فالتشريع الإسلامي دائم لا يجوز تعطيله بصورة دائمة ، أو تعليق العمل به مدة من الزمن تحت أي ظرف من الظروف ، أو مسمى من المسميات ، مما يمنع أي قوة من قوى المجتمع من التفلت من الأحكام الشرعية وعدم التقيد بها .
3 - كفالة شرعية النظم واللوائح :
قد يحدث في بعض الظروف أن تتمكن قوة من قوى الأمة من استحداث تشريعات تخدم مصالحها ، وتكرس بها من وضعها ، مما يضعف قوة باقي القوى في المجتمع ؛ لذا فإن الشريعة قد كفلت شرعية جميع النظم واللوائح التي يجري العمل بها بحيث يبطل كل نظام أو تشريع أو لائحة مخالفة للكتاب أو السنة أو الإجماع ، وذلك أن كل ما خالف الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو منقوض ، وعلى القاضي نقض هذه التشريعات والنظم واللوائح إن وجدت ؛ وقد دل على ذلك أدلة كثيرة ذكر بعضاً منها الإمام البخاري في صحيحه ، ثم بوب عليها بقوله : باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من غير علم فحكمه مردود » [15] . فنقض التشريعات أو الأنظمة التي قد تسنها الحكومات مخالفة للأحكام الشرعية يمثل توازناً بين الحكومة والرعية .
4 - التحكيم بين الحكومة والرعية في مسائل النزاع :
قد ينشأ بين الأمة أو جزء منها وبين الحكومة أو السلطة نزاع ، بحيث يظن كل فريق من المتخاصمين أن الحق معه وأن الأدلة الشرعية تصوب موقفه ، وقد يتمسك كل فريق بموقفه ولا يسلم للآخر بموقفه ، وهذه المشكلة يلجأ النظام السياسي الإسلامي إلى حلها عن طريق التحكيم أولاً ، فتتكون لذلك محكمة بين الطرفين المتنازعين على وفق الكتاب والسنة ، وعلى الطرفين أن يقبلا بما انتهت إليه المحكمة ، والأصل الشرعي لهذه المحكمة هو قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ( النساء : 59 ) . والرد إلى الله سبحانه وتعالى يكون بالرجوع إلى كتابه والاحتكام إليه ، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته - بأبي هو وأمي - يكون بالرجوع إلى سنته والاحتكام إليها ، ومن هذا الرد إلى الكتاب والسنة تنشأ تلك المحكمة المعنية بالفصل في النزاع الذي قد ينشب بين الراعي والرعية .
والأصل التاريخي العملي من سير أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين هم القدوة والأسوة من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، تلك المحكمة التي تكونت للفصل فيما نشب بين الحكومة ممثلة في علي بن أبي طالب الخليفة الراشد - رضي الله عنه - ، وبين بعض الأمة ممثلة في معاوية - رضي الله عنه - ومن معه ، فيما عرف بحادثة التحكيم المشهورة ، وهذه المحكمة لا يشترط فيها أن تكون ذات تشكيل ثابت دائم ؛ فإن هذا مخالف للغرض من إنشائها ، بل يتم تشكيلها فقط عن الحاجة إليها ؛ حيث يختار كل طرف من المتنازعين قضاة من قِبَله من أهل العلم والدين ، ثم تنفضُّ المحكمة بعد صدور الحكم ؛ وذلك لانتهاء السبب الداعي إلى تشكيلها ؛ فلا يحكم أحد طرفي النزاع على الطرف الآخر في تلك الحالات ؛ لأن ذلك سوف يخل بالتوازن بين قوى الأمة .
5 - كفالة حق المسلم في اختياراته الفقهية :(4/486)
تكفل الشريعة الإسلامية للمسلم الحق في الاقتناع بأي من الأقوال الفقهية السائغة ؛ فله أن يسأل من يثق بعلمه ودينه ، ويكوِّن قناعته الشخصية وأفكاره الخاصة ، فيما يعن له أو لمجتمعه من أمور أو مشكلات ، طالما كان ذلك في إطار النصوص الشرعية من الكتاب والسنة والأحكام المجمَع عليها ؛ فأهل السنة لا يلزمون بمسائل الاجتهاد ، ولا يجبر المسلم على أن يرى ما تراه السلطة ، طالما كان الرأي الذي اختاره مما يسوغ القول به في الشرع ، بل للمسلم الحق في إعلان رأيه الذي اختاره وشرحه للناس والدعوة إليه والعمل على نشره ، طالما أنه لم يخرج بذلك على الجماعة ولم يشق عصا الطاعة ، والأدلة على ذلك كثيرة ، منها ما أخرجه الدارمي بسنده من طريق الأوزاعي : حدثني أبو كثير وهو مالك بن مرثد حدثني أبي قال : « أتيت أبا ذر ، وهو جالس عند الجمرة الوسطى ، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ، ثم قال : ألم تُنْهَ عن الفتيا ؟ فرفع رأسه إليه ، فقال : أرقيب أنت عليَّ ؟ لو وضعتم الصَّمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها » [16] . قال ابن حجر - رحمه الله - : « رويناه في الحلية من هذا الوجه ، وبين أن الرجل الذي خاطبه من قريش ، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان - رضي الله عنه - ، وكان سبب ذلك أنه كان بالشام فاختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة } ( التوبة : 34 ) . فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وقال أبو ذر : نزلت فيهم وفينا ؛ فكتب معاوية إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر إلى الرَّبَذَة - بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة - إلى أن مات ، رواه النسائي ، وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا يرى طاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا ؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه كما تقدم ، ولعله أيضاً سمع الوعيد في حق من كتم علماً يعلمه » [17] .
ومنها ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فقالوا : صبأنا صبأنا ، فجعل خالد يقتل ويأسر ، ودفع إلى كل رجل منا أسيره ، فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره ، فقلت : واللهِ ! لا أقتل أسيري ، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره . فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد مرتين » [18] . وبوب عليه البخاري بقوله : إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد . قال ابن حجر : أي مردود ، ثم قال : والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد » يعني من قتله الذين قالوا : صبأنا قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول ؛ فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومن تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من المذكورين [19] .
ومنها ما أخرجه البخاري وغيره عن مروان بن الحكم قال : ( شهدت عثمان وعلياً - رضي الله عنهما - وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلما رأى علي أهلَّ بهما لبيك بعمرة وحجة ، قال : ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد ) [20] . قال ابن حجر - رحمه الله - : ( وفي قصة عثمان وعلي من الفوائد إشاعة العالِمِ ما عنده من العلم وإظهاره ، ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد مناصحة المسلمين ، والبيان بالفعل مع القول .. إلى أن قال : وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهداً آخر بتقليده ، لعدم إنكار عثمان على علي ؛ ذلك مع كون عثمان الإمام إذ ذاك ) [21] . وهذا الأمر لم يكن حالة فردية بل كان مسلكاً عاماً عندهم ، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك . وينبغي هنا التفريق بين حق المسلم في اختياره الفقهي لأي من الأقوال الفقهية السائغة ، وبين ما إذا أخذت الحكومة الشرعية برأي أو قول آخر من الأقوال الفقهية السائغة أيضاً في مسألة تنظيمية أو إدارية ؛ فهنا يجب على المسلم الطاعة في تنفيذ العمل المنوط به المترتب على تلك المسألة ؛ فإن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة ها هنا ، وإن كان لا يجب عليه الاعتقاد بصواب ذلك القول أو الاعتقاد بصواب رأي السلطة في تلك الحالة .
- الخامس : واحدية الأمة وواحدية القيادة العليا .(4/487)
الأمة الإسلامية مهما تعددت أجناسها ، واختلفت لغاتها ، وتنوعت ألوانها ، وتناءت ديارها ، وتتابعت أجيالها ، هي أمة واحدة يربط بين أفرادها جميعاً رابط العبودية الحقة الخاصة لله الواحد القهار . قال الله تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } ( الأنبياء : 92 ) . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسيرها : ( دينكم دين واحد ) [22] . وذلك أن الدين هو أعظم ما يوحد بين الناس ويجعل منهم أمة واحدة متماسكة . قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا } ( آل عمران : 103 ) . قال ابن كثير - رحمه الله - ( أمرهم بالجماعة ، ونهاهم عن التفرقة ، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفريق ، والأمر بالاجتماع والائتلاف ) [23] . وقال صلى الله عليه وسلم : « هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش ، وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم ، أنهم أمة واحدة من دون الناس » [24] .
ويترتب على ذلك أمور منها :
1 - لا يجوز تفريق الأمة أو تمزيقها تحت أي من المسميات .
2 - مناصرة المسلمين في كل مكان .
3 - حرمة إعانة الكفار على المسلمين .
وأما واحدية القيادة العليا ، فقد دل عليها كثير من النصوص الشرعية منها قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » [25] . قال النووي - رحمه الله - : ( ومعنى هذا الحديث : إذا بويع لخليفة بعد خليفة ؛ فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها ، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها ، ويحرم عليه طلبها ؛ إلى أن قال : واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد ) [26] . فالخليفة الصالح للخلافة الذي اختاره أهل الحل والعقد هو الشخص الذي تناط به السلطة السياسية في ديار الإسلام .
ويترتب على ذلك أمور منها :
1 - منع ما يسمى بالقيادة الجماعية للدولة .
2 - منع توزيع السلطة على عدة هيئات أو مؤسسات ؛ بحيث تستقل كل واحدة منها بجزء من السلطة .
3 - بيان منزلة الهيئات والمؤسسات المعاونة للإمام ومكانتها في النظام السياسي الإسلامي .
4 - عدم جواز تقسيم دار الإسلام إلى دويلات يستقل بحكم كل واحدة منها وال من الولاة بحيث لا تكون هناك إمارة عامة يرتبط بها أولئك الولاة .
- السادس : غاية النظام السياسي الإسلامي صلاح الدنيا وفلاح الآخرة :
الحياة في عقيدة المسلم تنقسم إلى جزأين : جزء صغير في الدنيا ، وجزء لا نهاية له في الآخرة ؛ من أجل ذلك ؛ فإن عناية النظام السياسي الإسلامي بحياة المسلم لا تقتصر على ذلك الجزء الصغير الذي هو في الدنيا ، بل همه الأكبر تلك الحياة التي لا تنتهي ؛ فالغاية لا تقتصر على صلاح الدنيا وعمارتها وتحقيق رفاهية المجتمع كما هو الحال عند الذين لم يعرفوا من الحياة إلا الجزء الصغير وهو الحياة الدنيا ، بل يضيف النظام السياسي الإسلامي إلى ذلك عمارة الآخرة ، بل يجعل ذلك نصب عينيه ؛ إذ هو المقصود الأسمى من وجوده .
لذا فإن من أهم واجبات النظام السياسي الإسلامي :
1 - حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأئمة .
2 - حفظ الشريعة والعمل بها وتحكيمها .
3 - جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة [27] .
وبعد : فهذه جملة من الخصائص العامة والمعالم البارزة في نظامنا السياسي الإسلامي تحقق بها الأولون ففازوا وسعدوا وسادوا الدنيا شرقاً وغرباً ، ونحن الآن في هذه المرحلة الحرجة التي تكالب فيها أعداؤنا علينا من عُبَّاد الصليب والبقر والوثن ، أحوج ما نكون للعودة السريعة إلى هذا النظام وإعادته لتحقيق الصلاح في الدنيا والفوز في الآخرة ، وما أصدق قول من قال : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها .
________________________
(1) أدب الدين والدنيا ، أبو الحسن الماوردي ، ص 115 ، وهيه : ضعفه .
(2) النظام السياسي الإسلامي يعرَّف بأنه الهيئة الكلية المكونة من مجموعة الأحكام الشرعية وما ارتبط بها من تنظيمات وهيئات ومؤسسات خاصة بأحكام الدولة الإسلامية من حيث إقامتها وإدارتها وتحقيق غايتها ، سواء منها الأحكام الكلية والقواعد العامة ، أو الأحكام الفرعية الجزئية التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة ، أو دلت عليها أو استنبطت منها بطرق الاستنباط المعروفة في أصول الفقه ، تحطيم الصنم العلماني ، محمد بن شاكر الشريف ، ص 44 .
(3) أخرجه أحمد في المسند (5/251) وقال الأرناؤوط : إسناده جيد ، و ابن حبان في صحيحه (15/ 111) و الحاكم في المستدرك (4/104) وقال صحيح الإسناد .
(4) انظر في تعريف السيادة : تحطيم الصنم العلماني ، محمد بن شاكر الشريف (ص 49) ومراجعه في ذلك .
(5) أخرجه البخاري (13/130 فتح الباري) .
(6) شرح النووي (12/317 318) .
(7) فتح الباري (13/132) .
(8) مجلة المسلم المعاصر العدد 15 (ص 172) د / مصطفى كمال وصفي .
(9) أخرجه مسلم (12/297 شرح النووي) والبخاري (13/135 فتح الباري) .
(10) المرجع السابق (12/297 - 298) شرح النووي .(4/488)
(11) أخرجه مسلم (12/297 - 298) شرح النووي .
(12) فتح الباري (2/167) .
(13) أخرجه مسلم (12/338) شرح النووي .
(14) المرجع السابق .
(15) فتح الباري (13/329) .
(16) سنن الدارمي (1/146) ، وقد علق البخاري في صحيحه من قول أبي ذر رضي الله عنه : لو وضعتم ، إلى آخره (1/192 فتح الباري) ، والصمصامة : السيف الصارم الذي لا ينثني .
(17) فتح الباري (1/194) .
(18) أخرجه البخاري (13/193) فتح الباري .
(19) فتح الباري (13/193 - 194) .
(20) أخرجه البخاري (3/493) فتح الباري .
(21) فتح الباري (3/497 - 498) .
(22) تفسير ابن كثير (2/582) .
(23) تفسير ابن كثير (2/582) .
(24) مجموعة الوثائق السياسية ، محمد حميد الله ، (ص 10) .
(25) أخرجه مسلم ، (12/337) شرح النووي .
(26) شرح النووي ، (12/321) .
(27) ينظر في الأحكام السلطانية ، (ص 17/18) لمعرفة باقي الواجبات .
=============
التقية ما بين أهل السنة والشيعة الإمامية
بقلم
د. مجيد الخليفة
www.dr-majeed.net
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام ، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار .
? ? [ آل عمران ] .
? ? [ النساء : 1 ] .
? ? [ الأحزاب ] .
أما بعد :
فإن من نعم الله تعالى على هذه الأمة أن جعل لها آيات محكمات وأخر متشابهات ، فأما من اتبع سبيل المؤمنين فإن الله تعالى يرشده إلى الآيات المحكمات يعمل بهن ويأمر بالعمل بهن ، وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فيفتنون الناس عن دينهم ، ويزيغون بهم عن الصراط المستقيم ، ولازالت هذه النفوس الزائغة تدعو إلى الباطل وتدافع عنه ، والعجيب أنهم يسخرون الأموال في سبيل ذلك ، ويحشدون جميع إمكانياتهم لنشر عقائدهم ، بينما نرى أهل الحق لا يقومون بواجبهم على أتم وجه بموازاة هذا الباطل ، وربما تعذر البعض منهم بوحدة المسلمين وعدم شق صفهم ، وهم لا يوجهون هذه الدعوة إلى الذين سودوا الصحف والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية بأنواع الفتن والشبهات ، والشرك والموبقات ، بل الطعن الصريح في سلف الأمة من صحابة وتابعين .
ومن المواضيع التي تذكر في تلك الصفحات ، موضوع التقية عند الشيعة الإمامية ، ويعد هذا الموضوع من المواضيع المهمة ؛ لأن هذه العقيدة ترتبط في تعامل الإمامية مع الآخر ، وهي في الوقت ذاته من حيث المغزى والمضمون تخفي خلفها كماً هائلاً من التناقضات التي يصعب التوفيق بينها حتى عند فقهاء القوم أنفسهم ، ولذلك حرص علمائهم قديماً وحديثاً على وضع القواعد والأصول لتفسير وتبرير هذه العقيدة في قلوب إتباعهم ، في حين لم أجد مؤلفاً مستقلاً لأهل السنة والجماعة في شرح هذه العقيدة أو في الرد على ما في تلك المؤلفات من شبهات ، هي في واقع الحال أوهى من بيت العنكبوت ، فتوكلت على الله تعالى حيث قمت بكتابة هذه الورقات على شكل بحث بعنوان ( التقية بين أهل السنة والشيعة الإمامية ) ولم أجد له ناشراً في المجلات العلمية على كثرة مراجعتي لها ؛ لا أدري أخشية أم تقية ؟! ، فجلس في مكتبتي بضع سنين ، ثم أرشدني الله تعالى نشره في هذه الوسيلة الحديثة ، عسى الله تعالى أن ينفع به أهل العلم وطلابه .
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
المبحث الأول
التقية عند أهل السنة
تعريف التقية :
التقية في اللغة : اسم مصدر من الاتقاء ، بمعنى استقبل الشيء و توقاه ، يقال : اتقى الرجل الشيء يتقيه ، إذا اتخذ ساتراً يحفظه من ضرره (1) ، قال تعالى : ? فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ? [ غافر : 45 ] ومن ذلك قول النبي e : (( فليتقِ أحدكم النار ولو بشق تمرة )) (2) ، قال ابن منظور : (( التقاة تعني أن الناس يتقي بعضهم بعضاً ويظهرون الصلح والاتفاق وباطنهم بخلاف ذلك ))(3) ، والتقية والتقاة كلها بمعنى واحد .
أما في الاصطلاح فالتقية عندما تطلق غالباً فيراد منها وقاية الناس بعضهم من بعض لسبب ما ، وأصل هذا جاء من قوله تعالى : ] لاَّ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [ [ آل عمران : 28 ] وقد عرّفها ابن القيم ( رحمه الله ) فقال : (( التقية أن يقول العبد خلاف ما يعتقده لاتقاء مكروه يقع به لو لم يتكلم بالتقية )) (4) ، وعرّفها السرخسي بقوله : (( التقية أن يقي الإنسان نفسه بما يظهره ، وإن كان يضمر خلافه )) (5) ، أما الحافظ ابن حجر فقال في تعريفها : (( التقية : الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره )) (6) .(4/489)
والفرق بين ما تقدم من تعاريف العلماء للتقية أن الاختلاف قد وقع فيها فيما يخص الفعل والقول ، إذ ذهب السرخسي إلى أن التقية تشمل القول والفعل ، في حين اقتصر ابن القيم وابن حجر في تعريفها على القول دون الفعل ، وهو ما نجد النفس أميل إليه ، لأن العلة من التقية هي المحافظة على النفس أو المال من شر الأعداء ، وإذا كان هذا الأمر يحصل غالباً بالقول دون الفعل فهو أليق بحال المسلم ، ويدل آية التقية المتقدمة ، إذ أشارت إلى أن حصول ذلك يمكن أن يكون بالقول غالباً بدليل الآية التي بعدها : ] قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [ [ آل عمران : 29 ] ، قال ابن كثير ( رحمه الله ) في تفسير هذه الآية الأولى : (( فمن خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم [ الكافرين ] فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته )) (7) .
العمل بالتقية :
لا شك في مشروعية العمل بالتقية عند أهل السنة والجماعة في حالة الضرورة ، إذ الأصل في التقية هو الحضر ولابد من سبب قوي يبيح للمسلم اللجوء إليها ، قال الجصاص : (( وإعطاء التقية إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب ، بل ترك التقية أفضل ، قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل : إنه أفضل ممن اظهر )) (8) يعني التقية ، والأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على هذا ، حيث امتنع خبيب بن عدي رضي الله عنه عن التقية ، بعد أن أخذه المشركون وحبسوه وخيّروه بين سب النبي صلى الله عليه وسلم ومدح آلهتهم وبين القتل ، فاختار الشهادة ، وأخذ بالعزيمة دون الرخصة ، فروي أن النبي صلى الله علية وسلم قال في حقه : (( هو أفضل الشهداء )) ، وفي رواية : (( هو رفيقي في الجنة )) (9) .
واعترض على هذه القصة بقصة عمار بن ياسر رضي الله عنه الذي : (( أخذه المشركون, فلم يتركوه حتى سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير , ثم تركوه , فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام ما وراءك ؟ قال : شر ، تركوني حتى نلت منك , وذكرت آلهتهم بخير ، فقال عليه الصلاة والسلام : فكيف تجد قلبك ؟ قال : أجده مطمئنا بالإيمان قال : عليه الصلاة والسلام إن عادوا , فعد )) (10) ، وفيه نزل قوله تعالى : ] إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ [ ، وقد أخذ بعض العلماء هذا القول على ظاهره وإطلاقه ، ولا يمكن حمله على ذلك لوجوه عديدة ، الأول أن هذا كان في بداية أمر الإسلام حين كان المسلمون قلة مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس كما وصفهم تبارك وتعالى ، وإليه أشار كل من معاذ بن جبل ومجاهد عندما قالوا : (( كانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم )) (11) ، والأمر الثاني كما قرر ذلك السرخسي فقال : (( وبعض العلماء رحمهم الله يحملون قوله عليه الصلاة والسلام : (( فإن عادوا فعد )) على ظاهره يعني إن عادوا إلى الإكراه , فعد إلى ما كان منك من النيل مني , وذكر آلهتهم بخير , وهو غلط , فإنه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأمر أحدا بالتكلم بكلمة الشرك , ولكن مراده عليه الصلاة والسلام , فإن عادوا إلى الإكراه , فعد إلى طمأنينة القلب بالإيمان ؛ وهذا لأن التكلم وإن كان يرخص له فيه , فالامتناع منه أفضل )) (12) ، وهذا التقرير منه رحمه الله حسن ، فهو يدل دلالة قطعية على أن الأصل كان إطمئنان القلب ، وليس التكلم ، إذ الامتناع حينها أفضل ، والركون إلى سلامة العقيدة والصبر على الإيذاء من شيم المؤمنين ، ومن هنا حدد ابن عباس رضي الله عنهما التقية في مثل هذه المواطن : (( هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولا يقتل ولا يأتي مأثما )) (13) ، والسبب في التأكيد على سلامة القلب ضروري هنا لئلا يقع المسلم في مخاطر الكفر والشرك .(4/490)
والشاهد على ذلك قصة عبيد الله بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أخذه المشركون , وأكرهوه على ما أكرهوا عليه عمار بن ياسر رضي الله عنه أجابهم إلى ذلك معتقدا , فأكرموه , وكان معهم إلى أن فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة , وقد كان من بين الذين أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمهم يوم الفتح ، فجاء به عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يبايعه , قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : (( إن عبد الله بن سعد بن أبي السرح اختبأ عند عثمان بن عفان ، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله بايع عبد الله قال : فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه ، فقال : أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ؟! فقالوا : وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك ؟ قال : إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين )) (14) ، ويروى عن أبي عبيدة في سبب نزول قوله تعالى : ] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ [ النحل : 106 ] قال : ( من كفر بعد إيمانه ) عمار بن ياسر رضي الله عنه ، وقوله تعالى : ( ولكن من شرح بالكفر صدراً ) عبد الله بن أبي سرح(15) ، ومن المستبعد برأينا أن تصح هذه الرواية ؛ لأن الآية مكية وقصة ابن أبي سرح مدنية .
والدليل الآخر على أفضلية العزيمة على الرخصة في حالة التقية ما روي عن الحسن : (( أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم فخلاه , ثم دعا بالآخر وقال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم قال : أتشهد أنى رسول الله ؟ قال : إني أصم , قالها ثلاثا ; فضرب عنقه , فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه , وأخذ بفضيلة فهنيئا له , وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه )) (16) ، ففي هذه القصة – إن صحت - مدح النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الأول ، وشهد له بالصدق واليقين ، وهذه فضيلة له في حين لم يعب على الآخر أخذه بالتقية ، ومن المناسب الإشارة هنا إلى أن هذه الحوادث التي وردت لبعض الصحابة وقعت بين يدي أهل الكفر والشرك ، وليس بين المسلمين ، أو عند غلبة الدين ، فحينئذ لا بد من إظهار كلمة الحق ، والصدع بها كما ثبت من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم : (( سئل أي الجهاد أفضل ؟ قال : كلمة حق عند سلطان جائر )) (17) ، وقصة الإمام أحمد بن حنبل مشهورة في إيثاره العزيمة على أن يأخذ برخصة التقية ، رغم سطوة السلطان.
حكم التقية :
تقدمت الأدلة في جواز العمل بالتقية عند الضرورة ، وأنها رخصة أقرها الإسلام على من وقع في فتنة في دينه أو ماله أو نفسه ، وقد اختلف العلماء في شروط جوازها والعمل بها ، لأن مقاصد الشريعة جاءت من أجل حماية النفس وصيانتها ، وقد لا تحصل هذه الحماية إلا باللجوء إلى التقية ، قال تعالى : ] وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [ [ النساء : 29 ] ولكن الحق الذي ذهب إليه جمهور العلماء هو أن يثبت المسلم على ما هو عليه من الحق بظاهره ، كما هو عليه بباطنه(18) .
وكما هو معلوم فإن الثبات أفضل وأعظم أجراً من الأخذ برخصة التقية ، فقد وردت في القرآن الكريم قصة ( أصحاب الأخدود ) حيث أمر الملك الكافر لمن آمن منهم أن يفتن بنار عظيمة سجرت في أخدود وقال : (( من لم يرجع عن دينه فاحملوه فيها ، ففعلوا ، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أمة اصبري فإنك على الحق )) (19) ، قال القرطبي في معرض تعليقه على هذه الرواية : (( إن الصبر على البلاء لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى ... ولقد أمتحن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصلب والتعذيب الشديد فصبروا ، ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك )) ثم أسشهد بحديث أبي سعيد وقصة خبيب بن عدي رضي الله عنه(20) ، ولا يخفى على مسلم ثناء الله تعالى على هذه الأمة التي ألقيت في النار لإيمانها ولم يردها ذلك العذاب عن هذا الإيمان .(4/491)
وحكى الله تعالى موقفاً مشابهاً مع أحد الطغاة ، وهم سحرة فرعون الذين قالوا له بعد إيمانهم برب العالمين ، وإنذار فرعون لهم بالعذاب العظيم : ] قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [ ، [ طه : 72 ] قال ابن كثير : (( أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين والذي فطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدي خلقنا من الطين فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت ، فاقض ما أنت قاض أي افعل ما شئت وما وصلت إليه يدك إنما يقضي هذه الحياة الدنيا ، أي إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال ونحن قد رغبنا في دار القرار )) (21) ، والآيات في هذا الباب كثيرة معلومة .
أما ما جاء في السنة فقد تقدمت بعض الأدلة على جواز التقية منها حادثة عمار بن ياسر ، وفعل الأسيرين عند مسيلمة الكذاب ، وكيف مدح النبي e المسلم الذي ثبت فقُتل : (( مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلته فهنيئاً له )) ، وهذا يدل على التفضيل ، والأمر نفسه ذهب إليه السرخسي في احتجاجه بقصة ثبات خبيب بن عدي على دينه وإيمانه فقال : (( فبهذا يتبين أن الامتناع أفضل )) (22) .
ويبدو أن مذهب البخاري ( رحمه الله ) كان في إيثار الثبات على الأخذ بالتقية ، فقد بوب لهذه المسألة بابا بعنوان ( باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر ) أورد فيه حديث خباب ابن الأرت أنه قال (( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة , فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل , فيحفر له في الأرض فيجعل فيه , فيجاء بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه فيجعل نصفين , ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه , فما يصده ذلك عن دينه ثم قال صلى الله عليه وسلم والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت , لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه , ولكنكم تستعجلون )) (23) ، ويتضح في هذا فقه الإمام البخاري وعمق فهمه لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن في الثبات إعزازاً لأمر الله تعالى واستظهاراً لدينه وإعلاءً لكلمته وإظهاراً لثبات المسلمين وبسالتهم وتثبيت لعامة المسلمين على الحق ، قال الحافظ ابن حجر في بيان غرض البخاري من هذا الباب : (( فالقتل والضرب والهوان أسهل عند المؤمن من دخول النار ، فيكون أسهل إن أختار الأخذ بالشدة )) (24) .
ومن الأدلة على ذلك أيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا ، فقالوا : لأحدهما قرب ، قال :ما عندي شيء ، قالوا : قرب ولو ذبابا ، فقرب ذبابا ، فخلوا سبيله فدخل النار ، وقالوا للآخر : قرب ، قال :ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل ، فضربوا عنقه فدخل الجنة )) (25) ، قال الشيخ سليمان بن عبد الله : (( في هذا بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل وأنه يوجب النار ألا ترى إلى هذا لما قرب لهذا الصنم أرذل الحيوان وأخسه وهو الذباب كان جزاؤه النار ...)) ، ثم قال : (( إنه دخل النار بسبب لم يقصده بل فعله تخلصا من شرهم )) (26) .
مما تقدم بيان جلي للأدلة الواردة في الكتاب والسنة في تحديد حكم العمل بالتقية ، ومع ذلك فقد وضع العلماء أحكاماً كثيرة للعمل بها نذكر منها(27) :
1. أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار , ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان , وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان , بل يجوز أيضا أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة , ولكن بشرط أن يضمر خلافه , وأن يعرض في كل ما يقول , فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب ، روى البخاري عن أبي الدرداء قال : (( إنا لنكشر في وجوه أقوم وإن قلوبنا تلعنهم )) (28) .
2. أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل , ودليله ما ذكرناه في قصة خبيب بن عدي وأصحاب الأخدود وسحرة فرعون .
3. أنها تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة , وقد تجوز أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنى وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين , فذلك غير جائز البتة .
4. أن ظاهر الآية يدل على أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي ( رحمه الله )أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس(29) .(4/492)
5. التقية جائزة لصون النفس , وهل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز , لقوله صلى الله عليه وسلم : (( حرمة مال المسلم كحرمة دمه )) (30) ولقوله صلى الله عليه وسلم ((من قتل دون ماله فهو شهيد )) (31) ولأن الحاجة إلى المال شديدة القدر من نقصان المال , فكيف لا يجوز هاهنا ؟ ، واعترض على ذلك بقصة صهيب الرومي عندما خرج مهاجراً من مكة إلى المدينة فاعترضه رهط من قريش فاشترى نفسه بماله وفيه نزل قوله تعالى : ? وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ? [ البقرة : 207 ] (32) ، وهذا هو الذي يترجح لدينا .
6. قال مجاهد : هذا الحكم كان ثابتا في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا , وروي عن الحسن أنه قال : (( التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة )) (33) , وهذا القول أولى , لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان .
شروط العمل بالتقية :
من المفيد هنا أن نذكر الشروط التي وضعها العلماء لجواز العمل بالتقية ، إذ لا يصح اللجوء إليها إلا بتوفر الأسباب الموجبة لذلك ، وإلا كان فاعلها آثماً لا عذر له في إرتكابها ، والعمل بالتقية عند أكثر العلماء يجب أن يكون محظوراً ولا ينساق خلفه بحيث يكون وسيلة لنيل المحرمات ، كما قال تعالى : ] فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ [ [ البقرة : 173 ] وفسر الباغي في هذه الآية الكريمة بمن أكل الحرام وهو يجد الحلال , وفسر العادي بمن أكل من الحرام فوق ما تقتضيه الضرورة(34) ، ولذا وضع العلماء شروطاً لا يجب الخروج عنها في حالة اضطرار العبد إلى التقية وهي(35) :
1. يشترط في جواز التقية أن يكون هناك خوف من هلاك النفس أو العرض ، وتردد البعض في المال ، فإن لم يكن هناك خوف ولا خطر لم يجز ارتكاب المحرم تقية ، قال الجصاص : (( قوله صلى الله عليه وسلم لعمار : (( إن عادوا فعد )) ، إنما هو على وجه الإباحة لا على وجهة الإيجاب ولا على الندب وقال أصحابنا الأفضل أن لا يعطى التقية ولا يظهر الكفر حتى يقتل )) (36) ، من هنا يتضح ما قدمنا من أن من قال باستحباب التقية عند القتل قد أبعد وإنما الأمر مباح ، وهو دون المستحب ، وهذا الذي يترجح من قول الجصاص ، وهو الراجح من مذهب الحنابلة ، قال القاضي أبو يعلى : (( الأفضل أن لا يعطى التقية ولا يظهر الكفر حتى يقتل واحتج بقصة عمار وخبيب بن عدى حيث لم يعط خبيب أهل مكة التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من عمار والله أعلم )) (37) .
2. تدل آية ( التقية ) أن هذا الأمر مخصوص عند غلبة الكفار ، أو غلبة الفسق والفجور والظلم في دار الإسلام ، فلا بأس بالتقية لعصم الدماء ، قال ابن مسعود : (( ما من كلام أتكلم به بين يدي سلطان يدرأ عني به ما بين سوط إلى سوطين إلا كنت متكلماً به )) (38) ، وقال السرخسي : (( وإنما أراد بيان جواز التقية في إجراء كلمة الكفر إذا أكرهه المشرك عليها ، فالظالم هو الكافر ، قال تعالى : ? وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ ? [ البقرة : 254 ] )) (39) .
3. أن يعلم أنه إنْ نطق بالكفر ونحوه تقية يترك بعد ذلك ، وهذا الاشتراط منقول عن الإمام أحمد , فقد سئل عن الرجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه , هل له أن يرتد ؟ - أي ظاهراً - فكرهه كراهة شديدة وقال : (( ما يشبه هذا عندي بالذين أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يفعلون ما شاءوا , وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر وترك دينهم )) (40) ، وقال ابن مفلح : (( وكأنه يشير إلى قصة عمار حين أخذه المشركون وأرادوه على الشرك ... )) (41) . وعلق ابن قدامة على كلام الإمام أحمد بقوله : (( وذلك لأن الذي يكره على كلمة يقولها ثم يخلى لا ضرر فيها , وهذا المقيم بينهم يلتزم بإجابتهم إلى الكفر المقام عليه واستحلال المحرمات وترك الفرائض والواجبات وفعل المحظورات والمنكرات وإن كان امرأة تزوجوها واستولدوها أولادا كفارا ، وكذلك الرجل ، وظاهر حالهم المصير إلى الكفر الحقيقي والانسلاخ من الإسلام )) (42) . ثم احتج بقصة أصحاب الأخدود التي تقدمت ، قال الحسن البصري في الحث على الثبات وعدم الأخذ بالتقية : (( إنما التقية رخصة ، والفضل القيام بأمر الله )) (43) ، وخلاصة ما تقدم في هذه الفقرة أن على المسلم المقيم بين ظهراني الكفار إن أجبر على الكفر مرة أن يظهر ذلك تقية ، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه ، فإن كان هؤلاء يصرون على أجراء أحكام الكفر عليه ، بحيث لا يبقى للإسلام رسم في قلبه ، فعليه حينئذ الهجرة من هذه الدار والهروب من هؤلاء القوم بدينه وإيمانه ، وهذا ما سنبينه في الفقرة الآتية .(4/493)
4. ويشترط لجواز التقية أن لا يكون للمكلف مخلص من الأذى إلا بالتقية , وهذا المخلص قد يكون الهرب من القتل أو القطع أو الضرب , وقد يكون التورية عند الإكراه على الطلاق , وعدم الدهشة وهذا عند بعض الفقهاء ويكون ذلك باللسان دون القلب أو اليد كما هو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما(44) , وقد تكون الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، فإن أمكنته الهجرة لم يكن له موالاة الكفار وترك إظهار دينه لقوله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [ [ النساء : 97 ] ، قال الآلوسي : (( اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وعن إدخالهم الخلل فيه وعن العجز عن القيام بواجبات الدين بأنهم كانوا مقهورين تحت أيدي المشركين , وأنهم فعلوا ذلك كارهين ، فلم تقبل الملائكة عذرهم لأنهم كانوا متمكنين من الهجرة , فاستحقوا عذاب جهنم لتركهم الفريضة المحتومة )) (45) ، ومقتضاه أن من كان مقهورا لا يقدر على الهجرة حقيقة لضعفه أو لصغر سنه وسواء أكان رجلا أم امرأة بحيث يخشى التلف لو خرج مهاجرا فذلك عذر في الإقامة وترك الهجرة ، وقد صرحت بهذا المعنى الآية التالية للآية السابقة وهي : ] إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً [ [ النساء : 98 ] وقال الآلوسي أيضا : (( كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه , ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف , فإن أرض الله واسعة ، نعم إن أكان ممن له عذر شرعي في ترك الهجرة كالنساء والصبيان والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل أو قتل الأولاد أو الآباء أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا , سواء كان هذا القتل بضرب العنق أو حبس القوت أو بنحو ذلك , فإنه يجوز له المكث مع المخالف , والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه . وإن كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكن تحملها كالحبس مع القوت , والضرب القليل غير المهلك فإنه لا يجوز له موافقتهم )) (46) .
5. ويشترط أن يكون الأذى المخوف وقوعه مما يشق احتماله . والأذى إما أن يكون بضرر في نفس الإنسان أو ماله أو عرضه . أو في الغير , أو تفويت منفعة . فالأول كخوف القتل أو الجرح أو قطع عضو أو الحرق المؤلم أو الضرب الشديد أو الحبس مع التجويع ومنع الطعام والشراب . وقال المالكية : أو خوف صفع ولو قليلا لذي مروءة على ملأ من الناس(47) . أما التهديد اليسير فلا تحل به التقية ولا يجيز إظهار موالاة الكافرين أو ارتكاب المحرم ، بل المنقول عن الأئمة خلافه ، وإن كان يخشى على نفسه الهلاك عند وقوع التهديد العظيم فلا بأس بإظهار التقية عند ذلك ، فقد روى شريح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : (( ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أوثق أو عذب )) (48) ، وفرق الحنابلة بين هذا وبين الإكراه فمن ضرب ضرباً شديداً أو يسيراً في حق ذي مروءة أو الحبس والقيد الطويلان أو أخذ المال الكثير والإخراج من الديار ، أما إن كان ذلك تهديداً فهو إكراه وهو يختلف كما قرر ذلك القاضي أبو يعلى ، واستحسن هذا القول ابن عقيل(49) ، أي يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الأمر المكره عليه والأمر المخوف به ، ولكن يمكن القول بأن الأمر على إطلاقه ، وأما خوف فوت المنفعة فقد قال فيه الآلوسي : إنه لا يجيز التقية(50) . وذلك كمن يخشى إن لم يظهر المحرم أن يفوته تحصيل منصب أو مال يرجو حصوله وليس به إليه ضرورة ، وهذا هو الصواب ويدل عليه من القرآن قوله تعالى : ] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [ [ آل عمران : 187 ] وفيها ذمهم الله تعالى على الكتمان في مقابلة مصالح عاجلة ، أي من مال أو جاه ؛ لأن قول الكذب والغيبة والنميمة ونحوها وقول الإنسان بلسانه خلاف ما في قلبه كل ذلك محرم والكاذب مثلا لا يكذب إلا لمصلحة يرجوها من وراء كذبه , ولو سئل لقال إنما كذبت لغرض كذا وكذا أريد تحصيله , فلو جاز الكذب لتحصيل المنفعة لعاد كل كذب مباحا ويكون هذا قلبا لأحكام الشريعة وإخراجا لها عن وضعها الذي وضعت عليه .(4/494)
6. شدد بعض العلماء على ضرورة التفريق بين التقية وبين النفاق ، فالنفاق هو أن يظهر الإيمان ويستر الكفر , وقد يطلق النفاق على الرياء ، والتقية هي إبطان الإيمان وإظهار الكفر عند الضرورة كما تقدم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( أساس النفاق الذي بني عليه هو الكذب , وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه , كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم )) (51) ، والصلة بين التقية وبين النفاق , أن المنافق كافر في قلبه لكنه يظهر بلسانه وظاهر حاله أنه مؤمن ويعمل أعمال المؤمنين ليأمن على نفسه في المجتمع الإسلامي وليحصل الميزات التي يحصلها المؤمن ، فهو مغاير للتقية , لأنها إظهار المؤمن عند الخوف على نفسه ما يأمن به من أمارات الكفر أو المعصية مع كراهته لذلك في قلبه , واطمئنانه بالإيمان .
من خلال ما تم عرضه يتبين مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة التقية ، والأصل فيها الحضر ولا يجوز اللجوء إليها إلا عند الضرورة القصوى ، مع أن بعض العلماء فضل الأخذ بالعزيمة والثبات على الأخذ بها ، علماً بأن جمهور العلماء قال بإباحتها عند الضرورة كإباحة الميتة والخنزير عند الخشية من هلاك النفس من الجوع ، وأنت ترى أن فقهاء أهل السنة عدوها من فروع الدين وليس من أصوله فبحثوها في كتب الفقه والتفسير ، وليس في كتب أصول الدين والعقيدة ، وفي هذا تعضيد لعمق نظرهم وعظيم فهمهم .
المبحث الثاني
التقية عند الإمامية
عقيدة التقية :
لابد من الإشارة منذ البداية أن التفسير اللغوي للتقية ليس فيه اختلاف بين أهل السنة والجماعة والشيعة الإمامية ، إلا أن الاختلاف يبدأ من المدلول الاصطلاحي للتقية ، وهي تتخذ خصوصية أكثر بهذا الاتجاه ، إذ أن لها أكثر من مدلول ومغزى يتأرجح ما بين الفقه والأصول والكلام ، وقد يختلف مفهومها باختلاف هذه المباحث في كتب القوم ، ورغم أن علماء هذه الفرقة يدعون أن هذه المفاهيم متقاربة ومتجانسة ، إلا أنها بواقع الحال تفقد مثل هذا التقارب عند الغور في معانيها المختلفة نظراً لوضعها محوراً من محاور العقيدة الأساسية في كتبهم ومؤلفاتهم ، وبالتالي اعتمادهم الكلي عليها في تعليق وتأويل ورفض روايات كثيرة ثابتة في كتبهم عن الأئمة بسبب موافقتها لروايات أهل السنة .
إن أهم التعاريف التي يقدمها علماء الشيعة الإمامية للتقية ويبدءون بها كلامهم هو تعريف ( المفيد ) الذي قال فيه : ((كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدنيا والدين )) (52) ، وهو من أشهر العبارات التي يعتمدها الإمامية في تعريفهم للتقية ، ومع ذلك فقد عرفها مرتضى الأنصاري بقوله : (( المراد منها التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق ))(53) ، ومن كلام المعاصرين من علمائهم في تعريفها قول الشهرستاني : (( التقية إخفاء أمر ديني لخوف الضرر من إظهاره )) (54) ، وما قاله أيضاً حسن البجنوري في بيانها : ((هي عبارة عن إظهار الموافقة مع الغير في قول أو فعل أو ترك فعل يجب عليه حذرا من شره الذي يحتمل صدروه بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى من يحبه مع ثبوت كون ذلك القول أو ذلك الفعل أو ذلك الترك مخالفا للحق عنده )) (55) .
وأقرب هذه التعاريف إلى قلوب الإمامية والمعتمد والمرجح في كتبهم هو تعريف (المفيد)؛ الذي حدد فيه حدود التقية بقوله ( مكاتمة المخالفين ) ويعني بالمخالفين هنا كل من خالف عقيدة الإمامية في إقرارهم بالأئمة الاثني عشر ، كما أوضح ذلك شيخ الإمامية الأول ابن بابويه الذي يسمونه ( الصدوق ) في معرض كلامه حول قوله تعالى : ] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [ [ البقرة : 3 ] حيث قال : (( لا يصح إيمان المخالفين بالبعث والنشور والحساب والثواب والعقاب ... ولا يكون الإيمان صحيحاً من مؤمن إلا من آمن بالمهدي القائم عليه السلام والأئمة عليهم السلام )) (56) ، والمراد بكلمة ( المخالفين ) في كتب الإمامية هم أهل السنة الذين يخالفون عقيدتهم وأصولهم ، قال المفيد فيما نقله عنه تلميذه الطوسي : (( إن المخالف لأهل الحق كافر فيجب أن يكون حكمه حكم الكفار )) (57) ، وهذا الحكم يمكن إطلاقه على الصحابة فمن دونهم من أهل السنة ، بل ويطلقونه أيضاً على الشيخين ، قال المجلسي في تقرير عقيدة الإمامية بالشيخين رضي الله عنهما : (( ... وقع التصريح باسم صنمي قريش وشيخي المخالفين الذين كانوا يقدمونهما على أمير المؤمنين u ... )) (58) فصنمي قريش تسمية مشهورة عند الإمامية للشيخين رضي الله عنهما، قال المجلسي في مكان آخر : (( وصنمي قريش أبا بكر وعمر )) (59) ، ولا نظير لكلمة أخرى يمكن أن يتستر بها الإمامية من أجل مداراة تقيتهم عن أهل السنة والجماعة إلا كلمة ( المخالفين ) التي تحتمل وجوهاً ، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أنهم يعنون بها أهل السنة وغيرهم من فرق المسلمين ممن لا يقرون بعقيدة الإمامة .(4/495)
وربما وردت في كتبهم روايات من هذا القبيل في ذم ( المخالفين ) وعدم الصلاة خلفهم والاقتداء بأئمتهم ، فقد روى الكليني وغيره عن ثعلبة بن ميمون قال : (( سألت أبا جعفر u عن الصلاة خلف المخالفين ؟ فقال : فما هم عندي إلا بمنزلة الجدر )) (60) ، قال مرتضى الأنصاري ( وهو من علمائهم العارفين بأصولهم ) في تعليقه على هذه الرواية : (( إن وجود الإمام المخالف لا يتفاوت مع عدم الإمام أصلاً ، ولا يترتب على وجوده في نظر الشارع حكم شرعي )) (61) ، وبعبارة أخرى أن وجود ( الإمامي ) بين جماعة المصلين من أهل السنة لا يترتب عليه أي حكم شرعي لأنه يصلي مع ( مخالفين ) له في عقيدته واعتقاده ، ونظير هذا كما قرره الأنصاري صلاته خلف رجل ثم اتضح أنه يهودي ! لأن التقية عند الإمامية لا تفرق بين الكافر الأصلي وبين ( المخالف ) ، قال الشيرازي في تقرير عقيدة التقية عند أصحابه وفق هذا المفهوم : (( ومن الواضح أنه ليس في شيء من ذلك اختصاص بالمخالفين ، بل لا فرق في ذلك بينهم وبين الكافرين ... )) (62) .
وقد يسأل متسائل عن مغزى تسمية الإمامية لمن لا يشاطرهم عقيدتهم بـ ( المخالفين ) ، وماذا يجب أن يعتقد الإمامي تجاهه ؟ ، ولا نريد أن نذهب بعيداً ونبحر بالأدلة الأصولية والعقلية لبيان هذه التساؤلات ، إذ أن روايات الإمامية تجيب عن هذه التساؤلات وغيرها مما يكشف لنا مضون التقية بأغلب معانيها :
من ذلك ما رواه حمران بن أعين قال : (( قلت : لأبي عبد الله u إنهم يقولون : لا تعجبون من قوم يزعمون أن الله يخرج قوماً من النار فيجعلهم من أصحاب الجنة مع أوليائه ، فقال : أما يقرؤن قول الله تبارك ] وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [ [ الرحمن : 62 ] إنها جنة دون جنة ونار دون نار إنهم لا يساكنون أولياء الله ، وقال : بينهما والله منزلة ولكن لا أستطيع أن أتكلم ، إن أمرهم لأضيق من الحلقة ، إن القائم لو قام لبدأ بهؤلاء )) (63) ، وقال المجلسي في تعليقه على هذه الرواية وبيان ما خفي من معانيها رافعاً لستار التقية عن قلمه : (( بيان قوله u : ( إن أمرهم ) أي : المخالفين ، ( لأضيق من الحلقة ) أي : الأمر في الآخرة مضيق عليهم لا يعفى عنهم كما يعفى عن مذنبي الشيعة ، ولو قام القائم لبدأ بقتل هؤلاء قبل الكفار ، فقوله لا أستطيع أن أتكلم في تكفيرهم تقية ، والحاصل أن المخالفين ليسوا من أهل الجنان ولا من أهل المنزلة بين الجنة والنار وهي الأعراف، بل هم مخلدون في النار )) (64).
ولا ريب أن في كلام المجلسي هذا يرفع اللثام عن عقيدة الإمامية ومغزى مصطلح التقية، إذ في كلامه تفريق واضح بين ( المخالفين ) والكفار ، لأن ( المخالفين ) في نظره ونظر قائمه أسوء حالاً من الكفار الأصليين ، حيث يبدأ أولاً بقتلهم وسفك دمائهم قبل قتل اليهود والنصارى والبوذيين والهندوس ، ثم إن هؤلاء ( المخالفون ) خالدون مخلدون في النار ، وهذا ما يعتقده الإمامية بعيداً عن ستار التقية أو المداراة ، وفيه يتضح الفرق الجذري والواضح بين مفهوم التقية عند أهل السنة والجماعة ومفهومها عند الإمامية ، وكيف حرّف الإمامية معناها الموجه للكفار الأصليين ، إلى المسلمين ( المخالفين ) لهم من أهل السنة والذين لا يدينون بدينهم ، ولا يعتقدون بأئمتهم الاثني عشرية ، وكل ما يرد في كتب القوم غير هذا الكلام فاعلم أنه ( تقية ) .
فالتقية قريبة إلى واقع الإمامية نظراً لما حملوه في قلوبهم من إخفاء لعقائدهم بعد أن ازاد اضطهاد الناس لهم بسبب سوء اعتقادهم ولعنهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكفيرهم المخالفين كما هو مشهور عنهم ، ومن الصعب عند علماء الإمامية بيان المغزى الحقيقي من وراء هذه العقيدة ، إذ يتخبطون في تبريرها فيفسرونها أحياناً بكونهم قلة مستضعفة وسط بيئة متسلطة ، قال الشيرازي : (( إن التقية ديدن كل أقلية يسيطر عليهم الأكثرون ولا يسمحون لهم بإظهار عقائدهم أو العمل على وفقها فيخافون على أنفسهم )) (65) ، ويتجاهل الشيرازي في كلامه هذا سبب إخفاء مثل هذه العقيدة أو سبب بغض المسلمين لها ، ولماذا لا يتقبل الاكثرون هذه العقيدة ؟ ، والجواب عن مثل هذا السؤال لا بد أن يكمن في نفوس هؤلاء القوم الذين يحملّون أنفسهم أوزاراً فوق أوزارهم ، قال عالم آخر من علمائهم المعاصرين : (( ومن المعلوم أنّ الإمامية وأئمّتهم لاقوا من ضروب المحن، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقهِ أيّة طائفة أو أُمَّة أُخرى فاضطرّوا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقيّة بمكاتمة المخالفين لهم، وترك مظاهرتهم، وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المختصة بهم عنهم )) (66) .(4/496)
إن التقية التي يعنيها المظفر هنا ليست هي عمل الأئمة ، فالقاصي والداني يعرف أن أئمة أهل البيت كانوا أبعد الناس عنها ، كما هو مذكور في كتب الشيعة الإمامية أنفسهم ، وإنما الذي يعنيه هنا أن كثرة الكذب الذي نسبه رواة الشيعة الإمامية إلى أئمة أهل البيت هو الذي دفعهم للتخفي ووضع شعار التقية ملاذاً لهم من أذى الناس كافة ، وهذا الأمر يقر به الإمامية قبل غيرهم ، ولذا فمن الطبيعي أن يعود المظفر فيقر ويعترف أن هذه الصفة تخصهم دون سائر الخلق ، وتعني عقيدة المفارقة لسبيل المؤمنين حيث قال : (( وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأمم ))(67).
حكم التقية :
بعد أن بينا عقيدة التقية عند الإمامية ، وما حواه مضمونها من أقوال علمائهم ، لا بد أن نوضح حكم التقية على وفق الأصول التي يسير عليها الإمامية في معتقدهم ، والملفت للنظر تخبط علماء الإمامية في تقرير وجوبها أو عدمه ، ففي حين قال ( المفيد ) : (( والتقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم عليه السلام ، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله تعالى وعن دين الإمامية ، وخالف الله ورسوله والأئمة عليهم السلام )) (68) ، فإن الطبرسي قيد وجوبها بالخوف على النفس عندما قال : (( والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس ، وقد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحق عندها )) ثم أورد قصة الرجلين مع مسيلمة وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهما ، وعلق عليها بقوله : (( فعلى هذا تكون التقية رخصة والإفصاح بالحق فضيلة )) (69) ، وقد نشأ هذا الاختلاف بين الإمامية في حكم التقية من تناقض الروايات – على كثرتها – عن الأئمة في جواز العمل بها أو عدمه، على أن الراجح من أصولهم بلا شك هو وجوبها عموماً ، وجواز تركها أحياناً .
أما علماء الإمامية المعاصرون فإن نظرتهم للتقية لا تختلف عن نظرة أسلافهم ، إذ يترجح وجوبها عموماً عندهم قال البجنوري : (( لا شك في جواز الحكم التكليفي للتقية ، بل وجوبه في بعض الأحيان ، وجوازه من القطعيات واليقينيات )) (70) ، ولم يكن هذا التمييع لحكم التقية من باب الاجتهاد واختلاف الآراء فحسب ، بل من تخبط علماء الإمامية في استيعاب المصطلحات وعدم التفريق بين وقوع الجرم من جهة والتهديد بفعله من جهة أخرى ، بعبارة أدق عدم التفريق بين الإكراه والتقية قال الشيرازي : (( إن الحق عدم التفريق بين العنوانين الإكراه والتقية من حيث الملاك والمغزى ... )) (71) ، ولا يصح هذا الاستدلال في عدم التفريق بين الأمرين إذ من المعروف أن للإكراه أحكام أخرى لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال في محل التقية ، ويختلف مدلول كل منها كما هو مشهور بين أهل الأصول عند الفريقين وقد مر في المبحث الأول تفريق أهل السنة – خاصة الحنابلة - بين الأمرين ، وهو الحق بأذن الله .
ولا يمكن لنا الإحاطة بحكم التقية عند الشيعة الإمامية إلا بالاستعانة بالروايات التي ينسبونها لأئمة البيت ، والتي فيها حث عظيم للشيعة بالأخذ بالتقية على كل حال وعند كل الأفعال ، اللهم إلا في المسائل التي تتفق مع أهل السنة والجماعة ، والتي سنأتي على بيانها إن شاء الله .
فمن ذلك ما رواه الكليني وغيره عن أبي عمر الأعجمي قال : (( قال لي أبو عبد الله u : يا أبا عمر إن تسعة أعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له )) (72) ، وروى الكليني أيضاً عن أبي بصير قال : (( قال أبو عبد الله u : التقية من دين الله ، قلت : من دين الله ؟! قال : أي والله من دين الله )) (73) ، وروى أيضاً عن حبيب بن بشر قال : (( قال أبو عبد الله u سمعت أبي يقول : لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب من التقية ! ، يا حبيب من كان له تقية رفع الله ، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله )) (74) ، والروايات في كتب الإمامية كثيرة لا يمكن أن نوردها هنا ، وما هذه الروايات إلا أنموذج لها ، قال البجنوري : (( أما الروايات ففوق حد الاستفاضة بل لا يبعد تواترها معنى وقد عقد في ( الوسائل ) أبوباً لها )) (75) ويعني به ( وسائل الشيعة ) للحر العاملي(76) .
