ بعث المسلمون إلى بنى كلاب داعين فاعترض لهم الكفار فوقع اشتباك.
79 ـ سرية عبد الله بن حذافة ـ ربيع أول 9 هجرية ـ 300 ـ عبد الله بن حذافة القرشى السهمى ـ القراصنة من الخثعميين ـ هربوا ـ كانوا قد اجتمعوا فى ساحل جدة يريدون الإغارة على مكة فتفرقوا حين رأوا هذه السرية.
80 ـ سرية بن طىء ـ 9 هجرية ـ 150 ـ على رضى الله عنه ـ بنى طىء ـ أسرت سفانة بنت حاتم وغيرها من الناس.
81 ـ غزوة تبوك ـ 9 هجرية ـ 3000 ـ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ هرقل قيصر الروم ـ قام النبى صلى الله عليه وسلم بالتجمع مع أصحابه وأرهب الأعداء ثم رجع إلى المدينة.
82 ـ سرية دومة الجندل ـ 420 ـ خالد بن الوليد ـ أكيدر أمير دومة الجندل ـ أسر أكيدر وقتل أخوه ـ أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح أكيدر وعقد الحلف مع حكومات نصرانية أخرى.
000000000000000000
(1) الأنبياء: 107.
(2) آل عمران: 71.
(3) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص 166 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(4) غوستاف لوبون حضارة العرب ص 128 ، 129 ط الهيئة المصرية للكتاب.
(5) البقرة: 190-191.
(6) البقرة: 192، 193.
(7) البقرة: 216.
(8) البقرة: 217.
(9) آل عمران: 146.
(10) آل عمران: 169.
(11) آل عمران: 195.
(12) ، (13) النساء: 74 ، 75.
(14) النساء: 90.
(15) الأنفال: 7ـ8.
(16) الأنفال: 17.
(17) الأنفال: 39.
(18) الأنفال: 47.
(19) الأنفال: 61.
(20) الأنفال: 70.
(21) التوبة: 5ـ6.
(22) التوبة: 111.
(23) الحج: 39-40.
(24) رواه مسلم ـ كتاب الإمارة ـ باب فضل الجهاد والخروج فى سبيل الله.
(25) رواه أبو داود فى سننه ـ كتاب الخراج والإمارة والفئ ـ باب ما جاء فى خبر الطائف.
(26) رواه الحاكم فى مستدركه ـ كتاب معرفة الصحابة رضى الله عنهم ـ ذكر إسلام أمير المؤمنين على ـ رضى الله عنه ـ.
(27) رواه البخارى ـ كتاب التفسير ـ باب قول الله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (.
(28) مصنف عبد الرازق ـ كتاب الجهاد ـ باب الرجل يغزو وأبوه كاره.
(29) الحج: 40.
(30) القرطبى ج 12 تفسير سورة الحج.
(31) تاريخ ابن خلدون 1 / 226 فصل فى الحروب ومذاهب الأمم فى ترتيبها.
(32) سفر العدد ـ الإصحاح الثالث عشر ـ الآيات: 26-29.
(33) سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الخامس والعشرون آية 10-14.
(34) سفر الملوك الثانى ـ الإصحاح الثالث ، الآيات 4 ـ 8.
(35) سفر حزقيال ـ أصحاح 21 آيات 1 ـ5.
(36) سفر يوشع ـ الإصحاح الثالث والعشرون ـ الآيات 3ـ5.
(37) سفر القضاة ـ الإصحاح الثامن عشر ـ الآيات 27ـ30.
(38) سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الرابع ، الآيات 1ـ4.
(39) سفر التكوين ـ الإصحاح الرابع والثلاثون ـ الآيات 25ـ29.
(40) سفر التكوين ـ الإصحاح الرابع عشر ـ الآيات 14 ـ 16.
(41) سفر العدد ـ الإصحاح الواحد والعشرون الآيتان 34ـ35.
(42) سفر العدد ـ الإصحاح الخامس والعشرون الآية 16.
(43) الإصحاح الثالث والثلاثون الآيات 50ـ53.
(44) سفر صموئيل ـ الإصحاح السابع عشر الآيات 45ـ47.
(45) سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الثالث والعشرون الآية 6.
(46) سفر المزامير ـ المزمور الثامن عشر الآيات 35-41.
(47) سفر حزقيال الإصحاح الواحد والعشرون آية 5.
(48) إنجيل متى ـ الإصحاح العاشر آية 34-36.
(49) رواه أحمد وأبو داود.
(50) سبائك الذهب 443.
(51) شرح المعلقات السبع للزوزنى ص 83 ، ط مصطفى الحلبى.
(52) الزخرف: 89.
(53) الحج: 39-40.
(54) السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة لمحمد فريد وجدى ص 164 ، 163 بتصرف.
(55) الأنفال: 61.
(56) السيرة النبوية لمحمد فريد وجدى 165 ، 166.
(57) سبائك الذهب ص 120 ط دار الكتب العلمية ، موسوعة القبائل العربية لمحمد سليمان الطيب 1 / 51 دار الفكر العربى.
(58) فتح البارى 6 / 543 دار المعرفة ـ بيروت.
(59) فتح البارى 7 / 424.
(60) تاريخ الأدب الجاهلى د. على الجندى 472.(2/20)
(61) رحمة للعالمين للمنصور فورى ص 462.
(62) فى تاريخ الأدب الجاهلى 473.
(63) رحمة للعالمين للمنصور فورى ص 462.
(64) سبائك الذهب 8.
(65) تاريخ الأدب الجاهلى ص 470.
(66) رحمة للعالمين المنصور فوزى ص 462.
(67) سبائك الذهب 87.
(68) تاريخ الأدب الجاهلى ص 466.
(69) رحمة للعالمين للمنصور فورى ص 463.
(70) سبائك الذهب 295 ، تاريخ الأدب الجاهلى ص 467.
(71) رحمة للعالمين ص 463.
(72) تاريخ الدولة الأموية للشيخ محمد الخضرى ص 156.
(73) رحمة للعالمين ص 463.
(74) سبائك الذهب ص 256 ، تاريخ الأدب الجاهلى ص 467.
(75) رحمة للعالمين ص 463.
(76) سبائك الذهب ص 127.
(77) سبائك الذهب ص 126.
(78) تاريخ الأدب الجاهلى ص 467.
(79) رحمة للعالمين ص 463.
(80) سبائك الذهب ص 148 ، تاريخ الأدب الجاهلى ص 473.
(81) سبائك الذهب ص 124 ، وتاريخ الأدب الجاهلى ص 473.
(82) سبائك الذهب ص 85 ، 86 ، تاريخ الأدب الجاهلى ص 470.
(83) سبائك الذهب رقم 147 ، 148 ، تاريخ الأدب الجاهلى ص 473.
(84) تاريخ الدولة الأموية الشيخ محمد الخضرى بك ص 32 ، 33 ، ط دار القلم ، بيروت.
(85) السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة الأستاذ محمد فريد وجدى ص 162 ، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(86) رحمة للعالمين ص 469.
(87) الأنفال: 58.
(88) تفسير ابن كثير 2 / 321.
(89) الفكر الإسلامى فى تطوير مصادر المياه والطاقة ، د. سيد وقار أحمد حسينى ـ عالم زائر فى جامعة ستانفورد 71-75 ، ترجمة د. سمية زكريا زيتونى طبعة: فصلت للدراسات والترجمة والنشر.
and m rg nc of a Muslim Soci ty in Richard W. bulli t, Conv rsion of Islam M i r & d. N h mia L vtzion (N w York Holm s Iran in Conv rsion to Islam, (Publ., Inc, 1979) Pp. 30-51, p31 for fig 1.1
=================
هل الإسلام مسئول عن تخلف المسلمين ؟
الرد على الشبهة:
1 ـ حقائق التاريخ تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام قد استطاع بعد فترة زمنية قصيرة من ظهوه أن يقيم حضارة رائعة كانت من أطول الحضارات عمرًا فى التاريخ. ولا تزال الشواهد على ذلك ماثلة للعيان فيما خلفه المسلمون من علم غزيز فى شتى مجالات العلوم والفنون ، وتضم مكتبات العالم آلافًا مؤلفة من المخطوطات العربية الإسلامية تبرهن على مدى ما وصل إليه المسلمون من حضارة عريقة. يضاف إلى ذلك الآثار الإسلامية المنتشرة فى كل العالم الإسلامى والتى تشهد على عظمة ما وصلت إليه الفنون الإسلامية.
وحضارة المسلمين فى الأندلس وما تبقى من معالمها حتى يومنا هذا شاهد على ذلك فى أوروبا نفسها. وقد قامت أوروبا بحركة ترجمة نشطة فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر لعلوم المسلمين. وكان ذلك هو الأساس الذى بنت عليه أوروبا حضارتها الحديثة.
2 ـ يشتمل القرآن الكريم على تقدير كبير للعلم والعلماء وحث على النظر فى الكون ودراسته وعمارة الأرض. والآيات الخمس الأولى التى نزلت من الوحى الإلهى تنبه إلى أهمية العلم والقراءة والتأمل (1). وهذا أمر كانت له دلالة هامة انتبه إليها المسلمون منذ البداية. وهكذا فإن انفتاح الإسلام على التطور الحضارى بمفهومه الشامل للناحيتين المادية والمعنوية لا يحتاج إلى دليل.
3 ـ أما تخلف المسلمين اليوم فإن الإسلام لا يتحمل وزره ، لأن الإسلام ضد كل أشكال التخلف. وعندما تخلف المسلمون عن إدراك المعانى الحقيقية للإسلام تخلفوا فى ميدان الحياة. ويعبر مالك بن نبى ـ المفكر الجزائرى الراحل ـ عن ذلك تعبيرًا صادقًا حين يقول: " إن التخلف الذى يعانى منه المسلمون اليوم ليس سببه الإسلام ، وإنما هو عقوبة مستحقة من الإسلام على المسلمين لتخليهم عنه لا لتمسكهم به كما يظن بعض الجاهلين ". فليست هناك صلة بين الإسلام وتخلف المسلمين.
4 ـ لا يزال الإسلام وسيظل منفتحًا على كل تطور حضارى يشتمل على خير الإنسان. وعندما يفتش المسلمون عن الأسباب الحقيقية لتخلفهم فلن يجدوا الإسلام من بين هذه الأسباب ، فهناك أسباب خارجية ترجع فى جانب كبير منها إلى مخلفات عهود الاستعمار التى أعاقت البلاد الإسلامية عن الحركة الإيجابية ، وهذا بدوره ـ بالإضافة إلى بعض الأسباب الداخلية ـ أدى أيضًا إلى نسيان المسلمين للعناصر الإيجابية الدافعة لحركة الحياة فى الإسلام.
5 ـ لا يجوز الخلط بين الإسلام والواقع المتدنى للعالم الإسلامى المعاصر. فالتخلف الذى يعانى منه المسلمون يُعد مرحلة فى تاريخهم ، ولا يعنى ذلك بأى حال من الأحوال أنهم سيظلون كذلك إلى نهاية التاريخ. ولا يجوز اتهام الإسلام بأنه وراء هذا التخلف ، كما لا يجوز اتهام المسيحية بأنها وراء تخلف دول أمريكا اللاتينية.
إن الأمانة العلمية تقتضى أن يكون الحكم على موقف الإسلام من الحضارة مبنيًّا على دراسة موضوعية منصفة لأصول الإسلام وليس على أساس إشاعات واتهامات وأحكام مسبقة لا صلة لها بالحقيقة.
================(2/21)
هل صحيح أن الصوم يقلل حركة الإنتاج ؟
الرد على الشبهة:
1 ـ الصوم من العبادات التى لم ينفرد بها الإسلام. فقد أخبر القرآن الكريم أن الصوم كان مفروضًا أيضًا على الأمم السابقة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) (1). ولا تزال هناك ديانات أخرى حتى يومنا هذا تَعرِف شعيرة الصوم. ولكن هناك فرقًا واضحًا بين الصوم فى الإسلام والصوم فى غيره من الديانات. ويتمثل هذا الفرق فى أن الصوم فى الإسلام يأتى فى شهر معين من العام طبقًا للتقويم الهجرى ، ويبدأ صيام كل يوم بالامتناع التام عن الطعام والشراب وعن كل الشهوات من طلوع الفجر حتى غروب الشمس. وهذا يعنى أن المسلم يقضى نهار يومه كله ـ وهو وقت العمل المعتاد ـ وهو صائم على النحو المشار إليه. ولعل هذا هو السبب الذى من أجله يتوهم البعض أن الصوم الإسلامى بهذه الطريقة يقلل حركة الإنتاج لدى الفرد والمجتمع.
2 ـ والصوم فى حقيقة الأمر برئ من هذه التهمة. فالصوم يفترض فيه أنه يعمل على تصفية النفوس والتسامى بالأرواح. وهذا من شأنه أن يمد الفرد بطاقة روحية تجعله أقدر على الإنتاج والعمل أكثر مما لو لم يكن صائمًا. وهذه الطاقة الروحية قوة لا يستهان بها. وقد حارب المسلمون فى غزوة بدر أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وهم صائمون وانتصروا ، وحارب الجنود المصريون عام 1973م وهم صائمون حيث كان ذلك فى شهر رمضان وانتصروا. ولم يقلل الصوم من نشاطهم ، بل كان العكس هو الصحيح تمامًا.
3 ـ ما نراه فى بعض البلاد الإسلامية من قلة الإنتاج فى شهر الصوم يرجع إلى أسباب أخرى غير الصوم. فمن عادة الكثيرين أن يظلوا متيقظين فى شهر الصوم معظم الليل. ولا يأخذون قسطًا كافيًا من النوم ، فنجدهم ـ نظرًا لذلك ـ متعبين أثناء النهار. ومن هنا يقل إنتاجهم ، ويقبلون على أعمالهم ببطء وفى تثاقل. ويعتذرون عن ذلك بأنهم صائمون. وقد يكون اعتذارهم هذا فى أول النهار. فلو كان للصوم أى تأثير على النشاط ـ كما يزعمون ـ فإن ذلك لا يكون فى أول النهار ، بل يكون فى فترة متأخرة منه.
4 ـ لقد ثبت أن للصوم فوائد كثيرة صحية وروحية واجتماعية وتربوية. فالمفروض أنه فرصة سنوية للمراجعة والتأمل والتقييم والنقد الذاتى على المستويين الفردى والاجتماعى بهدف القضاء على السلبيات والتخلص من الكثير من الأمراض الاجتماعية ، وهذا من شأنه أن يدفع حركة المجتمع بخطى أسرع ، وبإخلاص أكثر ، وبوعى أفضل.
================
لماذا حرّم الإسلام الحرير والذهب على الرجال ؟
الرد على الشبهة:
1 ـ يعتمد القول بتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب للرجال فى الإسلام على العديد من المرويات عن النبى صلى الله عليه وسلم ـ كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء ـ وتتلخص وجهة نظرهم فى أن من طبيعة الرجل الصلابة والقوة. والإسلام يريد أن يتربى الرجال بعيدًا عن مظاهر الضعف ، وبعيدًا أيضًا عن مظاهر الترف الذى يحاربه الإسلام ويعده مظهرًا من مظاهر الظلم الاجتماعى ، وذلك حتى يكون الرجل قادرًا على الكفاح والانتصار فى معارك الحياة وميادين القتال أيضًا إذا اقتضى الأمر. ولما كان التزين بالذهب وارتداء الحرير يُعدان من مظاهر الترف فقد حرمهما الإسلام على الرجال. ولكنه أباحهما للمرأة مراعاة لمقتضى أنوثتها وما فطرت عليه من حب للزينة (1).
2 ـ وعلى الرغم من هذا التحريم فإنه إذا كانت هناك ضرورة صحية تقضى بلبس الرجل للحرير فإن الإسلام يبيح له ذلك ولا يمنعه. فقد أذن النبى صلى الله عليه وسلم لكل من عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام فى لبس الحرير لأنهما كانا يشكوان من حكة فى جسمهما (2).
3 ـ وقد ذهب الإمام الشوكانى (توفى حوالى عام 1840م) فى كتابه الشهير " نيل الأوطار " إلى القول بأن أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى النهى عن لبس الحرير تدل على الكراهية فقط وليس على التحريم. والكراهية هنا درجة أخف من التحريم. ويقوى الشوكانى رأيه هذا بأن هناك ما لا يقل عن عشرين صحابيًّا منهم أنس والبراء بن عازب قد لبسوا الحرير. ومن غير المعقول أن يقدم هؤلاء الصحابة على ما هو محرّم ، كما يبعد أيضًا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه (3).
4 ـ أما التختم بالذهب أى اتخاذه كخاتم ونحوه للرجال فقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريمه أيضًا اعتمادًا على بعض الأحاديث النبوية. ولكن هناك جماعة من العلماء ذهبوا إلى القول بكراهة التختم بالذهب للرجال كراهة تنزيه فقط. وكراهة التنزيه بعيدة عن التحريم وقريبة من الإباحة أو الجواز ، واعتمدوا فى ذلك أيضًا على أن هناك عددًا من الصحابة قد تختموا بالذهب منهم سعد بن أبى وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وصهيب ، وحذيفة ، وجابر بن سمرة ، والبراء بن عازب. الذين فهموا أن النهى للتنزيه وليس للتحريم (4).
-------------
(1) راجع: الحلال والحرام فى الإسلام للدكتور القرضاوى ص 80 وما بعدها ـ الدوحة ـ قطر 1978م.(2/22)
(2) راجع: نيل الأوطار للشوكانى ج2 ص81 ـ دار الجيل ، بيروت 1973م.
(3) نيل الأوطار ج2 ص73 وما بعدها. راجع أيضًا: فقه السنة للشيخ سيد سابق ج3 ص 481 وما بعدها. بيروت 1971م.
(4) راجع: فقه السنة للشيخ سيد سابق ـ المجلد الثالث ص 482 وما بعدها ، 488 وما بعدها.
=================
هل تحريم زواج المسلمة بغير المسلم يُعد نزعة عنصرية ؟
الرد على الشبهة:
1 ـ صحيح أن الإسلام يجيز زواج المسلم من غير المسلمة (مسيحية أو يهودية) ولا يجيز زواج المسلمة من غير المسلم. وللوهلة الأولى يُعد ذلك من قبيل عدم المساواة ، ولكن إذا عرف السبب الحقيقى لذلك انتفى العجب ، وزال وَهْمُ انعدام المساواة. فهناك وجهة نظر إسلامية فى هذا الصدد توضح الحكمة فى ذلك. وكل تشريعات الإسلام مبنية على حكمة معينة ومصلحة حقيقية لكل الأطراف.
2 ـ الزواج فى الإسلام يقوم على " المودة والرحمة " والسكن النفسى. ويحرص الإسلام على أن تبنى الأسرة على أسس سليمة تضمن الاستمرار للعلاقة الزوجية. والإسلام دين يحترم كل الأديان السماوية السابقة ويجعل الإيمان بالأنبياء السابقين جميعًا جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية. وإذا تزوج مسلم من مسيحية أو يهودية فإن المسلم مأمور باحترام عقيدتها ، ولا يجوز له ـ من وجهة النظر الإسلامية ـ أن يمنعها من ممارسة شعائر دينها والذهاب من أجل ذلك إلى الكنيسة أو المعبد. وهكذا يحرص الإسلام على توفير عنصر الاحترام من جانب الزوج لعقيدة زوجته وعبادتها. وفى ذلك ضمان وحماية للأسرة من الانهيار.
3 ـ أما إذا تزوج غير مسلم من مسلمة فإن عنصر الاحترام لعقيدة الزوجة يكون مفقودًا. فالمسلم يؤمن بالأديان السابقة ، وبأنبياء الله السابقين ، ويحترمهم ويوقرهم ، ولكن غير المسلم لا يؤمن بنبى الإسلام ولا يعترف به ، بل يعتبره نبيًّا زائفًا وَيُصَدِّق ـ فى العادة ـ كل ما يشاع ضد الإسلام وضد نبى الإسلام من افتراءات وأكاذيب ، وما أكثر ما يشاع.
وحتى إذا لم يصرح الزوج غير المسلم بذلك أمام زوجته فإنها ستظل تعيش تحت وطأة شعور عدم الاحترام من جانب زوجها لعقيدتها. وهذا أمر لا تجدى فيه كلمات الترضية والمجاملة. فالقضية قضية مبدأ. وعنصر الاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة أساس لاستمرار العلاقة الزوجية.
4 ـ وقد كان الإسلام منطقيًّا مع نفسه حين حرّم زواج المسلم من غير المسلمة التى تدين بدين غير المسيحية واليهودية ، وذلك لنفس السبب الذى من أجله حرّم زواج المسلمة بغير المسلم.
فالمسلم لا يؤمن إلا بالأديان السماوية وما عداها تُعد أديانًا بشرية. فعنصر التوقير والاحترام لعقيدة الزوجة فى هذه الحالة ـ بعيدًا عن المجاملات ـ يكون مفقودًا. وهذا يؤثر سلبًا على العلاقة الزوجية ، ولا يحقق " المودة والرحمة " المطلوبة فى العلاقة الزوجية.
==================
قضية الحِجاب
الرد على الشبهة:
السياق القرآنى لآية الخمار يبين أن العلة هى العفاف وحفظ الفروج ، حيث يبدأ بالحديث عن تميز الطيبين والطيبات عن الخبيثين والخبيثات.. وعن آداب دخول بيوت الآخرين ، المأهول منها وغير المأهول.. وعن غض البصر.. وحفظ الفروج ، لمطلق المؤمنين والمؤمنات..وعن فريضة الاختمار ، حتى لا تبدو زينة المرأة ـ مطلق المرأة ـ إلا لمحارم حددتهم الآية تفصيلاً. فالحديث عن الاختمار حتى فى البيوت ، إذا حضر غير المحارم.. ثم يواصل السياق القرآنى الحديث عن الإحصان بالنكاح (الزواج) وبالاستعفاف للذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله:(2/23)
(الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم * يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تَذكَّرون * فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم * ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون * قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون * وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم * وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذى آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) (1).
فنحن أمام نظام إسلامى ، وتشريع إلهى مفصل ، فى العفة وعلاقتها بستر العورات عن غير المحارم. وهو تشريع عام ، فى كل مكان توجد فيه المرأة مع غير محرم.
بل إن ذات السورة ـ (النور) تستأنف التشريع لستر العورات داخل البيوت ـ نصاً وتحديداً ـ فتقول آياتها الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاثُ عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوّافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم * وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم * والقواعد من النساء اللاتى لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ) (2).
فنحن أمام تشريع لستر العورات ، حتى داخل البيوت ، عن غير المحارم ـ الذين حددتهم الآيات ـ ومنهم الصبيان إذا بلغوا الحلم.. فحيث أمر الله بالعفاف وحرم الزنا وأقر الزواج وأباح إمكانية التعدد فكان لابد لكمال التشريع من الأمر بدرء ما يوصل إلى عكس ذلك كله فأمر بالحجاب وبغض البصر وبعدم الخلوة وهو أَمْرٌ له سبحانه فى كل دين.
=================
حد الزنا في الإسلام
الرد على الشبهة:
إن جريمة الزنا لهى من أقذر الجرائم حتى أنكرها كل دين ، بل وأنكرها العقلاء والراشدون من الناس ، كما أنكرها أصحاب المدنية الغربية جهرًا وإن قبلوها سرًا وذلك لما فيها من عدوان على حقوق الأزواج ومن اختلاط للأنساب وحل لروابط الأسرة وقتل لما فى قلوب الآباء من عطف وحنان على الأبناء ، ورعاية وبذلٍ سخى لهم بما يبلغ حد التضحية بالراحة والنفس ، الأمر الذى لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء وذلك لا يكون إلا إذا وقع فى قلوب الآباء وقوعًا محققًا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم.
ثم لعلك لا تعجب لما تقرأ من الأخبار الواردة إلينا من أمريكا وأوروبا عن آباء قتلوا أولادهم بأيديهم وأتوا على الأسرة كلها فى لحظة واحدة دون أن ينبض فيهم شعور بالتردد قبل الجريمة أو الندم بعدها ، وذلك شفاء لما فى نفوسهم من شكوك فى صحة نسب هؤلاء الأبناء إليهم حتى لقد تحولت هذه الشكوك إلى عواطف من الجنون الذى أفقد هؤلاء الآباء كل شعور إنسانى نحو الأبناء المشكوك فى نسبهم ، وهيهات أن يخلو شعور أوروبى من الشك فى نسبة أبنائه إليه مع هذه الإباحية المطلقة للجمع بين النساء والرجال فى أى مكان وأى زمان.
فإن أراد الإسلام أن يحارب هذه الجريمة برصد هذه العقوبة الرادعة ـ الرجم للمحصن ، والجلد لغير المحصن ـ كان ذلك عند أعداء الإسلام تهمة شنيعة يرمونه بها ويحاكمونه عليها ليخرجوه من حدود الإنسانية المتحضرة إلى عالم سكان الأدغال ورعاة الإبل والشياه فى الصحارى.
ويقولون: كيف يحكم الإسلام بإهدار آدمية الإنسان حتى يأمر بجلده على مرائى ومسمع من الناس ؟ ثم كيف تصل الوحشية فى قسوتها إلى أن يُلقى بالإنسان فى حفرة ثم تتناوله الأيدى رجماً بالحجارة إلى أن يموت.
هكذا يقولون (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ) (1).(2/24)
ولا ننكر أن فى شريعة الإسلام حكم الجلد والرجم يقول الله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ] (3).
والنظام الإسلامى كل متكامل لا تفهم جزئياته إلا فى نسق واحد.
فإن الإسلام قد حرّم النظر إلى " الأجنبيات " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه إيماناً يجد حلاوته فى قلبه ] (4). وكذلك أمر النساء ألا يظهرن الزينة إلا للأزواج أو الأقارب من الصلب الذين لا يُخشى منهم فتنة.قال الله تعالى: (يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ) (5) ، وقال:
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) (6). وأمر أيضاً ألا يختلى رجل بامرأة لا تحل له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما ].
وحرم أيضاً أن يمس الرجل امرأة لا تحل له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ لئن تضرب بمخيط فى رأسك فتدمى به رأس خير لك من أن تمس امرأة لا تحل لك ]. وقبل هذا كله فقد استطاع الإسلام أن يربى الضمير فى الرجل والمرأة على حد سواء على ضوء ما جاء فى قصة ماعزو الغامدية.
والإسلام كذلك حض الشباب على إخراج هذه الشهوة فى منفذها الشرعى بالزواج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ] (7) أى قاطع للشهوة.
وكذلك رخص للرجل أن يتزوج بامرأة واحدة أو اثنين أو ثلاثة أو أربع مادام يملك النفقة ويستطيع العدل.
وأمر أولياء الأمور أن لا يغالوا فى مهور بناتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير ] (8). وأمر الأغنياء أن يساعدوا الشباب فى نفقات الزواج. وقد قام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بتزويج الشباب والفتيات من بيت مال المسلمين.
هذا كله هو بعض ملامح الإسلام فى تيسير أمر إخراج هذه الشهوة بطريق مشروع ، والحقيقة أن مثل هذه الشنيعة لا تحصل فى المجتمع المسلم ـ الذى تسوده الفضيلة ـ إلا بعد تدبير عظيم من كلا الطرفين يدل على إجرام كلا الطرفين ولكن مع كل هذا فإن شريعة الإسلام قد وضعت شروط من الصعب جدًا توافرها قبل إيقاع العقوبة.
فإن لم تتوفر مجتمعة لا يقام الحد على صاحب هذه الفعلة جلداً كان أو رجماً وهذه هى الشروط:
1 ـ لابد حتى تثبت الجريمة من شهادة أربعة شهود عدول يشهدون بأنهم رأوا من الرجل والمرأة ما يكون بين الرجل وزوجته من اتصال مباشر ، الأمر الذى لا يكاد يراه أحدٌ من البشر.
وكأن الشريعة لا ترصد هذه العقوبة على هذه الفعلة بوصفها ولكنها ترصدها على شيوع هذه الفعلة على الملأ من الناس بحيث لا يبغى بين الناس من يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
2 ـ إن الشريعة الإسلامية تقرر درء الحدود بالشبهات بمعنى أن أى شك فى شهادة الشهود يفسر لصالح المتهم فيسقط بذلك الحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ادرءوا الحدود بالشبهات ] (9).
3 ـ فرضت الشريعة عقوبة الجلد ثمانين جلدة على من قذف محصنة ثم لم يأت بأربعة يشهدون بأنهم رأوا منها ومن المقذوف بها ما يكون بين الزوج وزوجته قال الله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون ) (10).
4 ـ رغبت الشريعة الإسلامية فى التستر على عورات المسلمين وإمساك الألسنة عن الجهر بالفواحش وإن كانت وقعت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ لرجل جاء يشهد: هلا سترتهما بثوبك ] يقول الله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (11).
أبعد هذا كله يتخرص متخرص ويقول: إن الإسلام يظلم الإنسان ويهدر أدميته حين يأخذ أولئك الذين يأتون الفاحشة على أعين بما يأخذهم به من جلد بالسياط. وفضح بين الملأ من الناس.
أفلا يسأل هؤلاء المتخرصون أنفسهم ماذا يبقى للإنسان من آدميته وكرامته إذا تركت هذه الفاحشة يعالى بها بعض الآدميين من غير استحياء ثم لا يضرب على أيديهم أحد. إن إنساناً توفرت له كل هذه الميسرات وتجرأ على الترتيب لهذه الفعلة الشنيعة. ثم افتضح حاله حين يراه هذا العدد فى هذا الوضع. إن إنساناً فى مثل هذا الحال لهو إنسان مفسد ضال مضل ولو لم يتم بتره أو تربيته فإن هذا يشكل خطراً على المجتمع كله.(2/25)
والمتحدثون عن حقوق الإنسان يقولون لا بأس من أن يحبس قترة من الزمن ثم يخرج لكى يمارس عمله ولا يعلمون أن مثل هذا الحبس سوف يمكنه من أن يخالط من هو أجرم منه ليتعلم منه ويعلمه ويخرجان إلى المجتمع بعد أن أصبحا إمامين فى الضلال ليضلا الناس عن طريق رب الناس وهذا هو المشاهد.
فضلاً عن الذى يترتب على الحد من تكفير لهذا الذنب.
وإن المتتبع لا يجد هذه العقوبة قد نفذت " حال تنفيذ العقوبات " إلا فى أعداد محدودة ولا ضرر فى هذا مادام قد وفر الأمن والاستقرار للمجتمع.
---------------------
(1) الكهف: 5.
(2) النور: 2.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه الحاكم فى المستدرك.
(5) الأحزاب: 59.
(6) النور: 31.
(7) رواه البخارى.
(8) رواه ابن ماجه.
(9) رواه الترمذى.
(10) النور: 4.
(11) النور: 19.
===================
الرجال قوَّامون على النساء
الرد على الشبهة:
فى المدينة المنورة نزلت آيات " القوامة " قوامة الرجال على النساء.. وفى ظل المفهوم الصحيح لهذه القوامة تحررت المرأة المسلمة من تقاليد الجاهلية الأولى ، وشاركت الرجال فى العمل العام مختلف ميادين العمل العام على النحو الذى أشرنا إلى نماذجه فى القسم الأول من هذه الدراسة ؛ فكان مفهوم القوامة حاضراً طوال عصر ذلك التحرير.. ولم يكن عائقاً بين المرأة وبين هذا التحرير..
ولحكمة إلهيةِ قرن القرآن الكريم فى آيات القوامة بين مساواة النساء للرجال وبين درجة القوامة التى للرجال على النساء ، بل وقدم هذه المساواة على تلك الدرجة ، عاطفاً الثانية على الأولى ب " واو " العطف ، دلالة على المعية والاقتران.. أى أن المساواة والقوامة صنوان مقترنان ، يرتبط كل منهما بالآخر ، وليسا نقيضين ، حتى يتوهم واهم أن القوامة نقيض ينتقص من المساواة..
لحكمة إلهية جاء ذلك فى القرآن الكريم ، عندما قال الله سبحانه وتعالى فى الحديث عن شئون الأسرة وأحكامها:
(ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ) (1).
وفى سورة النساء جاء البيان لهذه الدرجة التى للرجال على النساء فى سياق الحديث عن شئون الأسرة ، وتوزيع العمل والأنصبة بين طرفى الميثاق الغليظ الذى قامت به الأسرة الرجل والمرأة فإذا بآية القوامة تأتى تالية للآيات التى تتحدث عن توزيع الأنصبة والحظوظ والحقوق بين النساء وبين الرجال ، دونما غبن لطرف ، أو تمييز يخل بمبدأ المساواة ، وإنما وفق الجهد والكسب الذى يحصِّل به كل طرف ما يستحق من ثمرات..(ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليماً * ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيداً * الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم..) (2).
ولقد فقه حبر الأمة ، عبد الله بن عباس [ 3ق هجرية 68 هجرية / 619 687م ] الذى دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أن يفقهه فى الدين فهم الحكمة الإلهية فى اقتران المساواة بالقوامة ، فقال فى تفسيره لقول الله ، سبحانه وتعالى -:(ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف) تلك العبارة الإنسانية ، والحكمة الجامعة: " إننى لأتزين لامرأتى ، كما تتزين لى ، لهذه الآية " !
وفهم المسلمون قبل عصر التراجع الحضارى ، الذى أعاد بعضاً من التقاليد الجاهلية الراكدة إلى حياة المرأة المسلمة مرة أخرى ? أن درجة القوامة هى رعاية رُبّان الأسرة الرجل لسفينتها ، وأن هذه الرعاية هى مسئولية وعطاء.. وليست ديكتاتورية ولا استبدادا ينقص أو ينتقص من المساواة التى قرنها القرآن الكريم بهذه القوامة ، بل وقدمها عليها..
ولم يكن هذا الفهم الإسلامى لهذه القوامة مجرد تفسيرات أو استنتاجات ، وإنما كان فقهاً محكوماً بمنطق القواعد القرآنية الحاكمة لمجتمع الأسرة ، وعلاقة الزوج بزوجه.. فكل شئون الأسرة تُدار ، وكل قراراتها تُتَّخذ بالشورى ، أى بمشاركة كل أعضاء الأسرة فى صنع واتخاذ هذه القرارات ، لأن هؤلاء الأعضاء مؤمنون بالإسلام والشورى صفة أصيلة من صفات المؤمنين والمؤمنات (والذين يجتنبون كبائرالإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون *والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون) (3).(2/26)
فالشورى واحدة من الصفات المميزة للمؤمنين والمؤمنات ، فى كل ميادين التدبير وصناعة القرار.. والأسرة هى الميدان التأسيسى والأول فى هذه الميادين.. تجبُ هذه الشورى ، ويلزم هذا التشاور فى مجتمع الأسرة ? لتتأسس التدابير والقرارات على الرضا ، الذى لا سبيل إليه إلا بالمشاركة الشورية فى صنع القرارات.. يستوى فى ذلك الصغير والخطير من هذه التدابير والقرارات.. حتى لقد شاءت الحكمة الإلهية أن ينص القرآن الكريم على تأسيس قرار الرضاعة للأطفال - أى سقاية المستقبل وصناعة الغد على الرضا الذى تثمره الشورى.. ففى سياق الآيات التى تتحدث عن حدود الله فى شئون الأسرة.. تلك الحدود المؤسسة على منظومة القيم.. والمعروف.. والإحسان.. ونفى الجُناح والحرج.. وعدم المضارة والظلم والعدوان.. والدعوة إلى ضبط شئون الأسرة بقيم التزكية والطهر ، لا " بترسانة " القوانين الصماء !.. فى هذا السياق ينص القرآن الكريم على أن تكون الشورى هى آلية الأسرة فى صنع كل القرارات: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) (4).
هكذا فهم المسلمون معنى القوامة.. فهى مسئولية وتكاليف للرجل ، مصاحبة لمساواة النساء بالرجال.. وبعبارة الإمام محمد عبده: " إنها تفرض على المرأة شيئاً وعلى الرجل أشياء ".
وكانت السنة النبوية فى عصر البعثة البيان النبوى للبلاغ القرآنى فى هذا الموضوع.. فالمعصوم صلى الله عليه وسلم الذى حمّله ربه الحمل الثقيل فى الدين.. والدولة.. والأمة.. والمجتمع - (إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً ) (5). هو الذى كان فى خدمة أهله - أزواجه - وكانت شوراهن معه وله صفة من صفات بيت النبوة ، فى الخاص والعام من الأمور والتدابير.. ويكفى أن هذه السنة العملية قد تجسدت تحريراً للمرأة ، شاركت فيه الرجال بكل ميادين الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.. وحتى القتال.. كما كان صلى الله عليه وسلم دائم التأكيد على التوصية بالنساء خيراً..فحريتهن حديثة العهد ، وهن قريبات من عبودية التقاليد الجاهلية ، واستضعافهن يحتاج إلى دوام التوصية بهن والرعاية لهن.. وعنه صلى الله عليه وسلم تروى أقرب زوجاته إليه عائشة رضى الله عنها: " إنما النساء شقائق الرجال " رواه أبو داود والترمذى والدارمى والإمام أحمد وعندما سئلت:
ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل فى بيته ؟
قالت: " كان بشراً من البشر ، يغلى ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه " رواه الإمام أحمد يفعل ذلك ، وهو القَوَّام على الأمة كلها ، فى الدين والدولة والدنيا جميعاً !..وفى خطبته صلى الله عليه وسلم بحجة الوداع [ 10 هجرية / 632 م ] وهى التى كانت إعلانا عالميا خالداً للحقوق والواجبات الدينية والمدنية ? كما صاغها الإسلام أفرد صلى الله عليه وسلم للوصية بالنساء فقرات خاصة ، أكد فيها على التضامن والتناصر بين النساء والرجال فى المساواة والحقوق والواجبات فقال: " ألا واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عوان عندكم ، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً.. فاتقوا الله فى النساء ، واستوصوا بهن خيراً ، ألا هل بلغت !. اللهم فاشهد " (6).
هكذا فُهمت القوامة فى عصر التنزيل.. فكانت قيادة للرجل فى الأسرة ، اقتضتها مؤهلاته ومسئولياته فى البذل والعطاء.. وهى قيادة محكومة بالمساواة والتناصر والتكافل بين الزوج وزوجه فى الحقوق والواجبات ومحكومة بالشورى التى يسهم بها الجميع ويشاركون فى تدبير شئون الأسرة.. هذه الأسرة التى قامت على " الميثاق الغليظ " ميثاق الفطرة والذى تأسس على المودة والرحمة ، حتى غدت المرأة فيها السكن والسكينة لزوجها حيث أفضى بعضهم إلى بعض ، هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن ، فهى بعض الرجل والرجل بعض منها:(بعضكم من بعض) (7) - (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (8) (هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن ) (9) (وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) (10).
وإذا كانت القوامة ضرورة من ضروريات النظام والتنظيم فى أية وحدة من وحدات التنظيم الاجتماعى ، لأن وجود القائد الذى يحسم الاختلاف والخلاف ، هو مما لا يقوم النظام والانتظام إلا به.(2/27)
فلقد ربط القرآن هذه الدرجة فى الريادة والقيادة بالمؤهلات وبالعطاء ، وليس بمجرد " الجنس " فجاء التعبير: (الرجال قوامون على النساء) وليس كل رجل قوّام على كل امرأة.. لأن إمكانات القوامة معهودة فى الجملة والغالب لدى الرجال ، فإذا تخلفت هذه الإمكانات عند واحد من الرجال ، كان الباب مفتوحاً أمام الزوجة إذا امتلكت من هذه المقومات أكثر مما لديه لتدير دفة الاجتماع الأسرى على نحو ما هو حادث فى بعض الحالات !..
هكذا كانت القوامة فى الفكر والتطبيق فى عصر صدر الإسلام.. لكن الذى حدث بعد القرون الأولى وبعد الفتوحات التى أدخلت إلى المجتمع الإسلامى شعوباً لم يذهب الإسلام عاداتها الجاهلية ، فى النظر إلى المرأة والعلاقة بها ، قد أصاب النموذج الإسلامى بتراجعات وتشوهات أشاعت تلك العادات والتقاليد الجاهلية فى المجتمعات الإسلامية من جديد..
ويكفى أن نعرف أن كلمةٍ " عَوَان " التى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بها النساء ، فى خطبة حجة الوداع ، والتى تعنى فى [ لسان العرب ]: " النَّصَف والوسط " (11) أى الخيار وتعنى ذات المعنى فى موسوعات مصطلحات الفنون (12).. قد أصبحت تعنى - فى عصر التراجع الحضارى - أن المرأة أسيرة لدى الرجل ، وأن النساء أسرى عند الرجال.. وأن القوامة هى لون من " القهر " لأولئك النساء الأسيرات !! حتى وجدنا إماماً عظيماً مثل ابن القيم ، يعبر عن واقع عصره العصر المملوكى فيقول هذا الكلام الغريب والعجيب: " إن السيد قاهر لمملوكه ،حاكم عليه ، مالك له. والزوج قاهر لزوجته ، حاكم عليها ، وهى تحت سلطانه وحكمه شبه الأسير " (13) !!