لا يجوز ترك العمل بالتقية عند الإمامية إلا عند خروج صاحب الزمان الذي يؤمنون بخروجه، فإذا خرج فحينئذ ترفع التقية وتعود الأشياء إلى أصلها ! ، فقد روى ابن بابويه القمي عن الحسين بن خالد قال : (( قال علي بن موسى الرضا عليهما السلام : لا دين لمن لا ورع له ، ولا إيمان لمن لا تقية له ، إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية ، فقيل له : يا ابن رسول الله إلى متى ؟ قال : إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت ، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا )) (77) ، قال الشيرازي في تعليقه على هذه الرواية : (( وفيها دليل على أن التقية من أعظم القربات وأشرف أخلاق الأئمة )) (78) .(4/497)
مما تقدم من الروايات تعطينا دليلاً على أن التقية هي فعل واجب في أعمال الإمامي ما دام معتقداً بهذا المعتقد ، ومن تركها كان كتارك الصلاة ، روى ابن شعبة الحراني وغيره عن علي بن محمد الهادي ( الإمام العاشر عند الإمامية ) أنه قال : (( لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً )) (79) ، وقد استنبط علمائهم من هذه الروايات وغيرها عن ( المعصوم ) بأن من ترك التقية فهو كافر ، قال ( المفيد ) : (( اعتقادنا في التقية : أنها واجبة ، من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة )) (80) ، فلا فرق في منزلتها عن منزلة الصلاة التي هي عمود الدين ، ومن قال بجواز تركها من علماء الإمامية ، فإن ذلك من باب المداهنة والمداراة لا من باب تقرير الحقيقة والمعتقد ، فهي أصل الأعمال ومحور الأفعال ، نسأل الله تعالى العصمة من الزلل وسوء العمل .
العمل بالتقية :
إن العمل بالتقية عند الشيعة الإمامية لا يتوقف عند صون النفس وحفظها ، أو ما يتعلق بها من الأموال والأعراض ، بل قد يكون ذلك للتدليس على المسلمين وجلب المحبة ودفع الضغائن إذ هناك أسباب وجيهة تدفعهم لإخفاء عقيدتهم ، قال الشيرازي بهذا الخصوص : (( وغير خفي أن التقية باجمعها تشترك في معنى واحد وملاك عام وهو إخفاء العقيدة وإظهار خلافها لمصلحة أهم من الإظهار .. )) (81) ، إن هذا الإطار العام الذي يضعه الشيعة الإمامية لنطاق التقية عندهم يشمل نواحي الدين بأركانه كافة ، ولا يمكن أن يكون هذا الإخفاء إلا من باب استجلاب المصالح ودرأ الغلو عن أذهان المسلمين بأن هذا الفعل هو جائز شرعاً رغم معارضته للأدلة الشرعية ، حتى اعترف الطبرسي المسمى عندهم بـ ( أمين الإسلام ) بأن التقية لا يمكن أن تكون إلا خداعاً فقال في تفسير قوله تعالى : ] يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [ [ البقرة : 9 ] قال : (( أي يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم قالوا آمنا وهم غير مؤمنين أو بمجالستهم ومخالطتهم إياهم حتى يفشوا إليهم أسرارهم فينقلوها على أعدائهم ، والتقية أيضاً تسمى خداعاً فكأنهم لما أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر صارت تقيتهم خداعاً )) (82) ، ومن الواضح في عبارة الطبرسي هذه التخبط بين الإمامية في وضع إطار عام لحدود العمل بالتقية ، وفي حقيقة الأمر هي تشمل كل شيء في دينهم ومعتقدهم ، فهي لا حدود لها ، وإن وضعوا لها حدوداً فهي حدود وهمية سرعان ما تزول .
والأصل في الأعمال عند الإمامية التقية إلا في ثلاثة أمور هي قتل النفس والمسح على الخفين ومتعة الحج ، وهذه تدخل في باب مخالفة أهل السنة والجماعة أكثر من كونها ابتعاد عن التقية ، بعبارة أخرى تدخل في باب معارضة المخالفين وعدم التشبه بهم في دار التقية ، وعموم الروايات عن الأئمة في كتب الإمامية تدل على هذا ، فروى بابويه وغيره عن ابن أبي يعفور عن أبي جعفر قال : (( لا إيمان لمن لا تقية له )) (83) ، قال الشيرازي في تنظيره لهذه الرواية والروايات القريبة منها : (( فهي تدل على وجوب التقية إجمالاً في مواردها وأنها من أهم مسائل الدين )) (84) ، وقد أعطت هذه الروايات بعداً غير متناهٍ للتقية بحيث لا يمكن معرفة تقية الإمامية من ثباتهم وعزيمتهم ، ولا يقتصر ذلك على معاملاتهم مع ( المخالفين ) وإنما انتقل إلى معاملاتهم وعلاقتهم فيما بينهم ، بحيث أصبح من الصعوبة بمكان معرفة عمل التقية من عدمه حتى بين أفراد هذه الطائفة نفسها ؛ لأنها تعد من ضروريات المذهب التي لا غنى عنها .
وقد وردت الروايات في كتب الإمامية تعضد ما ذهبنا إليه من أن الأصل هو العمل بالتقية وما عداه فهو من باب الرخصة ، فقد روى ابن بابويه وغيره عن أبي عمر الأعجمي عن أبي عبد الله قال : (( التقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين )) (85) ، وروي أيضاً عن زرارة قال : (( قلت لأبي عبد الله u : في المسح على الخفين تقية ؟ فقال : ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج ، قال زرارة ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحداً )) (86) ، ودلالة هذه الروايات في كتب الإمامية هي مخالفة أهل السنة والجماعة ( المخالفين ) في الأحكام الشرعية ، وعدم التشبه بأعمالهم التعبدية حتى لو كانت موافقة للكتاب والسنة ، وقد اعترف البنجوري بهذا التقرير عندما قال : (( إن هذه الروايات الكثيرة التي هي فوق حد الاستفاضة على الأذن والرخصة في امتثال الواجبات موافقة للمخالفين تقية ... )) (87) ، ولم يستبعد البعض من علمائهم التقية في هذه الأمور أيضاً إن كانت هناك مصلحة في ارتكابها : (( لأن المسح على البشرة أو متعة الحج ليس أهم من جميع الأحكام الإسلامية حتى ينفرد بهذا الاستثناء )) (88) .(4/498)
إن ما تقدم من كلام يعطينا دلالة قاطعة على أن العمل بالتقية عند الإمامية لا يتوقف عند حد من الحدود المحرمة حتى لو كانت في شرب الخمر والمسح على الخفين المحرم بزعمهم ، لأن ما يصدر منهم من قول أو فعل يمكن حمله على التقية ، فلا يمكن أن تلزمهم بشيء أصلاً، أو تعتمد على ما يصدر منهم من أفعال ، وهذا الأمر مشهور بينهم منذ ظهورهم ، قال الشهرستاني : (( فكل ما أرادوا تكلموا به فإذا قيل لهم في ذلك إنه ليس بحق وظهر لهم البطلان قالوا إنما قلناه تقية وفعلناه تقية )) (89) ، وقد واجهت هذه المعضلة شيخ الإسلام ابن تيمية عندما كتب رداً على ابن المطهر الحلي المعروف عندهم بـ ( العلامة ) ، ونبه على ذلك : (( حيث يقولون ديننا التقية وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه وهذا هو الكذب والنفاق ويدعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة )) (90) ، ووافقه الغزالي في هذا الحكم فقال : (( وكل زنديق مستتر بالكفر يرى التقية دينا ويعتقد النفاق وإظهار خلاف المعتقد عند استشعار الخوف حقا )) (91) ، وهذا الكلام يعطينا صورة واضحة لحكم العمل بالتقية دون ضرورة ملحة وحاجة شديدة ، كما وتؤدي إلى انتشار النفاق بين من يعتقد بالتقية عقيدة ومنهجاً .
أهل البيت والتقية :
يدعي الإمامية بأن التقية بدأت مع الأئمة منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك عندما اختار المسلمون قاطبة ، بما فيهم أهل البيت أبا بكر الصديق خليفة للمسلمين ، وهذا الإدعاء لا يمكن أن يثبتوه حتى بالروايات المدونة في كتبهم على غرابتها وتناقضها وكثرتها ، فلم ترد في كتبهم رواية تصرح تصريحاً واضحاً بأن علياً أو أبنائه قال بالتقية ، بل الروايات الواردة عنهم في هذا الباب من أقوال وأفعال تناقض هذه العقيدة في الغالب ، بعبارة أخرى لم نرَ رواية تحث على الأخذ بالتقية صراحة للأئمة الخمس الأوائل الذين تدعي الإمامية اتباعهم ، وإنما الروايات المشهورة في كتب القوم أكثر ما نقلت عن جعفر الصادق ومن جاء بعده ، وأما والده محمد الباقر فقد وردت عنه بضع روايات وقع فيها التصريح بالتقية .
والسؤال الذي يطرح نفسه : متى ظهرت هذه العقيدة بشكلها الحالي عند الشيعة الإمامية؟.
بطبيعة الحال سنحاول تحقيق هذه المسألة بالاعتماد على الروايات الواردة في كتب الإمامية ؛ لأن هذا كما هو معروف مهم في إلزامهم بالحجة البالغة والدليل الدامغ ، فهم لا يؤمنون إلا بما في هذه الكتب ، ويرفضون أي رواية أخرى وردت في كتب المسلمين .
لا بد أن نقرر منذ بداية التاريخ الذي بدأت فيه روايات الإمامية تتخذ منحى التقية سبيلاً لها ، وإشاعة هذه العقيدة على ألسنة أئمتهم ، فمن المؤكد أن التقية قد ظهرت بين الإمامية في حياة الإمام زيد بن علي ( ت 121هـ ) ، إذ روى الطبري وغيره أن زيداً عندما أراد الخروج على بني أمية خرج معه سواد عظيم من أهل الكوفة ، كان معظمهم من الشيعة ، فطلبوا منه أن يتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فامتنع من ذلك وترضى وترحم عليهما ، فرفضه السواد الأعظم منهم ، (( فقال : اذهبوا فأنتم الرافضة ))(92) ، وهذا يدل على أن هؤلاء القوم لم يكونوا قد اعتنقوا عقيدة ( التقية ) بعد ، بل إنهم لم يعرفوها أصلاً وإلا لكانوا قد خرجوا معه ؛ لأن زيد بن علي بشهادة جعفر الصادق كان هو وعلى بين أبي طالب بمنزلة واحدة .
الرواية التي نعني هي هذه الرواية ، التي تثبت في الوقت نفسه ، صحة خروج زيد بن علي على بني أمية بشهادة حفيده الصادق ، فمن ذلك ما رواه الكليني عن الأحول(93) : (( أن زيداً بن علي بعث إليه وهو مختف ، قال : فأتيته ، فقال : يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منا ، أتخرج معه ..؟ ، قال : فقلت له إن كان فهو أباك أو أخاك ، خرجت معه ؛ فقال لي : أريد أن أخرج فأجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي ، فقلت : لا أفعل جعلت فداك ، فقال : أترغب بنفسك عن نفسي ، فقلت : إنما هي نفسٌ واحدة ، فإن كان لله في الأرض حجةً ، فالمتخلف عنك والخارج معك سواء ؛ فقال : يا أبا جعفر كنت اجلس مع أبي في الخوان ، فيلقمني البضعة السمينة ، ويبرد لي اللقمة حتى تبرد شفقةً عليّ ، ولم يشفق عليّ حرّ النار إذ أخبرك ولم يخبرني ، فقال : فقلت : خاف عليك أن لا تقبل فتدخل النار ، واخبرني فإن قبلت نجوت ، وإن لم اقبل لم أبال أن أدخل النار ))(94) ، ولا يمكن للمتتبع لروايات الإمامية إلا أن يتعجب من تلك الثقة المطلقة التي ألقيت على روايات الأحول ، مقارنة بما قاله الإمام زيد بن علي ، بل أن الإمامية يمكن أن يكذبوا زيداً على حساب تصديق الأحول ، ولا يخفى على القارئ سذاجة رد الأحول على زيد بن علي .(4/499)
ومع ذلك إن نحن سلمنا جدلاً بصحة ما قاله الأحول هنا ، فكيف يمكن أن نترك ما قاله فيما بعد جعفر الصادق ، الذي غالباً ما تنسب التقية إلى رواياته ، ويؤول بها أكثر كلامه ، ونعني به ما رواه فضيل قال : (( كنت مع زيد بن علي في الطريق عند مسيره للمحاربة مع عسكر هشام(95) الطغاة ، وبعد شهادة زيد رضي الله تعالى عنه ، ذهبت إلى المدينة واجتمعت بالإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ، فسألني وقال : يافضيل أكنت مع عمي حاضراً في قتال أهل الشام ..؟! ، قلت : بلى ، فهناك سألني عن عدد من قتلت منهم ، قلت : ستة ، فقال : لا تشك في إباحة قتل هؤلاء ، وحل دمائهم ..؟ ، فقلت : لو كان لي شك في استباحة دمائهم لم اقتلهم ، فسمعته يقول : أشركني الله تعالى في تلك الدماء والله زيد عمي هو وأصحابه شهيداً ، مثل ما مضى على علي بن أبي طالب وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ))(96) ، فلماذا لم يتستر زيد بن علي بالتقية في هذا الموقف ؟ ولماذا لم يحمل علماء الإمامية هذه الرواية على التقية ؟ ، بطبيعة الحال لا يمكنهم ذلك ؛ التقية لم تكن قد ذاعت وانتشرت كما في الأزمنة التالية ، بل أرجح أن هذه العقيدة لم تظهر في زمن جعفر الصادق نفسه ، وإنما نسبت إلى زمنه ممن جاء من بعده من رواة الإمامية ، قال الآلوسي : (( ففي هذا التشبيه الذي في كلام الإمام جعفر الصادق الناطق بالحق أنه أعتقد أن حال الإمام زيد ، وحال الأمير كرم الله وجهه بمرتبة واحدة ومن باب واحد ، فلزم من ذلك إن زيداً في جميع اعتقاداته على الحق ، وإن خروجه أصالة لا نيابة صواب ، وإلا فلا يسوغ الحكم عليه بالشهادة ، وتشبيهه بحال الأمير )) (97) .
ومن خلال ذلك يمكن أن نقرر أن مصطلح الرفض كان سابقاً لمصطلح التقية ، وبتقديرنا فإن التقية ظهرت بعد قتل الإمام زيد بن علي ، أي بعد عام 121هـ ؛ وليس قبل هذا التاريخ ، لما قدمناه من روايات ، ويعضد ما ذهبنا إليه عدم وجود رواية – حتى في كتب الشيعة نفسها – عن علي بن الحسين المشهور بزين العابدين ( وهو الإمام المعصوم الرابع عند الإمامية ) تصرح بالتقية ، بل الوارد عكس ذلك ، كما رواه الإمامية عنه في داعائه المشهور، والذين كان يترضى فيه على الصحابة والتابعين بدون استثناء لأحدٍ منهم، فكان يقول : (( اللهم واوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمونا ، خير جزائك الذين قصدوا سمتهم وتحروا وجهتهم ومضوا على قفوا آثارهم والائتمار بهداية منارهم )) (98) ، ومن دعائه لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : (( اللهم وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة الذين احسنوا الصحبة وابلوا البلاء الحسن واسرعوا في نصره وسابقوا إلى دعوته واستجابوا لهم حيث فارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به وكانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته )) (99) ، ولا يمكن أن يكون الإنسان يتاقي في دعائه وهو بينه وبين ربه ، وعلي بن الحسين مشهور عند الفريقين بحسن عبادته وكثرة سجوده حتى لقب رحمه الله بالسجاد(100) .
وهذا ابنه محمد المشهور بالباقر حاله حال أبيه في تركه للتقية بين أعوانه وأنصاره ، وكان يجهر بترضيه على الشيخين ، فمن ذلك ما روي عنه أن جماعة خاضوا عنده في أبي بكر وعمر وعثمان فقال لهم : (( وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم : ] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ .. [ [ الحشر : 10 ] )) (101) .(4/500)
فالتقية لم يقلها الأئمة ولم يعملوا بها وإنما نسبها الرواة إليهم ، وقد حرّف علماء الإمامية معظم معاني الأخبار ونصوص الروايات الواردة في كتبهم وصرفوا دلالتها إلى التقية بدعوى أن الأئمة كانوا يتاقون خشية من خلفاء بني أمية وبني العباس ، ولكن مثل هذه الدعوى لا يمكن أن تصمد كثيراً إذا رجعنا مرة أخرى إلى رواياتهم ، فقد روى الأردبيلي : (( أنه سئل الإمام أبي جعفر عن حلية السيف هل تجوز ؟ فقال : نعم قد حلى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة فقال الراوي : أتقول هكذا فوثب الإمام عن مكانه ، فقال : نعم الصديق ، نعم الصديق نعم الصديق ، فمن لم يقل له الصديق ، فلا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة )) (102) ، وفي رواية يرد بها الباقر على من قال إن كلامه هذا تقية عند سئل عن الشيخين : (( قال : إني أتولاهما ، فقيل له : إنهم يزعمون أن ذلك تقية ؟ فقال : إنما يخاف الأحياء ولا يخاف الأموات ، فعل الله بهشام بن عبد الملك كذا وكذا )) (103)، قال ابن حجر الهيتمي : (( فانظر ما أبين هذا الاحتجاج وأوضحه من مثل هذا الإمام العظيم المجمع على جلالته وفضله بل أولئك الأشقياء يدعون فيه العصمة فيكون ما قاله واجب الصدق ومع ذلك فقد صرح لهم ببطلان تلك التقية المشؤومة عليهم واستدل لهم على ذلك بأن اتقاء الشيخين بعد موتهما لا وجه له إذ لا سطوة لهما حينئذ ثم بين لهم بدعائه على هشام الذي هو والي زمنه وشوكته قائمة أنه إذا لم يتقه مع أنه يخاف يخشى لسطوته وملكه وقوته وقهره فكيف مع ذلك يتقي الأموات الذين لا شوكة لهم ولا سطوة وإذا كان هذا حال الباقر فما ظنك بعلي الذي لا نسبة بينه وبين الباقر في إقدامه وقوته وشجاعته وشدة بأسه وكثرة عدته وعدده وأنه لا يخاف في الله لومة لائم )) (104) .
ولم يكن استنكار الأئمة للتقية مقصدوراً على المتقدمين منهم ، بل هناك أكثر من رواية عن المتأخرين ممن تدعي الإمامية عصمتهم واتباعهم فيها ذم شديد وتقريع عظيم لتفريطهم بأمور الدين بحجة التقية ، فقد روى ابن بابويه في التفسير المنسوب إلى الحسن بن علي العسكري أن جماعة من الشيعة أتوا الرضا فاستأذنوا بالدخول فقال علي بن موسى الرضا لحاجبه بعد انتظار طويل : (( ائذن لهم ليدخلوا ، فدخلوا عليه، فسلموا عليه ، فلم يرد عليهم ، ولم يأذن لهم بالجلوس ، فبقوا قياماً ، فقالوا : يا ابن رسول الله ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد هذا الحجاب الصعب ، أي باقية تبقي منا بعد هذا ؟ فقال الرضا u : اقرؤا ] وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ [ الشورى : 30 ] ، ما اقتديت إلا بربي عز وجل فيكم ، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم وبأمير المؤمنين عليه السلام ومن بعده من آبائي الطاهرين عليهم السلام عتبوا عليكم ، فاقتديت بهم ، قالوا : لماذا يا ابن رسول الله ؟ قال لهم : لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب u ، ويحكم شيعته الحسن والحسين عليهما السلام وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار ومحمد بن أبي بكر ، الذين لم يخالفوا شيئاً من أوامره ولم يرتكبوا شيئاً من فنون زواجره ، فأما أنتم إذا قلتم أنكم شيعته ، وأنتم في أكثر أعمالكم له مخالفون ، مقصرون في كثير من الفرائض ومتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله وتتقون حيث لا تجب التقية ، وتتركون التقية حيث لا بد من التقية ... )) (105) وفي هذه الرواية يتضح معناة الأئمة من هؤلاء الاتباع بسبب تهاونهم في أداء شعائر الإسلام ، ولا يمكن أن يدعي الإمامية أن هذه تقية ، لأن الرضا هنا بين شيعته وخاصته حيث لا مجال للتقية أو المداراة .
والشاهد على هذه الرواية ما أخرجه ( شيخ الطائفة ) الطوسي عن أبي حمزة الثمالي قال : (( قال أبو عبد الله u لطائفة من شيعته : وايم الله لو دعيتم لتنصرونا لقتلتم لا نفعل إنما نتقي ! ولكانت التقية أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم ولو قام القائم ما احتاج إلى مسائلتكم عن ذلك ولأقام في كثير منكم حد النفاق )) (106) ، لأن جعفر الصادق كان على علم بأن الشيعة يتاقون الناس في كل شي ، ويسرفون في استعمال التقية حتى تقاعسوا عن نصرة الدين والحق ، فأي شيعة هؤلاء الذين ذمهم أئمتهم في كتبهم ، وأي تقية تلك التي يقام على أثرها حد النفاق ؟.
فهؤلاء سادة أهل البيت الذين تدعي الشيعة الإمامية اتباعهم لم يكونوا يتاقون ، وكان الناس يأخذون الحديث عنهم كما يأخذون عن غيرهم ، والتقية إنما أشاعها رواة الإمامية بين اتباعهم ونسبوها لأئمتهم حيث بدؤا يتقولون على أهل البيت ما لم يقولوه وينسبوا إليهم أفعالاً لم يعملوها ، فلم يجدوا غير التقية لتمرير مثل هذه الأقوال والأفعال في أذهان السذج من بني جلدتهم ، ويدل على ذلك ما رواه الكليني عن الحسن بن أبي خالد قال : (( قلت لأبي عبد الحسن الثاني [ علي الهادي ] u : جعلت فداك إن مشائخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم فلم تروَ عنهم فلما ماتوا صارت الكتب إلينا ، فقال : حدثوا بها فإنها حق )) (107) .(5/1)
فأمثال هؤلاء الرواة الذين كانوا لا يميزون بين الغث والسمين ، ولا يتورعون عن الكذب على أئمة أهل البيت هم الذين نقلوا هذه الروايات وجعلوها في كتبهم ، ثم جاءت طائفة أخرى من علمائهم لترجح بين المتناقض من هذه الروايات المنسوبة لأئمة أهل البيت خاصة الباقر والصادق ، وهي أخبار متعارضة متناقضة ، وبعضها يوافق الأخبار الواردة عند أهل السنة والجماعة ، فلم يجدوا حلاً أفضل من تفسيرها بعذر التقية ، وهذا ما أقر به واعترف شيخ الطائفة ( الطوسي ) حيث قال في معرض بيان تناقض أخبار قومه : (( وقد وقع فيها الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبازائه ما يضاده ، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا )) (108) ، وقد ألف الطوسي كتابه المشار إليه ( تهذيب الأحكام ) للتوفيق بين هذه الأخبار المتضادة والمتنافرة بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، ففسر أكثرها بالتقية ، وقد أحصيت في كتابه هذا ما يقارب الخمسمائة رواية عن أئمة أهل البيت فسرها بالتقية ، وهي تعادل خمس روايات الكتاب، وهذا يبين لك سوء معتقد هؤلاء القوم في رفضهم لروايا أهل البيت حتى لو كانت في كتبهم المعتمدة ، وسبيلهم الوحيد في ذلك عقيدة التقية التي أبتدعوها وزينوها وساروا على نهجها .
وخلاصة ما يمكن أن نقوله إن الشيعة الإمامية قد أتخذوا عقيدة التقية جزءاً لا يتجزأ من دينهم ، وهو الأساس الذي تعتمد عليه علاقتهم مع أهل السنة والجماعة ، إذ الأصل عندهم هي التقية، وما شذ عنها فهو من باب الشذوذ عن القاعدة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( إن أساس النفاق الذي بنى عليه الكذب وهو أن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه ، كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية )) (109) ، ولذا من الصعب أن تأخذ شيئاً من هؤلاء القوم يمكن أن تعتمد عليه وتستند إليه ، وهو الأمر الذي يجب أن يعرفه من يحاول أن يتقرب منهم ، نسأله تعالى أن يحفظنا من الشرك والنفاق والزلل.
المبحث الثالث
الإكراه والتقية
الإكراه :
لا بد من الإشارة إلى أن الشيعة الإمامية لم يفرقوا في مباحثهم العقدية والفقهية بين مصطلحي التقية والإكراه ، بل إن التقية عندهم لها صلتان ، فعليها تبنى فروعٌ كثيرة ، وعلى أساسها تأصل العقائد وأصول الدين(110) ، ولهذا السبب كثر تخبطهم في معظم المسائل التي تداخل بين هذين المصطلحين ، على الرغم من أن الفرق بينهما واضح يعتمد على تعريف الفقهاء وأهل الأصول للإكراه ، الأمر الذي نرى من الضروري بيانه هنا :
الإكراه في اللغة جاء من الفعل : ( كَرَهَ ) ، والاسم : ( الكَرهُ ) ويراد به كل ما أكرهك غيرك عليه ، بمعنى : أقهرك عليه ، وأما (الكُرْه ) فهو المشقة ، يُقال : قمت على كُرْهٍ ، أي : على مشقة(111) ، وحكمه في اللغة : (( عبارة عن حمل إنسان شيء يُكْرَه ، يقال : أكرهت فلان إكراهاً أي حملته على أمرٍ يكرهه )) (112) .
أما في الاصطلاح فقد عرفه المناوي بأنه : (( حمل الغير على ما يكرهه بالوعيد الشديد )) (113) ، وعرفه البركتي بأنه : (( إجبار أحد على أن يعمل عملاً بغير حق من دون رضاه بالإخافة )) (114) ، أما السرخسي فقد عرف الإكراه بقوله : (( الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره )) (115) ، ومن خلال هذه التعاريف يبدو أن المعنى فيها متقارب من حيث إن المكلف يضطر إلى الفعل بسبب ضغط لا يقوى على رده ، بعبارة أخرى أن الأمر المشترك بين العبارات المتقدمة تقيد الإكراه بوجود مؤثر خارجي يلجئ من خلاله الفرد إلى فعل شيء لا يريد فعله ، فإذا زال هذا المؤثر، فلا بد أن يعود المكلف إلى أصل العمل ، ولذا قال الفقهاء بأن فعل المُكرَه لا ينسب إليه وإنما ينسب للمُكرِه(116) .
وقد وردت الإشارة إلى الإكراه في القرآن الكريم قال تعالى : ] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [ [ البقرة : 256 ] قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : (( أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بيّن واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً )) (117) ، وقوله تعالى أيضاً : ] وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [ [ النور : 33 ] ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإكراه وبين حكمه عندما قال : (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) (118) ، ويروى أن صفوان الطائي كان نائماً مع امرأته وأخذت المرأة سكيناً وجلست على صدره ، وقالت : (( لأذبحنك أو تطلقني فناشدها بالله فأبت ، فطلقها ثلاث ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا قيلولة في الطلاق )) (119) .(5/2)
وعند العودة إلى ما قدمناه من تعاريف للتقية سواء الواردة عند أهل السنة أو عند غيرهم خاصة الشيعة الإمامية نلاحظ فروق جوهرية بينها ، يمكن أن نستعرضها بالآتي :
1. إن الإكراه هو فعل يقع تحت تهديد شخص معين ، وغالباً ما يكون مصحوباً بالوعيد الشديد بالأذى ، في حين أن التقية هي فعل المكلف عمله باختياره مظنة وقوع التهديد ، ولذا فإن فعل المكرَه لا ينسب إليه ولكن ينسب للمكرِه ، في حين أن أحداً لم يقل بأن فعل المتقي ينسب لغيره من أهل الإسلام .
2. التقية عند أهل السنة في مفهومها العام رخصة عند غلبة الكفار على المسلمين ، في حين أن الإمامية لا يعتدون بذلك ، بل التقية وفق تعريفهم كما تقدم هي ( مكاتمة المخالفين ) ، ويعنون بهم من لا يعتقد عقائدهم من المسلمين ، وهذا فيه فرق واضح .
3. إن التقية عند الإمامية لا يعتبر فيها إكراه أو تعذيب ، بل يكفي فيها خوف الضر على النفس أو ما يتعلق به ، وإن لم يكن هناك مكرِه . وتعضد هذه القاعدة عندهم روايات كثيرة منها ما رووه عن جعفر الصادق أنه قال : (( التقية جنة المؤمن )) (120) ، وفي رواية أخرى عنه أيضاً : (( التقية ترس المؤمن )) (121) ، وهنا فقد التعريف شرطاً مهماً اتفق عليه العلماء وهو ركن من أركان الإكراه .
ولا شك في أن أحكام الإكراه ومضامينه اللغوية والشرعية تختلف اختلافا عظيماً ؛ خاصة في أثر الأعمال الواقعة من قبل المكلف ، لأنه لا يمكن الاعتداد بها وإلزام فاعلها بنتائج فعلها كما تقدم ، لذا فإن محاولة الخلط بين التقية والإكراه من الصعوبة بمكان حتى في عرف الإمامية أنفسهم ، لأنها تختلف من حيث الملاك والمغزى ، كما هو موضح أدناه .
أنواع الإكراه وشروطه :
اختلف العلماء في بيان أنواع حالات الإكراه التي تقع على المكلف ، وهذا الأمر أدى إلى اختلافهم في تفاصيل المسائل الفقهية التي يقع الإكراه فيها ، قال الكاساني : ((ما يقع عليه الإكراه في الأصل نوعان : حسي وشرعي ، وكل واحد منهما على ضربين : معين ومخيّر فيه ، أما الحسي المعين في كونه مكرها عليه فالأكل والشرب والشتم والكفر والإتلاف والقطع عينا ، وأما الشرعي : فالطلاق والعتاق والتدبير والنكاح والرجعة واليمين والنذر والظهار والإيلاء والفيء في الإيلاء والبيع والشراء والهبة )) (122) ، ومن خلال هذا الكلام نلاحظ أن تقسيم الإكراه كان بحسب ما يقع عليه الفعل ، وهو قريب من تقسيم ابن حزم له .
إلا أن التقسيم الأشهر ما قرره فقهاء الحنفية في بيان أنواع الإكراه هو(123) :
1. الإكراه الملجئ : وهو نوع يوجب الإلجاء والاضطرار ، كالقتل والقطع والضرب الذي يخشى فيه تلف النفس أو العضو ، وقد يسمى إكراهاً تاماً .
2. الإكراه غير الملجئ : وهو لا يوجب الإلجاء والاضطرار كالحبس القصير والقيد والضرب .
من الواضح أن هذا التقسيم قد أخذ فعل المكلف محوراً ، واعتمده في تقرير نتائج الإكراه ، مع الأخذ بعين الاعتبار وقوع التهديد الفعلي دون غلبة الظن في ذلك ، فلا يعتد بالحكم على فعل معين بأن له أحكام الإكراه إلا إذا توفرت أركان الإكراه وهي : المكرَه وهو الذي وقع الفعل منه ، والمكرِه : وهو من يصدر منه التهديد والوعيد على المكرَه بشرط يقين الأخير من كونه قادر على إيقاعه به لا محالة ، والركن الثالث هو : المكرَه به : وهو نوع المكره المتوعد به ، وأخيراً المكرَه عليه : وهو الفعل الذي يراد تنفيذه .
وهنا تقسيم آخر للإكراه ، فقد قسم ابن حزم الظاهري الإكراه إلى قسمين الأول هو : (( إكراه الكلام ، ولا يجب به شيء ، وإن قاله المكرَه ، كالكفر والقذف والإقرار والنكاح ... الخ )) (124) ودليل ابن حزم في ذلك أنه حاكٍ للفظ ، وذلك لا يترتب عليه أذى لمعين ، كما أنه في الوقت نفسه لا يلزم نفسه بشيء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : (( إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى )) (125) ، قال ابن حزم : (( فصح أن كل من أكره على قولٍ ولم ينوه مختاراً فإنه لا يلزمه )) (126) .
أما النوع الثاني من الإكراه عند ابن حزم فهو إكراه الفعل ، وهو بدوره ينقسم إلى قسمين أيضاً : (( إحدهما - كل ما تبيحه الضرورة , كالأكل والشرب فهذا يبيحه الإكراه ; لأن الإكراه ضرورة , فمن أكره على شيء من هذا فلا شيء عليه ; لأنه أتى مباحا له إتيانه ، والثاني - ما لا تبيحه الضرورة , كالقتل , والجراح , والضرب , وإفساد المال , فهذا لا يبيحه الإكراه , فمن أكره على شيء من ذلك لزمه القود والضمان ; لأنه أتى محرما عليه إتيانه )) (127) ، ولكن ابن حزم لا ينس أن يقرر ضرورة وقوع الإكراه فعلاً على المكرَه ، ويقين الأخير بأن الضرر واقع عليه لا محالة ، وغير ذلك لا يمكن أن يسمى إكراهاً لأن الإكراه بنظره : (( هو كل ما سمي في اللغة إكراها , وعرف بالحس أنه إكراه كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به , والوعيد بالضرب كذلك أو الوعيد بالسجن كذلك , أو الوعيد بإفساد المال كذلك , أو الوعيد في مسلم غيره بقتل , أو ضرب , أو سجن , أو إفساد مال )) (128) .(5/3)
ولم يجعل العلماء هذه التقسيمات هي القول الفيصل ، وإنما وضعوا شروطاً للإكراه كأساس في وقوعه وتتمثل بالآتي(129) :
1. قدرة المكرِه على تحقيق ما هدد به بولاية أو تغلب أو فرط هجوم .
2. عجز المكرَه عن دفعه بهرب أو استغاثة أو مقامة .
3. ظنه أنه إن امتنع عما أكره عليه أوقع به المتوعد .
4. كون المتوعد مما يحرم تعاطيه على المكرِه ، فلو قال ولي القصاص للجاني : طلقها وإلا اقتصصت منك ، لم يكن إكراهاً.
5. أن يكون عاجلاً ، فلو قال : طلقها وإلا قتلتك غداً ، فليس بإكراه .
6. أن يكون معيناً ، فلو قال : اقُتلْ زيداً أو عمراً ، فليس بإكراه .
7. أن يحصل بفعل المكره عليه التخلص من المتوعد به ، فلو قال : اقُتلْ نفسك وإلا قتلتك ، فليس بإكراه .
8. يشترط في الإكراه على كلمة الكفر طمأنينة القلب بالإيمان ، فلو نطق معتقداً بها كفر.
ووفق هذا الاعتبار فإن الإكراه مقيد بهذه الأمور ، يزول بزوالها ولا يبقى مرافقاً لفعل المكلف في الظروف الاعتيادية والطبيعية ، على عكس ما يعتقده الإمامية بالتقية ، بكونها هي أصل العمل والمحور الذي تدور عليه أفعال المكلف ؛ لأن الإكراه بنظرهم يمكن اللجوء إليه بمجرد مظنة الضرر ، أي قبل وقوع التهديد لأن أصل العمل عند غلبة ( المخالفين ) هو التقية ، وهذا الكلام مردود لاعتبارات عديدة أهمها أن أياً من أئمتهم لم يحدد حدوداً يمكن أن تقف عندها التقية ، وإنما شروط التقية عندهم مفتوحة .
أنواع التقية وشروطها عند الإمامية :
عند مقارنة ما قدمناه بما كتبه علماء الشيعة الإمامية في موضوع التقية في مؤلفاتهم ، نجدها تختلف اختلافاً عظيماً من حيث المغزى والمضمون ، بل أنها تختلف حتى في أنواعها وأركانها ، أما من حيث الشروط ، فنحن لا نجد أثراً لها في كتبهم ، فالأمر عندهم مفتوح ، و فقد روى الكليني عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله أنه قال : (( كلما تقارب هذا الأمر كان أشد للتقية )) (130) ، فعلى وجه العموم من الصعب الإحاطة بمثل هذه الشروط ، ولكن يمكن أن نبين أن التقية تنقسم عند الإمامية إلى أكثر من قسم بالنظر إلى غرضها وغايتها:
أولاً : التقية من حيث حكمها الوضعي وهل أن العمل المأتي به تقية يوجب الإجزاء أم لا ؟ ، وفيه قرر فقهاء الإمامية بأن العبادات فيها صحيحة إلا في ثلاثة أشياء في شرب الخمر والمسح على الخفين والمتعة ، فلا تقية فيه ! ، ولهم أكثر من رواية تفيد ذلك في كتبهم ، منها ما رواه زرارة عن أبي عبد الله أنه قال : (( ثلاثة لا اتقي فيهن أحداً شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج )) (131) ، وبناء على هذه الرواية وغيرها ، جعل الإمامية للتقية ملاذاً واسعاً للعمل في غير ما ورد في هذه الرواية ، بحيث عدوا كل الأعمال مجزأة في حال التقية ، وإن اختلفوا في مسألة الإفطار في رمضان ، ولكن رجح محمد النجفي وغيره من فقهاء الإمامية الإجزاء (132) .
ثانياً : التقية من حيث حكمها التكليفي ، وتنقسم حسب الأعمال ، فمنها ما هو واجب ومنها ما هو حرام ومنها ما هو راجح ومنها ما هو مرجوح ، ومنها ما يتساوى طرفاه جوازاً (133) ، ورغم أن هذه التقسيمات التي تبدو لأول وهلة بأنها تختلف عن الأخرى ، لكنها بواقع الحال قريبة منها ، فمثلاً التقية المحرمة يعنون بها ما تقدم من حرمة التقية في المسح على الخفين ومتعة الحج وشرب الخمر ، والروايات في كتب القوم تفيد هذا المعنى ، بل تحث عليه ،وتعده من أفضل القربات فقد روى ابن بابويه عن أبي عبد الله أنه قال : (( من استعمل التقية في دين الله فقد تسنم الذروة العليا من القرآن )) (134) ، وفي هذه الرواية إشارة إلى أن التقية مرغب فيها عند الإمامية على كل حال ، ولذا أدخل علمائهم معظم الروايات الواردة في هذا الباب تحت قسم المستحب(135) .
ثالثاً : هناك تقسيم آخر للتقية عند الإمامية ، فهي عندهم يمكن أن تقسم إلى : التقية الخوفية والتقية التحبيبة ، والتقية لمصالح آخر ، ومثّل الإمامية للأولى بما أوردناه في المبحث الثاني من كونها من دين الله عز وجل ، ولا دين لمن لا تقية له ، أما التقية التحبيبي : فيعنون بها القيام بالأعمال التي تقربهم إلى أهل السنة والجماعة من أجل التحبب إليهم لاستجلاب المنافع ودفع المضار ، ومثّل لها بما رواه ابن بابويه عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله أنه قال : (( ما منكم أحد يصلي صلاة فريضة في وقتها ثم يصلي معهم صلاة تقية وهو متوضأ إلا كتب الله له بها خمساً وعشرين درجة ، فارغبوا في ذلك )) (136) ، وفي هذه الرواية تأكيد على أن صلاة الإمامي مع أهل السنة تقية مرغب فيهم عندهم ، بل هي من أقسام المستحب والمندوب ، وهذا الأمر له دلالة خطيرة في كونهم لا يعتدون بتلك الأعمال ، بل ينبغي لمن أراد الصلاة مع أهل السنة أن يصلي قبلها أو بعدها .(5/4)
أما النوع الثالث فهو ما يعرف عندهم بالتقية لمصالح آخر ، وقد أورد الإمامية روايات عن أئمتهم تعضد ما ذهبوا إليه ، منها ما روي عن أبي عبد الله جعفر أنه قال : (( عليكم بالتقية ، فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجية مع من يحذره )) (137) .
رابعاً : هناك بعض علماء الإمامية من يجعل لها قسماً أخراً ، وهو ما يقابل الإشاعة وإذاعة السر ويعبر عنها بأنها تعني : (( وجوب كتمان عقيدة الحق أو إظهار غيره في الموارد التي تكون من الأسرار التي يجب كتمانها عن غير أهلها )) (138) ، والروايات في كتب الإمامية في هذا الباب كثيرة ، منها ما روي عن أبي عبد الله أنه قال : (( ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ ولكن قتل عمد )) (139) ، وكذلك ما رواه إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله أنه تلا هذه الآية : (( ] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ [ [ آل عمران : 112 ] قال : والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم ولكنهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا واعتداء ومعصية )) (140) .
أما من حيث الشروط ، فلا وجود لها في تحديد التقية عند الإمامية ، وإنما هي تترك لاجتهاد الفرد وتقديره ، وربما تجاوزت الحدود الشرعية في معظم الأحيان ؛ لأنها وفق الروايات التالية تتعدى فهم أهل السنة والجماعة للتقية والإكراه على حد سواء ، وهذه الأمور تتمثل بالآتي :
1. إن التقية جائزة في كل أمر من أمور الدين بل هي الدين عينه ، كما في روايات الشيعة الإمامية المنسوبة إلى الأئمة ، وقد تقدم بعضها ، منها ما رواه صاحب الشرائع عن أبي عبد الله قال : (( إن التقية دين الله عز وجل ، قلت : من دين الله عز وجل ؟ قال : أي والله من دين الله )) . وفي رواية أخرى عنه أيضاً أنه قال : (( لا إيمان لمن لا تقية له )) .
2. إن التقية هي من أعظم الفرائض ، وهي بمثابة الرأس من الجسد ، وأنها من أحب الأعمال إلى الله تعالى من ذلك ما رواه حبيب بن بشير قال : (( قال أبو عبد الله u : سمعت أبي يقول : لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب من التقية )) (141) .
3. إن أكثر الشيعة كانوا يتركون العشرة مع غيرهم من المسلمين لأنهم إن أظهروا عقيدتهم ربما وقعوا في الخطر العظيم وجلب البغضاء والعداوة ، وإن أخفوه كانوا مقصرين في أداء ما عليهم من الحق مرتكبين للأكاذيب كما يقول الشيرازي(142) .
4. إن التقية تسد الأبواب أمام المخالفين فلا يستطيعون الوصول إلى حقيقة الدين ومذهب الإمامية ، ففي التفسير المنسوب إلى العسكري في قوله تعالى : ] فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [ [ الكهف : 97 ] قال : (( إن هذا هو التقية ، فإنها الحصن الحصين بينك وبين أعداء الله إذا عملت بها لم يقدروا على حيلة )) (143) .
5. لا ينحصر دور التقية عند الإمامية في إخفاء العقيدة وإظهار خلافها ، وإنما أيضاً من أهم أغراضها جلب المحبة ودفع عوامل الشقاق والبغضاء عن طريق إخفاء عقيدتهم التي ربما أثارت النفور الاستهجان في قلوب المسلمين ، وبهذا فسّر الإمامية الروايات الواردة في كتبهم ، مثل ما روي عن الصادق أنه قال : (( من أذاع علينا حديثنا سلبه الله الإيمان )) (144) ، وهذه الرواية فيها تناقض عجيب ؛ لأن روايات الأئمة إذا حبست فكيف يعلم الناس حقيقة مذهب أهل البيت الذي يدعي الإمامية اتباعه ؟.
لكننا نتساءل هنا : أين شروط الإكراه وأركانه ؟ بل أين مقومات الرخصة في كل ما تقدم ؟. والإجابة عن هذين السؤالين وغيرهما ليس بالأمر الصعب ، فقد تبين أن أحكام الإكراه لا تبنى على الظن أو الشك ، بل يجب أن يغلب على المكرَه بأن التهديد واقع لا محالة ، قال الكاساني في تقرير هذا المبدأ : (( أن يقع في غالب رأي المكرَه وأكثر ظنه لأنه لو لم يجب إلى ما دعي إليه تحقق ما وعد به ؛ لأن غالب الرأي حجة ... )) إلى أن قال : (( فإن تحقق عنده أن المكرِه لا يحقق ما أوعده لا يثبت الحكم شرعاً )) (145) ، وقال في مكان آخر ( رحمه الله ) : (( وإن كان الإكراه ناقصاً لا يحل له الإقدام عليه ولا يرخص أيضاً ؛ لأنه لا يفعله للضرورة بل لدفع الغم عن نفسه ، فكانت الحرمة بحكمها قائمة )) (146) .(5/5)
إن هذا الاستدلال الذي تضمن نفي حكم الظن في أحكام الإكراه مهم لنا في هذا الباب ؛ لأن أغلب أحكام التقية عند الشيعة الإمامية مبينة على الظن : ] وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا [ [ النجم : 28 ] بل لازال علمائهم لهذه اللحظة يذكرون ما تعرض أسلافهم المزعومين على يد بني أمية وبني العباس من أذى واضطهاد ، بعد مضي أكثر من ألف عام على ذلك ، وظهرت لهم أكثر من دولة ، وانتشرت سطوتهم في أكثر من بلاد ، وقد أدى ذلك إلى استنكار الإمامية أنفسهم لمثل هذا الأمر ، حتى أصبحت أخبارهم أعظم من أخبار بني إسرائيل وأشد تناقضاً وكل ذلك بسبب عقيدة التقية المزعومة والمنسوبة زوراً إلى أهل البيت ، كما روى الصفار عن زرارة قال : (( قال أبو جعفر u : حدث عن بني إسرائيل ولا حرج ، فقلت : جعلت فداك في حديث الشيعة ما هو أعجب من أحاديثهم ؟ قال : فأي شيء هو يا زرارة ؟ قال : فاختلس من قلبي فمكثت ساعة لا أذكر ما أريد ، قال : لعلك تريد التقية ؟ ، قلت : نعم ، قال : صدّق بها فإنها حق )) (147) .
فمن خلال هذه الروايات يتبين أن التقية عند الإمامية غير مرهونة بشرط الإكراه ، بل قد تكون هي أصل العمل ومدار عبادة المكلف ، وهناك أكثر من رواية في كتب القوم ترجح ما ذهبنا إليه من كون المكلف عندهم يمكن أن يعمل التقية في ( دار التقية ) على كل حال ، وإن كان الإمامية قد اختلفوا في الاعتداد بهذه العبادات التي قد تكون مرهونة بالاضطرار لا بالتقية ، بعبارة أخرى أن العمل مرهون بتقدير المقلد باحتمال وقوع الأذى عليه من عدمه ، وإن كان هذا الاحتمال ضعيفاً ، فإن هذا بواقع الحال لا يشكل مانعا من العمل بالتقية ، ويعضد كلامنا هذا رواية القوم في كتبهم عن الصادق أنه قال : (( إن التقية في كل ضرورة )) (148) ، وفي رواية أخرى عنه أيضاً : (( التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له )) (149) ، وأنت ترى أن لا استثناء في الرواية الأخيرة ، ولا حدود للتقية ، وهذا قول مردود لأن أفعال القلوب لا إكراه فيها ، كما هو الحال هنا ، وقد نقل السيوطي الإجماع على ذلك(150) .
والمطلع على روايات الإمامية في كتبهم يجد تناقضاً عجيباً بين هذه الروايات في صحة العبادات التي قام بها المكلف تقية ، وإن كان الراجح منها – على قول فقهاء القوم أنفسهم – الاكتفاء بأدائها في حال التقية وعدم إعادتها عند زوالها ، إلا أننا نعرض بعض هذه الروايات من أجل بيان أن التقية بعيدة بعد المشرق والمغرب عن الإكراه عند أهل السنة ، لأننا بينا شروط الإكراه سلفاً ويمكن أن تقيس أنت على ذلك .
فقد روى ابن بابويه وغيره عن حماد عن أبي عبد الله أنه قال : (( من صلى في منزله ثم أتى مسجداً من مساجدهم فصلى معهم خرج بحسناتهم )) (151) وفي رواية أخرى عن إسحاق بن عمار قال : (( قال لي أبو عبد الله عليه السلام : يا إسحاق أتصلي معهم في المسجد ؟ قلت : نعم ، قال : صلِ معهم فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله )) (152) ، قال الشيرازي : (( وظاهر هذه الأحاديث رجحان الصلاة معهم مع نية الاقتداء بهم كما أن ظاهرها جواز الاكتفاء بها وعدم وجوب إعادتها )) (153) .
ومن ذلك رواه سماعة قال : (( سألت عن رجل يصلي فخرج الإمام وقد صلى الرجل ركعة من صلاة الفريضة ، قال : إن كان إماماً عدلاً فليصل أخرى وينصرف ويجعلها تطوعاً وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو ، وإن لم يكن إمام عدل فليبنِ على صلاته كما هو ويصلي ركعة أخرى ويجلس قدر ما يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، ثم ليتم صلاته معه على قدر ما استطاع ، فإن التقية واسعة ، وليس في شيء من التقية إلا وصاحبها مأجور عليها )) (154) ، ففي هذه الرواية أمر الإمام هذا الرجل بإتمام صلاته مع غير عدلٍ وليبني عليها ، ولم تشر الرواية إلى أمر الإمام هذا الرجل بإعادة الصلاة دلالة على صحتها ، من جهة أخرى نفهم من هذه الخبر بأن هذا الرجل لم يكره على أداء الصلاة مع هذا الإمام ، وإنما دخل بإرادته واختياره ، وليس في الرواية وعيد أو ترهيب من هذا الإمام كما يفهم من عباراتها ، فأين الإكراه في هذه الرواية ؟ ، بل لا نرى شرطاً واحداً من شروطه .
ومنها ما رواه الكليني وغيره عن زرارة قال : (( سألت أبا عبد الله عن المسح على الخفين تقية ؟ فقال : ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً شرب الخمر والمسح على الخفين ومتعة الحج . قال زرارة : ولم يقل الواجب عليكم ألا تتقوا فيهم أحداً )) (155) ، فيفهم من كلام الإمام أن التقية في كل العبادات سوى ما استثنى منها ، ولم يذكر هنا الإكراه شرطاً لعمل المكلف بها ، بل فهم الإمامية من كلام الإمام هنا – كما هو حال زرارة بن أعين راوي الخبر – بأن التقية في هذه الأشياء جائزة أيضاً ، إذ هي واجبة على الإمام وليست عليكم ، فعلى هذا الأساس فإن التقية مرافقة لعمل المكلف مطلقاً حتى في شرب الخمر !.(5/6)
يمكن أن نقرر في ختام هذا المبحث أن مدلول الإكراه لا يمكن أن ينطبق على معاني التقية لا من حيث الجوهر أو المضمون ، وإنما التقية عند الإمامية هي أصل العمل وغايته ، باعتبارها عقيدة تُعتمد في سائر الأعمال ، وأصل من أصول الدين ، لذا فهي تتخذ حيزاً أكبر بكثير مما يمكن أن يتصوره القارئ ، وقد أثبتنا بشيء لا يقبل الشك - والفضل لله وحده - الفرق بينها وبين الإكراه من حيث الدلالة والمغزى ؛ لأن الإكراه عند أهل السنة له شروطه وحالاته الخاصة ، كما يجب أن نشير إلى أن الإكراه هو من فروع الدين عند أهل السنة لا من أصوله كما يدعيه الإمامية ، وبهذا يمكن أن تتضح الصورة واضحة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ..
مصادر الشيعة الإمامية(156) :
ابن إدريس ، أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد الحلي ( ت 895هـ ) :
1. السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي ، ( مؤسسة النشر الإسلامي ، قم ، 1410هـ ) .
ابن بابويه ، أبو جعفر محمد بن علي بن موسى القمي ( الصدوق ) ، ( ت 381هـ ) :
2. تفسير العسكري ( منسوب له ) ، ( مؤسسة الإمام المهدي ، قم ، 1409هـ ) .
3. عقائد الصدوق ، تحقيق : هبة الله الشهرستاني ( دار الكتاب الإسلامي ، بيروت ، 1403هـ/ 1983م ) .
4. كمال الدين وتمام النعمة ، تحقيق علي أكبر الغفاري ( قم ، 1395هـ ) .
5. من لا يحضره الفقيه ( طبعة طهران ) .
الحر العاملي ، محمد بن الحسن بن علي بن محمد الحسين ( ت 1033هـ ) :
6. وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة ( مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ، بيروت ) .
السجاد ، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( ت 94هـ ) :
7. الصحيفة السجادية ( منسوبة له ) ، ( مؤسسة الأعلمي ، بيروت ، 1413هـ / 1992م ).
الطوسي ، ( شيخ الطائفة ) أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي ( ت 460هـ ) :
8. تهذيب الأحكام في شرح المقنعة ، ( طبعة طهران ، 1390هـ/ 1970م ) .
العياشي ، أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش السمرقندي ( ت 340هـ ) :
9. تفسير العياشي ( طهران ، المكتبة العلمية الإسلامية ) .
الكليني ، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الأعور ( ت 329هـ ) :
10. الكافي ( طبعة دار الكتب الإسلامية ، طهران ) .
المفيد ، محمد بن محمد بن النعمان ( ت 413هـ ) :
11. الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ( شيراز ، طبعة عربية وبهامشها ترجمة فارسية ) .
12. تصحيح الاعتقاد بصواب الاعتقاد أو شرح عقائد الصدوق ، تحقيق هبة الله الشهرستاني ( دار الكتاب الإسلامي ، بيروت ، 1403هـ / 1983م
===============
التربية بالقصة قصص مناسبة للأطفال
محمد صالح المنجد
من خلال النظر إلى الواقع المؤلم يتبين لنا مدى أهمية التربية كعامل أساسيٍّ في تنشئة جيل يعمل لخدمة الأمة، ويدفعها نحو العزة والرفعة، ويسمو بها نحو القمة، وعندما نتأمل الواقع جيداً، وننظر بشفافية أكثر؛ يتضح لنا أن البذور إذا عُني بها خرج الزرع طيبا، فكذلك الطفولة إذا عُني بها خرج لنا جيلاً صالحاً.
وهنا وعند تأمل القرآن الكريم والسنة المطهرة يتبادر لنا سؤال مهم وهو:
هل من الممكن أن يتربى هؤلاء الأطفال من خلال القرآن والسنة وهل يمكن استثمار قصص القرآن أو السنة في هذا المشروع الضخم؟؟؟
للإجابة على هذا السؤال نقول:
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه
فلاشك أن القرآن الكريم والسنة المطهرة كفيلان بأن يكونا أداة عظيمة في تربية الجيل وإرشاده نحو كل جليل وهذا من المسلمات عند كل مسلم حيث يقول الله تبارك وتعالى:(ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) .
• وفي ظل البيئة السيئة التي ولدّها التأثر بالغرب وسيطرت وسائله الإعلامية المختلفة على بيوت المسلمين وانهماك الوالدين في الأعمال المختلفة كاضطرار بعض الأسر لخروج الأم للعمل وقد يعمل الأب عملاً إضافياً أصبح الآباء بعيدون عن تربية أبنائهم وإذا جلسوا معهم إما أن يكونوا معكري المزاج فلا يجد الأولاد سوى الصراخ والعويل دون كلمة حانية أو بسمة رفيقة أو مداعبة رقيقة ويظن الأب أو الأم أن التوبيخ والنهر هو الطريقة المثلى للتربية بل قد يكون أصلاً لا يعرف سوى هذه الطريقة.
• وكم نسمع من بعض الناصحين اضرب ولدك يصبح مؤدباً!
[اشخط .. أزعق .. زعّق .. كشر .. برطم .. ] ستكون النتيجة ولداً مهذباً صالحاً وهذا خطأ كبير في التربية فالتأديب بتعليق العصا ليراه أهل البيت من السنة ولكن أن يكون الوحيد فهذا أمر مرفوض.
• يجب أن تكون أساليب التربية مستفادة من الوحي العظيم الكتاب والسنة فهذه الشريعة جاءت بكل ما يصلح به البشر شؤونهم ، ومن تلك الأساليب المستقاة منها تربية الأبناء بل المجتمع بالقصة فالتربية بالقصة وتوصيل المعنى بالإحساس وتحقيق الهدف بالمثال من أفضل الأساليب وأكثرها نجاحاً وأنجعها نتيجة إن شاء الله.(5/7)
فنحن نجد بأن الموعظة بالقصة تكون مؤثرة وبليغة في نفس الطفل، وكلما كان القاصْ ذا أسلوب متميز جذاب؛ استطاع شد انتباه الطفل والتأثير فيه؛ وذلك لما للقصة من أثر في نفس قارئها أو سامعها، ولما تتميز به النفس البشرية من ميل إلى تتبع المواقف والأحداث رغبة في معرفة النهاية التي تختم بها أي قصة، وذلك في شوق ولهفة.
فممّا لا شكّ فيه أنّ القصة المحكمة الدقيقة تطرق السامع بشغف، وتنفذ إلى النفس البشرية بسهولة ويسر... ولذا كان الأسلوب القصصي أجدى نفعاً وأكثر فائدة؛ فالقصة أمر محبب للناس، وتترك أثرها في النفوس والمعهود حتى في حياة الطفولة أن يميلَ الطفل إلى سماع الحكاية، ويصغي إلى رواية القصة...
هذه الظاهرة الفطرية ينبغي للمربّين أن يفيدوا مِنها في مجالات التعليم خاصة وأن إعلامنا أجرم عندما جعل من العاهرة بطلة ومن العاهر بطلا، وإعلامنا أجرم كثيرا في حق أبنائنا فلم يترك عاهرة إلا وصورها وعقد معها لقاء.
لذلك لابد أن يربط الولد بأنبياء الله عز وجل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )(الأنعام: من الآية90) وبرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب: من الآية21)
وتربيتهم على ما كان عليه صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح
والقصة خير وسيلة للوصول إلى ذلك ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً ما يقص على أصحابه قصص السابقين للعظة والاعتبار وقد كان ما يحكيه مقدَّماً بقوله: " كان فيمن قبلكم " ثم يقص صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مسامعهم القصة وما انتهت إليه.
لقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمثل منهجاً ربانياً (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(لأعراف: من الآية176).
وتلك القصص كانت قصصاً تتميز بالواقعية والصدق، لأنها تهدف إلى تربية النفوس وتهذيبها، وليس لمجرد التسلية والإمتاع حيث كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يأخذون من كل قصة العظة والعبرة، كما يخرجون منها بدرس تربوي سلوكي مستفاد ينفعه وينفع من بعدهم في الدارين: في دار الدنيا والآخرة.
• ولكن هل الإعلام الموجه للطفل عموماً استفاد من هذا الأسلوب " التربية بالقصة " لتحصيل أسباب تربوية أم أنه إعلام هدّام أو سلبي على أقل وصف ؟ للأسف كثيرٌ منه سلبي فالقصص التي تعرض في أفلام الكرتون فيها محاذير ومنكرات عديدة منها :
1- قصص تثير الفزع والرعب والرهبة
القصص التي يغلب عليها طيف الفزع والرهبة، تترك في الذائقة اشتياقاً ممزوجاً بالجزع، وفي النفس جبناً وعقداً، وأمثال ذلك: قصص (أمناً الغولة، وقصص المردة، والعفاريت) هذه القصص تهدم الشخصية، وتقتل الحس الفكري لدى الطفل، ولا تؤسس الطفل الشجاع، ولكنها تؤسس الطفل الجبان المتخاذل، الذي يتملك الخوف من فرائسه.
فالطفل يظل معايش الفكرة حتى بعد الانصراف، من لحظة المعايشة الفكرية للقصة، يتخيل بالفعل أن هناك عفاريت تحاصره بالظلام، وأن هناك (أمنا الغولة عند البئر) إلخ...، ولو نظر كل منا لنفسه، لوجد أنه لا يزال يعيش بوجدانه قصصاً قرأها في صباه، فيجب أن نؤسس الطفل على الشجاعة، لكي نبني أمة شجاعة، لا أن نؤسس الطفل على الجبن فنبني أمة ضعيفة.
2- القصص الشعبية التي تحتوي على مواقف منافية للأخلاق:
وأمثلة ذلك: قصص (طرزان- وسوبرمان- والجاسوسية)، التي لا تحتوي على قيم إنسانية أو أخلاقية ، بقدر ما تمجد العنف كوسيلة لحل المشاكل، وتجعل القوة البدنية، هي العامل الأقوى في حسم المواقف.
مثال: طرح شخصية (طرزان)، الذي تربى بين الحيوانات، ولا يعرف وسيلة لحل مشاكله إلا بالقوة البدنية، هذه الفكرة تسقط سلوك الطفل العقلاني، إلى السلوك العدواني، دون استخدام العقل، فيجب طرح قصص تدرب الناشئة على حل المشاكل بإحلال العقل محل القوة.
3- قصص تثير العطف على قوى الشر أو تمجيدها:
القصص، التي تثير العطف على قوى الشر، وتمجده مثل انتصار الشر على الخير،.. الظالم على المظلوم...الشرير على الشرطي.
ويطرحونها بحجة أنهم يكشفون السلوك الخاطئ للطفل كمن يكذب على أولاده ثم يقول هذا كذب أبيض وفي الحقيقة الولد يتربى على الكذب فليس هناك كذب أبيض ولا أسود ، أما عن إثارة العطف على قوى الشر والانتصار له في النهاية قد تجعل الولد يسلك السلوك الخاطئ ، ليبقى ضمن طائفة الأقوياء المنتصرين.
مثال ذلك: (قصص الرجل الخارق، وسوبر مان، الرجل الحديدي ، جلاندايزر )
4- قصص تعيب الآخرين وتسخر منهم:(5/8)
القصص القائمة على السخرية من الآخرين وتدبير المقالب لهم وإيقاع الأذى بهم، منها السخرية من علة المعاق أو عيب خلقي في نطق البعض وتدبير المقالب للكبير مثلاً وإيقاع الأذى بالأعمى، بإيقاعه في فخ ما أو غيرها، دون تعظيم الأثر الواقع على المخطئ أو مدبر المقلب، ومن الأمثلة الشهيرة لهذا الفكر الخاطئ تربوياً: الأفلام المتحركة في قصة " توم وجيري " ، وهذه القصة رغم ما بلغته من شهرة جماهيرية لدى الأجيال إلا أنها فاسدة تربوياً، ترسِّب هذه الأفلام في وعي الطفل نمطاً سلوكياً خاطئاً، يقلده الطفل ويتمثل به ليحقق ذات المتعة والشقاوة الفكرية على من حوله، ويحس بالتفوق على الآخرين، وكذلك تلك الأفلام التي تسخر من الأسود وتؤدي إلى نبذ الجنس الآخر الأسود فهذا يرسب الضغينة والحقد في نفوس الأطفال، ويؤسس التفرقة والتشرذم لا الوحدة والتآلف.
فتلك مقتطفات من واقع القصص المقدمة للأطفال والتي كان يفترض أن تكون تربوية.
ربما يقول البعض إن القصص المناسب طرحها للأطفال قليلة وغير مفيدة وهذا كلام غير صحيح ففي الكتاب والسنة الكثير من القصص المفيد وكل قصص الكتاب والسنة مفيد.
فمن القصص المناسبة للأطفال والتي سنتاول بعضها:
1. قصة يونس في بطن الحوت
2. قصة أبي هريرة مع الشيطان
3. قصة خشبة المقترض
4. قصة الثلاثة أصحاب الغار
5. قصة أصحاب الأخدود
6. قصة أنس مع سر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
7. قصة عبد الله بن عمر مع الراعي .. " قل له أكلها الذئب "
8. قصة أم موسى
9. قصة عمر واللبن
10. قصة يوسف
11. قصة معاذ ومعوذ
12. قصة القُبّرة
13. قصة الجمل
14. قصة صاحبة الوشاح " ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا "
15. قصة ابن عمر والنخل.
وإليك بعضاً منها مع بيان لكيفية الاستفادة منها وتطبيقها على الواقع ؟
قصة الثلاثة أصحاب الغار
روى البخاري في صحيحه عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ فَقَالُوا إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ - شُرْب الْعَشِيّ - قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا ُ [َ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ - الصِّيَاح بِبُكَاء بسبب الجوع - عِنْدَ رِجْلَيَّ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ] حَتَّى بَرَقَ الْفَجْر فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوج.
َ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْآخَرُ اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ [ كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّي كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ ] فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنْ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي [فَقَالَتْ لَا تَنَالُ ذَلِكَ مِنْهَا حَتَّى تُعْطِيَهَا مِائَةَ دِينَارٍ فَسَعَيْتُ فِيهَا حَتَّى جَمَعْتُهَا ] فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ [قَالَتْ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ ] فَتَحَرَّجْتُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا [ فَقُمْتُ وَتَرَكْتُهَا] وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ [فَفَرَجَ عَنْهُمْ الثُّلُثَيْنِ ] غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا(5/9)
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ ( أَيْ : ثَمَنه) غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي فَقُلْتُ لَهُ كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئُ بِي فَقُلْتُ إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ .
الفوائد من هذه القصة :
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، قال قتادة : تقربوا إليه بطاعته ، والعمل بما يرضيه .
1- الأعمال الصالحة وقت الرخاء يستفيد منها الإنسان وقت الشدة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أحفظ الله يحفظك ، أحفظ الله تجده تجاهك ، تعرف إلى الله في الرخاء ، يعرفك في الشدة) .
2- يجب على المسلم أن يلجأ إلى الله وحده دائماً بالدعاء وخاصة حين نزول الشدائد ، ومن الشرك الأكبر دعاء الأموات الغائبين ، قال الله تعالى : (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ) - الظالمين : المشركين .
3- مشروعية التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة ، وهي نافعة ومفيدة ، ولا سيما عند الشدة ، وعدم مشروعية التوسل بالذوات والجاه .
4- حب الله مقدم على حب ما تهوى النفوس من الشهوات .
5- من ترك الزنى والفجور خوفاً من المولى نجاه الله من البلوى .
6- من حفظ حقوق العمال حفظه الله وقت الشدة ، ونجاه من المحنة .
7- الدعاء إلى الله مع التوسل بالعمل الصالح يفتت الصخور .
8- بر الوالدين وإكرامهما على الزوجة والأولاد .
9- حق الأجير يحفظ له ، ولا يجوز تأخيره ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) .
10- استحباب تنمية مال الأجير الذي ترك حقه ، وهو عمل جليل ، وهو من حق الأجير .
11- شرع من قبلنا هو شرع لنا إذا أخبر به الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على طريق المدح ، ولم يثبت نسخه ، وهذه القصة قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدح هؤلاء النفر الثلاثة لنقتدي بهم في عملهم .
12- طلب الإخلاص في العمل حيث قال كل واحد ( اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه) .
13- إثبات الوجه لله سبحانه من غير تشبيه ، قال الله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) .
قصة خشبة المقترض
وهذه قصة خشبة المقترض الأمين فلننظر كيف يمكن أن نربي أبنائنا على الأمانة ورد الأمانة من خلال سرد القصص ؟
روى البخاري رحمه الله في صحيحه : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ [في رِوَايَة أَبِي سَلَمَة " أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل كَانَ يُسْلِف النَّاس إِذَا أَتَاهُ الرَّجُل بِكَفِيلٍ " وفي رواية بها مجهول أنه النجاشي ]
فَقَالَ ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ فَقَالَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا قَالَ فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ قَالَ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا قَالَ صَدَقْتَ [ فَقَالَ " سُبْحَان اللَّه نَعَمْ " ] . رضي بكفالة الله, مما يدل على إيمان صاحب الدين , وثقته بالله عز وجل .
فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ [ أَيْ الْأَلْف دِينَار ] إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .
فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ [ وفِي رِوَايَة : فَرَكِبَ الرَّجُل الْبَحْر بِالْمَالِ يَتَّجِر فِيهِ فَقَدَّرَ اللَّه أَنْ حَلَّ الْأَجَل وَارْتَجَّ الْبَحْر بَيْنهمَا ]
ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا [ زَادَ فِي رِوَايَة أَبِي سَلَمَة " وَغَدَا رَبّ الْمَال إِلَى السَّاحِل يَسْأَل عَنْهُ وَيَقُول : اللَّهُمَّ اُخْلُفْنِي وَإِنَّمَا أَعْطَيْت لَك " ]
فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا [ أَيْ حَفَرَهَا , وَفِي رِوَايَة " فَنَجَرَ خَشَبَة " ] . فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ [ وجاء في حديث آخر " فَعَمِلَ تَابُوتًا وَجَعَلَ فِيهِ الْأَلْف ](5/10)
ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا [ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : أَيْ سَوَّى مَوْضِع النَّقْر وَأَصْلَحَهُ , وَهُوَ مِنْ تَزْجِيج الْحَوَاجِب وَهُوَ حَذْف زَوَائِد الشَّعْر , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَأْخُوذًا مِنْ الزُّجّ وَهُوَ النَّصْل كَأَنْ يَكُون النَّقْر فِي طَرَف الْخَشَبَة فَشَدَّ عَلَيْهِ زُجًّا لِيُمْسِكهُ وَيَحْفَظ مَا فِيهِ , وَقَالَ عِيَاض : مَعْنَاهُ سَمَّرَهَا بِمَسَامِير كَالزُّجِّ , أَوْ حَشَى شُقُوق لِصَاقهَا بِشَيْءٍ وَرَقَعَهُ بِالزُّجِّ , وَقَالَ اِبْن التِّين : مَعْنَاهُ أَصْلَحَ مَوْضِع النَّقْر ]
ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا [يعني كما جاء في رواية أخرى " اسْتَسْلَفْت مِنْ فُلَان " ] أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ [وفي رواية " فَرَضِيَ بِهِ " ]
وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ وَأَنِّي جَهَدْتُ
أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا [ وَزَادَ فِي حَدِيث " فَقَالَ اللَّهُمَّ أَدِّ حَمَالَتك "]
فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ [أَيْ دَخَلَتْ فِي الْبَحْر ]
رماها وهو واثق بالله , متوكل عليه , مطمئن أنه استودعها من لا تضيع عنده الودائع .
ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا [قَطَعَهَا بِالْمِنْشَارِ ] وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ( وَجَدَ الْمَال ) فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ " فَلَمَّا كَسَرَهَا " وَفِي رِوَايَة أَبِي سَلَمَة " وَغَدَا رَبّ الْمَال يَسْأَل عَنْ صَاحِبه كَمَا كَانَ يَسْأَل فَيَجِد الْخَشَبَة فَيَحْمِلهَا إِلَى أَهْله فَقَالَ : أَوْقِدُوا هَذِهِ , فَكَسَرُوهَا فَانْتَثَرَتْ الدَّنَانِير مِنْهَا وَالصَّحِيفَة , فَقَرَأَهَا وَعَرَفَ " .
قال صلى الله عليه وسلم : ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ قَالَ هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ قَالَ أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا .
قَوْله : ( وَانْصَرَفَ بِالْأَلْفِ الدِّينَار رَاشِدًا ) وفي حديث آخر " قَدْ أَدَّى اللَّه عَنْك , وَقَدْ بَلَغَنَا الْأَلْف فِي التَّابُوت , فَأَمْسِكْ عَلَيْك أَلْفك "
يعني لما تيسرت للمدين العودة إلى بلده ,جاء بسرعة إلى صاحب الدين , ومعه ألف دينار أخرى , خوفا منه أن تكون الألف الأولى لم تصل إليه , فبدأ يبين عذره وأسباب تأخره عن الموعد , فأخبره الدائن بأن الله عز وجل الذي جعله الرجل شاهده وكفيله , قد أدى عنه دينه في موعده المحدد .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَلَقَدْ رَأَيْتنَا عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْثُر مِرَاؤُنَا وَلَغَطنَا , أَيّهمَا آمَن " ؟
وَفِي الحديث من الفوائد:
• فَضْل التَّوَكُّل عَلَى اللَّه وَأَنَّ مَنْ صَحَّ تَوَكُّله تَكَفَّلَ اللَّه بِنَصْرِهِ وَعَوْنه .فما أحوج الإنسان في زمن طغت فيه المادة , وتعلق الناس فيه بالأسباب إلا من رحم الله, إلى أن يجدد في نفسه قضية الثقة بالله , والاعتماد عليه في قضاء الحوائج , وتفريج الكروب , فقد يتعلق العبد بالأسباب , ويركن إليها , وينسى مسبب الأسباب الذي بيده مقاليد الأمور , وخزائن السماوات والأرض , ولذلك نجد أن الله عز وجل يبين في كثير من المواضع في كتابه هذه القضية , كما في قوله تعالى : {وكفى بالله شهيدا} (الفتح 28) , وقوله : {وكفى بالله وكيلا } (الأحزاب 3) , وقوله : { أليس الله بكاف عبده } (الزمر 36) , كل ذلك من أجل ترسيخ هذا المعنى في النفوس , وعدم نسيانه في زحمة الحياة , وجاءتنا السنة بقصة هذين الرجلين من الأمم السابقة , اللذين ضربا أروع الأمثلة لهذا المعنى .
• إن هذه القصة تدل على عظيم لطف الله وحفظه , وكفايته لعبده إذا توكل عليه وفوض الأمر إليه , وأثر التوكل على الله في قضاء الحاجات , فالذي يجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه على الدوام , وفي جميع الأحوال , والله عز وجل عند ظن العبد به , فإن ظن به الخير كان الله له بكل خير أسرع , وإن ظن به غير ذلك فقد ظن بربه ظن السوء .
• إذا بلغ العبد الغاية من الزهد ، أخرجه ذلك إلى التوكل
فإذا اتكلت فكن بربك واثقاً لا ما تحصل عندك الموثوق(5/11)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا .
(...وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق:3)
قصة جرة الذهب
كما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشترى رجل من رجل عقاراً له (أرضاً) فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب !!
المشتري (للبائع) : خذ ذهبك مني ، إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أشتر منك الذهب !!
البائع (ممتنعاً) : إنما بعتك الأرض وما فيها . – يحتكمان إلى رجل - .
الحكم : ألكما ولد ؟
أحدهما : لي غلام .
الآخر : لي جارية .
الحكم : أنحكوا (زوجوا) الغلام للجارية وأنفقوا عن أنفسكما منه ، وتصدقا .
من فوائد القصة
1- أداء الأمانة مطلوب لقول الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) .
2- القناعة كنز لا يفنى تعود بالخير والبركة على صاحبها .
3- مشروعية الاحتكام إلى عالم بالكتاب والسنة ، دون الذهاب إلى المحاكم المدنية التي تضيع الأموال والأوقات عملاً بقول الله تعالى : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)
4- من رضي بما أعطاه الله كان من أغنى الناس لقوله صلى الله عليه وسلم :-
أ- (وأرضَ بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس) .
ب- ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس .
5- الرزق مقسوم ، لا بد أن يصل إليك في وقته ومقداره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت) قال الشيخ الألباني رحمه الله: رواه الطبراني في الأوسط والصغير بإسناد حسن.
6- على المسلم أن يقنع بالحلال ، ويترك الحرام والطمع فيما ليس له ، ويأخذ بالأسباب المشروعة للرزق ، وأن العمل الصالح يكفل له السعادة في الدنيا والآخرة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا الله وأحملوا في الطلب) .
7- الحكم العادل يرضي المحتكمين .
8- عدم الطمع فيما ليس للإنسان .
كيف نربي أبنائنا على مراقبة الله وأن الله معنا ويراقبنا ؟
قصة ابن عمر والراعي :
ذكر هذه القصة ابن الجوزي رحمه الله في صفة الصفوة ( 2 / 188 )
قال نافع : خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له فوضعوا سفرة فمر بهم راع
فقال له عبد الله : هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة.
فقال : إني صائم
فقال له عبد الله : في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت في هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم
فقال الراعي : أبادر أيامي الخالية فعجب ابن عمر
وقال : هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها ونطعمك من لحمها ما تقطر عليه وتعطيك ثمنها
قال : إنها ليست لي إنها لمولاي
قال : فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب ...؟ !
فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول فأين الله ؟؟؟
قال : فلم يزل ابن عمر يقول : قال : الراعي فأين الله
فما عدا أن قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم رحمه الله
صفة الصفوة ( 2 / 188)
فهذه القصة احتوت على كثير من الفوائد والعبر منها :
الحث على الكرم فعبد الله بن عمر لم يستأثر بالسفرة مع أصحابه دون الراعي وقد مر بهم بل دعاه ليأكل معهم وهكذا فإن الولد الكريم إذا أحضر طعاماً إلى المدرسة أو الرحلة فإنه يضيّف أصحابه ويعرض عليهم مشاركته فيه
وكذلك الصيام وأن الراعي على الرغم من أنه يعمل عملاً شاقاً وفي يوم حار لكنه يحتسب ذلك ليوم الحساب والجزاء
وكيف أن ابن عمر رضي الله عنهما أحب أن يختبر أمانة الراعي فأعجبه جوابه وقيل أنه بكى لقول الراعي وهو رافع إصبعيه إلى السماء فأين الله
وهنا درس عظيم الآخر وهو تنمية الصلة بالله وخشيته في الغيب والشهادة وغرس روح المراقبة في النفوس كالشاعر الذي قال :
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
ونفس الغرض الذي أراده ابن السّماك:
يا مدمن الذنب أما تستحي واللهُ في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا
وفي القصة العاقبة الحميدة لمن نال هذه الصفات فالراعي الذي سمعنا عنه في هذه القصة كان عاملاً يأكل من تعب يده برعي الغنم وكان مع ذلك عابداً يصوم في النهار حتى في الأيام الحارة وكان أميناً في عمله يراقب الله عز وجل في نفسه وأن مطلع عليه فصلته بالله قوية ولذلك رفض المكسب الحرام مع أنه قادر عليه ومتمكن منه ولم يستغل عمله وأمانته ولم يسرق منها فأعقبه الله الحسنى فعندما رأى عبد الله بن عمر تلك الصفات أعتقه واشترى له الغنم ووهبه له
فمن عبد يرعى غنم صاحبه إلى حر يملك حلالاً كثيراً
وإنه سنة عظمية يجب تربية الأبناء عليها (( من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ))(5/12)
إنها قاعدة لو شربها أطفالنا منذ الصغر لجنبتهم الكثير من الحرام والمنكرات في الكبر
تربية الأبناء على تجنب الغش وتحريمه ؟
لما نهى عمر رضي الله عنه في خلافته عن خلط اللبن بالماء وخرج ذات ليلة في حواشي المدينة وأسند ظهره إلى جدار ليرتاح فإذا بامرأة تقول لابنتها إلا تمذقين اللبن بالماء فقالت الجارية كيف أمذق وقد نهى أمير المؤمنين عن المذق فقالت الأم فما يدري أمير المؤمنين , فقالت الجارية إن كان عمر لا يعلمه فإله عمر يعلم ما كنت لأفعله وقد نهى عنه.
فوقعت مقالتها من عمر فما أصبح دعا عاصماً ابنه فوصفها له ومكانها وقال اذهب يا بني فتزوجها فتزوجها عاصم بن عمر فولدت له بنتاً فتزوجها عبد العزيز بن مروان بن الحكم فأتت بعمر بن عبد العزيز.
ومن فوائد تلك القصة :
1- أن ما أثبته القرآن والسنة من الكتب السابقة نثبته أما خلافه فلا نصدقه ولا نكذبه إذا لم عرض النصوص .
2- اجتهاد السلف في تربية أبنائهم .
3- استشعار مراقبة الله في السر والعلن .
4- عدم التحرج من تقديم النصيحة للوالدين .
5- اختيار الزوج والزوجة الصالحة للبنت والابن .
قصة صاحبة الوشاح
" ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا "
كيف نربي الأطفال على تجنب الظلم ؟
روى البخاري - رحمه الله تعالى- عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: [أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب، وكان لها حفش في المسجد - الحفش: هو البيت الصغير الضيق(1).- قالت: فكانت تأتينا فتحدث عندنا، فإذا فرغت من حديثها قالت:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنَّه من بلدة الكفر نجاني
فلما أكثرت قالت لها عائشة: وما يوم الوشاح؟! قالت: خرجت جويرية لبعض أهلي وعليها وشاح من أدم، فسقط منها، فانحطت عليه الحديَّا وهي تحسبه لحماً، فأخذته. فاتهموني به، - أي بسرقة الوشاح- فعذبوني حتى بلغ من أمري أنهم طلبوا في قبلي، وبينما هم حولي وأنا في كربي إذ أقبلت الحديَّا حتى وازت(2) برؤوسنا، ثم ألقته فأخذوه، فقلت لهم: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة ] (3).
ما يؤخذ من القصة:
وَفِي الحديث من الفوائد الْخُرُوج مِنْ الْبَلَد الَّذِي يَحْصُل لِلْمَرْءِ فِيهِ الْمِحْنَة , وَلَعَلَّهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى مَا هُوَ خَيْر لَهُ كَمَا وَقَعَ لِهَذِهِ الْمَرْأَة . وَفِيهِ إِجَابَة دَعْوَة الْمَظْلُوم وَلَوْ كَانَ كَافِرًا ; لِأَنَّ فِي السِّيَاق أَنَّ إِسْلَامهَا كَانَ بَعْد قُدُومهَا الْمَدِينَة .
1. استجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً؛ لأن المرأة ما أسلمت إلا بعد قدومها إلى المدينة.
2. الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه المحنة ؛ فلعله يتحول إلى ما هو خير منه؛ كما وقع لهذه المرأة وكما أخبر الله: ((ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة))(4) إرغاماً لأنوف الذين اضطهدوه، وسعة له في الرزق.
3. الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
إباحة المبيت والقيلولة في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة بشرط أمن الفتنة، وإباحة الاستظلال في المسجد بخيمة ونحوها.
قصة أبي هريرة مع الشيطان
كيف نعلم أولادنا التوقي من الشيطان والتعود على الأذكار ؟
قال البخاري رحمه الله ( باب الوكالة ):(5/13)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ قَالَ فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ سَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ لَا أَعُودُ فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ قَالَ دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا قُلْتُ مَا هُوَ قَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ مَا هِيَ قُلْتُ قَالَ لِي إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَقَالَ لِي لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لَا قَالَ ذَاكَ شَيْطَانٌ.
وفي رواية انه كان على تمر الصدقة أبو هريرة فوجد أثر كف كأنه أخذ منه وقوله من الطعام المراد منه البر ونحوه مما يزكى به.
قوله: ( لأرفعنك ) أي لأذهبن بك أشكوك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليقطع يدك لأنك سارق.
وقوله: (أني محتاج ولي عيال) يعني فقير في نفسي ولي عيال أظهر حاجة أخرى ثم قال مؤكداً حاجته ولي حاجة شديدة يعني زائدة صعبة كدين أو جوع مهلك ونحو ذلك هذا تأكيد بعد تأكيد.
وقوله: (لا يزال عليك من الله حافظ ) يعني لا يزال من عند الله أو أمر الله حافظ من قدرته سبحانه أو من الملائكة لا يقربك شيطان لا إنسي ولا جني لا يقربك شيطان في أمر ديني ولا دنيوي ودليله صلى الله عليه وسلم عندما قال له صدقك أي في تعليمه لك وهو كذوب أي في سائر أقواله لأن هذه عادة الشيطان.
وهكذا وجدنا أيها الأخوة والأخوات حلقة من حلقات الصراع بين المسلم والشيطان وقد حصل لعدد من الصحابة مواقف مثل موقف أبي هريرة رضي الله عنه وهذه الوقائع والقصص لها مدلولات كثيرة منها:
1- أن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن.
2- أن الحكمة قد يعلمها الفاجر لكنه لا ينتفع بها لأنه لا يعمل بها لكن تؤخذ عنه.
3- أن الشخص قد يعلم شيئا ولا ينتفع به (يعلم بالشيء ولا يعمل به )
4- أن الشيطان قد يَصدق وقد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن ومع ذلك لا يكون مؤمنا.
5- أن الكذاب قد يصدق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (صدقك وهو كذوب )
6- أن عادة الشيطان الكذب الغالب على الشيطان الكذب وأنه نادرا ما يصدق وكذوب صيغه مبالغه(5/14)
7- للشيطان قد يتصور في صورة يمكن للإنسي أن يراه لان الله يقول في كتابه (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ..) (لأعراف:27) فالشيطان ومن هم من شاكلته من الشياطين يمكنهم أن يرونكم وانتم لا ترونهم فقال الله من حيث لا ترونهم فكيف رآهم أبو هريرة والصحابة؟؟ لما تصور بصورة أخرى غير الصورة التي خلق عليها فيمكننا رؤيته فإذا كان بشكله الحقيقي لا يمكن أن نراه
8- والشخص الذي يقام بحفظ الأشياء يسمى وكيلا يوكل بحفظ الصدقة وعليه الاهتمام بها وصيانتها.
9- أن الجن يأكلون من طعام الإنس وقول الله تعالى ( وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ ..) (الاسراء:64) فيدخل الطعام في الأموال فإذا أردت أن لا يشارككم الشيطان في الطعام فسم بالله عند الطعام وغط الإناء و قل بسم الله لان الشيطان يأكل من الإناء المفتوح ويشرب من الإناء المفتوح فالفائدة من تغطيته والتسمية هو منع الشيطان منه وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (ولو أن تعرض عليه عودا وتسم بالله) فلو وضعت عودا بدلا من الغطاء وقلت بسم الله لا يستطيع الشيطان أن يأكل أو يشرب منه وكذلك أيضا يفيد في منع نزول الداء من السماء فإن في السنة ليلة ينزل بها الداء كما أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فهذا شي غيبي فإذا غطيت الإناء لم ينزل الداء إذا الفائدة من تغطية الإناء:
• منع نزول الداء
• منع الشيطان أن يشركك في مطعومك ومشروبك
10- فاسم الله أيضا يمنع الشيطان من النظر إليك فإذا أراد الإنسان أن يخلع ثيابه أو أن يأتي الرجل أهله فما هو الحل أفنبقى نحن نهباً لأعين الجن يرون عوراتنا؟؟ لا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الرجل إذا أراد أن يخلع ثيابه فسم الله فان الشيطان لا يستطيع أن ينظر إلى عورته.وكذلك بسم الله تمنع الشيطان من مشاركه في الأولاد فانه ورد في تفسير قوله ( وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ ..) أن الشيطان يشارك الإنسان في وطئ زوجته فإذا قلت بسم الله قبل الجماع منعت الشيطان من المشاركة .
11- أن الجن يسرقون و يتكلمون بكلام الأنس كلام تسمعه وباللغة التي عليها الرجل حدثوا أن أبا علقم النحوي وكان رجلا متقعرا في الكلام أنه كان مرة يمشي في الطريق فأصابه شي فسقط فتجمع عليه أهل السوق واحد يعصر إبهامه وواحد يقرأ في أذنه وواحد يؤذن في الأذن الأخرى فقال : ما لكم تكأكأتم علي كتكأكؤكم على ذو جنة افرنقعوا عني فقالوا: شيطانه يتكلم بالفارسية أو الهندية فقوله تكأكأتم علي كتكأكؤكم أي تجمعتم علي كتجمعكم على ذو جنة أي كمن دخل عليه جني و افرنقعوا عني أي انفضوا من حولي .
12- أن الجن يسرقون ويخدعون كما في قوله لا أعود فعاد
13- فضل آية الكرسي ومن الروايات الأخرى يؤخذ فضل آخر سورة البقرة
14- أن السارق لا يقطع في المجاعة
15- قبول العذر والستر على من يظن به الصدق
16- إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على المغيبات
17- جواز جمع زكاة الفطر قبل ليلة الفطر لتفريقها بعد ذلك
18- أن زكاة الفطر تخرج طعاما
19- يقين الصحابة بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وتصديقهم به
20- قراءة آية الكرسي قبل النوم
21- أن التشريع على كلام الشيطان أتى من الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال :صدقك وليس التشريع من كلام الشيطان .
22- أن آية الكرسي تمنع شياطين الجن والإنس سواء أكان في الأمور الدينية أو الدنيوية (لا يقربنك شيطان حتى تصبح ) والشيطان هنا نكرة
23- كرامة الله لأبي هريرة عندما استطاع أن يلقي القبض على الشيطان أي لم يستطع الشيطان أن يفلت منه ففيه إن المؤمن قوي الإيمان يستطيع أن يمسك الشيطان ولا يمكنه من الهروب وذكر ابن القيم في فوائد الذكر انه ربما من كثرة ذكر المؤمن لله عز وجل ربما أن يقرب منه الشيطان ليمسه بسوء فيصرع الشيطان فتجتمع عليه الشياطين فيقولون ما به فيقولون صرعه الإنسي.
24- أن ذكر الله تعالى هو الذي يحمي المؤمن من الشيطان وعلى رأس الذكر القرآن وأفضل آية في القران هي آية الكرسي
25- أن الإنسان إذا كان صاحب حاجة يجب أن يبين حاجته حتى يعرف عذره ولا يرتاب في أمره
26- رفع الشأن المهم إلى العلماء (وكانوا أبو هريرة رضي الله عنه لأرفعنك إلى رسول الله عليه وسلم
27- حرص أبي هريرة على العلم (وكانوا احرص شي إلى العلم) فأطلق سراحه لأجل الفائدة فهم يحرصون على العلم
28- يمكن أن يثور اعتراض وهو كيف استطاع أبو هريرة أن يمسك الشيطان لان الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع عن إمساكه لدعوة سلمان (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ..) (صّ:35) (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ) (صّ:36) (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) (صّ:37) فكيف امسك أبو هريرة بالشيطان الذي رآه وأراد حمله للنبي عليه السلام ؟؟(5/15)
أجاب الحافظ بن حجر على هذا الإشكال بأن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن يمسك بالشيطان الأكبر رأس الشياطين فعند ذلك يكون فيه مضاهاه لما حدث لسليمان أما الشيطان الذي في حديث الباب إما أن يكون الشيطان الذي مع الصحابي (لكل إنسان شيطان ) أو أن يكون شيطان من الشياطين وليس رأس الشياطين.فإن قال قائل ما هي الميزة التي موجودة في آية الكرسي حتى تمنع الشياطين من إيذائنا ؟؟
آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الصحابي وأن هذه الآية إذا قرأها المؤمن في دبر كل صلاة لم يمنعه من الدخول إلى الجنة إلا أن يموت كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح الذي رواه النسائي رحمه الله وغيره فآية الكرسي تقرأ قبل النوم وفي أدبار الصلوات من أسباب فضلها :
• اشتمالها على الاسم الأعظم (الله لا اله إلا هو الحي القيوم ) في البقرة وال عمران وطه وعلت في وجوه الحي القيوم على بعض الأقوال على احتمال أنها الاسم الأعظم
• هذه الآية هي عشر جمل مستقلة(اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) متفرد الألوهية ( الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الحي في نفسه لا يموت أبدا القيوم : القيم لغيره ومن آياته أن تقوم السماء بأمره كل الموجودات لا قوام لها بدون الله عز وجل ولا غنى لها من الله وكل الموجودات مفتقرة إلى الله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْم) لا يعتريه سبحانه لا غفلة ولا ذهون ولا نعاس ولا استيقاظ من النوم ولا فقدان الوعي ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض) الجميع عبيده وتحت قهره وفي ملكه ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) لا يتجافى احد أن يشفع احد لأحد عند الله إلا إذا أذن الله لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لكي يشفع لابد له من أن يستأذن وإذا أراد أن يستأذن يوم القيامة يأتي تحت العرش فيخر ساجدا ما شاء الله له أن يسجد فيعلمه من المحامد ما يفتح عليه من الثناء بعد ذلك يقول الله يا محمد ارفع رأسك وسل تعطى واشفع تشفع فسيد القوم لا يشفع حتى يؤذن له( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) احاطته سبحانه وتعالى بجميع المخلوقات ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) لا يطلع على علم الله احد إلا أحد أطلعه الله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) والكرسي موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى والعرش لا يقدر قدره إلا الله والكرسي عظيم جدا في غاية الاتساع فالسماوات والأرض ليست إلا كحلقة في صحراء فهذا هو الكرسي فكيف العرش وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في صحراء والله أكبر من الكرسي ومن السماوات والأرض فاستوى على العرش استواء يليق بعظمته وجلاله ( وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض وما فيها من الجن والإنس والملائكة وهو يسير على الله سبحانه وتعالى (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255) كقوله تعالى وهو الكبير المتعال وتبين آية الكرسي عظم الله تعالى .
ما هي الوسائل التي نحذر بها من الشيطان ؟؟
- الحذر والحيطة واخذ التأهب
- الاعتصام والالتزام بالكتاب والسنة
- الالتجاء والاحتماء بالله تعالى (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (المؤمنون)
- الإستعاذه بالله
- الاشتغال بذكر الله تعالى
- أن يلتزم الإنسان بالصحبة الصالحة
- مخالفة الشيطان في كل الأمور
- الاستغفار
__________________
(1) انظر فتح الباري (7/186) ط: دار الريان للتراث. والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1/407) ط: دار الفكر.
(2) وازت: أي قابلت.
(3) أخرجه البخاري - الفتح - رقم (3835).
(4) النساء: 100.
المصدر : موقع المختار الإسلامي
===============
أهل الذمة والولايات السياسية
(1/2)
محمد بن شاكر الشريف
مقدمة:(5/16)
منذ عقود مضت بل منذ القرون الأخيرة-التي ظهر فيها ضعف المسلمين، حيث ركنوا إلى الحياة الدنيا وابتعدوا عما أراده الله منهم-أُهملت بعض الأحكام الشرعية وهُجر العمل بها، ومن تلك الأحكام المهجورة الأحكام المتعلقة بأهل الذمة، لكن على رغم ذلكم الضعف وذلكم الإهمال لم يكن هذا إلا في الجانب العملي التطبيقي، أما الجانب الفقهي النظري فقد ظلت تلك الأحكام محفوظة مدونة في كتب أهل العلم، تدرس بعض موضوعاتها للطلاب ومن طلبها وجدها، أما اليوم وفي ظل حالة الضعف الشديدة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، وفي ظل ظهور الكفر وأهله وعلوهم في الأرض بالباطل، فإنه يراد لهذه الأحكام أن تُهجر فكريا ونظريا كما هجرت عمليا وتطبيقيا، فبدأت حملة تغيير المناهج في بلاد المسلين، وحذف الموضوعات التي تتعلق بتلك الأمور، وإفساد دلالة الأدلة عليها بالتحريف لها، ووجدنا من يسارع ممن ينتسبون إلى الإسلام-إما أفرادا وإما جماعات-من يوافق على هذا، بل يؤلف ويكتب فيه الكتب والمقالات داعيا وناشرا لذلك بين الناس، فوجدنا من يقول عن أهل الذمة: مواطنون لا ذميون، ويجعل ذلك عنوانا لرفض الأحكام الشرعية المتعلقة بأهل الذمة بعبارة مقبولة عند العامة، ويسوغ ذلك بأن تلك الأحكام كانت وقتية وواقعية مرتبطة بواقع الصراع بين المسلمين وأهل الكتاب عند بداية الدعوة-وهذا من تحريف الكلم-ووجدنا من يتبعه ممن يقول: إن المواطنة التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة، وبدأت سلسلة التنازلات شيئا فشيئا فبعد أن أعلنت بعض الجماعات الإسلامية-على لسان أحد المسئولين فيها-أن لأهل الذمة أن يتولوا المناصب كلها في الدولة الإسلامية من وزراء ومستشارين، باستثناء رئاسة الدولة، ثم عادت تلك الجماعة بعد أكثر من عقد من الزمان على لسان أحد المسئولين فيها أيضا لتقول: لا مانع من أن يكون على رأس الدولة الإسلامية التي تنشدها شخص قبطي، وهكذا تتوالى التنازلات، ابتغاء تحقيق حلم هو في عداد الأوهام، قال الله تعالى: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، فمن رام رضوان اليهود والنصارى عليه وهو يخالفهم ولا يتبعهم فهو واهم، كما قال الطبري:"والعداوة على الدين، العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما"[1]، لكنهم إذا رضوا عنه فهذا يعني موافقته لهم، أو أنه يحقق أهدافهم وطموحاتهم، وهو بذلك يكون قد أضر بدينه وأغضب الله عليه.
ما المراد بأهل الذمة؟
أهل الذمة هم الكفار الذين أبوا الدخول في دين الإسلام، لكنهم رغبوا في البقاء في دار الإسلام والتمتع بحماية المسلمين لهم في دينهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، سواء كانوا من أهل تلك البلاد المفتوحة، أو قدموا من ديار الكفر راغبين في ذلك بناء على عقد يعقد بينهم وبين دولة المسلمين يعرف بعقد الذمة[2]،حيث يرتب هذا العقد حقوقا وواجبات على الطرفين ينبغي الوفاء بها من كليهما.
ويدخل في هؤلاء الذين يجوز أن يعقد لهم عقد الذمة: أهل الكتاب اليهود والنصارى، ويلحق بهم في ذلك المجوس عبدة النيران، قد ثبتت النصوص بذلك وانعقد عليه الإجماع ، أما من عداهم من عبدة الأوثان فقد اختلف أهل العلم بشأنهم: هل يجوز أن تعقد لهم الذمة أم ليس أمامهم إلا الإسلام أو الحرب؟، وقد رجح طائفة من أهل العلم دخول عبدة الأوثان فيمن يجوز أن تعقد لهم الذمة[3]، وهو الذي يعضده الدليل على ما تبين في حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعا وفيه: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، إلى أن يقول: فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"[4]، فعلق الحكم بلفظ المشركين وعمم ولم يستثن من ذلك مشركا من المشركين.
والذمة: الأمان والعهد، فعقد الذمة أي عقد الأمان الذي تمنحه الدولة لأهل ذمتها، وتتعهد بمقتضاه بحمايتهم وتأمينهم، وبه أحكام تفصيلية كثيرة ، لكن أظهر ما فيه وأجمعه هو: قبول الكفار بجريان أحكام المسلمين عليهم في الشأن العام، مع التزام دفع الجزية، التي هي مبلغ مالي مُقدر من قبل الدولة، يعبر عن قبولهم بعقد الذمة والتزامهم به وخضوعهم لأحكامه، وفي مقابل ذلك يأمن الذميون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، لا يُقرب شيء من ذلك إلا بالحق الذي بينه الله تعالى قال الله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
معاملة المسلمين لأهل الذمة:(5/17)
ولقد عُومل أهل الكتاب على مدار التاريخ الإسلامي معاملة عادلة من المسلمين، لا وكس فيها ولا شطط، شهد بذلك مؤرخوهم ومفكروهم، فهذا عمر رضي الله تعالى عنه وهو على فراش الموت، يقول قولته المشهورة وهو يوصي من يتولى أمور المسلمين بعده: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم: أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يُقاتل مِن ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم"[5]، فهم ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، يجب الوفاء بما عوهدوا عليه، وأن لا يُنتقص منه شيء، وأن يُدافع عنهم ضد أي اعتداء، وأن لا يكلفوا من الأعمال فوق طاقتهم، وقد ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا كبيرا يسأل الناس فلما علم أنه من أهل الذمة وأنه يسأل من أجل الفقر الذي به، ولكي يدفع الجزية المطلوبة منه، وضع عنه عمر الجزية، وأعطاه شيئا من عنده، وقال: ما أنصفناه إن أخذنا منه وقت شبابه وقوته على الكسب، ثم نتخلى عنه عند ضعفه وعدم قدرته على التكسب[6].
وانظر موقف ابن تيمية رحمه الله تعالى عندما ذهب لملك التتر يفاوضه على الإفراج عن الأسرى فأعطاه ملك التتر الأسرى من المسلمين، فأبي الشيخ إلا أن يفرج عن أهل الذمة أيضا؛ لأنهم ذمة المسلمين، واستنقاذهم من بين يدي الأعداء واجب المسلمين.
قال ابن الأزرق فيما نقله عن القرافي: "وقد حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له، أن من كان في الذمة، وقصده العدو في بلادنا، وجب الخروج لقتالهم، حتى نموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن تسليمه إهمال لعقد تلك الذمة انتهى ملخصا "[7]، وعقد الذمة عقد مؤبد ويكتسب قوته من أمر الله تعالى للمسلمين بالوفاء بالعقود، قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود".
ولا تعني المعاملة العادلة أن يعطى أهل الذمة ما لم تعطه لهم النصوص الشرعية، فإن ذلك وإن كان فيه تفضل عليهم بما ليس لهم، لكنه من الناحية الثانية فيه ظلم للمسلمين بإعطاء بعض من حقوقهم لغيرهم، ومن ذلك الولايات السياسية، وهو موضوع الفقرة التالية.
الولايات السياسية:
لولاية أمر المسلمين من حيث العموم والخصوص أربع صور:
الصورة الأولى: من يكون عام الولاية عام العمل كالخليفة والملك والسلطان والرئيس فولايته عامة تشمل الرقعة الإسلامية كلها، ونظره وعمله في الأمور جميعها.
والصورة الثَّانِية: من يكون خاص الولاية عام العمل، كولاة الْأَقَالِيمِ وَأمراء الْبُلْدَانِ، فولايته محدودة بحدود إقليمه، ونظره عام في كل أمره
وَالْصورة الثالثةُ: من يكون عام الولاية خاص العمل، كالقائد الأعلى للجيش، وكرئيس القضاة الأعلى، وَحَامِي الثُّغُورِ وَمُسْتَوْفِي الْخَرَاجِ وَجَابِي الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تعم ولايته الرقعة الإسلامية كلها، ولكنها خاصة في عمل معين
وَالصورة الرَّابِعُة: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ، وَهُمْ كَقَاضِي بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ أَوْ جَابِي صَدَقَاتِهِ، أَوْ حَامِي ثَغْرِهِ أَوْ نَقِيبِ جُنْدٍ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ولايته خاصة برقعة محدودة، ونظره محدد بعمل مَخْصُوصُ، وكل هذه الأمور فيها عز النفس وعلو اليد، واطلاع على أسرار المسلمين ودواخل أمورهم، فلذا لا يجوز أن يتولاها غير المسلمين الأمناء على دينهم وديارهم[8].
وذلك أن الدولة الإسلامية دولة ذات عقيدة ولها رسالة، ورسالتها ليست قاصرة على توفير الرفاهية ورغد العيش في الحياة الدنيا لأفرادها، وإنما هي مكلفة بالعمل وفق هذه العقيدة، وتبليغ تلك الرسالة إلى كل من يمكن أن تصل إليهم؛ رحمة بهم وشفقة عليهم ورغبة في إخراج من شاء الله منهم من الظلمات إلى النور، وهذا يتطلب جهدا كبيرا وبذلا عظيما مع ما تحتاج إليه الدولة من الجهاد في سبيل الله لبلوغ هذه الغاية، وهذا يعني أنه لا يقوم بهذه المهمة ولا يقدر على ذلك إلا من هو مؤمن بهذه الرسالة معتقد لها، مستعد للبذل والعطاء في سبيلها، يرى في نشرها وتبليغها الفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة، لذا كان من الأمور المنطقية ألا يقوم على هذه الدولة إلا المؤمنون برسالتها، ومن هنا يتبين أن ولي الأمر لا يجوز أن يكون ممن لا يؤمنون بهذه الرسالة.(5/18)
وتكليف أهل الذمة بتولي الأمر، يعني أحد أمرين: إما تكليفهم بالعمل والسعي في نصرة ما يناقض أو يخالف دينهم أو عقيدتهم وهذا يعد إكراها لهم، وإما التفريط في رسالة الدولة وإضاعتها، وكلا الأمرين غير مقبول، يقول محمد أسد رحمه الله :" إننا يجب ألا نتعامى عن الحقائق، فنحن لا نتوقع من شخص غير مسلم مهما كان نزيها مخلصا وفيا محبا لبلاده متفانيا في خدمة مواطنيه، أن يعمل من صميم فؤاده لتحقيق الأهداف [الايديولوجية] للإسلام، وذلك بسبب عوامل نفسية محضة لا نستطيع أن نتجاهلها، إنني أذهب إلى حد القول أنه ليس من الإنصاف أن نطلب منه ذلك، ليس هناك في الوجود نظام [أيديولوجي] سواء قام على أساس الدين أو غير ذلك من الأسس الفكرية من أي نوعٍ يمكن أن يرضى بأن يضع مقاليد أموره في يد شخص لا يعتنق الفكرة التي يقوم عليها هذا النظام"[9]
وقد ورد النهي عن تمكين الكفار (أهل الذمة وغيرهم) من ولاية أمر المسلمين على أي صورة كان ذلك، وفي ذلك أدلة كثيرة فمنها:
1-النهي عن توليهم واتخاذهم أولياء:
قد تعددت النصوص الشرعية الواردة في ذلك في مواضع عدة من القرآن وفي مواقف مختلفة، وتنوعت أساليبها، فمرة تنهي عن اتخاذهم أولياء، وأخرى تبين أن الكفار بعضهم أولياء بعض، وثالثة تحصر موالاة المؤمنين في المؤمنين فلا تتعداها لغيرهم، وقد تنوعت النصوص الزاجرة عن مخالفة ذلك في بيان العقوبات المترتبة على المخالفة.
والموالاة المنهي عنها ليست عملا قلبيا فقط، بل منها القلبي ومنها العملي، وكلاهما منهي عنه ومحرم على المؤمنين، وبعضه أشد جرما ومعصية من بعض.
فمن الموالاة العملية: التحالف والنصرة، والركون، والمعونة، والمظاهرة.
ومن الموالاة القلبية: المحبة لهم وركون القلب إليهم والأنس بهم والمودة لهم، حتى وإن كان الواد المحب لا يوافقهم على دينهم، كما قال تعالى: "لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة" وإذا كان المؤمنون منهيين عن مودة الكافرين والركون إليهم، فهل يقوم بعد هذا في تصور إنسان يعقل ويدري ما يقول ويخرج من رأسه أنه يجوز أن تقر الشريعة ولاية أهل الذمة للمسلمين؟
فالنصوص التي تنهى عن اتخاذهم حلفاء أو الانتصار بهم، تنهى من باب أولى عن توليتهم للإمارة أو دخولهم فيمن يسندها لمن يستحقها من المسلمين، فإن هذا من أعظم الموالاة.
وقد وردت في ذلك آيات متعددة، وأهل العلم في تفسيرهم لآية من هذه الآيات يوردون الآيات الأخر، وذلك دليل على أنها كلها تدل على المعنى نفسه :
فمن النصوص الواردة في المسألة قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [ المائدة:51]
قال ابن جرير الطبري رجمه الله تعالى في تفسيرها: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهَىَ المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان"[10]
وفي تفسيرها أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عِيَاضٍ، أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى فِي أَدِيمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ لَهُ كَاتِبٌ نَصْرَانِيٌّ، فَرَفَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَعَجِبَ عُمَرُ ، وَقَالَ:"إِنَّ هَذَا الَحَفِيظٌ هَلْ أَنْتَ قَارِئٌ لَنَا كِتَابًا فِيَ الْمَسْجِدِ جَاءَ مِنَ الشَّامِ؟"فَقَالَ: إِنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ، قَالَ عُمَرُ:"أَجُنُبٌ هُوَ؟"قَالَ: لا بَلْ نَصْرَانِيٌّ، قَالَ: فَانْتَهَرَنِي وَضَرَبَ فَخِذِي، قَالَ: "أَخْرِجُوهُ، ثُمَّ قَرَأَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"[11]، وروى ابن أبي حاتم أيضا بسنده قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ: "لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ، يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَهُوَ لا يَشْعُرُ"، قَالَ: فَظَنَنَّاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الآيَةَ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"[12].(5/19)
وقال الجصاص الحنفي في تفسير قوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون: "فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الصَّغَارِ الَّذِي أَلْبَسَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِكُفْرِهِمْ؛ وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } الْآيَةَ، وَقَالَ :[لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] فَنَهَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَإِكْرَامِهِمْ وَأَمَرَ بِإِهَانَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، وَنَهَى عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعِزِّ، وَعُلُوِّ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى يَنْهَاهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي كِتَابَتِهِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى: [ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ][13]
قال ابن العربي المالكي: "لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيًّا فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ، وَلَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ"[14]
وقال ابن كثير الشافعي رحمه الله تعالى: "ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: [وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ]"[15]، ثم أورد أثري ابن أبي حاتم السابقين.
وقال الرازي: "روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً، فقال: مالك قاتلك الله؟، ألا اتخذت حنيفاً، أما سمعت قول الله تعالى: [يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء] قلت: له دينه ولي كتابته، فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله، قلت: لا يتم أمر البصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعني هب أنه قد مات فما تصنع بعده؟، فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره"[16]
وقال النسفي: "أي لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين"[17].
وقد ورد بمعنى الآية المتقدمة قوله تعالى: [لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِير]، قال ابن كثير في تفسيرها: "نهى الله-تبارك وتعالى-عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ] أي: من يرتكب نهى الله في هذا فقد برئ من الله كما قال: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ] [النساء :144 ]، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى أن قال: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ] [الممتحنة:1] وقال تعالى -بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب-: [ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ] {الأنفال:3 7]"[18].
قال أبو حيان في تفسير قوله تعالى: "[يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين]" قال: "قيل: وفي الآية دليل على أنّ الكافر لا يستحق على المسلم ولاية بوجه: ولداً كان أو غيره، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة وولاية، كقوله تعالى: [لا تتخذوا بطانة من دونكم ]"[19].(5/20)
وقد بين القرآن سبب مسارعة بعض من يظهر الانتساب للإسلام في التحالف مع الكفار، وأن ذلك نتيجة ضعف إيمانهم أو ذهابه بالكلية؛ لكي يكون لهم الكفار نصراء وحلفاء عند الحاجة، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير الآية، وكأنه يصف حال كثيرين من أهل زماننا ممن يوالون اليهود والنصارى ويسارعون فيهم: "وقوله:[فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ] أي: شك، وريب، ونفاق [ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ] أي: يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، [ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ] أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك، عند ذلك"[20]، وهذه في الحقيقة حجة كثيرين ممن يزعمون أن لأهل الذمة الحق في المشاركة في الحياة السياسية في بلاد المسلمين يصطنعون بذلك يدا عند أمم الكفر الغالبة موافقة لهم ومداهنة لهم.
ومن تتبع الشروط الواردة في ولاية أمر المسلمين في جميع كتب أهل العلم من جميع المذاهب، علم يقينا أنه لا يجوز بحال أن يتولى كافر ولاية الأمر، سواء كان كافرا أصليا أو كافرا لردته عن الإسلام، وسواء كان غازيا محتلا لبلاد لمسلمين، أو كان من أهل الذمة المقيمين في بلاد المسلمين.
فما نسمعه اليوم من المنتسبين إلى بعض الجماعات الإسلامية الخائضين في الانتخابات البرلمانية، من أنه يجوز للنصراني في بلد المسلمين أن يكون وليا للأمر هو باطل بيقين ومخالف لإجماع المسلمين، قال القاضي عياض: "أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْإِمَامَة لَا تَنْعَقِد لِكَافِرٍ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْر اِنْعَزَلَ ، قَالَ : وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَة الصَّلَوَات وَالدُّعَاء إِلَيْهَا"[21] ونقل هذا الإجماع أيضا ابن حجر فقال: يَنْعَزِل بِالْكُفْرِ إِجْمَاعًا[22].
وقال ابن الأزرق: "(بعدما ذكر كلام ابن العربي المتقدم) قلت: وقد ورد العمل بذلك عن السلف، قولاً وفعلاً، ويكفي من ذلك روايتان: الرواية الأولى: (وذكر رواية عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه التي سبقت)، الرواية الثانية: قال: "وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى بعض عماله: أما بعد فانه بلغني أن في عملك رجلاً يقال له فلان-وسماه-على غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين"، فإذا أتاك كتابي هذا، فادع فلاناً إلى الإسلام، فإن من أعمال المسلمين، فقرأ عليه الكتاب، فأسلم"[23]، وما تقدم من الأدلة والأقوال دليل على أنه لا يجوز أن تكون لأهل الذمة ولاية على المسلمين، سواء كان في ولاية عامة أو خاصة، وقد سئل أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "(في رواية أبي طالب)نستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ فقال: لا يستعان بهم في شيء"[24]
2-النهي عن اتخاذهم بطانة:
قال الله تعالى: "لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر" [آل عمران:118]، بوب البخاري في صحيحه باب: بِطَانَة الْإِمَام وَأَهْل مَشُورَته، الْبِطَانَة: الدُّخَلَاء، قَال ابن حجر في الشرح: قوله ( بَاب بِطَانَة الْإِمَام وَأَهْل مَشُورَته ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وَفَتْح الرَّاء: مَنْ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ، قَوْله ( الْبِطَانَة: الدُّخَلَاء ) هُوَ قَوْل أَبِي عُبَيْدَة قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } الْبِطَانَة : الدُّخَلَاء ، وَالْخَبَال : الشَّرّ اِنْتَهَى . وَالدُّخَلَاء بِضَمٍّ ثُمَّ فَتْح جَمْع دَخِيل : وَهُوَ الَّذِي يَدْخُل عَلَى الرَّئِيس فِي مَكَان خَلْوَته وَيُفْضِي إِلَيْهِ بِسِرِّهِ وَيُصَدِّقهُ فِيمَا يُخْبِرهُ بِهِ مِمَّا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْر رَعِيَّته وَيَعْمَل بِمُقْتَضَاهُ"[25].