وهو فهم لمعنى القوامة ، وعلاقة الزوج بزوجه ، يمثل انقلاباً جذريا على إنجازات الإسلام فى علاقة الأزواج بالزوجات !.. انقلاب جذريًّا فالعادات والتقاليد الجاهلية التى أصبحت تغالب قيم الإسلام فى تحرير المرأة ومساواة النساء للرجال..
ووجدنا كذلك فى عصور التقليد والجمود الفقهى تعريف بعض " الفقهاء " لعقد النكاح ، فإذا به: " عقد تمليك بضع الزوجة " !!.. وهو انقلاب على المعانى القرآنية السامية لمصطلحات " الميثاق الغليظ " و " المودة ".. والرحمة.. والسكن والسكينة.. وإفضاء كل طرف إلى الطرف الآخر ، حتى أصبح كل منهما لباساً له "..
هكذا حدث الانقلاب ، فى عصور التراجع الحضارى لمسيرة أمة الإسلام..
ولذلك ، كان من مقتضيات البعث الحضارى ، الحديث والمعاصر ، لنموذج الإسلام فى تحرير المرأة وإنصافها ، كبديل للنموذج الغربى الذى اقتحم عالم الإسلام فى ركاب الغزوة الاستعمارية الغربية لبلادنا والذى شقيت وتشقى به المرأة السوية فى الغرب ذاته كان من مقتضيات ذلك إعادة المفاهيم الإسلامية الصحيحة لمعنى قوامة الرجال على النساء.. وهى المهمة التى نهضت بها الاجتهادات الإسلامية الحديثة والمعاصرة لأعلام علماء مدرسة الإحياء والتجديد..
فالإمام محمد عبده ، قد وقف أمام آيات القوامة (ولهن مثل الذىعليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة) (14) فإذا به يقول:
" هذه كلمة جليلة جداً ، جمعت على إيجازها مالا يُؤَدى بالتفصيل إلا فى سفر كبير ، فهى قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل فى جميع الحقوق ، إلا أمراً واحداً عبّر عنه بقوله: (وللرجال عليهن درجة) وقد أحال فى معرفة ما لهن وما عليهن على المعروف بين الناس فى معاشراتهن ومعاملاتهن فى أهليهن ، وما يجرى عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم..
فهذه الجملة تعطى الرجل ميزانا يزن به معاملته لزوجه فى جميع الشئون والأحوال ، فإذا همّ بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه ، ولهذا قال ابن عباس ، رضى الله عنهما: إننى لأتزين لامرأتى كما تتزين لى ، لهذه الآية.
وليس المراد بالمثل المثل بأعيان الأشياء وأشخاصها ، وإنما المراد: أن الحقوق بينهما متبادلة ، وأنهما كفئان ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله لها ، وإن لم يكن مثله فى شخصه ، فهو مثله فى جنسه ، فهما متماثلان فى الذات والإحساس والشعور والعقل ، أى أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر فى مصالحه ، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به ، ويكره مالا يلائمه وينفر منه ، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدا يستذله ويستخدمه فى مصالحه ، ولا سيما بعد عقد الزوجية والدخول فى الحياة المشتركة التى لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه..
هذه الدرجة التى رُفع النساء إليها لم يرفعهن إليها دين سابق ولا شريعة من الشرائع ، بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده..(2/28)
لقد خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة ، فى العبادات والمعاملات ، كما خاطب الرجال ، وجعل لهن مثل ما جعله عليهن ، وقرن أسماءهن بأسمائهم فى آيات كثيرة ، وبايع النبى صلى الله عليه وسلم المؤمنات كما بايع المؤمنين ، وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم ، وأجمعت الأمة على ما مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن فى الدنيا والآخرة..
وأما قوله تعالى: (وللرجال عليهن درجة) فهو يوجب على المرأة شيئاً ، وذلك أن هذه الدرجة درجة الرياسة والقيام على المصالح ، المفسرة بقوله تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) (15).
إن الحياة الزوجية حياة اجتماعية ، ولا بد لكل اجتماع من رئيس ، لأن المجتمعين لابد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم فى بعض الأمور ، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يُرجع إلى رأيه فى الخلاف ، لئلا يعمل كل ضد الآخر فتفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل النظام ، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة ، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله ، ومن ثم كان هو المطالب شرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها ، وكانت هى مطالبة بطاعته فى المعروف.
إن المراد بالقيام " القوامة " هنا هو الرياسة التى يتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره ، وليس معناه أن يكون المرؤوس مقهورا مسلوب الإرادة لا يعمل عملا إلا ما يوجهه إليه رئيسه.
إن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد ، فالرجل بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن.
أما الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة فى بيوتهم ، فإنما يلدون عبيدًا لغيرهم "?(16) !!.
" وإذا كانت عصور التراجع الحضارى كما سبق وأشرنا قد استبدلت بالمعانى السامية لعقد الزواج المودة ، والرحمة ، والسكن والميثاق الغليظ " ذلك المعنى الغريب "عقد تمليك بُضع الزوجة " ! ? وعقد أسر وقهر !. فلقد أعاد الاجتهاد الإسلامى الحديث والمعاصر الاعتبار إلى المعانى القرآنية السامية.. وكتب الشيخ محمود شلتوت [ 13101383 هجرية 1893 1963م ] فى تفسيره للقرآن الكريم تحت عنوان [ الزواج ميثاق غليظ ] يقول:
" لقد أفرغت سورة النساء على عقد الزواج صبغة كريمة ، أخرجته عن أن يكون عقد تمليك كعقد البيع والإجارة ، أو نوعا من الاسترقاق والأسر حيث أفرغت عليه صبغة " الميثاق الغليظ ".
ولهذا التعبير قيمته فى الإيحاء بموجبات الحفظ والرحمة والمودة. وبذلك كان الزواج عهدا شريفاً وميثاقاً غليظاً ترتبط به القلوب ، وتختلط به المصالح ، ويندمج كل من الطرفين فى صاحبه ، فيتحد شعورهما ، وتلتقى رغباتهما وآمالهما. كان علاقة دونها علاقة الصداقة والقرابة ، وعلاقة الأبوة والبنوة(هنَّ لباس لكم وأنتم لباس لهن) (17) (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (18). يتفكرون فيدركون أن سعادة الحياة الزوجية إنما تُبنى على هذه العناصر الثلاثة: السكن والمودة والرحمة..
وإذا تنبهنا إلى أن كلمة (ميثاق) لم ترد فى القرآن الكريم إلا تعبيرًا عما بين الله وعباده من موجبات التوحيد ، والتزام الأحكام ، وعما بين الدولة والدولة من الشئون العامة والخطيرة ، علمنا مقدار المكانة التى سما القرآن بعقد الزواج إليها ، وإذا تنبهنا مرة أخرى إلى أن وصف الميثاق " بالغليظ " لم يرد فى موضع من مواضعه إلا فى عقد الزواج وفيما أخذه الله على أنبيائه من مواثيق(وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) (19). تضاعف لدينا سمو هذه المكانة التى رفع القرآن إليها هذه الرابطة السامية ".
ثم تحدث الشيخ شلتوت عن المفهوم الإسلامى الصحيح " للقوامة " فقال:
".. وبينت السورة الدرجة التى جعلها الله للرجال على النساء ، بعد أن سوى بينهما فى الحقوق والواجبات ، وأنها لا تعدو درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التى يمتاز بها الرجل على المرأة ، بحكم الكد والعمل فى تحصيل المال الذى ينفقه فى سبيل القيام بحقوق الزوجة والأسرة ، وليست هذه الدرجة درجة الاستعباد والتسخير ، كما يصورها المخادعون المغرضون " (20).
تلك هى شبهة الفهم الخاطىء والمغلوط لقوامة الرجال على النساء.. والتى لا تعدو أن تكون الانعكاس لواقع بعض العادات الجاهلية التى ارتدت فى عصور التراجع الحضارى لأمتنا الإسلامية فغالبت التحرير الإسلامى للمرأة حتى انتقلت بالقوامة من الرعاية والريادة ، المؤسسة على إمكانات المسئولية والبذل والعطاء ، إلى قهر السيد للمسود والحر للعبد والمالك للمملوك !.
ولأن هذا الفهم غريب ومغلوط ، فإن السبيل إلى نفيه وإزالة غباره وآثاره هو سبيل البديل الإسلامى الذى فقهه الصحابة ، رضوان الله عليهم للقوامه.. والذى بعثه من جديد الاجتهاد الإسلامى الحديث والمعاصر ، ذلك الذى ضربنا عليه الأمثال من فكر وإبداع الشيخ محمد عبده والشيخ محمود شلتوت.(2/29)
بل إننا نضيف ، للذين يرون فى القوامة استبدادا بالمرأة وقهرا لها سواء منهم غلاة الإسلاميين الذين ينظرون للمرأة نظرة دونية ، ويعطلون ملكاتها وطاقاتها بالتقاليد أو غلاة العلمانيين ، الذين حسبوا ويحسبون أن هذا الفهم المغلوط هو صحيح الإسلام وحقيقته ، فيطلبون تحرير المرأة بالنموذج الغربى.. بل وتحريرها من الإسلام !.. أقول لهؤلاء جميعاً:
إن هذه الرعاية التى هى القوامة ، لم يجعلها الإسلام للرجل بإطلاق.. ولم يحرم منها المرأة بإطلاق.. وإنما جعل للمرأة رعاية ? أى " قوامة " ? فى الميادين التى هى فيها أبرع وبها أخبر من الرجال.. ويشهد على هذه الحقيقة نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذى على الناس راع عليهم ، وهو مسئول عنهم ، والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده ، وهى مسئولة عنهم.. ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن راعيته " رواه البخارى والإمام أحمد.
فهذه الرعاية "القوامة "-هى فى حقيقتها " تقسيم للعمل " تحدد الخبرةُ والكفاءةُ ميادين الاختصاص فيه.. فالكل راع ومسئول-وليس فقط الرجال هم الرعاة والمسئولون-وكل صاحب أو صاحبة خبرة وكفاءة هو راع وقوّام أو راعية وقوّامة على ميدان من الميادين وتخصص من التخصصات.. وإن تميزت رعاية الرجال وقوامتهم فى الأسر والبيوت والعائلات وفقاً للخبرة والإمكانات التى يتميزون بها فى ميادين الكد والحماية..فإن لرعاية المرأة تميزاً فى إدارة مملكة الأسرة وفى تربية الأبناء والبنات.. حتى نلمح ذلك فى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذى سبق إيراده - عندما جعل الرجل راعياً ومسئولاً على " أهل بيته " بينما جعل المرأة راعية ومسئولة على " بيت بعلها وولده "..
فهذة " القوامة " - توزيع للعمل ، تحدد الخبرة والكفاءة ميادينه.. وليست قهراً ولا قَسْراً ولا تملكا ولا عبودية ، بحال من الأحوال..
هكذا وضحت قضية القوامة.. وسقطت المعانى الزائفة والمغلوطة لآخر الشبهات التى يتعلق بها الغلاة.. غلاة الإسلاميين.. وغلاة العلمانيين.
فالطريق مفتوح أمام إنهاض المرأة بفكر متزن يرى أنها مع الرجل قد خلقا من نفس واحدة وتساويا فى الحقوق والواجبات واختلفت وظائف كل منهما اختلاف تكامل كتكامل خصائصهما الطبيعية لعمارة الدنيا وعبادة الله الواحد الأحد.
--------------------
(1) البقرة: 228.
(2) النساء: 32-34.
(3) الشورى: 37 - 39.
(4) البقرة: 233.
(5) المزمل: 5.
(6) [مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة] ص283. جمعها وحققها: د. محمد حميد الله. طبعة القاهرة سنة 1956م.
(7) آل عمران: 195.
(8) الروم: 21.
(9) البقرة: 187.
(10) النساء: 21.
(11) ابن منظور [ لسان العرب ] طبعة دار المعارف. القاهرة.
(12) انظر: الراغب الأصفهانى [ المفردات فى غريب القرآن ] طبعة دار التحرير. القاهرة سنة 1991م. وأبو البقاء الكفوى [ الكليات ] ق2 ص287. تحقيق: د. عدنان درويش ، طبعة دمشق سنة 1982م.
(13) [ إعلام الموقعين ] ج2 ص106. طبعة بيروت سنة 1973م.
(14) البقرة: 228.
(15) النساء: 34.
(16) [ الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ] ج 4 ص 606 ? 611- وج5 ص 201، 203. دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة. طبعة القاهرة 1993م.
(17) البقرة: 187.
(18) الروم: 21.
(19) النساء: 21.
(20) تفسير القرآن الكريم ] ص 172 174. طبعة القاهرة 1399 هجرية 1979م.
================
الارتداد عن الإسلام وعقوبته العادلة
الارتداد عن الإسلام يسلخ المرتد عن المجتمع ، ويسلبه حق الحياة! وهذا الحكم شغب عليه بعض الناس ، ورأوه مصادرة لحرية الرأي ، ولحق كل امرئ أن يؤمن إذا شاء وأن يكفر إذا شاء.
ونحن نحترم حق أي إنسان أن يؤمن وأن يكفر ، ولكن هذا الحق يتقرر لصاحبه وهو فرد لم تتضح له الأمور ، إن له أن يدرس ويوازن ويرجح ، وأن يبقى على ذلك طول عمره.
فإذا آثر الوثنية أو اليهودية أو النصرانية لم يعترضه أحد ، وبقي له حقه كاملاً في حياة آمنة هادئة.
وإذا آثر الإسلام فعليه أن يخلص له ، ويتجاوب معه في أمره ونهيه وسائر هديه.
فإن الإسلام بتلك العقوبة يجعل الفرد الذي يقدم على الدخول فيه لا يقدم إلا بعد اطلاع وإقتناع ودراية وفهم لجميع جوانبه ، فإن حصل الاقتناع فأهلاً وسهلاً به مسلماً مؤمناً له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين ، وإن لم تحصل عنده قناعة فله دينه الذي هو عليه ويبقى ذمياً في دولة الإسلام تُطبق عليه قوانين الذميين.(2/30)
فالارتداد ليس مسألة شخصية وإن بدا ذلك في ظاهر الأمر ، فالارتداد عن الإسلام إذا بحثنا عنه نجد أن المرتدين الأوائل معظمهم قد ارتدوا بسبب ترك دفع الزكاة ، إنه ارتداد عن أداء فريضة جماعية ، فالضرر الذي ينتج منه يعود على الجماعة التي يستمتع المرتد بمزايا وجوده بين ظهرانيها ، ونضيف هنا أن خطر الارتداد في هذا المجتمع كخطر (القتل والزنا) فيه العدوى التي لو كانت من غير عقاب لا نتشرت وعمَّت في المجتمع.
فالارتداد تحلل من الالتزامات ، ولا يمكن أن يتحلل فرد من التزاماته نحو ربه والمجتمع ، لأن ترك الالتزامات نحو الخالق هي في الوقت ذاته التزامات نحو نفس المرتد وجماعته التي يعيش فيها ، فهو بتحلله خطر على بقية المجتمع.
فالأمة الإسلامية تحرص حرصاً شديداً على سلامتها الجسدية والعصبية والفكرية والروحية العقائدية ، فلا تبيح لفرد أن يجاهرها العداء ، ومن جاهرها العداء اعتبرته خارجاً عن القانون يُعاقب بعقوبة تنص عليها قوانين الدول كلٌّ بحسبها وأكثرها نصت على عقوبة الإعدام.
ففي الارتداد إساءة إلى الإسلام ، واستهزاء قد يكون مدروساً أو مخططاً له من فئات غير مسلمة من الداخل أو من الخارج ، فكأن المرتد يقول: (دخلتُ الإسلام وتركتُ ديني السابق ثم اطلعت على الإسلام عملياً وجربته طويلاً فوجدته لا يرقى إلى مرتبة الدين السابق فديني الأول أفضل!!) ، وهو يكون بهذا دعاية خطر هائل ليمنع دخول الشعوب في دين الإسلام الذي جرَّبه - هو بعقله الخرب - ولو اطلع عليه أي فرد بتجرد وموضوعية لاستغنى عن الدنيا به.
فالمرتد يعتبر نفسه أنه هو المهتدي والآخرون ? المؤمنون ? مغفلون ، يقيدون أنفسهم بالتزامات تحد من استمتاعهم بحيوانيتهم المطلقة ، إنه يدعوهم إلى الهدى ، ويبشرهم بالنور الجديد والاستجابة لدعوته ألا وهي الانطلاق من القيود دون إرهاق أو جهد.
فالارتداد عن دين الله بعد الإيمان معناه إفساد نظام لا مجرد تغيير عقيدة فردية ، فالإسلام نظام عملي قائم على عقيدة ، ومجتمع قائم على هذا النظام ، وأوامره مفروضة لصالح الفرد أولاً ، ولصالح المجتمع في الوقع ذاته ، فهي إذن مسألة شخصية وإنما يرجع الضرر والنفع فيها على المجتمع.
وهنا نتساءل هل من حرية الرأي عند اعتناق الإسلام أن نكسر قيوده ونهدم حدوده؟ أو بتعبير آخر هل حرية الرأي تعطي صاحبها في أي مجتمع إنساني حق الخروج على هذا المجتمع ونبذ قواعده ومشاقة أبنائه؟
هل خيانة الوطن أو التجسس لحساب أعدائه من الحرية؟ هل إشاعة الفوضى في جنباته والهزء بشعائره ومقدساته من الحرية؟
إن قضية الارتداد تحتاج إلى إيضاح لتعرف أبعادها ، فالإسلام معروض للأغمار والعباقرة على أنه عقيدة وشريعة ، وكتابه ونهج نبيه صلى الله عليه وسلم يقرران مثلاً أن الله واحد ، وأن الآخرة حق ، وأن القصاص حق ، وأن الصيام حق.
ومعنى ذلك أن الذي يدخل في الإسلام يرتضي كل هذه التعاليم وينفذها.
فإذا جاء من قال: أؤمن بالله وأرفض الآخرة ، أو أؤمن بهما وأرفض شريعة الصيام ، وشريعة القصاص ، وما أشبه ذلك .. فهل يترك هذا الشخص ليعبث بدين الله على هذا النحو؟ كلا.
إما أن يثوب إلى رشده ويرجع إلى الجماعة ، أو لا ، فالخلاص منه حتم ، ولا تتهم جماعة تؤمن بوجودها وتصون حقيقتها وتذود العبث عن كيانها.
لو أن إنساناً ثارت في صدره شبهة لوجب على الراسخين في العلم أن يزيلوها ، ولو بقيت في نفسه هذه الشبهة فاعتزل بها ما أحس أحد خطره ولا خطورتها.
أما أن تنبت في رأس أحد فكرة أن الرجل مثلاً لا يجوز أن يرأس البيت ولا أن يضاعف له الميراث ، أو تنبت في رأسه فكرة أن نظام الربا يجب أن يسود ويمتد ويوجه الاقتصاد كله. ثم يتحول هذا الشخص إلى داعية لفكرته ويحاول تنفيذها بشتى الطرق ... فذاك ما لا يمكن قبوله باسم الإسلام.
وإقناع الإسلام بقبول هذا الوضع سفه ، ومطالبته بتوفير حق الحياة والحركة لمن يريد نقض بنائه وتنكيس لوائه أمر عجيب.
لا يوجد في الدنيا مجتمع ينتحر بهذه الطريقة السقيمة ، ولذلك لا نرى أي غرابة في أن يستتاب المرتد فإذا لم يتب قتل.
والقرآن الكريم لم يذكر حد الارتداد صراحة .. ولكن جاء في السنة (من بدَّل دينه فاقتلوه) و (لا يحل دم المرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان ، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق ، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
وكشف القرآن الكريم أن اليهود جعلوا من حرية الارتداد وسيلة للطعن في الإسلام ، أعلنوا عن دخولهم فيه حتى ينفوا عن أنفسهم تهمة التعصب ، ثم قرروا الارتداد السريع كأنهم اكتشفوا فيه ما ينفر من البقاء عليه ، والأمر كله لعب بالدين واستهانة بحقه.
وما يقبل ذلك مبدأ محترم يشق لنفسه طريقاً في الحياة.(2/31)
على أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِلَ أن يخرج من المدينة ويلحق بمكة من كره الإسلام ، وذلك في معاهدة الحديبية ، وما نعلم أحداً ارتد عن دينه ، ولا نعرف شخصاً طبيعياً فضل الشرك على التوحيد ، أو أهواء الأرض على شريعة السماء؟!
إلا ما ورد عن جبلة بن الأيهم الذي كره أن يقتص منه لما لطم رجلاً من العامة ، وقال: كيف وأنا أمير وهو سوقة؟ فلما قال له أمير المؤمنين: إن الإسلام سوى بينكما ، احتال حتى خرج من سلطان الإسلام ، ولحق بالروم متنصراً ، وهذا الأرعن لم يفعل ذلك لأن التثليث أرجح في نفسه من التوحيد ، ولكنها حمية غبية أفقدته الرشد وأضلته عن سواء السبيل.
ويروون عنه أنه راجع أمره وذكر ما كان منه وقال:
تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج وغيره وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني رجعت إلى الأمر الذي قال عمر
ونلفت النظر إلى أن قوى كثيرة تعمل الآن لنهش الكيان الإسلامي ، وتوهين عراه ، وإثارة لغط مفتعل حول شعب الإيمان كله ، أعلاها وأدناها.
وعلى المسلمين أن يدفعوا عن دينهم بالوسائل المشروعة كلها ، يُثبتون القلق ، ويقتلون الخائن ، ويحيون في جو من الوضوح والإخلاص.
إن سرقة العقائد والأخلاق أصبحت حرفة لعصابات من المنصِّرين الذين يكرهون الإسلام وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم ويبعثرون أسباب الفتنة في كل ناحية حتى يقلبوا المجتمع كله رأساً على عقب.
ومن حق المسؤولين عن هذه الأمة المظلومة أن يحموا عقائدها وشرائعها ويردوا عنها كيد المتربصين ، ومؤامرات الحاقدين.
ويجب أن نتشبث بحدود الإسلام كلها ، مدركين أن الصحة العقلية والاجتماعية في إقامتها ، وكما جاء في الحديث الشريف: (لَحَدٌّ يقام في الأرض بحقه أبرك لها من أن تمطر أربعين صباحاً).
إن الغيث يحيي ما مات من الأرض ، ولكن الحدود تحيي ما مات من الأخلاق ، وتمنع أوبئة الفساد من الإتيان على الأمم ، وتدمير حاضرها ومستقبلها.
=====================
لماذا حرّم الإسلام أكل لحم الخنزير ؟
الرد على الشبهة:
1 ـ لم يكن الإسلام أول الأديان التى حرمت أكل لحم الخنزير. فالديانة اليهودية تحرِّم أكل لحم الخنزير. ولا يوجد حتى الآن يهودى فى أوروبا وأمريكا يأكل لحم الخنزير إلا فيما ندر. ولم يعب أحد على اليهود ذلك ، بل يحترم الغرب العادات الدينية لليهود. وعندما جاء السيد المسيح ـ عليه السلام ـ صرح ـ كما جاء فى الإنجيل ـ بأنه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله ، أى أنه لم يأت ليغير التشريعات اليهودية. ومن بينها بطبيعة الحال تحريم أكل لحم الخنزير. والأمر المنطقى بناء على ذلك أن يكون الخنزير محرمًا فى المسيحية أيضًا (1).
2 ـ عندما جاء الإسلام حرّم أيضًا أكل لحم الخنزير. وهذا التحريم امتداد لتحريمه فى الديانات السماوية السابقة. وقد نص القرآن الكريم عليه صراحة فى أربعة مواضع (2). وهناك من ناحية أخرى ـ بجانب هذا التحريم الدينى ـ أسباب ومبررات أخرى تؤكد هذا التحريم. ومن ذلك ما أثبته العلماء المسلمون من أن أكل لحم الخنزير ضار بالصحة ولا سيما فى المناطق الحارة. وفضلاً عن ذلك فإن الآيات القرآنية التى ورد فيها تحريم لحم الخنزير قد جمعت هذا التحريم مع تحريم أكل الميتة والدم. وضرر أكل الميتة والدم محقق لما يتجمع فيهما من ميكروبات ومواد ضارة ، مما يدل على أن الضرر ينسحب أيضًا على أكل لحم الخنزير.
وإذا كانت الوسائل الحديثة قد تغلبت على ما فى لحم الخنزير ودمه وأمعائه من ديدان شديدة الخطورة (الدودة الشريطية وبويضاتها المتكلسة) فمن الذى يضمن لنا بأنه ليست هناك آفات أخرى فى لحم الخنزير لم يكشف عنها بعد ؟ فقد احتاج الإنسان قرونًا طويلة ليكشف لنا عن آفة واحدة. والله الذى خلق الإنسان أدرى به ويعلم ما يضره وما ينفعه. ويؤكد لنا القرآن هذه الحقيقة فى قوله: (وفوق كل ذى علم عليم ) (3).
3 ـ يحسب الإسلام حساب الضرورات فيبيح فيها المحرمات. وفى ذلك قاعدة مشهورة تقول: " الضرورات تبيح المحظورات ". ومن هنا فإن المسلم إذا ألجأته الضرورة الملحة ـ التى يخشى منها على حياته ـ لتناول الأطعمة المحرمة ومنها الخنزير فلا حرج عليه. كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) (4). ولكن هذه الإباحة لا يجوز أن تتعدى حدود تلك الضرورة وإلا كان المسلم آثماً.
(1) راجع: الحلال والحرام للدكتور القرضاوى ص42 ـ قطر 1978م.
(2) البقرة: 173 ، والمائدة: 3 ، والأنعام: 145 ، والنحل: 115
(3) يوسف: 76.
(4) البقرة: 173.
==============
الحدود فى الإسلام
الرد على الشبهة:
إن الدارس للإسلام وأحكامه يدرك حقائق أساسية لتشريع الحدود فى الإسلام نحاول أن نشير إلى بعضها بإيجاز:
أولاً: الحدود فى الإسلام إنما هى زواجر تمنع الإنسان المذنب أن يعود إلى هذه الجريمة مرة أخرى.(2/32)
وهى كذلك تزجر غيره عن التفكير فى مثل هذه الفعلة وتمنع من يفكر من أن يقارف الذنب ، وهى أيضًا نكال " مانع " من الجريمة على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.
ثانيًا: إن من المقرر لدى علماء الإسلام قاعدة " درء الحدود بالشبهات " أى جعل الظن والشك فى صالح المتهم.
ثالثًا: ليس المراد بالحدود التشفى والتشهى وإيقاع الناس فى الحرج وتعذيبهم بقطع أعضائهم أو قتلهم أو رجمهم.
إنما المراد هو أن تسود الفضيلة ، ومن هنا نجد الشرع الشريف ييسر فى هذه الحدود.
فإذا اشتدت الظروف فى حالات الجوع والخوف والحاجة تعطل الحدود ، كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى عام الرمادة.
ومن التيسير أيضًا أن الإسلام يأمر بالستر قبل الوصول إلى الحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ يشهد على الزنا [ لو سترته بثوبك كان خيرًا لك ] (1).
رابعًا: الشريعة الإسلامية شريعة عامة لكل زمان ومكان ، والناس مختلفون فى ضبط نفوسهم ، فلابد من وجود عقاب رادع يضبط أصحاب النفوس الضعيفة من الوقوع فى الجرائم والحدود والردة عن الإسلام حتى يسلم المجتمع من الفساد ظاهرًا وباطنًا.
خامسًا: الحدود إنما هى جزء من النظام الإسلامى العام ، فلابد من فهم النظام ككل حتى تفهم الحدود ولا يمكن تطبيق الحدود إلا مع تطبيق النظام الإسلامى ككل وإلا لا ينسجم الأمر ولا تستقيم حكمة الله من تشريعه.
سادسًا: الحدود دعوة صريحة للتخلق بالأخلاق الحسنة التى هى من مقاصد الدين وهى أيضًا طريق إلى التوبة إلى الله ، فالمذنب إذا عوقب بعقاب الشارع الذى هو منسجم مع تكوينه وواقع وفق علم الله تعالى به وبنفسيته فإن هذا يخاطب قلبه ومشاعره بوجوب الرجوع إلى ربه.
ويكفى ارتداع المسلم عن الجريمة ودخوله فى رحمة ربه معرفته بأن ربه هو الذى شرع له هذا الحكم ، فإن هذا وحده من شأنه أن يجعله يتوب وينجذب إلى ربه ويصير مؤمنًا بالله جل جلاله خاصة إذا علم أن هذا الحد يكفر عنه هذا الذنب.
سابعًا: الإسلام دين ، والحدود والتعاذير إنما هى فى كل دين بل وفى كل نظام قانونى ومن أراد على ذلك مثال فالتوراة مثلاً تأمر بحرق الزانية والزانى إذا كانت ابنة كاهن.
ذلك قولهم " وإذا تدنست ابنة كاهن بالزنا فقد دنست أباها ، بالنار تحرق [اللاويين 21: 9].
ومن النظم القانونية من يأمر بقتل الخارج على النظام إلى غير ذلك.
ثامنًا: الحدود عقوبات واعية تتناسب مع النفس البشرية والعقوبات البديلة خالية من هذه القيم.
(1) رواه أبو داود.
===================
هل صحيح أن الإسلام ضد حرية الاعتقاد ؟
الرد على الشبهة:
1 ـ لقد كفل الإسلام للإنسان حرية الاعتقاد. وجاء ذلك فى وضوح تام فى القرآن الكريم: (لا إكراه فى الدين ) (1). فلا يجوز إرغام أحد على ترك دينه واعتناق دين آخر. فحرية الإنسان فى اختيار دينه هى أساس الاعتقاد. ومن هنا كان تأكيد القرآن على ذلك تأكيدًا لا يقبل التأويل فى قوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (2).
2 ـ وقد أقر النبى صلى الله عليه وسلم الحرية الدينية فى أول دستور للمدينة حينما اعترف لليهود بأنهم يشكلون مع المسلمين أمة واحدة.
ومن منطلق الحرية الدينية التى يضمنها الإسلام كان إعطاء الخليفة الثانى عمر بن الخطاب للمسيحيين من سكان القدس الأمان " على حياتهم وكنائسهم وصلبانهم ، لا يضار أحد منهم ولا يرغم بسبب دينه ".
3 ـ لقد كفل الإسلام أيضًا حرية المناقشات الدينية على أساس موضوعى بعيد عن المهاترات أو السخرية من الآخرين. وفى ذلك يقول القرآن: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن ) (3). وعلى أساس من هذه المبادئ السمحة ينبغى أن يكون الحوار بين المسلمين وغير المسلمين ، وقد وجه القرآن هذه الدعوة إلى الحوار إلى أهل الكتاب فقال: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله * فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (4). ومعنى هذا أن الحوار إذا لم يصل إلى نتيجة فلكل دينه الذى يقتنع به. وهذا ما عبرت عنه أيضًا الآية الأخيرة من سورة (الكافرون) التى ختمت بقوله تعالى للمشركين على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: (لكم دينكم ولى دين ) (5).(2/33)
4 ـ الاقتناع هو أساس الاعتقاد: فالعقيدة الحقيقية هى التى تقوم على الإقناع واليقين ، وليس على مجرد التقليد أو الإرغام. وكل فرد حر فى أن يعتقد ما يشاء وأن يتبنى لنفسه من الأفكار ما يريد ، حتى ولو كان ما يعتقده أفكارًا إلحادية. فلا يستطيع أحد أن يمنعه من ذلك طالما أنه يحتفظ بهذه الأفكار لنفسه ولا يؤذى بها أحدًا من الناس. أما إذا حاول نشر هذه الأفكار التى تتناقض مع معتقدات الناس ، وتتعارض مع قيمهم التى يدينون لها بالولاء ، فإنه بذلك يكون قد اعتدى على النظام العام للدولة بإثارة الفتنة والشكوك فى نفوس الناس. وأى إنسان يعتدى على النظام العام للدولة فى أى أمة من الأمم يتعرض للعقاب ، وقد يصل الأمر فى ذلك إلى حد تهمة الخيانة العظمى التى تعاقب عليها معظم الدول بالقتل. فقتل المرتد فى الشريعة الإسلامية ليس لأنه ارتد فقط ولكن لإثارته الفتنة والبلبلة وتعكير النظام العام فى الدولة الإسلامية. أما إذا ارتد بينه وبين نفسه دون أن ينشر ذلك بين الناس ويثير الشكوك فى نفوسهم فلا يستطيع أحد أن يتعرض له بسوء ، فالله وحده هو المطلع على ماتخفى الصدور.
وقد ذهب بعض العلماء المحدثين إلى أن عقاب المرتد ليس فى الدنيا وإنما فى الآخرة ، وأن ما حدث من قتل للمرتدين فى الإسلام بناء على بعض الأحاديث النبوية فإنه لم يكن بسبب الارتداد وحده ، وإنما بسبب محاربة هؤلاء المرتدين للإسلام والمسلمين (6).
------------------
(1) البقرة: 256.
(2) الكهف: 29.
(3) النحل: 125.
(4) آل عمران: 64.
(5) الكافرون: 6.
(6) راجع: الحرية الدينية فى الإسلام للشيخ عبد المتعال الصعيدى ص 3،72، 73، 88 ـ دار الفكر العربى ـ الطبعة الثانية (دون تاريخ
==================
ما موقف الإسلام من الديمقراطية وحقوق الإنسان ؟
الرد على الشبهة:
1 ـ يُعد الإسلام أول من نادى بحقوق الإنسان وشدد على ضرورة حمايتها. وكل دارس للشريعة الإسلامية يعلم أن لها مقاصد تتمثل فى حماية حياة الإنسان ودينه وعقله وماله وأسرته. والتاريخ الإسلامى سجل للخليفة الثانى عمر بن الخطاب مواجهته الحاسمة لانتهاك حقوق الإنسان وقوله فى ذلك: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا " ؟.
2 ـ تنبنى حقوق الإنسان فى الإسلام على مبدأين أساسيين هما: مبدأ المساواة بين كل بنى الإنسان ، ومبدأ الحرية لكل البشر. ويؤسس الإسلام مبدأ المساواة على قاعدتين راسختين هما: وحدة الأصل البشرى ، وشمول الكرامة الإنسانية لكل البشر. أما وحدة الأصل البشرى فإن الإسلام يعبر عنها بأن الله قد خلق الناس جميعًا من نفس واحدة. فالجميع إخوة فى أسرة إنسانية كبيرة لا مجال فيها لامتيازات طبقية. والاختلافات بين البشر لا تمس جوهر الإنسان الذى هو واحد لدى كل البشر. ومن هنا فهذه الاختلافات ينبغى ـ كما يشير القرآن الكريم ـ أن تكون دافعًا إلى التعارف والتآلف والتعاون بين الناس وليس منطلقًا للنزاع والشقاق: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا * إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (1).
أما القاعدة الأخرى للمساواة فهى شمول الكرامة الإنسانية لكل البشر. وقد نص القرآن على ذلك فى قوله: (ولقد كرمنا بنى آدم ) (2). فالإنسان بهذا التكريم جعله الله خليفة فى الأرض ، وأسجد له ملائكته ، وجعله سيدًا فى هذا الكون ، وسخر له ما فى السموات وما فى الأرض. فالإنسان بذلك له مكانته ومكانه المفضل بين الخلق جميعًا. وقد منح الله هذه الكرامة لكل الناس بلا استثناء لتكون سياجًا من الحصانة والحماية لكل فرد من أفراد الإنسان ، لا فرق بين غنى وفقير وحاكم ومحكوم. فالجميع أمام الله وأمام القانون وفى الحقوق العامة سواء.
أما المبدأ الثانى الذى ترتكز عليه حقوق الإنسان فهو مبدأ الحرية. فقد جعل الله الإنسان كائنًا مكلفًا ومسئولاً عن عمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية. وليست هناك مسئولية دون حرية ، حتى فى قضية الإيمان والكفر التى جعلها الله مرتبطة بمشيئة الإنسان (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (3). وهكذا تشمل الحرية كل الحريات الإنسانية دينية كانت أم سياسية أم فكرية أم مدنية.(2/34)
3 ـ الحكم فى تعاليم الإسلام لابد أن يقوم على أساس من العدل والشورى. وقد أمر الله الناس فى القرآن بالعدل وألزمهم بتطبيقه (إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (4). (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (5). والآيات فى ذلك كثيرة. أما الشورى فهى مبدأ أساسى ملزم. وكان النبى (يستشير أصحابه ويأخذ برأى الأغلبية وإن كان مخالفًا لرأيه. وأظهر مثل على ذلك خروج المسلمين إلى غزوة أُحد. فقد كان الرسول يرى عدم الخروج ، ولكن الأكثرية كانت ترى الخروج. فنزل على رأيهم وخرج ، وكانت الهزيمة للمسلمين. ومع ذلك شدد القرآن على ضرورة الشورى فقال مخاطبًا النبى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر ) (6). ولا يلتفت فى هذا الصدد إلى رأى قلة من الفقهاء الذين يزعمون أن الشورى غير ملزمة. فهذا الزعم مخالف للنصوص الدينية الصريحة.
وقد ترك الإسلام للمسلمين حرية اختيار الشكل الذى تكون عليه الشورى طبقًا للمصلحة العامة. فإذا كانت المصلحة تقتضى أن تكون الشورى بالشكل المعروف الآن فى الدول الحديثة فالإسلام لا يعترض على ذلك. وكل ما فى الأمر هو التطبيق السليم مع المرونة طبقًا لظروف كل عصر وما يستجد من تطورات محلية أو دولية.
ومن ذلك يتضح مدى حرص الإسلام على حقوق الإنسان وصيانتها ، وحرصه على التطبيق السليم لمبدأ الشورى أو الديمقراطية بالمفهوم الحديث.
4 ـ الإسلام أتاح الفرصة لتعددية الآراء ، وأباح الاجتهاد حتى فى القضايا الدينية طالما توافرت فى المجتهد شروط الاجتهاد. وجعل للمجتهد الذى يجتهد ويخطئ أجرًا وللذى يجتهد ويصيب أجران. والدارس لمذاهب الفقه الإسلامى المعروفة يجد بينها خلافًا فى وجهات النظر فى العديد من القضايا. ولم يقل أحد: إن ذلك غير مسموح به. ومن هنا نجد أن الإسلام يتيح الفرصة أمام الرأى الآخر ليعبر عن وجهة نظره دون حرج مادام الجميع يهدفون إلى ما فيه خير المجتمع والحفاظ على أمنه واستقراره.
-----------------------
(1) الحجرات: 13.
(2) الإسراء: 70.
(3) الكهف: 29.
(4) النحل: 90.
(5) النساء: 58.
(6) آل عمران: 159
==================
ما أسباب تفرق المسلمين رغم دعوة الإسلام للوحدة ؟
الرد على الشبهة:
1 ـ لا ينكر أحد أن الشعوب الإسلامية فى عصرنا الحاضر متفرقة ومتنازعة فيما بينها ، فهذا واقع ملموس لا يحتاج إلى برهان. ولكن هذا يُعد مرحلة فى تاريخ المسلمين شأنهم فى ذلك شأن بقية الشعوب والأمم الأخرى. ولا يعنى ذلك أنهم سيظلون كذلك إلى الأبد. وكما استطاعت الشعوب الأوروبية أن تتغلب على عوامل الفرقة والتنازع فيما بينها والتى أدت إلى حربين عالميتين شهدهما القرن العشرون ـ فإن الشعوب الإسلامية سوف تستطيع فى مستقبل الأيام أن تتغلب أيضًا على عوامل الفرقة فيما بينها ، والبحث عن صيغة ملائمة للتعاون المثمر من أجل مصلحة المجتمعات الإسلامية كلها.
وهناك محاولات مستمرة فى هذا الصدد وإن كانت بطيئة وذات تأثير محدود ومتواضع مثل منظمة المؤتمر الإسلامى التى تضم كل الدول الإسلامية ، إلا أنه يمكن تطوير العمل فى هذه المنظمة وغيرها من منظمات إسلامية أخرى للوصول بها إلى مرحلة متقدمة من التعاون الأوثق. وللأمة الإسلامية فى تعاليم الإسلام فى الوحدة والتعاون والتآلف والتكافل أعظم سند يضمن لها نجاح هذه المحاولات فى مستقبل الأيام.