قال ابن جرير رحمه الله تعالى:"فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم"[26]، وقد بين ابن جرير أن هؤلاء "هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب"[27].
و قال القرطبي رحمه الله تعالى: " قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ...الآية، فيه ست مسائل: الأولى - أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار وهو متصل بما سبق من قوله: " إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب" [ آل عمران: 100 ] والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر، وبطن فلان بفلان يبطن بطونا وبطانة إذا كان خاصا به.(5/21)
قال الشاعر: أولئك خلصائي نعم وبطانتي * وهم عيبتي من دون كل قريب
الثانية - نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم،.. ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: (لا يألونكم خبالا) يقول: فسادا، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة... وعن عمر رضي الله عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى، وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحدَ أكتبَ منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك ؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين.
فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم، قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء.
وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا"[28]، فسره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد عليه السلام: لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا، قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية[29]...
وقال ابن الجوزي: "قال القاضي أبو يعلى : وفي هذه الآية دلالة على أنَّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذِّمة على قتال أهل الحرب، وروي عن عمر أنه بلغه أنَّ أبا موسى استكتب رجلاً من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العزِّ بعد إذ أذلهم الله"[30]
وذكر ابن كثير رحمه الله تعالى: "عن ابن أبي الدِّهْقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن هاهنا غُلاما من أهل الحِيرة، حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين، ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: [لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ]"[31]
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما كانت التولية شقيقة الولاية كانت توليتهم[32]نوعاً من توليهم[33]. وقد حكم تعالى بأن من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً، والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً، والولاية وصلة، فلا تجامع معاداة الكافر أبداً"[34].
فهذه الآية تمنع من اطلاع الكفار على إسرار المسلمين وقد بينت الآيات العلة في ذلك وهو كره الكفار للمسلمين ورغبتهم في حصول ما يعنتهم ويشق عليهم، وليس هناك من اطلاع على أسرار المسلمين أكثر من أن يصير الرجل متوليا لبعض أمورهم
3-النهي عن الركون إليهم:
قال الله تعالى: [ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا، وهذا القول حسن، أي: لا تستعينوا بالظلمة، فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم، { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ] أي: ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم، ولا ناصر يخلصكم من عذابه"[35] فهو نهي عن الاستعانة بالظلمة، ويدخل فيهم دخولا أوليا أهل الذمة فهم كفار وقد قال الله تعالى : [والكافرون هم الظالمون] وقال تعالى: [إن الشرك لظلم عظيم].
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: "فيه أربع مسائل:
الأولى - قوله تعالى: (ولا تركنوا) الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى، الشئ والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم، ابن جريج: لا تميلوا إليهم، أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم، وكله متقارب، وقال ابن زيد: الركون هنا: الادهان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم....
الثالثة - قوله تعالى: (إلى الذين ظلموا) قيل: أهل الشرك،وقيل: عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا " [ الأنعام: 68 ] الآية، وقد تقدم.
وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، وقد قال حكيم: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي
الرابعة - قوله تعالى: (فتمسكم النار) أي تحرقكم، بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم، وموافقتهم في أمورهم"[36].(5/22)
وكل ما أوردناه فيما سبق من الأدلة والنقول دال على عدم جواز تولية الكفار أهل الذمة وغيرهم الولاية على المسلمين، وإن كان هذا لا يمنع من استخدام من كان منهم حسن الرأي في المسلمين، وذلك في غير ولاية الأمر أو ما فيه علو واستطالة على المسلمبن أو ما كان فيه اطلاع على أسرارهم.
أهل الذمة والولايات السياسية 2
----------------------------------------
[1] تفسير الطبري 7/145
[2] انظر الموسوعة الفقهية 7/121-122
[3] انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/87-90
[4] أخرجه مسلم كتاب الجهاد والسير رقم 3261
[5]أخرجه البخاري كتاب الجهاد رقم 3052
[6]انظر الخراج لأبي يوسف ص126
[7]السلوك لمعرفة دول الملوك لابن الأزرق
[8]ولا يراد من ذلك بقية الأعمال من تجارة و زراعة وصناعة أو تعليم أو طب ونحو ذلك، وقد حفظت لنا كتب التاريخ أسماء كثير من أطباء أهل الذمة الذين كانوا يعملون عند الولاة والأمراء والخلفاء على مدار التاريخ كله
[9] منهاج الإسلام في الحكم ص83-84
[10]تفسير ابن جرير 10/398
[11]تفسير ابن أبي حاتم سورة المائدة آية رقم 51 أثر رقم 6545
[12]تفسير ابن أبي حاتم سورة المائدة آية رقم 51 أثر رقم 6546
[13]أحكام القرآن للجصاص تفسير سورة التوبة آية رقم 29
[14]أحكام القرآن لابن العربي سورة المائدة آية 51
[15] تفسير ابن كثير المائدة آية 51، 3/132
[16]مفاتيح الغيب تفسير الفخر الرازي سورة المائدة آية رقم 51
[17]مدارك التنزيل للنسفي سورة المائدة آية رقم 51
[18]تفسير ابن كثير 2/30
[19]البحر المحيط لأبي حيان سورة النساء آية رقم144
[20] تفسير ابن كثير سورة المائدة آية رقم 52
[21] شرح النووي على صحيح مسلم
[22]فتح الباري 13/132
[23]بدائع السلك في طبائع الملك، والرواية الثانية ذكرها ابن القيم في أحكام أهل الذمة 1/459 وذكر أن الذمي كان اسمه حسان بن زيد، وكان من فضل اتباع الشريعة في ذلك أن أسلم هذا النصراني وصار من عباد الله الموحدين
[24]الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 32
[25] فتح الباري 13/201-202
[26] تفسير ابن جرير 7/138
[27] تفسير ابن جرير 7/146
[28]أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10/127
[29]تفسير القرطبي تفسير سورة آل عمران رقم 118
[30] زاد المسير في علم التفسير سورة آل عمران آية رقم 118
[31] تفسير ابن كثير 2/107
[32] المراد بالتولية هنا تولينهم الولايات
[33]والمراد بها اتخاذهم أولياء
[34] أحكام أهل الذمة 1/499
[35] تفسير ابن كثير 4/354
[36] تفسير القرطبي 9/108
بينت في الحلقة الأولى من هذه المقالة عدالة الشريعة في تعاملها مع أهل الذمة، والتزام المسلمين بذلك في تعاملهم معهم، ثم سقت الأدلة التي تبين أنه لا يجوز تولية أهل الذمة الولايات السياسية في بلاد المسلمين، ونقلت طائفة كبيرة من أقوال أهل العلم من مختلف المذاهب في ذلك، وفي هذه الحلقة نكمل ما تبقى من هذه المقالة.
بفعل ما فيه بلاد المسلمين اليوم من ضعف وتخاذل أمام عدو الله وعدو المسلمين، نجد اليوم من المسلمين من يحاول أن يؤكد مساواة أهل الذمة للمسلمين في حق تولي الولايات، بأنواع من الكلام الذي يظنه أدلة وما هي إلا شبهات، سَهَّل قبولها لديه والدعوة إليها والتمسك بها، الحالة التي عليها العلاقات الدولية اليوم، وها نحن أولاء نعرض لبعض هذه الشبهات ونرد على ما اشتبه منها:
وزارة التنفيذ:
لقد تصرمت قرون الإسلام وانقضت بالاتفاق على أن أهل الذمة لا ولاية لهم على المسلمين في شيء، وهذا الاتفاق لا يخدشه-كما يتوهم البعض- ما نقل عن الماوردي (الشافعي) بإجازته لأهل الذمة أن يكونوا وزراء تنفيذ، والذي دعا الماوردي رحمه الله لذلك هو تصويره لهذا النوع من الوزارة على أنه ليس من ولاية الأمر، حيث يقول عن الذمي المعين في وزارة التنفيذ: "فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلدا لها"[1] وسبب ذلك ما تقرر عنده-كما عند بقية أهل العلم- أن الولاية لا يجوز عقدها لغير المسلم، لكن الماوردي مع ذلك محجوج بالنصوص الشرعية التي تنهى عن ذلك، ومحجوج بعمل الخلفاء الراشدين وأصحاب السيرة المستقيمة من الخلفاء الأمويين أو العباسيين[2]، وقد رد عليه الجويني (الشافعي أيضا) رحمه الله بكلام شديد فقال: "ذكر مصنف الكتاب المترجم بالأحكام السلطانية أن صاحب هذا المنصب يجوز أن يكون ذميا، وهذه عثرة ليس لها مقيل، وهي مشعرة بخلو صاحب الكتاب عن التحصيل، فإن الثقة لا بد من رعايتها، وليس الذمي موثوقا به في أفعاله وأقواله وتصاريف أحواله، وروايته مردودة، وكذلك شهادته على المسلمين، فكيف يقبل قوله فيما يسنده ويعزيه إلى إمام المسلمين" ثم ذكر بعضا من الأدلة إلى أن يقول: "وقد نص الشافعي رحمة الله عليه أن المُترجِم الذي يُنهي إلى القاضي معاني لغات المدعين يجب أن يكون مسلما عدلا رضيا، ولست أعرف في ذلك خلافا بين علماء الأقطار، فكيف يسوغ أن يكون السفير بين الإمام والمسلمين من الكفار"[3]
هل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين؟(5/23)
هناك من يزعم –من المسلمين-أن أهل الذمة في البلاد الإسلامية لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويستدلون على زعمهم ذلك أن هذه قاعدة شرعية، أو ما ينسبه البعض الآخر للرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين،وهذا لا شك في خطئه فليست هناك قاعدة شرعية تذكر ذلك كما أن الرواية المزعومة من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هذا النص إنما ورد في حق من أسلم من الكفار، فقد سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك قال: يا أبا حمزة ما يحرم دم العبد وماله؟ فقال: "من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم"[4] وأخرجه النسائي بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم"[5] وأخرجه أبو داود بلفظ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"[6]، فأخذه هؤلاء وجعلوه لأهل الذمة، وأهل الذمة كفار لم يشهدوا أن لا إله إلا الله، ولم يشهدوا أن محمدا رسول الله، ولم يستقبلوا قبلتنا ولم يصلوا صلاتنا، ولا أدرى هل وقعوا في ذلك جهلا أو عمدا، ولا شك أن هذا القول الذي ينسبه هؤلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم مخالف لكل ما تقدم من الأدلة التي أورتها في الحلقة الأولى من المقالة وليس في أيدي هؤلاء أكثر من محاولة بيان عدم دلالة هذه الأدلة، وذلك بأنواع مستكرهة من التأويل.
هل قوله تعالى لا يألونكم خبالا وما تلاها شرط في الحكم أم هو كشف عن حقيقة أمرهم؟
قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعلقون"، في هذه الآية كشف وبيان لحقيقة موقف أهل الذمة من المسلمين، ولفظ الآية ونظمها يبين أن ما ذكر فيها هو من خصائص القوم وصفاتهم المتأصلة فيهم، فالله تعالى ينهانا أن نتخذ من أهل الذمة بطانة ويكشف لنا عن حقيقة موقفهم من المسلمين فيقول: إنهم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم، ثم يبين الله تعالى أن الأمر أكبر مما ظهر بقوله: وما تخفي صدورهم أكبر، ثم يقول الله تعالى محرضا المؤمنين على عدم اتخاذهم بطانة :" قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعلقون"، فجاء أناس ممن يريد لَيَّ النصوص ويدعي الفهم والاستنارة فزعم أن قوله تعالى: لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم هو شرط لتطبيق الحكم، فإذا تخلف ذلك الشرط جاز اتخاذهم بطانة، فإذا كان أهل الذمة ممن لا يجتهدون في أذيتنا، ولا يودون لنا التعب والمشقة، ولم تظهر البغضاء من أفواههم، جاز اتخاذهم بطانة، وهذا ما لم يقله أحد من أهل العلم السابقين.
ولفظ الآية يأبي هذا التفسير التحريفي فالآية تكشف عن حقيقتهم: يا أيها الذين لآمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ...الآية فهذه حقيقتهم والصفة المتأصلة فيهم، ولذلك حسن أن يقال عنهم: قد بدت البغضاء من أفواههم، تأكيدا وتوثيقا للحكم في نفوس السامعين، وحسُن قوله تعالى: "قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعلقون" وكأن فيها جوابا أو ردا لمن يقول: وإذا لم يظهر منهم ما نكره من الأقوال أو الأفعال؟، فيقال لهم: إن كانت لكم عقول تعقلون بها عداوتهم لكم، فقد بينا لكم الآيات الدالة على ذلك، ولذلك يقول ابن جرير في تفسيرها: " فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم ومن مخالَّتهم" فهم منطوون على هذه الأمور وليست هي شرطا أو قيدا في الحكم تزول بزواله، ومن الذي يقدر على العلم بذلك وهي أمور قلبية لا يطلع عليها الناس، ومع هذا الوضوح فقد زعم بعض من لم يفهم كلام أهل العلم أن الطبري رحمه الله تعالى ممن يرى جواز الاستعانة بغير المسلمين في أمور المسلمين وشئونهم، مع أن الطبري بيَّن ذلك بعبارة واضحة وهو يرد على من يقول إن الذين بدت البغضاء من أفواههم هم المنافقون، قال رحمه الله: " القول في تأويل قوله تعالى : "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ"(5/24)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم "من أفواههم"، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم، إقامتهم على كفرهم، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمونَ من الضلالة. فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان، لأن ذلك عداوة على الدين، والعداوة على الدين العداوةُ التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلى ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك. فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين، ومقامهم عليه، أبينُ الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة" ثم نقل عن قتادة رحمه الله تعالى: " قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: قد بدت البغضاء من أفواهُ المنافقين إلى إخوانهم من الكفار، من غشهم للإسلام وأهله، وبغضهم إياهم" ثم عقب عليه بقوله: " وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة، قول لا معنى له" ثم بدأ يبين سبب حكمه على ما قاله قتادة فقال: "وذلك أن الله تعالى ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء، إما بأدلة ظاهرة دالة على أنّ ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم.
فأما من لم يُثبِتوه معرفةً أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالَّته ومباطنته، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته، إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفات قد عرفوهم بها.
وإذْ كان ذلك كذلك وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار، غير مدرِك به المؤمنون معرفةَ ما هم عليه لهم، مع إظهارهم الإيمانَ بألسنتهم لهم والتودد إليهم كان بيِّنًا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم، على ما وصفهم الله عز وجل به، فعرَفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب. لأنهم لو كانوا المنافقين، لكان الأمر فيهم على ما قد بينا. ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحربَ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهُر المؤمنين من أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقدٌ من يهود بني إسرائيل"[7]. فالمعنيون بهذه الآيات ليسوا هم المنافقين وليسوا هم الكفار من أهل الحرب وإنما كفار أهل الذمة
البر بهم والإقساط إليهم:
لم ينهنا ربنا تبارك وتعالى عن البر والإقساط بمن لم يقاتلنا في الدين ولم يعينوا المشركين علينا، كما قال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".
فبرهم والإقساط إليهم أمر مطلوب، لكن ليس من معنى هذا توليتهم الولايات على المسلمين، فإن هذا لم يقل به أحد، والآية إنما تعنى أن المسلمين أهل عدل وإنصاف وإحسان لا يظلمون أحدا شيئا، وأن من لم يقاتلهم في الدين ولم يعن عليهم أحدا فإن المسلمين يحفظون له ذلك ويثيبونه عليه
ما يجوز من الاستخدام أو الاستعانة:
يجوز الاستعانة بأهل الذمة واستخدامهم فيما يحتاج إليه المسلمون وذلك وفق عدة شروط منها:
أن لا يكون في ذلك ولاية على المسلمين
أن يكون حسن الرأي في المسلمين
أن تكون بالمسلمين حاجة إليه
والوقائع التي حدثت في السيرة النبوية تدل على هذا الجواز بتلك القيود المذكورة، وإذا تأمل المتأمل ما يساق من وقائع في ذلك، لا يجد فيها استعانة أو استخداما مطلقا، بل يجدها مقيدة بأحد القيود السابقة، كاستئجار الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة دليلا مشركا خبيرا بالطرق، فهي ليست ولاية وكان الرجل مأمونا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في حاجة لذلك، وكذلك اتخاذه عينا (جاسوسا) من خزاعة على مشركي، قريش وكانت خزاعة عيبة نصح[8] لرسول الله صلى الله عليه وسلم مشركهم ومسلمهم، ونحو ذلك من الأمور
محكمة التاريخ:
لقد كانت هناك فترات من الزمن تخلى فيها المسلمون عن كثير من الأحكام الشرعية، وتقاعس فيها بعض ولاة الأمور من المسلمين عن الالتزام بالأحكام الشرعية الخاصة بالمشاركة السياسية لأهل الذمة، فولوهم بعض الولايات والمناصب التي لا ينبغي أن يتولوها، وقد أثبت التاريخ والواقع ما تحدث عنه القرآن بما يكنه الكفار للمسلمين، وما تنطوي عليه أفئدتهم، بما لا يدع مجالا لمُشكك أو لمخذل، وفي هذا الواقع التاريخي بيان ورد على بعض المعاصرين الذين يحاولون التفرقة بين من ظهرت عداوته من أهل الذمة، وبين من ظهرت مودته أو لم تظهر منه عداوة، فيجعلون كل ما تقدم من الأدلة خاصا بمن ظهرت عداوته، ويرون أن من ظهرت مودته أو لم تظهر منه عداوة فإن الأدلة لا تتناوله.(5/25)
وذلك أن ما في القلوب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد قال الله تعالى: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك فيها الحرث والنسل والله لا يحب الفساد"، والأدلة المتقدمة ليس فيها هذا القيد الذي زعموه، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى عشرين موضعا من كتاب الله تعالى في بيان غش الكفار من اليهود والنصارى للمسلمين، وعداوتهم وخيانتهم وتمنيهم السوء لهم، ومعاداة الرب تعالى لمن أعزهم أو والاهم أو ولاَّهم أمور المسلمين، ثم قال بعدما أورد هذه المواضع العديدة: "والآيات في هذا كثيرة، وفي بعض هذا كفاية"[9].
وهذه بعض الوقائع التاريخية من القديم ومن الحديث، ومن الشرق ومن الغرب، ومن اليهود ومن النصارى، بما يدل على أن ما يظهره أهل الذمة غير ما يبطنون، وقد تمثل ما قاموا به -سواء في القديم أو الحديث-عندما تولوا بعض الأمور، أو عند شعورهم بالقوة وأمنهم من معاقبة المسلمين لهم في أمرين:
الأول: ظلمهم للمسلمين وإذلال من يقع منهم تحت أيديهم، والاستعانة بأهل ملتهم في أعمال الدولة وإبعاد المسلمين عنها، بل وفصلهم من وظائفهم، وقد بلغت مكانة اليهود في الدولة الفاطمية أن قال القائل-في وصف ما هم عليه من العز والسؤدد الذي لم ينله كثير من المسلمين-
يهود هذا الزّمان قد بلغوا ... غاية آمالهم، وقد ملكوا
العزّ فيهم والمال عندهم ... ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر إنّي قد نصحت لكم ... تهوّدوا قد تهوّد الفلك[10].
وقد تسلط اليهود أيضا في دولة غرناطة على الناس وقاموا بحكم الجماعات الإسلامية وجمع الضرائب منهم مما دفع بابن الجد إن يقول:
تحكمت اليهود على الفروج ... وتاهت بالبغال وبالسروج
وقامت دولة الأنذال فينا ... وصار الحكم فينا للعلوج
فقل للأعور الدجال هذا ... زمانك إن عزمت على الخروج.
وهذا أبو إسحق الألبيري الصنهاجي وقد رأى ما ساد به اليهود على المسلمين، فيقول:
وإني احتللت بغرناطة ... فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها ... فمنهم بكل مكان لعين
وهم يقبضون جباياتها ... وهم يخضمون وهم يقضمون
ورخم قردهم[11] داره ... وأجرى إليها نمير العيون
فصارت حوائجنا عنده ... ونحن على بابه قائمون
ويضحك منا ومن ديننا ... فإنا إلى ربنا راجعون[12]
والثاني: تحريضهم للمشركين وأعداء المسلمين على غزوهم ومحاربتهم، وإيذائهم للمسلمين بكل سبيل، و إعانتهم للقوى الكافرة المهاجمة لبلاد المسلمين، وقد كان أول ذلك ما فعله اليهود زمن البعثة النبوية، فبرغم ما كان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبينهم من معاهدات، فقد خانوا ونقضوها، وحرضوا المشركين على قتال المسلمين ولكن الله خذلهم.
ومن ذلك ما فعله النصارى في الأندلس زمن دولة المرابطين عندما حرضوا الطاغية ابن رذمير على محاربة المسلمين وقتالهم، وتوالت عليه كتبهم، وتواترت رسلهم ملحة بالاستدعاء، مطمعة في دخول غرناطة، فلما أبطأ عنهم، وجهوا إليه زماماً يشتمل على اثني عشر ألفاً من أنجاد مقاتليهم، لم يَعُدُّوا فيها شيخاً ولا غراً"[13].
وعندما أغارت جموع التتار على بلاد الشام ودخلوا دمشق استطال النصارى هناك على المسلمين، "وأحضروا فرمانا من هولاكو بالاعتناء بأمرهم وإقامة دينهم: فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبوه على أبواب المساجد وألزموا أرباب الحوانيت بالقيام إذا مروا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع من القيام للصليب وصاروا يمرون به في الشوارع إلى كنيسة مريم، ويقفون به ويخطبون في الثناء على دينهم، وقالوا جهراً: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، فقلق المسلمون من ذلك، وشكوا أمرهم لنائب هولاكو وهو كتبغا فأهانهم وضرب بعضهم، وعظم قدر قسوس النصارى، ونزل إلى كنائسهم وأقام شعارهم"[14],
ومن ذلك أيضا الحريق الكبير الذي شب في دمشق سنة سبعمائة وأربعين، وبعد خمسة عشر يوما شب حريق أعظم منه وكان أمرا مهولا، ثم تبين بعد ذلك أن من فعل ذلك هم مجموعة من النصارى الذين تستعملهم الدولة في أعمالها، وعلى رأسهم سلامة بن سليمان بن مرجا النصراني، كاتب الأمير علم الدين سنجر البشمقدار[15].(5/26)
قال ابن القيم: "ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتاب، ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان، لَثَنَاهُمْ ذلك عن تقريِبهم وتقليدهم الأعمال، وهذا الملك الصالح أيوب كان في دولته نصراني يسمى محاضر الدولة أبا الفضائل بن دخان، ولم يكن في المباشرين أمكَنُ منه، وكان المذكور قذاةً في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين، ومثالبُه في الصحف مسطورة، ومخازيه مخلدة مذكورة، حتى بلغ من أمره أنه وقع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية، وخروجه من الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين وأعمالهم وأمر الدولة وتفاصيل أحوالهم، وكان مجلسه معموراً برسل الفرنج والنصارى، وهم مكرمون لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحل لهم الأدرار والضيافات وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام، فاجتمع به بعض أكابر الكتاب فلامه على ذلك وحذره من سوء عاقبة صنعه، فلم يزده ذلك إلا تمرداً"[16]
وفي حوادث سنة سبعمائة وسبع وستين عندما هاجم الفرنج الإسكندرية وقت الضحى من يوم الجمعة، دخل ملك قبرص - واسمه ربير بطرس بن ريوك - وشق المدينة وهو راكب، فاستلم الفرنجُ الناسَ بالسيف، ونهبوا ما وجدوه من صامت وناطق، وأسروا وسبوا خلائق كثيرة، وأحرقوا عدة أماكن، وهلك في الزحام، بباب رشيد، ما لا يقع عليه حصر، فأعلن الفرنج بدينهم، وانضم إليهم من كان بالثغر من النصارى، ودلوهم على دور الأغنياء، فأخذوا ما فيها، واستمروا كذلك، يقتلون، ويأسرون، ويسبون، وينهبون، ويحرقون، من ضحوة نهار الجمعة إلى بكر نهار الأحد، فرفعوا السيف، وخرجوا بالأسرى والغنايم إلى مراكبهم، وأقاموا بها إلى يوم الخميس ثامن عشرينه، ثم أقلعوا، ومعهم خمسة آلاف أسير"[17].
وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر تطاولت النصارى من القبط والنصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم وأظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصلح مكاناً، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين[18].
وعندما سافر عسكر الفرنساوية إلى جهة الصعيد صحبهم يعقوب القبطي ليعرفهم الأمور ويطلعهم على المخباءات، ولما تظاهر يعقوب القبطي مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة، جمع شبان القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية والوقائع في ذلك كثيرة وهذه مجرد أمثلة.
وهكذا تثبت وقائع التاريخ المتعددة على اختلاف ما بينها من الزمان والمكان ما جاء في كتاب ربنا العليم الحكيم وهو مصداق لقوله تعالى: " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " فقد بينت هذه الوقائع التي أوردناها ما ذكرته الآيات من كراهية الكفار للمسلمين وحقدهم عليهم وإرادة السوء بهم، اللهم بمنك وكرمك وقدرتك نجنا منهم ومن شرهم وممن مكن لهم وأعانهم
---------------------------------------
[1] الأحكام السلطانية ص28-29
[2] انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/456-478، تحطيم الصنم العلماني ص108-110
[3] غياث الأمم في التياث الظلم ص 114-116
[4] أخرجه البخاري كتاب الصلاة رقم 323
[5] أخرجه النسلئي كتاب تحريم الدم رقم 3967 وأخرجه أحمد بنحوه رقم 12643
[6] أبو داود كتاب الجهاد رقم2641
[7] تفسير ابن جرير الطبري 7/145-147
[8] يحفظون سره ولا يخفون عنه شيئا
[9] أحكام أهل الذمة 1/498
[10] إتحاف الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء للمقريزي
[11] إشارة منه إلى الوزير اليهودي
[12] تاريخ الأدب الأنداسي إحسان عباس 1/148
[13] الإحاطة في أخبار غرناطة
[14] السلوك لمعرفة دول الملوك
[15] انظر في تفاصيل ذلك السلوك لمعرفة دول الملوك
[16] أحكام أهل الذمة 1/499
[17] انظر في تفاصيل ذلك السلوك لمعرفة دول الملوك
[18] انظر عجائب الآثار للجبرتي
================
مدلول السياسة الشرعية
د. سعد بن مطر العتيبي
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، أما بعد ..
فقد اقترح عدد من الأفاضل في موقع المسلم وغيره ، وضع مقالات في السياسة الشرعية : مدلولاً ومضموناً ، مع شواهد شرعية وتطبيقات عصرية ، للإفادة منها علماً وعملاً بعون الله وتوفيقه ؛ وذلك لما لفقه السياسة الشرعية من أهميَّة علميّة في صحة الاستنباط ، وضمان وسطيَّة المنهج ، والقدرة على استشراف مستقبل العمل الإسلامي ، حكومياً كان أو أهلياً ، وما يترتب على الإفادة من كل ذلك في مصلحة الإسلام والأمة الإسلامية ..
وتحقيقُ هذا الاقتراح ، أمرٌ كان يتردّد في نفسي ، لما لا يَخفى من نقصٍ في إظهار هذا العلم ونشره ، مع أهميته وخطورةِ آثار استبعاده في الحياة الإسلامية العلميّة ثم العملية ، وكنت أطمح أن يكفيني خطورة الحديث فيه - على نحو ميسر - بعض أساتذة السياسة الشرعية الكبار ، ولكن يبدو أن لكل جيلٍ وسيلته ، كما أنَّ على كلٍ واجبه ..(5/27)
وقد استأذنت بعض مشايخي في هذا الفن في تنفيذ هذا المقترح ( وضع مقالات تعريفية بالسياسة الشرعية ونشرها تباعاً _إن شاء الله تعالى_ فوجدت تأكيداً على أهمية الفكرة ، و ترحيباً بتنفيذها ، مما شجّعني وجرّأني على عدم التَّأخر فيه .
ومن هنا رأيت أن أبدأ هذه المقالات مستعينا بالله تعالى ، وأن يكون الحديث في ذلك - إن شاء الله تعالى - على نحو موجزٍ ، يفيد طالب العلم المتطلِّع نحو أُفق علميٍّ عمليٍّ وسطيّ المنهج ، يستنهضُ الهمّة ، ويدفع نحو مواصلة المهمَّة ، يستنير بالدليل ، ويدع شاذّ الأقاويل ، ويقوي الإيمان بالحقائق ، ولا ينسى تهذيب الرَّوح بالرقائق ، يستعين بالله ، ويقصد رضاه ..
وإنِّي لأرجو أن لا يدّخر مُطّلعٌ على هذه المقالات ، يجد فيها ما يستوجب تصحيحاً أو ملاحظة أو نصحاً - جهداً في إيصال ذلك إليَّ ، عبر موقع المسلم ضمن نافذة التعليقات على هذه المقالات ، أو بواسطة البريد الرقمي الخاص ، أو غيره من وسائل الاتصال ، وليحتسب في ذلك أجر النصح و التصحيح إن وجد ما يتطلبه .
ولمَّا كان كتاب الله _تعالى_ أصل علوم الدين وعماد علوم الشريعة الأول ، فلنبدأ الأضواء بآية من آياته ، نستلهم منها إرشاداً إلى الاهتمام بهذا العلم والعناية به .. قال الله _تعالى_ لنبيه محمد _صلى الله عليه وآله وسلم_ : "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "(يوسف108) .. ومن يتأمَّل هذه الآية يجدها قد شملت - فيما شملت - جوانب السياسة الإسلامية التي تندرج في أصل العلائق الإسلامية - التي مدارها على الدعوة بشمولها ، قولاً وعملاً - في كلمة ( بصيرة ) !
فالسياسة الشرعية جزء من البصيرة التي نجدها حيَّة في سنّة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وسيرته المباركة في الدّعوة وتصرفاته في الولاية بجميع مجالاتها الرئيسة ..
فما هي السياسة الشرعية ، وكيف كانت جزءاً من البصيرة النبوية ، التي يسير عليها أتباعه النبي _صلى الله عليه وآله وسلم_ ؟
هذا ما سيكون جوابه في المقالات التالية _إن شاء الله تعالى_ .
أولاً : مدلول السياسة الشرعية
مدخل : قبل بضع سنوات .. في يوم عرفة وعلى أرض عرفات ، سألني أحد الإخوة الأمريكيين ممن دخلوا في الإسلام ، ولم يكن من قبل من المسلمين قائلاً : سمعت عن السياسة الشرعية ! فهل في الإسلام سياسة ؟
قلت له : أنت مسلم حاج ، فلا ينبغي أن يخفى عليك أنَّ الإسلام عقيدة وشريعة ، أي : عقيدة وقانون ! أليس هذا هو واقع الإسلام كما عرفته ؟!
ثم أخذت أكشف شبهته بأمثلة يعلمها ، لكنه لا يدرك انتماءها العلمي لمفردات هذا الفن ، كما ذكرت له عدداً من مؤلفات بعض أعلام أمتنا القدماء - منذ القرن الأول الهجري - في السياسة الشرعية .
أولاً : المعنى اللغوي للسياسة :
تستعمل السياسة في اللغة بمعنى : الفساد ، أو الجبلة ، أو التدبير .
والسياسة بمعنى : التدبير ؛ هي الاستعمال المقصود هنا .
ومن شواهده قول النبي_صلى الله عليه وسلم_: (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلّما هلك نبيّ ، خَلَفَه نبيّ ، وإنَّه لا نبيَّ بعدي )) رواه البخاري ح (3455) ، ومسلم ح (1842) ، قال النووي أي : " يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية " .
وقول عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_: ( قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب ؟ إذا ساس أمرهم مَنْ لم يصحب الرسول ، ولم يعالج أمر الجاهلية ) رواه ابن سعد في : الطبقات ، ورجاله ثقات .
ومنه قول عمرو بن العاص يصف معاوية - رضي الله عنهما - : ( إني وجدته … الحسن السياسة الحسن التدبير ) ذكره الطبري في تاريخه .
وقول هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بحُرَقة :
فبينا نسوس الناس والأمر أمْرُنَا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
والعرب تقول : سُوِّس فلان أمْر بني فلان ، أي : كلِّف سياستهم ، وملك أمرهم .
ومن هنا يتبين أنَّه لا عبرة بما قيل من أنها كلمة غير عربية الأصل (خلاصة هذا القول : أنَّ كلمة ( سياسة ) معرب ( سه يسا ) ، فـ ( سه ) بالفارسية تعني : ثلاثة و ( يسا ) بالمغولية تعني : التراتيب ، فكأنه قال : التراتيب الثلاثة ) ؛ ولهذا وصف شهاب الدِّين الخفاجي (975-1069) - القول بأنَّها مُعَرَّبة بقوله : " وهذا غلط فاحش ؛ فإنَّها لفظة عربيَّة مُتَصَرِّفة … وعليه جميع أهل اللغة " .
والحديث في المعنى اللغوي لكلمة ( السياسة ) لا يخلو من فوائد وطرائف ولطائف ؛ لكنني حاولت الاكتفاء بما يكفي في بيان المراد .. وربما أضفت ما قد يُحتاج إليه منها عند وجود مناسبة له _إن شاء الله تعالى_ .
ثانياً : المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية :(5/28)
مصطلح السياسة الشرعية من المصطلحات التي لم تستعمل للدَّلالة على أمر واحد ، بل مرّ بمدلولات عدَّة ؛ نتيجة تَطّوُّر مفهومه عند الفقهاء ، تبعاً لمعاناة نقله من التطبيق إلى التنظير التي استغرقت زمناً لا بأس به ، كما هو الشأن في العلوم التي تملي البحثَ فيها الحاجاتُ المُتجدِّدَة ، وتراخي المسائل المستجدَّة من حيث الزمن ، في القرون الماضية ، ونتيجة إطلاقه على أنواع من العلوم عند من كتبوا في غير الأحكام الفقهية ؛ فلفظ " السياسة " قد استعمل للدلالة على أكثر من معنى .
وهذا ما سيتم الحديث عنه في الحلقة التالية _إن شاء الله تعالى_ .
(2)
ثانياً : المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية :
مصطلح السياسة الشرعية من المصطلحات التي لم تستعمل للدَّلالة على أمر واحد ، بل مرّ بمدلولات عدَّة ؛ نتيجة تَطّوُّر مفهومه عند الفقهاء ، تبعاً لمعاناة نقله من التطبيق العملي إلى التنظير العلمي ، التي استغرقت زمناً لا بأس به ، كما هو الشأن في العلوم التي تملي البحثَ فيها الحاجاتُ المُتجدِّدَة ، وتراخي المسائل المستجدَّة من حيث الزمن ، في القرون الماضية ، ونتيجة إطلاقه على أنواع من العلوم عند من كتبوا في غير الأحكام الفقهية ؛ فلفظ " السياسة " قد استعمل للدلالة على أكثر من معنى .
وقد عرّف الفقهاء - المتقدمون والمتأخِّرون - السياسة الشرعية بتعريفات كثيرة منها العام ، ومنها الخاص ، وأضاف إليها عدد من الباحثين صياغات جديدة حاولوا فيها ضبط المفهوم .
وسأكتفي بإيراد تعريفين منهما :
الأول : تعريف ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله - للسياسة الشرعية بأنَّها : " ما كان من الأفعال ، بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي " .
والثاني : تعريف ابن نجيم الحنفي - رحمه الله - للسياسة الشرعية بأنَّها " فعل شيء من الحاكم ؛ لمصلحة يراها ، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي " .
وحتى لا يُستطرد بالدخول في شروح التعريفات وبيان ما لها وما عليها ؛ فإنه يُكتفى بذكر ما خلصت إليه الدراسة الاستقرائية من تعريف للسياسة الشرعية ، وذلك من بالنظر المستفاد من واقعِ التدوين السياسي الذي ألفه حَمَلَة العلوم الشرعية ، ومن طبيعةِ المسائل التي أفردها بالتدوين فقهاء الشريعة ؛ إذْ يتضح أنَّ ثمَّة منهجين في التدوين السياسي الشرعي :
أحدهما : منهج يغلب عليه الجانب الخُلقي والاجتماعي .
وثانيهما : منهج فقهي شرعي ؛ ينير للحكّام وأولي الأمر ، أحكام التدابير ، وآلياتها ، و ضوابط شرعيتها .
ويمكن الخلوص بمدلول السياسة الشرعية من خلال استقراء مضامين المؤلفات الفقهية في السياسة الشرعية إلى معنيين :
الأول : معنى عام ، مرادفـ لـ( الأحكام السلطانية ) ، التي هي : اسم للأحكام والتصرفات التي تدبر بها شؤون الدولة الإسلامية ، في الداخل والخارج ، وفق الشريعة الإسلامية ، سواء كان مستند ذلك نصاً خاصاً ، أو إجماعاً أو قياساً ، أو كان مستنده قاعدة شرعية عامة ؛ وعليه :
فالسياسة الشرعية بالمعنى العام : تشمل الأحكام والتصرفات التي تدبّر بها شؤون الأمة في حكومتها ، وتنظيماتها ، وقضائها ، وسلطتها التنفيذية والإدارية ، وعلاقتها بغيرها من الأمم في دار الإسلام وخارجها ، سواء كانت هذه الأحكام مما ورد به نص تفصيلي جزئي خاص ، أو مما لم يرد به نص تفصيلي جزئي خاص ، أو كان من شأنه التبدل والتغير ، تبعاً لتغير مناط الحكم في صور مستجدة (1)
ومعنى خاص ، مندرج في السياسة الشرعية بالمعنى العام ( الأحكام السلطانية ) ؛ واندراجه فيها ، من جهة طبيعة الأحكام ، وأصول تشريعها (2) ؛ إذْ يلْمَحُ في إفراد مسائلها ، عدمُ ثبات الحكم ، تبعا لاختلاف مناطه (3)
فالسياسة الشرعية بالمعنى الخاص هي :
( كل ما صدر عن أولي الأمر، من أحكام وإجراءات ، منوطة بالمصلحة ، فيما لم يرد بشأنه دليل خاصّ ، متعيّن ، دون مخالفة للشريعة ) .
وهذا تعريف يحتاج إلى شرح ، وبيان لمحترزاته ، وذلك على النحو التالي :
- قوله : ( ما صدر عن أولي الأمر ) : تعريف للسياسة الشرعية ببيان جهة الاختصاص بالنظر في مسائلها ، والحكم بها ؛ وهم ( أولو الأمر ) : العلماء والأمراء ؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله : "… والتحقيق أنَّ الأمراء إنَّما يُطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم ؛ فطاعتهم تبع لطاعة العلماء ؛ فإنّ الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم ؛ فكما أنّ طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول ، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء " ؛ فذكْرُهم هنا لبيان جانب السلطة في السياسة الشرعية ، وعلى فرض بلوغ الأمير درجة الاجتهاد تبقى السياسة في جانب الشورى وما يتفرع عنها من أحكام .(5/29)
وعليه ؛ فالسياسة الشرعية ليست محصورة فيما يصدر من حاكم ، بل تشمل بعض فتاوى المفتين من غير أهل الولاية المنصوبين ، فإنها قد تكون من باب السياسة الشرعية ، كما أشار إلى ذلك بعض العلماء ، ومن ذلك قول عبد الواحد بن الحسين الصيمري رحمه الله (ت/386) : " إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ ، وهو مما لا يعتقد ظاهره ، وله فيه تأويل ، جاز ذلك زجراً له " ( ذكره النووي في مقدمة المجموع ) ، وهذا من لبّ السياسة بمعناها الخاص كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
- وقوله : ( من أحكام وإجراءات ) تعريف للسياسة ببيان شمولها لناحيتين : نظرية ، و تطبيقية .
فالأولى : ما يلزم سياسةً من فِعْلٍ أو تَرْكٍ ، سواء كانت في شكل أنظمة وقوانين ، أو فتوى ، أو غيرها ؛ وهي المعبّر عنها بالـ( الأحكام ) .
والثانية : ما كان محل فعل وتنفيذ ، وحركة وتدبير ؛ وهي المعبّر عنها بـ (الإجراءات) أو الآليات .
- وقوله : ( منوطة بالمصلحة ) ، بيان لارتباط السياسة الشرعية بمراعاة المصلحة ، على اختلاف مستنداتها شرعاً ؛ وأنَّ مجالها : الأحكام المُعَلَّلَة ، ومن ثمَّ فلا بد أن تصدر عن اجتهاد شرعي ؛ وعليه ، فهو قيد يخرج به ما يلي :
1) أحكام العبادات والمُقَدَّرات ومن باب أولى مسائل الاعتقاد ؛ فليست مجالاً للسياسة الشرعية ، من حيث هي .
2) الأحكام والإجراءات الصادرة عن جهل وهوى ؛ فليست من أحكام السياسة الشرعية ، لكنها لو وافقت أحكام السياسة الشرعية ، جازت نسبتها إليها ، مع إثم مصدرها ؛ لتصرفه عن جهل وهوى . ( ينظر : مجموع فتاوى ابن تيمية : 29/43 وما بعدها ) .
- وقوله : ( فيما لم يرد بشأنه دليل خاص مُتَعَيِّن ) ، قيد يُخرج الأحكام التي ورد بشأنها دليل خاص مُتَعَيِّن ؛ فكلمة ( دليل ) تشمل النص ، والإجماع ، والقياس ؛ فالدليل هنا يقابل ( الاستدلال بطرائق الاستنباط أو ما يعرف بالأدلة المختلف فيها ) .
وكلمة ( خاص ) أي : بحكم المسألة محلَّ النظر ؛ بأن يثبت في حكمها دليل جزئي تفصيلي ؛ فما كان شأنه كذلك ، فليس من مسائل السياسة الشرعية .
وكلمة ( مُتَعَيِّن ) تُخرج المسائل الثابتة اللازمة ، التي لا تتغير أحكامها بحال ؛ إذ إنَّها مُتَعَيِّنة الحكم ، ليس أمام أولي الأمر سوى تنفيذها . كما يدخل بهذه نوعان من المسائل هما :
1) المسائل التي ثبت في حكمها أكثر من وجه ، لوجود دليل خاص لكل وجه ؛ بحيث يُخَيَّر أولوا الأمر بينها ، تبعاً للأصلح ؛ كالقتل والمنّ والفداء ، في مسألة الأسرى .
2) المسائل التي ورد في حكمها دليل خاص ، لكنَّ مناط الحكم فيها قد يتغيَّر ، ومن ثم تتغيّر الأحكام تبعاً لذلك ؛ كالمسألة التي يجيء حكمها موافقاً لعرف موجود وقت تَنَزّل التَّشريع ، أو مرتبطاً بمصلحة مُعَيَّنة ؛ فيتغيّر العرف ، أو تنتفي المصلحة ؛ ومن ثم يتغيّر الحكم تبعاً لذلك ، لا تغيُّراً في أصل التشريع .
- وقوله : ( دون مخالفة للشريعة ) قيد مهم ، يُخرج جميع أنواع السياسات المنافية للشريعة ؛ فليست من السياسة الشرعية في شيء .
وعُبِّرَ بنفي المخالفة ؛ لأنَّه المعنى الصحيح لموافقة الشريعة ؛ فإنَّ ما جاءت به الشريعة ، وما ثبت عدم مخالفته لها ، هو في الحقيقة موافق لها : الأول من جهة النصوص ، والثاني من جهة القواعد والأصول ؛ فعدم مناقضة روح التشريع العامَّة والمقاصد الأساسية ، والأصول الكليَّة - ولو لم يرد بها نص خاص بعينه - هو ضابط السياسة الشرعية ، الذي يميزها عن غيرها من السياسات .
بهذا تمَّ الحديث عن المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية ، الذي دعت إلى إيضاحه وبيانه ، نظرة الاشتباه تجاهه ، حتى لدى بعض من لهم إليه انتماء ، فضلاً عن عامَّة طلاب العلم الشرعي ، بَلْه دارسي القوانين الوضعية ، ممن قلَّت بضاعتهم في علوم الشريعة الأساسية .
ويليه - إن شاء الله تعالى – الحديث عن حجية العمل بالسياسة الشرعية .
--------------------------
الهوامش
1) وهذا المدلول مأخوذ من استقراء مؤلفات السياسة الشرعية ذات المنهج الفقهي الشرعي الشامل ، التي يمكن تقسيمها على النحو التالي :
أ - الأحكام السلطانية الشاملة . ( التي تشمل أحكام الإمامة العظمى وما يتفرع عنها من ولايات داخل دولة الإسلام أو خارجها ) . والسياسة عند مؤلفي هذا الفنّ لها إطلاقات ، يمكن حصرها في ثلاثة معان :
الأول : إطلاق السياسة على : ولاية شؤون الرعية ، وتدبيرها أمراً ونهياً ، سواء صدر ذلك من الإمام ، أو ممن دونه من الأمراء والوزراء والقضاة ، ونحوهم .
الثاني : إطلاقها على : أحكام الإمامة العظمى أو الخلافة ؛ من حيث أهلية الحاكم ، وما يجب عليه ، وما يجب على الرعية نحوه ، والأحكام التي منحها الشارع الحكيم للوالي ليتمكن من رعاية من تحته .
الثالث : إطلاقها على : التعزيرات الشرعية . فالأحكام السلطانية الشاملة ، تعالج السياسة الشرعية بهذا المفهوم الواسع .
ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب : الأحكام السلطانية والولايات الدينية لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي ؛ ومثله : الأحكام السلطانية ، للقاضي أبي يعلى الحنبلي .(5/30)
ب - الأحكام السلطانية التي تحكم السياسة الداخلية . وقد يجيء فيها شيء من أحكام السياسة الخارجية ، غير أنَّه يكون مقتضباً . ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب : السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ، لأبي العبَّاس ابن تيمية ، وإن كان لا يقتصر على هذا المدلول من جهة المضمون .
ج - الأحكام المتعلقة بطرق القضاء ، ووسائل تحقيق العدالة . ويكاد ينصبّ الحديث فيها على الأحكام التي لم يرد بشأنها نصوص خاصّة ، غيرَ أن البحث فيها لا ينحصر في ذلك .ومن المؤلفات في هذا المعنى كتاب : الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية . ويسمى هذا الكتاب أيضاً : الفراسة المرضية في أحكام السياسة الشرعية .
2) وهذا مأخوذ من استقراء مؤلفات السياسة الشرعية ذات المنهج الفقهي الشرعي الخاص ، ويمكن التعبير عنه بالأحكام الفقهية للمسائل التي لم يرد بشأنها نص تفصيلي خاص يمكن إدراجها تحته ، أو التي من شأنها التَّغّيُر والتبدُّل في المناط . والأحكام في هذا القسم توجد ضمن الأقسام السابقة ، إضافة إلى كتب الفقه العامة لشمول موضوعاتها وتناثر تلك الأحكام بينها ، أو حتى الكتب السياسية المتقدمة المعنونة بما لا يوحي بالشمول ؛ فكتاب : ( الخراج ) ، لأبي يوسف - مثلا - من الكتب التي لا يجد الباحث عناء في استخراج كثير من هذه الأحكام منها .
ولكن لعل من أشهر موضوعات السياسة الشرعية بهذا المعنى : أحكام التعزير ، ومن المؤلفات المفردة فيه : السياسة الشرعية ، لإبراهيم بن يحيى خليفة المشهور بـ"ددة أفندي"(ت/973) ؛ وكذلك طرق القضاء ، ومن المؤلفات فيها : الطرق الحكمية ، لابن قيم الجوزية ، المذكور آنفا .
وقد ظهر في العصور المتأخرة الاعتناء بهذا القسم ، وظهرت دعوات بإفراد أحكامه ، وجمع تطبيقاته من المدونات الفقهية ، و ما يُظن وجودها فيه من مصنفات ، وصارت السياسة الشرعية في هذا العصر مقرر تخصص في عدد من المدارس العلمية النظامية من كليات ومعاهد ، بل خصصت له أقسام علمية في عدد منها تحت مسميات مختلفة .
3) سيأتي بيان ذلك في شرح تعريف السياسة الشرعية بمدلولها الخاص وفي ذكر الشواهد والأمثلة إن شاء الله تعالى
=============
الإسلام والآخر الحوار هو الحل
بقلم
حمدى شفيق
رئيس تحرير جريدة النور الإسلامية المصرية
بسم الله الرحمن الرحيم
]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الله عليم خبير[
صدق الله العظيم
(الحجرات : 13)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد ..
فإن علاقة المسلمين بالآخر هى من أهم الموضوعات المطروحة الآن على الساحة ، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م فى الولايات المتحدة الأمريكية ، وما تلاها من احتلال القوات الأمريكية لأفغانستان ثم العراق ، وكذلك استمرار المذابح المروعة التى يرتكبها الاحتلال الصهيونى فى فلسطين ، وتعرض المسلمين للمظالم والفتك والتشريد فىكشمير والشيشان وغيرهما ..
ويُثار الكثير من الأسئلة فى ظل الحملات الإعلامية المسعورة ضدنا فى وسائل الإعلام الغربية : ما هو مضمون علاقة المسلم بالآخر ؟ أهو الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى ، أم هو الصراع والتربص والقتال الضارى حتى يهلك الأعجل من الفريقين ؟! وماذا يقول التاريخ عنا وعنهم ؟ وما هو وضع الأقليات الإسلامية فى الخارج فى ظل هذه الظروف ؟ وما هى الأحكام المنظمة لأوضاع غير المسلمين فى المجتمعات الإسلامية ؟ وما هى الوسائل التى يمكن من خلالها أن يسمع الآخر صوت الإسلام والمسلمين لعله يتذكر أو يخشى ؟ .
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يأتى هذا الكتاب ، وهو جهد متواضع نسأل الله أن يتقبله بكرمه وجوده وإحسانه ، وأن يغفر لنا ما كان من زلل أو تقصير، إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير .
حمدى شفيق
الفصل الأول
نظرية صراع الحضارات(5/31)
لم يكن صمويل هنتنجتون هو أول من زعم وجود صراع بين الحضارات، فالحملة على الإسلام والمسلمين تعود إلى قرون ، بل بدأت مع ظهور الدعوة الإسلامية المباركة منذ 14 قرناً من الزمان .. وتبلورت أكثر فى أوقات الحروب الصليبية وحملة الإبادة الجماعية لمسلمى الأندلس ، ثم رسخت جذور العنصرية الغربية أكثر فى حقبة الاستعمار الأوروبى لمعظم بلاد العالم الإسلامى .. ثم وجد الغرب نفسه بحاجة إلى ملء الفراغ الذى سببه انهيار الشيوعية وزوال خطرها باختلاق خطر آخر ؛ لأنه من الصعب بعث الحياة فى فكرة أوروبا الموحدة إن لم يكن هناك خطر خارجى .. وبطبيعة الحال تستثمر الدوائر الصهيونية فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مثل هذه الأوضاع لسكب مزيد من البنزين على نار التعصب ضد العرب والمسلمين ، والإلحاح باستمرار وعبر وسائل الإعلام الخاضعة لنفوذهم على مقولة صراع الحضارات .. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صمويل هنتنجتون صاحب النظرية الأشهر بهذا الصدد يهودى الديانة ، فضلاً عن علاقاته الوثيقة بدوائر المخابرات الأمريكية ، ولهذا دلالته التى لا تخفى على أحد .. كما أنه نقل النظرية عن أستاذه برنارد لويس وهو يهودى أيضًا ..
وقد سبق هنتنجتون فى حكاية الصراع هذه الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون الذى أكد صراحة فى كتابه (الفرصة السانحة) أو (انتهزوا الفرصة) أن العالم الإسلامى هو العدو المستقبلى للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتى .. وكرر ذات المقولة أمين عام سابق لحلف شمال الأطلنطى .. ثم تلاه فرانسيس فوكوياما الأمريكى من أصل يابانى الذى تحدث عن قرب نهاية التاريخ وانتصار الحضارة الغربية على العالم الإسلامى .. وهناك أيضًا الحملات المسعورة التي يقودها كبار المنصرين أمثال جراهام بل وبات روبرتسون وجيمى سواجارات ، والتى تلح على ضرورة ضرب الإسلام تمهيدًا لحرب (هرمجدون) المزعومة التى يقود فيها السيد المسيح اليهود والنصارى للقضاء على المسلمين والوثنيين ، ولهذا .. لابد - من وجهة نظر هؤلاء - من دعم إسرائيل واستمرارها، لأن قيامها وبقاءها شرطان لازمان لوقوع (هرمجدون) المزعومة !!
و (هرمجدون) كلمة عبرية تعنى إما : تل مجيدون شمال فلسطين وهو موجود هناك ويعرفه الأهالى باسم: تل المجيدية، أو أن معناها جبل مجيدو وهو موجود بفلسطين أيضاً . وأهم كتاب دينى أمريكى يكشف خلفية الأمريكان المؤمنين بحكاية هرمجدون هذه فى حربهم المقبلة مع المسلمين وعقيدتهم الشيطانية هو كتاب (Forcing of God's Hand) - ترجمة حسام تمام - وهو أهم ما صدر فى الشأن الدينى الأمريكي فى العام الماضي . وربما كان من أهم الكتب التى عالجت باقتدار قضية التوظيف السياسي - الذى يصل إلى حد الابتزاز - للنبوءات الدينية فى العقد الأخير من القرن العشرين. والمؤلفة هى الكاتبة الأمريكية المعروفة جريس هالسل التى عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون، وهى صحفية مشهورة ومرموقة صدرت لها عدة كتب، أهمها وأكثرها شهرة (النبوءة والسياسة) .. والكتاب عبارة عن إجابات عن أسئلة جمعتها المؤلفة من سلسلة مقابلات شخصية مع مسئولين من مراجع كنسية أمريكية مختلفة ، وتتصدى فيه جريس هالسل - ربما لأول مرة - لظاهرة المنصرين التوراتيين التلفزيونيين، الذين يمثلون اليمين المسيحي المتطرف فى الولايات المتحدة الأمريكية، والذى يعرف إعلاميا بـ (الصهيونية المسيحية). وهى الظاهرة التى تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسي الدينى فى العقد الأخير، ربما على مستوى العالم كله، والتى صنعها عدد من المنصرين التوراتيين الذين احترفوا تقديم برامج تليفزيونية عن النبوءات التوراتية التى تبشر بقرب نزول المسيح المخلص ونهاية العالم فيما يعرف بمعركة (الهرمجدون)، واستطاعوا من خلال نشاطهم - الذى يعد أكبر وأهم حركة تنصير فى تاريخ المسيحية - إقامة ما يعرف بـ (حزام التوراة)، والذى يتكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكي، والتى تكونت فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينياً والمؤمنين بنبوءة (الهرمجدون)، أو نهاية العالم الوشيكة والمرتبطة بنزول المسيح المخلص من الشر والخطيئة. ويعتمد خطاب المنصرين التوراتيين على رؤية سهلة للحياة، مفادها أن العالم أصبح تملؤه الشرور والخطايا، وهو ما سيعجل بظهور (المسيح الدجال) وجيوش الشر . ولن يصبح هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور إلا عودة المسيح المخلص لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم الملئ بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص - عندهم - رهين بعودة المسيح فقط . أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين فهو السعى لتحقيق هذه النبوءة أو الإسراع بإجبار يد الله على تحقيق (النبوءة)!. وتحقق النبوءة عندهم رهن بقيام إسرائيل الكبرى وتجميع كل يهود العالم بها، ومن ثم فلابد من تقديم وحشد كل التأييد المادى والمعنوى، المطلق وغير المحدود أو المشروط للكيان الصهيوني؛ لأن ذلك هو شرط نزول المسيح المخلص .(5/32)
والطريف أن هذا التأييد لا يعنى الإيمان باليهود أو حتى مبادلتهم مشاعر الحب أو التعاطف معهم، لأن هؤلاء التوراتيين يعتقدون أن المسيح المخلص سيقضى على كل اليهود أتباع المسيح الدجال الذين سيرفضون الإيمان به، أى أنهم يدعمون الكيان الصهيونى باعتباره وسيلة تحقق النبوءة فقط . هذه العقيدة تلقفها كبار القادة اليهود فى أمريكا والكيان الصهيونى، وخاصة من اليمين الديني المتطرف الذى يسيطر على مجريات ومقاليد اللعبة السياسية، واستغلوها جيداً للحصول على كافة أشكال الدعم والتأييد . وهم لا يعنيهم محبة اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا أو إيمانه بهم بقدر ما يعنيهم ما يدره عليهم الإيمان بهذه النبوءة من أموال ودعم سياسي واقتصادي غير محدود. فبفضلها تتدفق الرحلات السياحية الأمريكية على الكيان الصهيوني، وتنظم مظاهرات التأييد وحملات جمع التبرعات، وتسخر الإدارة والسياسة الأمريكية لخدمة المصالح الصهيونية، خاصة مع تزايد إيمان الشعب الأمريكي بهذه النبوءة والاعتقاد بها، حتى أن استطلاعا أجرته مجلة (تايم) الأمريكية سنة 1998 أكد أن 51% من الشعب الأمريكي يؤمن بهذه النبوءة ، ومن هؤلاء عدد كبير من أعضاء النخبة الحاكمة فى الولايات المتحدة، بعضهم وزراء وأعضاء فى الكونجرس وحكام ولايات . بل ويؤكد الكتاب أن جورج بوش، وجيمي كارتر، ورونالد ريجان كانوا من المؤمنين بهذه النبوءة ، والأخير كان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية على أساس النبوءات التوراتية .