2 ـ فالإسلام فى مصادره الأصلية يدعو إلى الوحدة والتضامن ويحذر من الفرقة والتنازع (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ) (1) ، ويدعو إلى الشعور بآلام الآخرين والمشاركة فى تخفيفها ، ويجعل الأمة كلها مثل الجسد الواحد ـ كما يقول النبى صلى الله عليه وسلم ـ [ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ] (2). ويعتبر الإسلام رابطة العقيدة بمنزلة رابطة الأخوة: (إنما المؤمنون إخوة ) (3). وحينما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار ، فأصبحوا إخوة متحابين متضامنين فى البأساء والضراء. وآيات القرآن وأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك أكثر من أن تحصى.
3 ـ هناك أسباب خارجية كثيرة أدت إلى الانقسام والفرقة بين المسلمين فى العصر الحديث. وترجع هذه الأسباب فى قدر كبير منها إلى الفترة التى هيمن فيها الاستعمار على بلاد العالم الإسلامى. وعندما رحل ترك مشكلات عديدة كان هو سببًا فيها مثل مشكلات الحدود ، وكانت القاعدة التى على أساسها خطط لسياساته هى مبدأ: " فَرِّق تَسُد ". ومن هنا عمل على إحياء العصبيات العرقية بين شعوب البلاد المستعمَرة. وقام بنهب خيرات هذه البلاد ، وأدى ذلك إلى إفقارها وتخلفها الحضارى الذى لا تزال آثاره باقية حتى اليوم. ولا تزال معظم شعوب العالم الإسلامى تعانى من المشكلات التى خلفها الاستعمار.
4 ـ انشغل المسلمون بالمشكلات الكثيرة التى خلفها الاستعمار وغفلوا عن تعاليم الإسلام فى الوحدة والتضامن.(2/35)
ولكن الشعوب الإسلامية لا تزال تحن إلى وحدة جهودها ، وتضامنها فيما بينها ، وتجميع قواها فى سبيل الخير لهذه الشعوب جميعها. ولا يزال المسلم فى أى بلد إسلامى يشعر بآلام المسلمين فىمناطق العالم المختلفة بوصفه جزءاً من الأمة الإسلامية. وهذا من شأنه أن يعمل على توفير أساس راسخ لمحاولات إعادة التضامن والوحدة بين أقطار العالم الإسلامى ، بمعنى توحيد الجهود والتكامل فيما بينها فى ميادين الثقافة والاقتصاد والسياسة والأمن ، وتبادل الخبرات والمنافع ، وكل ما يعود على المسلمين بالخير ، مما يجعلهم أقدر على القيام بدور فعّال فى ترسيخ قواعد السلام والأمن فى العالم كله.
----------------------
(1) آل عمران: 103.
(2) رواه الإمام مسلم وغيره (راجع: فيض القدير ج5 ص 514 وما بعدها).
(3) الحجرات: 10.
====================
الجنة في الإسلام هي للزواج وشرب الخمر فقط !!
إن ما يردده أعداء الإسلام عن العقيدة الإسلامية حيال موضوع الجنة وأنه نعيم بالخمر والنساء والغناء فيه قصور كبير عن الاعتقاد الصحيح حيال ذلك ، فإن نعيم الجنة ليس نعيما حسيّاً جسدياً فقط بل هو كذلك نعيم قلبي بالطمأنينة والرضى به سبحانه وتعالى وبجواره ، بل إن أعظم نعيم في الجنة على الإطلاق هو رؤية الربّ سبحانه وتعالى ، فإن أهل الجنة إذا رأوا وجهه الكريم نسوا كلّ ما كانوا فيه من ألوان النعيم ، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة يونس : (( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )) فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ، ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة القيامة : (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )) وفي الحديث الصحيح : (( فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزوجل )) مسلم برقم : 181
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ولا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ، يقول الله سبحانه وتعالى : (( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً )) الواقعة : 26
وما ذكروه من أن دخول الجنة يتحقق بترك محرمات معينة ليفوز الإنسان بها في الآخرة هو أيضا خطأ كبير بهذا الإطلاق إذ أن الإسلام دين يأمر بالعمل لا بالترك فقط فلا تتحقق النجاة إلا بفعل المأمورات وليس بترك المنهيات فقط فهو قيام بالواجبات وانتهاء عن المحرمات ، وكذلك فإنه ليس كل نعيم الجنة مما كان محرما في الدنيا على سبيل المكافأة بل كم في الجنة من النعيم الذي كان مباحا في الدنيا فالزواج مباح هنا وهو نعيم هناك والفواكه الطيبة من الرمان والتين وغيرها مباح هنا وهو من النعيم هناك والأشربة من اللبن والعسل مباح هنا وهو نعيم هناك وهكذا ، بل إن المفسدة التي تشتمل عليها المحرمات في الدنيا تنتزع منها في الآخرة إذا كانت من نعيم الجنة كالخمر مثلاً قال الله سبحانه وتعالى عن خمر الجنة : (( لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ )) فلا تُذهب العقل ولا تسبّب صداعاً ولا مغصاً ، فطبيعتها مختلفة عما هي عليه في الدنيا ، ( انظر تفسير الآية ) والمقصود أن نعيم الجنة ليس مقصورا على إباحة المحرمات الدنيوية . وكذلك مما يجدر التنبيه عليه أن هناك من المحرمات التي لا يجازى على تركها في الدنيا بإعطاء نظيرها في الآخرة سواء من ذلك المطعومات أو المشروبات أو الأفعال والأقوال فالسم مثلاً لا يكون نعيما في الآخرة مع حرمته في الدنيا وكذا اللواط ونكاح المحارم وغير ذلك لا تباح في الآخرة مع حظرها في الدنيا ، وهذا واضح بحمد الله .
وأعلم أن كل ما في الجنة من سررها وفرشها وأكوابها _ مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد ، وإنما دلنا الله بما أراناه من هذا الحاضر على ما عنده من الغائب ولذلك ليس في الدنيا شيىء مما في الجنة إلا الاسماء .
قال شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه : واليهود والنصارى والصابئون من المتفلسفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس وزواج ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن .
والرد عليهم هو أن ما ورد في القرآن الكريم من وصف ملذات الجنة أن حقيقتها ليست مماثلة لما في الدنيا ، بل بينها تباين عظيم من التشابه في الأسماء ، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ، ولا سبيل إلي إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه ، وتلك الحقائق على ما هي عليه ( رسالة الإكليل من مجموعة الرسائل الكبرى _ لابن تيمة 2 : 11 )
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ، ولا يتغوطون ، ولا يتمخطون ، ولا يبولون ، ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك ، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس )) [ مسلم برقم 2835 ](2/36)
ان طعام وشراب أهل الجنة ليس لحاجة البقاء وإنما كنوع من المتعة واللذة ، مكافأةً لمن دخلها من الصالحين . والحقيقة ان إنسان الجنة كامل الخلق والتكوين ، ولكن تركيبته الكيميائية والفيزيائية مختلفة فليس له حاجة بتاتاً للجهاز الهضمي بما فيه من اجهزة لمعالجة الطعام والشراب ثم التخلص من الفضلات . .
وفي معنى قوله سبحانه وتعالى : (( ولهم فيها أزواج مطهرة )) البقرة : 21
أي لا يَبُلْنَ وَلا يَتَغَوَّطْنَ وَلا يَلِدْنَ وَلا يَحِضْنَ وَلايُمْنِينَ وَلا يَبْصُقْنَ . تفسير القرطبي
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية :
وَقَوْله تَعَالَى : (( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة )) قَالَ اِبْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس مُطَهَّرَة مِنْ الْقَذَر وَالْأَذَى. وَقَالَ مُجَاهِد مِنْ الْحَيْض وَالْغَائِط وَالْبَوْل وَالنُّخَام وَالْبُزَاق وَالْمَنِيّ وَالْوَلَد وَقَالَ قَتَادَة مَطْهَرَة مِنْ الْأَذَى وَالْمَأْثَم . وَفِي رِوَايَة عَنْهُ لا حَيْض ولا كَلَف.
ولقد جاء في الحديث الذي رواه ابو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى : (( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فأقرأوا إن شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين )) [ البخاري برقم 3244 ] [ مسلم برقم 2824 ] والآية من سورة السجدة : 17
وإليكم الآن هذه النصوص القاطعة من كتاب النصارى التي تدل على حسية الجنة لديهم :
أولا : ماورد على لسان المسيح عليه السلام بشرب الخمر في ملكوت الله أي الجنة :
مرقس [ 14 : 25 ] : (( الحق اقول لكم اني لا اشرب بعد من نتاج الكرمة الى ذلك اليوم حينما اشربه جديدا في ملكوت الله. ))
فالمسيح وعد تلاميذه بأنه سيشرب الخمر معهم في ملكوت الله الجديد وهذا الملكوت الجديد حسب ما يعتقده المسيحيين سيتحقق بعد أن يدين الله العالم ويحاسبهم في يوم القيامة
وهذا النص كافي لبيان حسية الجنة واقامة الحجة على النصارى . . .
ثانياً : ما ورد في الانجيل على اشتمال الجنة على الأكل :
جاء في إنجيل لوقا [ 22 : 30 ] قول المسيح لتلاميذه : (( وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً ، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي ، ونجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر ))
قال المسيح في إنجيل لوقا [ 14 : 12 ] : (( عِنْدَمَا تُقِيمُ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً، فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلاَ إِخْوَتَكَ وَلاَ أَقْرِبَاءَكَ وَلاَ جِيرَانَكَ الأَغْنِيَاءَ، لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً بِالْمُقَابِلِ، فَتَكُونَ قَدْ كُوفِئْتَ. 13وَلكِنْ، عِنْدَمَا تُقِيمُ وَلِيمَةً ادْعُ الْفُقَرَاءَ وَالْمُعَاقِينَ وَالْعُرْجَ وَالْعُمْيَ؛ 14فَتَكُونَ مُبَارَكاً لأَنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَمْلِكُونَ مَا يُكَافِئُونَكَ بِهِ، فَإِنَّكَ تُكَافَأُ فِي قِيَامَةِ الأَبْرَارِ؛ .15فَلَمَّا سَمِعَ هَذَا أَحَدُ الْمُتَّكِئِينَ، قَالَ لَهُ: طُوبَى لِمَنْ سَيَتَنَاوَلُ الطَّعَامَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ! ))
وهذه النصوص كلها على خلاف معتقد النصارى . . .
ثالثاً : ما جاء على لسان المسيح من وجود النعيم الحسي في الجنة عن طريق ضربه لمثل الإنسان الفقير :
قال المسيح عليه السلام : (( كَانَ هُنَالِكَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ، يَلْبَسُ الأُرْجُوَانَ وَنَاعِمَ الثِّيَابِ، وَيُقِيمُ الْوَلاَئِمَ الْمُتْرَفَةَ، مُتَنَعِّماً كُلَّ يَوْمٍ. 20وَكَانَ إِنْسَانٌ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ، مَطْرُوحاً عِنْدَ بَابِهِ وَهُوَ مُصَابٌ بِالْقُرُوحِ، 21يَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ الْمُتَسَاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ. حَتَّى الْكِلاَبُ كَانَتْ تَأْتِاي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ.22وَمَاتَ الْمِسْكِينُ، وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. ثُمَّ مَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ. 23وَإِذْ رَفَعَ عَيْنَيْهِ وَهُوَ فِي الْهَاوِيَةِ يَتَعَذَّبُ، رَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ. 24فَنَادَى قَائِلاً: يَاأَبِاي إِبْرَاهِيمَ! ارْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَغْمِسَ طَرَفَ إِصْبَعِهِ فِي الْمَاءِ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي: فَإِنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا اللَّهِيبِ. 25وَلكِنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: يَابُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلْتَ خَيْرَاتِكَ كَامِلَةً فِي أَثْنَاءِ حَيَاتِكَ، وَلِعَازَرُ نَالَ الْبَلاَيَا. وَلكِنَّهُ الآنَ يَتَعَزَّى هُنَا، وَأَنْتَ هُنَاكَ تَتَعَذَّبُ. 26وَفَضْلاً عَنْ هَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةً عَظِيمَةً قَدْ أُثْبِتَتْ، حتى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ هُنَا لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَسْتَطِيعُونَ الْعُبُورَ إِلَيْنَا )) [ انجيل لوقا 16 : 19 ] ترجمة كتاب الحياة(2/37)
ان هذا الكلام من المسيح حجة على النصارى ، فقد قال المسيح : (( ان إليعازر هذا في كفالة ابراهيم يتنعم ويتلذذ في الآخرة )) . كما قال : (( ان ذلك الغني كان كل يوم يتنعم ويتلذذ في دنياه )) . والذي يبتدر إلى الافهام منه التنعم بالطيبات المألوفة المعروفة ، وقد جاء ذلك في الانجيل كثيراً ولكن النصارى محجوبون بالتقليد عن النظر في أقوال الأنبياء ...
رابعاً : رؤية الله في الآخرة بالجسد :
جاء في سفر أيوب : (( أعلم أن إلهى حي ، وأنى سأقوم فى اليوم الأخير بجسدى وسأرى بعينى الله مخلّصى )) [أى 19: 25ـ27] وفى ترجمة البروتستانت: " وبدون جسدى ".
خامساً : الإتكاء والإلتقاء مع الأنبياء :
ورد في إنجيل متى [ 8 : 11 ] قول المسيح : (( وأقول لكم ان كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات.))
فهل بعد كل هذا سيستمر النصارى بدعوه أن جنتهم جنة روحيه فقط ??
===================
سؤال : كيف عالج الإسلام خطيئة آدم عليه السلام ؟
الجواب :
الحمد لله ،
لقد عالج الإسلام الخطيئة دون صلب أو قتل ، ودون التجرء على الخالق سبحانه وتعالى بالقول بأنه تجسد ليذوق العذاب والآلآم وهو معلق على الصليب . نعم أخي السائل هذا ما تقوله الكنيسة ، فلو أنك سألت اتباع الكنيسة قائلاً: ان لم يكن اللاهوت قد مات على الصليب وان من مات هو الناسوت فماذا كان دور اللاهوت وهو معلق على الصليب؟ فسيكون الجواب بأن اللاهوت تعلق على الصليب ليذوق العذاب والآلآم ، وان ماذاقه الله من ألم وعذاب على الصليب هو كفارة لنا ( تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً )
يقول البروتستانت لقد حكم الله على الخطيئة ( في أي صورة من صورها ) بأنها تستحق الموت والسبب في ذلك هو قداسة الله المطلقة غير المحدودة ، حتى أن أية خطية لا يمكن أن تظهر في محضره . لأن مقتضيات قداسته وجلاله ومقامه الإلهي واعتباره السامي تتطلب القضاء الفوري الحتمي على كل خطية . ونحن نقول : إذا كان الأمر كذلك عندكم فكيف آمنتم بتجسده وتعليقه على الصليب وتحمله العذاب والآلآم على ذاك الصليب الذي لا يعلق عليه الا الملاعين كما يقول الكتاب في سفر التثنية . فأي خطايا أعظم من هذه في حق مقام الاله السامي وقداسته وجلاله ؟! أم ان قداسته المطلقة تتطلب ان يعالج الخطأ بخطأ آخر في حقه ؟!
لقد كان الإسلام واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار فيما حدث لآدم عليه السلام فلقد أغوى الشيطان آدم قبل ان ينعم الله عليه بالنبوة فأكل وزوجته من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها . قال تعالى : (( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالمين فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )) نعم لقد عصى آدم عليه السلام قبل ان يكون نبياً ربه ولكن ثم ماذا ؟ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى : (( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى )) طه / 122
هكذا عالج الله عز وجل الخطيئة ، ندم آدم ، فتاب، فغفر الله له ذلك الذنب، وانتهت هذه الخطيئة بالتوبة.
جميع الأنبياء لم يذكروا توارث الخطيئة:
إن جميع الأنبياء السابقين ، ليس فيهم من ذكر خطيئة آدم وتوارثها ، ولم يسأل أي نبي الله سبحانه وتعالى أن يغفر له هذه الخطيئة التي ورثها عن آدم ، فلماذا تفرد بها بولس الطرطوسي ؟!
الجواب : لأنها ليست عقيدة من الله ، وإنما جاءت من عقائد وثنية " فكل ما قيل وسمع عن المسيح والخطيئة والصلب والخلاص والفدية ، كلما قيل موجود في الديانات الهندية القديمة ، قاله الهنود عن " فشنو" و" براهما" و"كرشنا". وقاله البوذيون عن "بوذا " ، وقاله المصريون ، والفرس ، واليونان عن آلهتهم القديمة أيضاً، يعتقد الهنود أن " كرشنا" المولود الذي هو نفس الإله " فشنو" الذي لا ابتداء له ولا انتهاء تحرك حنوّاً كي يخلص الإنسان بتقديم نفسه ذبيحة عنه.وهذا نص دعاء هندي يتوسلون به :"إني مذنب ومرتكب الخطيئة وطبيعتي شريرة، وحملتني أمي بالإثم، فخلصني ياذا العين الحندوقية، يا مخلص المخطئين من الأثام والذنوب"
فالوثنيات القديمة هي أصل هذا الاعتقاد عند النصارى ، ولذلك نجد أن تحول كثير من أصحاب الديانات الوثنية إلى المسيحية ، كان سهلاً بسبب التشابه الكبير بين أصول تلك العقائد مع العقائد المسيحية.(2/38)
أما العقائد الإسلامية فلم تجاري العقائد النصرانية الباطلة، بل حدد القرآن المواقف تحديداً واضحاً حيث نفى القول بالصلب نفياً قاطعاً ، فقال عنه : (( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا أتباع الظن وما قتلوه يقيناً * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيما ))
ولو أن القرآن كان من عند غير الله ، لكان الأولى به والأيسر لرواج دعوته أن يقول بصلب المسيح ، باعتبار ان هذه الإشاعة التي روجها كتبة الاناجيل بعد رفع المسيح بزمن وانتشرت بين الناس. ففي تلك الحال فإنه يستميل النصارى إليه ويقلل من المشاكل والعقبات التي تعترض قبولهم الإسلام إلا ان شيئا من ذلك لم يحدث . فالقرآن : (( يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ )) الانعام / 57
====================
السؤال : التثليث عند النصارى هل له وجود في الإسلام ؟
في النصرانية يستخدمون كلمة " التثليث " على أنها الركن الأساس لذلك الدين ، فهل ورد ذكر لذلك الاعتقاد في القرآن ؟ وإذا كان ذلك اعتقاداً صحيحاً ، أفلا يندرج ذلك تحت مقدمات الشرك ؟.
الجواب :
الحمد لله نعم ورد ذكر لهذا الاعتقاد في القرآن الكريم ، ولكنه ورد ببطلانه والمناداة على صاحبه بالكفر والشرك ، قال الله تعالى : (( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ )) المائدة / 17 ، وقال تعالى : (( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) المائدة / 73 ، وقال تعالى : (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ، اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )) التوبة / 31
وصار هذا من الأمور المنتشرة علمها بين المسلمين ، ولذلك أجمعوا على كفر النصارى ، بل أجمعوا على كفر من لم يكفرهم ، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض الإسلام المجمع عليها : ( من لم يُكَفِّر المشركين ، أو شَكَّ في كفرهم ، أو صحّح مذهبهم كفر )
وإننا لنعجب من هذا السؤال والذي يظن صاحبه أن الشرك الذي عند النصارى له وجود في دين المسلمين ، ولذلك فإننا ننصح السائل بالقراءة في كتب العقائد والتي تبين التوحيد ومعناه وأحكامه ، وتبين أيضاً الشرك وأنواعه ، وسماع الأشرطة المفيدة في ذلك ، فإن هذا من أوجب الواجبات على العبد ، وهذا التثليث الذي يعتقده النصارى ليس من مقدمات الشرك ، بل هو الشرك بعينه ، والتثليث الذي اخترعه النصارى المتأخرون لا يستدل عليه بشيء من العقل والفطرة ولا بشيء من الكتب الإلهية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى .
قال ابن القيم :
وهذا شأن جميع أهل الضلال مع رؤسائهم ومتبوعيهم ، فجهَّال النصارى إذا ناظرهم الموحِّد في تثليثهم وتناقضه وتكاذبه قالوا : الجواب على القسيس ، والقسيس يقول : الجواب على المطران ، والمطران يحيل الجواب على البترك ، والبترك على الأسقف ، والأسقف على الباب ، والباب على الثلاثمائة والثمانية عشر أصحاب المجْمَع الذي اجتمعوا في عهد " قسطنطين " ، ووضعوا للنصارى هذا التثليث والشرك المناقض للعقول والأديان ... " مفتاح دار السعادة " ( 2 / 148 ) .
ومن حيث اللفظ فإنه لم يأت في القرآن ولا في السنة ، بل جاء لفظ " التثليث " في كلام العلماء عند كلامهم على التثليث في " الاستجمار بالحجارة ، الوضوء ، الغسل ، غسل الميت ، التسبيح في الركوع والسجود ، الاستئذان للدخول للبيت ، وغير ذلك .
والمعنى في كل ما سبق إنما هو فعل الأمر ثلاث مرات ، ولا علاقة له بتثليث النصارى ، والذي بيَّن الله تعالى أنه قولهم وأمرهم بتوحيده تعالى والاعتقاد بعيسى أنه رسول وليس بإله
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
قال تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم } ، فذكر سبحانه في هذه الآية " التثليث والاتحاد " ، ونهاهم عنهما وبيَّن أن المسيح إنما هو { رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } ، وقال : { فآمنوا بالله ورسله } ، ثم قال : { ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم } . " الجواب الصحيح " ( 2 / 15 ) .(2/39)
وقد ظن بعض النصارى ? لجهلهم ? أن ضمير الجمع الدال على التعظيم في نحو قوله تعالى : ( إنا فتحنا لك ) ، ( إنا أنزلناه ) أنه يدل على عقيدتهم الفاسدة عقيدة التثليث .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
ومذهب سلف الأمَّة وأئمَّتها وخلفها : أن النَّبي صلَّى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل ، وجبريل سمعه من الله عز وجل ، وأما قوله { نتلوا } و { نقص } { فإذا قرأناه } : فهذه الصيغة في كلام العرب للواحد العظيم الذي له أعوان يطيعونه ، فإذا فعل أعوانه فعلاً بأمره قال : نحن فعلنا ، كما يقول الملك : نحن فتحنا هذا البلد ، وهزمنا هذا الجيش ، ونحو ذلك ؛ لأنه إنما يفعل بأعوانه ، والله تعالى رب الملائكة وهم لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون ، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وهو مع هذا خالقهم وخالق أفعالهم وقدرتهم ، وهو غني عنهم ، وليس هو كالملِك الذي يفعل أعوانه بقدرة وحركة يستغنون بها عنه ، فكان قوله لِما فعله بملائكته : نحن فعلنا : أحق وأولى من قول بعض الملوك .
وهذا اللفظ هو من " المتشابه " الذي ذكر أن النصارى احتجوا به على النبي صلى الله عليه وسلم على التثليث لمَّا وجدوا في القرآن { إنا فتحنا لك } ونحو ذلك ، فذمَّهم الله حيث تركوا المحكَم من القرآن أن الإله واحد ، وتمسكوا بالمتشابه الذي يحتمل الواحد الذي معه نظيره ، والذي معه أعوانه الذين هم عبيده وخلقه ، واتبعوا المتشابه يبتغون بذلك الفتنة ، وهي فتنة القلوب بتوهم آلهة متعددة ، وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم .
" مجموع الفتاوى " ( 5 / 233 ، 234 ) .
==================
السؤال : نصراني يريد آيات وأحاديث تدل على محبة الله في الإسلام
الجواب :
أولا : الحب فى القران الكريم :
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران : (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))
ويكفي أن نقول لهذا السائل النصراني أن من أسماء الله الحسنى في القرآن أنه الودود وهو الكثير الحب لعباده يقول الله سبحانه وتعالى : (( وهو الغفور الودود )) [ البروج الآية 15]
وإليك المزيد :
1. الله في الإسلام يحب العدل :
جاء في سورة الممتحنة الآية الثامنة : (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة الآية : 87 : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )) ويقول الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف الآية : 55 : (( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )) ويقول الله تبارك وتعالى : (( وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) الآية التاسعة من سورة الحجرات .
ويقول المولى تبارك وتعالى : (( وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )) الآية : 57 من سورة آل عمران . ويقول جل جلاله : (( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )) الآية : 140 من سورة آل عمران .
2. الله يحب الخير وعمله :(2/40)
وفي ذلك يقول المولى تبارك وتعالى : (( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ )) الآية : 205 من سورة البقرة . ويقول تعالى : (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )) الآية : 64 من سورة المائدة . ويقول : (( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )) سورة الأنعام ويقول جل جلاله : (( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )) سورة الأعراف ويقول سبحانه : (( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )) سورة القصص . ويقول سبحانه : (( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )) سورة الشورى ويقول سبحانه وتعالى : (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )) سورة العاديات ويقول (( يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ )) سورة البقرة .
3.الله يحب التوابين والمتطهرين :
(( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )) سورة البقرة ويقول تبارك وتعالى : (( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ )) سورة التوبة .
4.الله يحب المؤمنين ويغفر لهم :
وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى : (( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) الآية : 31 من سورة آل عمران . ويقول تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ )) الآية : 38 من سورة الحج . ويقول تعالى : (( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )) الآية : 45 من سورة الروم .
5. الله يحب المتقين :
وفي ذلك يقول تعالى : (( بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) الآية : 76 من سورة آل عمران . ويقول سبحانه : (( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) الآية : 4 من سورة التوبة . ويقول تبارك وتعالى : (( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) الآية السابعة من سورة التوبة .
6.الله محبة ويأمر بالأخوة :
(( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )) الآية : 103 من سورة آل عمران .
7.الله يحب الصابرين :(2/41)
يقول المولى تبارك وتعالى : (( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ )) سورة آل عمران .
8.الله يحب المحسنين :
يقول سبحانه وتعالى : (( فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) سورة آل عمران . ويقول : (( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) سورة المائدة . ويقول ايضاً : (( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) سورة آل عمران . ويقول سبحانه : (( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) سورة البقرة ويقول سبحانه : (( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) سورة المائدة .
9.الله يحب المتوكلين :
يقول ربنا جل جلاله : (( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )) سورة آل عمران
10. الله يحب المتواضعين :
يقول الله سبحانه وتعالى : (( وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا )) سورة النساء ويقول سبحانه : (( لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ )) سورة النحل ويقول سبحانه : (( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ )) (76) سورة القصص ويقول تبارك وتعالى : (( وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )) (18) سورة لقمان .
11.الله يحب الأمينين :
يقول الحق تبارك وتعالى : (( وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا )) (107) سورة النساء . ويقول جل جلاله : (( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ )) (58) سورة الأنفال .
18. الله محب للخير :
يقول تبارك وتعالى : (( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا )) (148) سورة النساء . ويقول سبحانه : (( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ )) (38) سورة الحج ويقول تبارك وتعالى : (( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )) (23) سورة الحديد .
ثانيا : الحب في السنة النبوية الشريفة :
1 - قال صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) .
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا و لا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم " ( رواه مسلم )
3 - وقال : صلى الله عليه وسلم : (( تهادوا تحابوا )) . رواه البيهقي
4 - وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب رجلا لله فقد أحبه الله. فدخلا جميعا الجنة, وكان الذي أحب لله أرفع منزلة, ألحق الذي أحبه لله". رواه الطبراني والبزار بنحوه بإسناد حسن.(2/42)
5 - عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حقت محبتي للمتحابين في, حقت محبتي للمتواصين في, حقت محبتي للمتبادلين في. المتحابون في على منابر من نور, يغبطهم بمكانتهم النبيون والصديقون والشهداء". رواه الإمام أحمد وابن حبان و الحاكم والقضاعي.
وفي رواية : "حقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي, وحقت محبتي للذين يتصادقون من أجلي". رواه الطبراني في الثلاتة وأحمد بنحوه ورجال أحمد ثقات.
6- عن معاذ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " قال الله تبارك و تعالى : وجبت محبتي للمتحابين فيّ ، و المتجالسين فيّ و المتزاورين ، و المتباذلين فيّ " (رواه مالك و غيره )
7- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظلّ إلاّ ظلّي ( رواه مسلم )
8- قال عليه الصلاة و السلام : " من أحبّ أن يجد طعم الإيمان فليحبّ المرء لا يحبه إلا لله ( رواه الحاكم و قال : صحيح الإسناد و لم يخرجاه و أقرّه الذهبي )
9- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من سرّه أن يجد حلاوة الإيمان، فليحبّ المرء لا يحبه إلا لله" ( رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي )
10- عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله و رسوله أحبّ إليه مما سواهما ، و أن يحبّ المرء لا يحبه إلا لله ، و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار " (متفق عليه)
11- عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من أحبّ لله ، و أبغض لله ، و أعطى لله ، و منع لله ، فقد استكمل الإيمان " ( رواه أبو داود بسند حسن )
12- قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه " ( رواه الشيخان )
13- عن أنس بن مالك قال : مر رجل بالنبي صلى الله عليه و سلم و عنده ناس ، فقال رجل ممن عنده : إني لأحب هذا لله ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم :"أعلمته؟" قال : لا ، قال : " قم إليه فأعلمه " فقام إليه فأعلمه ، فقال : أحبّك الذي أحببتني له ثم قال ، ثم رجع فسأله النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بما قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم :"أنت مع من أحببت ، و لك ما احتسبت " ( رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي )
14- وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف يوضح أسباب حبِّ الناس له حيث قال "أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً، في مسجد المدينة، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام" المعجم الصغير".
15- قال صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم ،مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه مسلم .
16- عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال : (( ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس )) [رواه ابن ماجة وغيره، والحديث صحيح].
17- وعن عائشةَ رضي اللَّهُ عنها ، أَن رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، بعَثَ رَجُلاً عَلَى سرِيَّةٍ ، فَكَانَ يَقْرأُ لأَصْحابِهِ في صلاتِهِمْ ، فَيخْتِمُ بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا ، ذَكَروا ذلكَ لرسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فقال : ? سَلُوهُ لأِيِّ شَيءٍ يَصْنَعُ ذلكَ ؟ ؛ فَسَأَلوه ، فَقَالَ : لأنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فقال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : ? أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّه تعالى يُحبُّهُ ؛ متفقٌ عليه
18- روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (( أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرسل الله له على مدرجته ملكا ً ..... فقال إن الله قد أحبك كما أحببته فيه )) .
19- قال صلى الله عليه وسلم : (( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قلنا : يا رسول الله ! كلنا يكره الموت ؟ قال : ليس ذلك كراهية الموت ، ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله ، فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه ، وإن الفاجر أو الكافر إذا حضر جاءه ماهو صائر إليه من الشر ، أو ما يلقى من الشر ، فكره لقاء الله ، فكره الله لقاءه )) صحيح التغريب بسندٍ صحيح(2/43)
20- قال صلى الله عليه وسلم : قال الله تبارك وتعالى : (( إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه )) صحيح على شرط الشيخين
21- قال صلى الله عليه وسلم : (( إن رجلا زار أخا له في قرية ، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا ، فلما أتى عليه الملك قال : أين تريد ؟ قال : أزور أخا لي في هذه القرية ، قال : هل عليك من نعمة [تربها] ؟ قال : لا ، إلا أني أحببته في الله ، قال : فإني رسول الله إليك أن الله عز وجل قد أحبك كما أحببته له )) صحيح على شرط مسلم
22- قال صلى الله عليه وسلم : (( ما من رجلين تحابا في الله بظهر الغيب؛ إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه )) السلسلة الصحيح ورجاله ثقات
23- قال صلى الله عليه وسلم : (( ما تحاب رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله عز وجل أشدهما حبا لصاحبه )) السلسلة الصحيحة بسندٍ صحيح
24- قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليبين له ، فإنه خير في الألفة ، و أبقى في المودة )) السلسلة الصحيحة بسندٍ حسن
25- قال صلى الله عليه وسلم : (( أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا )) السلسلة الصحيحة بسندٍ جيد
26- قال صلى الله عليه وسلم : (( ما أحب عبد عبدا لله إلا أكرمه الله عز وجل )) السلسلة الصحيحة بسندٍ جيد
27- قال صلى الله عليه وسلم : (( من سره أن يحب الله و رسوله فليقرأ في " المصحف" )) السلسلة الصحيحة بسندٍ حسن
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خاتم الرسل محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
=======================
نصراني يسأل عن موقف المسلمين من الكاثوليك والتعايش السلمي
السؤال :
لست أدري كيف هي علاقتكم بالكنيسة الكاثوليكية ، أنا من أمريكا والبلاد الإسلامية تبدو غريبة بالنسبة لي ، لا أعرف الكثير عنهم ولكن الذي يبدو أن المسلمين يعادون الدين الكاثوليكي .
هل هم منفتحين للحوار ؟ لماذا لا تؤمنون بالرب عيسى ؟ أليس الحب الأبدي لله عظيم لدرجة أنه يستطيع أن يتنزل علينا ويحفظنا من جميع الذنوب حتى نتمكن من العيش معه للأبد ؟
لماذا توجد حروب في الشرق الأوسط ؟ ألا يرى الإسلام أو يقبل بالقوة المخلصة للمسيح ، مع تعليماته بأن نحب بعضنا البعض ، هل إذا اتبعت أنا وأنت (الإسلام -التسليم الكامل) فكل شيء سيسير على ما يرام بالنسبة للبشر ؟
الجواب :
الحمد لله
العداوة في الإسلام وعند المسلمين ليست أمرا عشوائياً بل تحكمها أصول وثوابت شأنها في ذلك شأن باقي الأحكام الإسلامية الشرعية وهذه الأصول والثوابت هي من عند الله تعالى المنزّه عن النقائص الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى ومصدر الأحكام عندنا هو القرآن والسنة الصحيحة الثابتة ، والقرآن والسنة جاءا بعقيدة واضحة وهي عقيدة التوحيد المبنية على شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وإمام المرسلين ولا نشرك مع الله آلهة أخرى بل نفرده بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات ولا ندعو له صاحبة ولا ولداً ، ونوالي من والى الله ونعادي من عاداه ونُبغض من سبّه وجعل له زوجة وولداً فالله فرد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له صاحبة ولا ولد سبحانه أنّى يكون له ولد وله ما في السماوات وما في الأرض ليس له شريك وليس محتاجاً إلى ولد كما يحتاج البشر وهو خالق الوالد وما ولد ، فالمسلمون طوع أمر الله وليس عندهم اختيار في التشريع بل هم ملزمون بأحكام الله ، قال تعالى : (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا )) سورة الأحزاب
ومن هذه الأحكام الحب في الله والبغض في الله .
والمسلمون عندهم مجال واسع للحوار بل أمر الله في كتابه النبي صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده بمحاورة أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقال سبحانه : (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )) آل عمران : 64.(2/44)
ونحن نؤمن بعيسى عليه السلام نبياً مرسلاً من عند الله ، ومعاذ الله أن نجعل عيسى إلهاً ورباً كما يزعم النصارى ولا يفرّقون بين الرسول والمُرسِل ، وبين الخالق والمخلوق قال الله تعالى : (( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) سورة المائدة ، وقال تعالى يخاطبك - أيها السائل أنت وأصحابك وستكون سعيدا إذا استجبت - : (( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً )) النساء - 171.
والإسلام دين الهدى والرحمة والمحبة ولكن أقواماً يفرضون على المسلمين قتالهم عندما يقفون في طريق إبلاغ الهدى للناس ، والمسلمون لا يقاتلون أحداً حتى يبلغوه دين الله ويخيرونه بين أمور أولها الإسلام ، وثانيها : إذا أبى الإسلام وبقي على دينه فعليه دفع الجزية للمسلمين لقاء رعايته فإذا رفض الأول والثاني فالقتال .
ونحن المسلمين إذا قاتلنا فإنما نقاتل من أجل تخليص العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العالمين وننقلهم من جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة
ونؤمن أن عيسى عليه السلام لم يمت وأن الله رفعه إليه وأنه ينزل في آخر الزمان إلى الدنيا ويحكم بالإسلام حيث قال صلى الله عليه وسلم ينزل عيسى في دمشق عند المنارة البيضاء رواه أبو داود (4/117) وصححه الألباني رحمه الله .
والإسلام ناسخ للرسالات السابقة ولا يقبل الله من أحد غيره ممن عاش وأدرك الإسلام . وإذا أسلم الناس لرب العالمين واتبعوا خير المرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات فإن الله يرضى عنهم ويرزقهم حياة طيبة في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) سورة النحل ، نرجو أن نكون قد وفقنا في الإجابة على التساؤلات التي طرحتها ونسأل الله أن يهدينا جميعا لاتّباع الحقّ ، والسلام على من اتّبع الهدى .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد (www.islam-qa.com)
==================
الرد على من يزعمون إجحاف الإسلام للمرأة في الحقوق المالية
لا يستطيع خصوم الإسلام إنكار ما أعطاه الإسلام للمرأة من حقوق مالية ، إلا إذا كانوا جاهلين بالإسلام وتعاليمه ، أو متجاهلين لذلك ، بقصد النيل منه ومن مبادئه والتشنيع عليه ، وذلك لأن حضارتهم التي يفخرون بها ، وبما أعطته للمرأة من حقوق في مختلف الأمور ، لا تزال إلى اليوم قاصرة عما أعطاه الإسلام للمرأة منذ أربعة عشر قرناً ، فهم لا يستطيعون إنكار شيء قائم اليوم تنص عليه قوانينهم ، ويطبقه مجتمعهم وتحميه حكوماتهم ، ففي فرنسا ? مثلاً ? ذات العراقة في الرقي والتقدم ، وصاحبة الثورة الكبرى منشئة الحريات كما يصفونها ، والتي يعتبر قانونها أساساً لقوانين كثير من الدول الأوربية وغيرها من دول العالم ، لا زالت المرأة فيها مقيدة في بعض تصرفاتها المالية بموافقة الزوج ، كما أشارت لذلك المادة (1426/ من القانون المدني الفرنسي).
وفي بلجيكا ، مازالت إلى اليوم تقيد حرية المرأة في التصرف في مالها بإذن زوجها ، وللزوج في القانون البلجيكي أن يعطي زوجته تصريحاً عاماً دائماً أو لمدة محددة عن كل أو بعض التصرفات ، بيد أن حق الزوج في سحب هذا التصريح يظل قائماً ، فهي أهلية تخضع لهيمنة الزوج وإشرافه.
هذان نموذجان لما أعطته حضارة نقاد الإسلام والعائبين عليه بخسه لحقوق المرأة المالية ? كما يزعمون ? أقول هذا أنموذجان لما أعطته حضارتهم للمرأة من حقوق مالية في القرن العشرين ، فماذا أعطى الإسلام للمرأة من حقوق مالية منذ أربعة عشر قرناً.
لقد أباح الإسلام للمرأة أن تملك كل أصناف المال من دراهم وضياع ودور وعقار وغير ذلك ، أباح لها أن تملك ذلك بكل أسباب التملك ، مستقلة في هذا التملك عن غيرها من زوج وغيره.
وأباح لها أن تنمي هذه الأموال بكل وسائل التنمية المباحة ، بأن تباشر هي ذلك إذا اضطرت أو توكل من يقوم به.(2/45)
ولها كامل حق التصرف في مالها ? إذا كانت بالغة رشيدة ? بالبيع والشراء ، والإجازة والهبة والتصدق والوقف والوصية وغير ذلك من التصرفات المشروعة ، وجعل لها شخصيتها وأهليتها الكاملة المستقلة في إبرام تلك العقود ، وهي فتاة أو هي زوجة ، فلا تدخل لأبيها ولا لزوجها بعد زواجها ، ولا لأحد من أقاربها فيما تملك إلا برضاها وموافقتها ما دامت بالغة رشيدة.
ومما أعطاه الإسلام للمرأة مهرها في النكاح ، فقد ألزم الإسلام الزوج بدفع مهر لها ولا يسقط عنه بحال ، حتى لو لم يسم أثناء العقد ، وهذا المهر المدفوع من الزوج حق خالص لها ، لا يجوز لأحد أن يأخذ منه شيئاً ، ولا أن يتصرف فيه بدون إذنها ، ولها كامل الحرية في التصرف به كباقي أملاكها ، وقد تكلمنا عن ذلك في صفحة (وجوب المهر في النكاح وملكيتها له).
وقد كانت قبل الإسلام محرومة من هذا الحق ، إذ كان يأخذه والدها أو وليها من دونها.
كذلك هناك حق كانت المرأة الجاهلية محرومة منه قبل مجيء الإسلام ، فلما جاء الإسلام أعطاها هذا الحق ، ذلك هو الميراث ، فقد جعل لها الحق في أن ترث أباها وأمها وزوجها ، وبقية أقاربها ، إذا توفرت الشروط المشروطة لذلك في الشريعة ، فلها حقها من الميراث نصيباً مفروضاً ، مهما كان الميراث المخلف ، قليلاً أو كثيراً ، عقاراً أو منقولاً ، حقاً خالصاً لها وملكاً من أملاكها تتصرف فيه كيف تشاء.