وتكشف جريس هالسل فى كتابها عن أن هناك اقتصاديات ضخمة تقوم على هذه النبوءة التى تدر مليارات الدولارات سنوياً على نجوم التنصير التوراتي، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية فى أمريكا وأنحاء العالم، وأبرزهم بات روبرتسون الذى يطلق عليه لقب (الرجل الأخطر فى أمريكا).. فقد أسس وحده شبكة البث المسيحية (CBN)، وشبكة المحطة العائلية إحدى كبريات الشبكات الأمريكية، كما أسس التحالف المسيحي الذى يعد الأوسع نفوذاً وتأثيراً فى الانتخابات الأمريكية بفضل ملايين الدولارات التى يحصل عليها كتبرعات من أتباعه ومشاهدى نبوءاته التلفزيونية، وكذلك بات بيوكاتن الذى كان مرشحاً لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عن حزب الإصلاح .
وتعد برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال هالويل، وجيري فالويل، وتشارلز تايلور، وبول كرواسي ، وتشال سميث ، وروبرتسون ، وبيوكاتن ، من أكثر البرامج جماهيرية فى الولايات المتحدة كما تشهد أشرطة الفيديو والكاسيت التى تحمل هذه البرامج رواجاً هائلاً فى أوساط الطبقة المتوسطة الأمريكية (ومعظم المؤمنين بهذه النبوءة منها وهم بالملايين)، وكذلك الكتب الخاصة بها والتى صارت تباع كالخبز؛ حتى أن كتاب (الكرة الأرضية العظيمة المأسوف عليها) للمنصر التوراتى هول ليفدسى بيعت منه أكثر من 25 مليون نسخة بعد أيام من طرحه فى الأسواق. وينتشر المنصرون التوراتيون فى معظم أنحاء الولايات المتحدة فى عدة آلاف من الكنائس التى يعملون فى كهانتها، عبر مؤسسة الزمالة الدولية لكنائس الكتاب المقدس. ويؤمن أتباع هذه النبوءة بأنهم شعب نهاية الزمن، وأنهم يعيشون اللحظة التى كتب عليهم فيها تدمير الإنسانية، ويؤكدون قرب نهاية العالم بمعركة الهرمجدون التى بشرت بها التوراة، والتى سيسبقها اندلاع حرب نووية تذهب بأرواح أكثر من 3 مليارات إنسان! وتبدأ شرارتها من جبل الهرمجدون الذى يبعد مسافة 55 ميلاً عن تل أبيب بمسافة 15 ميلاً من شاطئ البحر المتوسط، وهو المكان الذى أخذ أكبر حيز من اهتمام المسيحيين بعد الجنة والنار!.
وتحلل جريس هالسل كيف أفرزت هذه الحركة المسيحية أكثر من ألف ومائتى حركة دينية متطرفة، يؤمن أعضاؤها بنبوءة نهاية العالم الوشيكة فى الهرمجدون، وترصد سلوك وأفكار هذه الحركات الغريبة التى دفعت ببعضها الى القيام بانتحارات جماعية من أجل التعجيل بعودة المسيح المخلص وقيام القيامة، ومنها جماعة (كوكلوكس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد وحليقو الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة والتى قاد فيها (كورش) أتباعه لانتحار جماعى قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) بولاية تكساس من أجل الإسراع بنهاية العالم، وكذلك القس (جونز) الذى قاد انتحاراً جماعياً لأتباعه أيضاً فى (جواينا) لنفس السبب، وقد كان (ماك تيموثى) الذى دبر انفجار (أوكلاهوما) الشهير من المنتمين لهذه الجماعات .
ويكشف الكتاب عن العلاقة العنصرية الغريبة التى تربط بين اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا ونظيره اليهودى فى الكيان الصهيونى ، على الرغم من التناقض العقائدى بينهما. العلاقة التى تقوم على استمرار الدعم والتأييد المطلق رغم الكراهية المتبادلة! فتؤكد هالسل أن اللاسامية نوعان: نوع يكره اليهود ويريد التخلص منهم وإبعادهم بكل الوسائل، ونوع آخر يكرههم، ولكن يريد تجميعهم فى فلسطين مهبط المسيح فى مجيئه الثانى المنتظر.(5/33)
وتشرح هالسل كيف يستفيد الكيان الصهيونى من هذه النبوءة التى تمنع المسيحي الأمريكي المؤمن بها من التعامل الراشد مع الواقع، وتجبره على رؤية الواقع والمستقبل فى إطار محدد ومعروف سلفاً، وهو ما يؤدى إلى الوقوع فى انتهاكات أخلاقية فاضحة تأتى من تأييد المشروع الصهيوني العنصرى الذى يقوم على الاستيطان، وتهجير الآخرين، وطردهم من أرضهم، والاستيلاء عليها، بل والقيام بمذابح جماعية ضدهم، وهو ما يظهر فى التعاطف الذى يبديه المسيحيون التوراتيون مع السفاحين اليهود إلى حد المشاركة فى المجازر التى يرتكبونها ضد الفلسطينيين، كما فعل بات روبرتسون الذى شارك فى غزو لبنان مع إريل شارون والمذابح الوحشية التى ارتكبها وشارك معه متطوعون من المسيحيين التوراتيين الذين حاربوا مع الجيش الصهيوني، وهى المعلومات التى حرصت هالسل على ذكرها رغم الحظر المفروض عليها إعلامياً فى الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. كما تكشف هالسل عن أن معظم المحاولات التى جرت لحرق المسجد الأقصى أو هدمه وبقية المقدسات الإسلامية فى القدس من أجل إقامة الهيكل موَّلها وخطط لها مسيحيون توراتيون من المؤمنين بنبوءة الهرمجدون وإن لم يشاركوا فيها !!. وفى فكر المنصرين التوراتيين تغيب كل معانى المحبة والتسامح المقترنة بالمسيحية، ويبدو المسيح فى أحاديثهم فى صورة جنرال بخمسة نجوم يمتطي جواداً، ويقود جيوش العالم كلها، مسلحاً برؤوس نووية ليقتل مليارات البشر فى معركة الهرمجدون(1) .
ولا ننسى تصريحات العجوز الشمطاء مارجريت ثاتشر رئيس وزراء انجلترا الأسبق - فى عدة مناسبات - المعادية للإسلام والمسلمين ، وأيضًا بيرلسكونى رئيس وزراء إيطاليا حليف عصابات المافيا الدولية ، رغم اضطراره إلى الاعتذار عنها فيما بعد ، ثم السقطة المدوية للرئيس الأمريكى جورج بوش الابن الذى وصف حربه العدوانية ضد العراق بأنها (حملة صليبية) جديدة !! ولا يجدى طبعًا فى محو أثر هذه العبارة بالغة الخطورة ، الادعاء بأنها كانت (زلة لسان) ، أو قيام بوش بعد ذلك بزيارة المركز الإسلامى فى واشنطن لتهدئة مشاعر المسلمين ، لأن بوش من أتباع الكنيسة المتطرفة التى تؤمن كما أشرنا بضرورة قيام ودعم دولة إسرائيل تمهيدًا لمعركة (هرمجدون) المزعومة لسحق المسلمين والوثنيين وبدء الألف عام السعيدة لهم على الأرض بعد تخلصهم من غير المسيحيين !!! طبعًا لو قلنا نحن هذا لقامت الدنيا ولم تقعد احتجاجًا على وحشية المسلمين وأفكارهم التصفوية التى تعمل على إبادة الآخرين واستئصالهم ، ولكن لأن هذه هى نظرية كثير من السادة الأمريكان فلا وجود لأية ردود أفعال تذكر!!!
ولأن نظرية هنتنجتون هى الأشهر فسوف نعرضها فيما يلى بإيجاز ثم يأتى الرد عليها تفصيليًا :
تحدث صمويل هنتنجتون عن صراع الحضارات لأول مرة فى مقال نشره عام 1993 فى مجلة (فورن أفيرز) ثم فى كتاب كامل وقال : إنه بعد انتهاء الحرب الباردة سوف تسيطر الصراعات بين الحضارات . وأن (الإسلام تحيط به حدود دموية ، ويبدو أن ما يحدث فى تيمور الشرقية والشيشان وكوسوفا والعراق وكشمير يؤكد هذه الملاحظة . وسواء اعتقد المرء ذلك أم لم يعتقد فإن اللوم يقع على الإسلام !!
وفى عام 1996 قدم هنتنجتون وجهة نظره فى كتاب بعنوان : (صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى) وصفه هنرى كيسنجر بأنه يقدم إطارًا جريئاً لفهم السياسات العالمية فى القرن الحادى والعشرين ، وقال كيسنجر : إن تحليلات هنتنجتون تثبت صحتها ودقتها إلى درجة تنذر بالخطر . وتتلخص نظريته فى أن الحضارات الرئيسية المعاصرة هي الحضارات الصينية، واليابانية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والأرثوذكسية ، والغربية (أوروبا وأمريكا) وحضارة أمريكا اللاتينية . والحضارات الأربع الكبرى فى العالم هى الحضارات الصينية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والحضارة الغربية ، وكل من هذه الحضارات تضم حوالى مليار نسمة ، وكل حضارة منها لها دين مؤسس لها تشكلت وتبلورت حوله ، وهذه الديانات هى: الإسلام، والمسيحية، والكونفوشية ، والهندوسية ، وتعتبر كل من الصين والهند قلبًا أو محورًا لحضارة كل منهما ، أما الغرب فينظر إليه على أنه منقسم إلى محورين رئيسيين هما : الولايات المتحدة وأوروبا . وبالنسبة للإسلام فليست هناك دولة تمثل قلب أو محور حضارته ، وهذا ما يجعل من الصعوبة فهم الإسلام وحضارته بالنسبة لمن هم خارج هذه الحضارة ، ويقول هنتنجتون أيضًا : إن صراع الإسلام والغرب يثير مشكلات ضخمة للعالم بطريقة أو بأخرى .(5/34)
إن الغرب يطالب بسيطرة فريدة على العالم ، والمبرر لذلك أنه يمثل القوة العالمية القائمة على أساسين هما : تفوق التكنولوجيا الأمريكية ، وتفوق الأيديولوجية العالمية القائمة علىالليبرالية وحقوق الإنسان . وتنظر الحضارات الأخرى إلى الغرب على أنه يمتلك قوة عسكرية واقتصادية خطيرة ، ولكنه منهار من الناحية الاجتماعية . ويتمثل هذا الانهيار الاجتماعى فى التفكك الأسرى ، وعدم التمسك بالمعتقدات الدينية , وانتشار الجريمة ، والمخدرات ، وارتفاع نسبة المسنين , وانتشار البطالة.. أما الغرب فإنه ينظر إلى نفسه على أنه نموذج لحضارة القرن الحادى والعشرين ، وتنظر إليه الحضارات الأخرى على أنه نموذج سيىء يحسن تجنبه وليس محاكاته .
ويضيف هنتنجتون : إن الغرب يسيطر على العالم الآن سيطرة كاملة، وسيظل مسيطرًا ومتفوقًا فى القوة خلال القرن الحادى والعشرين ، إلا أن التغييرات التدريجية والحتمية الأساسية تؤثر أيضًا على توازن القوى بين الحضارات، وستأخذ قوة الغرب فى الاضمحلال . فخلال خمسة وسبعين عامًا من 1920 حتى 1995 تراجعت السيطرة السياسية للغرب على المناطق العالمية بنسبة 50% , وتراجعت نسبة من يسيطر عليهم الغرب من سكان العالم 80%، وتراجعت سيطرة الغرب على الصناعة العالمية بنسبة 35% ، أما سيطرة الغرب على القوة العسكرية فقد تراجعت بنسبة 60% . وفى العالم 45 دولة مستقلة تنضوى تحت راية الإسلام ، وهو أقوى الديانات العالمية من حيث سيطرته الثقافية على المؤمنين به ، كما أنه دين له ميزة اقتصادية كبرى ، هى أنه يسيطر على معظم احتياطى البترول العالمى ، ولن ينضب هذا البترول إلا بعد سنوات طويلة جدًا , ولايزال الإسلام يمر بمرحلة النمو السكانى السريع ، ومن المتوقع أن يشكل المسلمون 30% من سكان العالم فى عام 2025 ، وقد تسببت الهجرة من الدول الإسلامية إلى دول أوروبا فى ردود فعل شديدة فى أوروبا ، حتى إن نصف عدد الأطفال فى بروكسل - مقر الاتحاد الأوروبى - يولدون من أمهات عربيات ، ويشكل الشباب المسلم الساخط العاطل عن العمل تهديدًا لأوطانهم الأصلية ولدول الغرب التى هاجروا إليها .. أما الصحوة الإسلاميةلاملام الجديدة فقد منحت المسلمين الثقة فى شخصيتهم المميزة ، وفى الإحساس بأهمية حضارتهم ، وفى القيم الإسلامية بالمقارنة بالقيم والحضارة الغربية فى العالم ، ويقول أيضًا : إن الخطر يكمن فى التفاعل بين هذه الصحوة والثقة الإسلامية التى تدعمها الزيادة السكانية المستمرة وبين مخاوف الحضارات المجاورة ، وهذه الحضارات المجاورة لحضارة الإسلام لديها شعور كامل بالخوف من التهديد الإسلامى .. الغرب قلق بسبب البترول وهواجس الانتشار النووى فى الدول الإسلامية , والهجرة من الدول الإسلامية، كما يشعر الغرب بالقلق على إسرائيل ، والانتقاص من حقوق الإنسان فى الدول الإسلامية . وكذلك فإن روسيا تشعر بالتهديد الإسلامى بصورة مباشرة ، ويتمثل فى انفصال الدول الإسلامية والمطالبة المسلحة للشيشان بالاستقلال ، وكذلك يخشى الصرب من قيام (ألبانيا العظمى) . وتخشى الهند من باكستان ، ومن جاذبية الإسلام لنحو مائتى مليون مسلم فى الهند واحتمال انسلاخهم منها، والصين أيضًا تشعر بالقلق تجاه المسلمين فى آسيا الوسطى ومن مطالبة المسلمين فى إقليم سنكيانج الصينى بالانفصال ، والصينيين فى أندونيسيا ، بل إن سكان أفريقيا جنوب الصحراء من غير المسلمين لديهم مخاوف أيضًا تجاه الإسلام .
أما عن مستقبل العلاقة بين الحضارات الأربع : الحضارة الغربية وحضارة الصين وحضارة الهند والحضارة الإسلامية ، فإن هنتنجتون يرى أن الصراع بينها حتمى ، ويرى أن الإسلام يمثل مشكلة ليس لها حل ، وليس أمام الغرب إلا أن يظهر تفهمًا أكبر للصحوة الإسلامية ، لأن هذه الصحوة سوف تتطور فى المستقبل أكثر مما هى عليه الآن ، وعلى الغرب أن يغير ردود فعله تجاه هذه الصحوة الإسلامية ، لأن موقف العجرفة والشعور بالتفوق الثقافى ومشاعر العداء الصريحة من جانب الغرب تجاه الإسلام هى أسوأ ردود فعل ممكنة , وإن كان هنتنجتون يصل أخيرًا إلى التنبؤ بأن الدول المجاورة للإسلام ستفعل كما حدث فى صربيا وتتصدى للصحوة الإسلامية , وكما كان الخوف من الألبان المسلمين هو الذى أتى بميلوسيفيتش عام 1987 إلى السلطة على أمل أن يقضى بالمذابح على المسلمين ، ولكن لن يجد العالم الأمر سهلاً حين يسعى إلى تحجيم (الحدود الدموية) للإسلام وعدم اتساعها .(5/35)
وهكذا فإن الخوف من الإسلام واعتباره هو (العدو) للحضارة الغربية وللحضارات الأخرى أصبح قائمًا على أساس نظرية متكاملة ، لها جذور تاريخية قديمة ، اكتملت وتبلورت على يد صمويل هنتنجتون أستاذ الدراسات الدولية فى جامعة هارفارد .. النظرية إذن نظرية أمريكية .. وهى فى حقيقتها ليست إلا تبريرًا فلسفيًا للحرب ضد الإسلام .. وقد ينكر بعض الأمريكيين أنهم يعتقدون صحة هذه النظرية .. ولكن ما تفعله أمريكا ليس إلا التطبيق العملى لها ، فالمفهوم الغربى فى هذا القرن - كما عبّر عنه هنتنجتون ، وكما نرى فى كتابات المفكرين والمحللين وتصريحات السياسيين ، ومواقف الدول الغربية ، وكما نرى على أرض الواقع - هو حوار بالصواريخ والطائرات والقنابل الذكية وآلة الحرب الهائلة التى تتحرك لتدمير دول إسلامية .
والدليل على نظرية هنتنجتون عن حتمية الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية ما نراه فى مناهج تدريس التاريخ للتلاميذ فى أمريكا والدول الغربية من تصوير المسلمين وفقًا لأنماط ذهنية ثابتة stereotypes فى الوعى الأمريكى والأوروبى ، تعكس التحيز وفقدان الموضوعية عند الحديث عن الإسلام والمسلمين .
وفى دراسة للدكتورة فوزية العشماوى للكتب المدرسية فى المناهج الأمريكية والأوروبية أكدت أن ما يدرسه التلاميذ عن الإسلام والعالم الإسلامى لا يزيد عن 3% من المقرر الدراسى ، و 97% من المقرر مخصصة لتاريخ أوروبا وأمريكا , وفى الغالب يكون الجزء المخصص للعالم الإسلامى فى إطار بلاد العالم الثالث سواء من الناحية الجغرافية أم التاريخية ، أم فى إطار توزيع الثروات الطبيعية فى العالم وخاصة البترول ، بينما تجعل المناهج من أوروبا وأمريكا المحور الذى تدور حوله الأحداث التاريخية المهمة ، وكأن الدول الإسلامية هوامش أو زوائد . ويتبين ذلك من إغفال الأحداث التاريخية المهمة التى تعتبر علامات ثابتة فى التاريخ العربى والإسلامى ، ويتم التركيز فقط على الأحداث التى تبرز تفوق الغرب وانتصاره على المسلمين ، مما يؤكد حرص واضعى المناهج الدراسية على غرس الاتجاه لرفض (الآخر) العربى والمسلم ، على أساس أنه مختلف عن الإنسان الغربى ، وعدم تفهم دوره فى التاريخ وقيمة هذا الدور . وتشير الدكتورة فوزية العشماوى إلى دراسة قامت بها تحت إشراف اليونسكو عن صورة المسلم فى الكتب المدرسية فى فرنسا وأسبانيا واليونان وخاصة كتب التاريخ فى نهاية المرحلة الابتدائية ، وكانت نتيجة البحث أن التاريخ الذى يتم تدريسه للتلاميذ الأوروبيين الصغار يعلمهم أشياء مختلفة تمامًا عما يتم تدريسه للتلاميذ العرب والمسلمين ، وتقدم للتلاميذ الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم بمعلومات تجرح شعور المسلمين ، فتجد نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم يتم تقديمه أحيانًا على أنه شاعر يرى رؤى خارقة ، ويشار إليه بألفاظ توحى بالشك فى مصداقيته ، وفى أغلب الأحيان يبدأ تدريس الإسلام بذكر الانتشار السريع المخيف للإسلام بالغزوات فى صدر الإسلام ثم بالفتوحات فى القرنين السابع والثامن الميلاديين ، وكيف أن جيوش المسلمين زحفت إلى أوروبا واكتسحت تلك البلاد واستولت عليها بقوة السيف، ونهبت أموالهم وثرواتهم إلى أن تمت هزيمة المسلمين على يد (شارل مارتال) القائد الفرنسى الذى أوقف الغزو الإسلامى فى معركة (بواتييه) فى جنوب فرنسا عام 732 ميلادية .(5/36)
كذلك يتم تصوير العرب فى حروبهم على أنهم يتعاملون بوحشية ، وتؤدى هذه الكتابات إلى أن تثبت فى أذهان الغربيين صورة المسلمين على أنهم الغزاة المتوحشون الذين يثيرون الرعب ، ويمثلون تهديدًا لجيرانهم . وفى الفصل الخاص بالحروب الصليبية تصور المناهج هذه الحروب على أنها كانت بهدف (تحرير بيت المقدس من أيدى الكفار) المسلمين الذين كانوا يحتلونها ويسيئون معاملة الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا لزيارة الأماكن المسيحية المقدسة فى القدس . ويدل على ذلك أن الأوروبيين مازالوا يرددون حتى اليوم الوصف الذى كان يطلق على المسلمين فى أوروبا فى القرون الوسطى ، وهو أنهم كفار دون محاولة من مؤلف الكتاب المدرسى لتصحيح هذا المفهوم الخاطىء.. وفى نفس الوقت تغفل المناهج الدراسية الإشارة إلى وحشية جيوش الصليبيين وعدم تسامحهم مع المسلمين سكان القدس حين انتزعوها من أيدى المسلمين عام 1099م , (بينما تعترف الموسوعات العلمية الكبرى بأن الصليبيين ذبحوا أكثر من 70 ألفًا من أهالى القدس المدنيين دون تمييز بين النساء والأطفال والشيوخ ، أو بين مسلمين ويهود ، وحتى بين المسيحيين من أهالى المدينة العزل ، ولا تشير المناهج إلى تسامح المسلمين حين استعادوا القدس عام 1187 على يد صلاح الدين الأيوبى الذى أصدر العفو عن كل الذين أساءوا إلى أهل المدينة) ، وهذه الواقعة سجلها التاريخ ، ولا يعلمها الغربيون لأنهم لم يدرسوها فى مدارسهم ، وتغفل المناهج الدراسية فضل العلماء والفلاسفة العرب المسلمين على النهضة الأوروبية فى القرن الخامس عشر الميلادى ، ونادرًا ما يذكر ابن رشد وابن المقفع والخوارزمى وابن سينا وابن النفيس الذين كانوا أساتذة ومعلمين لأوروبا بأسرها منذ القرن التاسع الميلادى ، ولهم اكتشافات علمية واختراعات ونظريات علمية وفلسفية كانت الأساس للنهضة الأوروبية حيت ترجمت أعمالهم إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية , وكثير من علماء عصر النهضة نسبوا لأنفسهم أفكارًا واكتشافات ونظريات المسلمين إلى أن بدأ بعض المستشرقين الغربيين يعترفون بفضل العرب والمسلمين على النهضة الأوروبية .
هكذا يعلمون تلاميذهم فى الغرب عن الإسلام والمسلمين ما يغرس الكراهية والعداء منذ الصغر ، فلا غرابة أن يعبروا عن هذه الروح العدائية عندما يكبرون ، ولا غرابة أن يظهر عندهم نظرية صراع الحضارات وحتمية الحرب العالمية الثالثة ضد الإسلام هذه المرة !(2) .
المراجع
(1) حمدى شفيق - العلماء يردون على أسطورة هرمجدون - الفصل الأول .
(2) رجب البنا - صناعة العداء للإسلام - دار المعارف - مصر .
الفصل الثانى
نقد نظرية الصراع
تنطوى الرؤية الهنتنجتونية هذه للعالم المعاصر على قدر هائل من التلفيق العلمى و (لَىِّ) عنق التاريخ , ولعل التلفيق الأكبر يكمن فى تجاهله للدول والمؤسسات السياسية ، رغم الدور المحورى الذى تلعبه الدولة - سواء امبراطوريات الأسر القديمة أو الدولة القومية الحديثة - فى قيام أية حضارة ، فالغرب عنده هو كتلة واحدة متجانسة ، رغم الاختلافات الشديدة بين أمريكا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى . والحضارة الإسلامية كذلك كتلة واحدة وليست دولاً وشعوبًا وقوميات مختلفة ، سواء كان ذلك فى ذورة قوتها ومجدها (عندما كانت حضارة عربية) إبان العصرين الأموى والعباسي ، أو كان ذلك فى ظل الخلافة العثمانية التى فرضت هيمنتها على جزء كبير من العالم القديم ، أو حتى فى العصر الراهن ، الذى تعانى فيه الدول الإسلامية من أقصى درجات الفقر والضعف الاقتصادى والسياسى والعسكرى والعلمى ، ناهيك عن التفكك فيما بينها .
ومن المعروف أنه لا يمكن لأى حضارة أن تقوم دون وجود مركز - الدولة - قوى اقتصاديًا وعلميًا وعسكريًا يقوم بدور الحاضن لها . ووفقًا لهذه الرؤية ، كانت الدولة العثمانية آخر مركز قوى - على الأقل عسكريًا - للحضارة الإسلامية . وفى ظل الوضع العالمى الراهن والتوازنات الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية ، لا يمكن لأية دولة إسلامية كبيرة نسبيًا (إيران ، مصر ، أندونيسيا ، باكستان ، تركيا) ، أن تقوم بدور (الدولة المركز) التى يمكن لها أن تقود هذه الحضارة الإسلامية المعاصرة - المزعومة - فى مواجهتها للحضارة الغربية - المزعومة أيضًا - أو أية حضارة هامشية أخرى .
أما التلفيق الأكبر الذى لجأ إليه هنتنجتون فهو رؤيته للحضارة الغربية ذاتها التى يصنفها استنادًا إلى معيارى الجغرافيا والدين فقط .
هذا التلفيق الهنتنجتونى يتعلق بجوهر الحضارة الغربية ذاته .(5/37)
فالحضارة الغربية هى الحضارة الوحيدة غير الدينية، أو بتعبير أدق هى الحضارة الأولى الما بعد دينية . وهى ليست نتاج ثورة أو طفرة نوعية ، وإنما هى محصلة لتراكمات هائلة وسلسلة ممتدة ، على طول امتداد التاريخ البشرى، من التحولات والحركات الثقافية والاجتماعية والمكتشفات العلمية والسياسية الكبرى . فمنذ ثلاثة قرون ، أو أكثر قليلاً ، لم يكن هناك من يتحدث عن حضارة غربية ، فالمصطلح الذى كان سائدًا آنذاك هو (العالم المسيحى) ومع عصر الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية التى تلته ، وانتشار أفكار عصر التنوير وصعود الطبقة التجارية البرجوازية ، تغلغلت العلمانية بين قطاعات واسعة من السكان , وكفت أوروبا عن حروبها الدينية ولم تعد (العالم المسيحى)، ولم يظهر مصطلح (الحضارة الغربية) إلا فى أوائل القرن العشرين . وهو مصطلح ينطوى ضمناً على الوعى بأن هذه الحضارة ، على النقيض من الحضارات المهيمنة السابقة ، لا تضع الدين فى مكانة محورية بالنسبة لها .
والمفارقة أنه فى الوقت الذي يروج فيه هنتنجتون وأتباعه لمفهومه التلفيقى عن (الحضارة الغربية) فإن النخبة الثقافية والسياسية لم تعد تنظر إلى أمريكا باعتبارها جزءًا من - أو حتى ناقلة لـ - الحضارة الغربية ، بل ينظرون إليها باعتبارها مجتمعًا متميزًا يجسد التعددية الثقافية والعرقية ، ثقافته محصلة تفاعل ثقافى بين الثقافات الأوروبية ، والإفريقية ، والإسلامية ، والآسيوية ، والسلافية ... إلخ . وتضرب هذه الثقافات بجذورها فى الحضارات الإفريقية والأمريكية اللاتينية والكونفوشيوسية والإسلامية ، وليس الأوروبية فقط . وهكذا تبشر أمريكا بنموذجها الثقافى باعتباره النموذج الوحيد لعصر العولمة . وبعد أن قادت العالم قسرًا إلى تحقيق التجانس الاقتصادى والتجارى والقانونى على الصعيد الكونى ، فإنها تحاول تحقيق تجانس كونى مماثل على الصعيد الثقافى .
ونحن لا نرى فى أطروحة هنتنجتون حول صراع الحضارات سوى فكرة تعبوية ذات رائحة عنصرية لا تستند إلى أية حقائق علمية أو مبررات أخلاقية، هدفها فقط تبرير الصدامات العنيفة التى يشهدها العالم نتيجة لرفض أناس كثيرين لمنطق (الهيمنة والابتلاع) وليس لمنطق العولمة .
وإذا كان هنتنجتون يقصد بفكرته حول (صراع الحضارات) أن (الحضارة الغربية تواجه الحضارات الأخرى) فإن معناها الحقيقى هو (أمريكا فى مواجهة العالم)(1) .
ويرى المفكر السويدى إنجمار كارلسون أن نظرية الصراع بها عدة نقاط ضعف :
• فـ (هنتنجتون) يقسم العالم إلى سبع أو ثمانى حضارات كبرى : (الغربية وتحتوى على حضارة غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ، والحضارة الكونفوشيوسية، واليابانية ، والإسلامية ، والهندوسية ، والسلافية – الأرثوذكسية ، وحضارة أمريكا اللاتينية ، وربما الحضارة الأفريقية) . غير أنه لا يعزى أية مكانة مميزة للديانة اليهودية ، وهو فى هذا المقال يصف إسرائيل بأنها (صناعة الغرب) (تعمد هنتنجتون ذلك لأنه يهودى) .
• وتقسيم هنتنجتون لا يسير على نسق واحد ، فبعض الحضارات تعرف على أساس معايير دينية وثقافية ، غير أن العامل الرئيس فى حالات أخرى هو الجغرافيا . وما الذى يميز حضارة أمريكا الشمالية عن حضارة أمريكا اللاتينية؟ إن كلاً من أمريكا الشمالية والجنوبية يقطنها المهاجرون الأوروبيون الذين حملوا معهم قيمًا لازالوا يتمسكون بها حتى الآن ، ومن الصحيح أن عنصر الهنود الحمر هو أكبر بكثير فى دول معينة من أمريكا اللاتينية كالمكسيك وجواتيمالا وبيرو والإكوادور عما هو عليه فى الولايات المتحدة ، غير أنه من الصحيح أيضًا أن تشيلى والأرجنتين وكوستاريكا هى أكثر أوروبية من الولايات المتحدة الأمريكية التى تتحول سريعًا إلى حضارة إسبانية ، وفى الواقع فكل من أمريكا الشمالية واللاتينية يمكن تمييزهما كحضارات غربية تمتزج بكل منها عناصر حضارية أخرى بدرجات متفاوتة.
وهل الفيليبينيون الكاثوليك غربيون أم آسيويون ؟ إن (هنتنجتون) يتحدث عن الحضارة البوذية , لكن ما الذى يجمع بين التايلانديين وأهل التبت والمغول والقلموقيين الذين يعيشون فى اتحاد الجمهوريات الروسية ؟
وأين يوجد العالم الكونفوشيوسى الذى يتحدث عنه (هنتنجتون) ؟ فعلى الرغم من الموروث الكونفوشيوسى المشترك ، فإن الصين وفيتنام كانتا دومًا أعداء, فـ (فيتنام) تساورها شكوك كبيرة بشأن نوايا الصين بغض النظر عمن تولى السلطة فى هانوى وبكين ، وبالمثل فجهود بكين للتأكيد على الموروث الكونفوشيوسى المشترك كتمهيد للاتحاد مجددًا بتايلاند كانت تقابل بنظرة احتقار من التايلانديين(2) .(5/38)
• ويرسم (هنتنجتون) خطوطًا مستقيمة عبر الخرائط التى تبين بدايات ونهايات الحضارات المختلفة ، ويعترف بأن مجال الحضارة الإسلامية ينقسم إلى العرب والأتراك والمالايويين ، ولكن لسبب ما يغفل عن الرافد الإسلامى الكبير فى إفريقيا ، ولا يتطرق حتى إلى الفروق الكبيرة بين المسلمين فى الأرخبيل الإندونيسى ، والمسلمين فى غرب أفريقيا ، والمسلمين فى قلب العالم العربى . و (هنتنجتون) يغفل أيضًا حقيقة أن الوحدة الإسلامية يكاد ينعدم أثرها بعد خمسين عامًا . وفى الحقيقة فقد ساد الانقسام العالم الإسلامى منذ وفاة رابع الخلفاء الراشدين عام 661 ميلاديًا ، وهذا لم يحدث بين السنة والشيعة فحسب ، ولكن على مستويات أخرى أيضًا .
• ويعرّف (هنتنجتون) حرب الخليج بأنها حرب بين الحضارات ، وفى الواقع لم يظهر أى صراع آخر بمثل هذا الوضوح ، كيف أن مصالح الدولة لها الغلبة على المناخ الدينى. فصدّام لم يبرر هجومه على الكويت بأسباب دينية ، فهو لم يلجأ إلى مثل هذا التبرير إلا حينما أرغم على الانسحاب فى مواجهة التحالف الذى تألف من المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وسوريا، فضلاً عن القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية ، بل إن الأسرة المالكة السعودية نجحت فى تحريك المراجع الإسلامية التى أصدرت فتوى مفادها أن دفاع الجنود الأمريكيين غير المسلمين عن مكة لا يتعارض مع تعاليم القرآن .
أما إيران فلا زالت تتحين الفرص ، وعلى الرغم من نبرة العداء لأمريكا ، فليس هناك ما تأخذه على (الشيطان الأكبر) إذا كان ما يفعله فى صالح أنصار آية الله .
• وإحدى النقاط المهمة التى يثيرها (هنتنجتون) هى أننا نشهد الآن ظهور المحور الإسلامى الكونفوشيوسى أو (الرابطة) : فبؤرة الصراع الأساسية فى المستقبل القريب ستكون بين الغرب والدول الإسلامية الكونفوشيوسية العديدة).
إن الدليل المادى الوحيد الذى يقدمه (هنتنجتون) لتأييد نظريته هو صادرات السلاح التى تقدمها كوريا الشمالية والصين إلى ليبيا ، وإيران ، والعراق ، وسوريا . وهذه الاتصالات بين النظامين الديكتاتوريين الشيوعيين وليبيا - التي تخضع لحكم القذافى الذى يسير على نهج (نظريات الكتاب الأخضر) التى يعتبرها جميع رجال الدين الإسلامى بدعًا – وكذلك مع نظامى حزب البعث المتنافسين فى دمشق وبغداد ، من الواضح تمامًا أنها لاتعبر عن أى تقارب أيديولوجى ، أو عن مؤامرة إسلامية كونفوشيوسية ، فالأمر لايتعلق سوى بالمادة ، وفضلاً عن ذلك فإحدى المشاكل الداخلية الكبرى التى تواجهها الحكومة الصينية هى الخوف من امتداد الصحوة الإسلامية لتصل إلى شعب يويجور فى سينكيانج ، عن طريق بنى جلدتهم من الأتراك فى وسط آسيا ، وهذا هو سبب تأييد الصين للهجمات على أفغانستان .
وإلا فيمكننا بالمثل القول بأن مبيعات الأسلحة الأمريكية والفرنسية إلى المملكة العربية السعودية تدل على إقامة تحالف إسلامى مسيحى .
وعلى هذا ، فما أوحى به (هنتنجتون) من الصدام بين الحضارات على المستوى الواسع لا يستند إلى أساس سليم ، ويبدو أنه يستند إلى حجة أقوى عندما يزعم أن الصراعات على المستوى الجزئى تتبع (الشروخ) بين مواطن الحضارات ، ويبدو أن الحرب الأهلية فى طاجيكستان والصراعات فى القوقاز تؤيد هذه النظرية ، بل والأكثر منها الحروب الأهلية فى جمهورية يوغسلافيا السابقة ، حيث اتبعت الخطوط الأمامية إلى حد كبير الخط التقليدى الفاصل بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وبين الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية هابسبورج .
غير أن هذه الحجج ذاتها لم تتحر قدرًا كبيرًا من التمحيص ، فلم تنشب حرب واحدة خلال القرن الماضى بسبب الصدام بين الحضارات أيّاً كان تعريفها.
وفى عام 1914م ، تحالفت برلين البروتستانية مع فيينا الكاثوليكية واستانبول المسلمة ضد موسكو الأرثوذكسية وباريس الكاثوليكية ولندن البروتستانتية ، وقد دخلت صربيا الأرثوذكسية بالفعل الحرب ضد فيينا الكاثوليكية ، غير أنها كانت فى حالة حرب أيضًا مع بلغاريا الأرثوذكسية ، كما أن الدول البادئة بالعدو فى الحرب العالمية الثانية وهى ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفييتى نجحت فى التعاون فيما بينها ، رغم أنها تنتمى إلى أقاليم ثقافية مختلفة ، وحينما هاجم (هتلر) (ستالين) لم يسأل (تشرشل) و (روزفلت) ما إذا كان حليفهما الجديد مسيحيًّا أو أرثوذكسيًّا أو شيوعيًّا .
والحربان العالميتان قتل فيهما أكثر من ستين مليونًا من البشر وكانتا بين المسيحيين ، ومعظم الحروب التى وقعت بعد عام 1945م كانت حروبًا داخل حضارات : حروب كوريا ، وفيتنام , وكمبوديا ، والصومال ، والعراق ، وإيران ، والكويت . فأطول الصراعات وأكثرها دموية فى الشرق الأوسط لم تنشب بين العرب واليهود ، ولكن بين المسلمين ، وهى الحرب بين العراق وإيران ، كما استخدم العرب العراقيون الغاز السام ضد الأكراد وليس ضد غير ذوى الملة .(5/39)
وعلى النقيض من نظرية (هنتنجتون) فالحروب التى اشتعلت فى يوغسلافيا السابقة بما فيها من تطهير عرقى لم تكن جهادًا ولكن حروبًا على السلطة والأرض بين الأرثوذكس والكاثوليك من غير ذوى الملة من جهة ، وبين المسلمين من جهة أخرى من خلال تحالفات غير دينية . أما صبغة الدين التى اصطبغت بها القومية فقد نمت بشكل واع إلى جوار العداوات والقلاقل الاجتماعية ، والصراعات التى شهدتها يوغسلافيا السابقة تبين كيف أنه من اليسير توظيف القومية كأداة ، غير أنها لا يمكن أن تقوم كدليل يؤيد نظرية الحرب بين الحضارات .
وفى البوسنة زعم الصرب أنهم يقاتلون الإسلام من أجل المسيحية ، ومن الصحيح أن الحروب التى نشبت فى يوغسلافيا السابقة اتبعت التخوم الثقافية بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وتطورت فيما بعد إلى حرب بين الأرثوذكسية والكاثوليكية ، وبين الأرثوذكسية والكاثوليكية من جهة والإسلام من جهة أخرى . ولكن هذا يرجع فى المقام الأول إلى اقتران القومية الصربية بإصرار قادة الحزب الشيوعى على عدم التخلى عن سلطتهم . أما الهجوم الصربى الذى كان يهدف إلى إقامة صربيا العظمى فقد كان موجهًا منذ البداية إلى الجارتين المسيحيتين سلوفينيا وكرواتيا . وفى البوسنة دافع المسلمون عن مجتمع متحضر ، بينما أظهر الصرب الأرثوذكس تعصبًا وضيق أفق لا يقل عما هو خليق بأشد المتعصبين من أية ديانة أخرى , وفى البوسنة وكوسوفا أيضًا تدخلت قوات من الحضارة الغربية لنصرة المسلمين .
إن الحضارات لا تسيطر على الدول ، بل على العكس من ذلك تسيطر الدول على الحضارات ، وهى لا تتدخل للدفاع عن حضاراتها إلا إذا كان هذا فى مصلحة الدولة .
وفى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا ، حاولت إيران أن تقوم بدور الوساطة وجنحت إلى تأييد مسيحيى أرمينيا لا مسلمى أذربيجان ؛ خشية أن يؤدى انتصار أذربيجان إلى تقوية النزاعات الانفصالية بين الأقلية الأذربيجانية الكبيرة العدد .
• فما يعطى الانطباع لأول وهلة بوجود صدام بين الحضارات يتبين عند تناوله بالتحليل أنه خصومة بين الدول على الموارد والأرض ؛ سعيًا وراء المزايا الاستراتيجية والسطوة السياسية . فالحرب ضد صدام حسين لم تكن حربًا بين الحضارات - فالحضارات لا تصنع الحروب - ولكنها قتال من أجل البترول والتوازن الاستراتيجى فى الشرق الأوسط ، والعداء بين بكين وواشنطن حول تايوان ، أو قرصنة نسخ أسطوانات الكمبيوتر ، أو صادرات السلاح ليس حربًا بين الكونفوشيوسية وتوماس جيفرسون ، لكنه صراع بين قوتين عظميين .
إن (هنتنجتون) يعرّف الحضارة بأنها : (أوسع مستويات الهوية التى يمكن للمرء أن ينتمى إليها) . وقليل جدّاً من الأشخاص هم الذين بإمكانهم أن ينتموا بأجسادهم إلى مفهوم واسع كمفهوم الحضارة ، فهم ينشدون بدلاً من هذا هويات ضيقة كالأمم أو الجماعات العرقية أو الدينية . وعلى الرغم من الإلحاح الدائم على الهوية الأوروبية فى هذه الآونة ، إلا أن التحقيقات التى قامت بها المفوضية الأوروبية تبين أن ما يزيد على 70% من سكان جميع الدول الأوروبية ينظرون إلى أنفسهم فى المقام الأول فى ضوء انتمائهم إلى أمم ، بينما تأتى الهوية الأوروبية فى مرتبة تالية .
• إن الحضارات التي يتحدث عنها (هنتنجتون) ليست شرائح متماثلة ومتنافرة يفنى بعضها الآخر ، ولكنها تتواءم مع بعضها البعض ، ليس فقط فى الأقاليم الحدودية ولكن فى مراكزها أيضًا ، بل إن الإسلاميين يستخدمون التقنيات الغربية كما ظهر جليًا فى أحداث 11 سبتمبر ، وهم بذلك يظهرون أيضًا أسلوبًا للتفكير غريبًا عن ثقافتهم ، ولنضرب مثالاً آخر : فى عام 1957م كان يوجد 1.7 مليون مسيحى فى كوريا الجنوبية ، وفى الوقت الحاضر يتراوح عددهم ما بين 14 و 17 مليونًا ، أى ما نسبته 40% من عدد السكان ، ويقال : إن الضربات المتوالية كانت موجهة إلى القيم الكونفوشيوسية التى تعد الأساس الذى قامت عليه المعجزة الاقتصادية الكورية والتى أفل نجمها الآن .
• إن نظرية (هنتنجتون) أحادية السبب تمامًا ، فهو لا يأخذ فى الحسبان الآثار التى تركها اقتصاد السوق الحر على الأنظمة السياسية ، وكذلك القوى التى حررت قيودها عمليات التكامل الاقتصادية ؛ ولهذا السبب فافتراض أن الصراعات المستقبلية سوف ترتبط بتوزيع الثروة بين الدول يستند إلى قدر أكبر من االمصداقية . ونسق العالم ذو القطبية الثنائية لم يحل محله (الصدام بين الحضارات) الذى ذكره (هنتنجتون) ، ولكن جاء بدلاً منه على حد قول (جيرجين هيبرمان) : (عدم القدرة على التنبؤ مجددًا) . وعلى الرغم من ذلك يمكننا أن نؤكد أن المستقبل لن يأتى معه بنهاية التاريخ ، أو بالصدام بين الحضارات .(5/40)
أما الصدام الحقيقى اليوم فليس بين الحضارات ، ولكن فى داخلها بين ذوى النظرة الحديثة التقدمية وبين من يتمسكون منهم بنظرة العصور الوسطى . وكمثال على ذلك : فبعد الهجوم على مركز التجارة العالمى قام (جيري فالويل) بمخاطبة مشاهدى التليفريون قائلاً : إن أمريكا تستحق العقاب ! فمن وجهة نظره أن من يجرون عمليات الإجهاض ، والمناصرين لحقوق الشواذ، وكذلك المحاكم الفيدرالية التى منعت الصلاة فى المدارس ، قد أثارت غضب الرب .
وعلى حد قول (هنتنجتون) ، فللإسلام حدود مخضبة بالدماء ، وهذه المقولة ليست فقط رمزية تاريخية ، ولكن لها خطورتها أيضًا ، فالإسلام والمسيحية عاشا جنبًا إلى جنب لمدة 1400 عام تقريبًا ، دومًا كجيران ، وفى معظم الوقت كخصوم ، وفى الواقع من الجائز اعتبارهما شركاء ؛ حيث إنهما يشتركان فى نفس الموروث اليهودى الهيلينى الشرقى ، وهما فى آن واحد تجمعهما معرفة قديمة .
والحضارة الإسلامية ليست غريبة كما تبدو غالبًا فى ضوء التحاملات والتصورات الغربية المسبقة . ومن أكثر الأساطير شيوعًا أسطورة تشارلز مارتل الذى أنقذ الغرب من الدمار بانتصاره على العرب فى بواتييه فى عام 732م، فقد أجبر العرب على الانسحاب من جبال البرانس حتى عادوا إلى جنوب أسبانيا ؛ حيث استمرت الدولة الإسلامية التى قامت هناك فى الازدهار لما يناهز 800 سنة، وهذا التواجد الإسلامى فى القارة الأوروبية لم يتسبب فى انهيار الحضارة الغربية ، بل أسفر عن تآلف متفرد ومثمر بين الإسلام والمسيحية واليهودية ، مما أدى إلى ازدهار ليس له مثيل فى العلم والفلسفة والثقافة والأدب .
• • •
إن الصراع بين بنى الإنسان لا يكون بالضرورة بين حضارات مختلفة . فالحضارة الحقيقية تعنى فى جوهرها التقدم المادى والروحى للأفراد والجماعات، أى أنها ترتقى بالإنسان ماديًا وروحيًا ، وتهذب من أخلاقه ، وتحد من نزعاته العدوانية ، وإنما يكون الصراع بين البشر من أجل مصالح ومطامع وأيديولوجيات متباينة وأهداف دينية أو سياسية ، فهو إذن صراع قُوَى تهدف به إلى فرض سيطرتها وتسلطها على قوى أخرى . أما الحضارات فإنها تدفع بالأحرى إلى الحوار لا إلى الصدام .
وقد شهدت البشرية هذا وذاك . فالمسلمون مثلاً قد اضطروا فى عصور الإسلام الأولى إلى الدخول فى صدام مسلح مع الروم - الذين كانت تمثلهم فى ذلك الوقت الدولة الرومانية الشرقية - ولكن مع ذلك لم يمنعهم على المستوى الحضارى من إجراء حوار حضارى مع الروم ، وإن كان حوارًا صامتًا - إذا جاز هذا التعبير - وقد تمثل ذلك فى ترجمة العلوم المختلفة لليونان إلى العربية، وتم ذلك أيضًا بالنسبة للفرس والهند ... إلخ .
وفى المقابل خاضت أوروبا بجحافلها القادمة من مختلف البلاد الأوروبية حربًا ضد المسلمين - سميت بالحروب الصليبية - استمرت ما يقرب من قرنين من الزمان ، ولكن ذلك لم يمنع أوروبا من القيام بحوار - على المستوى الحضارى - مع المسلمين تمثل فى حركة ترجمة نشطة لعلوم المسلمين إلى اللغة اللاتينية . وقد بلغت هذه الحركة ذروتها فى الفترة من القرن الحادى عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى .
وقد كان من الطريف فى هذا الصدد أن أوروبا أول ما عرفت الفلسفة اليونانية - وهى فلسفة أوروبية - عرفتها عن طريق النقل من العربية ، ولم تبدأ فى نقلها من اليونانية مباشرة إلا بعد سقوط القسطنطينية فى يد الأتراك العثمانيين , وهجرة العلماء اليونانيين على أثر ذلك إلى إيطاليا .
وفى العصر الحاضر بدأ العالم الإسلامى يترجم ما أنتجته الحضارة الغربية الحديثة من منجزات علمية ، ويرسل البعوث إلى جامعات الغرب للاغتراف من علومها وفنونها . وقد فعلت أوروبا الشىء نفسه فى الماضى بإرسال بعثات إلى الأندلس حينما كان للمسلمين فى الأندلس حضارة مزدهرة .
ومن ذلك يتضح أن الصراع الحضارى لم يكن هو القاعدة فى علاقة أوروبا بالإسلام ، بل كان التفاعل الثقافى يفرض نفسه دائمًا ، ويترك آثاره البعيدة والفعالة بعد زوال أسباب الصراعات الأخرى .
ونحن نزعم أن القرن الجديد لن يشهد صدامًا بين الحضارات وإن كانت هناك محاولات من جانب العولمة للترويج لنظم وقيم معينة تثير استفزاز الآخرين .
والذى يدعونا إلى القول بأن القرن الجديد لن يكون قرن صراع حضارى وإنما قرن حوار حضارى هو ما يلى :
أولاً : صراعات الماضى تختلف عن صراعات الحاضر اختلافًا أساسيًا . فنحن فى عصر ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية قد أصبحنا نعيش فى عالم يمثل قرية كونية كبيرة ، والأخطار التى تهدد عالمنا المعاصر قد أصبحت أخطارًا عالمية تهدد الجميع ، وتتطلب جهودًا دولية لمواجهتها مثل قضايا البيئة والمخدرات والإرهاب الدولى والجريمة المنظمة وأسلحة الدمار الشامل وأمراض العصر ، وعلى رأسها أمراض نقص المناعة أو (الإيدز) ،وغيرها من القضايا التى تتطلب تكاتف الجهود الدولية . ولعل ذلك هو الذى شجع الأمم المتحدة على الإعداد لتنظيم منتدى للحوار بين الحضارات عُقد عام 2001م دعمًا للتفاهم بين الثقافات والحضارات المختلفة .(5/41)
ثانيًا : إذا كانت الأصوات التى تروج لصدام الحضارات قد وجدت أصداء واسعة فى الشرق وفى الغرب ، فإن هناك جهودًا وأصواتًا مضادة فى الغرب ترفض بشدة مقولة هنتنجتون حول صدام الحضارات ، وبصفة خاصة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية .
ومن الأمثلة على ذلك ما شهده العقد الأخير من القرن العشرين من رفض واضح فى بعض الدوائر الغربية لنظرية صدام الحضارات - إذا جاز أن تسمى هذه الدعوة بالنظرية - . ومن بين تلك الأصوات العاقلة فى الغرب (الأمير تشارلز) ولى عهد بريطانيا الذى ألقى محاضرة مهمة فى 27 أكتوبر 1993(3) فى مسرح شيلدونيان بأكسفورد بمناسبة زيارته إلى مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية ، وأكد فيها أن (الذى يربط العالمين الغربى والإسلامى أقوى بكثير مما يقسمهما ؛ فالمسلمون والمسيحيون واليهود جميعهم (أصحاب كتاب) . والإسلام والمسيحية يشتركان فى النظرة الوحدانية : الإيمان بإله واحد ، وبأن الحياة الدنيا فانية ، وبالمسئولية عن أفعالنا ، والإيمان بالآخرة . إننا نشترك فى كثير من القيم) .
وأشار إلى أن حكم الغرب على الإسلام قد عانى من التحريف الجسيم نتيجة الاعتبار بأن التطرف هو القاعدة وقال :(إن التطرف ليس حكرًا على الإسلام ، بل ينسحب على ديانات أخرى بما فيها الديانة المسيحية . والغالبية العظمى من المسلمين يتسمون بالاعتدال . ودينهم هو دين الاعتدال) .
وأشار كذلك إلى أن هناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من الإسلام (وأن العالمَين الإسلامى والغربى يمكن أن يتعلما كثيرًا من بعضهما البعض) .
ورفض مقولة صدام الحضارات قائلاً : (أنا لا أوفق على مقولة أنهما (العالم الإسلامى والغربى) يتجهان نحو صدام فى عهد جديد من الخصومة والعداء ، بل إننى على قناعة تامة بأن لدى عالمَينا الكثير لكى يقدماه إلى بعضهما البعض) .
كما أشار أيضًا إلى أن الكثير من المزايا التى تفخر بها أوروبا العصرية قد جاءت أصلاً من إسبانيا أثناء الحكم الإسلامى . وخلص إلى القول : (إن الإسلام جزء من ماضينا وحاضرنا فى جميع مجالات البحث الإنسانى . وقد ساهم فى إنشاء أوروبا المعاصرة . إنه جزء من تراثنا وليس شيئاً منفصلاً عنه) .
وفى نفس الإطار نجد أن وزير الخارجية البريطانية (روبين كوك) يشير فى محاضرته فى المركز الإسماعيلى فى لندن فى 8 أكتوبر 1998م(4) إلى أن جذور الثقافة الغربية ليست يونانية أو رومانية الأصل فحسب ، بل هى إسلامية أيضًا . ويبين أن التحديات التى نواجهها تحديات عالمية . ويرفض مقولة صراع الحضارات ، وأن الإسلام هو العدو الجديد للغرب ويقول : (إن البعض يقول : إن الغرب بحاجة إلى عدو ، وبما أن الحرب الباردة قد ولت إلى غير رجعة ، فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتى القديم كعدو . ويقولون: إن صراع الحضارات قادم وأنه لا مفر منه . وأنا أقول : إنهم مخطئون، بل ومخطئون خطأ فادحًا . فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام كعدو ، بل نحن بحاجة إلى الإسلام كصديق) .
ويشير إلى أن (الغرب مدين للإسلام بالشىء الكثير ، فالإسلام قد وضع الأسس الفكرية لمجالات عديدة مهمة وكبيرة فى الحضارة الغربية . إن ثقافتينا قد تشابكتا مع بعضهما البعض عبر التاريخ والأجيال ، وهى تتشابك أيضًا فى وقتنا الحاضر) .
ويبرز كوك أهمية الحوار بين الجانبين ويقول : (اليوم أريد أن أقترح بأن نبدأ حوارًا جديدًا جديًا بين أوروبا والعالم الإسلامى . فقد حان الوقت لكى يبدأ الاتحاد الأوروبى ومنظمة المؤتمر الإسلامى بالحديث مع بعضهما البعض على أعلى مستوى ممكن) .
فإذا اتجهنا شطر أكبر دولة فى أوروبا ، ونعنى بها ألمانيا ، فإننا نجد اتجاهًا مماثلاً رافضًا تمامًا لفكرة صراع الحضارات ، ومتبنيًا أسلوب الحوار الحضارى . وقد ذهب الرئيس الألمانى (رومان هيرتسوج) خطوة أبعد فى هذا المجال بالدعوة إلى عقد مؤتمر فى العاصمة الألمانية برلين للحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية .
وقد وجه الدعوة إلى رؤساء خمس من الدول الإسلامية هى مصر والمغرب والأردن وأندونيسيا وماليزيا ، ورؤساء خمس من الدول الأوروبية هى إيطاليا وإسبانيا والنمسا والنرويج وفنلندا ، بالإضافة إلى ألمانيا الدولة المضيفة . وتم اللقاء فى 23 أبريل 1999م على مستوى المراكز البحثية المتخصصة .