أعطاها الإسلام هذه الحقوق المالية وأباح لها تنميتها ، والعمل على زيادتها بكل الوسائل المتاحة في الإسلام ، بنفسها أو بواسطة وكيل توكله هي ، كما أعطاها كامل الحرية في التصرف بها بكل أنواع التصرف المشروعة ، وجعل لها شخصيتها وأهليتها المستقلة في ذلك ، فلا سلطة ولا وصاية ولا ولاية لأحد عليها ، كما أن لها الحق في التقاضي أمام القضاء ، حماية لأموالها ، ومع كل ما أعطاها من حقوق مالية فإنه ألزم الزوج بالإنفاق عليها ، مهما كانت ثروتها ، ومهما كان مستوى الزوج المادي ، والنفقة تشمل الأكل والشرب واللباس والمسكن ، وتأثيثه كما تقدم.
كذلك لم يفرق الإسلام بينها وبين الرجل في مقدار الحقوق المالية ، إلا في المواريث ولأسباب بيناها فيما سبق بعنوان (حقها في الميراث) وسنذكر طرفاً من ذلك هنا ، أما في بقية الأموال المكتسبة بالجهد والتعب فلا تفرقة فيها بينهما ، لا في الأجر على العمل ، كما يفعل الغرب اليوم في كل دولة بلا استثناء حيث ينقص أجر المرأة عن الرجل ، ولا في ربح التجارة ، ولا في ريع الأرض .. الخ ، لأن هذه الأموال خاضعة لمقياس المساواة بين الجهد والجزاء.
أعطيت المرأة المسلمة كل هذا منذ أربعة عشر قرناً بينما المرأة الفرنسية كانت إلى سنة 1942م محرومة من حق التقاضي عن مالها ، وكما كانت محرومة من عقد التصرفات والعقود ما لم تحصل على إذن خطي من زوجها (المادة 217 من القانون الفرنسي قبل تعديله سنة 1942).
بل إنها لا زالت إلى اليوم مقيدة في بعض التصرفات المالية بموافقة الزوج كما سبق ، حتى بعد تعديل القانون الفرنسي.
كذلك نصت القوانين الغربية جميعها على أن تقدم المرأة الدوطة لزوجها عند الزواج ، والدوطة كما عرفها القانون الفرنسي هي: المال الذي تقدمه الزوجة لزوجها لتعينه على تحمل أعباء الزوجية ، وكل ما تقدمه الزوجة من مال لزوجها أو يقدمه أبوها أو جدها أو أحد أقاربها.
والزوج وحده هو صاحب الحق في إدارة الأموال التي تتكون منها الدوطة واستغلالها ما دامت العلاقة الزوجية قائمة ، كما نص على ذلك القانون الفرنسي ، هذا بينما الإسلام يلزم الزوج إلزاماً أن يقدم هو المهر لها ، ولا يمكن أن يسقط عنه بحال ، إلا إن أسقطته أو بعضه هي ولا يجوز له أن يأخذ منه شيئاً البتة ، قال تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً ، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً ، وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) ، إلا إذا تنازلت هي أو وهبته شيئاً منه.
وبينما تنص القوانين الغربية على إلزام الزوجة في الغرب على مشاركة زوجها في نفقة البيت وتحمل تبعاته ، نرى الإسلام ? كما قدمنا ? يلزم الزوج بالإنفاق عليها مهما كان ثراؤها ، وعليه أن ينفق عليها كأنها لا تملك شيئاً ، ولها أن تشكوه إذا امتنع عن الإنفاق ، أو قتر فيه بالنسبة لما يملك ، ويحكم لها الشرع بالنفقة أو بالانفصال.(2/46)
فأين ما يفخرون به على الإسلام في مجال الحقوق المالية بالذات ، وكيف ساغ لهم مؤاخذة الإسلام في هذا المجال؟ والإسلام منحها من الحقوق والتكريم فيه ، ما عجزت حضارتهم حتى اليوم عن أن تصل إليها ، إن هو إلا الجهل أو التجاهل والمكابرة ، ولقد دأب أعداء الإسلام على الطعن في الإسلام ، ورميه بظلم المرأة ، حين أعطاها نصف ما أعطى الذكر من الميراث ، واتخذوا ذلك سلاحاً وذريعة للنيل منه ولتأليب المرأة وإثارتها على الإسلام ، ولم يحاول هؤلاء إما جهلاً وإما عن عمد معرفة وبيان ما بنى عليه الإسلام عمله هذا في التفرقة.
إن الأساس الذي بنى عليه الإسلام تفريقه ذلك في توزيعه الإرث ، هو توزيعه الأعباء والواجبات في الحياة بين الذكر والأنثى ، فألزم الرجل بأعباء وواجبات مالية لا تلزم بمثلها المرأة.
وقد بينا تلك الأعباء والواجبات في صفحة (حقها في الميراث) ، على أن هذه التفرقة إنما تكون في المال الموروث بلا تعب فقط ، وهو مصدر واحد من مصادر تملّك المرأة في الإسلام ، أما بقية المصادر من المال المكتسب بالتعب والجهد ، فلا تفرقة فيه بين الرجل والمرأة ، لا في الأجر على العمل ، ولا في ربح التجارة ، ولا في ريع الأرض .. الخ ، لأنه يتبع مقياساً هو المساواة بين الجهد والجزاء ، وقد كفل الإسلام ذلك للجميع وأتاح للكل الفرص.
فلا ظلم إذاً ، ولا شبهة ظلم في ذلك للمرأة ، وإنما في توزيع قائم على العدل والإنصاف على قدر الحاجة ، ومقياس الحاجة هو التكاليف المنوطة بمن حملها.
hgvzdsdi
====================
سؤال : ما هو نعيم المرأة في الجنة ؟
جواب :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . أما بعد : فإني لما رأيت كثرة أسئلة النساء عن أحوالهن في الجنة وماذا ينتظرهن فيها أحببت أن أجمع عدة فوائد تجلي هذا الموضوع لهن مع توثيق ذلك بالأدلة الصحيحة وأقوال العلماء فأقول مستعينا بالله :
فائدة (1) : لا ينكر على النساء عند سؤالهن عما سيحصل لهن في الجنة من الثواب وأنواع النعيم ، لأن النفس البشرية مولعة بالتفكير في مصيرها ومستقبلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر مثل هذه الأسئلة من صحابته عن الجنة وما فيها ومن ذلك أنهم سألوه صلى الله عليه وسلم : ( الجنة وما بنائها ؟ ) فقال صلى الله عليه وسلم : ( لبنة من ذهب ولبنة من فضة ...) إلى آخر الحديث . ومرة قالوا له : ( يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة ؟ ) فأخبرهم بحصول ذلك.
فائدة (2) : أن النفس البشرية ? سواء كانت رجلا أو امرأة ? تشتاق وتطرب عند ذكر الجنة وما حوته من أنواع الملذات وهذا حسن بشرط أن لا يصبح مجرد أماني باطلة دون أن نتبع ذلك بالعمل الصالح فإن الله يقول للمؤمنين : ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ) الزخرف آية 72. فشوّقوا النفس بأخبار الجنة وصدّقوا ذلك بالعمل .
فائدة (3) : أن الجنة ونعيمها ليست خاصة بالرجال دون النساء إنما هي قد ( أعدت للمتقين ) ? آل عمران آية 133-من الجنسين كما أخبرنا بذلك تعالى قال سبحانه : ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ) ? النساء آية 124- .
فائدة (4) : ينبغي للمرأة أن لا تشغل بالها بكثرة الأسئلة والتنقيب عن تفصيلات دخولها للجنة : ماذا سيعمل بها ؟ أين ستذهب ؟ إلى آخر أسئلتها .. وكأنها قادمة إلى صحراء مهلكة ! ويكفيها أن تعلم أنه بمجرد دخولها الجنة تختفي كل تعاسة أو شقاء مر بها .. ويتحول ذلك إلى سعادة دائمة وخلود أبدي ويكفيها قوله تعالى عن الجنة : ( لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ) ? الحجر آية48- وقوله : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ) ? الزخرف آية 71- . ويكفيها قبل ذلك كله قوله تعالى عن أهل الجنة : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ? المائدة 119-.(2/47)
فائدة (5) : عند ذكر الله للمغريات الموجودة في الجنة من أنواع المأكولات والمناظر الجميلة والمساكن والملابس فإنه يعمم ذلك للجنسين ( الذكر والأنثى ) فالجميع يستمتع بما سبق . ويتبقى : أن الله قد أغرى الرجال وشوقهم للجنة بذكر ما فيها من ( الحور العين ) و ( النساء الجميلات ) ولم يرد مثل هذا للنساء .. فقد تتساءل المرأة عن سبب هذا !؟ والجواب : 1- أن الله : ( لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ) ? الأنبياء 23- ولكن لا حرج أن نستفيد حكمة هذا العمل من النصوص الشرعية وأصول الاسلام فأقول : 2- أن من طبيعة النساء الحياء ? كما هو معلوم ? ولهذا فإن الله ? عزوجل ? لا يشوقهن للجنة بما يستحين منه . 3- أن شوق المرأة للرجال ليس كشوق الرجال للمرأة ? كما هو معلوم ? ولهذا فإن الله شوّق الرجال بذكر نساء الجنة مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) ? أخرجه البخاري ? أما المرأة فشوقها إلى الزينة من اللباس والحلي يفوق شوقها إلى الرجال لأنه مما جبلت عليه كما قال تعالى ( أومن ينشأ في الحلية ) ? الزخرف آية 18- 4- قال الشيخ ابن عثيمين : إنما ذكر ? أي الله عزوجل ? الزوجات للأزواج لأن الزوج هو الطالب وهو الراغب في المرأة فلذلك ذكرت الزوجات للرجال في الجنة وسكت عن الأزواج للنساء ولكن ليس مقتضى ذلك أنه ليس لهن أزواج .. بل لهن أزواج من بني آدم .
فائدة ( 6 ) :
المرأة لا تخرج عن هذه الحالات في الدنيا فهي :
1- إما أن تموت قبل أن تتزوج .
2- إما أن تموت بعد طلاقها قبل أن تتزوج من آخر .
3- إما أن تكون متزوجة ولكن لا يدخل زوجها معها الجنة ? والعياذ بالله ?
4- إما أن تموت بعد زواجها .
5- إما أن يموت زوجها وتبقى بعده بلا زوج حتى تموت .
6- إما أن يموت زوجها فتتزوج بعده غيره .
هذه حالات المرأة في الدنيا ولكل حالة ما يقابلها في الجنة :
1- فأما المرأة التي ماتت قبل أن تتزوج فهذه يزوجها الله ? عزوجل ? في الجنة من رجل من أهل الدنيا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما في الجنة أعزب ) ? أخرجه مسلم ? قال الشيخ ابن عثيمين : إذا لم تتزوج ? أي المرأة ? في الدنيا فإن الله تعالى يزوجها ما تقر بها عينها في الجنة .. فالنعيم في الجنة ليس مقصورا على الذكور وإنما هو للذكور والإناث ومن جملة النعيم : الزواج .
2- ومثلها المرأة التي ماتت وهي مطلقة .
3- ومثلها المرأة التي لم يدخل زوجها الجنة . قال الشيخ ابن عثيمين : فالمرأة إذا كانت من أهل الجنة ولم تتزوج أو كان زوجها ليس من أهل الجنة فإنها إذا دخلت الجنة فهناك من أهل الجنة من لم يتزوجوا من الرجال . أي فيتزوجها أحدهم .
4-وأما المرأة التي ماتت بعد زواجها فهي ? في الجنة ? لزوجها الذي ماتت عنه .
5- وأما المرأة التي مات عنها زوجها فبقيت بعده لم تتزوج حتى ماتت فهي زوجة له في الجنة .
6- وأما المرأة التي مات عنها زوجها فتزوجت بعده فإنها تكون لآخر أزواجها مهما كثروا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( المرأة لآخر أزواجها ) ? سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني
ولقول حذيفة ? رضي الله عنه ? لامرأته : ( إن شئت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا فلذلك حرم الله على أزواج النبي أن ينكحن بعده لأنهن أزواجه في الجنة ) .
مسألة : قد يقول قائل : إنه قد ورد في الدعاء للجنازة أننا نقول ( وأبدلها زوجا خيرا من زوجها ) فإذا كانت متزوجة .. فكيف ندعوا لها بهذا ونحن نعلم أن زوجها في الدنيا هو زوجها في الجنة وإذا كانت لم تتزوج فأين زوجها ؟
والجواب كما قال الشيخ ابن عثيمين : إن كانت غير متزوجة فالمراد خيرا من زوجها المقدر لها لو بقيت وأما إذا كانت متزوجة فالمراد بكونه خيرا من زوجها أي خيرا منه في الصفات في الدنيا لأن التبديل يكون بتبديل الأعيان كما لو بعت شاة ببعير مثلا ويكون بتبديل الأوصاف كما لو قلت ك بدل الله كفر هذا الرجل بإيمان وكما في قوله تعالى : ( ويوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ) ? سورة إبراهيم آية 48- والأرض هي الأرض ولكنها مدت والسماء هي السماء لكنها انشقت .(2/48)
فائدة (7) : ورد في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم للنساء : ( إني رأيتكن أكثر أهل النار ...) وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم : ( إن أقل ساكني الجنة النساء ) ?أخرجه البخاري ومسلم ? وورد في حديث آخر صحيح أن لكل رجل من أهل الدنيا ( زوجتان ) أي من نساء الدنيا . فاختلف العلماء ? لأجل هذا ? في التوفيق بين الأحاديث السابقة : أي هل النساء أكثر في الجنة أم في النار ؟ فقال بعضهم : بأن النساء يكن أكثر أهل الجنة وكذلك أكثر أهل النار لكثرتهن . قال القاضي عياض : ( النساء أكثر ولد آدم ) . وقال بعضهم : بأن النساء أكثر أهل النار للأحاديث السابقة . وأنهن ? أيضا ? أكثر أهل الجنة إذا جمعن مع الحور العين فيكون الجميع أكثر من الرجال في الجنة . وقال آخرون : بل هن أكثر أهل النار في بداية الأمر ثم يكن أكثر أهل الجنة بعد أن يخرجن من النار ? أي المسلمات ? قال القرطبي تعليقا على قوله صلى الله عليه وسلم : ( رأيتكن أكثر أهل النار ) : ( يحتمل أن يكون هذا في وقت كون النساء في النار وأما بعد خروجهن في الشفاعة ورحمة الله تعالى حتى لا يبقى فيها أحد ممن قال : لا إله إلا الله فالنساء في الجنة أكثر ) . الحاصل : أن تحرص المرأة أن لا تكون من أهل النار .
فائدة (8) : إذا دخلت المرأة الجنة فإن الله يعيد إليها شبابها وبكارتها لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الجنة لايدخلها عجوز .... إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارا ) .
فائدة (9) : ورد في بعض الآثار أن نساء الدنيا يكن في الجنة أجمل من الحور العين بأضعاف كثيرة نظرا لعبادتهن الله .
فائدة (10) : قال ابن القيم ( إن كل واحد محجور عليه أن يقرب أهل غيره فيها ) أي في الجنة . وبعد : فهذه الجنة قد تزينت لكن معشر النساء كما تزينت للرجال ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) فالله الله أن تضعن الفرصة فإن العمر عما قليل يرتحل ولا يبقى بعده إلا الخلود الدائم ، فليكن خلودكن في الجنة ? إن شاء الله ? واعلمن أن الجنة مهرها الإيمان والعمل الصالح وليس الأماني الباطلة مع التفريط وتذكرن قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها : ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت ) . واحذرن - كل الحذر ? دعاة الفتنة و( تدمير ) المرأة من الذين يودون إفسادكن وابتذالكن وصرفكن عن الفوز بنعيم الجنة . ولا تُغررن بعبارات وزخارف هؤلاء المتحررين والمتحررات من الكتاب والكاتبات ومثلهم أصحاب ( القنوات ) فإنهم كما قال تعالى : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) . أسأل الله أن يوفق نساء المسلمين للفوز بجنة النعيم وأن يجعلهن هاديات مهديات وأن يصرف عنهن شياطين الأنس من دعاة وداعيات ( تدمير ) المرأة وإفسادها وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . [ كتبه الدكتور أبو حفص ]
يقول الدكتور أحمد عبد الكريم أستاذ الشريعة بالبوسنة :
الجنّة دار النعيم المقيم ، و من دَخَلها فقد استحقَّ من نعيمها ما يُناسب منزلته فيها ، و هذا للرجال و النساء كلٌّ بحسبه ، لأنّ ( النساء شقائق الرجال ) كما أخبر بذلك النبيّ صلى الله عليه و سلّم فيما رواه أبو داود و الترمذي و أحمد بإسناد صحيح عن أمّ المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما .
و قد جمَع الله تعالى في الذكر ، و الوعد بالأجر و الثواب بين الرجال و النساء في آياتٍ تُتلى من كتابه العزيز ؛ منها قوله تعالى : ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قَاتَلُوا وَ قُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) [ آل عمران : 195 ] .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ( أي قال لهم مخبراً أنه لا يضيع عمل عامل منكم لديه بل يوفي كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى ، و قوله (( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ )) أي : جميعكم في ثوابي سواء ) .
و قال تعالى : ( وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) [ النساء : 124 ] .
قال ابن كثير : في هذه الآية بيان إحسانه و كرمه و رحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذكرانهم و إناثهم بشرط الإيمان .انتهى(2/49)
و الآيات الدالة على المراد غير ما ذكرنا كثيرة ، و منها ما تُعرَفُ دلالته بمعرفة سبب نزوله ، فقد روى الترمذي بإسنادٍ حسَّنَه عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلاّ لِلرِّجَالِ وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) الآيَةَ.
و ما دام السؤال منصبّاً على نعيم المرأة في الجنّة فنقول ، و بالله التوفيق :
إذا كان الزوجان من أهل الجنّة فإنّ الله تعالى يجمعُ بينهما فيها ، بل يزيدهُم من فضلِه فيُلحِقُ بهم أبناءهم ، و يرفع دَرجات الأدنى منهم فيُلحقه بمن فاقه في الدرجة ، بدلالة إخباره تعالى عن حملة العرش من الملائكة أنّهم يقولون في دُعائهم للمؤمنين { ... ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومَن صلح مِن آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم } [ غافر : 8 ] .
و قوله تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ... } [ الطور : 21 ].
أمّا إن كان أحد الزوجين من أهل النار فإمّا أن يكون كافراً ، فهذا يُخلَّد فيها ، و لا ينفعه كون قرينه من أهل الجنّة ، لأنّ الله تعالى قضى على الكافرين أنّهم ( خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ و لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) [ البقرة : 162 و آل عمران : 88 ] .
و قضى تعالى بالتفريق بين الأنبياء و زوجاتهم إن كنّ كافرات يوم القيامة ، فقال سبحانه : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَ امْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) [ التحريم :10 ] ، فكان التفريق بين سائر الناس لاختلاف الدين أولى .
قال الحافظ ابن كثير [ في تفسيره : 4 / 394 ] عند هذه الآية الكريمة :
قال تعالى (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ ) أي : نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلاً ونهاراً يؤاكلانهما و يضاجعانهما و يعاشرانهما أشد العشرة و الاختلاط ، ( فَخَانَتَاهُمَا ) أي : في الإيمان لم يوافقاهما على الإيمان ، و لا صَدَقاهما في الرسالة ، فلم يُجدِ ذلك كله شيئاً ، و لا دفع عنهما محذوراً ، و لهذا قال تعالى ( فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ) أي : لكُفرهما ، و قيل للمرأتين ( ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) .اهـ .
أما إن كان للمرأة في الدنيا أكثر من زوجٍ ، فإنّ من فارقَها بطلاق حُلّ زواجه بطلاقه ، فتعيّن افتراقهما في الآخرة كما افترقا في الدنيا .
و أمّا إن مات عنها و هي في عصمته ، ثم تزوّجت غيره بعده ، فلأهل العلم ثلاثة أقوال في من تكون معه في الجنّة :
القول الأول : أنّها مع من كان أحسنَهُم خُلقاً و عشرةً معها في الدنيا . .
القول الثاني : أنها تُخيَّر فتختار من بينهم من تشاء ، و لا أعرف دليلاً لمن قال به .
و هذان القولان ذكرهما الإمام القرطبي في كتابه الشهير التذكرة في أحوال الموتى و أمور الآخرة [ 2 : 278 ] . و اختار الثاني منهما الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله ، و بعض المعاصرين .
والقول الثالث : أنها تكون في الجنّة مع آخر زوجٍ لها في الدنيا ، أي مع من ماتت وهي في عصمته ، أو مات عنها و لم تنكح بعده ، و يدلّ على هذا القول ما رواه البيهقي في سننه [ 7 / 69 ] عن حذيفة رضي الله عنه ثم أنه قال لامرأته إن شئت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي فإن المرأة في الجنة لأخر أزواجها في الدنيا فلذلك حرم الله على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحن بعده لأنهن أزواجه في الجنة ، و حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال : ( أيما امرأة توفي عنها زوجها ، فتزوجت بعده ، فهي لآخر أزواجها ) و قد صححه العلاّمة الألباني رحمه الله [ في السلسلة الصحيحة 1281] ، و لم أقف على تصحيح أحدٍ قَبلَه له .
و إذا صح الحديث فلا يُعدَل عنه إلى غيره ، و لا يُعدَلُ به غيرُه ، فلذلك كان القول الثالث أولى الأقوال بالاعتبار ، و أرجَحَها .
أما إذا لم يكُن للمرأة زوجٌ من أهل الدنيا في حياتها ؛ فإنّ الله تعالى يزوّجها بمن تقرُّ به عينُها في الجنّة ، لأنّ الزواج من جملة النعيم الذي وُعد به أهل الجنّة ، و هو ممّا تشتهيه النفوس ، و تتطلّع إليه ، و قد قال تعالى : ( وَ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ الزخرف : 71 ] .(2/50)
و ينبغي للمسلم أن يشتغل بسؤال الله تعالى الجنّة و نعيمها على وجه الإجمال ، ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ) ، و من دخَلها فحق على الله أن يُرضيه ، و الله الموفّق .
=====================
سؤال : نصراني يسأل عن حكم الجزية في الإسلام
الجواب :
الحمد لله ،
لم يكن الإسلام أول الأديان والملل تعاطياً مع شريعة الجزية، بل هي شريعة معهودة عند أهل الكتاب يعرفونها كما يعرفون أبناؤهم ، فهاهم بنو اسرائيل عندما دخلوا بأمر الرب إلى الارض المقدسة مع نبيهم يشوع أخذوا الجزية من الكنعانيين، فيقول النص في سفر يشوع 16 : 10 : (( فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر. فسكن الكنعانيون في وسط افرايم الى هذا اليوم وكانوا عبيداً تحت الجزية )) وفي سفر القضاة 1 : 1 نجد ان بنو اسرائيل سألوا الرب قائلين : (( من منّا يصعد الى الكنعانيين اولا لمحاربتهم . فقال الرب يهوذا يصعد. هوذا قد دفعت الارض ليده )) و في الأعداد 30 _ 33 نجدهم يضعون الجزية على الكنعانيين . وعلى سكان قطرون وسكان نهلول و سكان بيت شمس و سكان بيت عناة وغيرهم .
ونجد في كتابهم المقدس أيضاً ان نبي الله سليمان عليه السلام كان متسلطاً على جميع الممالك من النهر الى ارض فلسطين والى تخوم مصر. وكانت هذه الممالك تقدم له الجزية وتخضع له كل أيام حياته. ملوك الأول 4 : 21 . فيقول النص كما في ترجمة كتاب الحياة : (( فكانت هذه الممالك تقدم له الجزية وتخضع له كل ايام حياته )) وفي ترجمة الفانديك : (( كانوا يقدمون الهدايا ويخدمون سليمان كل أيام حياته ))
بل ان كتابهم المقدس فيه من الشرائع والاحكام ما هو أشد و أعظم بكثير من حكم الجزية ، فالرب مثلاً يأمر أنبيائه ان يضعوا الناس تحت نظام التسخير والعبودية بخلاف الجزية التي أهون بكثير من هذا النظام .... فعلى سبيل المثال نجد في سفر التثنية 20 : 10 أن الرب يأمر نبيه موسى قائلاً : (( حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها الى الصلح. فان اجابتك الى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. ))
ويقول كاتب سفر صموئيل الثاني 8 : 1 كما في ترجمة كتاب الحياة عن نبي الله داود : (( وقهر أيضاً الموآبيين وجعلهم يرقدون على الأرض في صفوف متراصة، وقاسهم بالحبل . فكان يقتل صفين ويستبقي صفاً . فأصبح الموآبيين عبيداً لداود يدفعون له الجزية . )) وفي العدد 15 : (( وكان الرب ينصر داود حيثما توجه ))
لقد كانت الجزية من شرائع التوراة والمسيح عليه السلام لم يذكر كلمة واحدة لإلغائها أو استنكارها . بل ان بولس قد أكد على ضرورة الالتزام بها وذلك في قوله في رسالة رومية 13 : 7 : (( فاعطوا الجميع حقوقهم . الجزية لمن له الجزية . الجباية لمن له الجباية . والخوف لمن له الخوف والاكرام لمن له الاكرام ))
وبالتالي كيف يصح لعاقل من النصارى قرأ كتابه المقدس أن يعيب ويطعن على حكم الجزية ؟! ألا يعلم المبشرون أن طعنهم على هذا الحكم هو في الحقيقة طعن على كتابهم المقدس ؟!
هذا وان الجزية في الاسلام هي ضريبة مالية تفرض على غير المسلمين الذين اجتمعت فيهم الصفات الآتية :
اولاً : لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ايماناً صحيحاً يرتضيه ربنا سبحانه وتعالى .
ثانياً : لا يحرمون ما حرم الله ورسوله فلا يتبعون شرعه، في تحريم المحرمات .
ثالثاً : لا يدينون بالدين الصحيح .
ودليل ذلك قوله سبحانه وتعالى : (( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ))
فهؤلاء نحاربهم حتى يسلموا أو يدخلوا تحت سلطان الاسلام بأن يبذلوا الجزية ومتى بذلوا الجزية؛ وجب قبولها منهم، وحرم قتالهم وصاروا في حماية المسلمين ورعايتهم ، (( والله يحكم لا معقب لحكمه ))
وتسقط الجزية ولا تؤخذ من الصبي منهم والمرأة والمجنون والأعمى والمريض والشيخ الكبير والفقير ونحوه?. .
قال الامام القرطبي : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : والذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين , لأنه تعالى قال : " قاتلوا الذين " إلى قوله : " حتى يعطوا الجزية " فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل . ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا , لأنه لا مال له , ولأنه تعالى قال : " حتى يعطوا " . ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي . وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين , وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني . أ هـ الجامع لأحكام القرآن (8/72).(2/51)
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم نماذج رائدة في التسامح مع أهل الذمة في ظل المجتمع الاسلامي فهو القائل : (( من ظلم معاهداً أو انتقصه حقاً أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه ـ أي خصمه ـ يوم القيامة )) .
هذا وقد ذهب بعض المفسرين الي ان الأمر في الآية الكريمة ليس على اطلاقه بل ان الذين تفرض عليهم الجزية من أهل الكتاب هم الذين لا زالوا ينساقون مع المشركين ضد المسلمين من نقض للعهد أو اثارة العدو ومعونته أو الإغارة على اطراف المملكة ، كما فعل النصارى في الشام ، فجاء الأمر الإلهي بقتالهم حين بدأوا الإسلام بالشر حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون والصغار هو جريان أحكام الاسلام عليهم كما نقل عن الامام الشافعي . و قال الرافعي في أول كتاب الجزية : الأصح عند الأصحاب تفسير الصغار بالتزام أحكام الإسلام و جريانها عليهم .
?يقول الدكتور يوسف القرضاوي : ان هذه الآية لا تقرأ منفصلة عن سائر الآيات الأخرى في القرآن، فإذا وجد في أهل الكتاب من اعتزل المسلمين، فلم يقاتلوهم، ولم يظاهروا عليهم عدوا، وألقوا إليهم السلم، فليس على المسلمين أن يقاتلوهم، وقد قال الله تعالى : في شأن قوم من المشركين : (( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً )) (النساء:90). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "دعوا الحبشة ما ودعوكم " والحبشة نصارى أهل كتاب، كما هو معلوم.
يقول الله سبحانه وتعالى : (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))
انظر التفسير الواضح للدكتور محمد محمود حجازي .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
=====================
إلغاء التبني
قال تعالى : الأحزاب 36
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا
روى أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن جحش ، وفي زينب أخته لأنها لم يتقبلا في البداية زواج زينب من زيد بن حارثة .
وزيد بن حارثة كان سُرق من أهله ثم بيع في السوق على أنه رقيق فاشتراه حكيم بن حزام ، ثم وهبه للسيدة خديجة أم المؤمنين رضى الله عنها ، ثم وهبته بدورها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأصبح زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبينما هو في السوق ذات يوم إذ رآه جماعة من قبيلته فعرفوه وذهبوا إلى أبيه وأعمامه وقالوا لهم : إن ابنكم وجدناه في المكان الفلاني ، فلما علموا بذلك جاءوا بقضهم وقضيضهم ، وسألوا .. فدلوهم على مكانه ، فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه القصة وقالوا له : إن ابننا هذا سُرق مبيع ولم يكن عبداً ونحن جئناك لترده إلينا ، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم : خيروه فإن اختاركم فهنيئاً لكم ، وإن اختارني فما كان لي أن أسلمه ، فما كان من زيد إلا أن قال : واللهِ ما كنت لأختار على رسول الله أحداً .
فباللهِ عليكم مثل هذا التصرف كيف يكافئه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أراد أن يكرمه كما تفعل العرب بأن يتبناه فسماه { زيد بن محمد } وكان أسمه { زيداً بن حارثة } .
فلما أراد الله تعالى أن ينهي قضية التبني والتي كانت عادة من العادات السيئة في الجاهلية شاء سبحانه أن تجيء على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله قوله : الأحزاب 4 { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم }
وكان من أحكام التبني في الجاهلية (( أحكام بشرية ما انزل الله بها من سلطان )) أن زوجة المتبني لا يتزوجها أبوه المدعي وعلاج هذه المسأله يحتاج إلى شقين :
1) شق ينهي التبني
2) شق يتعلق بزواج طليقة الابن بالتبني(2/52)
وهذا المسألة جاءت لتعدل نظاماً اجتماعياً فاسداً حتى وإن جاءت على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالحق سبحانه وتعالى يعالج القضية علاب رب لإنفاذ الأمر في نصرة حبيب له هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يشوه عمله ولكن يقول : { ادعوهم لآبائهم هو اقسط عند الله } فكأنه سبحانه يقول له : إن كنت يا محمد تكافئ زيد لاختياره لك على أبيه وعشيرته بأن تتبناه وتجعله زيد بن محم فهذا عدل منك في حقه ، ولكن الله عنده عدل أفضل من هذا ، فأنت يامحمد عملت القسط بعرف البشر لكن حكم رب البشر أقسط من حكمك ، وحين يرد الله حكمك إلى حكمه ويعطيك هذا الشرف بأنك مقسط فهذا تكريم لك ؛ ولذلك قال : { هو أقسط عن الله } .
فكأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم كان قسطاً وعدلاً ،ولكن بقانون البشر ، ولكن الله تعالى أرسله ليغير قوانين البشر بقوانين رب البشر .
هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنى زيد لأنه فضله واختاره على أبيه ، ولكن بعد أن كان زيد بن محمد ، عاد ليصبح زيد ابن حارثه ، فكأن الله تعالى يكرمه بشيء يعوضه عن ذلك ، ولهذا تجد أن العَلم الوحيد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكر في القرآن بنصه وفصه هو زيد بن حارثه ... قال تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا... الأحزاب 37 } ، فإذا كان الله تعالى حرمه من شرف الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جعل اسمه يُتعبد بتلاوته إلى أن تقوم الساعة .
هنا الآية تبين الحكمة من كل هذه القصة في قوله سبحنه وتعالى : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } الأحزاب 37
فكان لا بد من حدوث هذا الأمر حتى ينهي الله التبني وما يترتب عليه من أحكام وعادات الجاهلية ثم نقول : هب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له اختيار في هذه العملية ولم تكن مسبقة أو أراد الله بها شيئاً وقد حدث فرضاً ، فهل نزع الله منه الرسالة أم جعله رسولاً كما هو ؟
ظل رسولاً لله يتنزل عليه وحيه .
إذن .. فلا شيء فيها ، وهذا مثل الذين يقولون عن نبي الله يوسف عليه السلام : كيف همت به وهم بها وهو نبي وابن نبي ؟ كأنهم يغارون أكثر من الله مع أنهم لو عرفوا ملابسات الموقف لما قالوا هذا لأن هذا فضول لا أصل له .
يقول الحق سبحانه : الأحزاب 38
{ مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا }
ما دام الله هو الذي فرضها فمن أين يأتي الحرج ، فالله فرض فرضاً ونفذه رسوله لأنه مأمور بتنفيذ أوامر الله فلا شيء عليه ، وهذه مثل مسألة الإسراء تماماً حينما قالوا : أتدعي يامحمد أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً ؟! وهذا غباء منهم ، لكنه أفادنا نحن الآن إذ ناقشنا الكلام نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل : { إني أسريت إلى بيت المقدس في ليلة } وإنما قال : { أُسري بي } ، من الذي أسرى به ؟ الذي أسرى به هو الله سبحنه جل شأنه .
إذن المسشألة منتهية ولا مشكلة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليبس له دخل بالموضوع ، وفعله لا علاقة له بالقضية لأن الفاعل هو الل ، فمادام الله هو الذي أسرى به ، فلماذا نشكك في الأمر ؟ .
ومع ذلك فهذه القضية نفعتنا الآن لنعلم أن الغباء يؤدي بصاحبه إلى عكس ما قصده ، فهم حين قالوا : أتدعي أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل في شهر ... باللله عليكم لو أن الرسول كان قد قال لهم : { إنه رأى بيت المقدس في المنام } هل كانوا سيكذبونه أو يردون عليه هذا الرد ؟
إذن هم فهموا وعرفوا أنه ذهب ‘لى بيت المقدس بشحمه ولحمه بحسده وروحه ، بدليل أنهم قارنوا بين سفره وسفرهم الذي يظل شهراً وهو لم يستغرق ليلة واحدة ، فهذه نفعتنا في الرد على الذين يقولون : { إن الإسراء كان بالرؤيا أو بالروح دون الجسد }
ومعنى : { ما كان على النبي من حرج } أي من إثم أو ملامة فيما فرض الله له ، وقوله : { سنة الله في الذين خلوا من قبل } الذين خلوا من قبل إخوانه من الرسل ، كان عندهم كذا وكذا ، أو فيما قبل الإسلام كان التعدد شائعاً ويملأ الدنيا فبم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل .
وهنا نلاحظ كلمة : { فيما فرض الله له } ولم يقل { فيما فرض الله عليه } أي فرض الله في صالحه .
ثم يقول تعالى : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ } الأحزاب 39
كأن الله سبحانه أراد أن يتكلم عن موضوع { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } الأحزاب 37 .(2/53)
فبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرسل لا يخشون في البلاغ عن الله شيئاً فنفى عنه أن تكون الخشية في البلاغ ، إنما الخشية في الاستحياء أو مخافة أن تلوكه الألسن إنما هم لا يملكون له شيئاً ، هنا يلاحظ أن الخبر محذوف ولإلا فمن هم الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً غيره ؟ وتقديره أن هؤلاء الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ، لا يمكن أن يتهموا بأنهم خشوا الناس من أجل البلاغ ، والذي سيحاسبهم هو الله ؛ ولذلك قال تعالى : { وكفى بالله حسيباً } الأحزاب39
====================
هل يوجد خلاص فى الإسلام
السلام عليكم
سئل احد النصارى عن الخلاص فى الإسلام . وكيف ينال المسلم وهل يضمن له الإسلام الخلاص من الخطيه ؟
وللرد انقل له ولكم رد جميل للدكتور السيد العربى
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.......وبعد:
* حقيقة التوبة:
* لغة: التَّوْبةُ: الرُّجُوعُ من الذَّنْبِ. وتابَ إِلى اللّهِ يَتُوبُ تَوْباً وتَوْبةً ومَتاباً: أَنابَ ورَجَعَ عن المَعْصيةِ إِلى الطاعةِ، ورَجل تَوَّابٌ: تائِبٌ إِلى اللّهِ. وتاب العبد: رجع إلى طاعة ربه وعبد تواب: كثير الرجوع إلى الطاعة وأصل التوبة الرجوع يقال: تاب وثاب وأب وأناب: أى رجع.
واللّهُ تَوّابٌ: يَتُوبُ علَى عَبْدِه. وتابَ الله عليه: وفَّقَه للتَّوبةِ، أو رجَعَ به من التَّشْدِيد إلى التَّخْفيفِ، أو رَجَعَ عليه بِفَضْلِهِ وقبوله، وهو تَوَّابٌ على
عبادِه ، واسْتَتَبْتُ فُلاناً: عَرَضْتُ عليهِ التَّوْبَةَ مما اقْتَرَف أَي الرُّجُوعَ والنَّدَمَ على ما فَرَطَ منه. واسْتَتابه: سأَلَه أَن يَتُوبَ.
* ومعناها شرعا:
أَصلُ تابَ عادَ إِلى اللّهِ ورَجَعَ وأَنابَ. وتابَ اللّهُ عليه أَي عادَ عليه بالمَغْفِرة. وقوله تعالى: "فتاب عليه" أي قبل توبته، أو وفقه للتوبة. وقوله تعالى: وتُوبُوا إِلى اللّه جَمِيعاً؛ أَي عُودُوا إِلى طَاعتِه وأَنيبُوا إِليه. واللّهُ التوَّابُ: يَتُوبُ على عَبْدِه بفَضْله إِذا تابَ إِليهِ من ذَنْبه.
والتوب: ترك الذنب على أجمل الوجوه... وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة،... والتائب يقال لباذل التوبة ولقابل التوبة، فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده... والتواب: العبد الكثير التوبة، وقد يقال ذلك لله تعالى لكثرة قبوله توبة العباد... ولا يجوز أن يقال في حق الله تعالى: تائب اسم فاعل من تاب يتوب , فليس لنا أن نطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه عليه السلام أو جماعة المسلمين، وإن كان في اللغة محتملا جائزا , قال الله تعالى "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار" [التوبة: 117] وقال: "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده" [التوبة: 104] وإنما قيل لله عز وجل تواب، لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه...... وقوله: {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} (الفرقان/71)، أي: التوبة التامة، وهو الجمع بين ترك القبيح وتحري الجميل. {عليه توكلت وإليه متاب} (الرعد/30)،
* شروط التوبة:
التوبة في الشرع:
1- ترك الذنب لقبحه.
2- والندم على ما فرط منه.
3- والعزيمة على ترك المعاودة.
4- وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالأعمال بالإعادة. فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة.
* قال القرطبى :ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه.
* قال سفيان بن عينه: التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل.
** أحكام التوبة:
* حكم التوبة:قال القرطبى:..{ اية النساء..17-18}(2/54)
اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين؛ لقوله تعالى: "وتوبوا إلى الله جميعا آيه المؤمنون". [النور: 31]. وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا "{ التحريم:8 } أمر بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان.... وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب. ولا فرق بين معصية ومعصية - هذا مذهب أهل السنة... وليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه أن يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه.... ومثاله رجل كان يتعاطى بابا من أبواب الربا ولا يعرف أنه ربا فإذا سمع كلام الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" [البقرة: 279] عظم عليه هذا التهديد، وظن أنه سالم من الربا، فإذا علم حقيقة الربا الآن، ثم تفكر فيما مضى من أيامه وعلم أنه لابس منه شيئا كثيرا في أوقات متقدمة، صح أن يندم عليه الآن جملة، ولا يلزمه تعيين أوقاته،... وهكذا كل ما واقع من الذنوب والسيئات كالغيبة والنميمة وغير ذلك من المحرمات التي لم يعرف كونها محرمة، فإذا فقه العبد وتفقد ما مضى من كلامه تاب من ذلك جملة، وندم على ما فرط فيه من حق الله تعالى،
* التوبة النصوح:
* قال القرطبى:...{اية التحريم:8}
وأصل التوبة النصوح من الخلوص؛ يقال: هذا عسل ناصح إذا خلص من الشمع. وقيل: هي مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة. وفي أخذها منها وجهان: أحدهما: لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته ويوثقه. والثاني: لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم؛ كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض.
اختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولا:
1- هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
2- وروي عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم. ورفعه معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: النصوح الصادقة الناصحة.
3- وقيل الخالصة؛ يقال: نصح أي أخلص له القول. وقال الحسن: النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره.
4- وقيل: هي التي لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها.
5- وقيل: هي التي لا يحتاج معها إلى توبة.
6- وقال الكلبي: التوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والاطمئنان على أنه لا يعود.
7- وقال الكلبي: التوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والاطمئنان على أنه لا يعود.
8- وقال سعيد بن المسيب: توبة تنصحون بها أنفسكم.
9- وقال القرظي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، وإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الخلان.
10- وقال سفيان الثوري: علامة التوبة النصوح أربعة: القلة والعلة والذلة والغربة.
11- وقال الفضيل بن عياض: هو أن يكون الذنب بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه.
12- ونحوه عن ابن السماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك.
13- وقال أبو بكر الوراق: هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك؛ كالثلاثة الذين خلفوا.
14- وقال أبو بكر الواسطي: هي توبة لا لفقد عوض؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة؛ فتوبته على حفظ نفسه لا لله.
15- وقال أبو بكر الدقاق المصري: التوبة النصوح هي رد المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات.
16- وقال رويم: هو أن تكون لله وجها بلا قفا، كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه.
17- وقال ذو النون: علامة التوبة النصوح ثلاث: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام.
18- وقال شقيق: هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة؛ لينجو من آفاتها بالسلامة.
19- وقال سري السقطي: لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأن من صحب توبته أحب أن يكون الناس مثله.
20- وقال الجنيد: التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدا؛ لأن من صحت توبته صار محبا لله، ومن أحب الله نسي ما دون الله.
21- وقال ذو الأذنين: هو أن يكون لصاحبها دمع مسفوح، وقلب عن المعاصي جموح.
22- وقال فتح الموصلي: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ.
23- وقال سهل بن عبدالله التستري: هي التوبة لأهل السنة والجماعة؛ لأن المبتدع لا توبة له؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب). وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه.
* قبول الله للتوبة:قال القرطبى:..{ اية النساء..17-18}(2/55)
إذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها. وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المخالف؛ لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم، والمكلف لهم؛ فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى عن ذلك، غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى: "وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات" [الشورى: 25].
وقوله: "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده" [التوبة: 104] وقوله: "وإني لغفار لمن تاب" [طه: 82] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء. والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلا؛ فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب. قال أبو المعالي وغيره: وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة. قال ابن عطية: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى. فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط فقال أبو المعالي: يغلب على الظن قبول توبته. وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه جل وعز. قال ابن عطية: وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله: "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده" [الشورى: 25] وقوله تعالى: "وإني لغفار" [طه: 82]... وإذا تقرر هذا فاعلم أن في قوله "على الله" حذفا وليس على ظاهره، وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده. وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (أتدري ما حق العباد على الله) ؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: (أن يدخلهم الجنة). فهذا كله معناه: على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق. دليله قوله تعالى: "كتب على نفسه الرحمة" [الأنعام: 12] أي وعد بها.
* شروط التوبة:قال القرطبى:..{ اية النساء..17-18..وال عمران: 135..والتحريم:8}(2/56)
وهي أربعة: الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره؛ فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة. وقد قيل من شروطها: الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار... ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه.. والذنوب التي يتاب منها إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره، وليس مجرد الإيمان نفس توبة، وغير الكفر إما حق لله تعالى، وإما حق لغيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك؛ غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة والصوم، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك، وأما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلي مستحقيها، فإن لم يوجدوا تصدق عنهم، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعسار فعفو الله مأمول، وفضله مبذول؛ فكم ضمن من التبعات وبدل من السيئات بالحسنات. قال العلماء: الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين. فإن كان حقا لله كترك صلاة فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها. وهكذا إن كان ترك صوم أو تفريطا في الزكاة. وإن كان ذلك قتل نفس بغير حق فأن يمكن من القصاص إن كان عليه وكان مطلوبا به. وإن كان قذفا يوجب الحد فيبذل ظهره للجلد إن كان مطلوبا به. فإن عفي عنه كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. وكذلك إن عفي عنه في القتل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجدا له، قال الله تعالى: "فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" [البقرة: 178]. وإن كان ذلك حدا من حدود الله كائنا ما كان فإنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح سقط عنه. وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم. وفي ذلك دليل على أنها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم؛ حسب ما تقدم بيانه. وكذلك الشراب والسراق والزناة إذا أصلحوا وتابوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم. وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا، لم يتركوا، وهم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غلبوا. هذا مذهب الشافعي. فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه - عينا كان أو غيره - إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه. وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه - عرفه بعينه أو لم يعرفه - فذلك صحيح. وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزعه بغير حق، أو غمه أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط فآلمه، ثم جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه، عازما على ألا يعود، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه فعفا عنه، سقط عنه ذلك الذنب. وهكذا إن كان شانه بشتم لا حد فيه...ولايصر العبد على الذنب... والإصرار هو العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه. ومنه صر الدنانير أي الربط عليها؛ وقال قتادة: الإصرار الثبوت على المعاصي؛
قال سهل بن عبدالله: الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر هالك، والإصرار هو التسويف، والتسويف أن يقول: أتوب غدا؛ وهذا دعوى النفس، كيف يتوب غدا لا يملكه!. وقال غير سهل: الإصرار هو أن ينوي ألاّ يتوب فإذا نوى التوبة النصوح خرج عن الإصرار.
* ومما يعين على التوبة وعدم الإصرار:
* قال القرطبى:...{اية..135ال عمران}(2/57)
قال علماؤنا: الباعث على التوبة وحل الإصرار إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين، وما وصفه من عذاب النار وتهدد به العاصين، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رغبا ورهبا؛ والرغبة والرهبة ثمرة الخوف والرجاء، يخاف من العقاب ويرجو الثواب، والله الموفق للصواب. وقد قيل: إن الباعث على ذلك تنبيه إلهي ينبه به من أراد سعادته؛ لقبح الذنوب وضررها إذ هي سموم مهلكة. قلت: وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى، فإن الإنسان لا يتفكر في وعد الله ووعيده إلا بتنبيهه؛ فإذا نظر العبد بتوفيق الله تعالى إلى نفسه فوجدها مشحونة بذنوب اكتسبها وسيئات اقترفها، وانبعث منه الندم على ما فرط، وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى صدق عليه أنه تائب، فإن لم يكن كذلك كان مصرا على المعصية وملازما لأسباب الهلكة. قال سهل بن عبدالله: علامة التائب أن يشغله الذنب على الطعام والشراب؛ كالثلاثة الذين خُلِّفوا.
* وعلى العبد ان يتوب من قريب:
قال القرطبى:..{ اية النساء..17-18}
ومعنى من قريب كما قال تعالى:" إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب" قال ابن عباس والسدي: معناه قبل المرض والموت. وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل الموت فهو قريب. وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه.... قال الهروي وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. والمبادر في الصحة أفضل،وقوله تعالى:" وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار" نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس؛ كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان؛ لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف. وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين. وأما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة،... وقد قيل: إن السيئات هنا الكفر، فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت، ولا للذين يموتون وهم كفار. وان كانت السيئات ما دون الكفر؛ فالمعنى ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة... وقوله:"حتى إذا حضر أحدهم الموت" يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت. "قال إني تبت الآن" فليس لهذا توبة.
* هل على التائب غسل:
ليس على التائب غسل لا على الوجوب ولا الاستحباب الا اذا كان كافرا مشركا ثم اسلم فمن المشروع ان يغتسل واختلفوا هل هذا الغسل واجب ام مندوب...ففى الحديث عن قيس بن عاصم: (أنه أسلم فأمره النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن يغتسل بماء وسدر).{ رواه الخمسة إلا ابن ماجه وأخرجه أيضاً ابن حبان وابن خزيمة وصححه ابن السكن }... وعن أبي هريرة: (أن ثمامة أسلم فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم: اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل)...{ رواه أحمد وأخرجه أيضاً عبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان وأصله في الصحيحين وليس فيهما الأمر بالاغتسال وإنما فيهما أنه اغتسل}
وهذه الأحاديث تدل على مشروعية الغسل لمن أسلم. وقد ذهب إلى الوجوب مطلقاً أحمد بن حنبل... وذهب الشافعي إلى أنه يستحب له أن يغتسل فإن لم يكن جنباً أجزأه الوضوء...ولعل هذا فى حق الكافر الصلى وليس المرتد.
* هل تكرار الذنب يمنع التوبة:
* قال القرطبى:...{اية..135ال عمران}(2/58)
قوله تعالى: "وهم يعلمون".. فيه أقوال.. وقال الحسن بن الفضل: "وهم يعلمون" أن لهم ربا يغفر الذنب. قلت: وهذا أخذه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: (أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي - فذكر مثله مرتين، وفي آخره: اعمل ما شئت فقد غفرت لك) أخرجه مسلم. وفيه دليل على صحة التوبة بعد نقضها بمعاودة الذنب؛ لأن التوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أخرى مستأنفة، والعود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه أضاف إلى الذنب نقض التوبة، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه أضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وإنه لا غافر للذنوب سواه. وقوله في آخر الحديث (اعمل ما شئت) أمر معناه الإكرام في أحد الأقوال؛ فيكون من باب قوله: "ادخلوها بسلام" [الحجر: 46]. وآخر الكلام خبر عن حال المخاطب بأنه مغفور له ما سلف من ذنبه، ومحفوظ إن شاء الله تعالى فيما يستقبل من شأنه. ودلت الآية والحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه) أخرجاه في الصحيحين.
وصدق من قال قال:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف بما جنى من الذنوب واقترف
وقال آخر:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه إن الجحود جحود الذنب ذنبان
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم). وهذه فائدة اسم الله تعالى الغفار والتواب،
* هل التوبة تسقط الحد:قال القرطبى:..{ اية النساء..17-18}
ولا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حدا؛ ولهذا قال علماؤنا: إن السارق والسارقة والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود.
* متى لايقبل الله التوبة:
* روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر). قال: هذا حديث حسن غريب. ومعنى ما لم يغرغر: ما لم تبلغ روحه حلقومه؛ فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به.
* وأما قوله تعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون}.( سورة آل عمران. الآية: 90)
* قال القرطبى:
قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن: نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقال أبو العالية: نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته "ثم ازدادوا كفرا" بإقامتهم على كفرهم...
وقوله: "لن تقبل توبتهم" مشكل لقوله: "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات" [الشورى: 25] فقيل: المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت. قال النحاس: وهذا قول حسن؛ كما قال عز وجل: "وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن" [النساء: 18].... وقيل: "لن تقبل توبتهم" التي كانوا عليها قبل أن يكفروا؛ لأن الكفر قد أحبطها. وقيل: "لن تقبل توبتهم" إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر؛ وإنما تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الإسلام... وقال قطرب: هذه الآية نزلت في قوم من أهل مكة قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون، فإن بدا لنا الرجعة رجعنا إلى قومنا. فأنزل الله تعالى: "إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم" أي لن تقبل توبتهم وهم مقيمون على الكفر؛ فسماها توبة غير مقبولة؛ لأنه لم يصح من القوم عزم، والله عز وجل يقبل التوبة كلها إذا صح العزم.ا.هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* السبت, 16 جمادى الثانية, 1423هـ,,,,{ 24 / 08 / 2002 م 04:39:40 ص}
جمعه ورتبه وكتبه الفقير
د/ السيد العربى بن كمال
منقول من الأخ حليمو
===================
هل صحيح أن الزكاة تتيح للغنى فرصة عند الله أفضل من فرصة الفقير ؟
المصدر وزارة الأوقاف المصرية
الرد على الشبهة:(2/59)
1 ـ تُعد الزكاة فى الإسلام أول ضريبة نظامية فى تاريخ الاقتصاد فى العالم. فالذى كان يحدث قبل ذلك هو أن الحكام كانوا يفرضون الضرائب حسب أهوائهم ، وبقدر حاجتهم إلى الأموال تحقيقًا لأغراضهم الشخصية. وكان عبء هذه الضرائب يقع على كاهل الفقراء أكثر مما يقع على كاهل الأغنياء ، أو يقع على كاهل الفقراء وحدهم. ولما جاء الإسلام وفرض الزكاة قام بتنظيم جمعها وحدد لها نسبة معينة ، وجعلها تقع على عاتق الأغنياء والمتوسطين ، وأعفى منها الفقراء (1). وتشريع الزكاة ليس فقط نظامًا ماليًّا ، وإنما هو فى الوقت نفسه عبادة كالصلاة والصيام والحج ، يؤديها المسلم القادر على دفعها ، ليس خوفًا من السلطة التنفيذية ، ولكن تقربًا إلى الله واستجابة لتعاليم دينه.
2 ـ شعر الفقراء فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بعجزهم عن أداء الزكاة مثل الأغنياء. ورأوا أن هذا من شأنه أن يعطى للأغنياء ميزة الحصول على الثواب من الله بأدائهم للزكاة وحرمان الفقراء من هذا الثواب مع أنه لا ذنب لهم فى فقرهم. وقام الفقراء بعرض ما يشعرون به على النبى صلى الله عليه وسلم ، فأوصاهم بالتسبيح والتحميد والتكبير (أى بقول سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر) ثلاثًا وثلاثين مرة عقب كل صلاة ، وبين لهم أن هذا من شأنه أن يرفع من درجاتهم عند الله ويجعل منزلتهم عنده لا تقل عن منزلة الأغنياء الذين يؤدون الزكاة (2).
3 ـ المعيار الذى اعتمده القرآن فى المفاضلة بين الناس بصفة عامة هو معيار التقوى والعمل الصالح كما جاء فى القرآن الكريم: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (3). والتقوى مفهوم عام يشمل كل عمل يقوم به الإنسان ـ أيًّا كان هذا العمل دينيًا أم دنيويًا ـ طالما قصد به وجه الله ونفع الناس ودفع الأذى عنهم. فالقرب من الله لا يتوقف على أداء الزكاة أو غيرها من الشعائر الإسلامية فحسب ، بل يتوقف أيضًا على التوجه العام من جانب الإنسان فى كل ما يقوم به فى حياته من أعمال ، وما يصدر عنه من سلوك وما يخرج من فمه من أقوال. والإسلام يعلق أهمية كبيرة على النية. فالأعمال بالنيات كما يقول النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] (4). وهذا يعنى أن الفقير الذى لا يستطيع إخراج الزكاة ويتمنى أن لو كان لديه مال ليزكى به فإنه يثاب على هذه النية مادامت صادقة. وقد يُخرج الغنى الزكاة ويقصد من وراء ذلك التظاهر أمام الناس والحصول على مكانة بينهم فلا يثاب على ذلك بشىء
----**----
(1) راجع: محمد قطب: شبهات حول الإسلام ـ ص91 ـ مكتبة وهبة سنة 1960م.
(2) فتح البارى بشرح صحيح البخارى ج2 ص 325 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى. المطبعة السلفية.
(3) الحجرات: 13.
(4) البخارى. باب الوحى رقم 1 ، والإيمان 41 ، والنكاح 5 ، والطلاق 11 ، والترمذى فضائل الجهاد 16 ، والنسائى طهارة 59
=====================
هل لله روح ؟
هذا السؤال حديث وورد للشيخ محمد بن صالح المنجد - وذكرنى هذا بنقاش موضوع احد الأعضاء بخصوص روح الله ، وقد أجاب وأورد بعض الآيات كدليل لفهمه او فهم احد المفسرين ، وهذا تفسير آخر وهو الأدق ربما فى ضوء عقيدة أهل السنة :
السؤال:
أجادل مسيحيا فيقول لي : إن لله روحا . فسؤالي هل لله روح ؟ ( روح كروح الإنسان والملائكة وسائر الخلق ) وهل الروح شئ مخلوق أم ماذا ؟ .
الجواب:
الحمد لله
ليس لأحد أن يصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا أحد أعلم بالله من الله تعالى ، ولا مخلوق أعلم بخالقه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الله تعالى : ( قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ) البقرة/140. ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) الإسراء/36 .
والروح ليست من صفات الله تعالى ، بل هي خلق من مخلوقات الله تعالى . وأضيفت إلى الله تعالى في بعض النصوص إضافة ملك وتشريف ، فالله خالقها ومالكها ، يقبضها متى شاء ، ويرسلها متى شاء .
فالقول في الروح ، كالقول في (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله) و (رسول الله) فكل هذه مخلوقات أضيفت لله تعالى للتشريف والتكريم .
ومن النصوص التي أضيفت فيها الروح إلى الله : قوله تعالى : ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِه ) السجدة/9 . وهذا في حق آدم عليه السلام .
وقال سبحانه وتعالى عن آدم أيضاً : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) الحجر/29 .
وقال تعالى : ( فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً ) مريم/17- 19 .(2/60)
فالروح هنا هو عبد الله ورسوله جبريل الذي أرسله إلى مريم . وقد أضافه الله إليه في قوله (رُوحَنَا) فالإضافة هنا للتكريم والتشريف ، وهي إضافة مخلوق إلى خالقه سبحانه وتعالى .
وفي حديث الشفاعة الطويل : ( فَيَأْتُونَ مُوسَى ، فَيَقُولُ : لَسْتُ لَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى ، فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ) رواه البخاري (7510) ومسلم (193) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله صفة له ، بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق ، كقوله تعالى (بيت الله) و (ناقة الله) و(عباد الله) بل وكذلك روح الله عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم . ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره مثل كلام الله وعلم الله ويد الله ونحو ذلك كان صفة له " انتهى من "الجواب الصحيح" (4/414) .
وهذه القاعدة ذكرها شيخ الإسلام في مواضع ، وحاصلها أن المضاف إلى الله نوعان :
1- أعيان قائمة بذاتها ، فهذه الإضافة للتشريف والتكريم ، كبيت الله وناقة الله ، وكذلك الروح ، فإنها ليست صفة ، بل هي عين قائمة بنفسها ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب الطويل في وفاة الإنسان وخروج روحه : ( فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ ) ( فَيَأْخُذُهَا (يعني يأخذ ملك الموت الروح ) فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا (يعني الملائكة) فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ ) (وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ قَالَ فَيَصْعَدُونَ بِهَا ) . انظر روايات الحديث في "أحكام الجنائز" للألباني (ص 198) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ ) رواه مسلم (920) أي : إذا خرجت الروح تبعها البصر ينظر إليها أين تذهب . فهذا كله يدل على أن الروح عين قائمة بنفسها .
2- صفات لا تقوم بنفسها ، بل لا بد لها من موصوف تقوم به ، كالعلم والإرادة والقدرة ، فإذا قيل : علم الله ، وإرادة الله ، فهذا من إضافة الصفة إلى الموصوف .
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب "الروح" :
" المسألة السابعة عشرة : وهي هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة ؟
ثم قال : فهذه مسألة زل فيها عالَمٌ ، وضل فيها طوائف من بنى آدم ، وهدى الله أتباع رسوله فيها للحق المبين ، والصواب المستبين ، فأجمعت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبَّرة ، هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، كما يعلم بالاضطرار من دينهم أن العالم حادث ، وأن معاد الأبدان واقع ، وأن الله وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق له " ثم نقل عن الحافظ محمد بن نصر المروزي قوله : " ولا خلاف بين المسلمين أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بنى آدم كلها مخلوقة لله ، خلقها وأنشأها وكونها واخترعها ثم أضافها إلى نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه قال تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) الجاثية/13 "
انتهى من "الروح" (ص144) .
وربما أشكل على بعض الناس قوله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام : ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) النساء/171 . فظنوا كما ظنت النصارى أن (مِِْن) للتبعيض ، وأن الروح جزء من الله . والحق أن (مِِْن) هنا لابتداء الغاية ، أي هذه الروح من عند الله ، مبدأها ومنشأها من الله تعالى ، فهو الخالق لها ، والمتصرف فيها
قال ابن كثير رحمه الله :
" فقوله في الآية والحديث : ( وَرُوحٌ مِنْهُ ) كقوله : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) أي من خلقه ومِنْ عنده ، وليست (مِنْ) للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة ، بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى ، وقد قال مجاهد في قوله : (وروح منه) أي ورسول منه ، وقال غيره : ومحبة منه ، والأظهر الأول ، وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة . وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله : ( هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ ) الأعراف/73 ، وفي قوله : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ) الحج/26 . وكما روي في الحديث الصحيح : ( فأدخل على ربي في داره ) أضافها إليه إضافة تشريف ، وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد " انتهى من "تفسير ابن كثير" (1/784) .(2/61)
وقال الألوسي رحمه الله : : حكي أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد ناظر على بن الحسين الواقدى المروزى ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية : ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) فقرأ الواقدي قوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) الجاثية/13 . فقال : إذاً يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءاً منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا ، فانقطع النصراني فأسلم ، وفرح الرشيد فرحا شديدا " .
وقال رحمه الله : " لا حجة للنصارى على شيء مما زعموا في تشريف عيسى عليه السلام بنسبة الروح إليه ؛ إذ لغيره عليه السلام مشاركة له في ذلك ، ففي إنجيل لوقا : قال يسوع لتلاميذه : إن أباكم السماوي يعطي روح القدس الذين يسألونه .
وفى إنجيل متى : إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه .
وفى التوراة : قال الله تعالى لموسى عليه السلام : اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك .
وفيها في حق يوسف عليه السلام : يقول الملك : هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله تعالى عز وجل حال فيه .
وفيها أيضا : إن روح الله تعالى حلت على دانيال . . . إلى غير ذلك " انتهى من "روح المعاني" (6/25) .
وجاء في إنجيل لوقا (1/41) : ( وامتلأت الياصبات من الروح القدس ) .
وقوله (1/25، 26) : ( وكان في أورشليم رجل صالح تقي اسمه سِمعان ، ينتظر الخلاص لإسرائيل ، والروح القدس كان عليه ، وكان الروح القدس أوحى إليه أنه لا يذوق الموت قبل أن يرى مسيح الرب . فجاء إلى الهيكل بوحي من الروح ) فهذا صريح في أن الروح ملَك يأتي بالوحي ، وصريح أيضا في أن عيسى عليه السلام (مسيح الرب) فهو عبد لله تعالى ، والله هو الذي مسحه ، وجعلها مسيحا .
منقول عن :
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
====================
هل الإسلام يمدح الرهبانية ؟
قال تعالى : " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون "
فهل نفهم من هذه الآية أن الإسلام يمتدح الرهبانية .. لان الرهبانية قرنت بالرأفة والرحمة ؟
فنضع رد شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه النقطة مع قليل من التصرف من قبلى .. قال : ان هذه الآية لا مدح فيها على الاطلاق للرهبانية .. بل هى مذمة لهم واستنكار عليهم هذه البدعة التى لم ينزل الله بها من سلطان .. وانما فيه مدح لمن اتبع عيسى عليه السلام بما جعل الله في قلوبهم من الرحمة والرأفة .. حيث يقول " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة " ثم قال " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " .. اى وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم وهذه الرهبانية لم يشرعها الله ولم يجعلها مشروعة لهم .. بل نفى جعله عنها .
وهذا الجعل المنفى عن ’’البدع‘‘ هو الجعل الذي اثبته للمشروع بقوله تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " وقوله " لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه " فالرهبانية ابتدعوها النصارى ولم يشرعها الله
وقال علماء اللغة :
فى قوله ’’ورهبانية‘‘ قولان : أحدهما أنها منصوبة يعني ابتدعوها إما بفعل مضمر يفسره ما بعده أو يقال هذا الفعل عمل في المضمر والمظهر .. كما هو قول ’’الكوفيين‘‘ حكاه عنهم ابن جرير وثعلب وغيرهما ونظيره قوله " يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما " وقوله " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " وعلى هذا القول فلا تكون الرهبانية معطوفة على الرأفة والرحمة .
والقول الثانى إنها معطوفة عليها فيكون الله قد جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية المبتدعة .. ويكون هذا جعلا خلقيا كونيا .. والجعل الكوني يتناول الخير والشر كقوله تعالى " وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار " .(2/62)
وعلى هذا القول فلا مدح للرهبانية بجعلها في القلوب .. فثبت على التقديرين أنه ليس في القرآن مدح للرهبانية ثم قال " إلا ابتغاء رضوان الله " .. أى لم يكتب عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وابتغاء رضوان الله بفعل ما أمر به .. لا بما يبتدع وهذا يسمى استثناء منقطعا كما في قوله " اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه " وقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا " وقوله تعالى " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " وقوله تعالى " فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون " وقوله تعالى " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما " وقوله " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ " وهذا أصح الأقوال في هذه الآية كما هو مبسوط في موضع آخر .
ولا يجوز أن يكون المعنى أن الله كتبها عليهم ابتغاء رضوان الله .. فإن الله لا يفعل شيئا ابتغاء رضوان نفسه ولا أن المعنى أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوانه كما يظن هذا وهذا بعض الغالطين كما قد بسط في موضع آخر .. وذكر أنهم ابتدعوا الرهبانية وما رعوها حق رعايتها .. وليس في ذلك مدح لهم بل هو ذم ثم قال تعالى " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم " وهم الذين آمنوا منهم بمحمد وكثير منهم فاسقون .. ولو أريد الذين آمنوا بالمسيح أيضا فالمراد من اتبعه على دينه الذي لم يبدل .. وإلا فكلهم يقولون إنهم مؤمنون بالمسيح وبكل حال فلم يمدح سبحانه إلا من اتبع المسيح على دينه الذي لم يبدل .. ومن آمن بمحمد لم يمدح النصارى الذين بدلوا دين المسيح ولا الذين لم يؤمنوا بمحمد .. فإن قيل قد قال بعض الناس إن قوله تعالى ورهبانية ابتدعوها عطف على رأفة ورحمة وإن المعنى أن الله جعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية أيضا ابتدعوها وجعلوا الجعل شرعيا ممدوحا قيل هذا غلظ لوجوه :
منها أن الرهبانية لم تكن في كل من اتبعه بل الذين صحبوه كالحواريين لم يكن فيهم راهب .. وإنما ابتدعت الرهبانية بعد ذلك بخلاف الرأفة والرحمة فإنها جعلت في قلب كل من اتبعه .
ومنها أنه أخبر أنهم ابتدعوا الرهبانية بخلاف الرأفة والرحمة .. فإنهم لم يبتدعوها وإذا كانوا ابتدعوها لم يكن قد شرعها لهم فإن كان المراد هوالجعل الشرعي الديني لا الجعل الكوني القدري فلم تدخل الرهبانية في ذلك .. وإن كان المراد الجعل الخلقي الكوني فلا مدح للرهبانية في ذلك .
ومنها أن الرأفة والرحمة جعلها في القلوب والرهبانية لا تختص بالقلوب .. بل الرهبانية ترك المباحات من النكاح واللحم وغير ذلك .. وقد كان طائفة من الصحابة رضوان الله عليهم هموا بالرهبانية فأنزل الله تعالى نهيهم عن ذلك بقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " وثبت في الصحيحين أن نفرا من أصحاب النبي قال أحدهم أما أنا فأصوم لا أفطر وقال آخر أما أنا فأقوم لا أنام وقال آخر أما أنا فلا أتزوج النساء وقال آخر أما أنا فلا آكل اللحم .. فقام النبي خطيبا فقال ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني .
وفي صحيح البخاري أن النبي رأى رجلا قائما في الشمس فقال ما هذا قالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه .
وثبت في صحيح مسلم عن النبي أنه كان يقول في خطبته خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وفي السنن عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة .. قال الترمذي حديث حسن صحيح .. وقد بينت النصوص الصحيحة أن الرهبانية بدعة وضلالة وما كان بدعة وضلالة لم يكن هدى .. ولم يكن الله جعلها بمعنى أنه شرعها كما لم يجعل الله ما شرعه المشركون من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام .(2/63)
فإن قيل قد قال طائفة معناها ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله .. وقالت طائفة ما فعلوها أو ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله .. قيل كلا القولين خطأ والأول أظهر خطأ فإن الرهبانية لم يكتبها الله عليهم .. بل لم يشرعها لا إيجابا ولا استحبابا ولكن ذهبت طائفة إلى أنهم لما ابتدعوها كتب عليهم إتمامها .. وليس في الآية ما يدل على ذلك فإنه قال " ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " فلم يذكر أنه كتب عليهم نفس الرهبانية ولا إتمامها ولا رعايتها .. بل أخبر أنهم ابتدعوا بدعة وأن تلك البدعة لم يرعوها حق رعايتها .
فإن قيل قوله تعالى " فما رعوها حق رعايتها " .. يدل على أنهم لو رعوها حق رعايتها لكانوا ممدوحين .. قيل ليس في الكلام ما يدل على ذلك بل يدل على أنهم مع عدم الرعاية يستحقون من الذم ما لا يستحقونه بدون ذلك فيكون ذم من ابتدع البدعة ولم يرعها حق رعايتها أعظم من ذم من رعاها وإن لم يكن واحد منهما محمودا بل مذموما مثل نصارى بني تغلب ونحوهم ممن دخل في النصرانية ولم يقوموا بواجباتها بل أخذوا منها ما وافق أهواءهم فكان كفرهم وذمهم أغلظ ممن هو أقل شرا منهم والنار دركات كما أن الجنة درجات .
وأيضا فالله تعالى إذا كتب شيئا على عباده لم يكتب ابتغاء رضوانه بل العباد يفعلون ما يفعلون ابتغاء رضوان الله .. وأيضا فتخصيص الرهبانية بأنه كتبها ابتغاء رضوان الله دون غيرها تخصيص بغير موجب .. فإن ما كتبه ابتداء لم يذكر أنه كتبه ابتغاء رضوانه فكيف بالرهبانية .. وأما قول من قال ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله فهذا المعنى لو دل عليه الكلام لم يكن في ذلك مدح للرهبانية .. فإن من فعل ما لم يأمر الله به بل نهاه عنه مع حسن مقصده غايته أن يثاب على قصده لا يثاب على ما نهى عنه ولا على ما ليس بواجب ولا مستحب فكيف والكلام لا يدل عليه فإن الله قال " ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله " ولم يقل ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله .. ولا قال ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله .. ولو كان المراد ما فعلوها أو ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله لكان منصوبا على المفعولية ولم يتقدم لفظ الفعل ليعمل فيه ولا نفي الابتداع بل أثبته لهم .. وإنما تقدم لفظ الكتابة فعلم أن القول الذي ذكرناه هو الصواب وأنه استثناء منقطع فتقديره وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله فإن إرضاء الله واجب مكتوب على الخلق وذلك يكون بفعل المأمور وبترك المحظور .. لا بفعل ما لم يأمر بفعله وبترك ما لم ينه عن تركه والرهبانية فيها فعل ما لم يؤمر به وترك ما لم ينه عنه .
هذه المشاركه بقلم الأخ ابن القيم
==================
الخلط بين الإسلام وغيره من الأديان - إبطال نظرية
أما بعدُ: ففي الوقت الذي يجري فيه صريف الأقلام الجهادية من علماء المسلمين في شتى فجاج أرض الله، بالدعوة إلى الله، والتبصير في الدين، ومواجهة موجات الإلحاد والزندقة، ورد دعاوى الجاهلية القديمة والمعاصرة: القومية. البعثية. . . . . الماركسية. العلمنة. الحداثة . . . . وصد عاديات التغريب والانحراف، والغزو والمعنوي بجميع أنواعه وضروبه، وأشكاله، بدت محنة أخرى في ظاهرة هي أبشع الظواهر المعادية للإسلام والمسلمين؛ إذ نزعت في المواجهة نزعا عنيفا بوقاحة، وفراهة؛ كيداً للمسلمين، وطعناً في الدين، وليّاً بألسنتهم؛ لإفساد نزعة التدين بالإسلام، والدخول فيه، وتذويب شخصيته في معترك الديانات، ومطاردة التيار الإسلامي، وكبت طلائعه المؤمنة، وسحب أهله عنه إلى ردةٍ شاملة.
وكل ذلك يجري على سنن الصراع والتقابل والتدافع، كما قال أبو العلاء المعري:
يجنى تزايد هذا من تناقض ذا كالليل إن طال غال اليوم بالقصر
وأعلى من ذلك وأجل قول الله -تعالى-: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة/ 217].
وقوله -سبحانه-: {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} [النساء/ 89].
وذلك فيما جهرت به اليهود والنصارى، من الدعوة الجادة إلى:
"نظرية الخلط بين الإسلام وبين ما هم عليه من دين محرف منسوخ" وزرع خلاياهم في أعماق الإسلام في كل صقع ودار، وصهر المسلمين معهم في قالب واحد فلا ولاء، ولا براء، ولا تقسيم للملأ إلى مسلم وكافر أبدا، ولا لتعبدات الخلائق إلى حق وباطل. ونصبوا لذلك مجموعة من الشعارات وصاغوا له كوكبة من الدعايات، وعقدوا له المؤتمرات، والندوات، والجمعيات، والجماعات، إلى آخر ما هنالك من مخططات وضغط، ومباحثات ظاهرة، أو خفية، معلنة، أو سرية، وما يتبع ذلك من خطوات نشيطة، ظهر أمرها وانتشر وشاع واشتهر.
وهم في الوقت نفسه في حالة استنفار، وجد ودأب في نشر التنصير، وتوسيع دائرته، والدعوة إليه، واستغلال مناطق الفقر، والحاجة، والجهل، وبعث النشرات عبر صناديق البريد.(2/64)
من هنا اشتد السؤال ، ووقع كثيراً من أهل الإسلام عن هذه " النظرية " التي حلت بهم ، ونزلت بساحتهم ، ما الباعث لها ، وما الغالية التي ترمي إليها ، وما مدى مصداقية شعاراتها ، وعن حكم الإسلام فيها، وحكم الاستجابة لها من المسلمين ، وحكم من أجاب فيها ، وحكم من دعا إليها ، ومهد السبيل لتسليكها بين المسلمين ، ونشرها في ديارهم ، ونثر من أجلها وسائل التغريب ، وأسباب التهويد ، والتنصير في صفوف المسلمين .
حتى بلغت الحال ببعضهم إلى فكرة : " طبع القرآن الكريم ، والتوراة والإنجيل في غلاف واحد ؟
وحتى بلغ الخلط والدمج مبلغه ببناء " مسجد ، وكنسية ، ومعبد " في محل واحد ، في : " رحاب الجامعات " و " المطارات " و " الساحات العامة " ؟
فما جوابكم يا علماء الإسلام ؟؟
بين يدي الجواب :
لا شك أن الوضع قائم مشهور ، والسؤال وارد مطلوب ، والجواب واجب محتوم ، على كل من آتاه الله علماً ، وبصيرة في دين الله ، وهذا من بعض حق الله على كل عبد مسلم ؛ لتبصير المسلمين في أمر دينهم ، وكشف الحقيقة عما يحل بهم ، حتى يصيروا على بصيرة من أمرهم ، وحراسة الشريعة برد كل مكيدة توجد إليهم ، وإلى دينهم : " دين الإسلام " وتطعن في الله ، وفي كتابه ، وفي رسوله ، وسنته ، وهو باب عظيم من أبواب مجاهدة الكافرين ودفع مكايدهم ، وشرورهم عن المسلمين ، وهي تكون بالحجة والبيان ، والسيف والسنان ، والقلب والجنان ، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان . قال الله تعالى : { كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } [ آل عمران / 79 ] .
وقد رأيت أن أكتب الجواب عن هذا السؤال ، مبيناً له بالحجة ، والبيان ، والدليل والبرهان ، مرتباً له في مقامات ثلاثة :
المقام الأول : المسرد التاريخي لهذه النظرية ، وتشخيص وقائعها وخطواتها في الحاضر والعابر ؛ ليحصل تمام التصور لمحل السؤال .
المقام الثاني : في الجواب على سبيل الإجمال .
المقام الثالث : في الجواب على طريقة النشر والتفصيل ، بتشخيص الأصول العقدية الإسلامية التي ترفض هذه النظرية وتنابذها .
المقام الأول
المسرد التاريخي لهذه النظرية وتشخيص وقائعها
إنها نظرية اليهود والنصارى ، وهي حديثة بصنع شعاراتها ، والعمل من أجلها على كافة المستويات - كما سيأتي - لسَحب المسلمين من إسلامهم ، لكنها قديمة عند اليهود ، والنصارى ، في كوكبة تدابيرهم الكيدية ومواقفهم العدائية للإسلام ، والمسلمين .
وبتتبع مراحلها التاريخية ، وجدتها قد مرت في حقب زمانية أربع هي :
1- مرحلتها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم :
قد بين الله - سبحانه - في محكم كتابه ، أن اليهود ، والنصارى في محاولة دائبة ؛ لإضلال المسلمين عن إسلاميهم ، وردهم إلى الكفر ، ودعوتهم المسلمين إلى اليهودية أو النصرانية فقال - تعالى - : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير } [البقرة / 109] .
وقال - تعالى - : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ البقرة / 111 ، 112 ] .
وقال - تعالى - : { قالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } [ البقرة / 135 ] .
وهكذا في عدد من آيات الله ، يتلوها المسلمون في كتاب الله ؛ ليحذروا الكافرين من اليهود ، والنصارى ، وغيرهم ، فخمدت حيناً من الدهر حتى انقراض القرون المفضلة .
2- مرحلة الدعوة إليها بعد انقراض القرون المفضلة :
ثم بدت محاولاتهم مرة أخرى تحت شعار صنعوه ، وموهوا به على الجهال ، وهو : أن الملل : اليهودية ، والنصرانية ، والإسلام . هي بمنزلة المذاهب الفقهية الأربعة عند المسلمين كل طريق منها يوصل إلى الله - تعالى - . (2)
وهكذا فيما يثيرونه من الشبه ، ومتشابه القول ، وبتر النصوص ، مما يوهمون به ، ويستدرجون به أقواماً ، ويتصدون به آخرين ، من ذوي الألقاب الضخمة هنا وهناك ؟
ثم تلقاها عنهم دعاة : " وحدة الوجود " و " الاتحاد " و " الحلول " وغيرهم من المنتسبين إلى الإسلام من ملاحدة المتصوفة في مصر ، والشام ، وأرض فارس ، وأقاليم العجم ، ومن غلاة الرافضة وهي من مواريثهم عن التتر ، وغيرهم حتى بلغ الحال أن بعض هؤلاء الملاحدة يجيزون التهود ، والتنصر ، بل فيهم من يرجح دين اليهود والنصارى على دين الإسلام .. وهذا فاشٍ فيمن غلبت عليهم الفلسفة منهم ، ثم انتقلوا إلى أن أفضل الخلق عندهم هو : " المحقق " وهو : الداعي إلى الحلول ، والاتحاد . وقد كشفهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في مواضع من كتبه (3) .(2/65)
وقد قُمِعَت هذه الدعوة الكفرية بمواجهة علماء الإسلام لها ، والمناداة عليها ، وعلى منتحليها ، بأنها كفر وردة عن الإسلام .
وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - مواقف إسلامية مشهورة خالدة ، ولغيره من علماء المسلمين الذين ردوا على هؤلاء الغلاة، مثل الحلاج : الحسين بن منصور الفارسي ، المقتول على الردة 309 (4) ، وابن عربي محمد بن علي الطائي ، قدوة السوء للقائلين بوحدة الوجود ، في كتابه : الفصوص ، المتوفى سنة 638 ، وابن سبعين . ت سنة 699 ، وغيرهم كثير (5) .
3- مرحلة الدعوة إليها في النصف الأول من القرن الرابع عشر :
وقد خمدت حيناً من الدهر محتجرة في صدر قائليها ، المظهرين للإسلام ، المبطنين للكفر والإلحاد ، حتى تبنتها " الماسونية " (6) وهي : " منظمة يهودية للسيطرة على العالم ، ونشر الإلحاد والإباحية " . تحت غطاء الدعوة إلى وحدة الأديان الثلاثة ، ونبذ التعصب بجامع الإيمان بالله ، فكلهم مؤمنون . وقد وقع في حبال دعوتهم : جمال الدين بن صَفدَر الأفغاني ، ت سنة 1314 بتركيا (7) وتلميذه الشيخ محمد عبده بن حسن التركماني . ت سنة 1323 بالإسكندرية (8) .