وقد اشترك فى المؤتمر أيضًا ممثلون لدول أخرى مثل إنجلترا وفرنسا وسويسرا والسويد ولبنان . وصدر عن المؤتمر (بيان برلين) الذى يمثل خطة للعمل المستقبلى . وقد تضمن البيان العديد من التوصيات التى تدعم الحوار الحضارى بين الشرق والغرب ، وتستشرف مستقبل العلاقات بين المجتمعات الإسلامية والغربية .
وبالإضافة إلى ذلك صدر فى شهر مايو 1999م - كتاب للرئيس الألمانى بعنوان (الحيلولة دون صدام الحضارات - استراتيجية السلام للقرن الحادى والعشرين) . وقد تضمن هذا الكتاب آراء الرئيس الألمانى التى أعلنها حول هذا الموضوع فى الفترة من 1995م حتى 1999م ، كما تضمن أيضًا تعقيبات لأربعة من المفكرين المعروفين .(5/42)
ويؤكد الرئيس الألمانى رفضه المطلق للزعم بأن الشرق والغرب يستعدان لمواجهة مزعومة بين الإسلام والمسيحية . ويحذر من خطورة الترويج لمثل هذه الأفكار ، ويؤكد على ضرورة التركيز على القواسم المشتركة بين الحضارات .
ويشير الرئيس الألمانى إلى ضرورة بناء جسور الثقة بين الجانبين لمواجهة تحديات المستقبل التى تعد تحديات لنا جميعًا ، وتتطلب حلولاً دولية وتعاونًا مشتركًا بين الجميع ، كما يدعو إلى ضرورة تعرف الشعوب والحضارات على بعضها البعض على نحو أفضل للوصول إلى فهم مشترك ، واحترام متبادل وثقة متبادلة أيضًا . ويرى أن الحوار بين الحضارات والأديان يُعد أهم الواجبات الملقاة على عصرنا . وبصفة خاصة الحوار بين الإسلام والمسيحية .
ومن خلال هذه التوجهات الصادرة فى أوروبا من شخصيات لها وزنها يتضح لنا أن هناك تيارًا أوروبيًا قويًا رافضًا فكرة صدام الحضارات ، وهو تيار أقوى كثيرًا من تيار صمويل هنتنجتون ومن يشايعه . ولكن الشىء المؤسف أنه قد تم تسليط الضوء على نحو مريب على أفكار هنتنجتون السلبية ، وتم تضخيمها إعلاميًا ، وفى الوقت نفسه غابت عن الساحة الإعلامية تلك الأفكار الإيجابية والأصوات العاقلة التى ترفض صدام الحضارات وتتبنى حوار الحضارات(5) .
المراجع
1. مجلة (العربى) - العدد 518 - يناير 2002 .
2. انجمار كارلسون - (الإسلام وأوروبا) - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية.
3. نشر مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية هذه المحاضرة تحت عنوان: (الإسلام والغرب) عام 1993م .
4. مجلة منبر الإسلام - العدد الصادر فى شعبان 1419هـ الموافق ديسمبر 1998م ص 55-58 .
5. جريدة الأهرام 13/8/1999م .
الفصل الثالث
الحوار هو الحل
فى مواجهة مزاعم الصراع طرح علماء المسلمين خيار الحوار مع الآخر كمنهج إسلامى أصيل ، صرح به القرآن الكريم وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده .. يقول الدكتور بكر مصباح تنيرة(1) :
الحوار فى معناه اللغوى ، يفيد المحادثة والمناقشة والمناظرة التى تدور بين طرفين أو أكثر ، وتشمل موضوعات متعددة ومتباينة ، بعضها عام وبعضها خاص ، كما تتعرض للمشكلات التى تهم هذه الأطراف ، وهى تسعى وراء الحوار فيما بينها إلى معرفة الحقائق ، وتبادل الآراء والأفكار والخبرات حول الموضوعات المشتركة(2) . وتحديد المواقف من المشكلات القائمة، وطرح حلول لها ، والحوار بذلك يساعد على تنظيم العلاقات الإنسانية بما يوفر لكل طرف حاجاته التى يتطلع إليها ، ويحقق له غاياته المشروعة دون أن يكون ذلك على حساب حقوق الآخرين أو يسبب لهم أضرارًا تلحق بهم .
والحوار بهذا المعنى أسلوب من أساليب التفاهم بين الأفراد والجماعات والدول والحضارات ، وهو يرمى إلى تحقيق التعارف والتعايش والتعاون بين الناس جميعًا على أساس حرية الرأى واحترام الآخرين ، وتبادل المنافع .
والإسلام بحضارته الخالدة وتجربته الإنسانية العميقة ، والحافلة بأشكال تطبيق الحوار فى شؤون الدين الدنيا بين جميع البشر ؛ دون تمييز أو تحيز لأى سبب له دوره الرئيس الذى ينبغى أن يقوم به فى هذه المرحلة التاريخية المعاصرة .
وليس هذا بجديد ، فقد ازدهر الحوار فى ظل الحضارة الإسلامية ، وهذا لكون الحوار يمثل منهجًا من مناهج الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة لعبادة الله الواحد الأحد وتحقيق الإصلاح وتطهير المجتمع الإنسانى من الفساد وتنمية العلاقات الأخلاقية بين الجماعات والديانات والدول(3) .
وأوجز الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فى بيان جوهر رسالة الإسلام فى كلمات جامعة بليغة فقال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الإمام أحمد والحاكم .
والحوار منهج من مناهج الدعوة الإسلامية دعا إليه القرآن فى قوله سبحانه وتعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل:125 .
وقد أرسى الإسلام فى أصوله الثابتة الطاهرة ، القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة ، وإجماع السلف الصالح مبادىء الحوار ، وقد حفلت به مظاهر الحياة فى الحضارة الإسلامية فى جميع مراحل تطورها التاريخى منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً .
مبادىء الحوار فى الإسلام
لقد انفرد الإسلام بتفعيل وتحديد المبادىء الثابتة التى ينبغى أن يقوم عليها أى حوار ناجح ، يؤدى إلى تحقيق الأهداف المطلوبة منه ، ولاسيما الحوار السياسى الذى يختص بشؤون المجتمع والدولة ويشمل أمور الدين والدنيا ، وقد سبق الإسلام وحضارته بذلك الديانات والحضارات الماضية ، فالمبادىء الواضحة هى فى الحقيقة بمثابة القواعدالتى ينبغى أن يلتزم بها جميع أطراف الحوار ؛ كى يبلغ كل طرف الغايات التى يسعى إليها ، ومن أبرز المبادىء التى فصلها الإسلام للحوار الإيجابى والبنَّاء ما يلى :(5/43)
1- العلم الذى يستند إلى الحقائق الثابتة والمعلومات الدقيقة والصحيحة والخبرة العملية ؛ ولاسيما إذا كانت موضوعات الحوار تتناول القضايا العامة فى المجتمع والدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من شؤون الحكم . وينبغى أن يشارك المتخصصون فى مثل هذه المحاورات حتى تأتى النتائج والأحكام مفيدة تخدم أغراض الحوار ، وتعود بالنفع على أفراد المجتمع ورجال الحكم . وفى الدول الحديثة يتم تطبيق هذا المبدأ قبل إجراء أى حوار أو مناقشة، فيتم إعداد البحوث والدراسات التى تتناول الموضوعات من جميع جوانبها .
2- حرية الرأى التى تُعطى كل طرف من أطراف الحوار الحق فى أن يقبل أو يرفض ما يُعرض عليه من آراء وأفكار وعقائد وموضوعات شتى , وعلى الآخرين أن يحترموا هذه الحرية . والقاعدة الشرعية فى الفقه الإسلامى تقول: (إن كل عمل أو اتفاق يتم تحت الضغط والإكراه فهو باطل) ، كما يقول فقهاء الإسلام (يمين المكره باطلة وما بنى على باطل فهو باطل) ، يقول الله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس:99 .
ويؤكد الحق عز وجل هذا المبدأ وضرورة تطبيقه حتى مع الكافرين ، يقول تعالى : (وإن أحدٌُ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة:6 .
وقد حمى الإسلام هذه العناصر فمنع الإكراه والإغراء لتحرر الفكر ويمنع التقليد ، بل دعا الناس إلى النظر الحر فى الكون وما شمل من أسرار، فالحرية فى الإسلام مبدأ مقدس حتى فى اختيارالعقيدة لقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 .
3- العدالة بمعناها الواضح والشامل مبدأ إنسانى أقره الإسلام وجعله قاعدة من قواعد الحكم بين الناس ، وهو يقوم على إعطاء كل ذى حق حقه، والعدالة الإسلامية تحمى المسلمين وغير المسلمين ، وتفرض على أولى الأمر حماية حقوق الإنسان دون تمييز أو تحيز ، وهذا يقوى ثقة الإنسان بنفسه وفى النظام السياسى الذى يعيش فى كنفه ، وهذا يدفعه إلى المطالبة بحقوقه وممارستها من دون حرج أو خوف ، يقول تعالى فى محكم آياته : (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) المائدة:8 .
ويدعو الله رسوله الكريم إلى الحكم بالعدل حتى مع المخالفين لدين الإسلام، فيقول تعالى : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حُجّة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
يقول فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة فى ذلك : (ألا فليعلم الناس اليوم أنه لا يصلح العالم إلا إذا كانت العدالة ميزان العلاقات الإنسانية فى كل أحوالها، فلا يبغى قوى على ضعيف ولا يضيع حق ...)(4) .
4- المساواة وهى فى الإسلام تعنى إلغاء الفروق بين بنى الإنسان بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أو المال أو العلم، وإنما يكون التمايز بين الناس بالعمل الصالح الذى يعود عليهم جميعًا بالفائدة ، ولكل أجره على ذلك . والمساواة بهذا المعنى تبث الثقة بين الناس وتدفعهم إلى التعايش والتعاون، يقول الله سبحانه وتعالى : (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) آل عمران:195 .
وأيضًا (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل:97 .
ثم ينهى الله جل شأنه عباده عن أن يسخر بعضهم من بعض ، ويحقر بعضهم بعضًا ، أو يفخر بعضهم على بعض لأن مثل هذا السلوك يفسد العلاقات الإنسانية ، يقول تعالى : (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات:11 .
وإذا قامت المساواة فى المجتمع استقامت العلاقات بين أعضائه وتحقق التعاون فيما بينهم لحل المشكلات ومواجهة الصعوبات .
5- التسامح وهو خُلق إنسانى أصيل دعا إليه الإسلام ؛ لأنه يرفع الحرج فى العلاقات بين الناس ويجعل الإنسان يترفع عن الكره والبغضاء وروح الثأر والانتقام ، وهى صفات تفسد وتدمر الحياة البشرية على الأرض ، وتقطع سبل التفاهم والتعاون بين الناس .
وفى مقابل ذلك يدعو سبحانه وتعالى إلى العفو والتسامح ونسيان الأحقاد والعمل بالحسنى ، فيقول تعالى : (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم , وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فصلت:34-35 .(5/44)
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى فى التسامح مع أعدائه الذين حاربوا دعوته وأخرجوه من بلده وآذوه وحاولوا قتله ، وعندما نصره الله عليهم يوم فتح مكة المكرمة قال لقريش فى حوار نموذجى بين المنتصر والمهزوم : (ما تظنون أنى فاعل بكم)؟ قالوا : خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام : (أقول لكم كما قال أخى يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
هذه هى المبادىء السامية التى وضعها الإسلام لتقوم عليها العلاقات الإنسانية ، ويدور فى ضوئها الحوار أياً كان نوعه وموضوعه وغايته ، وإذا أخذت الجماعات والدول بهذه المبادىء فى المحاورات فيما بينها تكون قد خطت الخطوة الصحيحة فى حل المشكلات ، وتحقيق التعاون فيما بينها مصداقًا لقول الله جل شأنه : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) المائدة:2 .
تفاعل مع الآخر
ويرى الدكتور حسن عزوزى أن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضارى للإنسانية ، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه ، وقد تمّ دائمًا وأبدًا وفق هذا القانون الحاكم (التمييز بين ما هو مشترك إنسانى عام وبين ما هو خصوصية حضارية) .
ولا شك أن الخيار البديل لصدام الحضارات هو أن تتفاعل الحضارات الإنسانية مع بعضها بعضًا ، بما يعود على الإنسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة ، فالتفاعل عملية صراعية ولكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن ، عكس نظرية (صدام الحضارات) التى هى مقولة صراعية تدفع الغرب بإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفى الآخر، والسيطرة على مقدراته وثرواته تحت دعوى وتبرير أن نزاعات العالم المقبلة سيتحكم فيها العامل الحضارى .
والإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات ينكر (المركزية الحضارية) التى تريد العالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة فى الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى ، فالإسلام يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الأطراف ،ولكنه مع ذلك لا يريد للحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الحضارية القسرية، إنما يريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند فى كل ما هو مشترك إنسانى عام .
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان ، فإنه فى روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمى إلى تسنم (المركزية الدينية) التى تجبر العالم على التمسك بدين واحد ، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى فى تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى فى الكون ، قال تعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) المائدة:84، وقال أيضًا : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:118 - 119 .
إن دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقى الديانات والحضارات تنبع من رؤيته للتعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية ، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعًا : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) البقرة:285، بيد أنه لا يجوز أن يُفهم هذا التسامح الإنسانى الذى جعله الإسلام أساسًا راسخًا لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان فى أى كيان من الكيانات التى لا تتفق مع جوهر هذا الدين . فهذا التسامح لا يلغى الفارق والاختلاف ، ولكنه يؤسس للعلاقات الإنسانية التى يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضارى بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها .
وفى سياق التفاعل الحضارى المنشود يمكن القول : إن احتمال أن تتقدم حضارة على أخرى بهذا الجانب المنشود أو ذاك وارد ، كما هو الشأن بالنسبة للحضارة الغربية فى عالم اليوم، ولكن القول بأفضلية حضارة على أخرى هو قول متهالك، فمن يستطيع إثبات أن هذه الحضارة أفضل من تلك أو أغزر ثقافة وحكمة وإنسانية وتسامحًا، ولا يوجد فى الواقع أى مقياس أو معيار نقيس به هذه الأفضلية فى كل الجوانب ؟(5/45)
إن شرط ازدهار هذه القيم فى أى حضارة يرتبط أساسًا بمدى قدرتها على التفاعل مع معطيات الحضارات الأخرى ومكوناتها ، وبالتالى الاعتراف بهذه الحضارات ومحاورتها وقبول تعددية الثقافات وتفهم مفاهيم وتقاليد الآخرين، واعتبار الحضارة الإنسانية نتاجًا لتلاقح وتفاعل هذه الحضارات لا صراعها فيما بينها ، أو استعلاء بعضها على البعض الآخر . والحضارة الإسلامية منذ نشوئها وتكونها لم تخرج عن هذا الإطار التواق إلى التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً، تأثرًا وتأثيرًا. لقد حمل العرب قيم الإسلام العليا ومثله السامية وأخذوا فى نشرها وتعميمها فى كل أرجاء الدنيا، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوروبية الغربية فيما بعد، ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتجت حضارة إسلامية جديدة أسهمت فى إنضاجها مكونات حضارات الشعوب والأمم التى دخلت فى الإسلام، فاغتنت الحضارة الإسلامية بكل ذلك عن طريق التلاقح والتفاعل، وكانت هى بدورها فيما بعد عندما استيقظت أوروبا من سباتها وأخذت تستعد للنهوض مكوناً حضاريًا ذا بال أمدّ الحضارة الأوروبية الغربية بما تزخر به من علوم وقيم وعطاء حضارى متنوع .
ويمكن قول الشىء عينه عن الحضارة الغربية التي لم تظهر فجأة ، بل تكونت خلال قرون كثيرة حتى بلغت أوجها فى عصرنا الحاضر ، وذلك نتيجة التفاعل الحضارى مع حضارات أخرى هيلينية ورومانية وغيرها، وبفعل التراكم التاريخى وعمليات متفاعلة من التأثر والتأثير خلال التاريخ الإنسانى الحديث. إن أكبر دليل على أن الحضارة الإسلامية لم تسع فى أى وقت من الأوقات إلى التصادم مع الحضارة الغربية كما ينذر بذلك أصحاب نظرية الصدام الحضارى هو أن العرب والمسلمين لم يضعوا فى أى زمن من الأزمان صوب أهدافهم القضاء على خصوصيات الحضارة الغربية وهويتها الحضارية ، كما نجد الفكر العربى والإسلامى قد اتجه بانفتاح وقوة صوب التراث الغربى للاستفادة منه وتطويره، لقد كان هنالك فعلاً استجابة سريعة للحضارة العربية الإسلامية فى تفاعلها مع الحضارة الغربية، وهذا ما لا نلمسه فى الحضارة الغربية التى لا تسعى إلى الاستفادة من تراث ومعطيات الحضارات الأخرى(5).
تدافع الحضارات
ويميل بعض الكتّاب الإسلاميين إلى تسمية العلاقة بين الحضارات المختلفة بـ (التدافع بين الحضارات) بدلاً من (الصراع) .. ويستند هؤلاء في ذلك إلى قوله تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة:251 .. فغاية التدافع هى عمارة الأرض والإبقاء على الأنفع والأحسن والأكثر فائدة للبشرية، فالبقاء للأصلح وليس للأقوى، ولا للظلم كما يريد هنتنجتون وأمثاله .. فنحن فى إطار التدافع لا نستهدف القضاء على الآخر ولا مصارعته بل تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة لبنى الإنسان .. ويميل فريق آخر إلى تعبير (مصالح الحضارات) لما يجسده من قيم إنسانية تسهم فى بناء مجتمعات تقوم على مبدأ (التبادل الخلاق بين كل الثقافات) ، وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق حضارة واحدة هى الحضارة الغربية ، بل لابد من مشاركة لحل الحضارات العالمية الموجودة على الساحة .. والتبادل ليس للسلع الاستهلاكية وحدها ، وإنما يشمل ما هو أسمى وأبقى ، ألا وهو الندية والاحترام المتبادل والحوار الفكرى العالمى(6) .
نظرية التعارف
كما أسلفنا تبنى الكثير من المفكرين والمثقفين مقولة (حوار الحضارات)، وهى الرؤية التى دعا إليها فى وقت مبكر المفكر الفرنسى المسلم (روجيه جارودى)، وأكدها السيد (محمد خاتمى) فى خطابه الشهير الذى ألقاه سنة 1998م، فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما حدا بها لاختيار سنة 2001م عامًا للحوار بين الحضارات . وأصبحت هذه المقولة المقابل الأبرز لمصطلح الصدام . وبين هاتين المقولتين هناك نظرية ثالثة تُعرف بـ (تعارف الحضارات)، وهى أطروحة أطلقها المفكر الإسلامى زكى الميلاد ، فى رؤية مغايرة للنظريتين السابقتين ، وهى نظرية مستوحاة - كما لا يخفى - من القرآن الكريم .
وقد بدأ التعريف بهذه النظرية فى 1418هـ/1997م ضمن العدد(16) من مجلة (الكلمة) الفصلية التى يرأس تحريرها، ثم العددين 35 و 36 من ذات المجلة ، كما طرحها أيضًا فى مجلة الحج والعمرة عدد ربيع الأول عام 1424هـ/ 2003م ..
يقول زكى الميلاد شارحًا نظرية التعارف :
نظرية حوار الحضارات : هى نظرية أراد منها جارودى أن تكون خطاباً نقديًا وعلاجياً لأزمة الغرب الحضارية - كما يصفها - ولأنماط علاقاته بالعالم والحضارات غير الأوروبية. كما أراد منها أيضًا أن تكون خطابًا موجهاً إلى الغرب بصورة أساسية. لذلك فهى تنتمى وتصنف على النظريات الغربية التى تنطلق من نقد التجربة الغربية والفكر الغربى . ومن حيث نسقها المعرفى فهى تنتمى إلى المجال الثقافى وتحدد به لأنها تركز على الأبعاد الثقافية والفكرية والأخلاقية .(5/46)
وأما حوار الحضارات فى رؤية السيد محمد خاتمى فقد جاءت استجابة لبعض المعطيات والضرورات السياسية فى الدرجة الأولى، ومن أجل أن تكون خطاباً نقدياً بديلاً لخطاب صدام الحضارات. وقد ظلت تتحدد فى هذا النطاق، ولم تحول إلى نظرية واضحة ومتماسكة, ومازال العالم العربى والإسلامى يفتقر إلى نظرية تعبر عن رؤيته فى كيفية التقدم والتحضر، وعن أنماط علاقاته بالعالم.
فإذا اعتبرنا (صدام) الحضارات بوصفها نظرية تفسيرية، و (حوار الحضارات) بوصفها نظرية نقدية أو علاجية ، فإن تعارف الحضارات هى نظرية إنشائية بمعنى أن القاعدة فيها هى الإنشاء وليس الإخبار، فقد جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس كافة حينما انقسموا إلى شعوب وقبائل ، كما نصت الآية الكريمة التى أطلق عليها بآية التعارف ، رقم 13 فى سورة الحجرات : (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) .
فالتعارف هو المفهوم العام والكلى والجامع والشامل الذى اختارته هذه الآية فى تحديد النمط العام لعلاقات الناس كافة ، مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وسلالاتهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم ومذاهبهم، تاريخهم وجغرافياتهم. ولأن خطاب الآية إلى الناس كافة ، ولأن الحديث عن شعوب وقبائل وليس عن أفراد، أى أنه حديث عن أمم ومجتمعات وتجمعات لذلك فقد جاز لنا تطبيق هذا المفهوم على مستوى الحضارات، ومن هنا تحدد مفهوم تعارف الحضارات. فهى نظرية مستنبطة من القرآن الكريم، وهو الكتاب الذى بإمكانه تحديد وصياغة العناوين أو المفاهيم الكلية والعامة والجامعة والشاملة ، إذا جاءت فى سياق يقتضى هذا الشأن - كما هو الحال فى آية التعارف - علمًا بأن جملة (شعوبًا وقبائل) لم ترد فى القرآن الكريم إلا فى هذه الآية . لهذا فإن تعارف الحضارات فيها من المقومات والركائز والشرائط بالشكل الذى يجعلنا نطلق عليها مصطلح النظرية .
ويضيف زكى الميلاد :
إن نظرية تعارف الحضارات هى أكثر من كونها مرحلة وسيطة أو انتقالية، فهى وسيطة بمعنى أن على أساسها تتحدد مستويات ودرجات واتجاهات العلاقات ونظام التواصلات بين الناس، وبين المجموعات البشرية، وبين الحضارات، وهكذا أنماط وأشكال وصور هذه العلاقات والتواصلات. فالتعارف هو الذى يؤسس لأشكال الحوار ومستوياته ودرجاته، وإلى أشكال ومستويات ودرجات أخرى من العلاقات والتواصلات أيضًا ، كالتعاون والتحالف والتبادل والإنماء والاندماج والتكامل .. إلى غير ذلك من صور وأشكال وأنماط العلاقات . وبقدر ما يتطور التعارف تتطور تلك الصور والأنماط من العلاقات والتواصلات ، وهذا يعنى أن التعارف يسبق الحوار ويؤسس له أرضياته ومناخاته , ويشكل له بواعثه وحوافزه ، ويطور له صوره وأنماطه ، ويرتقى بدرجاته ومستوياته ، ولهذا فإن التعارف هو القاعدة وليس الحوار .
كما أن التعارف له من الفاعلية ما بإمكانه أن يجنب الحضارات مصير الصدام ، لأن الناس - كما قال الإمام على (رضى الله عنه) - أعداء ما جهلوا . وفى هذا المجال نستحضر من التاريخ الإسلامى الوسيط تجربة التحول العظيم الذى حصل عند المغول الذين بدؤوا بغزو كان من نتائجه تدمير الحضارة الإسلامية والإطاحة بها , وممارسة أعلى درجات البربرية وهو السلوك الذى كان يتصف بالقسوة والعنف والتخريب . ولكنهم وبعد زمن من السيطرة والتواجد فى المنطقة الإسلامية وبين المسلمين ، انتهوا إلى اعتناق الإسلام . والتعارف هو الذى أحدث هذا المستوى من التحول فى ذهنيات المغول . فالجهل قادهم إلى الحرب والتدمير ، والتعارف قادهم إلى السلم والإيمان .
وهناك أيضًا نموذج آخر هو التحول الذى حصل عند الأوروبيين بعد الحروب الصليبية التى قادتهم إلى قناعة جديدة ، هى ضرورة التعرف على الحضارة الإسلامية وعلى الشرق عمومًا ، الذى كان أكثر تقدمًا وتحضرًا ومدنية من الغرب . القناعة التى حرضت الغرب على أن ينهض بأكبر وأعظم جهد بحثى فى دراسة الإسلام والحضارة والشرق ، وهو الجهد الذى عرف بحركة الاستشراق ، وكان من المفترض لهذا الجهد أن يقود أوروبا إلى نوع من التفاهم وبناء علاقات جديدة بينها وبين الإسلام والعالم الإسلامى . لكن الذى حصل هو عكس الاتجاه تمامًا ، لأن المعرفة التى نهض بها الغرب ارتبطت بدوافع وخلفيات ومصالح استعمارية وإمبريالية ، وهذا يعنى أن التعارف لم يكن أخلاقيًا ، وإنما كان توظيفيًا ويخدم مصالح استعمارية .
وينتقد زكى الميلاد تعبير (حوار الحضارات) قائلاً :(5/47)
قد وجدت بعد فحص مقولة حوار الحضارات أن هذه المقولة تفتقر إلى الدقة والوضوح والإحكام والتماسك . وأول ما يعترض هذه المقول هو : هل أن الحضارات تتحاور فعلاً ؟ وكيف نتصور هذا التحاور ونبرهن عليه ؟ علمًا بأن الدارسين والباحثين والمؤرخين فى ميادين التاريخ والاجتماع والانثربولوجيا والحضارة والثقافة ، الذين درسوا صور وأشكال وأنماط العلاقات بين الحضارات لم يتحدثوا عن ظاهرة الحوار بين الحضارات ، وإنما تحدثوا عن ظواهر أخرى كالتفاعل والتعاقب والتبادل والاحتكاك ، إلى جانب الصراع والصدام . وقد شرحوا هذه الظواهر وعرفوا بها وعن صورها وأشكالها وأنماطها . ولعل فى أكثر الأحيان يكون المقصود من حوار الحضارات تلك الظواهر المذكورة، لكن هذا لا يعفى من سلب الدقة عن هذه المقولة . وفى الأدبيات العربية المعاصرة هناك لفتات متزايدة ومقنعة لحد ما فى نقد هذه المقولة بعد أن دخلت فى دائرة التداول والاهتمام . وهناك من يصنفها مثل الدكتور الجابرى بأنها مفعمة بالغموض والالتباس ، وحسب رأيه أن الذين يطرحون هذه المقولة يتوقفون عند منطوقها حيث ينطوى موقفهم على نوع من الغفلة ، لأن الحوار بين الحضارات إما أن يكون عفويًا تلقائيًا نتيجة الاحتكاك الطبيعى فيكون عبارة عن تبادل التأثير عن أخذ وعطاء بفعل الصيرورة التاريخية، وهذا النوع من تلاقح الحضارات لا يحتاج إلى دعوة ، ولا يكون بتخطيط مسبق بل هو عملية تاريخية تلقائية .
ومن جهة أخرى فى نقد هذه المقولة : أنها غير ممكنة فعلاً من جهة التطبيق ، لأن الغرب الذى يفترض فيه أن يكون طرفًا أساسيًا فى أى حوار على مستوى الحضارات ، فإنه ليس على استعداد فى أنها ينخرط فى هذا الحوار مع حضارات يعتبرها غير متكافئة معه ، وهو الذى يمثل الحضارة الغالبة والمسيطرة على العالم والمتحكمة فى ثرواته . كما أن تاريخ علاقات الغرب بالحضارات الأخرى قد لا يشجعه على هذا الحوار ، وهو الذى دخل فى صدام وتدمير مع بقية الحضارات الأخرى وسلب منها ثرواتها وأوصلها إلى درجة الإفقار والتخلف .
يضاف إلى ذلك أننا على مستوى العالم العربى والإسلامى لا نمتلك نظرية واضحة حول حوار الحضارات ، ولا نفهمها أو نتعامل معها إلا بطريقة تغلب عليها العمومية والإطلاقية التى تفتقد إلى التحديد والتقييد والتبيين . لكنها مع ذلك تبقى من المقولات التى يمكن اعتبارها دعوة أخلاقية نبيلة .
وهذا ما دفعنى إلى التمسك بمقولة (تعارف الحضارات) التى يمكن فهمها وتحديدها والبرهنة عليها , وحتى الاتفاق عليها . ويلاحظ زكى الميلاد أنه بعد 11 سبتمبر 2001م تنامت فى المجتمعات الغربية ظاهرة لفتت إليها الكثيرين فى داخل هذه المجتمعات ، وفى خارجها ، وهى ظاهرة تزايد واتساع الاهتمام نحو الاطلاع والتعرف والتساؤل عن الإسلام من جديد ، لدرجة أصبحت المؤلفات والكتابات فى هذا المجال هى الأكثر انتشارًا وتداولاً وطلبًا ، وبدأت المراكز والمعاهد والجمعيات الإسلامية هناك تستقبل اتصالات لم تشهد مثيلاً لها من قبل ، وتدور هذه الاتصالات حول الإسلام والقضايا الإسلامية والمجتمعات الإسلامية . ووصل الحال ببعض المعاهد والكليات والجامعات الأوروبية والأمريكية - التى وجدت من الضرورى تخصيص برامج دراسية حول الإسلام - أن تستجيب لحاجات طلابها فى تكوين المعرفة بالإسلام والثقافة الإسلامية ، ويمكن وصف هذه الظواهر بأنها تأتى فى سياق تأكيد الحاجة إلى تعارف الحضارات .
من جهة أخرى إن هذه الأحداث كشفت عن اختلالات عميقة فى طبيعة الرؤية المتشكلة حول العالم عند بعض الفئات والجماعات الإسلامية التى تحاول أن تصادم العالم وتنقطع عنه وترفض الاندماج فيه , وتعتبر أنها فى حالة حرب ومواجهة مع الذين يختلفون معها فى الدين والعقيدة . وهذه الحالة فى جوهرها تعبر عن أزمة فكرية ناشئة من عدم القدرة على تكوين المعرفة بالآخر المختلف . فىحين أن الذى ينبغى إعادة النظر فيه هو أن حقيقة مشكلتنا نحن فى العالم الإسلامى هى مع تخلفنا بالدرجة الأولى وليس مع الغرب أو الحضارات الأخرى . وبالتالى فإن القضية هى كيف نتغلب على هذا التخلف ونسلك طريق التحضر ، ومتى ما قطعنا هذه الخطوات أو بعضها سوف يتغير موقعنا فى العالم ، كما سوف تتغير نظرة العالم والحضارات الأخرى إلينا. لذلك فإننا ندرك وبعمق حاجتنا لأن ننهض بمشروع يكون بمستوى التعارف مع الحضارات على قاعدة أن نكتشف لأنفسنا الطريق الذى نستقل به فى سعينا نحو التمدن والتحضر .(5/48)
كان يفترض فى أحداث 11 سبتمبر 2001م ، أن تهيىء اللحظة التاريخية لانطلاقة فكرة أو نظرية حول تعارف الحضارات ، لكى يتحصن العالم من النزاعات والصدامات والحروب ، ولكى لا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى فى أى مكان من العالم . وهذا يتطلب صياغة رؤية جديدة للعالم يشترك الجميع بكل تنوعاتهم الدينية والثقافية ، العرقية والقومية ، اللغوية واللسانية ، فى صياغتها وبلورتها وتكاملها ، وفى التضامن حولها ، والدفاع عنها . الرؤية التى تنطلق من مراجعة شاملة ونقد جذرى لطبيعة النظام العالمى السائد بكل مكوناته وعناصره وشرائطه ، ويصل إلى جوهره وحقيقته . لأن هذا النظام العالمى يرسخ العنصرية والطبقية وبكل صورها وأنماطها ، ولا يضمن كرامة الجميع ولا يحفظ حقوق الجميع . وهذه الوضعيات هى التى تحرض على انتشار ظواهر العنف ، وتسبب النزاعات ، وتشعل الحروب ، وهى التى تجعل مثل أحداث أيلول/سبتمبر ممكنة الحدوث . والأفدح من ذلك محاولة الغرب أن يحتكر الحضارة والمدنية لنفسه ، ويرسخ فى العالم الانقسام بين أمم متحضرة وأمم متخلفة ، هذا الاختلال هو ما ينبغى أن يتغير .
وفكرة تعارف الحضارات تأتى فى سياق نقد هذا الاختلال والعمل على إنهاض وبناء وعمران الحضارات المختلفة ، لأنها - أى تعارف الحضارات - تنطلق من نزعة إنسانية عميقة هى التأكيد على وحدة الأصل الإنسانى ، والغاية من تأكيد وحدة الأصل الإنسانى فى هذه الآية هو أن ينظر الناس من أمم ومجتمعات وحضارات إلى أنفسهم كما لو أنهم أسرة واحدة ، لكنها منتشرة على مساحات هذه الأرض . وهذه النظرة الإنسانية والأخلاقية بحاجة إلى تنظيم قواعد السلوك على المستوى الدولى . يضاف إلى ذلك أن هناك اعتقادًا بدأ يتأكد بين الحضارات ، هو أن هذه الحضارات لا تعرف بعضها بعضًا كما ينبغى ، وتفتقد إلى جسور التواصل فى عالم تطورت فيه تقنيات الاتصال وأنظمة المواصلات التى باتت تربط العالم ، وتجعل منه أشبه ما يكون بقرية صغيرة. لهذا يمكن الاستفادة من العولمة فى تطوير وتعميم فكرة التعارف بين الحضارات، وتقليص المسافات التى تفصل بينها وإزالة جميع صور الجهل أو عدم الفهم أو غير ذلك فيما بين هذه الحضارات .
رأى المؤلف
نظن أن الاختلاف فى تحديد اسم العلاقة مع الآخر ، وهل هو (حوار) أم (تعارف) أم (تدافع) لا يهم .. المهم فى نظرنا أن يكون جوهر العلاقة مع الآخرين هو : التفاهم والتواصل والتبادل الحضارى ؛ أى تبادل المنافع والخيرات والخبرات ، كما نلاحظ أن المعانى متقاربة للغاية ، وكل منها يقره الإسلام بل يدعو إليه ..كذلك فإن التحاور هو الوسيلة إلى التعارف ، كما أن التدافع يعنى التفاعل الإيجابى، وأن يفيد كل طرف بما هو نافع وحسن لدى الآخر وينبذ الباقى .. وتبادل المنافع والثقافات والخيرات مرحلة تتبع الحوار والتعارف ثم التواصل والتآلف .. وبناء على ذلك ينبغى على علمائنا عدم التوقف كثيرًا عند المسميات ، وإثارة الخلافات النظرية حولها ، بل ننصرف سريعًا إلى المضمون والجوهر ، فمازلنا فى بداية الطريق ، والعبرة بالتطبيق وسرعة تحويل الأفكار والنظريات إلى واقع ملموس على الأرض .
• والمطلوب الآن ترسيخ ثقافة الحوار مع الآخر ، وبث مفاهيم التواصل والتبادل الحضارى على الجانبين ، وحشد أنصار جدد لها للتصدى للمعسكر الآخر الداعى إلى الصراع والصدام ، واستخدام كل السبل والوسائل المتاحة - وعلى رأسها وسائل الإعلام العالمية - للرد على جميع مزاعم هنتنجتون وأمثاله وتفنيد آرائهم الهدَّامة ، وإقناع الجميع بخطورة التسليم بها، وضرورة شيوع ثقافة الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى، فهى الحل الوحيد لإنقاذ البشرية كلها من ويلات ومخاطر لا تُبقى ولا تذر .
ضوابط الحوار :
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى ضوابط الحوار فيما يلى :
• الحوار بالحسنى : فالقرآن الكريم يأمرنا صراحة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) النحل:125 . فالموافقون لك فى الدين تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، والآخرون تجادلهم بالتى هى أحسن ، وهناك طريقتان للحوار : طريقة حسنة ، وطريقة أحسن منها وأجود ، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة التى هى أحسن وأمثل. وقد اكتفى القرآن مع الموافقين بأن تكون الموعظة حسنة ، ولم يرض مع المخالفين إلا أن يكون الجدال بالتى هى أحسن .
وقد نص القرآن على ذلك فى خصوص أهل الكتاب ، فقال تعالى : (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم) العنكبوت:46 .
ومن أجل ذلك أفضل أن يكون عنوان الدعوة (الحوار بين الأديان) وليس (التقريب)؛ لأنها تفهم خطأ .
• التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب ؛ ولهذا جاء فى تتمة الآية السابقة فى مجادلة أهل الكتاب : (وقولوا آمنا بالذى أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت:46 .
ففى مجال التقريب والحوار بالتى هى أحسن : ينبغى ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف .(5/49)
وهناك من المسلمين المتشددين من يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرفوا وبدلوا كلام الله .
وهذا فهم خاطىء للموقف الإسلامى من القوم . فلماذا أباح الله تعالى مؤاكلتهم ومصاهرتهم؟ وكيف أجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته وأم أولاده كتابية ؟ ومقتضى هذا : أن يكون أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم من أهل الكتاب، وهؤلاء جميعًا لهم حقوق ذوى الرحم وأولى القربى .
ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس - وهم مجوس يعبدون النار - على الروم ، وهم نصارى أهل الكتاب ؟ حتى أنزل الله قرآنًا يبشر المسلمين بأن الروم سينتصرون فى المستقبل القريب (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) الروم:4 ، 5 ، كما جاء فى أول سورة الروم .
وهذا يدل على أن أهل الكتاب - وإن كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم - أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين .
• الوقوف معًا لمواجهة أعداء الإيمان ، ودعاة الإلحاد فى العقيدة، والإباحية فى السلوك ، من أنصار المادية ، ودعاة العرى، والتحلل الجنسى والإجهاض والشذوذ الجنسى ، وزواج الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء .
فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب فى جبهة واحدة ، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضللة ، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من نقاء الإنسانية إلى درك الحيوانية : (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان : 43 ، 44 .
وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامى والفاتيكان يقفون فى (مؤتمر السكان) فى القاهرة سنة 1994م، وفى مؤتمر المرأة فى بكين سنة 1995م فى صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحية .
• الوقوف معًا لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين فى العالم، مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك، وكوسوفا ، وكشمير ، واضطهاد السود والملونين فى أمريكا وفى غيرها، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين فى الأرض بغير الحق، الذين يريدون أن يتخذوا عباد الله عبادًا لهم .
فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين، من أى شعب ، ومن أى جنس، ومن أى دين .
والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذى شارك فيه فى شبابه فى الجاهلية ، وكان حلفًا لنصرة المظلومين ، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم .
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو دعيت إلى مثله فى الإسلام لأجبت)(6).
• ومما ينبغى أن تتضمنه هذه الدعوة : إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق فى التعامل بين أهل الأديان ، لا روح التعصب والقسوة والعنف .
فقد خاطب الله تعالى رسوله محمدًا بقوله : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 .
وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : (إنما أنا رحمة مهداة)(7) .
وذم الله بنى إسرائيل بقوله : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) المائدة:13 ، وفى موضع آخر قال فى مخاطبتهم : (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة) البقرة:74 .
وقال النبى لزوجه عائشة : (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله)(8) ، (ما دخل الرفق فى شىء إلا زانه وما نزع من شىء إلا شانه) ، (إن الله يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف)(9) .
ولا تتنافى روح التسامح والرحمة والرفق فى معاملة أهل الكتاب مع ما يعتقده المسلم من كفرهم بدين الإسلام، وأنهم على ضلال، فهناك عناصر أخرى تخفف من هذا الأمر فى فكر المسلم وضميره :
1- فهو يعتقد أن اختلاف البشر فى أديانهم واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته . كما قال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:119،118، أى خلقهم ليختلفوا مادام قد منحهم العقل وحرية الإرادة .
2- وأن الحساب على ضلال الضالين، وكفر الكافرين ليس فى هذه الدنيا، ولكن فى الآخرة, وليس موكولاً إلينا ، ولكن إلى الله الحكم العدل، واللطيف الخبير . كما قال تعالى لرسوله : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولاتتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
3- اعتقاد المسلم بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان . وفى هذا روى البخارى عن جابر : أن النبى صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفًا، فقالوا : يا رسول الله ، إنها جنازة يهودى! فقال : (أليست نفسًا؟) بلى فما أعظم الموقف، وما أروع التعليل !!
4- إيمان المسلم بأن عدل الله لجميع عباد الله، مسلمين وغير مسلمين، كما قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة:8، وبهذا لا يتحيز المسلم الحق لمن يحب، ولا يحيف على من يكره. بل يؤدى الحق لأهله، مسلمًا أو غير مسلم، صديقًا أم عدوًا(10) .
المراجع
1. مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 رجب 1424 هـ .(5/50)
2. المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية - القاهرة - دار المعارف ص 205 .
3. الشيخ محمد الخضيرى - تاريخ التشريع الإسلامى - المكتبة التجارية - مصر .
4. محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - الدار القومية - القاهرة - 1964هـ ص 29 .
(5) موقع البلاغ www.balagh.com .
6. الدكتور أحمد عبد العزيز المزينى - مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 .
7. رواه ابن إسحاق فى السيرة كما فى ابن هشام (1/29) من الطبعة الجمالية، قال ابن زيد بن المهاجر قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرى يقول : قال رسول الله : فذكره، قلت : وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل . ولكن له شواهد تقويه ، فرواه الحميدى بإسناد آخر مرسلاً أيضًا كما فى (البداية) 2/29. وأخرجه الإمام أحمد (رقم 1655/ 1676) من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا دون قوله : (ولو دُعيت به فى الإسلام لأجبت) وسنده صحيح .
8. الحاكم : عن أبى هريرة :1/35 صححه الحاكم ووافقه الذهبى، تفسير ابن كثير 3/202،201.
9. متفق عليه : اللؤلؤ والمرجان عن عائشة (1400) .
(10) د. يوسف عبد الله - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل الرابع
هل انتشر الإسلام بالسيف ؟
من المزاعم التىتخيف الآخرين وتعرقل الحوار والتعارف ، تلك الأكذوبة التى يتداولها كثير من المستشرقين، وخلاصتها : أن الإسلام قد انتشر بالسيف.. ويمكننا الرد على هذه الفرية بكل سهولة وإيجاز فيما يلى :
• لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة 13 عامًا فى مكة يدعو إلى الله سراً وعلانيةً .. وتعرض هو وكل أصحابه لأذى المشركين واضطهادهم بكل الوسائل والأساليب ، فما رفع أحدهم سيفًا على مشرك .. وقد يقول قائل : هذا لأنهم كانوا مستضعفين فى ذلك الوقت .. ونرد فورًا بأن النبى صلى الله عليه وسلم عفا عمن آذوه وعذبوا أصحابه وقتلوا بعضهم عندما أمكنه الله منهم بفتح مكة ، وقال لهم قولته الشهيرة : (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(1) .
• إن استمرار وجود ملايين من غير المسلمين فى معظم دول العالم الإسلامى حتى الآن بكنائسهم ومعابدهم هو الدليل القاطع على تسامح المسلمين وعدلهم ، وحمايتهم للآخر ، وعدم إكراه أحد على الإسلام بعد أن فتحوا تلك البلدان . (قارن هذا التسامح بالإبادة الجماعية للمسلمين فى إسبانيا بعد انتهاء الحكم الإسلامى بها ، وإبادة الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين على أيدى البيض الذين قدموا من شتى أنحاء أوروبا واحتلوا الأمريكتين بقوة السلاح) .
• فى عصرنا الحديث اعتنق الملايين من الأوروبيين والأمريكان الإسلام .. ومازال عشرات الألوف يدخلون فى دين الله أفواجًا يوميًا بعد اقتناع ودراسة متأنية .. أى سيف الآن أجبر هؤلاء على الإسلام ؟! لقد اعترف الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية (أقوى دولة فى العالم والتى تحتل الآن دولاً إسلامية مثل العراق وأفغانستان) فهل نقدر الآن - كمسلمين - على ممارسة أى ضغط أو إجبار على أحد من الأمريكان أو الأوروبيين لاعتناق الإسلام ؟ هل أرغم أحد المفكر العالمى الفرنسى رجاء جارودى على اعتناق الإسلام ؟ هل هدد أحد النجم العالمى كات ستيفن ليصبح مسلماً ؟ وهل أجبر أحد الملاكم العالمى محمد على كلاى وزميله مايك تايسون على الإسلام ؟ وماذا عن مئات القساوسة فى الغرب الذين أسلموا بعد مقارنة للأديان ؟(2) .
• دخل الإسلام معظم أنحاء آسيا وأفريقيا عن طريق التجار المسلمين العزل من أى سلاح - سوى العقيدة الراسخة - الذين جذبوا أنظار السكان الأصليين بالأمانة والصدق ومكارم الأخلاق ، ونجحوا فى دعوتهم إلى الإسلام بالقدوة الحسنة .
• نصوص القرآن قاطعة فى النص على حرية العقيدة .. يقول الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير قوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) البقرة:256 . أخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال : (لا إكراه فى الدين) هذه الآية فى رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلماً ، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما ؛ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية . وفى بعض التفاسير أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله ، أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ! ولابن جرير عدة روايات فى نذر النساء فى الجاهلية تهويد أولادهم ليعيشوا ، وإن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام ، فنزلت الآية ، فكانت فصل ما بينهم ، وفى رواية له عن سعيد بن جبير أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عندما أنزلت : (قد خيَّرَ الله أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم) .(5/51)
قال الشيخ رشيد رضا فى تفسير الآية(3) : هذا حكم الدين الذى يزعم الكثيرون من أعدائه - وفيهم من يظن أنه من أوليائه - أنه قام بالسيف والقوة، فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه ، فمن قبله نجا ، ومن رفضه حكم السيف فيه حكمه ، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام فى مكة أيام كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى مستخفياً ، وأيام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من التعذيب ولا يجدون رادعاً ، حتى اضطر النبى وأصحابه إلى الهجرة ؟ أم يقولون إن ذلك الإكراه وقع فى المدينة بعد أن اعتز الإسلام ، وهذه الآية قد نزلت فى غرة هذا الاعتزاز ؟ فإن غزوة بنى النضير كانت فى ربيع الأول من السنة الرابعة ، وقال البخارى : إنها كانت قبل غزوة أحد التى لا خلاف فى أنها كانت فى شوال سنة ثلاث ، وكان كفار مكة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب . نقض بنو النضير عهد النبى صلى الله عليه وسلم ، فكادوا له وهمَّوا باغتياله مرتين ، وهم بجواره فى ضواحى المدينة ، فلم يكن بُدّ من إجلائهم عن المدينة ، فحاصرهم حتى أجلاهم ، فخرجوا مغلوبين على أمرهم ، ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهودين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع اليهود، فذلك أول يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام ، وهو اليوم الذى نزل فيه (لا إكراه فى الدين) .
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله أنه قال : كان معهودًا عند بعض الملل لاسيما النصارى حمل الناس على الدخول فى دينهم بالإكراه ، وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين، لأن الإيمان - وهو أصل الدين وجوهره - عبارة عن إذعان النفس ، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالبيان والبرهان ، ولذلك قال تعالى بعد نفى الإكراه : (قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 ، أى قد ظهر أن فى هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير فى الجادة على نور، وأن ما خالفه من الملل والنحلل على غى وضلال .
ثم قال : ورد بمعنى هذه الآية (يونس:99) قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وتؤيدهما الآيات الكثيرة الناطقة بأن الدين هداية اختيارية للناس ، تعرض عليهم مؤيدة بالآيات والبينات ، وأن الرسل لم يبعثوا جبارين ولا مسيطرين ، وإنما بعثوا مبشرين ومنذرين . ولكن يُرد علينا أنا أمرنا بالقتال ، وقد تقدم بيان حكمة ذلك ، بلى أقول : إن الآية التى نفسرها نزلت فى غزوة بنى النضير، إذ أراد بعض الصحابة إجبار أولادهم المتهودين أن يسلموا ولا يكونوا مع بنى النضير فى جلائهم كما مر ، فبين الله لهم أن الإكراه ممنوع ، وأن العمدة فى دعوة الدين بيانه حتي يبين الرشد من الغى، وأن الناس مخيرون بعد ذلك فى قبوله أو تركه . ثم قال : شرع القتال لتأمين الدعوة، ولكف شر الكافرين عن المؤمنين، لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه، كما كانوا يفعلون ذلك فى مكة جهرًا، ولذلك قال : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) البقرة:193 ، أى حتى يكون الإيمان فى قلب المؤمن آمنا من زلزلة المعاندين له بإيذاء صاحبه، فيكون دينه خالصاً لله غير مزعزع ولا مضطرب، فالدين لا يكون خالصاً لله إلا إذا كفت الفتن عنه وقوى سلطانه، حتى لا يجرؤ على أهله أحد.
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده أن الفتن إنما تكف بأحد أمرين :
الأول : إظهار المعاندين للإسلام ولو باللسان، لأن من فعل ذلك لا يكون من خصومنا، ولا يبارزنا بالعداء، وبذلك تكون كلمتنا بالنسبة إليه هى العليا، ويكون الدين لله، ولا يفتن صاحبه فيه، ولا يمنع من الدعوة إليه .
والثانى : - وهو أدل على عدم الإكراه - قبول الجزية، وهى شىء من المال يعطوننا إياه جزاء حمايتنا لهم بعد خضوعهم لنا، وبهذا الخضوع نكتفى شرهم، وتكون كلمة الله هى العليا .
فقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولايسمح لأحد أن يكره أحداً من أهله على الخروج منه . وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا فى ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدى بمثله عليه ، إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل المخالفين بالتى هى أحسن ، معتمدين على أن تَبَيُّن الرشد من الغى هو الطريق المستقيم إلى الإيمان، مع حرية الدعوة، وأمن الفتنة . فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار، أى أنه ليس من جوهره ومقاصده، وإنما هو سياج له وجُنَّة، فهو أمر سياسى لازم له للضرورة، ولا التفات لما يهذى به العوام ومعلموهم الطغام، إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف، وأن الجهاد مطلوب لذاته، فالقرآن فى جملته وتفصيله حجة عليهم .(5/52)
وذكر أيضًا فى تفسير قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أن هذه أول آية نزلت فى أن الدين لا يكون بالإكراه، أى لا يمكن للبشر ولا يُستطاع، ثم نزل عند التنفيذ (لا إكراه فى الدين) (البقرة:256) أى لا يجوز ولا يصح به، لأن علماء المسلمين أجمعوا على أن إيمان المُكْره باطل لا يصح، لكن نصارى أوروبا ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام ، ويُخَيِّرونهم بينه وبين السيف يقطع رقابهم، على حد المثل : (رمتنى بدائها وانسلت) .
فهذا ما يقوله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير تلك الآية, وهما اللذان كان لهما ولأستاذهما جمال الدين الأفغانى الفضل فى تطهير الإسلام مما لصق به من آثار الجمود، حتى أعادوه إلى طهارته وروعته الأولى، فأمكنه أن يقف كالصخرة العاتية أمام سيل الشبهات التى توجه إليه فى هذا العصر، ولولا هذا لتزعزعت أركانه ، ولاختفى فى ظلمات الجمود التى كانت تخيم عليه، وتساعد أعداء الإسلام فيما يوجهونه من طعنات إليه، كما يساعدونهم فى جمودهم على تفسير تلك الآية بما يفيد أن الإسلام لم ينتشر إلا بالإكراه .
شهادة مفكر مسيحى
وهناك أيضًا شهادات المنصفين من غير المسلمين ، ونختار منها شهادة ذلك المفكر المصرى المسيحى الدكتور نبيل لوقا بباوي(4) الذى أصدر مؤخرًا دراسة تحت عنوان : (انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء) رد فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنه انتشر بحد السيف وأجبر الناس على الدخول فيه واعتناقه بالقوة .
وناقشت الدراسة هذه التهمة الكاذبة بموضوعية علمية وتاريخية أوضحت خلالها أن الإسلام، بوصفه دينًا سماويًا، لم ينفرد وحده بوجود بفئة من أتباعه لاتلتزم بأحكامه وشرائعه ومبادئه التى ترفض الإكراه فى الدين، وتحرم الاعتداء على النفس البشرية، وأن سلوك وأفعال وفتاوى هذه الفئة القليلة من الولاة والحكام والمسلمين غير الملتزمين لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة .
فقد حدث فى المسيحية أيضاً التناقض بين تعاليمها ومبادئها التى تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر وعدم الاعتداء على الغير ، وبين ما فعله بعض أتباعها فى البعض الآخر من قتل وسفك دماء واضطهاد وتعذيب، مما ترفضه المسيحية ولا تقره مبادئها، مشيرة إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التى وقت على المسيحيين الكاثوليك، لاسيما فى عهد الإمبراطور دقلديانوس الذى تولى الحكم فى عام 248م، فكان فى عهده يتم تعذيب المسيحيين الأرثوذكس فى مصر بإلقائهم فى النار أحياء ، أو تعليقهم على الصليب حتى يهلكوا جوعًا، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان، أو كانوا يوثقون فى فروع الأشجار، بعد أن يتم تقريبها بآلات خاصة ، ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعى فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إرباً إرباً .
وأضاف بباوي : أن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحى ، إضافة إلى المغالاة فى الضرائب التى كانت تفرض على كل شىء حتى على دفن الموتى ، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء، وأرخوا به التقويم القبطى تذكيرًا بالتطرف المسيحى. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية التى حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت فى أوروبا، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتى الذى أسسه الراهب مارتن لوثر الذى ضاق ذرعاً بمتاجرة الكهنة بصكوك الغفران ، فتصدوا له ولأتباعه وذبحوا الملايين منهم .
وهدفت الدراسة من عرض هذا الصراع المسيحى إلى :
أولاً : عقد مقارنة بين هذا الاضطهاد الدينى الذى وقع على المسيحيين الأرثوذكس من قبل الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ، وبين التسامح الدينى الذى حققته الدولة الإسلامية في مصر، وحرية العقيدة الدينية التى أقرها الإسلام لغير المسلمين ، وتركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية داخل كنائسهم، وتطبيق شرائع ملتهم في الأحوال الشخصية، مصداقًا لقوله تعالى في سورة البقرة : (لا إكراه في الدين) البقرة:256، وتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية إعمالاً للقاعدة الإسلامية (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهذا يثبت أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقوة لأنه تم تخيير غير المسلمين بين قبول الإسلام أو البقاء على دينهم مع دفع الجزية (ضريبة الدفاع عنهم وحمايتهم وتمتعهم بالخدمات)، فمن اختار البقاء على دينه فهو حر، وقد كان في قدرة الدولة الإسلامية أن تجبر المسيحيين على الدخول في الإسلام بقوتها، أو أن تقضى عليهم بالقتل إذا لم يدخلوا قهرًا، ولكن الدولة الإسلامية لم تفعل ذلك تنفيذاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فأين دعوى انتشار الإسلام بالسيف ؟(5/53)
ثانيًا : إثبات أن الجزية التى فرضت على غير المسلمين فى الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان التى وقعت معهم، إنما هى ضريبة دفاع عنهم فى مقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أى اعتداء خارجى، لإعفائهم من الاشتراك فى الجيش الإسلامى حتى لا يدخلوا حربًا يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به، ومع ذلك فإذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى الجيش الإسلامى برضاه فإنه يعفى من دفع الجزية .