وكان من جهود محمد عبده ، في ذلك ، أن ألف هو ، وزعيم الطائفة ميرزا باقر الإيراني ، الذي تنصر ، ثم عاد إلى الإسلام ، ومعهم ممثل جمال الأفغاني ، وعدد من رجال الفكر في : " بيروت " ألفوا فيه جمعية باسم : " جمعية التأليف والتقريب " موضوعها التقريب بين الأديان الثلاثة . وقد دخل في هذه الجمعية بعض الإيرانيين ، وبعض الإنجليز ، واليهود ، كما تراه مفصلاً في كتاب : " تاريخ الأستاذ الإمام : 1 / 817 - 829 " تأليف محمد رشيد رضا . المتوفى سنة 1354 .
ومن جهود محمد عبده في ذلك ، مراسلات بينه ، وبين بعض القساوسة ، كما في كتاب : " الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده : 2 / 363 - 368 " جمع محمد عمارة .
وقد جالت مطارحات في هذه النظرية ، بين عدد من المؤيدين ، والمعارضين ، بين محمد عبده ، ومحمد حسين هيكل ، والطبيب حسن الهراوي ، وعبد الجواد الشرقاوي ، وذلك في مجلة : " السياسة الأسبوعية بمصر " في الأعداد / 2821 لشهر صفر عام 1351 ، وما بعده .
وفي : " صحيفة الهلال " في الأعداد / 484 ، 485 لعام 1357 ، 1358 ، مقالات بعنوان : " هل يمكن توحيد الإسلام والمسيحية ؟ " بين كل من / محمد فريد وجدي ، ومحمد عرفة ، وعبد الله الفيشاوي الغزي ، وبين القساوسة ، وكان الحوار ، وكانت المراسلات جارية في هذه المقالات في الجواب على هذا السؤال : هل يمكن التوحيد بين الإسلام والمسيحية من جهة الأسلوب الروحي فقط ، أو من جهة الأمور المادية ، وكان النصراني إبراهيم لوقا يستصعب توحيد الإسلام والمسيحية في كلا الأمرين جميعاً ، ولكنه استسهل الجمع بين المسلمين والنصارى في مصالح الوطن ، ثم قال :
" لا سبيل إلى الوحدة الكاملة إلا بأن تعتنق إحداهما مبادئ الأخرى ، فإما إيمان بلاهوت المسيح ، وتجسده ، وموته ، وقيامه ، فيكون الجميع مسيحيين ، وإما إيمان بالمسيح كواحد من الرسل النبيين ، فيصبح به الجميع مسلمين " .
4- مرحلة الدعوة إليها في العصر الحاضر :
في الربع الخير من القرن الرابع عشر هجري ، وحتى عامنا هذا 1416 . وفي ظل " النظام العالمي الجديد " : جهرت اليهود ، والنصارى ، بالدعوة إلى التجمع الديني بينهم ، وبين المسلمين ، وبعبارة أخرى : " التوحيد بين الموسوية ، والعيسوية ، والمحمدية " باسم :
" الدعوة إلى التقريب بين الأديان ". " التقارب بين الأديان " . ثم باسم : " نبذ التعصب الديني ".
ثم باسم : " الإخاء الديني " وله : فتح مركز بمصر بهذا الاسم (9) .
وباسم : " مجمع الأديان " وله فتح مركز بسيناء مصر بهذا الاسم (10) .
وباسم : " الصداقة الإسلامية المسيحية " .
وباسم : " التضامن الإسلامي المسيحي ضد الشيوعية " .
ثم أخرجت للناس تحت عدة شعارات :
* " وحدة الأديان " . " توحيد الأديان " . " توحيد الأديان الثلاثة " . " الإبراهيمية " . " الملة الإبراهيمية " . " الوحدة الإبراهيمية " . " وحدة الدين الإلهي " . " المؤمنون " . " المؤمنون متحدون " . " الناس متحدون " . الديانة العالمية " . " التعايش بين الأديان " . " المِلّيُون " . " العالمية وتوحيد الأديان " (11) .
ثم لحقها شعار آخر ، هو " وحدة الكتب السماوية " . ثم امتد أثر هذا الشعار إلى فكرة طبع : " القرآن الكريم ، والتوراة ، والإنجيل " في غلاف واحد .
ثم دخلت هذه الدعوة في : " الحياة التعبدية العملية " (12) ؛ إذ دعا " البابا " إلى إقامة صلاة مشتركة من ممثلي الأديان الثلاثة : الإسلاميين والكتابيين ، وذلك بقرية : " أسِيس " في : " إيطاليا " . فأقيمت فيها بتاريخ : 27 / 10 / 1986 م .
ثم تكرر هذا الحدث مرات أخرى باسم : " صلاة روح القدس (13) .(2/66)
ففي : " اليابان " على قمة جبل : " كيتو " أقيمت هذه الصلاة المشتركة ، وكان - واحسرتاه - من الحضور ممثل لبعض المؤسسات الإسلامية المرموقة .
وما يتبع ذلك ، من أساليب بارعة للاستدراج ، ولفت الأنظار إليها والالتفاف حولها ، كالتلويح بالسلام العالمي ، ونشدان الطمأنينة والسعادة للإنسانية ، والإخاء ، والحرية ، والمساواة ، والبر والإحسان . وهذه نظيرة وسائل الترغيب الثلاثة التي تنتحلها الماسونية : " الحرية ، والإخاء ، والمساواة " أو : " السلام ، والرحمة ، والإنسانية " وذلك بالدعوة إلى " الروحية الحديثة " القائمة على تحضير الأرواح ، روح المسلم ، وروح اليهودي ، وروح النصراني ، وروح البوذي ، وغيرهم ، وهي من دعوات الصهيونية العالمية الهدامة ، كما بين خطرها الأستاذ محمد محمد حسين - رحمه الله تعالى - في كتابه : " الروحية الحديثة دعوة هدامة / تحضير الأرواح وصلته بالصهيونية العالمية " .
آثار هذه النظرية على الإسلام والمسلمين :
وعلى إثر هذا الدور العملي الجريء حصل مجموعة من الآثار :
* فمن آثارها : اقتحام العقبة ، وكسر حاجز الهيبة من المسلمين من وجه ، وكسر حاجز النفرة من الكافرين من وجه آخر .
* ومن آثارها : أن قدم : " البابا " نفسه إلى العالم ، بأنه القائد الروحي للأديان جميعاً ، وأنه حامل رسالة : " السلام العالمي " للبشرية .
* ومن آثارها : أن " البابا " اعتبر : يوم : 27 / 10 أكتوبر عام 1986 م عيداً لكل الأديان ، وأول يوم من شهر يناير ، هو : " يوم التآخي " .
* ومن آثارها : اتخاذ نشيد ، يردده الجميع ، أسموه : " نشيد الإله الواحد رب ، وأب " .
* ومن آثارها : أنه انتشر في العالم ، عقد المؤتمرات لهذه النظرية ، وانعقاد الجمعيات ، وتأليف الجماعات الداعية لوحدة الأديان ، وإقامة الأندية ، والندوات فكان منها :
1- أنه في تاريخ 12 - 15 / 2 فبراير 1987 م : عقد " المؤتمر الإبراهيمي " في قرطبة ، بمشاركة أعداد من اليهود والنصارى ، ومن المنتسبين للإسلام من القاديانيين والإسماعيليين . وكان انعقاده باسم : " مؤتمر الحوار الدولي للوحدة الإبراهيمية " . وافتتح لهذا الغرض معهد باسم : " معهد قرطبة لوحدة الأديان في أوربا " . أو : " المركز الثقافي الإسلامي " . أو : " مركز قرطبة للأبحاث الإسلامية " .
وكان متولي ذلك : النصراني : روجيه جارودي . وكانت أهم نقطة في انعقاده ، هي : إثبات الاشتراك واللقاء بين عدد من المنتسبين إلى الأديان (14) .
2- وفي تاريخ : 21 / 3 مارس / 1987 م تأسست الجماعة العالمية للمؤمنين بالله ، باسم : " المؤمنون متحدون " .
3- وفي صيف هذا العام - أيضاً - تأسس " نادي الشباب المتدين " .
4- وفي شهر إبريل ، منه - أيضاً - تأسست جمعية باسم : " الناس متحدون " .
5- عمل لهذه المؤسسات ، لوائح ، وأنظمة داخلية ركزت على إذابة الفوارق بين الإسلام ، واليهودية ، والنصرانية ، وتجريد الشخصية الإسلامية من هويتها : " الإسلام ناسخ لما قبله " و " القرآن ناسخ لجميع الكتب قبله ومهيمن عليها " وذلك باسم : " وحدة الأديان " .
6- رأس مال جماعة : " المؤمنون متحدون " وهو : " 000 , 800 دولار " .
7- في حال حلها تعود أموالها إلى : " الصليب الأحمر " ومؤسسات الصدقات الكنسية .
8- من اعتبارات هذه الجمعية الرموز الآتية :
* " رمز الإحسان " هو : مؤسس الصليب الحمر .
* " رمز التطور " هو : دارون .
* " رمز المساواة " هو : كارل ماركس .
* " رمز السلام العالمي للبشرية و " الإخاء الديني " هو : البابا .
9- اتخذت هذه الجمعية " راية " عليها الشعارات الآتية : " شعار الأمم المتحدة " و " قوس قزح " (15) ورقم " 7 " - رمز النصر عندهم - وهو أيضاً اسم أول سفينة اكتشفت القارة الأمريكية ، وحملت رسالة النصرانية إلى هذه القارة .
10 - تتابع عقد المؤتمرات لوحدة الأديان في : " نيويورك " و " البرتغال " ، وغيرهما .
* ومن آثار هذه النظرية : أنه فضلاً عن مشاركة بعض من المنتسبين إلى الإسلام في هذه اللقاءات - على أراضي الدول الكافرة - في المؤتمرات ، والندوات ، والجمعيات وإقامة الصلوات المشتركة ، مدفوعين كانوا أو مختارين - وأمرهم إلى الله تعالى - فإنه ما كادت شعارات هذه النظرية تلوح في الأفق ، وتصل إلى الأسماع ، وإلا وقد تسربت إلى ديار الإسلام ، فطاشت بها أحلام ، وعملت من أجلها أقلام ، وفاهت بتأييدها أفمام ، وانطلقت بالدعوة إليها ألسن من بعد أخرى ، وعلى الدعوة بها سدة المؤتمرات الدولية ، وردهات النوادي الرسمية ، والأهلية .
وكان منها في : " مؤتمر شرم الشيخ بمصر " في شهر شوال عام 1416 ، تركيز كلمات بعض أصحاب الفخامة !!!! من المسلمين !!!! على الصفة الجامعة بين المؤتمرين ، وهي : " الإبراهيمية " وهو مؤتمر يجمع لفيفاً من المسلمين ، واليهود ، والنصارى ، والشيوعيين .(2/67)
ومنها أنه بتاريخ : 1416 / 10 / 10 . أعلن بعضهم عن إصدار كتاب يجمع بين دفتيه : القرآن الكريم ، والتوراة ، والإنجيل " (16) .
وفي بعض الآفاق صدر قرار رسمي بجواز تسمية مواليد المسلمين ، بأسماء اليهود المختصة بهم ؛ وذلك إثر تسمية مواليد المسلمين باسم : " رابين " (17) .
وهكذا ينتشر عقد التهويد ، والتنصير ، بنثر شعاراتهم بين المسلمين ، ومشاركة المسلمين لهم في أفراحهم ، وأعيادهم ، وإعلان صداقتهم ، والحفاوة بهم ، وتتبع خطواتهم وتقليدهم ، وكسر حاجز النفرة منهم بذلك ، وبتطبيع العلاقات معهم (18) .
وهكذا في سلسلة يجر بعضها بعضاً في الحياة المعاصرة .
هذه خلاصة ما جهرت به اليهود ، والنصارى ، في مجال نظرية توحيد ديانتهم مع دين الإسلام ، وهي بهذا الوصف ، من مستجدات عصرنا ، باختراع شعاراتها ، وتبني اليهود ، والنصارى لها على مستوى الكنائس ، والمعابد ، وإدخالها ساحة السياسة على ألسنة الحكام ، والتتابع الحثيث بعقد المؤتمرات ، والجمعيات ، والجماعات ، والندوات ؛ لبلورتها ، وإدخالها الحياة العملية فعلاً . وتلصصهم ديار المسلمين لها ، من منظور : " النظام الدولي الجديد " (19) . مستهدفين قبل هيمنة ديانتهم ، إيجاد ردة شاملة عند المسلمين عن الإسلام .
وكان منشور الجهر بها ، وإعلانها ، على لسان النصراني المتلصص إلى الإسلام : روجيه جارودي (20) ، فعقد لهذه الدعوة : " المؤتمر الإبراهيمي " ثم توالت الأحداث كما أسلفت في صدر هذه المقدمة .
ولا يعزب عن البال ، وجود مبادرات نشطة جداً من اليهود والنصارى ، في الدعوة إلى : " الحوار بين أهل الديان " (21) وباسم " تبادل الحضارات والثقافات " و " بناء حضارة إنسانية موحدة " و " وبناء مسجد ، وكنيسة ، ومعبد " في محل واحد ، وبخاصة في رحاب الجامعات وفي المطارات .
وكان من مداخل السوء المبطنة لتمهيد السبيل إلى هذه النظرية ، وإفساد الديانة ، إجراء الدراسات المقارنة في الشرعيات ، بين الديان الثلاثة ، ومن هنا يتبارى كل في محاولة إظهار دينه على الدين كله ، فتذوب وحدة الدين الإسلامي ، وتميزه ، وتسمن الشبه ، وتستسلم لها القلوب الضعيفة . . .
وكنت أشرت إلى خطر ذلك في بعض ما كتبت ، ثم رأيت كلاماً حسناً في مقدمة ترجمة الأستاذ / محمد خليفة التونسي ، لكتاب : " بروتوكولات حكماء صهيون " : ص / 78 فقال ما نصه :
" وقل مثل ذلك في علم مقارنة الأديان ، التي يحاول اليهود بدراسة تطورها ، ومقارنة بعض أطوارها ببعض ، ومقارنتها بمثلها في غيرها ، أن يمحوا قداستها ، ويظهروا الأنبياء ، مظهر الدجالين " انتهى .
هذا عرض موجز عن تاريخ هذه النظرية : " وحدة الأديان " وتدرجها في فتراتها الزمنية الثلاث المذكورة وبيان بعض آثارها التآمرية على الإسلام والمسلمين ، ويأتي في آخر الجواب الإجمالي تفصيل ما تستهدفه هذه النظرية في الإسلام والمسلمين .
المقام الثاني
في الجواب على سبيل الإجمال
إن الدعوة إلى هذه النظرية الثلاثية : تحت أي من هذه الشعارات : إلى توحيد دين الإسلام الحق الناسخ لما قبله من الشرائع ، مع ما عليه اليهود والنصارى من دين دائر كل منهما بين النسخ والتحريف ، هي أكبر مكيدة عُرفت لمواجهة الإسلام والمسلمين اجتمعت عليها كلمة اليهود والنصارى بجامع علتهم المشتركة : " بغض الإسلام والمسلمين " . وغلفوها بأطباق من الشعارات اللامعة ، وهي كاذبة خادعة ، ذات مصير مروع مخوف . فهي في حكم الإسلام : دعوة بدعية ، ضالة كفرية ، خطة مأثم لهم ، ودعوة لهم إلى ردة شاملة عن الإسلام ؛ لأنها تصطدم مع بدهيات الاعتقاد ، وتنتهك حرمة الرسل والرسالات ، وتبطل صدق القرآن ، ونسخه ما قبله من الكتب ، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع ، وتبطل ختم نبوة محمد والرسالة المحمدية - عليه الصلاة والسلام - فهي نظرية مرفوضة شرعاً ، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من كتاب وسنة ، وإجماع ، وما ينطوي تحت ذلك من دليل ، وبرهان .
لهذا : فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ، الاستجابة لها ، ولا الدخول في مؤتمراتها ، وندواتها ، واجتماعاتها ، وجمعياتها ، ولا الانتماء إلى محافلها ، بل يجب نبذها ، ومنابذتها ، والحذر منها ، والتحذير من عواقبها ، واحتساب الطعن فيها ، والتنفير منها ، وإظهار الرفض لها ، وطردها عن ديار المسلمين ، وعزلها عن شعورهم ، ومشاعرهم والقضاء عليها ، ونفيها ، وتغريبها إلى غربها ، وحجرها في صدر قائلها ، ويجب على الوالي المسلم إقامة حد الردة على أصحابها ، بعد وجود أسبابها ، وانتفاء موانعها ، حماية للدين ، وردعاً للعابثين ، وطاعة لله ، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وإقامة للشرع المطهر .(2/68)
وأن هذه الفكرة إن حظيت بقبول من يهود ، ونصارى ، فهم جديرون بذلك ؛ لأنهم لا يستندون إلى شرع منزل مؤبد ، بل دينهم إما باطل محرف ، وإما حق منسوخ بالإسلام ، أما المسلمون فلا والله ، لا يجوز لهم بحال الانتماء إلى هذه الفكرة ؛ لانتمائهم إلى شرع منزل مؤبد كله حق ، وصدق ، وعدل ، ورحمة .
وليعلم كل مسلم عن حقيقة هذه الدعوة : أنها فلسفية النزعة ، سياسية النشأة ، إلحادية الغاية (22) تبرز في لباس جديد لأخذ ثأرهم من المسلمين : عقيدة ، وأرضاً ، وملكاً ، فهي تستهدف الإسلام والمسلمين في:
1- إيجاد مرحلة التشويش على الإسلام ، والبلبلة في المسلمين ، وشحنهم بسيل من الشبهات ، والشهوات ؛ ليعيش المسلم بين نفس نافرة ، ونفس حاضرة .
2- قصد المد الإسلامي ، واحتوائه .
3- تأتي على الإسلام من القواعد ، مستهدفة إبرام القضاء على الإسلام واندراسه ، ووهن المسلمين ، ونزع الإيمان من قلوبهم ، وَوَأدِه .
4- حل الرابطة الإسلامية بين العالم الإسلامي في شتى بقاعه ؛ لإحلال الأخوة البلدية اللعينة : " أخوة اليهود والنصارى " .
5- كف أقلام المسلمين ، وألسنتهم عن تكفير اليهود والنصارى وغيرهم ، ممن كفرهم الله ، وكفرهم رسوله صلى الله عليه وسلم - إن لم يؤمنوا بهذا الإسلام ، ويتركوا ما سواه من الأديان .
6- وتستهدف إبطال أحكام الإسلام المفروضة على المسلمين أمام الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر ممن لم يؤمن بهذا الإسلام ، ويترك ما سواه من الأديان .
7- وتستهدف كف المسلمين عن ذروة سنام الإسلام : الجهاد في سبيل الله ، ومنه : جهاد الكتابيين ، ومقاتلتهم على الإسلام ، وفرض الجزية عليهم إن لم يسلموا .
والله - سبحانه وتعالى - يقول: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة / 29 ] .
وكم في مجاهدة الكافرين ، أعداء الله ، ورسوله ، والمؤمنين ، من " إرهاب " لهم ، وإدخال للرعب في قلوبهم ، فينتصر به الإسلام ، ويذل به أعداؤه ، ويشف الله به صدور قوم مؤمنين
والله - تعالى - يقول : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } [ الأنفال / 60 ] .
فوا عجبا من تفريط المسلمين ، بهذه القوة الشرعية ؛ لظهور تفريطهم في مواقفهم المتهالكة : موقف : اغتيال الجهاد ، ووأده . وموقف : تأويل الجهاد للدفاع ، لا للاستسلام على كلمة الإسلام أو الجزية إن لم يسلموا . موقف : تلقيب الجهاد باسم : " الإرهاب " للتنفير منه ؛ حتى بلغت الحال بالمسلمين إلى تآكل موقفهم في فرض الجزية على الكافرين في تاريخهم اللاحق ؟
وإن فرض الجزية على اليهود ، والنصارى ، إن لم يسلموا : عزة للمسلمين ، وصغار على الكافرين ؛ لهذا كانت لهم محاولات منذ القرن الرابع الهجري لإبطال الجزية ، وإسقاطها عنهم ، وكان أول كتاب زوره اليهود في أوائل القرن الرابع الهجري ، فعرضه الوالي على العلماء ، فحكم الإمام المفسر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 - رحمه الله تعالى - بأنه مزور موضوع ؛ لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وهو إنما أسلم عام الفتح بعد عام خيبر سنة 7 ، وهم يزعمون أن هذا الكتاب ، وضع عنهم الجزية عام خيبر ، وفيه شهادة سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وقد توفي عام الخندق قبل خيبر . فثبت تزويره .
وما زال اليهود يخرجونه من وقت إلى آخر ، وفي كل مرة يحكم العلماء بتزويره ، فكان في عصر الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 فأبطله .
وأخرجوه في القرن السابع في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728 - رحمه الله تعالى - فأبطله ، وهكذا ، وشرح ذلك مبسوط في كتاب : " أحكام أهل الذمة : 1 / 5 - 8 " لابن القيم المتوفى سنة 751 - رحمه الله تعالى - .
وزور النصارى " وثيقة سانت كاترين " المعلقة في : " دير طور سيناء " : " سانت كاترين " و " كاترين " اسم زوجة أحد الرهبان ، وقد سميت كنيسة دير الطور باسمها ؛ لأنها دفنت فيها في القرن التاسع .
وهي وثيقة مكذوبة وضعها النصارى .
وفي : " مجلة الدارة " العدد / 3 لعام 1400 . ص / 124 - 130 . بحث مهم في بيان بعض الوثائق التي زورها اليهود ، والنصارى ، ومنها هذه الوثيقة . والكاتب هو عبد الباقي فصه . الجزائر . جامعة قسنطينة .
ويزاد عليه : أن من أدلة تزويرها ، ذكر شهادة أبي هريرة - رضي الله عنه - عليها ، وهو إنما أسلم عام خيبر سنة 7 ، وهي مؤرخة في العام الثاني من الهجرة .
وانظر عن : " دير طور سيناء " ، والذي سمي في القرن التاسع باسم : " دير سانت كاترين " : " الموسوعة العربية الميسرة : 1 / 830 " و : " المنجد " مادة : " دير طور سيناء " . و " المنجد في الأعلام . ص / 295 " .(2/69)
8- وتستهدف هدم قاعدة الإسلام ، وأصله : " الولاء والبراء " و " الحب والبغض في الله " ، فترمي هذه النظرية الماكرة إلى كسر حاجز براءة المسلمين من الكافرين ، ومفاصلتهم ، والتدين بإعلان بغضهم وعداوتهم ، والبعد عن موالاتهم ، وتوليهم ، وموادتهم ، وصداقتهم .
9- وتستهدف صياغة الفكر بروح العداء للدين في ثوب وحدة الديان ، وتفسيخ العالم الإسلامي من ديانته ، وعزل شريعته في القرآن والسنة عن الحياة ، حينئذ يسهل تسريحه في مجاهل الفكر ، والأخلاقيات الهدامة ، مفرغاً من كل مقوماته ، فلا يترشح لقيادة أو سيادة ، وجعل المسلم في محطة التلقي لِمَا عليه أعدائه ، وأعداء دينه ، وحينئذٍ يصلون إلى خسة الغاية : القفز إلى السلطة العالمية بلا مقاوم .
10- وتستهدف إسقاط جوهر الإسلام ، واستعلائه ، وظهوره وتميزه ، بجعل دين الإسلام المحكم المحفوظ من التحريف والتبديل ، في مرتبة متساوية مع غيره من كل دين محرف منسوخ ، بل مع العقائد الوثنية الأخرى .
11- وترمي إلى تمهيد السبيل : " للتبشير بالتنصير " والتقديم لذلك بكسر الحواجز لدى المسلمين ، وإخماد توقعات المقاومة من المسلمين ؛ لسبق تعبئتهم بالاسترخاء ، والتبلد .
12- ثم غاية الغايات : بسط جناح الكفرة من اليهود ، والنصارى ، والشيوعيين ، وغيرهم على العالم بأسره ، والتهامه ، وعلى العالم الإسلامي بخاصة ، وعلى الشرق الأوسط بوجه خاص ، وعلى قلب العالم الإسلامي ، وعاصمته : " الجزيرة العربية " بوجه أخص ، في أقوى مخطط تتكالب فيه أمم الكفر وتتحرك من خلاله ؛ لغزو شامل ضد الإسلام والمسلمين بشتى أنواع النفوذ : الفكري ، والثقافي ، والاقتصادي ، والسياسي ، وإقامة سوق مشترك ، لا تحكمه دولة الإسلام ، ولا سمع فيه ، ولا طاعة لخلق فاضل ولا فضيلة ، ولا كسب حلال ، فيفشو الربا ، وتنتشر المفسدات ، وتدجن الضمائر ، والعقول ، وتشتد القوى الخبيثة ضد أي فطرة سليمة ، وشريعة مستقيمة . وما " مؤتمر السكان والتنمية " المعقود بالقاهرة في : 29 / 3 / 1415 و " المؤتمر العالمي للمرأة " المعقود في بكين عام 1416 . إلا طروحات لإنفاذ هذه الغايات البهيمية .
هذا بعض ما تستهدفه هذه النظيرة الآثمة ، وإن من شدة الابتلاء ، أن يستقبل نزر من المسلمين ، ولفيف من المنتسبين إلى الإسلام هذه " النظرية " ويركضوا وراءها إلى ما يُعقد لها من مؤتمرات ، ونحوها ، وتعلو أصواتهم بها ، مسابقين هؤلاء الكفرة إلى دعوتهم الفاجرة ، وخطتهم الماكرة ، حتى فاه بعض المنتسبين إلى الإسلام بفكرته الآثمة :
" إصدار كتاب يجمع بين دفتيه : " القرآن الكريم ، والتوراة ، والإنجيل " .
وإنا لنتلوا قول الله - تعالى - : { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي بها من تشاء } [ الأعراف / 155 ] .
ومن المعلوم أن " باب التأويل والاجتهاد " باب واسع قد يؤول بصاحبه إلى اعتقاد الحلال حراماً ، والحرام حلالاً (23) ، هذا إذا كان في أصله سائغاً فكيف إذا كان غير سائغ ، بل هو اجتهاد آثم ؛ لمصادمته أصول الدين المعلومة منه بالضرورة ، وعلى كلا الحالين فلا يجوز ترك بيان السنة والهدى ، ويجب رد الاجتهادات والتأويلات الخاطئة ، فضلا عن الفاسدة أصلاً ، بل يجب البيان لحفظ هذا الدين ، وكف العدوان عليه . وهذا من إعطاء الإسلام حقه ، والوفاء بموجب العلم والإيمان .
إن هذه الدعوة بجذورها ، وشعاراتها ، ومفرداتها ، هي من أشد ما ابلي به المسلمون في عصرنا هذا ، وهي أكفر آحاد : " نظرية الخلط بين الإسلام والكفر ، والحق والباطل ، والهدى والضلالة ، والمعروف والمنكر ، والسنة والبدعة ، والطاعة والمعصية " .
وهذه الدعوة الآثمة ، والمكيدة المهولة ، قد اجتمعت فيها بلايا التحريف ، والانتحال ، وفاسد التأويل ، وإن هذه الأمة المرحومة ، أمة الإسلام ، لن تجتمع على ضلالة ، ولا يزال فيها - بحمد الله - طائفة ظاهرة على الحق ، حتى تقوم الساعة ، من أهل العلم والقرآن ، والهدى والبيان ، تنفي عن دين الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، فكان حقاً علينا وعلى جميع المسلمين : التعليم ، والبيان ، والنصح ، والإرشاد ، وصد العاديات عن دين الإسلام . ومن حذر فقد بشر .
هذا جواب على سبيل الإجمال يطوّق هذه النظرية الخطرة ويكشف مخططاتها القريبة ، والبعيدة في الهدم ، والتدمير ، وقفزهم إلى السلطة بلا مقاوم .
وخلاصته : " أن دعوة المسلم إلى التوحيد دين الإسلام مع غيره من الشرائع والأديان الدائرة بين التحريف والنسخ بشريعة الإسلام :
ردة ظاهرة ، وكفر صريح ؛ لما تعلنه من نقض جرئ للإسلام أصلاً ، وفرعاً ، واعتقاداً ، وعملاً ، وهذا إجماع لا يجوز أن يكون محل خلاف بين أهل الإسلام " . وإنها دخول معركة جديدة مع عباد الصليب ، ومع أشد الناس عدواة للذين آمنوا . فالأمر جد وما هو بالهزل .(2/70)
والآن أقيم الأدلة مفصلة على هذه الخلاصة الحكمية ، لأن النفوس تطمع بإقامة الدليل ، وإظهار البراهين ، وتوضيح الحجة للسالكين ، فإلى البيان مفصلاً حتى لا تخفى الحال على مسلم يقرأ القرآن ، ولتنقذه من التيه في ضباب الشعارات الكاذبة ونقول لكل مسلم : { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } [ الجاثية / 6 ] .
المقام الثالث -في الجواب مفصلاً
وهو يتجلى بإقامة الأصول ، والمسلمات العقدية الآتية :
الأصل العام : دين الأنبياء واحد ، وشرائعهم متعددة ، والكل من عند الله -تعالى - .
من أصول الاعتقاد في الإسلام : اعتقاد توحد الملة والدين في : التوحيد ، والنبوات ، والمعاد ، والإيمان الجامع بالله ، وملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره ، وما تقتضيه النبوة والرسالة من واجب الدعوة ، والبلاغ ، والتبشير ، والإنذار ، وإقامة الحجة ، وإيضاح المحجة ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، بإصلاح النفوس ، وتزكيتها ، وعمارتها بالتوحيد ، والطاعة ، وتطهيرها من الانحراف ، والحكم بين الناس بما أنزل الله .
واعتقاد تعدد الشرائع وتنوعها في الأحكام ، والأوامر والنواهي .
وهذا الأصل هو : " جوهر الرسالات كلها " .
وتفصيل هذا الأصل العقدي بشقيه كالآتي :
أما توحد الملة والدين في دعوة جميع الأنبياء والمرسلين :
فنعتقد أن أصل الدين واحد ، بعث الله به جميع الأنبياء والمرسلين ، واتفقت دعوتهم إليه ، وتوحدت سبيلهم عليه ، وإنما التعدد في شرائعهم المتفرعة عنه ، وجعلهم الله - سبحانه - وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم بذلك ، ودلالتهم عليه ؛ لمعرفة ما ينفعهم ، وما يضرهم ، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ، ومعادهم :
بُعثوا جميعاً بالدين الجامع الذي هو عبادة لله وحده لا شريك له ، بالدعوة إلى توحيد الله ، والاستمساك بحبله المتين .
وبعثوا بالتعريف في الطريق الموصل إليه .
وبعثوا ببيان حالهم بعد الوصول إليه .
فاتحدت دعوتهم إلى هذه الأصول الثلاثة :
* الدعوة إلى الله - تعالى - في إثبات التوحيد ، وتقريره ، وعبادة الله وحده لا شريك له ، وترك عبادة ما سواه ، فالتوحيد هو دين العالم بأسره من آدم إلى آخر نفس منفوسة من هذه الأمة .
* والتعريف بالطريق الموصل إليه - سبحانه - في إثبات النبوات وما يتفرع عنها من الشرائع ، من صلاة ، وزكاة ، وصيام ، وجهاد ، وغيرها : أمراً ، ونهياً في دائرة أحكام التكليف الخمسة : الأمر وجوباً ، أو استحباباً ، والنهي : تحريماً ، أو كراهة ، والإباحة ، وإقامة العدل ، والفضائل ، والترغيب ، والترهيب .
* والتعريف بحال الخليقة بعد الوصول إلى الله : في إثبات المعاد ، والإيمان باليوم الآخر ، والموت ، وما بعده من القبر ، ونعيمه ، وعذابه ، والبعث بعد الموت ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب .
وعلى هذه الأصول الثلاثة ، مدار الخلق والأمر ، وإن السعادة والفلاح لموقوفة عليها لا غير
وهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب المنزلة ، وبعث به جميع الأنبياء والرسل ، وتلك هي الوحدة الكبرى بين الرسل ، والرسالات ، والأمم .
وهذا هو المقصود من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا معشر الأنبياء أخوة لِعَلاّت أمهاتهم شتى ودينهم واحد " متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
وهو المقصود في قول الله - تعالى - : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } [ الشورى / 13 ] . وهذه الأصول الكلية هي ما تضمنته عامة السور المكية من القرآن الكريم .
وإذا تأملت سر إيجاد الله لخليقته وهو عبادته ، كما في قول الله - تعالى - : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات / 56 ] . عرفت ضرورة توحد الملة ، والدين ، ووحدة الصراط ولهذا جاء في أم القرآن ، فاتحة الكتاب الله - عز وجل - : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } ثم أتبع ذلك بأن اليهود والنصارى ، خارجون عن هذا الصراط ، فقال - سبحانه - { غير المغضوب عليهم والضالين } .
وبهذا تدرك الحِكَمَ العظيمة مما قصه الله - تعالى - علينا في القرآن العظيم من قصص الأنبياء وأخبارهم مع أممهم ؛ لأخذ العبرة ، والتفكر ، وتثبيت أفئدة الأنبياء وإثبات النبوة والرسالة ، وجعلها موعظة وذكرى للمؤمنين ، وأخبار الأمم المكذبة لرسلهم وما صارت إليه عاقبتهم ، وأنها سننه - سبحانه - فيمن أعرض عن سبيله .
والدين بهذا الاعتبار : هو : " دين الإسلام " بمعناه العام ، وهو : إسلام الوجه لله ، وطاعته ، وعبادته وحده ، والبراءة من الشرك ، والإيمان بالنبوات ، والمبدأ ، والمعاد .
ولوحدة الدين بهذا الاعتبار في دعوة جميع الأنبياء والمرسلين ، وحد - سبحانه - : " الصراط " و " السبيل " في جميع آيات القرآن الكريم .(2/71)
وهذا الدين " دين الإسلام " بهذا أي باعتبار : وحدته العامة ، وتوحد صراطه ، وسبيله ، هو الذي ذكره الله في آيات من كتابه عن أنبيائه : نوح ، وإبراهيم ، وبنيه ، ويوسف الصدّيق ، وموسى ، ودعوة نبي الله سليمان ، وجواب بلقيس ملكة سبأ ، وعن الحواريين ، وعن سحرة فرعون ، وعن فرعون حين أدركه الغرق .
ودين الإسلام بهذا الاعتبار : هو دين جميع الأنبياء والمرسلين وملتهم بل إن إسلام كل نبي ورسول يكون سابقاً لأمته ، وهو محل بعثته إلى أمته ، وما يتبع ذلك من شريعته .
كما قال الله - تعالى - : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل / 36 ] .
وقال - سبحانه - : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [ الأنبياء / 25 ] .
وإنما خص الله - سبحانه - نبيه إبراهيم - عليه السلام - بأن : " دين الإسلام " بهذا الاعتبار العام هو ملته ، في مثل قوله تعالى : { قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ آل عمران / 95 ] لوجوه :
أولها : أنه - عليه السلام - واجه في تحقيق التوحيد ، وتحطيم الشرك ، ونصر الله له بذلك ما قص الله خبره ، أمراً عظيماً .
ثانيها : أن الله - سبحانه وتعالى - جعل في ذريته النبوة والكتاب ؛ ولذا قيل له : " أبو الأنبياء " ؛ ولذا قال الله تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم } [ الحج / 78 ] وهو - عليه السلام - تمام ثمانية عشر نبياً سماهم الله في كتابه من ذريته ، وهم : ابنه إسماعيل ، ومن ذريته من محمد عليهما الصلاة والسلام ، وابنه إسحاق ومن ذريته : يعقوب بن إسحاق ، ويوسف ، وأيوب ، وذو الكفل ، وموسى ، وهارون ، وإلياس ، واليسع ، ويونس ، وداود وسليمان ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى - عليهم السلام - .
ثالثهما : لإبطال مزاعم اليهود، والنصارى في دعواهم أنهم على ملة إبراهيم - عليه السلام - فقد كذبهم الله - تعالى - في قوله : { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن اظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون } . [ البقرة / 140 ] .
ورد الله عليهم محاجتهم في ذلك بقوله : { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون . ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } [ آل عمران / 65 - 67 ] .
ثم بين - سبحانه - أن أولى الناس بإبراهيم هم الذين على ملته وسنته ، فقال - تعالى - : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } [ آل عمران / 68 ] .
وبين - سبحانه - أن هذه المحاولة الكاذبة البائسة من أهل الكتاب جارية في محاولاتهم مع المسلمين ؛ لإضلالهم عن دينهم ، ولبس الحق بالباطل ، فقال تعالى : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [ البقرة / 135 - 137 ] .
وهكذا يجد المتأمل في كتاب الله - تعالى - التنبيه في كثير من الآيات إلى أن هذا القرآن ما أنزل إلا ليجدد دين إبراهيم ؛ حتى دعاهم بالتسمية التي يكرهها اليهود والنصارى : " ملة إبراهيم " فاقرأ قول الله - تعالى - : { وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس } [ الحج / 78 ] .
والخلاصة :(2/72)
أن لفظ : " الإسلام " له معنيان ، معنى عام : يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من أنبياء الله الذي بعث فيهم ، فيكونون مسلمين، حنفاء على ملة إبراهيم بعبادتهم لله وحده واتباعهم لشريعة من بعثه الله فيهم ، فأهل التوراة قبل النسخ والتبديل ، مسلمون حنفاء على ملة إبراهيم ، فهم على " دين الإسلام " ، ثم لما بعث الله نبيه عيسى - عليه السلام - فإن من آمن من أهل التوراة بعيسى ، واتبعه فيما جاء به فهو مسلم حنيف على ملة إبراهيم ، ومن كذب منهم بعيسى - عليه السلام - فهو كافر لا يوصف بالإسلام ؛ ثم لما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهو خاتمهم ، وشريعته خاتمة الشرائع ، ورسالته خاتمة الرسالات ، وهي عامة لأهل الأرض وجب على أهل الكتابين ، وغيرهم ، اتباع شريعته ، وما بعثه الله به لا غير ، فمن لم يتبعه فهو كافر لا يوصف بالإسلام ولا أنه حنيف ، ولا أنه على ملة إبراهيم ، ولا ينفعه ما يتمسك به من يهودية ، أو نصرانية ، ولا يقبله الله منه ، فبقي اسم : " الإسلام " عند الإطلاق منذ بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، مختصاً بمن يتبعه لا غير . وهذا هو معناه الخاص الذي لا يجوز إطلاقه على دين سواه ، فكيف وما سواه دائر بين التبديل والنسخ . فإذا قال أهل الكتاب للمسلمين : " كونوا هوداً ، أو نصارى " فقد أمر الله المسلمين أن يقولوا لهم : " بل ملة إبراهيم حنيفاً ، ولا يوصف أحد اليوم بأنه مسلم ، ولا أنه على ملة إبراهيم ، ولا أنه من عباد الله الحنفاء إلا إذا كان متبعاً لما بعث الله به خاتم أنبيائه ورسله محمداً - صلى الله عليه وسلم - .
وأما تنوع الشرائع وتعددها : فيقول الله - تعالى - : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [ المائدة / 48 ] .
شرعة : أي شريعة وسنة . قال بعض العلماء : سميت الشريعة شريعة ، تشبيهاً بشريعة الماء ، من حيث أن من شرع فيها على الحقيقة المصدوقة ، رَوَى وتطهر .
ومنهاجاً : أي طريقاً ، وسبيلاً واضحاً إلى الحق ؛ ليعمل به في الأحكام ، والأوامر ، والنواهي ؛ ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه .
ويقول - سبحانه - : { لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدىً مستقيم } [ الحج / 67 ] .
منسكاً : متعبداً هم ناسكوه : متعبدون به .
وقال - تعالى - في حق نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها } [ الجاثية / 18 ] .
وقد علمنا الأصول التي تساوت فيها الملل ، وتوطأت دعوة أنبياء الله ورسله إليها : إلى دين واحد ، وملة واحدة في تقرير العبودية لله - سبحانه - لا شريك له وتوحيده ، وتقرير النبوة ، والمعاد ، ووحدة التشريع من عند الله - تعالى - فهذه لا تتغير ولا تتبدل ، ولا يدخلها نسخ فهي محكمة غير منسوخة ، ولا تقبل الاجتهاد ، ولا التخصيص .
أما الشرائع ، فهي ، مختلفة ، متنوعة ، ومتنوعة ، ويعترضها النسخ ، فكل شريعة رسول تخالف الأخرى في كل أو بعض أمور التشريع :
فهناك حكم تعبدي في شريعة رسول ينتهي بانتهاء شريعته ببعثة رسول آخر ، فينسخه .
وهناك حكم يغير في بعض جزئياته في وقته ، أو كيفيته ، أو مقداره ، أو حكمه من التشديد إلى التخفيف ، وبعكسه .
وهناك حكم يكون في شريعة لاحقة دون السابقة ، أو عكسه .
وهكذا ، من تنوع التشريع في الأحكام العملية والقولية ، من الأوامر والنواهي ، حسب سابق علم الله - تعالى - وحكمته في تشريعه وأمره ، بأوضاع كل أمة ، وأزمانها ، وأحوالها وطبائعها من قوتها ، وضعفها ، وحسب أبدية التشريع ، أو تغييره ونسخه .
وهذا يكاد ينتظم أبواب التشريع في العبادات ، والمعاملات ، والنكاح ، والفرق ، والجنايات والحدود ، والأيمان والنذور ، والقضاء ، وغير ذلك من الفروع التي ترجع إلى وحدة الدين والملة .
ولذا فإن شريعة الإسلام ، وهي آخر الشرائع ، باينت جميع الشرائع في عامة الأحكام العملية ، والقولية ، والأوامر والنواهي ؛ لما لها من صفة الدوام ، والبقاء ، وأنها آخر شريعة نزلت من عند الله ، ناسخة لما قبلها من شرائع الأنبياء .
والآن إلى بينان تحقيق الإيمان الجامع بالله ، وكتبه ، ورسله ، بيان نقض الكتابيين لهذا الأصل العقدي العام ، وكفرهم به ، وما هم عليه من نواقض لهذه الأركان الثلاثة :
الإيمان بالله تعالى :
الأصل في بني آدم هو : " التوحيد " وهو المقصود الذي خلقوا له فيما أمرهم الله به على ألسنة أنبيائه ورسله : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .
وقد كان الناس على هذا الأصل : كلهم على الإسلام والتوحيد ، والإخلاص ، والفطرة ، والسداد ، والاستقامة : الأمة واحدة ، والدين واحد ، والمعبود واحد .
وذلك من أبينا أبي البشر نبي الله آدم - عليه السلام - إلى قبيل عهد رسول الله نوح - عليه السلام - كلهم على الهدى ، وعلى شريعة من الحق ؛ لاتباعهم النبوة .
أول وقع الشرك في قوم نوح من الغلو في القبور :(2/73)
ثم كان من مكايد الشيطان أن اختلفوا بعد ذلك بتركهم اتباع الأنبياء فيما أمروا به من التوحيد والدين ، ووقعوا في الشرك بسبب تعظيم الموتى ، عندئذٍ انقسموا : موحدين ، ومشركين .
هكذا نفذ الشيطان إلى قلوبهم بإدباب الخلاف بينهم بترك اتباع الأنبياء ، وكادهم بتعظيم موتاهم حتى عكفوا على قبورهم ، ثم كادهم بتصوير تماثيلهم ، ثم كادهم بعبادتهم ، فكان هؤلاء المشركون في قوم نوح هم أول صنف من المشركين وشركهم هذا : " تعظيم الموتى " هو الشرك الأرضي ، وهو أول شرك بالله ، طرق العالم ، وكان نوح - عليه السلام - هو أول رسول بعث إلى المشركين .
قال غير واحد من السلف في قول الله - تعالى - : { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } [ نوح / 23 ] : " إن هذه أسماء قوم صالحين كانوا فيهم ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم بعد ذلك عبدوهم ، وذلك أول ما عبدت الأصنام ، وأن هذه الأصنام صارت إلى العرب . . . " ابتدعوا الشرك ، وابتدعوا عبادة الأوثان ، بدعة من تلقاء أنفسهم بشبهات زينها الشيطان لهم بالمقاييس الفاسدة ، والفلسفة الحائدة .
قال البخاري في : " صحيحه " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يدعون أنصاباً ، وسموها بأسمائهم ففعلوا ، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ، ونسخ العلم : عبدت " .
عندئذٍ لما عبدت الأصنام ، والطواغيت ، وشرع الناس في الضلالة والكفر ، بعث الله رحمة بعباده أول رسول إلى أهل الأرض وهو : رسول الله نوح - عليه السلام - وهو : نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ - وهو نبي الله إدريس عليه السلام - بن يرد بن مهلايبل من قينن بن أنوش بن نبي الله شيت - عليه السلام - ، بن آدم أبي البشر - عليه السلام - .
وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام كما في صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - .
ومكث نوح - عليه السلام - في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً . يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه فلما أعلمه الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن أهلكهم الله بالغرق بدعوته . وجاءت الرسل من بعده تترى . سَمّى الله منهم في القرآن العظيم :
هوداً - عليه السلام - وهو : هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ابن نوح - عليه السلام - وهو أول نبي من نسل العرب ، بعثه الله في الأحقاف بحضر موت وهم قومه : عاد الأولى ، وهم أول من عبد الأصنام بعد الطوفان ، كما فصل الله ذلك في سورة الأعراف : [ 65 - 72 ] . وفي سورة هود : [ 50 - 60 ] . وفي سورة المؤمنون : [ 31 - 41 ] . وفي سورة الشعراء : [ 123 - 140 ] وفي سورة : ( حم السجدة ) : [ 15 - 16 ] . وفي سورة الأحقاف : [ 21 - 25 ] . وغيرها من سور القرآن الكريم .
ونبي الله صالحاً - عليه السلام - وهو : صالح بن عبيد بن ماسح بن عبيد بن حادر بن ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح .
وهو ثاني نبي من نسل العرب بعثه الله في قومه ثمود ، بعد نبي الله هود في عاد . وقد ذكر الله في القرآن العظيم من خبرهم مع نبيهم ، وخبر الناقة وإصرارهم على عبادة الأصنام ، في عدة سور من القرآن ، في السور المذكورة ، وفي سورة الحجر ، وغيرها .
أول وقوع الشرك في الأرض في قوم إبراهيم من عبادة الكواكب :
حتى إذا عم الأرض الشرك من طراز جديد من دين الصابئة في حران ، والمشركين من عبدة الكواكب والشمس والقمر في كابل ، وعبدة الأصنام في بابل ، لما كانت النماردة ، والفراعنة ملوك الأرض شرقاً وغرباً ، وهذا هو الصنف الثاني " عبادة الكواكب " وهو " الشرك السماوي " من المشركين بعد مشركي قوم نوح ، عبدة القبور ، وكان كل من على وجه الأرض كفاراً سوى إبراهيم الخليل - عليه السلام - وامرأته سارة ، وابن أخيه لوط - عليه السلام - بعث الله رسوله : إمام الحنفاء ، وأبا الأنبياء ، وأساس الملة الخالصة ، والكلمة الباقية : إبراهيم خليل الرحمن من أرض بابل وهو :
إبراهيم بن آزر - وهو تارخ - بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عاير بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح - عليه السلام - .
وكان الخليل - عليه السلام - هو الذي أزال الله به تلك الشرور ، وأبطل به ذلك الضلال ، فإن الله - سبحانه - آتاه رشده في ضغره ، وابتعثه رسولاً ، واتخذه خليلاً في كبره .(2/74)
وقد قص الله - تعالى - خبره مع أبيه ، وقومه في عدد من سور القرآن ، وفي سورة إبراهيم ، في إنكاره عليهم عبادة الأوثان ، وحقّرها عندهم ، وتنقصها ، وتكسيره لها ، ومناظرته - عليه السلام - لملك بابل النمرود بن كنعان ، ومحاجته له ، حتى اهلك الله النمرود ببعوضة فهاجر إبراهيم - عليه السلام - إلى أرض الشام ، ثم إلى الديار المصرية ، وتزوج بهاجر ، وكان الولدان المباركان والنبيان الكريمان : إسماعيل من هاجر القبطية المصرية ، وإسحاق من سارة ابنة عمه .
ولما وقع بين سارة وهاجر من غيرة النساء ما وقع ، هاجر إبراهيم بهاجر ، وابنها إسماعيل إلى مكة - حرسها الله تعالى - فكان ما كان من أمرهم في البلد الحرام من نبوع زمزم ، وبناء البيت الحرام وغيرها من الأمور العظام .
وكان لوط بن هارون بن تارخ قد بعثه الله نبياً ، فاتفقت بعثته مع بعثة عمه الخليل إبراهيم - عليه السلام - بن تارخ - آزر - في زمن واحد وكان من خبره مع قومه في أرض سدوم بالشام قرب الأردن ما قصه الله في كتابه من دعوته لهم إلى عبادة الله ، وترك عبادة الأوثان ، وما ابتدعوه من فعل الفاحشة ، فأهلكهم الله ، وأنجاه هو وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين .
ثم بعث الله نبيه شعيباً خطيب الأنبياء - عليه السلام - إلى مدين أصحاب الأيكة - وهي شجرة كانوا يعبدونها - وهو قوم من العرب ، يسكون مدين في أطراف الشام ، وهو :
نبي الله : شعيب بن مكيل بن بشجن بن مدين بن إبراهيم ، وقيل غير ذلك في نسبه .
وهكذا تتابع الأنبياء من ذرية إبراهيم - عليه السلام - في ذرية ابنيه النبيين الكريمين : الذبيح إسماعيل أبو العرب ، ثم إسحاق - عليها السلام - .
* وكان إسماعيل - عليه السلام - قد بعثه الله في جُرهُم والعماليق ، واليمن ، وغيرهم من أهل تلك الناحية في الحجاز واليمن من جزيرة العرب . وكان من ذريته خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم .
* وكان إسحاق عليه السلام - قد بعثه الله نبياً في الشام وحران وما والاها . وكان من ذريته العيص ، ومن سلالته : نبي الله أيوب - عليه السلام - بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - .
ومن سلالة إسحاق : ذو الكفل ، قال ابن كثير : وزعم قوم أنه ابن أيوب . ثم استظهر ابن كثير أنه نبي .
وأيوب ، وذو الكفل أرسلا إلى أهل دمشق في الشام .
وكان من ذريته نبي الله يعقوب - وهو إسرائيل - ، وإليه تنسب بنو إسرائيل وتتابعت من بني إسرائيل : يوسف ، وموسى ، وهارون ، وإلياس ، واليسع ، ويونس ، وداود ، وسليمان ، ويحيى ، وزكريا ، وعيسى - عليهم السلام - .
أول وقوع الشرك من النوعين في العرب وغيرهم وبعثة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم
هكذا تتابع أنبياء بني إسرائيل ، وكان آخرهم المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام - وعلى حين فترة من الأنبياء والرسل ، وكان الشرك من الصنفين : عبادة القبور والكواكب قد انتشر في الأرض ، وكانت العرب على إرث من ملة أبيهم إبراهيم في جزيرة العرب ، ولكن كان عمرو بن لحي الخزاعي في رحلته المشؤومة إلى الشام رآهم بالبلقاء لهم أصنام يستجلبون بها المنافع ويستدفعون بها المضار ، فجلب مثل ذلك إلى مكة في وقت كانت ولاية البيت لخزاعة قبل قريش وكان هو سيد خزاعة ، فكان برحلته المشؤومة هذه ، هو أول من غير دين إسماعيل ، وانحراف عن ملة إبراهيم ، فَنَصَبَ الأوثان في البيت الحرام ، وسيب السائبة ، وبحر البحيرة ، ووصل والوصيلة ، وحمى الحامي .
من هنا اتخذت العرب الأصنام ، وكان أقدمها : " مناة " وكان على ساحل البحر بقديد بين مكة والمدينة ، ثم " اللات " بالطائف وهي صخرة مربعة يُلت عندها السويق ، ثم " العزى " وهي بوادي نخلة بعد : " الشرائع " للخارج من مكة شرقاً .
ثم تعددت الأصنام في جزيرة العرب ، وكان لكل قبيلة صنم من شجر أو حجر ، أو تمر ، وهكذا ، حتى كان منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، بل اتخذ أهل كل دار صنماً لهم في دارهم .
ولا تسأل عن انتشار الأصنام ، وعبادة النار والكواكب في فارس ، والمجوس ، والصابئة ، وأمم سواهم منهم من يعبد الماء ، ومنهم من يعبد الحيوان ، ومنهم من يعبد الملائكة .
ومنهم من قال : الصانع اثنان ، هم الوثنية من المجوس ، وهم شر من مشركي العرب ، وعظموا النور ، والنار ، والماء ، والتراب ، وهكذا في أمم سواهم من : الصابئة ، والدهرية والفلاسفة ، والملاحدة ، فصل ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيهم وفي مذهبهم ، ومعبوداتهم : القول في : " إغاثة اللهفان : 2 / 203 - 320 " .
بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم :(2/75)
لما كانت أمم الأرض كذلك من الشرك ، والوثنية ، بعث الله النبي الرسول الخاتم لجميع الأنبياء والمرسلين ، المبشر به من المسيح ، ومن قبله من الأنبياء والمرسلين ، داعياً إلى ملة إبراهيم ، ودين المرسلين قبل إبراهيم وبعده داعياً إلى : " التوحيد الخالص " ونبذ الشرك أرضيه ، وسماويه ، وسد ذريعة هذا وهذا ، فَنَهى عن اتخاذ القبور مساجد ، ونهى عن الصلاة عليها ، وإليها ، وعن تشريفها ؛ وهذا لسد ذرائع الشرك الأرضي الآتي من : " تعظيم الموتى " في قوم نوح - عليه السلام - ونهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ؛ لسد ذرائع " الشرك السماوي " الآتي من : " عبادة الكواكب " في قوم إبراهيم - عليه السلام - (24) .
والخلاصة :
أن الإيمان بالله - تعالى - ، الذي هو المطلوب من جميع الثقلين ، لا يتم تحقيقه إلا بالاعتقاد الجازم بأن الله - تعالى - رب كل شئ ، ومليكه ، وأنه متصف بصفات الكمال والجلال ، وأنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، والقيام بذلك ، علماً ، وعملاً ، ولا يتحقق ذلك إلا باتباع خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم لا كما يظن المتجاهلون ، أن الإيمان بالله يتحقق بالإيمان بوجوده ، وربوبيته ، دون الإيمان بأسمائه وصفاته ، وتوحيده في عبادته ، ودون المتابعة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، مما جعلهم ينادون بالاتحاد بين الإسلام الحق ، القائم على التوحيد الكامل وبين كل دين محرف مبدل ، فيه من نواقض هذا الإيمان ما تقشعر منه جلود الذين آمنوا .
ومن هذه النواقض ما يأتي :
نواقض الإيمان بالله لدى اليهود :
إن " اليهود " قبحهم الله ، هم بيت الإلحاد ، والتطاول الخطير - تعالى الله - عما يقولون علواً كبيراً .
وهذا بعض ما في القرآن الكريم من عقائدهم الإلحادية ، وكفرهم بالله - عز وجل - :
قال الله - تعالى - : { وقالت اليهود عزير ابن الله } [ التوبة / 30 ] .
وقال الله - تعالى - عن اليهود : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } [ آل عمران / 181 ] .
وقال - سبحانه - :
{ وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يُحب المفسدين } [ المائدة / 64 ] .
وقال - سبحانه - :{ إن الذين يكفرون بالله ورسله ، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقاً } [ النساء / 150 - 151 ] .
نواقض الإيمان بالله لدى النصارى :
إن النصارى هم : المثلثة ، عباد الصليب ، الذين سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر . وقد فضحهم الله في القرآن العظيم .
قال الله - تعالى - : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون . اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح عيسى ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } [ التوبة / 30 ، 31 ] .
وقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم . . . } [ المائدة / 73 ] .
وقال سبحانه : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة . . . } [ المائدة / 73 ] .
وقال جل وعز : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً } [ النساء / 171 ] .
الإيمان بالكتب المنزلة :
من أركان الإيمان ، وأصول الاعتقاد : الإيمان بجميع كتب الله المنزلة على أنبيائه ورسله . وأن كتاب الله : " القرآن الكريم " هو آخر كتب الله نزولاً ، وآخرها عهداً برب العالمين ، نزل به جبريل الأمين ، من عند رب العالمين ، على نبيه ورسوله الأمين محمد . وأنه ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل : الزبور ، والتوراة ، والإنجيل وغيرها ، ومهيمن عليه ، فلم يبق كتاب منزل يتعبد الله به ، ويتبع سوى " القرآن العظيم " . ومن يكفر به فقد قال الله تعالى في حقه : { ومن يكفر من الأحزاب فالنار موعده } [ هود / 17 ] .
ومن الحقائق العقدية ، المتعين بيانها هنا : أن من الكتب المنسوخة بشريعة الإسلام : " التوراة والإنجيل " وقد لحقهما ، التحريف ، والتبديل ، بالزيادة والنقصان والنسيان ، كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله - تعالى - منها عن : "التوراة " قول الله - تعالى - :(2/76)
{ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين } [ المائدة / 13 ] .
وقال - سبحانه - عن " الإنجيل " : { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } [ المائدة / 14 ] .
وأن ما في أيدي اليهود ، والنصارى اليوم من التوراة والأناجيل المتعددة ، والأسفار ، والإصحاحات ، التي بلغت العشرات ، ليست هي عين التوراة المنزلة على موسى عليه السلام ، وعين الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام ؛ لانقطاع أسانيدها ، واحتوائها على كثير من التحريف ، والتبديل ، والأغاليط ، والاختلاف فيها ، واختلاف أهلها عليها ، واضطرابهم فيها ، وأن ما كان منها صحيحاً فهو منسوخ بالإسلام ، وما عداه فهو محرف مبدل ، فهي دائرة بين النسخ والتحريف .
ولهذا فليست بكليتها وحياً ، ولا إلهاماً ، وإنما هي كتب مؤلفة من متأخريهم بمثابة التواريخ ، والمواعظ لهم ، وحاشا لله ، أن يكون ما بأيدي اليهود من التوراة هو عين التوراة المنزلة على نبي الله موسى - عليه السلام - وأن يكون ما بأيدي النصارى من الأناجيل هو عين الإنجيل المنزل على نبي الله عيسى - عليه السلام - .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غَضِبَ حينما رأى مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صحيفة فيها شئ من التوراة وقال صلى الله عليه وسلم : " أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ ألم آت بها بيضاء نقية ؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " رواه أحمد والدارمي ، وغيرهما .
نواقض الإيمان بهذا الأصل لدى اليهود والنصارى :
لم يسلم الإيمان بهذا الأصل العقدي ، والركن الإيماني إلا لأهل الإسلام ، وأما أمة الغضب : اليهود ، وأمة الضلال : النصارى ، فقد كفروا به ؛ إذ لا يؤمنون بالقرآن ، ولا بنسخه لما قبله ، وينسبون ما في أيديهم من بقايا التوراة والإنجيل مع ما أضيف إليهما من التحريف ، والتبديل ، والتغيير ، إلى الله - تعالى - بل فيهما من الافتراء نسبة أشياء من القبائح إلى عدد من الأنبياء - حاشاهم عن فرى الأفاكين - وانظر الآن الإشارة إلى طرف من هذه النصوص المفتراة في نواقض إيمانهم بجميع الأنبياء والرسل وما جاءوا به :
* فقد نسبت اليهود الردة إلى نبي الله سليمان - عليه السلام - وأنه عبد الأصنام كما في سفر الملوك الأول . الإصحاح / 11 / عدد / 5 .
* ونسبت اليهود إلى نبي الله هارون - عليه السلام - صناعة العجل ، وعبادته له كما في الإصحاح / 32 عدد / 1 من سفر الخروج .
وإنما هو عمل السامري ، وقد أنكره عليه هارون - عليه السلام - إنكاراً شديداً ، كما في القرآن الكريم .
* وقد نسبت اليهود إلى خليل الله إبراهيم - عليه السلام - أنه قدم امرأته سارة إلى فرعون لينال الخير بسببها .
كما في الإصحاح / 12 العدد / 14 من سفر التكوين .
* وقد نسبت اليهود إلى لوط - عليه السلام - شرب الخمر حتى سكر ، ثم زنى بابنته .
كما في سفر التكوين . الإصحاح / 19 العدد / 30 .
* ونسبت اليهود : الزنى إلى نبي الله داود - عليه السلام - فولدت له سليمان - عليه السلام - .
كما في سفر صموئيل الثاني . الإصحاح / 11 العدد / 11 .
* ونسبت النصارى - قبحهم الله - إلى جميع أنبياء بني إسرائيل أنهم سراق ولصوص ، كما في شهادة يسوع عليهم .
إنجيل يوحنا . الإصحاح / 10 / العدد / 8 .
* ونسبت النصارى - قبحهم الله - جد سليمان ، وداود : فارض ، من نسل يهوذا بن يعقوب ، من نسل الزنى .
كما في : إنجيل متى . الإصحاح / 1 العدد / 10 .
فهذه أمة الغضب ، وهذه أمة التثليث والضلال يرمون جمعاً من أنبياء الله ورسله بقبائح الأمور التي تقشعر منها الجلود ، وينسبون هذا إلى كتب الله المنزلة : التوراة والإنجيل - وحاشا لله - .
إن هذا كفر بالله من جهتين : جهة نسبته إلى الوحي ، ومن جهة الكذب على الأنبياء والرسل بذلك .
فكيف يدعى إلى وحدة المسلمين الموحدين ، والمعظمين لرسل الله وأنبيائه مع هذه الأمم الكافرة الناقضة للإيمان بالكتب المنزلة والأنبياء والرسل .
ومن هنا : كيف لا يستحي من المنتسبين إلى الإسلام من يدعو إلى طبع هذه الأسفار والإصحاحات المحرفة المفترى فيها مع كتاب الله المعصوم : " القرآن الكريم " .
إن هذا من أعظم المحرمات ، وأنكى الجنايات ، ومن اعتقده صحيحاً فهو مرتد عن الإسلام .
الإيمان بالرسل :
من أركان الإيمان ، وأصول الاعتقاد ، " الإيمان بالرسل " إيماناً جامعاً ، عاماً ، مُؤتَلِفاً ، لا تفريق فيه ولا تبعيض ، ولا اختلاف ، وهو يتضمن تصديقهم ، وإجلالهم ، وتعظيمهم كما شرع الله في حقهم ، وطاعتهم فيمن بعثوا به في الأمر ، والنهي ، والترغيب ، والترهيب ، وما جاءوا به عن الله كافة .(2/77)
وهذا أصل معلوم من الدين بالضرورة ، فيجب الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله ، جملةً وتفصيلاً ، من قص الله - سبحانه - علينا خبره ومن لم يقصص خبره .
وأن عِدّة الأنبياء ، كما جاءت به الرواية من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - وغيره : " مائة ألف وعشرون ألفاً " وعدة الرسل منهم : " ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً " . وسمى الله منهم في القرآن الكريم ، خمسة وعشرين ، فأول نبي هو : آدم - عليه السلام - وقيل : بل هو نبي رسول . وأول نبي رسول نوح - عليه السلام - وآخر نبي رسول هو محمد صلى الله عليه وسلم . وكان عيسىبن مريم قبله ، ولم يكن بينهما نبي ولا رسول .
وقد ذكر الله منهم في مواضع متفرقة من القرآن : سبعة ، هم : آدم ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذو الكفل ، ومحمد - صلى الله عليهم أجمعين - .
وذكر ثمانية عشر منهم في موضع واحد ، في أربع آيات متواليات من سورة الأنعام : ( 83 - 86 ) وهم : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وإسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوط .
ومن هذا العدد : خمسة هو أولو العزم من الرسل ، وهم الذين ذكرهم الله - سبحانه - بقوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } [ الأحزاب / 7 ] .
ومن هذا العدد المبارك : أربعة من العرب ، وهم : هود ، وصالح ، وشعيب ، ومحمد - صلى الله عليهم وسلم أجمعين - (25) .
وذكر الله - سبحانه - ولد يعقوب باسم : " الأسباط " ولم يذكر اسم أحد منهم سوى : يوسف - عليه السلام - وهم اثنا عشر ابناً ليعقوب - عليه السلام - ليس فيهم نبي سوى يوسف - عليه السلام - وهو الذي قواه ابن كثير - رحمه الله تعالى - في " تاريخه " . وقيل : بل كانوا جميعهم أنبياء .
والآيات التي يرد فيها ذكر : " الأسباط " المراد بهم شعوب بني إسرائيل ، وما كان يوجد فيهم من الأنبياء ، وقد ثبت في السنة تسمية نبيين هما : شيت بن آدم ، ويوشع بن نون - عليهم السلام - .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوحاً ، وشعيباً ، وهوداً ، وصالحاً ، ولوطاً ، وإبراهيم، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، ومحمداً صلى الله وسلم عليهم أجمعين " .
وكل الأنبياء والرسل : رجال ، أحرار ، من البشر ، من أهل القرى والأمصار ، ليس فيهم امرأة ، ولا ملك ، ولا أعرابي ، ولا جني .
وكلهم على غاية الكمال في الخِلقة البشرية ، والأخلاق العلية ، مصطفون من خيار قومهم ، الذين بعثهم الله فيهم ، وبلسانهم ، من خيارهم خِلقة ، وخُلُقاً ، ونسباً ومواهب ، وقدرات ، معصومون في تحمل الرسالة ، وتبلغيها ، ومن كبائر الذنوب ، واقترافها ، وإن وقعت صغيرة فلا يقرون عليها ، بل يسارع النبي إلى التوبة منها ، والتوبة تغفر الحَوبَة .
وكل نبي يبعث إلى قومه خاصة إلا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فبعثته عامة إلى الثقلين .
وكل نبي يبعث بلسان قومه .
وقد يبعث الله -سبحانه - نبياً وحده ، أو رسولاً وحده ، وقد يجمع الله بعثة نبيين اثنين ، أو نبي ورسول ، أو أكثر من ذلك في زمن واحد ، ومن ذلك :
أن الله - سبحانه - بعث نبيه ورسوله إبراهيم - عليه السلام - وبعث في زمنه : لوطاً - عليه السلام - وهو ابن أخيه .
وبعث الله - سبحانه - إسماعيل، وإسحاق - عليهما السلام - ، في زمن واحد .
وبعث الله - سبحانه - يعقوب ، وابنه يوسف - عليهما السلام - في زمن واحد . وبعث الله - سبحانه موسى ، وأخاه هارون - عليهما السلام - في زمن واحد ، قيل : وشعيب - عليه السلام - الذي أدركه موسى ، وتزوج ابنته . وهو غلط ، كما قرره المفسرون منهم ابن جرير - رحمه الله تعالى - في : " الجواب الصحيح : 2 / 249 - 250 " .
وبعث الله - سبحانه - داود وابنه سليمان - عليهما السلام - في زمن واحد .
وبعث الله - سبحانه - زكريا ، ويحيى - عليهما السلام - في زمن واحد .
وقال - تعالى - في سورة " يس " : { واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } [ إلى آخر الآيات / 13 - 17 من سورة يس ] .
وقد اختار ابن كثير - رحمه الله - أنهم ثلاثة رسل من رسل الله - تعالى - .
وكلهم بعثهم الله مبشرين ، ومنذرين ، ولتحقيق العبودية لله - سبحانه - وتوحيده ، وأدى كل واحد منهم - عليهم السلام - الأمانة ، وبلغ ، وبشر ، وأنذر ، وقد أيدهم الله بالمعجزات الباهرات ، والآيات الظاهرات .
والرسل أفضل من الأنبياء ، وقد فضل الله - سبحانه - بعضهم على بعض ، ورفع بعضهم درجات ، وأفضلهم جميعاً : خمسة هم أولو العزم من الرسل .
وأفضل الجميع على الإطلاق ، بل أفضل جميع الخلائق : هو خاتمهم نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا نبي بعده ، وان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين عامة .(2/78)
وكلهم متفقون على وحدة الملة والدين : في التوحيد ، والنبوة والبعث ، وما يشمله ذلك من الإيمان الجامع بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشَره ، وما في ذلك من وحدة العبادة لله - تعالى - لا شريك له ، فالصلاة والزكاة ، والصدقات ، كلها عبادات لا تُصرف إلا لله - تعالى - .
وشرائعهم في العبادات في صورها ، ومقاديرها ، وأوقاتها ، وأنوعها ، وكيفيتها ، متعددة .
حتى جاءت الرسالة الخاتمة ، والنبوة الخالدة ، فنسخ الله بها جميع الشرائع فلا يجوز لبشر ، كتابي ولا غير كتابي ، أن يتعبد الله بشريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن تعبد الله بغير هذه الشريعة الخاتمة ، فهو كافر ، وعمله هباء : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } [ الفرقان / 23 ] .
فواجب على كل مكلف الإيمان ، بان نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، فلم يبق رسول يجب اتباعه سوى محمد صلى الله عليه وسلم ولو كان أحد من أنبياء الله حياً لما وسعه إلا اتباعه صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يسع الكتابيين إلا ذلك ، كما قال الله تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } [ الأعراف / 157 ] .
وأن بعثته صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الثقلين ، والناس أجمعين : { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولن أكثر الناس لا يعلمون } سبأ / 28 ] .
وقال - تعالى - : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } [ الأعراف / 158 ] .
وقال - تعالى - : { وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } [ الأنعام / 19 ] .
وقال -يسبحانه - : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } [ آل عمران / 20 ] .
من نواقض هذا الأصل :
من كفر بنبي واحد ، أو رسول واحد ، أو آمن ببعض وكفر ببعض ، فهو كمن كفر بالله وجحده ، وقد فرق بين الله ورسله ، ولا ينفعه إيمانه ببقية الرسل ؛ ذلك أن الرسل حملة رسالة واحدة ، ودعاة دين واحد ، وإن اختلفت شرائعهم ، ومرسلهم واحد ، فهم وحدة يبشر المتقدم منهم بالمتأخر ، ويصدق المتأخر المتقدم .
قال تعالى : { إن الذين كفروا بالله ورسله ، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً } [ النساء / 150 - 151 ] .
ولهذا : فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، وأنه خاتم الأنبياء والرسل ، وأن شريعته ناسخة لجميع ما قبلها ، وأنه لا يسع أحداً من أهل الأرض اتباع غير شرعه : فهو كافر مخلد في النار كمن كفر بالله وجحده رباً معبوداً .
وقد بين الله - سبحانه - كفر اليهود والنصارى ؛ لإيمانهم ببعض الرسل ، وكفرهم ببعض ، كما قال - تعالى - : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم } [ البقرة / 91 ] .
{ وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم } [ البقرة / 91 ] . .
فاليهود لا يؤمنون بعيسى ابن مريم ، ولا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم { فباؤوا بغضب على غضب } [ البقرة / 90 ] غضب بكفرهم بالمسيح عيسى ابن مريم ، وغضب بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والنصارى : لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم فَأتوا من كفرهم به . .
لهذا : فهم بكفرهم هذا كفار مخلدون في النار ، فكيف ينادون بوحدتهم مع دين الإسلام . .
وانظر إلى حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق والنار حق : أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " متفق عليه . .
فقوله : " وأن عيسى عبد الله ورسوله " تعريض باليهود وتعريض بالنصارى - أنفسهم - في قولهم بالإيمان به مع التثليث وهو شرك محض ؛ وبه تعرف السر في تخصيص ذكر عيسى - عليه السلام - في هذا الحديث العظيم الجامع . .
ألا : لا وحدة بين مسلم يؤمن بجميع أنبياء الله ورسله ويهودي أو نصراني : لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله - سبحانه - : .
{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [ البقرة / 137 ] . .
نسبة القبائح ، والكبائر إلى الأنبياء كصناعة الأصنام ، والردة ، والزنا ، والخمر ، والسرقة ،
فمن نسب أي قبيحة من تلك القبائح ، ونحوها إلى أي نبي أو رسول فهر كافر مخلد في النار ، مثل كفره بالله ، وجحده له . .(2/79)
وقد كان لليهود ، والنصارى - قبحهم الله وأخزاهم - أوفر نصيب من نسبة القبائح إلى أنبياء الله ورسله - عليهم السلام - كما تقدم ذكر بعض منها . .
ومن نواقض هذا الأصل : .
نفي بشرية أحد من الأنبياء ، أو تأليه أحد منهم . .
وقد نقض اليهود ، والنصارى هذا الأصل العظيم بافترائهم ، وكذبهم ، وتحريفهم ، كما فضحهم الله في آيات من : " القرآن العظيم " وحكم بكفرهم ، وضلالهم . .
فقال - سبحانه - عن اليهود والنصارى : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون } [ التوبة / 30 ] . .
وقال - سبحانه - عن النصارى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [ المائدة / 72] . .
وقال - سبحانه - عن النصارى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد } [ المائدة / 73] . .
ومن ونواقض هذا الأصل :
عدم الإيمان بعموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع أهل الأرض عربهم ، وعجمهم ، إنسهم ، وجنهم . .
ومنه أن العيسوية من اليهود وفريقاً من النصارى آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم للعرب خاصة ، وأنكروا عموم رسالته . وإنكار عموم رسالته صلى الله عليه وسلم ، كفر ، يناقض صريح القرآن : { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ سبأ / 28 ] . .
والآيات بهذا المعنى كثيرة ، وفي صحيح مسلم : " أرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون " . .
النتيجة :
* يجب على كل المسلمين : الكفر بهذه النظرية : " وحدة كل دين محرف منسوخ مع دين الإسلام الحق المحكم المحفوظ من التحريف والتبديل الناسخ لما قبله " . وهذا من بدهيات الاعتقاد والمسلمات في الإسلام .
وأن حال الدعاة إليها من اليهود ، والنصارى مع المسلمين هم كما قال الله - تعالى - : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } [ آل عمران / 119 ] .
* ويجب على أهل الأرض اعتقاد تعدد الشرائع وتنوعها وأن شريعة الإسلام هي خاتمة الشرائع ، ناسخة لكل شريعة قبلها ، فلا يجوز لبشر من أفراد الخلائق أن يتعبد الله بشريعة غير شريعة الإسلام .
وإن هذا الأصل لم يسلم لأحد إلا لأهل الإسلام ، فأمة الغضب : اليهود ، كافرون بهذا الأصل ؛ لعدم إيمانهم بشريعة عيسى - عليه السلام - ولعدم إيمانهم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمة الضلال : النصارى ، كافرون بهذا الأصل ؛ لعدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبشريعته ، وبعموم رسالته .
والأمتان كافرتان بذلك ، وبعدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته في شريعته ، وترك ما سواها ، وبعدم إيمانهم بنسخ شريعة الإسلام لما قبلها من الشرائع ، ، وبدعم إيمانهم بما جاء به من القرآن العظيم ، وأنه ناسخ لما قبله من الكتب والصحف .
{ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } [ آل عمران / 58 ] .
* ويجب على جميع أهل الأرض من الكتابيين وغيرهم : الدخول في الإسلام بالشهادتين ، والإيمان بما جاء في الإسلام جملة وتفصيلاً ، والعمل به ، واتباعه ، وترك ما سواه من الشرائع المحرفة والكتب المنسوبة إليها ، وأن من لم يدخل في الإسلام فهو كافر مشرك ، كما قال الله - تعالى - : { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } [ آل عمران / 70 ] .
* يجب على أمة الإسلام : " أمة الاستجابة " ، " أهل القبلة " : اعتقاد أنهم على الحق وحدهم في : " الإسلام الحق " وأنه آخر الأديان ، وكتابه القرآن آخر الكتب ، ومهيمناً عليها ، ورسوله آخر الرسل وخاتمهم ، وشريعته ناسخة لشرائعهم ، ولا يقبل الله من عبد سواه . فالمسلمون حملة شريعة إلهية خاتمة ، خالدة ، سالمة من الانحراف الذي أصاب أتباع الشرائع السابقة ، ومن التحريف الذي داخل التوراة والإنجيل مما ترتب عليه تحريف الشريعتين المنسوختين : اليهودية والنصرانية .
* ويجب على : " أمة الاستجابة " لهذا الدين إبلاغه إلى " أمة الدعوة " من كل كافر من يهود ونصارى ، وغيرهم ، وان يدعوهم إليه ، حتى يسلموا ، ومن لم يسلم فالجزية أو القتال .
قال الله - تعالى - { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة / 29 ] .
* ويجب على كل مسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً : أن يدين الله - تعالى - بِبُغضِ الكفار من اليهود والنصارى ، وغيرهم ، ومعاداتهم في الله - تعالى - وعدم محبتهم ، ومودتهم ، وموالاتهم ، وتوليهم ، حتى يؤمنوا بالله وحده رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً .(2/80)
قال الله - تعالى - : { يا أيها الذين آمونا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [ المائدة / 51 ] . والآيات في هذا المعنى كثيرة .
ولهذا صار من آثار قطع الموالاة بيننا وبينهم ، أنه لا توارث بين مسلم وكافر أبداً .
* يجب على كل مسلم اعتقاد كفر من لم يدخل في هذا الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم ، وتسميته كافراً ، وأنه عدو لنا ، وأنه من أهل النار .
قال الله - تعالى - : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } [ الأعراف / 158 ] .
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ، ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار " .
ولهذا : فمن لم يكفر باليهود والنصارى فهو كافر ، طرداً لقاعدة الشريعة : " من لم يكفر الكافر فهو كافر " .
ونقول لأهل الكتاب كما قال الله - تعالى - : { انتهوا خيراً لكم } [ النساء / 171 ] .
* ولا يجوز لأحد من أهل الأرض اليوم أن يبقى على أي من الشريعتين : " اليهودية والنصرانية " فضلاً عن الدخول في إحداهما ، ولا يجوز لمتبع أي دين غير الإسلام وصفه بأنه مسلم ، أو أنه على ملة إبراهيم ، لما يأتي :
1- لأن ما كان فيهما - أي اليهودية والنصرانية - من شرع صحيح فهو منسوخ بشريعة الإسلام فلا يقبل الله من عبد أن يتعبده بشرع منسوخ .
2- ولأن ما كان منسوباً إليهما من شرع محرف مبدل ، فتحرم نسبته إليهما ، فضلاً عن أن يجوز لأحد اتباعه ، أو أن يكون دين أحد من الأنبياء لا موسى ولا عيسى ، ولا غيرهما .
3- ولأن كل عبد مأمور بأن يتبع الدين الناسخ لما قبله ، وهو بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم دين الإسلام الذي جاء به ، بعبادة الله وحده لا شريك له ، وتوحيده بالعبادة ، فمن كان كذلك كان عبداً حنيفاً ، مسلماً ، على ملة إبراهيم ، ومن لم يؤمن بجميع الأنبياء والمرسلين ، ويخص نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالاتباع دون سواه فلا يجوز وصفه بأنه حنيف ، ولا مسلم ، ولا على ملة إبراهيم ، بل هو كافر في مشاقة وشقاق .
قال الله تعالى : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وأما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما ءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [ البقرة / 135 - 137 ] .
فبطلت بهذه نظرية الخلط بين دين الإسلام الحق ، وبين غيره من الشرائع الدائرة بين التحريف والنسخ ، وأنه لم يبق إلا الإسلام وحده ، والقرآن وحده ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا نبي بعده ، وأن شريعته ناسخة لما قبله ، ولا يجوز اتباع أحد سواه .
* وأنه لا يجوز لمسلم طباعة التوراة ، والإنجيل ، وتوزيعهما ، ونشرهما ، وأن نظرية طبعهما مع القرآن الكريم في غلاف واحد ، من الضلال البعيد ، والكفر العظيم ، لما فيها من الجمع بين الحق : " القرآن الكريم " والباطل : في التوراة والإنجيل من التحريف والتبديل ، وأن ما فيهما من حق فهو منسوخ .
* وأنه لا يجوز الاستجابة لدعوتهم ببناء " مسجد ، وكنيسة ، ومعبد " (26) في مجمع واحد لما فيها من الدينونة والاعتراف بدين يعبد الله به سوى الإسلام ، وإخفاء ظهوره على الدين كله ، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة على أهل الأرض التدين بأي منها ، وأنها على قَدَم التساوي ، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله ، وهذه المردودات السالبة ، فيها الكفر والضلال ، ما لا يخفى ، فعلى المسلمين بعامة ، ومن بسط الله يده عليهم خاصة ، الحذر الشديد ، من مقاصد الكفرة من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين ، والكيد لهم فإن بيوت الله في أرض الله هي : " المساجد " وحدها : { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } [ الأعراف / 29 ] .
وهذه المساجد من شعائر الإسلام ، فواجب تعظيمها ، ورعاية حرمتها ، وعمارتها ، ومن تعظيمها ورعايتها عدم الرضا بحلول كنائس الكفرة ، ومعابدهم في حرمها ، وفي جوارها ، وإقرار إنشائها في بلاد الإسلام ، ورفض مساجد المضارة بالإسلام ، والضّرار بالمسلمين في بلاد الكافرين .(2/81)
فإن " المسجد " والحال هذه ، مسجد مُضَارّة للإسلام ، ولا يجوز إقراره ، ولا الصلاة فيه ، ويحب على من بسط الله يده من ولاة المسلمين هدم هذا المجمع ، فضلاً عن السكوت عنه ، أو المشاركة فيه ، أو السماح به ، وإن كان - والحال ما ذكر - في بلاد كفر ، وجب على المسلمين إعلان عدم الرضا به ، والمطالبة بهدمه ، والدعوة إلى هجره .