وتقول الدراسة : إن الجزية كانت تأتى أيضًا نظير التمتع بالخدمات العامة التى تقدمها الدولة للمواطنين مسلمين وغير مسلمين، والتى تنفق من أموال الزكاة التى يدفعها المسلمون بصفتها ركناً من أركان الإسلام، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرًا ضئيلاً متواضعًا لو قورنت بالضرائب الباهظة التى كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيين فى مصر، ولا يعفى منها أحد، فى حين أن أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس كانوا يعفون من دفع هذه الجزية، فقد كان يعفى من دفعها : القُصّر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب الأمراض والرهبان والفقراء أيضًا كانوا يعفون .
ثالثاً : إثبات أن تجاوز بعض الولاة المسلمين ، أو بعض الأفراد أو بعض الجماعات من المسلمين فى معاملاتهم لغير المسلمين إنما هى تصرفات فردية شخصية لا تمت لتعاليم الإسلام بصلة، ولا علاقة لها بمبادىء الدين الإسلامى وأحكامه، فإنصافاً للحقيقة يجب ألا ينسب هذا التجاوز للدين الإسلامى، وإنما ينسب إلى من تجاوز، وهذا الضبط يتساوى مع رفض المسيحية للتجاوزات التى حدثت من الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس، ويتساءل قائلاً : لماذا إذن يغمض بعض المؤرخين عيونهم عن التجاوز الذى حدث فى جانب المسيحية ولا يتحدثون عنه بينما يضخمون الذى حدث فى جانب الإسلام، ويتحدثون عنه ؟ ولماذا الكيل بمكيالين ؟ والوزن بميزانين؟!
• ونشير فى هذا الصدد إلى الواقعة المشهورة التى ترويها كتب التاريخ (سيرة عمر بن الخطاب للإمام الجوزى) التى اقتص فيها الفاروق عمر من ابن والى مصر عمرو بن العاص الذى ضرب قبطيًا ظلمًا ، وقال الفاروق كلمته المشهورة : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟!) .
المراجع
(1) راجع سيرة ابن هشام – السيرة النبوية لابن كثير – فقه السيرة للشيخ محمد الغزالى .
(2) انظر قصص إسلام هؤلاء فى : www.thetruereligion.org/converts ، وموقع www.saaid.net ، www.islamway.com .
(3) تفسير المنار - سورة البقرة - الآية 256 . وقارن تفسير هذه الآية فى الجامع لأحكام القرآن للقرطبى - تفسير ابن كثير - تفسير النسفى - تفسير البيضاوى - تفسير الطبرى - فى ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب .
(4) نبيل لوقا بباوى - انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء - دار بباوى للنشر - القاهرة 2003م .
الفصل الخامس
الأقليات فى المجتمع الإسلامى
لكى ندرك عظمة التشريع الإسلامى فى الاعتراف (بالآخر) وحفظ حقوقه فى إطار من التعايش السلمى للمجتمع بجميع طوائفه وفئاته، علينا أن نشير إلى ما كانت عليه الأمم الأخرى قبل ظهور الإسلام ..
• فالرومان كانوا يحتكرون (السيادة والشرف) للجنس الرومانى، ويرون فى الأخرين والأغيار (برابرة) لا يستحقون حتى أن يطبق عليهم القانون الرومانى! .. ولا حق لهم فى التدين بغير دين السادة الرومان - وثنّيا كان هذا الدين أو نصرانيًا - ولقد صبوا جام اضطهادهم، فى حقبة الوثنية، على اليهود وعلى النصارى، وفى حقبة تنصرهم، على النصرانية الشرقية - المخالفة لهم فى المذهب - فى مصر والشام .
• واليهودية التلمودية، قد تحولت إلى (وثنية) جعلت الله، سبحانه وتعالى، إله بنى إسرائيل وحدهم، وللشعوب الأخرى آلهتها، وذلك بدلاً من الإيمان بأنه، سبحانه، هو إله العالمين .. ولقد صبوا جام اضطهادهم على المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، وعلى حوارييه والذين آمنوا به واتبعوه.
والنصرانية - هى الأخرى - بادلت الآخرين إنكارًا بإنكار، واضطهادًا باضطهاد.. فبمجرد أن أفاقت - فى مصر مثلاً - من الاضطهاد الوثنى الرومانى، وفور تدين الدولة الرومانية بالنصرانية، على عهد الإمبراطور (قسطنطين) (274 - 337م) صبت هذه النصرانية جام اضطهادها على الوثنية المصرية، فدمرت معابدها، وأحرقت مكتباتها، وسحلت وقتلت ومزقت وأحرقت فلاسفتها .. وسجل التاريخ كيف قاد بطرك الكنيسة المصرية (تيوفيلوس) (385 - 412م) (حملة اضطهاد عنيفة ضد الوثنيين، واتجه للقضاء على مدرسة الإسكندرية، وتدمير مكتبتها وإشعال النار فيها .. وطالت هذه الإبادة مكتبات المعابد .. وتم السحل والتمزيق والحرق لفيلسوفة الأفلاطونية الحديثة، وعالمة الفلك والرياضيات (إناتيه) (370 - 415م) وذلك فضلاً عن تحطيم التماثيل .. والعبث بالآثار ..)(1).
ثم عادت النصرانية اليعقوبية إلى موقع الضحية والمضطهد من النصرانية الملكانية الرومانية، بعد الاختلاف حول طبيعة المسيح، عليه السلام ..(5/54)
ثم جاء الإسلام فأحدث (الإصلاح الثورى) فى العلاقة بالآخرين، وبلغ فى العمق والسمو الحد الذى جعل فيه الآخر جزءًا من الذات ، وكما يقول المفكر الإسلامى الدكتور محمد عمارة : فقد وضع الإسلام هذه المبادئ كمواد فى دستور دولته الأولى - دولة النبوة والخلافة الراشدة - .. وصياغات دستورية فى المواثيق والمعاهدات والعهود التى عقدتها الدولة الإسلامية مع (الآخرين) الذين قامت بينهم وبين دولة الإسلام علاقات ومصالح وارتباطات، ثم تجسد كل ذلك فى الواقع والحضارة والتاريخ ..
ففى دستور دولة المدينة - (الصحيفة .. الكتاب) - الذى وضعه رسوله الله صلى الله عليه وسلم عند قيام هذه الدولة، عقب الهجرة، لينظم الحقوق والواجبات بين مكونات الأمة، فى الوطن .. نص هذا الدستور على أن القطاعات العربية المتهودة من قبائل المدينة، ومن لحق بهم وعاهدوه، قد أصبحوا جزءًا أصيلاً فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة لهذه الدولة الإسلامية.. فنص هذا الدستور على أن (يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتَنَاصر عليهم .. وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم .. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه)(1) .
وهكذا تجسد التحام (الآخر اليهودى) فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة للدولة، فى ظل المرجعية الإسلامية، ومن خلال سعتها التى نص عليها هذا الدستور عندما قال: (.. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ..)(3) .
كذلك تجسد هذا الالتحام (بالآخر)، وتحققت هذه المساواة وإياه فى العلاقة التى أدخلت النصارى - نصارى (نجران) وكل المتدينين بالنصرانية - فى صلب الأمة الواحدة، وفى رعية الدولة المتحدة، فنص ميثاق العهد الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى (نجران) على مجموعة من المبادئ الدستورية التى وضعت مبادئ علاقة الإسلام بالآخرين فى الممارسة والتطبيق .. فجاء هذا الميثاق :
(.. ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملتها ، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية .. جوار الله وذمة محمد رسول الله على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير .. أن أحمى جانبهم، وأذُب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا من بر أو بحر، شرقًا وغربًا، بما أحفظ به نفسى وأهل الإسلام من ملتى) ..
ولم يقف هذا الميثاق، فقط ، عند ضمان حرية الاختلاف فى المعتقد الدينى، وحرية إقامة هذا المعتقد المخالف للإسلام ..وإنما نص على احترام (الوجودالمؤسسى) لهذا التنوع والاختلاف .. (..فلا يُغَيَّر أسقف، ولا راهب من رهبانيته ..) .
ولأن الجزية هى (بدل جندية)، لا تُؤخذ إلا من القادرين ماليًا، الذين يستطيعون حمل السلاح وأداء ضريبة القتال دفاعًا عن الوطن، وليست (بدلاً من الإيمان بالإسلام) وإلا لفرضت على الرهبان ورجال الدين .. وبدليل أن الذين اختاروا أداء ضريبة أداء الجندية فى صفوف المسلمين، ضد الفرس والروم، وهم على دياناتهم غير الإسلامية - فى الشام .. والعراق .. ومصر - لم تفرض عليهم الجزية، وإنما اقتسموا مع المسلمين الغنائم على قدم المساواة.. لأن هذا هو موقع (الجزية) فى علاقة الدولة الإسلامية بالآخرين، جاء فى ميثاق نصارى (نجران) : (..ولايُحشرون) أى لا يكلفون التعبئة العامة للقتال، ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم، لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران، فإنه ليس على أهل الذمة مباشرة القتال، وإنما أُعطوا الذمة على أن لا يُكلفوا ذلك، وأن يكون المسلمون مدافعين عنهم، وجوارًا دونهم ولا يكرهون على تجهيز أحد من المسلمين للحرب ، بقوة وسلاح وخيل، إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم، فيكون من فعل ذلك منهم وتبرع به حُمد عليه، وعُرف له وكُوفئ به ..) .
كما نص هذا الميثاق على أن العدل فى القضاء والمساواة فى تحمل الأعباء المالية إنما هى فريضة إلهية شاملة لكل الأمة، على اختلاف معتقداتها الدينية (.. فلا خراج ولا جزية إلا على من يكون فى يده ميراث من ميراث الأرض، ممن يجب عليه فيه للسلطان حق، فيؤدى ذلك على ما يؤديه مثله، لا يُجار عليه، ولا يُحمل منه إلا قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمراتها، ولا يُكلف شططا ولا يُتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه .. ولا يُدخل شئ من بنائهم فى شئ من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين .. ومن سأل منهم حقًا فبينهم النَّصَف غير ظالمين ولا مظلومين ..) .(5/55)
وإمعانا من الإسلام فى توفير عوامل التلاحم للأمة الواحدة، التى جعل الإسلام وحدتها فريضة نص عليها القرآن الكريم : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء : 92 . فلقد حققت التطبيقات الإسلامية فى الواقع الإجتماعى عددًا من الإنجازات التى سلكت الجميع فى الأمة الواحدة.. فالموالى - الذين كانوا أرقاء ثم حررهم الإسلام - دمجهم النظام الإسلامى فى قبائلهم، التى كانوا أرقاء فيها، ولحمهم فيها بلحمة (الولاء)، الذى جعله كالنسب سواء بسواء، يكسب هؤلاء الموالى شرف هذه القبائل وحسبها ونسبها .. ونصت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن (مولى القوم منهم) - رواه البخارى - وعلى (أن الولاء لحمة كلحمة النسب) - رواه الدارمى وأبو داود - حتى لقد أصبح بلال الحبشى (سيدًا) يقول عنه عمر بن الخطاب، وعن أبى بكر، الذى اشتراه وأعتقه : (سيدنا أعتق سيدنا!) .. وحتى لقد تمنى عمر أن يكون أحد الموالى - (سالم مولى أبى حذيفة) (12هـ - 633م) - حيا ليجعله خليفة على المسلمين! ..
والقبائل والعشائر، التى اندمج فيها الموالى، قد تحولت إلى لبنات فى بناء الأمة الواحدة ..
كذلك سلكت التطبيقات الإسلامية باب المصاهرة والزواج بين المسلمين وبين الكتابيات المحصنات؛ لتحقيق أعلى درجات التلاحم بين غير المسلمين وبين المسلمين فى بناء الأمة الواحدة .. فزواج المسلم من الكتابية يدخل ذويها من غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام) عند المسلمين، وتلك قمة التلاحم والاندماج .. وعنها يقول الإمام محمد عبده : (أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهى منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته فى العز والذل، والترحال والحل،بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه .. لم يفرق الدين فى حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية ، ولم تخرج الزوجة الكتابية، بإختلافها فى العقيدة مع زوجها، من حكم قوله تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم:21 ، فلها حظها من المودة ونصيبها من الرحمة وهى كما هى.. وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما أنها لباس له . أين أنت من صلة المصاهرة التى تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة، على ما عهد فى طبيعة البشر؟ وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوى القربى لوالدتهم. أيغيب عنك ما يستحكم من روابط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذى لم يُعهد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه؟ ..)(4).
ولذلك وحتى يكون هذا الزواج سبيلاً لهذا التلاحم، حرص عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) على أن يتوافر لهذا الزواج عنصر الرضا والقبول.. فالمرأة لابد، فى زواجها، من (ولى) ، وأولياء الكتابية كتابيون، فلا بد أن يكون هذا الزواج عن محبة ورضا وقبول واختيار .. وعن هذا المبدأ الإسلامى جاء فى هذا الميثاق : (ولا يُحمِّلوا من النكاح - (الزواج) - شططا لايريدونه، ولا يُكره أهل البنت على تزويج المسلمين، ولا يُضاروا فى ذلك إن منعوا خاطبًا وأبوا تزويجًا، لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم، ومسامحة أهوائهم، إن أحبوه ورضوا به ..) .
ولأن هذا التلاحم، بواسطة المصاهرة، لا يتحقق إلا فى ظل الاعتراف الإسلامى (بالآخر الدينى) ، وبحق هذا الآخر فى المغايرة الدينية - وهو ما تميز به الإسلام عن كل الآخرين، وبسببه جاز زواج المسلم من (الأخرى)، لأنه يعترف بدينها، ومُكلَّف باحترام عقيدتها وتدينها - على عكس موقف الآخرين من الإسلام، ومن عقيدة المسلمة - . لهذا التميز الإسلامى، كان زواج المسلم من الكتابية بابا للتلاحم، ولإدخال غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام)، ولم يكن هذا الزواج سببًا من أسباب الشقاق الاجتماعى ، فنص العهد مع نصارى (نجران) على أنه (إذا صارت النصرانية عند المسلم - (زوجة) - فعليه أن يرضى بنصرانيتها . فمن خالف ذلك وأكرهها على شئ من أمر دينها فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسول الله، وهو عند الله من الكاذبين..).(5/56)
وإذا كانت تطبيقات الدولة الإسلامية لهذه المبادئ الإسلامية، قد بلغت، وحققت - قبل أربعة عشر قرنًا - الحد الذى يدهش له الكثيرون فى عصرنا الحاضر .. من مثل تحرير جيش الفتح الإسلامى لمصر كنائس نصارى مصر من الاحتلال والاغتصاب الرومانى، لا ليحولها إلى مساجد للمسلمين، وإنما ليردها للنصارى اليعاقبة يتعبدون فيها .. فإن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) قد بلغ الذروة - فى تعامل الدولة الإسلامية مع دور العبادة هذه - إلى الحد الذى نص فيه على أن مساعدة الدولة الإسلامية لغير المسلمين فى ترميم دور عباداتهم هى جزء من واجبات هذه الدولة .. ولأن غير المسلمين هم جزء أصيل فى الأمة الواحدة، والرعية المتحدة لهذه الدولة، فجاء فى هذا الميثاق مع نصارى (نجران) : (.. ولهم إن احتاجوا فى مرمة بيعهم وصوامعهم أو شئ من مصالح أمور دينهم، إلى رفد - (مساعدة) - من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يُرفدوا على ذلك ويُعاونوا، ولا يكون ذلك دَيْنًا عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومنة لله ورسوله عليهم) .
ثم يتوج هذا الميثاق بنود هذه الحقوق بالنص على كامل المساواة بين المختلفين فى الدين والمتحدين فى الأمة الواحدة، والملتحمين فى الرعية المتحدة للدولة الإسلامية، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (.. لأنى أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم ..) .
ولأن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بولاء كل أبنائها لها، وانتماء جميعهم لدولتها ولمقومات هويتها وأمنها الوطنى والقومى والحضارى، اشترط هذا العهد على نصارى (نجران) أن يكون الولاء خالصًا والانتماء كاملاً لهذه الأمة الواحدة ، ولهذه الدولة الإسلامية .. فالولاء - كل الولاء - لها وحدها، والبراء - كل البراء - من جميع أعدائها .. ولذلك، جاء فى هذا الميثاق : (.. واشترط عليه أمورًا يجب عليهم فى دينهم التمسك بها والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عينًا ولا رقيبًا لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين فى سره وعلانيته ، ولا يأوى منازلهم عدو للمسلمين، يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا فى شئ من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة، ولا يرفدوا - (يساعدوا) - أحدًا من أهل الحرب على المسلمين، بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.. وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم، وعند منازلهم، ومواطن عباداتهم، أن يؤووهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشون به ما كانوا مجتمعين، وأن يكتموا عليهم، ولا يظهروا العدو على عوراتهم، ولا يخلوا شيئًا من الواجب عليهم)(5).
ويزيد من سمو هذا الإنجاز الإسلامى، تعميم التطبيقات الإسلامية لهذا المنهاج وهذه المبادئ على الديانات الوضعية أيضًا .. فلم يقف المسلمون بهذه (الثورة الإصلاحية)، فى العلاقة بالآخر، عند اليهود - أهل التوراة - والنصارى - أهل الإنجيل - فقط، وإنما عمموها لتشمل (المجوس) و(الهندوس) و(البوذيين) .. وعندما فتح المسلمون فارس - وأهلها مجوس يعبدون النار، ويقولون بإلهين أحدهما للخير والنور وثانيهما للشر والظلمة - عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (40ق - 32هـ - 584 - 644م) رضى الله عنه، هذا الأمر و (الواقع المستجد) على مجلس الشورى - فى مسجد المدينة - وقال :
- (كيف أصنع بالمجوس؟
- فوثب عبد الرحمن بن عوف (44ق هـ - 32هـ - 580 - 652م) رضى الله عنه، فقال :
- أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سُنوا فيهم سنة أهل الكتاب ..)(6)
فطبقت الخلافة الراشدة هذه السنة النبوية، وساد هذا التطبيق على امتداد تاريخ الإسلام فى بلاد الديانات الوضعية - من فارس إلى الهند إلى الصين - حتى لقد تمتع أهل هذه الديانات، لا بحرية الاعتقاد فقط وإنما - أيضًا - بحرية مناظرة علماء الإسلام، فى مجالس الخلفاء، إبان مجد وقوة وعظمة الخلافة الإسلامية .. ولقد أورد (السير توماس أرنولد) (1864 - 1930م) - بإعجاب - كيف أن زعيم المانوية(7) المجوس - فى فارس - (يزدانبخت) قد أتى بغداد، وناظر المتكلمين المسلمين، فى حضرة الخليفة (المأمون) (170-218هـ 786-833م)، فلما أفحمه علماء الإسلام، تاق (المأمون) إلى أن يسلم (يزدانبخت)، ففاتحه فى ذلك، لكنه رفض فى أدب، وقال للخليفة :
- نصيحتك، يا أمير المؤمنين، مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يُجبر الناس على ترك مذهبهم .
فتركه المأمون وشأنه .. بل وطلب حمايته من العامة حتى يبلغ مأمنه بين أتباعه وأنصار مذهبه من المجوس (8) .(5/57)
وهكذا بلغ الإسلام القمة، عندما لم يكتف بالوصايا والمنظومة الفكرية والفلسفية، التى تعترف بالآخر - الذى لا يعترف بالإسلام! - وإنما تجاوز (الفكر) إلى (الممارسة والتطبيق)، فى الدولة.. والأمة.. والاجتماع.. وعندما تجاوز (الاعتراف بالأخر) إلى حيث دمج هذا (الآخر) فى (الذات)، مع الحرص على التعددية الدينية، التى سلكها فى إطار (وحدة الدين) الإلهى الواحد.. لا باعتبارها مجرد حق من حقوق الضمير الإنسانى، وإنما باعتبارها سنة من سنن الله التى لا تبديل لها ولا تحويل.. فحقق الإسلام بهذا (الإصلاح الثورى) مستوى غير مسبوق فى التاريخ الإنسانى، سواء على المستوى الفكرى أو فى الممارسة والتطبيق(9) .
أهل الذمة : الذمة فى اللغة تعنى العهد والأمان والضمان . وفى الشرع تعنى عقدًا مؤبدًا يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام فى غير شؤونهم الدينية .وهذا العقد يعطى لكل طرف حقوقًا ويفرض عليه واجبات، وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم ، بل هو شرف لهم أن يكونوا فى ذمة الله ورسوله ، وهى عبارة توحى بضرورة وأهمية حفظ العهد والوفاء تدينًا وامتثالاً للشرع، وإن كان بعضهم يتأذى منها فيمكن تغييرها لأن الله لم يتعبدنا بها . وقد غير سيدنا عمر بن الخطاب لفظ الجزية الذى ورد فى القرآن استجابة لعرب بنى تغلب من النصارى الذين أنفوا من الاسم وطلبوا أن يأخذ منهم ما يُؤخذ وإن كان مضاعفًا تحت مسمى آخر فوافقهم عمر وقال: (هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الاسم) .
ومما يلاحظ كما يقول الدكتور عصام أحمد البشير(10) أن فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتدأة، وإنما هى مما وجده الإسلام بين الناس عند بعثة النبى صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعية، وأضاف إليه تحصينًا جديدًا بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو ذمة المجير إلى ذمة الله ورسوله أى ذمة الدولة الإسلامية نفسها. وبأن جعل العقد مؤبدًا لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين . انتهى
عقد الأمان
أما الذين يأتون إلى ديار الإسلام لفترة مؤقتة - مثل السياح والدارسين والدبلوماسين الأجانب - فهؤلاء يشملهم عقد الأمان، وهو عقد يكفل حماية غير المسلم إذا قدم إلى بلادنا لأغراض سلمية - وليس للتخريب أو التجسس - فهذا يحرم الاعتداء على حياته أو ماله أو عرضه ، وعلى جميع المسلمين حمايته وتأمينه حتى يخرج من بلادنا سالمًا بعد إنتهاء الغرض الذى قدم لأجله .
وأساس عقد الأمان قوله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون) التوبة:6. كما أجار النبى صلى الله عليه وسلم من أجارت ابنته زينب وهو زوجها العاص بن الربيع وكان لم يزل مشركًا حينها ، وأجار النبى كذلك من أجارت أم هانىء ابنة عمه أبى طالب، وأكد عليه السلام أنه يجير على المسلمين أدناهم، ولو كان طفلاً أو امرأة أو عبدًا ، فيجب على جميع المسلمين احترام هذا الجوار وتأمين المشرك الذى يتمتع به حتى يبلغ مأمنه .
الجزية
وهى ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل فى مقدار زهيد من المال - دينار أو دينارين سنوياً - على الرجال البالغين القادرين ، حسب ثرواتهم ، والجزية ليست ملازمة لعقد الذمة فى كل حال كما يظن بعضهم، بل استفاضت أقوال الفقهاء فى تعيينها وقالوا : إنها بدل عن اشتراك الذمى فى الدفاع عن دار الإسلام ، لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك فى الدفاع عنها ،فعل ذلك المسلمون مع أهل أرمينية سنة 522 ، وحبيب بن مسلمة الفهرى مع أهل إنطاكية ، وأبرمه مندوب أبى عبيدة بن الجراح وأقره عليه مَنْ معه من الصحابة ، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابى عبد الله بن أبى السرح على غير جزية بل هدايا فى كل عام، وصالحوا أهل قبرص فى زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم .
• غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية ، ويسهمون فى حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية ، والنص الوارد فى آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة .وهناك من رد إلى النصارى، الجزية عند مظنة العجز عن حمايتهم، فعلها أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه عندما تجمع الروم لقتاله فخاف ألا يمكنه الدفاع عن مدن الشام وسكانها النصارى ، فكتب يرد إليهم أموالهم على أن يرجعوا إلى سابق العهد إذا انتصر المسلمون على الروم .
• أهل الكتاب ارتضوا أن يعيشوا تحت رعاية الدولة المسلمة فلهم بذلك من الحقوق مثل ما للمسلمين وعليهم من الواجبات ما على المسلمين إلا ما استثنى بنص، قال الإمام على كرم الله وجهه : (إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا ..) .
حقوق وواجبات أهل الكتاب
لأهل الكتاب جملة من الحقوق منها :
1- حق الحماية من الاعتداء الخارجى والحماية من الظلم الداخلى (من آذى ذميًا فقد أذانى ومن أذانى فقد أذى الله) فلا يلحقهم أذى فى أبدانهم ولا أموالهم ولا أعراضهم .(5/58)
2- حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر، قال سيدنا عمر بن الخطاب : (ما أنصفناه إذا أخذنا منه الجزية فى شبيبته ثم نتركه فى هرمه) وقد أمر رضى الله عنه - وكذلك الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز - بصرف معاشات من بيت مال المسلمين للعجزة والمسنين من أهل الكتاب .
3- حرية التدين (لاإكراه فى الدين) ومن ذلك ممارسة شعائرهم الدينية فى دور عبادتهم وعدم جواز منعهم من ذلك . أما واجبات غير المسلمين فهى:
• على غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم فى الأمصار الإسلامية ولا يحدثوا كنيسة فى مدينة إسلامية لم تكن فيها كنيسة من قبل ذلك، لما فى الإظهار والإحداث من تحدى الشعور الإسلامى الذى يؤدى إلى فتنة واضطراب لكن يتعين حماية ماهو قائم منها بالفعل وعدم هدمه ، والدليل قوله سبحانه وتعالى :(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله) يدل على أن من أساليب الإذن بالقتال حماية حرية العبادة
كما أن العهود التى أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود والنصارى تضمنت الحفاظ على دور عبادتهم، وكذلك عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وبيعهم. وأيضاً فإن عهد سيدنا عمر لأهل إيلياء فيه نص على كنائسهم، فلا تسكن ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبها. وهناك أيضاً عهد سيدنا خالد بن الوليد لأهل عانات أن يضربوا نواقيسهم فى أى وقت شاؤوا من ليل أو نهار .
كما يقول الدكتور عصام البشير : أن واقع حال المسلمين يدل على جواز بقاء الكنائس فى ظل الدولة المسلمة. روى المقريزى أن جميع كنائس مصر محدثة فى الإسلام بلا خلاف ، ولهم حرية العمل والكسب وحرية تولى وظائف الدولة ونحو ذلك إلا ما اسثنى بنص لعدم جواز تولى الكتابيين للوظائف الدينية أو تغلب عليها الصيغة الدينية كالإمامة التى هى رئاسة الدين والدنيا وخلافة النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا يعقل أن يقوم بإمامة المسلمين وقيادة الجيش وإمرة الجهاد الذى هو ذروة سنام الاسلام، والقضاء بين المسلمين الذى يقتضى العلم بشريعة الاسلام،إلا مسلم عالم بدينه وشريعته.
ضمانات الوفاء بحقوق أهل الكتاب
إن الضمانات لتنفيذ هذه الحقوق وكفالة تلك الحريات تتمثل فى:
ضمان العقيدة:فالمسلمون يحرصون على الالتزام بعقيدتهم وتطبيق أحكام دينهم، لا يمنعهم من ذلك عواطف القرابة ولا يصدهم عن ذلك مشاعر العداوة والشنآن .
ضمان المجتمع المسلم بدستوره وسلوكه
فالمجتمع الإسلامى مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها فى كل الأمور ، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين ولو قصر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى ، وجد فى المجتمع من يرده إلى الحق ،ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويقف بجانب المظلوم المعتدى عليه ،ولو كان مخالفًا له فى الدين .
وهناك القضاء : فالذمى المظلوم له أن يشكو إلى الوالى أو الحاكم المحلى، فيجد عنده العدل والحماية ، فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى القضاء فيجد عنده الإنصاف والأمان ، حتى لو كانت القضية بينه وبين الخليفة نفسه، ففى الاسلام يجد القضاء المستقل العادل والذى له حق محاكمة أى مدعى عليه مهما علا منصبه فى الدولة . مثال ذلك واقعة تخاصم الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه ويهودى إلى القاضى شُريح الذى حكم لصالح اليهودى على أمير المؤمنين لعدم وجود دليل يرجح دعواه ، وبسبب هذه العدالة أسلم اليهودى .
واجبات أهل الكتاب
واجبات أهل الكتاب تنحصر فى أمور معدودة هى :
• أداء التكاليف المالية : من جزية وخراج وضرائب وغيرها . (وقد سبق الحديث عن الجزية) . وأهل الكتاب فى التكاليف والرسوم والضرائب الأخرى سواء والمسلمون ، فليس فيها شىء يجب باختلاف الدين وإنما تجب على أنواع الأموال والأراضى المزروعة دون نظر إلى صاحب أى منها : أمسلم هو أم غير مسلم .
التزام أحكام القانون الإسلامى
• والواجب الثانى على أهل الكتاب أن يلتزموا أحكام الإسلام ، التى تطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى العهد ينتمون إلى جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التى لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية . ولكن مع مراعاة أنه ليس عليهم تكاليف من التكاليف التعبدية للمسلمين ، أو التى لها صبغة تعبدية أو دينية ، مثل الزكاة التى هى فريضة إسلامية ، ومثل الجهاد الذى هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية ، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً عن الجهاد والزكاة .
• والواجب الثالث عليهم : أن يحترموا شعور المسلمين ، الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، وأن يراعوا هيبة الإسلام والدولة التى يتمتعون بحمايتها ورعايتها .
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة ، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافى عقيدة التوحيد ، ولا يعملوا على تنصير أبناء المسلمين أو محاولة فتنتهم عن دينهم .(5/59)
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل الخنزير ، ونحو ذلك مما يحرم فى دين الإسلام . كما لا يجوز لهم تحدى مشاعر المسلمين ، وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب فى نهار رمضان ، مراعاة لمشاعر المسلمين .
النموذج المصرى
إذا أخذنا الأقلية النصرانية فى مصر ، وهى أكبر أقلية غير مسلمة فى بلاد العالم العربى - كنموذج للتعايش السلمى لغير المسلمين فى بلد إسلامى -فإننا نلاحظ الآتى :
• يبلغ عدد النصارى فى مصر أقل من 6% (5.9%) حسب إحصاءات 1986م . ورغم ذلك فإنهم يمتلكون حوالى 40% من ثروة مصر .. ويعترف الأنبا موسى أسقف الشباب فى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بأن : (الأقباط نسبتهم فى رجال الأعمال مرتفعة أكثر من نسبتهم العددية فى مصر)(11) ، وكذلك المهن المرموقة مثل الطب والصيدلة والمحاماة والهندسة وغيرها .. ولذلك كان العلامة الشيخ محمد الغزالى - رحمه الله - يصف النصارى فى مصر بأنهم أسعد أقلية فى العالم .
• يمتلك نصارى مصر 22.5% من الشركات التى تأسست من عام 1974م - 1995م ، و 20% من شركات المقاولات فى مصر ، و 50% من المكاتب الاستشارية ، و 60% من الصيدليات ، و45% من العيادات الخاصة، و35% من عضوية الغرفة التجارية الأمريكية والألمانية ، و 60% من عضوية غرفة التجارة الفرنسية ، ويشكلون 20% من رجال أعمال مصر ، و 20% من المديرين بقطاعات النشاط الاقتصادى ، وحوالى 16% من وظائف وزارة المالية المصرية ، و25% من المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين ..
• يسيطر النصارى على أكثر من ثلثى تجارة الذهب والمعادن النفيسة الأخرى فى مصر ، كما يمتلكون من الأراضى والعقارات أضعاف نسبتهم العددية .
• ونضيف أيضًا أن الحكومة المصرية لا تخلو دائمًا من وزيرين أو ثلاثة وزراء من الأقباط ، كما يوجد عدد منهم فى مجلسى الشعب والشورى بالانتخاب وبالتعيين أيضًا .. فى المقابل يُلاحظ أنه لا يوجد أى وزير مسلم فى أية دولة أوروبية أو أمريكية رغم تواجد عشرات الملايين من المسلمين هناك، وكذلك المجالس التشريعية الأوروبية والكونجرس الأمريكى لا يوجد بها أعضاء يمثلون الأقليات الإسلامية هناك (!!!) .
وبعد كل هذا يزعمون أنهم دعاة الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية ويتطاول علينا أذنابهم بادعاء اضطهاد الأقلية عندنا !!!
حقًا إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، وازعم ما شئت أيضًا !!!
ونختتم بشهادة المفكر البريطانى الكبير سير توماس أرنولد الذى أكد فيها: (من الحق أن نقول أن غير المسلمين قد نعموا – بوجه الإجمال – فى ظل الحكم الإسلامى بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلاً فى أوروبا) . ويضيف ان عشرات الملايين من نصارى الشرق الذين اعتنقوا الإسلام قد فعلوا ذلك طواعية وعن رغبة كاملة فى التحول إليه دون أية محاولة للإرغام أو الاضطهاد(12) .
كما أن تسامح المسلمين وتركهم للنصارى قابضين على الدواوين وإدارات الدولة الإسلامية جعل المستشرق الألمانى آدم متز يقول : (لقد كان النصارى هم الذين يحكمون الدولة الإسلامية)(13) ، فأى تسامح وتواد مع الآخر أكثر من ذلك ؟! كل هذا يدفعنا إلى أن نردد مع المفكر والعبقرى الألمانى يوهان جوته مقولته الشهيرة فى ديوانه (الشرق والغرب) : إذا كان الإسلام هو القنوت ، فعليه نحيا ونموت ..
المراجع
6. تاريخ مصر - يوحنا النيقوسى ص 529 - 534 ترجمة وتعليق د . عمر صابر عبد الجليل القاهرة 2000م - تاريخ مصر فى العصر البيزنطى ص 40-49 ، وص 167-168 طبعة القاهرة 2000 .
7. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة ص 17 - 21 جمع وتحقيق الدكتور محمد حميد الله الحيد آبادى – طبعة القاهرة 1956م
8. المصدر السابق ص 20 .
9. الشيخ محمد عبده - الأعمال الكاملة جـ3 صـ312 دراسة وتحقيق د . محمد عمارة - طبعة القاهرة 1993م .
10. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى - مشار إليه من قبل - ص 112- 123 - 127
11. البلاذرى – فتوح البلدان صـ327 - تحقيق د . صلاح الدين المنجد – طبعة القاهرة 1956م .
12. هم أتباع (مانى) ويسمون (المانوية) وهو مذهب مجوسى .
13. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - ترجمة د . حسن إبراهيم حسن ود. عبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوى - طبعةالقاهرة 1970م .
14. الدكتور محمد عمارة - الإسلام والأقليات - الماضى والحاضر والمستقبل - طبعة مكتبة الشروق الدولية سنة 2003م .
15. الدكتور عصام أحمد البشير - معالم حول أوضاع غير المسلمين فى الدولة الإسلامية - بحث مقدم لمؤتمر الإسلام والغرب فى عالم متغير - الخرطوم - 2003م .
16. الملل والنحل والأعراق ص 529 .
17. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - سبقت الإشارة إليه .
18. آدم متز - الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى - ترجمة د . محمد عبد الهادى أبو ريدة - طبعة بيروت سنة 1967م .
الفصل السادس
المسلمون فى دار العهد(5/60)
يبلغ عدد المسلمين فى أوروبا أكثر من خمسين مليونًا(1) من بينهم أعداد كبيرة من العرب والمسلمين المهاجرين من بلدان لأسباب اقتصادية غالبًا - بحثًا عن فرص عمل - ولأسباب سياسية أحيانًا، فضلاً عن ملايين من الأوروبين الذين اعتنقوا الإسلام عن اقتناع وفهم بعد دراسة عميقة .. وهناك توقعات بأن ترتفع أعداد المسلمين فى أوروبا، وتتناقص أعداد غير المسلمين - بسبب قلة عدد المواليد هناك عن عدد المتوفين سنويًا - إلى أن يصبح المسلمون هم أغلب سكان أوروبا خلال أقل من عشرين عامًا (ولهذا يمكن فهم أحد أهم أسباب الحملة المسعورة الآن على الإسلام والمسلمين فى وسائل الإعلام الغربى) بل إن صمويل هنتنجتون نفسه يتوقع - كما سبق - أن يبلغ المسلمون أكثر من 30% من سكان العالم قبل حلول عام 2025م .. ويبلغ عدد مسلمى أمريكا الشمالية أكثر من عشرة ملايين نسمة طبقًا للتقديرات شبه الرسمية، لكن العدد الحقيقى أكبر من ذلك، لأنه لاتوجد جهة رسمية تسجل أعداد من يعتنقون الإسلام وهم بالآلاف يوميًا، كما أنه لا تسجل الديانة فى وثائق تحديد الهوية، وبالتالى لا يمكن تحديد أعداد أتباع كل ديانة بدقة ..
أما الأقلية الإسلامية فى الهند فهى أكبر عددًا من معظم الدول الإسلامية - كل على حدة - إذ يبلغ تعداد مسلمى الهند أكثر من مائتى مليون نسمة .. ويؤكد كثير من المسلمين الهنود أن عددهم الحقيقى أكبر من ذلك ، وأن السلطات الهندوسية هى التى تتعمد تقليل العدد المعلن لأسباب سياسية (بسبب النزاع الطائفى بين الهندوس والمسلمين من جهة ،والنزاع بين الهند وباكستان من جهة أخرى) .
ويبلغ عدد مسلمى الصين أكثر من 25 مليون شخص ، ويقترب عدد المسلمين الروس من هذا الرقم(2) . وهكذا نرى بوضوح أن كل دول العالم غير الإسلامى يحتضن جاليات إسلامية كبيرة وذات حضور واضح هناك لا يمكن تجاهله أو تهميشه مهما اشتدت محاولات الاحتواء أو الإضعاف أو القمع أحيانًا .. وهنا يثور التساؤل : هل يعتبر المسلمون هناك فى دار حرب كما يقول الفقهاء القدامى طبقًا للتقسيم الشهير للعالم إلى دار إسلام ودار حرب ؟
أما دار الإسلام فهى البلاد التى تسودها أحكام الإسلام وشعائره ويأمن فيها المسلمون والذميون أيضًا .
وأما دار الحرب فهى البلاد التى لا تطبق فيها أحكام الإسلام وشرائعه لأن السيادة فيها للكفار وليست للمسلمين .. وهذا التقسيم الثنائى للعالم لم يرد فى القرآن الكريم ولا فى السُنَّة النبوية المطهرة ، ولذلك عارضه فريق من العلماء على رأسهم الإمام الشافعى رضى الله عنه فى كتابه (الأم) - يرى أن الأصل هو أن العالم دار واحدة - والإمام محمد بن الحسن الشيبانى فى كتابه (السير الكبير) والشيخ محمد أبو زهرة(3) .
يقول العلامة الشيخ أبو زهرة : إن دار العهد حقيقة اقتضاها الفرض العلمى وحققها الواقع ، فقد كانت هناك قبائل ودول لا تخضع خضوعًا تامًا للمسلمين وليس للمسلمين فيها حكم ، ولكن لها عهد محترم وسيادة فى أرضها ولو لم تكن كاملة فى بعض الأحوال .. ودار العهد : هى البلاد التى كان بينها وبين المسلمين عهد عقد ابتداء ، أو عقد عند ابتداء القتال معها عندما يخيرهم المسلمون بين العهد أو الإسلام أو القتال ، فأهلها يعقدون صلحًا مع الحاكم الإسلامى على شروط تشترط من الفريقين، وهذه الشروط تختلف قوة وضعفًا على حسب ما يتراضى عليه الطرفان ، وعلى حسب هذه القبائل وتلك الدولة قوة وضعفًا ، وعلى مقدار حاجتها إلى مناصرة الدولة الإسلامية .
ومن هذه القبائل ما كان الصلح معها على أساس جُعل من المال يدفعه أهلها فى نظير حماية المسلمين لهم ، والذود عنهم ، كما حصل فى صلح النبى صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران ، فقد أمّنهم النبى صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأموالهم من أى اعتداء يكون عليهم ، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم .
وكذلك فعل القائد الصحابى أبو عبيدة عامر بن الجراح مع أهالى حمص فقد أمَّنَهم ، وتعهد لهم بأن يدفع الرومان عنهم فى نظير مال دفعوه إليه، ولكن حدث أن أصاب الجيش الإسلامى ضعف بسبب طاعون سرى فيه، فأعاد القائد الوفى - الذى سماه محمد صلى الله عليه وسلم - أمين هذه الأمة - إليهم أموالهم ، وبين عجزه عن مدافعة الرومان عنهم ، فنشطوا هم لمعاونة القائد العادل الأمين .
وفى عهد عثمان رضى الله عنه عقد عبد الله بن أبى السرح صلحًا مع أهل النوبة كانت أساسه تأمينهم على أنفسهم ، ورعاية استقلالهم، ومبادلة التجارة معهم، ولم يأخذ منهم فريضة مالية يؤدونها .
وكذلك فعل معاوية مع أهل أرمينية، فقد عقد صلحًا يقرر سيادتهم الداخلية المطلقة .
ونرى من هذا أن هذا النوع من القبائل أو الدول لا يمكن أن يعد دار حرب ولا دار إسلام، ولكن يعد دار موادعة أو دار عهد، وقد قال بعض الفقهاء :إن هذه الديار تدخل فى عموم دار الإسلام، لأن المسلمين لم يعقدوا هذه العهود، إلا وهم أهل المنعة والقوة .(5/61)
ولكن الفقهاء الذين حرروا القول فى القانون الدولى الإسلامى كالشافعى فى (الأم)، ومحمد بن الحسن الشيبانى قرروا أن دار العهد نوع آخر، فقد جاء فى كتاب (السير الكبير) لمحمد ما نصه :
(المعتبر فى حكم الدار هو السلطان والمنعة فى ظهور الحكم، فإن كان الحكم حكم الموادعين فبظهورهم على الأخرى كانت الدار موادعة، وإن كان الحكم حكم سلطان آخر فى الدار الأخرى فليس لواحد من أهل الدار حكم الموادعة) .
ونرى محمد بن الحسن الشيبانى يؤكد فرض دار أخرى هى الموادعة أو العهد ، ولكنه يأتى بأمر جديد لم نذكره من قبل، وهو أنه يفرض أن أهل العهد قد يكونون خاضعين فى نظامهم لدولة أخرى لاتدخل فى حكم العهد، فيقرر أنه إن كان السلطان والمنعة لأهل الجماعة التى عقد معها عقد الموادعة فإنها دار عهد، وإن كان السلطان والمنعة لدولة أخرى فإنه لا يقرر العهد لإحداهما إلا أن تكون لها ومن معها معاهدة .
• يجب أن يلاحظ أن العالم الآن تجمعه منظمة واحدة - الأمم المتحدة - قد التزم كل أعضائها بقانونها ونظمها، وحكم الإسلام فى هذه أنه يجب الوفاء بكل العهود والالتزامات التى تلتزمها الدول الإسلامية عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذى قرره القرآن الكريم، وعلى ذلك لا تعد ديار المخالفين الى تنتمى لهذه المؤسسة العالمية دار حرب ابتداء بل تعتبر دار عهد .. انتهى كلام الشيخ أبو زهرة .
رأى المؤلف
ويرى كاتب هذه السطور أن معظم دول العالم غير الإسلامى ينطبق عليها حاليًا وصف : (دار العهد) ،وعلى ذلك يأمن فيها المسلمون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ،وعليهم أيضًا أن يطبقوا منهج التعايش السلمى مع رعايا هذه الدول باعتبارهم (معاهدين) أمرنا الإسلام باحترام العهود المبرمة معهم والوفاء لهم بما اتفقنا عليه .. فلا يجوز لنا قتل أحد منهم - إلا فى حالة الاضطرار إلى الدفاع عن النفس أو المال أو العرض أو الدين شأنه فى ذلك شأن المعتدى المسلم - كما يحرم علينا سلب أموالهم أو الاعتداء على أعراضهم أو المساس بدور عبادتهم .
• وتوجد علاقات دبلوماسية واقتصادية بين معظم بلاد العالم الإسلامى وباقى الدول ، فهناك إذن معاهدات معهم علينا أن نفى بها .
• كذلك فمن أقوى الأدلة عندنا على اعتبار معظم الدول اليوم - خارج العالم الإسلامى - دار عهد أن آلاف المآذن ترتفع الآن فى سماء أوروبا وأمريكا وآسيا واستراليا وأفريقيا ، ولم يكن الحال كذلك فى زمن الفقهاء القدامى الذين قسموا العالم إلى دار إسلام ودار حرب فقط .. وتوجد الآن بكل القارات مراكز إسلامية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم , ويتمتع المسلمون بحرية العبادة بصفة عامة - باستثناء حالات قليلة والاستثناء لا يُقاس عليه - فكيف نعتبر كل هذه الدول (دار حرب) وفيها عشرات الملايين من المسلمين، وفيها أيضًا مئات الملايين ممن يحبون الإسلام والمسلمين وينصفون الإسلام وأهله ولو لم يدخلوا فيه ؟!!
وكيف نعتبر الأصدقاء المنصفين من أمثال (جوته) و (جوستاف لوبون) و (الأمير تشارلز) و ( زنجريد هونكه) وغيرهم من أهل دار الحرب ؟! هؤلاء الذين يدافعون عن الإسلام ضد الآخرين المتعصبين الحاقدين ، كيف بالله نضعهم فى خندق واحد مع من يناصبوننا العداء كالصهاينة والمتعصبين الصليبيين أمثال هنتنجتون ؟! لقد علمنا الإسلام أن، المهادن لنا أو المحب من المشركين ليس كالمحارب ، قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة:8،9 .
فقه الأقليات المسلمة
• وتبدو الحاجة ماسة إلى تأصيل قواعد فقهية خاصة بما يصادف المسلم خارج دار الإسلام . ويضع الدكتور يوسف القرضاوى عدة ضوابط هامة بهذا الصدد منها :
• إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية من ناحية، التى تشمل كل مسلم فى أنحاء العالم، أيّاً كان جنسه أو لونه أو لسانه، أو وطنه ، أو وظيفته، وهم - من ناحية أخرى - جزء من مجتمعهم الذى يعيشون فيه، وينتمون إليه . فلابد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يتضخم أحدهما على حساب الآخر .
• إن (فقه الأقليات) المنشود، لا يخرج عن كونه جزءًا من (الفقه العام) ولكنه فقه له خصوصيته وموضوعه ، ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه ، لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها إلى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم .(5/62)
وإذا كان عندنا الآن ما يمكن أن نسميه (الفقه الطبى)، وعندنا ما يسمى (الفقه الاقتصادى) ، وكذلك عندنا ما يمكن أن نسميه (الفقه السياسى) . إذا كان عندنا هذه الأنواع من الفقه، فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كى يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم . وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور فى فقهنا الإسلامى، ولكنها غير منظمة، وهى مجملة غير مفصلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها، لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنده، ولم يخطر ببال أهله حدوثها.
• يجب أن يكون للمسلمين - بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية - (وجود إسلامى) ذو أثر، فى بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذى أصبح يقود العالم، ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته . وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها .
فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين فى ديارهم، ودعم كيانهم المعنوى والروحى، ورعاية من يدخل فى الإسلام منهم، وتلقّى الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف. بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين .
ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوى المؤثر للنفوذ اليهودى وحده، يستغله لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر فى سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها. ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله ، قابعون فى أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، فى حين نؤمن نظريًا بأن رسالتنا للناس جميعًا وللعالمين قاطبة . ونقرأ فى كتاب ربنا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 ، (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) الفرقان:1 .
ونقرأ فى حديث نبينا صلى الله عليه وسلم : (كان النبى يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) متفق عليه عن جابر .
ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم فى بلد غير مسلم، أو فى (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا - كما يتصور بعض العلماء لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام وانتشاره فى العالم، ولانحصر الإسلام من قديم فى جزيرة العرب ولم يخرج منها .
ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدًا ، لوجدنا أن انتشار الإسلام فى البلاد التى تسمى الآن :العالم العربى ، والعالم الإسلامى ، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجار أو شيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد فى آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس فى بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذى غرس فيهم هذه الفضائل ، فدخلوا فى هذا الدين أفواجًا وفرادى .
حتى البلاد التى دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بنى أمية فى مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين فى الإسلام ، حتى أبطل ذلك عمر بن عبد العزيز ، وقال قولته المشهورة لواليه : (إن الله بعث محمدًا هاديًا ، ولم يبعثه جابيًا) .
أهداف الفقه المنشود للأقليات
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى أهداف فقه الأقليات فيما يلى :
أولاً : أن يعين هذه الأقليات المسلمة- أفرادًا وأسرًا وجماعات - على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج فى الدين، ولا إرهاق فى الدنيا.
ثانيًا : أن يساعدهم على المحافظة على (جوهر الشخصية الإسلامية) المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشىء ذراريها على ذلك .
ثالثاً : أن يمكَّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذى يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتى هى أحسن، كما قال الله تعالى : (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى) يوسف:108 ، فكل من اتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة ، وخصوصًا من كان يعيش بين غير المسلمين .
رابعًا : أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلاً إيجابيًا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة:محافظة بلا انغلاق ، واندماج بلا ذوبان .
خامسًا : أن يسهم فى تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات .(5/63)
سادساً : أن يعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة : الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع فى الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزًا محركًا لهم، ودليلاً يأخذ بأيديهم، وليس غلاً فى أعناقهم، ولا قيدًا بأرجلهم .
سابعًا : أن يجيب هذا الفقه المنشود عن أسئلتهم المطروحة ، ويعالج مشكلاتهم المتجددة ، فى مجتمع غير مسلم، وفى بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، فى ضوء اجتهاد شرعى جديد، صادر من أهله فى محله .
خصائص هذا الفقه المنشود
ولهذا الفقه المنشود خصائص لابد أن يراعيها، حتى يؤتى أكله، ويحقق أهدافه، تتمثل فيما يلى :
1- فهو فقه ينظر إلى التراث الإسلامى الفقهى بعين، وينظر بالأخرى إلى ظروف العصر وتياراته ومشكلاته. فلا يهيل التراب على تركة هائلة أنتجتها عقول عبقرية خلال أربعة عشر قرناً، ولا يستغرق فى التراث بحيث ينسى عصره وتياراته ومعضلاته النظرية والعملية، وما يفرضه من دراسة وإلمام عام بثقافته واتجاهاته الكبرى على الاقل. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
2- يربط بين عالمية الإسلام وبين واقع المجتمعات التى يطب لها ويشخص أمراضها، ويصف لها الدواء من صيدلية الشريعة السمحة، فقد رأينا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يراعى طبائع الأقوام وعاداتهم، كما قال : (إن الأنصار يعجبهم اللهو) وكما أذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم فى مسجده.
3- يوازن بين النظر إلى نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا يغفل ناحية لحساب أخرى، ولا يعطل النصوص الجزئية من الكتاب والسنة، بدعوى المحافظة على روح الإسلام، وأهداف الشريعة، ولا يهمل النظر إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة, استمساكًا بالظواهر وعملاً بحرفية النصوص .
4- يرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات فى ضوء الكليات، موازناً بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمقاصد عند التعارض فى ضوء فقه الموازنات ، وفقه الأولويات .
5- يلاحظ ما قرره المحققون من علماء الأمة من أن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف وغيرها. ولا يوجد اختلاف بين زمان وزمان مثل اختلاف زماننا عن الأزمنة السابقة، كما لا يوجد اختلاف مكان عن مكان، كالاختلاف بين دار استقر فيها الإسلام وتوطدت أركانه وقامت شعائره، وتأسست مجتمعاته ،ودار يعيش فيها الإسلام غريبًا بعقائده ومفاهيمه وقيمه وشعائره وتقاليده .
6- يراعى هذه المعادلة الصعبة : الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم، والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء(4) .
المراجع
19. أحمد الراوى - اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا - الإسلام والمسلمون والعمل الإسلامى فى أوروبا .
20. تتعمد الصين وروسيا أيضًا التقليل من الأعداد المعلنة للمسلمين فى كلا البلدين لأسباب استراتيجية، بسبب محاولات الأقلية المسلمة فى الصين الاستقلال عن الدولة الشيوعية ، والحرب التى تشنها روسيا على المسلمين الشيشان .
21. الإمام محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - دار الفكر العربى - القاهرة 1994م .
22. د. يوسف عبد الله القرضاوى - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل السابع
ماذا قدمنا للآخرين ؟
لعل أقوى رد على منكرى التواصل والتعارف بين المسلمين والآخر ، هو تلك المآثر العظيمة التى سجلتها أقلام غربية منصفة أبت إلا تذكير العالم بما قدمه المسلمون والعرب للحضارة الإنسانية .. فقد كنا دومًا رسل هداية ورحمة وعطاء كما أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وفيما يلى نسوق أمثلة فحسب ، لأننا لو أردنا الإطالة لاحتجنا إلى مجلدات لحصر كل ما قدمناه للإنسانية ..
ذكرت مجلة "اليونسكو" (عدد تشرين الأول 1980م فى الصفحة 38) : أن كتاب القانون - لابن سينا - بقى يُدرَّس فى جامعة بروكسل حتى سنة 1909م ، وقال د. أوسلر :لقد عاش كتاب القانون مدة أطول من أى كتاب آخر كمرجع أوحد فى الطب، وقد وصل عدد طبعاته إلى خمس عشرة طبعة فى الثلاثين سنة الأخيرة من القرن السادس عشر، وقد زاد عدد الطبعات أكثر فى القرن السابع عشر، فابن سينا مكن علماء الغرب من الشروع فى الثورة العلمية، التى بدأت فعلاً فى القرن الثالث عشر وبلغت مرحلتها الأساسية فى القرن السابع عشر .
وحول أثر الحضارة العربية الإسلامية فى النهضة الأوربية، يقول الباحث الدكتور شوقى أبو خليل فى كتابه الحضارة العربية الإسلامية وموجز الحضارات السابقة(1) :
(لقد كانت العصور الوسطى الأوربية مظلمة، إلا البقاع التى وصلها الفتح العربى : الأندلس، صقلية، وجنوبى إيطاليا؛ فقد أنارت الحضارة العربية الإسلامية أرجاءها، وحركت عقول أبنائها، فليس من المصادفة أبداً أن تبدأ أوروبا نهضتها ويقظتها الفكرية من المناطق التى وصل إليها العرب ، ذلك لأنهم أصحاب تراث حضارى عظيم) .(5/64)
ويضيف الباحث د. شوقى : (ولكن اقتباس هذه الحضارة الرائعة من قبل الأوروبيين كان أبتر ، وهذا الأخذ كان ناقصًا ، لأنهم أخذوا الجانب العلمى المادى ، وتركوا الجانب الروحى الإنسانى والتسامح الذى عاشته حضارتنا أينما حلت .. أجل إنها المعجزة العربية) .
وبكلمة مختصرة شهد القرن الحادى عشر ، انتقال بعض مظاهر أسس الحركة العلمية العربية إلى أوروبا من خلال الأندلس (مدرسة طليطلة) ، وجنوبى إيطاليا (مدرسة ساليرنو) ، بينما شهد عملية انتقال مشابهة عن طريق ثغور بلاد الشام المحتلة من قبل الصليبية (1907م - 1290م) .
وفى هذا الصدد قال المؤرخ الدكتور (لوسيان لوكليرك)(2) : (هناك تفكيران عصفا بأوروبا فى القرن الثانى عشر ؛ الأول : دينى متعصب ، دفع الأوروبيين للقيام بالحروب الصليبية ، والثانى : متعطش للعلم ، دفعهم للتفتيش عن منابعه لدى العرب المسلمين) .
مدرسة طليطلة
لقد مرت مدرسة طليطلة بعدة مراحل ، وفى كل مرحلة كانت تترجم المئات من الكتب والمخطوطات العربية إلى اللاتينية ، فمنذ استيلاء (الفونسو الثالث - ملك قشتالة) على مدينة طليطلة من أيدى العرب المسلمين عام 1085م، أمر بترجمة المخطوطات فى الخزائن التى كانت تحتوى على ملايين من المخطوطات والكتب الأدبية والعلمية والطبية - فالمكتبة العامة لمدينة قرطبة - وحدها - كانت تحتوى على أكثر من نصف مليون مخطوط عربى ، وإن فهارس هذه المكتبة ملأت مجلدين يحويان أكثر من ألفى صفحة - لاسيما أن الملك كان يحب الثقافة ، مما شجع حركة الترجمة ، لدرجة أن أقيمت ، ولأول مرة ، ورشات الترجمة ، وظهرت مفارز للترجمة ، يتعلم أفرادها اللغة العربية أولاً ، ثم يبدءون بترجمة عدد من المخطوطات القيمة الشهيرة من العربية إلى اللغة العامية القشتالية كلغة وسيط ، وبعدها تجرى صياغة هذه الترجمة باللغة اللاتينية الفصحى ، لأنها كانت اللغة الرسمية للعلم والكنيسة فى أوروبا .