وانظر ، كيف تشابهت أعمال المنافقين ، ومقاصدهم ، في قديم الدهر وحديثه ؛ إذ بني المنافقون مسجداً ضراراً بالمؤمنين ، أما عملهم اليوم ، فهو : أشد ضراراً بالإيمان ، والمؤمنين ، والإسلام والمسلمين ، وقد أنزل الله - سبحانه - قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة ، فقال الحكيم الخبير سبحانه وتعالى - : { والذين اتّخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون . لا تقيم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المُطَهرين . أفمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جنهم والله لا يهدي القوم الظالمين . لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم } [ التوبة / 107 - 110 ] .
ثم رأيت الفرق الباطنية ، التي أسست من قِبَلِ الاستعمار الروسي ، والإنجليزي ، واليهودية العالمية ، منسوبة إلى الإسلام ظلماً ؛ لهدمه ، والعدوان عليه ، ومنها :
" البابية " نسبة إلى : المرزا علي محمد الشيرازي ، الملقب : " باب المهدي " المولود سنة 1235 والهالك سنة 1265 .
و " البهائية " نسبة إلى البهاء حسين ابن الميرزا المولود بإيران سنة 1233 ، والهالم سنة 1309 .
و " القاديانية " نسبة إلى : مرزا غلام أحمد القادياني الهالك سنة 1325 .
المحكوم بكفرها - أي هذه الفرق - بإجماع المسلمين ، وقد صدرت بكفرها قرارات شرعية دَولية .
هذه الفِرق تدعو إلى هذه النظرية : " نظرية الخلط " .
ومنها قول بهاء المذكور (27) :
" يجب على الجميع ترك التعصبات ، وأن يتبادلوا زيارة الجوامع والكنائس مع بعضهم البعض ؛ لأن اسم الله في جميع هذه المعابد مادام الكل يجتمعون لعبادة الله ، فلا خلاف بين الجميع ، فليس منهم أحد يعبد الشيطان ، فيحق للمسلمين أن يذهبوا إلى كنائس النصارى ، وصوامع اليهود ، وبالعكس يذهب هؤلاء إلى المساجد الإسلامية " انتهى .
ما أشبه الليلة بالبارحة ، فإن عمل منافقي اليوم ضِرار بالإيمان والمؤمنين بوجه أشد نكاية وأذى للإسلام والمسلمين .
* ألا أنه واجب على المسلمين ، الحذر والتيقظ من مكايد أعدائهم .
* وواجب على المسلمين ، الحذر من ارتداء الكفرة مُسُوحَ الحوار ، وجَلب الشخصيات المتميعة ونحو ذلك من أساليبهم ، التي هي بحق : " رجس من عمل الشيطان " .
* وليعلم كل مسلم ، أنه لا لقاء بين أهل الإسلام والكتابيين وغيرهم من أمم الكفر إلا وفق الأصول التي نصبت عليها الآية الكريمة : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } [ آل عمران / 64 ] . وهي توحيد الله تعالى ونبذ الإشراك به وطاعته في الحكم والتشريع واتباع خاتم الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بشرت به التوراة والإنجيل .
* فيجب أن تكون هذه الآية شعار كل مجادلة بين أهل الإسلام وبين أهل الكتاب وغيرهم وكل جهد يُبذل لتحقيق غير هذه الأصول فهو باطل . . باطل . . باطل .
* وإن إفشال تلك المؤتمرات التي هي في حقيقتها : " مؤامرات " على المسلمين ، مؤكد بوعد الله - تعالى - للمسلمين في قوله جل وعز : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران / 111 ] .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة " .
وثبت - أيضاً - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدواً من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها " . الحديث .
* ولكن هذا - وأيم الله - لا بد له من موقفين : موقف رفع راية الجهاد ، وتوظيف القدرات بصد العاديات ، وموقف للبناء وتحصين المسلمين بإسلامهم على وجهه الصحيح
* ولا تلتفت أيها المسلم إلى غلط الغالطين ، ولا إلى من خدعتهم دعوة إخوان الشياطين ، ولا إلى المأجورين ، ولا إلى أفراد من الفرق الضالة من المنتسبين إلى الإسلام ، للمناصرة ، والترويج لهذه النظرية ، فيتسنمون الفتيا وما هم بفقهاء ، ولا بصيرة لهم في الدين ، وإنما حالهم كما قال الله تعالى : { وإن منهم فريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } [ آل عمران / 78 ] .(2/82)
اللهم إني قد بينت ونصحت في هذا كل مسلم قدر نفسه حق قدرها مؤمناً بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، فأذعن للحق ، اللهم فاشهد .
نسأل الله - سبحانه - أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يذب عنهم البأس ، وأن يصرف عنهم كيد الكائدين ، وأن يثبتنا جميعاً على الإسلام حتى نلقاه إنه على كل شئ قدير .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
تحريراً
في 8 / 5 / 1417
بقلم بكر بن عبد الله أبو زيد
________________________________________
هوامش
(1) ما جاء بين القوسين من: " هداية الحيارى " لابن القيم. وهكذا في المواضع بعده من هذه المقدمة.
(2) الفتاوى : 4 / 203 .
(3) الفتاوى : 4 / 203 - 208 ، 14 / 164 - 168 ، 28 / 523 . الصفدية : 1 / 98 - 100 ، 268 . الرد على المنطقيين : ص / 282 - 283 .
(4) لا أستعمل الرمز " هـ " إشارة إلى التاريخ الهجري ؛ لأنه ليس لدينا في الإسلام سواه ، والتاريخ الميلادي ليس قسيماً له وعند وروده منقولاً أرمز له بحرف : " م " .
(5) تنبيه : عظمت الفتنة في عصرنا بمدح الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام والافتخار بهم ، وإظهار مقالاتهم ، وساعد على ذلك طبع المستعمرين - المستشرقين - لكتبهم ، ونشرها ، وكل هذه مخاطر يجب الحذر منها ، وعلى من بسط الله يده أن يكف أقلام أصحابها ، وألسنتهم ، طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم - في نصرة هذا الدين ، وحماية لأهله من شرورهم .
(6) الموسوعة الميسرة : ص / 449 - 454 .
(7) انظر : كتاب : " صحوة الرجل المريض " لموفق بني المرجه : ص / 345 . وكتاب : " جمال الدين الأفغاني في الميزان " .
(8) المراجع السابقة .
(9) في كتاب محمد البهي : " الإخاء الديني ، ومجمع الأديان / سياسة غير إسلامية " . ص / 3 قال ما نصه : " الإخاء الديني : جماعة تمارس نشاطها المشترك بين المسلمين والمسيحيين في المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين بالقاهرة . . . . " .
(10) في المرجع السابق : " مجمع الأديان : مبني يقام في وادي الراحة بسيناء للعبادات الثلاثة " .
(11) العالمية : مذهب معاصر ، يدعو إلى البحث عن حقيقة واحدة يستخلصها من ديانات العالم المتعددة ، وحقيقته نسف للإسلام انظر : معجم المناهي اللفظية ص / 270 - 371 .
(12) من هنا حتى الفقرة العاشرة ، مستخلص من : سلسلة تقارير المعلومات بوزارة الأوقاف الكويتية تحت الوثيقة رقم / 61334 بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية . بالرياض .
(13) لم يفصح لنا الخبر إلى أي القبلتين صلى بهم البابا . . . وهل كانت الصلاة في بيت رحمة - المسجد - أم في بيت عذاب : الكنيسة ، والمعبد . وهذه أول صلاة يؤم فيها كافر مسلماً . . . ؟؟!!
(14) انظر كتاب : " الجارودي ووثيقة إشبيلية " لسعد ظلام . وكتاب : " الإسلام والأديان " لمحمد عبد الرحمن عوض .
(15) جاء في الإصحاح التاسع من سفر التكوين " ما يفيد - قبحهم الله ما أكذبهم - أن الله جعل " قوس قزح " علامة تذكره أن لا يعود إلى إهلاك أهل الأرض مرة أخرى كما كان مع قوم نوح ، فهو علامة ميثاق بين الله وبين أهل الأرض : " أنه إذا رأى الله : " قوس قزح " تذكر حتى لا يتورط مرة أخرى في طوفان آخر . قاتل الله اليهود ما أكذبهم ، وعليهم لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة " . وانظر : " قذائف الحق " للغزالي ( ص / 24 - 25 ) .
(16) نشر في وسائل الإعلام المختلفة ، ومنها في : جريدة الرأي . في العدد رقم / 9316 ، ص / 1 بتاريخ 13 / 10 / 1416 .
(17) نشر الخبر في وسائل الإعلام ، وفي الصحافة العالمية . منذ شهر رمضان عام 1416 .
(18) تطبيع العلاقات : مصطلح دولي معاصر ، وهو اتفاق ، أو معاهدة ثنائية بين بلدين ، تهدف إلى جعل العلاقات بينهما طبيعية ، ومتكيفة مع الوضع الجديد للبلدين ، ويشمل التطبيع عدة نواح ، وليس مقصوراً على الناحية السياسية فقط ؛ إذ يشمل العلاقات الاقتصادية ، والتمثيل الدبلوماسي والتبادل التجاري ، والتعاون الإعلامي ، وفتح المجال للسياح من البلدين . " كتاب كلمات غريبة : 148 " .
(19) ويقال : " النظام العالمي الجديد " و "النظام العالمي المعاصر " وحقيقته من خلال القوى العاملة في : " المؤسسات الدولية " : نظام استعماري غربي من وجه جديد ضد أمم وحضارات ديانة الجنوب وفي مقدمتها " الملة الإسلامية " يهدف إلى سلب الدين والخلاق ، وفرض التقليد والتبعية لهم في خصوصيات حضارتهم في الدين والأخلاق .(2/83)
(20) انتشر إعلامياً حال هذا التقييد ، إعلان جارودي ، أنه لم يتخل عن النصرانية ، وأخذ يرمي بآراء جديدة في الإسلام ، منها أن الصلوات المفروضات ثلاث وليست خمساً وأنه يدعو إلى عقيدة دينية جديدة تخلط بين الإسلام والنصرانية والشيوعية ، إلى آخر كفرياته ، كما نشر في : " مجلة المجلة " هذا العام 1416 . وقد رد عليه شيخ الأزهر جاد الحق - رحمه الله تعالى - قبيل وفاته ، ورد عليه الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله بن باز المفتي العام للملكة العربية السعودية في : " مجلة البعث الإسلامي لعدد / 6 ربيع الأول عام 1417 ص / 24 - 31 " . ومثل هذا الرجل وانكشاف حقيقته بعد سنين ، يعطي المسلمين درساً بالتثبيت والتبين قبل الاندفاع ، فإن المسلمين قد أكبروه ، وشهروه ، ثم صارت حقيقة حاله ما ذكر ، فإلى الله المشتكى ، وهو المستعان .
(21) وكان آخرها : " مؤتمر الإسلام والحوار الحضاري بين الأديان " المنعقد في القاهرة في شهر ربيع الأول عام 1417 . وفي : " مجلة الإصلاح " الإماراتية في العدد / 351 في 1 / 4 / 1417 تقرير عنه ، وكشف حقائق مزعجة على لسان بعض المشاركين من المسلمين ؟!
(22) انظر كتاب : " الإيمان " لعثمان عبد القادر الصافي . ص / 117 .
(23) الفتاوى : 21 / 62 - 65 .
(24) انظر : مجموع الفتاوى : 28 / 12 - 613 .
(25) جمعهم بعضهم بقوله : " شهصم " .
(26) انظر حاشية / 23 ، وهذه صورة مشروع لهذه الفكرة المراد تنفيذها لمسجد وكنائس في بعض دول شرق آسيا.
(27) كتاب : أهمية الجهاد في الإسلام للشيخ علي العلياني : ص / 508 - 509
تم بحمد الله .
====================
إثبات صفة الساق ... ورد شبهات المبتدعة الفساق
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد، إن الساق صفة من صفات الله الذاتية الخبرية، دلت عليها صريح السنة النبوية، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – إن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال: "... فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن" والحديث متفق عليه واللفظ للبخاري. وعليه ذهب بعض السلف إلى إن الساق في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} هي ساق الله تعالى.
فإن هذه الصفة ضل فيها كثير من الناس عن الصواب، حتى آل المآل المبتدعة إلى تعطيل هذه الصفة – والعياذ بالله -. وقد أثارت المبتدعة عدة شبهات حول هذه الصفة؛ من جملتها قولهم:
1) إن ظاهر الآية تشبيه.
2) إن الصحابة متنازعون في إثبات صفة الساق.
3) إن ظاهر الآية إثبات ساق واحدة فقط.
ونقول في الرد على هذه الشبهات بعد التوكل على الله:
المطلب الأول: إن إطلاق لفظ التشبيه إطلاقاً مجملاً، قد يراد به معنى باطل أو حق، فبإطلاقه يراد به أحد المعنيين:
المعنى الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق؛ أي ما يجب ويمتنع ويجوز للمخلوق، يوجب ويمتنع ويجوز للخالق، وهذا التشبيه المذموم الذي يكفر به قائله، وهذا هو المعنى الحق في نفي التشبيه.
المعنى الثاني: المشابهة في اللفظ والمعنى العام الكلي؛ أي إن حقيقة معنى أسماء الله وصفاته غير حقيقة أسماء وصفات المخلوقين، وإن اشتركت في اللفظ والمعنى العام الكلي، وهذا هو المعنى الباطل في نفي التشبيه.(2/84)
مثال ذلك: إن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عياده بها. وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمى؛ وبيانه: سمى الله نفسه بالسميع البصير، وأثبت بذلك صفة السمع والبصر قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، وقد أثبت الله للإنسان صفة السمع والبصر قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}. والمشابهة هنا وقعت في الاسم والمعنى العام الكلي، والانتفاء واقع في التماثل فإن سمع وبصره الله ليس كسمع وبصر الإنسان، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} أي: إن الله يسمع لا كسمع الإنسان، ويبصر لا كما يبصر الإنسان؛ ونظائر هذا كثيرة.
وعليه فإن القول في الصفات جميعها من باب واحد، فإنا نثبت لله صفة الساق لا كساق المخلوقات، كما أثبتنا لله سمعاً لا كسمع المخلوقات.
وقد زلت المبتدعة في ضابط نفي التشبيه، وزاغت عن الحق، فنفت التشبيه في الاسم والمعنى العام الكلي، حتى صارت المبتدعة ترمي بعضها البعض بالتشبيه، فكل من نفى شيئاً سمى من أثبته مشبهاً.
أما نفي التشبيه عند أهل السنة والجماعة، إنما يقصد به المعنى الأول. قال الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان فيما نسب إليه: "يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا" (1) وهذا معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فنفي المثل وأثبت الصفة (2).
المطلب الثاني: إن من زعم نزاع الصحابة في إثبات صفة الساق، إما مخطأ فيُصوب، أو جاهل فيُعلم، وإما كذاب فيُترك. إذ إن الصحابة لم يختلفوا في إثبات صفة الساق، وإنما الخلاف وقع في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}، إذ إن الصفة ذكرت على وجه التنكير، دون أن تضاف إلى الله، وهذا الذي جعل الصحابة – رضوان الله عليهم – والتابعين يختلفون في المراد بالـ(ساق)، وللصحابة – رضوان الله عليهم – في تفسير هذه الآية ثلاثة أقوال أحدها لم يصح:
القول الأول: تفسير الساق بالنور العظيم، فقد قال أبو يعلى (3): حدثنا القاسم بن يحيى: حدثنا الوليد بن مسلم: حدثنا أبو سعيد روح بن جناح، عن مولى لعمر بن عبد العزيز، عن أبي بردة، عن أبيه – رضي الله عنه -، عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال: "عن نور عظيم يخرون له سجداً"، وفي سند هذا الأثر مقال، فإن روح بن جناح ليس بقوي (4).
القول الثاني: تفسير الساق بالشدة، وقد روى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال: "عن شدة من الأمر" وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس – رضي الله عنهما – بسندين كلاهما حسن (5).
القول الثالث: تفسير الساق بأنها صفة لله تعالى على ما يليق به.
قال ابن القيم (6): "الصحابة متنازعون في تفسير الآية؛ هل المراد الكشف عن الشِّدَّة، أو المراد بها أنَّ الرب تعالى يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أنَّ ذلك صفة الله؛ لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه، وإنما ذكره مجرداً عن الإضافة منكراً، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والإصبع لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: "فيكشف الرب عن ساقه، فيخرون له سُجَّداً"، ومن حمل الآية على ذلك؛ قال: قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} مطابق لقوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "فيكشف عن ساقه، فيخرون له سجداً" وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة؛ جلت عظمتها، وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثيل أو شبيه. قالوا: وحمل الآية على الشِّدَّة لا يصح بوجه، فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كُشِفَتِ الشِّدَّة عن القوم، لا كُشِف عنها، كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا كشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}، وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ}؛ فالعذاب و الشِّدَّة هو المكشوف لا المكشوف عنه، وأيضاً فهناك تحدث الشِّدَّة وتشتد ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشِّدَّة".(2/85)
فبهذا تثبت صفة الساق لله تعالى، من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – المتفق على صحته، وهو من أحاديث الشفاعة، وتنكير الساق إنما للتعظيم والتفخيم، فانطلاقاً من هذا الحديث الصحيح نرى الآية من آيات الصفات المفسرة بالسنة؛ لأن الآية جاءت محتملة المعنى حيث جاء الساق مجرداً عن الإضافة المخصصة فجاءت السنة مبينة بأن المراد بالساق هو ساق الرحمن. وهذه طريقة أهل العلم قديماً وحديثاً، في الإيمان ما جاءت به السنة مفسرة أو مفصلة لما أجمل
المطلب الثالث: أما ما نسبته المبتدعة إلى ظاهر القرآن - الذي هو حجة الله على عباده -، إلى أقبح النقص والعيب، فزعموا أن ظاهره ومدلوله إثبات بأن لله ساق واحدة. فهذه الدعوى تدل على إن ظاهر ما وصف الله به نفسه في كتابه يدل على هذه الصفة الشنيعة المستقبحة فيكون سبحانه قد وصف نفسه بأشنع الصفات في ظاهر كلامه، فأي طعن في القرآن أعظم من طعن من يجعل هذا الظاهر ومدلوله؟ وهل هذا إلا من جنس قول الذين جعلوا القرآن عضين فعضهوه بالباطل وقالوا هو سحر أو شعر، أو كذب مفترى؟
فإن هذا القول كفراً، بل هو أشد من كفر مشركي الجاهلية، وبيانه:
أولاً: إن الكفار أقروا بعظمة القرآن، وشرف قدره، وعلوه، وجلالته حتى قال فيه رأس الكفر: "والله إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لجنى، وإنه ليعلو، وما يعلى، وما يشبه كلام البشر" رواه الحاكم والحديث صحيح.
ثانياً: لم يدع أعداء الرسول، الذين جهروا بالمحاربة والعداوة، أن ظاهر كلامه أبطل الباطل، وأبين المحال وهو وصف الخالق سبحانه بأقبح الهيئات، والصور، ولو كان ذلك ظاهر القرآن، لكان ذلك من أقرب الطرق لهم إلى الطعن فيه، وقالوا كيف يدعونا إلى عبادة رب له ساق واحدة، فكيف كانوا يسكتون له على ذلك، وهم يوردون عليه ما هو أقل من هذا بكثير، كما أوردوا عليه المسيح لما قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}. فقد أخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، فقال المشركون: الملائكة، وعيسى، وعزير، يعبدون من دون الله. فقال: لو كان هؤلاء الذين يعبدون آلهة ما وردوها. قال: فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} عيسى وعزير والملائكة" والحديث صحيح. فتعلقوا بظاهر ما لم يدل على ما أوردوه، وهو دخول المسيح عيسى وعزير والملائكة فيما عبد من دون الله إما بعموم لفظ "ما" وإما بعموم المعنى، فأوردوا على هذا الظاهر هذا الإيراد.
ونحن نبين أن هذه الصورة الشنيعة ليست تفهم من ظاهر القرآن، أن الله سبحانه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}، فدعوى المبتدعة بأن ظاهر هذا إثبات ساق واحد، فرية ظاهرة، فمن أين في ظاهر القرآن إثبات ساق واحد لله؟ فإنه سبحانه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} فعلى تقدير أن يكون الساق من الصفات فليس من ظاهر القرآن ما يوجب أنه لا يكون له إلا ساق واحد فلو دل على ما ذكر لم يدل على نفي ما زاد على ذلك لا بمنطوقه ولا بمفهومه، حتى إن القائلين بمفهوم اللقب لا يدل ذلك عندهم على نفي ما عدا المذكور لأنه متى كان للتخصيص بالذكر سبب غير الاختصاص بالحكم لم يكن المفهوم مراداً بالاتفاق، وليس المراد بالآية إثبات الصفة، حتى يكون تخصيص الأمر بالذكر مراداً بل المقصود حكم آخر وهو بيان تفريط العبد في حق الله، وبيان سجود الخلائق إذا كشف عن ساق وهذا حكم قد يختص بالمذكور دون غيره، فلا يكون له مفهوم.
نفرض أنه سبحانه أخبر أنه يكشف عن ساق واحدة هي صفة، فمن أين في ظاهر الآية إنه ليس له إلا تلك الصفة الواحدة؟ فإنه لو سمع قائلاً يقول: "كشفت عن عيني وأبديت عن ركبتي وعن ساقي أو قدمي أو يدي" هل يفهم منه أنه ليس له إلا ذلك الواحد فقط؟ فكم هذا التلبيس والتدليس! فلو قال واحد من الناس: "هذا لم يكن ظاهر كلامه ذلك" فكيف يكون ظاهر أفصح الكلام وأبينه ذلك.
فإن المفرد المضاف يراد به ما هو أكثر من واحد كقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} وقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} فلو كان الساق صفة لكان بمنزلة قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْك} و: {بِيَدِكَ الْخَيْر} و: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}(7).(2/86)
هذا – والله أسأل – أن يظهر هدي عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، وينشر جواهره، ويبرز ضمائره، ويفضح عن لغاته، ويفصح القناع عن إشاراته، ويميط عن وجود خرائده اللثام، ويسفر عن جمال حور مقصوراته الخيام، ويبين بدائع ما فيه من سحر الكلام، ويدل على ما حواه من درر مجمعة على أحسن نظام، ويؤيده برجال يخدموه بفوائد تقر بها العين، وفرائد يقول البحر الزاخر من أين أخذوها؟! من أين؟! وتحقيقات تنزاح بها شبه الضالين، وتدقيقات ترتاح لها نفوس المنصفين، وتحرق نيرانها أفئدة الحاسدين لا يعقلها إلا العالمون، ولا يجحدها إلا الظالمون، ولا يغص منها إلا كل مريض الفؤاد. من يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فما له من هاد.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه انه على كل شيء قدير. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم حبب إلينا الإيمان زينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا ممن قلت فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وآخر دعوانا أن والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفرك وأتوب إليك.
جمع وإعداد الفقير إلى الله الغني المنان/ أبو إبراهيم أحمد الرئيسي البلوشي الحنفي
المصادر والمراجع:
(1) منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر، علي القارئ، ص107-108.
(2) شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي عز الحنفي، ص122.
(3) مسند أبي يعلى، أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى، (7282).
(4) مجمع الزائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، 7/128. فتح الباري، ابن حجر، 8/664.
(5) فتح الباري، ابن حجر، 13/428.
(6) الصواعق المرسلة، ابن القيم، 1/252.
(7) الصواعق المرسلة، ابن القيم، 1/239-247، بتصرف.
=================
المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق
من النظريات التي بنى عليها المجتمع الغربي الحديث المساواة بين الرجل والمرأة ، المساواة في كل شيء ، في الحقوق والواجبات ، وفي الالتزامات والمسؤوليات ، فيقوم الجنسان بأعمال من نوع واحد ، وتقسم بينهما واجبات جميع شعب الحياة بالتساوي.
وبسبب هذه الفكرة الخاطئة للمساواة ، انشغلت المرأة الغربية ، بل انحرفت عن أداء واجباتها الفطرية ووظائفها الطبيعية ، التي يتوقف على أدائها بقاء المدنية ، بل بقاء الجنس البشري بأسره ، واستهوتها الأعمال والحركات السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، وجذبتها إلى نفسها بكل ما في طبعها وشخصيتها من خصائص ، وشغلت أفكارها وعواطفها شغلاً ، أذهلها عن وظائفها الطبيعية ، حتى أبعدت من برنامج حياتها ، القيام بتبعات الحياة الزوجية ، وتربية الأطفال وخدمة البيت ، ورعاية الأسرة ، بل كُرّه إلى نفسها كل هذه الأعمال ، التي هي وظائفها الفطرية الحقيقية ، وبلغ من سعيها خلف الرجل طلباً للمساواة إلى حد محاكاته في كل حركاته وسكناته ، لبس الرجل القصير من اللباس فلبست المرأة مثله ، ونزل البحر فنزلته ، وجلس في المقهى والمنتزه فجلست مثله بدافع المساواة ، ولعب الرياضة فلعبت مثله ، وهكذا.
وكان من نتيجة ذلك أن تبدد شمل النظام العائلي في الغرب الذي هو أس المدنية ودعامتها الأولية ، وانعدمت ? أو كادت ? الحياة البيتية ، التي تتوقف على هدوئها واستقرارها قوة الإنسان ، ونشاطه في العمل ، وأصبحت رابطة الزواج - التي هي الصورة الصحيحة الوحيدة لارتباط الرجل والمرأة ، وتعاونهما على خدمة الحياة والمدنية - أصبحت واهية وصورية في مظهرها ومخبرها.
وجاء التصوير الخاطئ للمساواة بين الرجال والنساء بإهدار الفضائل الخلقية ، التي هي زينة للرجال عامة ، وللنساء خاصة فقاد المرأة إلى التبذل وفساد الأخلاق ، حتى عادت تلك المخزيات التي كان يتحرج من مقارفتها الرجال من قبل ، لا تستحي من ارتكابها بنات حواء في المجتمع الغربي الحديث.(2/87)
هكذا كان تصورهم الخاطئ للمساواة ، وهكذا كانت نتائجه على الحياة ، وعلى كل مقومات الحياة الفاضلة ، والعجيب أن يوجد في عالمنا الإسلامي اليوم من ينادي بهذه الأفكار ، ويعمل على نشرها وتطبيقها في مجتمعنا الإسلامي ، على الرغم مما ظهر واتضح من نتائجها ، وآثارها السيئة المدمرة ، ونسي أولئك أو تناسوا أن لدينا من مباديء ديننا ومقومات مجتمعنا وموروثات ماضينا ما يجعلنا في غنى عن أن نستورد مبادئ وتقاليد وأنظمة لا تمت إلى مجتمعنا المسلم بصلة ، ولا تشده إليها آصرة ، ولا يمكن أن ينجح تطبيقها فيه ، لأن للمجتمع المسلم من الأصالة والمقومات ، وحرصه عليها ما يقف حائلاً دون ذلك التطبيق ، أو على الأقل كمال نجاحه ، كما نسي أولئك المنادون باستيراد هذه النظم والنظريات ، ونسي معهم أولئك الواضعون لهذه النظم من الغربيين أو تناسوا الفروق الجوهرية الدقيقة العميقة التي أوجدها الخالق سبحانه بين الذكر والأنثى من بني البشر مما يتعذر بل يستحيل تطبيق نظرية المساواة الكاملة بين الذكر والأنثى في جميع الحقوق والواجبات والالتزامات والمسؤوليات.
وهاهم ينادون بالمساواة بين المرأة والرجل بينما القرآن الكريم يقرر خلاف ذلك فيقول تبارك وتعالى نقلاً لكلام امرأة عمران: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم).
وهاهي شهادة من أحد مفكري الغرب واضعي نظرية المساواة ، يقول كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول):
(إن ما بين الرجل والمرأة من فروق ، ليست ناشئة عن اختلاف الأعضاء الجنسية ، وعن وجود الرحم والحمل ، أو عن اختلاف في طريقة التربية ، وإنما تنشأ عن سبب جد عميق ، هو تأثير العضوية بكاملها بالمواد الكيماوية ، ومفرزات الغدد التناسلية ، وإن جهل هذه الوقائع الأساسية هو الذي جعل رواد الحركة النسائية يأخذون بالرأي القائل: بأن كلا من الجنسين الذكور والإناث يمكن أن يتلقوا ثقافة واحدة وأن يمارسوا أعمالاً متماثلة ، والحقيقة أن المرأة مختلفة اختلافاً عميقاً عن الرجل ، فكل حُجَيرة في جسمها تحمل طابع جنسها ، وكذلك الحال بالنسبة إلى أجهزتها العضوية ، ولا سيما الجهاز العصبي ، وإن القوانين العضوية (الفيزيولوجية) كقوانين العالم الفلكي ، ولا سبيل إلى خرقها ، ومن المستحيل أن نستبدل بها الرغبات الإنسانية ، ونحن مضطرون لقبولها كما هي في النساء ، ويجب أن ينمين استعداداتهن في اتجاه طبيعتهن الخاصة ، ودون أن يحاولن تقليد الذكور ، فدورهن في تقدم المدنية أعلى من دور الرجل ، فلا ينبغي لهن أن يتخلين عنه).
ويقول الأستاذ المودودي: (... فهذا علم الأحياء ، قد أثبتت بحوثه وتحقيقاته أن المرأة تختلف عن الرجل في كل شيء ، من الصورة والسمت ، والأعضاء الخارجية ، إلى ذرات الجسم والجواهر الهيولينية (البروتينية) لخلاياه النسيجية ، فمن لدن حصول التكوين الجنسي في الجنين يرتقي التركيب في الصنفين في صورة مختلفة ، فهيكل المرأة ونظام جسمها ، يركب تركيباً تستعد به لولادة الولد وتربيته ، ومن التكوين البدائي في الرحم إلى سن البلوغ ، ينمو جسم المرأة ، وينشأ لتكميل ذلك الاستعداد فيها ، وهذا هو الذي يحدد لها طريقها في أيامها المستقبلة).
وإذا تقرر هذا الاختلاف الدقيق في التكوين بين الذكر والأنثى ، فمن الطبيعي والبديهي أن يكون هناك اختلاف في اختصاص كل منهما في هذه الحياة ، يناسب تكوينه وخصائصه التي ركبت فيه ، وهذا ما قرره الإسلام وراعاه ، عندما وزع الاختصاصات على كل من الرجل والمرأة ، فجعل للرجل القوامة على البيت ، والقيام بالكسب والإنفاق ، والذود عن الحمى ، وجعل للمرأة البيت ، تدبر شئونه ، وترعى أطفاله ، وتوفر فيه السكينة والطمأنينة ، هذا مع تقريره أن الرجل والمرأة من حيث إنسانيتها على حد سواء ، فهما شطران متساويان للنوع الإنساني ، مشتركان بالسوية في تعمير الكون ، وتأسيس الحضارة ، وخدمة الإنسانية ، كل في مجال اختصاصه ، وكلا الصنفين قد أوتي القلب والذهن ، والعقل والعواطف ، والرغبات والحوائج البشرية ، وكل منهما يحتاج إلى تهذيب النفس ، وتثقيف العقل ، وتربية الذهن ، وتنشئة الفكر ، لصلاح المدنية وفلاحها ، حتى يقوم كل منهما بنصيبه من خدمة الحياة والمدنية ، فالقول بالمساواة من هذه الجهات صواب لا غبار عليه ، ومن واجب كل مدنية صالحة أن تعني بالنساء عنايتها بالرجال ، في إيتائهن فرص الارتقاء والتقدم ، وفقاً لمواهبهن وكفاءتهن الفطرية.(2/88)
ثم إن ما يزعمون أنه مساواة بين الرجل والمرأة ، ويحاولون إقناع المرأة بأن القصد منه مراعاة حقوقها ، والرفع من مكانتها ، إنما هو في الحقيقة عين الظلم لها ، والعدوان على حقوقها ، وذلك لأنهم بمساواة المرأة بالرجل في الأعباء والحقوق ، حملوها أكثر مما حمَّلوا الرجل ، فمع ما خصصت له المرأة من الحمل والولادة ، والإرضاع وتربية الأطفال ، ومع ما تتعرض له في حياتها ، وما تعانيه من آلام الحيض والحمل والولادة ، ومع قيامها على تنشئة أطفالها ، ورعاية البيت والأسرة ، مع تحملها لهذا كله ، يحمّلونها زيادة على ذلك ، مثل ما يحمل الرجل من الواجبات ، ويجعلون عليها مثل ما عليه من الالتزامات التي أعفي الرجل لأجل القيام بها من جميع الالتزامات ، فيفرض عليها أن تحمل كل التزاماتها الفطرية ، ثم تخرج من البيت كالرجل لتعاني مشقة الكسب ، وتكون معه على قدر المساواة في القيام بأعمال السياسة والقضاء ، والصناعات ، والمهن ، والتجارة ، والزراعة ، والأمن ، والدفاع عن حوزة الوطن.
وليس هذا فحسب ، بل يكون عليها بعد ذلك ، أن تغشى المحافل والنوادي ، فتمتع الرجل بجمال أنوثتها ، وتهيئ له أسباب اللذة والمتعة.
وليس تكليف المرأة بالواجبات الخارجة عن اختصاصها ظلماً لها فحسب ، بل الحقيقة أنها ليست أهلاً كل الأهلية ، للقيام بواجبات الرجال ، لما يعتور حياتها من المؤثرات والموانع الطبيعية التي تؤثر على قواها العقلية والجسمية ، والنفسية ، وتمنعها من مزاولة العمل بصفة منتظمة ، وتؤثر على قواها وهي تؤديه.
ثم إن قيام المرأة بتلك الأعمال ، فيه مسخ لمؤهلاتها الفطرية والطبيعية ، يقول (ول ديوارنت) مؤلف قصة الحضارة:
(إن المرأة التي تحررت من عشرات الواجبات المنزلية ونزلت فخورة إلى ميدان العمل بجانب الرجل ، في الدكان والمكتب ، قد اكتسبت عادته وأفكاره وتصرفاته ، ودخنت سيجاره ، ولبست بنطلونه).
وفي هذا خطر كبير ، يؤدي إلى انحطاط المدنية والحضارة الإنسانية ، ثم ما هي المنفعة والفائدة التي تحقق للمدنية والحضارة من قيام المرأة بأعمال الرجال؟ إن فيها كل المضرة والمفسدة ، لأن الحضارة والحياة الإنسانية ، حاجتهما إلى الغلظة والشدة والصلابة ، مثل حاجتهما إلى الرقة واللين والمرونة ، وافتقارها إلى القواد البارعين والساسة والإداريين ، كافتقارها إلى الأمهات المربيات ، والزوجات الوفيات ، والنساء المدبرات لا غنى للحياة عن أحدهما بالآخر.
فماذا في المساواة ? بمفهومهم ? من محاسن ، تجنيها المرأة والمجتمع؟ وما هو عذر أولئك المنادين بالمساواة ، بعد أن دُحضت حجتهم؟ ، نحن لا نشك أنهم يدركون ? أو عقلاؤهم على الأقل ? كل الموانع الفطرية ، والطبيعية والعقلية ، والجسمية الحائلة دون مساواة المرأة بالرجل ، ومقتنعون بها كل الاقتناع ، ولكن اللهفة الجنسية المسعورة لا تستطيع الصبر على رؤية الطُّعم المهدِّئ لحظة من الزمن ، فاصطنعت هذه الشعارات كي تضمن وجود المرأة أمامهم في كل وقت ، وفي كل مكان في البيت وفي المكتب وفي المصنع وفي السارع وفي كل مكان يتجه إليه الرجل ، أو يوجد فيه ، ليروي غُلَّته ويطفئ حرقته الجنسية البهيمية.
والمرأة بما تحس به في قرارة نفسها من ضيق بالأنوثة ، مع تصور الرفعة في مكانة الرجل ، تندفع وراء هذه الشعارات ، دون روية أو تمحيص لها ، تنشد إشباع رغبتها ، في أن تكون رجلاً لا أنثى ، فإذا أبت الطبيعة (طبيعتها) عليها ذلك فلا أقل من أن تكون رجلاً ، يقيم مضطراً في جسم أنثى ، وعليها أن تعمل على إرضاء هذا النزوع في نفسها بكل وسيلة ، وأن تحقق لهذا الكائن المتمرد في صدرها كل ما يرضيه من شارات الرجل الطبيعي.
ولا نعلم أيظل هذا الاندفاع من المرأة إلى محاكاة الرجال ، بعد أن ظهرت الآن لوثة التخنث والخنفسة بين الشباب فانعكست الأمور ، وانقلبت المفاهيم ، وتغيرت معايير الأشياء أم لا؟ فما كان سبَّة في الماضي ، صار مصدر فخر واعتزاز الآن.
====================
الرد على القص الجاهل زكريا بطرس حول شبهة , جفاء الشريعة الإسلامية(2/89)
زعم زكريا بطرس الجاهل بالإسلام أن كل من اليهودية والإسلام يهتمان بالشكليات ولذا تكثر الأوامر فيهما , وان العلاقة بين الإنسان وربه فى الإسلام محصورة فى تنفيذ هذة الأوامر , وبعدية عن الناحية الداخلية من مشاعر وتوجه الإنسان , فهى لا تقيم علاقة حب بين الإنسان وربة , بل تقيم علاقة جافة تتمثل فى أوامر وتنفيذ وثواب وعقاب , وبالطبع فهذا كلام من لايعرف عن وظيفة العبادات فى الإسلام شيئا , وكلام من لم يلتقى فى حياتة , ومن لم يتأمل القران ولو للحظات ليعرف ان رب العالمين عندما شرع هذة العبادات لم يجعلها جامدة كما يزعم هذا الجاهل , وانما جعلها كنوع من أنواع الخصوصية فى العلاقة , والترقى بالنفس وتأهيلها للقرب من الله تعالى , ليكون الله فى نفس المؤمن بة المسلم لة شأنا يملأ عليه كل الجزيئات حياتة , فهو يصل بتدرجه فى هذة العبادات الى ان يكون اللع تعالى هو مقصدة وتوجهة فى كل افعالة : فهو ينفق فى سبيلة , ويسعى فى سبيلة , ويقوم من الليل ليناجية ويبكى ساجدا تعظيما لة , ويرفع أكف الضراعة الية ان يحوز رضاة , وان يشرفة الله تعالى بان ينتسب الية فيكون عبدا ربانيا .
العبادات ليست جافة الا عند من لم يجربها , او عند من اخترع غيرها وزينها لة ربة الجديد " ابليس " وبالتالى فهو لا يجد راحة بداخلها الا عندما يتفانى فى ارضاء الالة الجديد المزيف , ومن ثم تكون العبادات الحقيقية ثقيلة على قلبة الاسود الذى سيختم علية بعد فترة من هذا الشطح , فلا يعود يميز بين الحق والباطل , وبين الجميل والقبيح .
ولنطالع بعض العبادات كيف تناولها الله تعالى فى كتابة القران , وهل هى كما زعم زكريا الكذاب مجرد حركات وواجبات تؤدى والاسلام . ام ان هذة الفروض لها جوهرها , ولها وظيفتها ؟ ! .... هيا نرى :
العبادات : وظيفة الصلاة : ذكر الله تعالى :
(13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) سورة طة ....
جوهر الصلاة : الخشوع :
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) سورة المؤمنون
التفانى فى الصلاة مانا وكيفية : التهجد والتضرع والبكاء :
_ 63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) سورة الفرقان
_ (15) {س} تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً(16) سورة السجدة
_ (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) سورة الاسراء
فهل يقال عن مثل هذة الصلاة انها جمود فى العلاقة بين العبد والرب ؟!
أم يقال عن زكريا بطرس انة جاهل بالاسلام ,كذاب على الله ؟ !
وبنفس الكيفية سنجد ان العبادات لا يهتم فيها بالناحية الشكلية فقط , وانما لها جورها ووظيفتها فى تهذيب النفس .
التكافل الاجتماعىبر الوالدين ولو كانا كافرين :
(14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً (15) سورة لقمان
صلة الارحام :
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) سورة النساء ,
وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) سورة الانفال
البر بغير المسلمين والإقساط لهم :
(7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
الصدقة :
امر الله تعالى بالصدقة وحدث عليها لتساهم فى تقويم التراحيم بين اشخاص المجتمع المسلم , وبالطبع فان الله تعالى لن ينال من هذة الصدقة الا التقوى من عبادة , وقد ترك الله سبحانة الباب مفتوحا امام عباده ليتنافسوا فى الجود بصدقاتهم , بنفس الوقت الذى حذر فية من يكنزون الاموال من سوء العاقبة ,
فقال سبحانة مرغبا :
(28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) فاطر .
(15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) التغابن
وقال سبحانة محذرا :
194) وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) البقرة(2/90)