وفى الفترة 1125م - 1151م حكم (ريمون) الذى تميز بشغفه للعلم ، مما شجع على ترجمة المزيد من الكتب العربية إلى اللاتينية ، لاسيما أن ثمة مترجمين مشهورين ، تولوا هذه المهمة ، منهم :
(يوحنا الإشبيلى) : تولى نقل الكتاب من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية العامية (الكاستيجا) .
(دومينيكو جونديسالفى) : تولى الترجمة من القشتالية العامية إلى اللغة اللاتينية الفصحى ، ومن بعض الكتب التى ترجمت : كتب ابن سينا الطبية والعلمية الأخرى والفلسفية ..
(مرقص الطليطلى) : تولى ترجمة كتاب (جس النبض) لجالينوس ، ولكن ليس عن لغة الكتاب الأساسية ، التى هي اليونانية ، وإنما نقلاً عن ترجمة عربية سابقة لهذا الكتاب ، قام بها حنين بن إسحاق ، وبهذا يكون فضل العرب مضاعفًا بهذه الحالة .
(جيرار الكرمونى) (1187م) : هذا المترجم بالذات كان نشيطًا لدرجة أنه قام بالترجمة من اليونانية والعربية إلى اللغة اللاتينية لنيفٍ وسبعين كتابًا فى الصيدلة والطب والفلسفة وغيرها من العلوم ، وعلى سبيل المثال نورد بعضها :
- فى علم الصيدلة : ترجم كتاب (الأدوية المركبة) للكندى .
- فى علم الطب : ترجم كتاب (القانون) لابن سينا .
إضافة إلى كتاب : (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوى ، وكتاب (المنصورى) لأبى بكر الرازى .
ومن المفيد ذكره فى هذا الصدد ، أن كتاب (القانون) ظل يُدرس فى الجامعات الأوروبية حتى بداية القرن السادس عشر ، وكتاب (التصريف...) كان المرجع الأول لعلم الجراحة فى أوروبا ، وكذلك كتاب (الجراحة الكبرى) للزهراوى ، كان المعتمد الأساسى فى علم الجراحة فى أوروبا حتى ظهور الجراح الفرنسى (آمبروا زباريه) فى القرن السادس عشر . أما كتاب الرازى (المنصورى) فقد كان المجلد التاسع منه ذا تأثير كبير فى تطور علم الطب فى القرون الوسطى وكانوا يسمونه (Nonusal-Mansori) أى المنصورى التاسع(3).
مدرسة ساليرنو
تأتى أهمية مدرسة ساليرنو من حيث كونها أول جامعة أقيمت فى أوروبا ، والتى خرجت جيلاً من الرواد أنشأ الجامعات الأوروبية الأولى فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر وما بعدهما ، ومن أمثال تلك الجامعات : (ديادوفا وبولونيا فى إيطاليا ، ومنبيليه وباريس فى فرنسا) . إضافة إلى جامعة أكسفورد ولايدن ولوفان ولايبزغ وتوبنجن وهايدلبرغ وبال ... إلخ .
ولقد لعب بعض الأطباء المهاجرين العرب دورًا كبيرًا فى تطور مدرسة ساليرنو للطب ، مثل : قسطنطين الأفريقى - التونسى الأصل – الذى ترجم العديد من الكتب العربية العلمية إلى اللغة اللاتينية ، مثل كتاب (الكامل فى الصناعة) وكتاب (الملكى) لعلى بن العباس ؛ وكتاب (فىأمراض العيون) لحنين بن إسحاق ، وكتاب (زاد المسافر) لابن الجزار ، وحوالى عشرين كتابًا أخرى أصبحت المراجع العلمية لها .
ناهيك عن أن (بارتولومو) ، وهو من تلامذة قسطنطين الأفريقى فى مدرسة ساليرنو ، قام بترجمة كتاب (الملكى) لعلى بن العباس من اللاتينية إلى الألمانية ، فكان أول كتاب طبى يدرس باللغة الألمانية الجديدة . ثم تلاه العديد من الكتب .
الثغور الشامية فى مرحلة الحروب الصليبية(5/65)
شهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر مرحلة الحروب الصليبية ، التي تمت فيها عملية تماس إجبارى على مستوى واسع ، بين المجتمع العربى الإسلامى من جهة ، وحشود من الأوروبيين الغزاة من جهة ثانية ، وقد حصل هذا التماس فى بلاد الشام بالذات حيث أنشأ الصليبيون إمارات أوروبية مستقلة فى كل من الرها (إيديسا) ، وأنطاكية ، وطرابلس الشام ، ومملكة مسيحية فى القدس ، لدرجة أن وصفت هذه المرحلة بأنها الأهم فى نقل مظاهر وأسس الحركة العلمية من (دار الإسلام) فى المشرق إلى البلدان الغربية فى أوروبا .
وثمة علاقات تمت على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية ، لاسيما فى أوقات المهادنة . ومن جملة ما أخذوه نظامنا العلمى التعليمى ، وكيفية تدريس العلوم ، وإجازة الأطباء ، وطرق العلاج ، والمؤسسات العلاجية ، وخاصة نظام المستشفيات (البيمارستانات) ، ناهيك إلى انتقال العديد من الصناعات إلى أوروبا ، لاسيما صناعة الورق ، لما لها من أهمية فى الثقافة والعلم والتعليم ، وكذلك صناعة النسيج إلى فرنسا ، إضافة إلى إجادة اللغة العربية من قبل الأوروبيين(الذين كانوا مع الوحدات الصليبية فى الشرق) ، بغية التمكن من ترجمة الكتب العلمية إلى اللغة اللاتينية أولاً ، ثم إلى فروعها من اللغات الأوروبية فى مرحلة لاحقة . كما أن ثمة مدن تميزت بحركة نشطة فى الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية ، فمثلاً :
مدينة أنطاكية
كان من أهم المترجمين : (إيتين الإنطاكى) حيث ترجم كتاب (الملكى) لعلى بن العباس إلى اللاتينية، وذلك تحت عنوان Regalis Disposite عام 1127م .
مدينة طرابلس
اعتبر المترجم (فيليب الطرابلسى) ، من أنشط المترجمين ، حيث ترجم كتاب (سر الأسرار) لأرسطو إلى اللغة اللاتينية ، لكن ليس عن لغته الأصلية - وهى اليونانية - وإنما عن ترجمة عربية له تحت عنوان كتاب (السياسة فى تدبير الرئاسة) .
وإضافة لما سبق ، فالحقيقة العلمية تقول إن ازدياد المعلومات عن حضارات الشرق كالمصرية , والسومرية ، والبابلية .. يضطر المؤرخون إلى تعديل جذرى فى النظر إلى الحضارة اليونانية ، فليست هناك (معجزة يونانية) مطلقًا، لأن الحضارة اليونانية ، امتداد واقتباس للحضارة العربية القديمة فى وادى الرافدين ، ووادى النيل ، وبلاد الشام ، فاليونانيون اقتبسوا من الحضارة العربية فى شرقى البحر المتوسط الشىء الكثير فى مختلف العلوم ، وعاد إلينا على أنه علم وطب يونانيان ونُسى الأصل أو تنوسى .
وكما تقول الباحثة ليلى محمد محمد فإنه يبدو فضل العرب المسلمين على الحضارة الأوروبية مزدوجًا ومضاعفًا : نقل الفكر اليونانى إلى الغرب أولاً ، ورفده بأمهات الكتب العلمية والتصانيف التى أبدعها العرب المسلمون ثانيًا . ولاسيما أن اختراع الطباعة على يد يوحنا جوتنبرغ عام 1448م سهل انتشار الثقافة والعلم وعجل بنشوء الحضارة المعاصرة(4) .
وقد تحققت النقلة الحضارية المهمة بالترجمة المكثفة للأعمال اليونانية الكلاسيكية ، مثل أعمال أرسطو وإقليدس وأبيقراط وغيرهم ، والتى ترجمت إلى العربية من المصادر اليونانية والعبرية والسورية ، وقام المسيحيون العرب من أتباع الكنائس الأرثوذكسية السورية والنسطورية بإنجاز عدد من تلك الترجمات. على أن الترجمة لم تكن حرفية ؛ إذ غالبًا ما كان يجرى التعليق على المصدر الأصلى ونقده وإضافة حواشٍ إليه ، وبهذا الشكل بات المسلمون الورثة الحقيقيين للثقافة الهيلينية ، التى غالبًا ما يستخدمها الغرب كمرجع ومصدر ولاشك أن جهود الترجمة الإسلامية الكبيرة صانت هذا التراث الثمين وتولت إدارته(5) .
وصلت جهود الترجمة ذروتها على يد الطبيب المسيحى السورى حنين ابن إسحاق ، جمع ابن إسحاق فى رحلاته الطويلة المخطوطات المختلفة للمؤلفات الأساسية المتوفرة آنذاك ، وقام بمقارنتها قبل ترجمتها إلى السريانية أو العربية ، وفى مطلع القرن التاسع تم تأسيس (دار الحكمة) فى بغداد ، حيث باتت تلك الأعمال متوافرة باللغة العربية التى كانت قد أصبحت لغة العلوم آنذاك .
وكانت بغداد مركز العالم خلال الفترة من عام 750م وإلى العام 1258م حين قام المغول بتدميرها ، وفى الوقت الذى كان فيه أهل شمال أوروبا يهيمون على وجوههم ويكتسون بجلود الحيوانات ، كانت بغداد تنعم بحضارة مزدهرة متطورة تميزت بالتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود ، وبغداد - التى اصبحت مؤخرًا رمزًا للمشاكسة وعدم التصالح - كانت آنذاك تعرف باسم (مدينة السلام)(6) .
ويقول إنجمار كارلسون : أن الثقافة الإسلامية - على ذلك - ليست غريبة كما تدعى كليشهات الغرب وأفكاره المسبقة .(5/66)
تمكن المسلمون العرب والبربر من هزيمة مملكة الفيزغوطيين فى إسبانيا بسرعة بعد عبورهم لمضيق جبل طارق . كان أهل البلاد الأصليون آنذاك يعانون من حكم أرستقراطية غريبة ، فى حين كان اليهود عرضة لاضطهاد الكنيسة ، وبمساعدة اليهود سقطت طليطلة فى أيدى المسلمين دون مقاومة تذكر ،كما تم فتح قرطبة بمساعدة راع إسبانى دل المهاجمين على فجوة فى سور المدينة ، ومع افتتاح إشبيلية فى 716م وصل الفتح إلى ذروته ، وتم وضع أساس الإطار الجغرافى فى إسبانيا الذى انتعش فيه مجتمع التعددية الثقافية على امتداد ثمانية قرون تقريبًا .
لم يعتبر السكان الأصليون المسلمين الفاتحين همجًا بدائيين ، بل على العكس أعجبهم نمط الحياة الرفيع والرفاه والرقة التى جاء بها المسلمون ، وسرعان ما بات المسيحيون يقلدون المسلمين . ولقد قطع هذا الذوبان والاندماج الثقافى شوطًا بعيدًا إلى حد أن قسيسًا إسبانيًا كتب حانقًا يقول :
(إخوانى المسيحيون يتذوقون الشعر والحكاية العربية ، ويدرسون علوم الدين والفلسفة المحمدية ليس لغرض دحضها ، ولكن لتهذيب أذواقهم وامتلاك الأسلوب الرفيع . هل هناك الآن من هو قادر على قراءة التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة ؟ كلا للأسف الشديد . إن الموهوبين الشبان من المسيحيين لا يعرفون سوى الآداب العربية ، إنهم يقرأون ويدرسون الكتب العربية فحسب ، ويبذلون الغالى والرخيص لجمع الكتب العربية ، ويسبحون ويمجدون فى كل مناسبة بالعادات العربية) .
ذلك السعى المحموم تجاه نمط الحياة الرفيع مازال يعكس نفسه إلى يومنا هذا فى بعض التعابير المتداولة فى اللغات الأوروبية ، والمستعارة مباشرة من اللغة العربية . قليلون أولئك الذين يعرفون مثلاً أن كلمة (الجالا) (الحفل الكبير احتفاء بشخص أو حدث مهم) جاءت أصلاً من العربية ، وأصل التعبير والحدث هو (الحلة) التى كان الأمير الشرقى يخلعها على شخص قام بأداء عمل أو خدمة جليلة ، واليوم نجد فى العديد من اللغات الأوروبية استعارات محورة لمشتقات من هذا التعبير .
لاشك أن الدين كان قوام تأسيس الهوية ، وأن الدين كان بدوره يرتبط بنظام الحكم الإقطاعى ، ولكن العلاقة بين المجموعات الدينية كانت ترتكز على التسامح المتبادل فيما بينها ، والذى كان مستمدًا بدوره من مبدأ (أهل الكتاب) الذى ورد فى القرآن .
ويمكن اعتبار عمليات التحول بين الديانات الثلاث بمثابة مقياس خاص لمبدأ التسامح المعمول به آنذاك ، كان التحول من المسيحية واليهودية إلى الإسلام شائعًا ومازال .
وكانت هناك خمس لغات على الأقل قيد الاستعمال اليومى ، لغتان للحديث ، العربية الأندلسية ولغة الرومانا العامية (التى تطورت فيما بعد إلى اللغة الإسبانية) . أما لغات الكتابة فكانت العربية الفصحى والعبرية واللاتينية.
ويضيف إنجمار كارلسون : لقد حرر الفتح الإسلامى اليهود من الاضطهاد الذى كانوا يعانون منه تحت الحكم المسيحى ، ولقد تأقلم اليهود مع الثقافة العربية ، ووصلوا إلى مراكز رسمية عالية خلال فترة الازدهار تلك ، وأدلى اليهود أيضًا بقسطهم فى التطور العلمى والفلسفى والأدبى الذى تحقق خلال تلك الفترة والذى تمركز حول قرطبة . وتمت إعادة نفخ الحياة فى اللغة العبرية بظل الدعم العربى وحمايته، وعلى الرغم من أن اليهود كانوا يكتبون بالعربية عند تناول الفلسفة والعلوم ، إلا أن العبرية كانت لغتهم المفضلة عند كتابة الشعر ، وربما كانت هذه هى المرة الأولى التى جرى فيها استخدام العبرية لأغراض أخرى غير الطقوس الدينية .
ولقد ارتحل اليهود إلى إسبانيا العربية من جميع الأصقاع ، حتى إن غرناطة باتت مدينة ذات صبغة يهودية ، ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى قيام ناشر إسرائيلى فى مطلع الثمانينيات بنشر مجموعة من الأعمال تحت عنوان (كنوز من الفكر اليهودى) ، وكانت جميع المجلدات الستة التى تم نشرها فى المجموعة أعمالاً كتبت فى إسبانيا خلال الفترة 1050 - 1428م ، لا بل إن خمسة من الأعمال الستة تمت كتابتها أصلاً باللغة العربية ، وتضمنت الأعمال كتابين للمؤلف جابريول (المعروف أكثر باسمه اللاتينى Avicebron، وقصائد للشاعر يهودا هاليفى ، وأعمالاً لموسى بن ميمون (قارن التسامح الإسلامى مع اليهود بما يفعلونه الآن فى فلسطين) .
كانت إسبانيا المقاطعة الأولى التى انفصلت عن دار الخلافة ، ولقد وصل الأمير الأموى عبد الرحمن الداخل إلى إسبانيا فى العام 755م هاربًا من دمشق، وكان الحكام فى إسبانيا قانعين فى البداية بلقب الإمارة ، ولكن عبد الرحمن الثالث أعطى لنفسه - فى العام 929م - لقب (أمير المؤمنين) ، وأصبحت الخلافة فى قرطبة خلال القرن العاشر أكثر ممالك أوروبا رخاء على الصعيدين الثقافى والمادى ، وفى الوقت الذى كانت فيه المدن فى وسط أوروبا مجرد أكواخ من الخشب ، كان سكان قرطبة الذين بلغ عددهم نصف مليون نسمة يتمتعون بشوارع مضاءة وشبكة لمياه التصريف وأكثر من 300 حمام عمومى .(5/67)
إلا أن حكم الأمويين بدأ بالتضعضع مع الانقسامات الداخلية ، وأيضًا مع ضغوط المسيحيين المتزايدة من الشمال الذين كانوا يطالبون باسترجاع الأراضى المسيحية . ونتيجة لهذه الضغوط انقسمت الخلافة فى قرطبة إلى ممالك صغيرة متعددة منذ العام 1013م ، وكان بعض الحكام المسلمين شقرًا وذوى عيون زرق نتيجة للزيجات المختلطة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين ، وجرى عقد معاهدات تحالف بين الحكام المسلمين والمسيحيين .
على أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية كانوا يعتبرون أن أى اتصال مع المسلمين ، أو أى تنازل لهم مهما صغر شأنه ، هو نصر لأعداء المسيحية ، وبدءًا بالقرن الحادى عشر كانت هناك عملية استرجاع تدريجية للأراضى من المسلمين ، إذ سقطت طليطلة فى 1085م ، وقرطبة فى 1236م ، وفالنسيا فى 1238م ، وإشبيلية فى 1248م . على أن الموقع الأخير ، غرناطة ، ظل صامدًا لأكثر من قرنين ونصف من الزمن ، كمدينة مفتوحة للفنانين والعلماء والكتّاب من شتى أرجاء حوض البحر المتوسط ، وظلت غرناطة واحدة من أجمل مدن الدنيا وواحة للاجئين (المور) (العرب الهاربين من إسبانيا المسيحية) وللمسيحيين واليهود على السواء .
ولكن غرناطة سقطت أخيرًا مع قلعتها الحمراء فى عام 1492م ، ولقد حدث هذا بعد أن أصبحت نموذجًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وهو النموذج الذى بات يعرف باسم التعايش التلاؤمى (Conviviencia)، وعلى امتداد كامل فترة الاسترجاع كان المسيحيون يواجهون طرفًا أكثر رفعة حضارية . ولقد كان الإسلام أكثر مدنية وأكثر تطورًا من الناحية التقنية ، فضلاً على أنه كان أكثر انفتاحًا على العالم وأغنى تنوعًا من الناحية الروحية .
وبعد الاجتياح المسيحى باتت طليطلة مركزًا لترجمة الأعمال العلمية من العربية إلى اللاتينية ، ولقد جرى جمع أفضل عقول أوروبا آنذاك فى تلك المدينة ، ويمكن على ضوء ذلك الاستنتاج القول بأن العلماء والبحاثة المسلمين والمسيحيين واليهود من طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة كانوا أساس ولادة المنهج الإنسانى الأوروبى ، وذلك عبر تعريف أوروبا المسيحية بكلاسيكيات تاريخ العلوم ، وهذا يصح على نظريات الحساب التى طورها إقليدس وأبولونيوس وأرخميدس , وعلى علوم الفلك لدى المصرى بطلميس ، وعلى علوم الطب عند أبو قراط وجالينوس .
وقد تأثر التعليم والعلم والثقافة فى أوروبا بشكل قوى بالمعارف الإسلامية أيضًا عبر صقلية ؛ إذ كانت هذه الجزيرة مقاطعة بيزنطية فى بداية القرن التاسع ، فقد تمكن المسلمون فى العام 829م من الحصول على موطىء قدم فيها، ومع العام 902م سقطت الجزيرة بكاملها فى أيديهم إلى جانب أجزاء من جنوب إيطاليا ، ولكن السيطرة الإسلامية هناك لم تكن طويلة الأمد كما فى جنوب إسبانيا ؛ إذ تمكن النورمانديون من استرجاع صقلية فى أواخر القرن الحادى عشر . وعلى الرغم من قصر هذه الفترة الزمنية ، إلا أن المدن الصقلية بشكل خاص كانت قد تأسلمت مما انعكس فى انصهار ثقافى مرموق ظل حيًا ومشعًا لقرون ، وظل نظام حكم النورمانديين ذا طابع عربى كامل ؛ إذ إن (روجر الأول) ، وهو الذى بدأ الحملات ضد المسلمين فى الجزيرة أحاط نفسه بالفلاسفة وعلماء الفلك والعلماء العرب ، وكان بلاطه فى باليرمو بلاطًا شرقيًا أكثر مما كان غربيًا ، ولقد ظلت الجزيرة لأكثر من قرن من الزمن مملكة مسيحية يحتل المسلمون فيها أغلب المراكز الرفيعة .
لم يكن (فريدريك فون هوهينشتاوفن) حاكمًا لجزيرة صقلية فى النصف الأول من العام 1200م فقط ، بل كان أيضًا إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة وملك القدس ، وعلى الرغم من أنه كان صاحب أعلى مركز مدنى فى العالم المسيحى ، إلا أن حياته الخاصة كان حياة شبه شرقية ، فلقد كان لديه حريم ، وكان بلاطه يضم فلاسفة من دمشق وبغداد ويهودا شرقيين وغربيين. إن الانفتاح المميز الذى ساد بلاطه كان أساس عهد النهضة الإيطالى ، وكانت العربية واليونانية واللاتينية تستخدم فى المناسبات الرسمية ، ولقد انتشرت الثقافة والعلوم العربية من جزيرة صقلية والجنوب الإيطالى إلى شمال إيطاليا وبقية أنحاء أوروبا ، وتجدر الإشارة إلى أن الإمبراطور (فريدريك) وابنه (مانفريد) كانا يتقنان العربية ، ولقد قاما بدراسة العلوم والفلسفة العربية ، وبترجمة الأدبيات العربية إلى اللاتينية .(5/68)
ويشهد إنجمار كارلسون بأن : علم التاريخ جاء إلى أوروبا من الأندلس وصقلية ، وهو أيضًا الطريق الذى جاءت منه العلوم والتكنولوجيا العربية ، لا بل إن إسهام العرب فى خلق المعرفة الطبية فى أوروبا يعتبر واحدًا من أبرز وأكبر عمليات النقل العلمى التى تمت فى التاريخ . لقد جمع أبو بكر الرازى (المتوفى فى العام 935م) كل المعرفة الطبية الموجودة فى زمانه فى 30 مجلدًا، وقام أيضًا بتأليف أكثر من مائة رسالة طبية أعيد نشرها نحو 40 مرة مع حلول القرن التاسع عشر ، وكانت بحوثه تلك مادة تدريس فى الجامعات الأوروبية لقرون طويلة ، وقد حاز وصفه للجدرى والحصبة على شهرة خاصة ، وقام الطبيب والفيلسوف ابن سينا (المتوفى فى العام 1037م) أيضًا بوضع دائرة معارف للعلوم الطبية ظلت تستخدم فى الجامعات الأوروبية حتى القرن الماضى، وشرح (ابن الخطيب) (المتوفى فى العام 1374م) كيفية انتقال الطاعون بالعدوى . أما أعمال على بن عيسى حول أمراض العيون فإنها تعكس فهمًا ومعرفةً لم تصبح متوافرة فى أوروبا قبل القرن الثامن عشر ، وكان الطبيب المصرى (ابن النفيس) (المتوفى فى 1288م) أول من شرح نظام الدورة الدموية . وهذا مجرد غيض من فيض .
ومنذ القرن العاشر فرض المسلمون على الأطباء ضرورة اجتياز امتحان طبى قبل السماح لهم بممارسة المهنة ، وكان تعليم الأطباء يجرى فى مستشفيات خاصة فى المدن الكبيرة ، ولقد طور الأخصائيون فى هذه المستشفيات فنون الجراحة ، كما جرى مراقبة ووصف مراحل تطور الأمراض المختلفة ، وتمت دراسة الأدوية المستخلصة من الأعشاب وتحليل آثارها على الجسم البشرى . لقد كانت العلوم الطبية متطورة إلى درجة أن عالم النبات (ابن البيطار) من ملقا (الأندلس) جدول فى القرن الثالث عشر أكثر من 1400 عقار طبى مختلف، وفى الواقع أن الصيدليات كمؤسسات طبية هى إبداع عربى ، ولقد كان هناك محلات عطارة رسمية فى الأندلس توفر الدواء للعامة .
وحقق علماء الفلك العرب تطورًا كبيرًا فى تحديد المسارات التى يأخذها القمر والكواكب ، وكتبوا فى وقت مبكر عن المد والجزر ، وعن قوس القزح ، وعن الشفق ، وعن الهالات حول الشمس والقمر ، وافتراض العلماء العرب أن الأرض كروية منذ القرن الحادى عشر . إن إنجازات (كوبرنيكوس وكيبلر) ما كان يمكن لها أن تكون بدون الأعمال التأسيسية للفلكيين العرب .
ولقد تمكن القسيس (لوبيتوس) من برشلونة من تعلم كيفية استخدام الأسطرلاب عبر قراءة نصوص مترجمة من العربية ، وكتب فى العام 984م إلى إخوانه المسيحيين - على الجانب الآخر من سلسلة جبال البرانس - حاثًّا إياهم على استخدام العلوم العربية ؛ وذلك لتسهيل تحقيق أهدافهم الدينية قائلاً: إن من يرغب بأداء الصلوات فى أوقاتها الدقيقة ، والاحتفال بعيد الفصح فى التاريخ الصحيح ، وتفسير البشائر حول نهاية العالم ، عليه أن يستخدم الأسطرلاب . لقد نسينا نحن المسيحيين الحكمة والمعرفة الأصلية ، وها هو الله يهبنا إياها ثانية عبر العرب . انتهى .
ولم يمنح العرب أوروبا الأسطرلاب فقط ، بل أعطوها أيضًا أداة أكثر دقة للحساب ، ألا وهي الأرقام العربية ، التى يجدر أن نسميها بالأرقام الهندية كما يفعل العرب أنفسهم . كانت هذه الأرقام معروفة فى بغداد منذ نحو العام 720م ، ويرجح أنها جاءت إلى بغداد عبر التجار الهنود . إن المساهمة الأكثر أهمية لعلماء الحساب الهنود تتمثل فى إبداع رقم الصفر ، وفى وضع النظام العشرى ، وعقب نحو قرن من معرفة هذا النظام ، قام (أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمى) (المتوفى فى العام 846) بوضع كتابه عن تطوير مجالات استخدامه فى علم الحساب ونظام العد العشرى ، وهو يستحق عن جدارة لقب (أبو علم الجبر واللوغارتمات) ، بل إن كلمة (الجبرا) باللغات الأوروبية مشتقة مباشرة من كلمة الجبر بالعربية ، وكلمة اللوغارتمات مشتقة بدورها من تحريف اسم الخوارزمى .
كانت أساليب الحساب الجديد ثورة عظيمة الشأن ؛إذ وفرت الأرقام الجديدة إمكانية التعامل مع المسائل الرياضية بشكل لم يكن متاحًا فى السابق مع استعمال الأرقام الرومانية ، ولقد حرر هذا الإنجاز العربى أوروبا من (اضطهاد الأرقام الكاملة) حسب تعبير أحد الرهبان .
كان للانتشار السريع للإسلام نتائج على علوم الجغرافيا أيضًا ؛ إذ تم وضع وصف دقيق لمسالك الحج من الحواضر الإسلامية فى مصر وسوريا وما بين النهرين فى وقت مبكر . ونتج عن هذا تأليف دوائر المعارف الجغرافية وكتب الرحلات عبر القارات ، ولقد وضع (أبو عبد الله المقدسى) (المتوفى فى العام 1000م) مجلدًا حول الجغرافيا الفيزيائية والبشرية المعروفة فى ذلك الزمن ، على ضوء ملاحظاته والمراقبات الموثوقة للآخرين , وهو أيضًا مؤلف (أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم) الذى نقله الأوروبيون إلى لغاتهم ، كما قام (ياقوت الحموى) (المتوفى فى العام 1229م) بتأليف قاموس جغرافى مهم بعنوان (معجم البلدان) .(5/69)
ولقد استفادت أوروبا أيضًا من العلوم العربية فى هذا المجال ؛ إذ قام الملك النورماندى (روجر الثانى) بتكليف الجغرافى العربى الإدريسى برسم خرائط شاملة عن العالم ، فقام هذا برسم خريطة للعالم بالإضافة إلى 72 خريطة تفصيلية عن الحدود المعروفة آنذاك ، من خط الاستواء جنوبًا إلى المحيط الأطلسى غربًا وإلى المحيط الهادى شرقًا .
كانت المخططات التى وضعها راسمو الخرائط العرب واليهود فى صقلية ومايوركا فى القرن الثالث عشر فريدة من نوعها ؛ إذ استمر استعمالها ولم يجر تعديل المسافات المحددة فيها إلا فى وقت متأخر من القرن السابع عشر ، وكلمة أطلس المستخدمة فى اللغات الأوروبية مأخوذة مباشرة من اللغة العربية، وعندما قام (فاسكو دي جاما) بالاستعانة بالقبطان العربى (ابن ماجد) ؛ لاكتشاف طريق الهند عبر رأس الرجاء الصالح ، فإنه كان يعرف تمامًا بمن يجب أن يستعين .
أما الرحالة المغربى (ابن بطوطة) (المتوفى فى 1368م أو 1377م) فإنه ارتحل إلى أصقاع بعيدة أوصلته إلى تومبكو وإلى بكين وإلى الفولغا ، وهو لاشك رحالة على نفس مستوى (ماركو بولو) .
وفيما يلى ، نخبة من أسماء المسلمين الذين أغنوا أوروبا بعلومهم ومعارفهم، والذين وصفهم الباحث والرحالة الألمانى (الكسندر فون هومبولت) فى القرن التاسع عشر بأنهم (منقذو التعليم والثقافة الغربية) .
• عباس بن فرناس (المتوفى فى 888م) الذى حاول تصميم طائرة قبل نحو 600 عام من قيام الإيطالى ليوناردو دافنشى بنفس المحاولة .
• أبو الحسن بن الهيثم (المتوفى فى 1039م) الذى اخترع الحجرة المظلمة فى التصوير .
• أبو الريحان البيرونى (المتوفى فى 1050م) العبقرى المتعدد المواهب الذى كان مؤرخًا وديبلوماسيًا وأخصائيًا فى اللغة السنسكريتية وعالم فلك ، وخبيرًا بالخامات وصيدلانيًا .
• عمر الخيام (المتوفى ما بين 1123م و 1131م) الذى كان شاعرًا وعالم حساب فى آن واحد .
• ابن رشد (ولد وتعلم فى الأندلس ، وتوفى فى 1198م) الذى تركت شروحاته وتعليقاته على أعمال أرسطو آثارًا عميقة على الفلسفة الغربية .
• ابن خلدون (المتوفى فى 1406م) الذى يعتبر بحق (أبو التاريخ) و (أبو علم الاجتماع) ، عبر مُؤلفه الشهير المعروف بـ (مقدمة ابن خلدون) ،عن تاريخ العالم ومنهجه المميز فى نقد المصادر .
وكما تقول أغنية مصرية شائعة : (الأرض بتتكلم عربى) ، فإن أوروبا كثيرًا ما تستعمل العربية دون أن تدرى . إن الآثار التى خلّفها الحكم العربى فى إسبانيا وصقلية يمكن متابعتها بشكل خاص فى مفردات اللغات الأوروبية، وخاصة فى اللغة الإسبانية . إن واحدة من كل خمس كلمات فى اللغة الإسبانية ذات أصل عربى ، لا بل إن البطل الوطنى الإسبانى الذى هزم العرب، يحمل اسمًا عربيًا : (السيد) (El Cid) ، ومعظم السائحين الذين زاروا حلبات مصارعة الثيران قد لا يعرفون بأن نداء (أوليه) بالإسبانية تمتد جذوره فى اللغات العربية : إنهم يمجدون بهتافهم هنا اسم الله ، وإن اسم أطول نهر فى إسبانيا (Guadalquivir) مشتق فىالواقع من الاسم العربى (الوادى الكبير) ، وماذا عن اسم جبل طارق ؟ بل إن التعبير الشائع (هستا مانيانا) , والتى تعنى إلى الغد ، فإن كلمة (هستا) تعود بأصلها إلى كلمة (حتى) العربية .
ومن بين التعابير الحربية والعسكرية فى اللغات الأوروبية التى تعود بأصلها إلى اللغة العربية نذكر مثلاً دار الصناعة (Arsenal) ، والغزوة (Razzia) ، وقالب (Calibre) . وللتذكير فقط فإن المسلمين وليس البريطانيين هم الذين سادوا الأمواج (كما يقول النشيد الإنجليزى) ، بل إن اللقب العسكرى للأدميرال نيلسون مشتق من اللغة العربية . إن كلمة أدميرال مشتقة (أمير الرحل) التى تحرفت إلى (Ammiraglio) بالإيطالية ثم أدميرال بالإنجليزية، وكلمة (Mansoon) هي أيضًا كلمة بحرية مشتقة من كلمة الموسم .
وقد استعارت كل اللغات الأوروبية بشكل مكثف من العربية خصوصًا فى مجال أسماء النباتات والحيوانات . وكأمثلة على ذلك نذكر الحشيش (Hasch) ، الذرة (Durra grain) ، الطرحون (Tarragon)، الباذنجان (Aubergine) ، البرقوق (Apricot)، الكمون (Cumin)، الكافور (Camphor)، القهوة (Coffee)، الياسمين (Jasmine)، الزنجبيل (Ginger)، القطن (Cotton), الليمون والليمونادة (Lemon)، النارنج (Orange)، السبانخ (Spinach)، الزعفران (Saffron) .
وكبرهان على التأثير العربى الواسع الذى شمل مختلف المجالات، والذى يكاد أن يقارب ما نطلق عليه اليوم اسم (الاستعمار الثقافى)، نورد فيما يلى مجموعة من الكلمات السويدية المستعارة مباشرة من اللغة العربية :
الشفرة (Cipher)، العرق (Arrack) الكهف (Alcove) الملغم (Amalgam)، الكحول (Alcohol)، الجبر (Algebra)، الحبل (Cable)، الزهر (Hazard) ، الإكسير (Elixir)، الدمقس (Damask) .(5/70)
ويشهد علماء الغرب على بشاعة أسلافهم : ولاشك أن الإحساس بالدونية الثقافية ساهم فى بلورة موقف المسيحيين تجاه المسلمين الذى تميز بالقسوة واللارحمة ، ويحفظ لنا التاريخ مثلاً أن (الكاردينال زيمينس) أمر فى العام 1499م بحرق ثمانين ألف كتاب عربى فى غرناطة ، بحجة أن (العربية هى لغة عرق كافر وعرق وضيع) . وبعد ثلاث سنوات أجبر المسلمون فى إسبانيا على الاختيار بين اعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد أو الموت ، وخلال الحقبة الزمنية نفسها تم نفى نحو ربع مليون يهودى بعد أن رفضوا اعتناق المسيحية . وتم إحراق مئات الألوف من المسلمين أحياء بعد تعذيب وحشى مروع .
عانت إسبانيا آنذاك من نفس الجنون العرقى الذى تعانى منه البوسنة اليوم ، إذ إن حمى تحويل أتباع الأديان الأخرى إلى المسيحية سرعان ما أصبحت حملة للتمييز العنصرى ، وحتى ذلك الوقت لم يكن (الدم) أمرًا ذا شأن إلا للنبلاء الذين لا يمتلكون الأضياع ، ولكنه سرعان ما أصبح معيارًا حاسمًا للتمييز بين البشر ، وعلى هذه الخلفية فضل الملك (فرديناند) والملكة (إيزابيلا) دخول التاريخ لا بصفتهما ملكين على أتباع من ثلاث ديانات ، بل فضّلا صفة الملوك الكاثوليك . وهكذا انتهى عهد التعايش التلاؤمى على يد المسيحيين المتعصبين .
إن تجربة الأندلس تؤكد : أن بعض التجاوزات المتطرفة التى قد نراها اليوم على الأصعدة المختلفة ليست صنوًا للإسلام . إنها ببساطة ليست من الإسلام فى شىء . الإسلام هو مصهر للإبداعات المتنوعة ، وهو مستودع لأفكار متعددة ومتميزة ، من نظريات يوتوبية استرجاعية حول الخلاص الروحى إلى تأكيدات للهوية الثقافية واستيعاب لكل الأفكار والثقافات .
إسبانيا المسلمة هى برهان ملموس على كل هذا ، وهى تحد سافر للأفكار الجاهزة ، وللقوالب المسبقة حول الإسلام والمسلمين . الإسلام كان الحضارة المتفوقة ، وكان الطرف الخلاق حين كانت المسيحية متخلفة عنه قرونًا كثيرة، ولقد عاشت المجموعات السكانية المختلفة بظله بتناغم وتجانس دون اعتبار للعرق والدين . لقد تمكن الإسلام هناك من خلق مجتمع (التعايش السلمى) الذى وصفه المستشرق البريطانى (وليام مونتغمرى وات) بأنه مفهوم يتضمن التكافل والتكامل والانصهار .
تعليق
لقد استمر عطاء علماء المسلمين للبشرية حتى يومنا هذا برغم كل الظروف السيئة التى نمر بها الآن .. ويكفى أن نشير إلى حصول اثنين من علماء المسلمين على جائزة نوبل العالمية تقديرًا لعطائهما وجهودهما المتميزة .. الأول كان الفيزيائى الباكستانى أحمد عبد السلام .. والثانى هو الدكتور أحمد زويل عالم الفيزياء العربى المسلم صاحب الاكتشافات العلمية المذهلة فى العصر الحديث ، ومنها اكتشافه وحدة القياس الزمنى (الفمتوثانية) لأول مرة فى التاريخ .. وهناك أيضًا عالم الفضاء المصرى العربى الدكتور فاروق الباز أحد أبرز خبراء وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية (ناسا) .. والعبقرى الدكتور مشرفة .. وعالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى ، وعالم الذرة الدكتور يحيى المشد (اغتالتهما المخابرات الإسرائيلية الموساد بخسة ووضاعة لمنع العرب من الحصول على القنبلة النووية) .. وأيضًا نذكر جراح القلب العالمى الدكتور مجدى يعقوب ..والعالم الجليل الدكتور زغلول النجار أحد أكبر علماء طبقات الأرض فى العالم كله .. وهؤلاء فقط مجرد أمثلة لما قدمته عقول العرب والمسلمين للإنسانية من عطاء .. وهم وأمثالهم - قديماً وحديثاً - البرهان الساطع على أن المسلمين دائمًا كانوا حريصين على التواصل الإيجابى مع الآخر والتعاون المثمر على البر والتقوى والخير للبشرية كلها(7) .
المراجع
(1) الحضارة العربية الإسلامية والحضارات السابقة ، للباحث الدكتور شوقى أبو خليل .
(2) Lucien Leclerc, Histore de la medecien arabe, Tome 2, P. 343, 345. .
(3) مجموعة بحوث وأعمال المؤتمر العالمى الأول للطب الإسلامى ، الكويت ، 1981م ، الدكتور أبو الوفا التفتازانى .
(4) ليلى محمد محمد - مجلة النادى الأدبى لمنطقة حائل - العددان 8 ، 9.
(5) إنجمار كارلسون - الإسلام وأوروبا - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية .
(6) هناك موسوعتان مشهورتان عن بغداد ، الأولى : دار السلام , والثانية : تاريخ بغداد، الخطيب البغدادى ، 14 مجلدًا ، مكتبة الخانجى .
(7) ومن أراد المزيد عن العطاء الإسلامى العظيم للعالم فليراجع كتاب المستشرقة الألمانية زنجريد هونكه : (شمس الإسلام تشرق على العالم) - ط دار الشروق - مصر ، وكتاب (حضارة العرب) للعلامة الفرنسى جوستاف لوبون - ط الهيئة المصرية العامة للكتاب .
الفصل الثامن
وسائل التواصل
أدى التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات إلى تيسير التواصل بين جميع الدول والشعوب .. ولاشك أننا نستطيع استثمار هذه الوسائل الحديثة فى التحاور والتواصل والتبادل الحضارى مع الآخرين ..(5/71)
• وعلى رأس هذه الوسائل الحديثة تأتى شبكة المعلومات الدولية - الإنترنت - وهىقفزة كبرى في عالم الاتصالات تيسر لنا - بأقل التكاليف -الوصول إلى كل بيت فى سائر أنحاء المعمورة بلا قيود أو معوقات .. ويكفى أن نشير إلى الملايين من الأوروبيين والأمريكيين الذين اعتنقوا الإسلام خلال بضع سنين منذ اكتشاف الإنترنت كوسيلة فائقة السرعة زهيدة التكلفة للحصول على المعلومات والاتصال بالآخرين .. وعلى سبيل المثال فقد زاد عدد زوار المواقع الإسلامية على الإنترنت - بعد 11سبتمبر 2001م - 76 ضعفًا بسبب الرغبة العارمة لدى الآخرين في التعرف على هذا الدين وما يدعو إليه .. والمؤكد أن هذا كله في صالحنا، لأن النتيجة في كثير من الحالات هى اعتناق هؤلاء الإسلام بعد معرفة الحقائق الكاملة عنه بعيدًا عن أكاذيب وتضليل الصحف الغربية ووسائل الإعلام الأخرى ؛ (تضاعف عدد من اعتنقوا الإسلام في أمريكا 3 مرات بعد 11 سبتمبر) ويمكن لمن يرغب في معرفة بعض ثمار التواصل عبر الإنترنت بهذا الصدد أن يقوم بزيارة بعض المواقع الآتية :
www.jews-for-allah-org وهو موقع أنشأه حاخام يهودى سابق اهتدى للإسلام - مع كل أسرته - بعد حوار قصير عبر الإنترنت مع شاب مسلم مثقف واعٍ نجح في عرض حقائق الإسلام العظيم على هذا الحاخام الذى أنشأ هذا الموقع لدعوة اليهود وغيرهم إلى الإسلام،بعد أن هداه الله إلى الدين الحق .
- قسيس أمريكى شهير اعتنق الإسلام مع والده - قسيس أيضًا - وصديقهما الوزير الأسبق وأسس موقعًا للدعوة إلى الإسلام www.islamtomorrow.net وأيضاً www.islam-guide.com موقع جيد لتعريف الآخرين بالإسلام.
www.thetruereligion.org/converts موقع هام يحتوى على عشرات من قصص إسلام مشاهير الغرب فى كل المجالات.
www.saaid.net أيضا موقع إسلامى ممتاز به كثير من القصص الرائعة لمئات من غير المسلمين الذين هداهم الله للإسلام .
- www.islamicweb.com وموقع آخر للحوار مع غير المسلمين وقصص المسلمين الجدد من مختلف البلدان والثقافات .
- وهناك أيضًا موقع رائع أسلم بسببه عشرات www.islamway.com .
وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه المواقع هى ثمرة مجهود فردى لدعاة وهبوا أنفسهم وما يملكون لنشر دين الله بين العالمين ..
ولكن الأمر يتطلب سرعة مشاركة الدول والهيئات الإسلامية ذات الإمكانيات الكبيرة بإنشاء مئات المواقع- بكل لغات العالم الأخرى وليست الإنجليزية أو العربية وحدها - وتوفير كل المعلومات الأساسية عن الإسلام بما في ذلك الردود العلمية المقنعة على كل ما يثار حول الإسلام من شبهات؛نظرًا لوجود الآف المواقع المعادية التى تنشر الأباطيل عن الإسلام وتربطه بالإرهاب والخرافات وكل ما ينفر الآخرين منه ..
• لقد لاحظ كاتب هذه السطور - من خلال متابعة غرف الدردشة (الشات)الإسلامية بشبكة (ياهو) - قلة عدد الدعاة الذين يجيدون اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأجنبية والمؤهلين للرد على ما يثار من أسئلة أو افتراءات على الإسلام .. الأمر الذى يجعلنا نطالب بسرعة إعداد أعداد كافية من العلماء المتخصصين المسلحين بكل أدوات العصر - إجادة لغات أجنبية وكذلك إجادة استخدام الكمبيوتر والتحاور عبر الإنترنت - فضلاً عن الثقافة الإسلامية بالطبع، والدراية بكيفية التحاور مع الآخرين، ومهارات الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، ومعرفة كل الإجابات الشافية والردود على الأباطيل التى تثيرها وسائل الإعلام الأجنبية لمحاولة تشويه الإسلام في وجدان الآخرين ..
صحيح أن هناك حاليًا كما أشرنا بعض الشباب ممن ألهمهم الله رشدهم ووفقهم لتحقيق إنجازات طيبة عبر الإنترنت،وكان من ثمرات جهدهم المبارك،أنه يعتنق الإسلام على أيديهم يوميًا،عشرات من غير المسلمين، لكن عددهم ما يزال ضئيلاً،وإمكانياتهم محدودة للغاية، إذا قورنت بالجيوش الجرارة من المنصرين ومئات المليارات المخصصة للحرب على الإسلام بوسائل مختلفة .. لذلك تعتبر المشاركة بالمال أو النفس في الدعوة إلى الله في هذا الميدان وغيره من أسمى مراتب الجهاد في سبيل الله،فهو كما وصفه الدكتور يوسف القرضاوى بحق (جهاد العصر).
• وما ذكرناه عن الإنترنت يصدق أغلبه أيضًا على القنوات الفضائية ..(5/72)
ففى الوقت التى يبث فيه الآخرون في مختلف أنحاء العالم مئات - بل آلاف - القنوات الفضائية بكل اللغات لنشر عقائدهم والترويج لثقافتهم وحضاراتهم،وكثير من هذه القنوات يتطاول على الإسلام العظيم ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم .. فإننا في المقابل لا نكاد نجد قنوات إسلامية ترد على هذا التطاول الإجرامى،أو تقدم للآخرين - بلغات أجنبية - كل ما يجب أن نقدمه لهم من معلومات عن ديننا الحنيف وحضارتنا العربية الإسلامية الخالدة!!! إننا نطالب بسرعة بث قنوات فضائية عالمية إسلامية بكل اللغات لسد النقص الخطير في هذا المجال،فالجهاد الإعلامى لا يقل أهمية عن الجهاد في ميادين القتال - بل هو الأهم في أوقات السلم - بدلاًمن التسابق الذى نراه الآن - للأسف الشديد - والتنافس في إنشاء قنوات فضائية تبث العرى والانحلال وتضرب الفضائل في مقتل !!!وكفانا إهدارًا للمال ، وكفانا إفسادًا لشباب وأطفال المسلمين وإهدارًا لأوقاتهم وطاقاتهم في متابعة مواد إعلامية أقل ما يقال فيها - في أحسن الأحوال - أنها غير ذات فائدة على الإطلاق!!!
• ونطالب أيضًا بإنشاء إذاعات إسلامية تبث برامجها بلغات العالم الأخرى لنشر مبادئ الإسلام ، وتعريف الآخرين بحضارتنا وقيمنا، والرد على الحملات المضادة .
• لابد أيضًا من إنشاء دار نشر إسلامية عالمية تتولى تنشيط حركة طبع وترجمة الكتب والمطبوعات الإسلامية إلىكل لغات العالم بإعتبارها من أهم وسائل التعارف والتواصل مع جميع الأمم والشعوب الأخرى،كما كان الحال في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس وبغداد .. وعلى رأس هذه الكتب التى تبرز الحاجة الملحة إلى ترجمتها وطبعها معانى القرآن الكريم وكتب العقيدة والأحاديث الصحيحة والفقه الإسلامى وغيرها من الكنوز الإسلامية .. وما أكثر ما نطالع - عبر الإنترنت وغيره - أناسًا من غير المسلمين يناشدوننا إمدادهم بترجمة لمعانى القرآن الكريم وغيرها من الكتب والمراجع الإسلامية بلغاتهم،لأنهم لا يملكون أية مصادر للتعرف على الإسلام سوى وسائل الإعلام الغربية الحاقدة التى لا هم لها سوى إشاعة الخوف من الدين العظيم وتشويهه على الدوام ..
ملاحظة :(في أعقاب أحداث 11 سبتمبر نفدت ملايين من الكتب التى تتحدث عن الإسلام - إيجابًا أو سلبًا - من المكتبات الأمريكية خلال بضعة أشهر ،والأمر يحتاج إلى إمكانيات هائلة لا وجود لها سوى لدى الدول الإسلامية .
وقد أنعم الله علينا بثروات ضخمة من النفط وغيره،فلا أقل من إنفاق بعضها على وسائل الدعوة إلى الله،وما أعظمها من أوجه للإنفاق في سبيل الله وما أعظم الأجر عليها لمن يوفقه الله إلى ذلك ..
• ويلحق بهذا إعداد دائرة معارف إسلامية وموسوعة شاملة بكل اللغات المعروفة،وهو ما يفعله الآخرون لنشر مذاهبهم وعقائدهم وحضارتهم .. فلماذا لا نفعل هذا ونحن أصحاب الدين الحق والحضارة الرائدة ؟!!
• كذلك تبدو الحاجة ملحة إلى إصدار صحف ومجلات إسلامية عالمية بلغات مختلفة،لمواجهة الحرب الإعلامية الطاحنة التى يشنها الآخرون علينا،وعرض بضاعتنا النفيسة على الكافة .. ويكفى تخصيص جزء يسير من الميزانيات الضخمة لوزارات الإعلام في الدول العربية والإسلامية لتحقيق هذا الغرض النبيل،بدلاً من الدعاية ذات التوجهات الإقليمية لكل دولة على حدة !!!(5/73)
• وكذلك دعم المساجد والمراكز الإسلامية والثقافية في الخارج وإنشاء المزيد منها، وإنشاء معاهد ومراكز أبحاث إسلامية، وإمدادها بكل الإمكانيات اللازمة لأداء رسالتها العظيمة في التعارف مع الآخرين والتواصل معهم،وتصحيح ما لديهم من مفاهيم خاطئة عن الإسلام والمسلمين،وذلك بإمدادها بكل الكتب المترجمة والمواد السمعية والبصرية التى تشرح الإسلام شرحًا صحيحًا، وبالسبل التى تتلاءم مع أنماط تفكير الأخرين .. ومن الضرورى بالطبع إعداد العاملين بتلك المراكز وتدربيهم على كيفية التحاور والتعامل مع الناس في البلاد التى يعملون بها .. وكما أشار مسئول فرنسى ذات مرة،فإنه ليس من المعقول أن يعمل أئمة مساجد ووعاظ مسلمون في فرنسا وهم لا يعرفون من الفرنسية كلمة واحدة،فضلاً عن جهلهم التام بالبيئة هناك وعادات وتقاليد الفرنسيين !! وما ذكره المسئول الفرنسى ينطبق أيضًا على كثير من الدعاة والأئمة في بلدان أجنبية أخرى .. إنه لا مفر أمام من يريد العمل في حقل الدعوة بالخارج من إتقان لغة البلد الذى سيعمل به، والإلمام بكل المعلومات الضرورية عن المجتمع الذى سيعيش فيه ويدعو أبناءه إلى الإسلام .. ومرة أخرى نشير إلى التفاوت الهائل بين إمكانيات المراكز الإسلامية والثقافية في الخارج - وهى ضئيلة جدًا - وإمكانيات مراكز وبعثات التنصير مثلاً التى يرصدون لها أرقاماً فلكية - عشرات المليارات من الدولارات سنويًا - وبطبيعة الحال فإننا نظلم العاملين بهذه المراكز الإسلامية إن طالبناهم بمجاراة الآخرين في ظل هذه الظروف، فالمعركة نظريًا غير متكافئة .. ومع ذلك فإنه بفضل الله وحده،ينتشر الإسلام بقوة دفع ذاتية عظيمة .. ويعجز المنصرون عن تحقيق معشار ما يحققه الإسلام من انتشار عظيم رغم كل ما ينفقون من أموال هائلة .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف:21 .
• وكذلك ينبغى تفعيل دور الملحقيات الثقافية والدينية في سفارات الدول العربية والإسلامية بالخارج، وجعلها حلقة تواصل وحوار مع الناس في الدول التى توجد بها هذه السفارات .. إذ إنه ليس من المعقول أن تنفق عشرات بل مئات الملايين على هذه الملحقيات سنويًا بغير عمل يُذكر-اللهم إلا إصدار نشرات دعائية للحكومات والمشاركة في استقبال ووداع كبار المسئولين القادمين لزيارة تلك البلدان في المطارات وإقامة حفلات التكريم لهم - إننا نطالب بتجاوز الشئون الإقليمية المحلية لكل بلد على حدة، فالتحديات القائمة والحملات المسعورة موجهة ضد الجميع،ومن البديهى أن يكون الدفاع ضدها مشتركًا، والتخطيط والتنسيق والتوجيه موحدًا أيضًا .. وليتنا ندع صراعاتنا وانقساماتنا ومشاكلنا الداخلية جانبًا لنتحاور مع الآخرين كجبهة موحدة تعمل فقط من أجل الإسلام ..
• إن الآخر لن يحترمنا ولن يقيم لنا وزنًا إن تعاملنا معه فرادى - مفككين ومتطاحنين - وكما سأل أحد خصوم الإسلام كاتب هذه السطور ذات مرة - في حوار عبر الإنترنت - : أى إسلام تريدون منا أن نتبعه،أهو الوهابية السعودية أم الشيعية الخومينية أم الصوفية أم .... إلخ ؟!!! بطبيعة الحال كان الجواب هو: أن الله واحد، والإسلام واحد، والقرآن الكريم كتاب واحد،والكل مسلمون على إختلاف المذاهب والبلدان والحكومات ..والإسلام العظيم حجة على الجميع ولا أحد حجة على الإسلام .. فالمنهج كامل شامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،ولكن أخطاء البشر هى التى تسبب هذه المشاكل والصراعات والإنقسامات، وليس من المنطقى أن يتحمل الإسلام - عقيدة وشريعة - المسئولية عن أية انحرافات أو أخطاء بشرية ناجمة عن الخروج على أحكامه .. انتهت الإجابة .. لكن يبدو لى أيضًا أننا بحاجة إلى حوار داخل البيت الإسلامى أولاً قبل أن نخرج للتحاور مع الآخرين .. أليس كذلك ؟!!
• وهناك الدور الهام الذى يمكن للمبعوثين للدارسة بالخارج والقادمين من الخارج للدارسة بجامعاتنا القيام به لدعم الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى بين الجانبين .
• بهذا الصدد نطالب بزيادة المنح الدراسية لغير المسلمين للدراسة بالجامعات الإسلامية في بلادنا لمنحهم الفرصة كاملة للإطلاع على حضارتنا وديننا وتعلم لغتنا،فبذلك نكسب أنصارًا جددًا لنا هناك .. إذ أن هؤلاء سوف يتأثرون قطعًا بما درسوه، وبمعايشتهم للمسلمين هنا، وسوف يتحول أغلبهم - حتى ولو لم يعتنقوا الإسلام - إلى محامين بارعين يتصدون للحملات المعادية لنا في بلادهم، ويتعاملون مع خصومنا بذات أساليبهم - باعتبارهم جزءًا من المجتمع - فهم أقدر منا وأكثر خبرة في التصدى لهؤلاء،وإجهاض مخططاتهم ضد ديننا وحضارتنا ..
• كذلك يتعين الإعداد الجيد للمبعوثين العرب والمسلمين إلى الخارج قبل سفرهم - حتى ذوو التخصصات العلمية البحتة ينبغى تزويدهم بجرعات كافية من الثقافة الإسلامية - ليتمكنوا من التحاور مع الآخرين والتواصل معهم عن علم ودراية، وأيضًا لنحميهم من الذوبان في المؤثرات الثقافية والحضارية المغايرة لثقافتنا وحضارتنا ..(5/74)
ومن المؤلم جدًا أن كثيرًا من أبنائنا المبعوثين للخارج رغم تفوقهم في تخصصاتهم - كالطب والهندسة والكيمياء - فإن الحصيلة الثقافية الإسلامية لديهم متواضعة للغاية،ولهذا يعجزون عن التحاور مع الآخرين،ولا يحسنون تقديم إجابات صحيحة عن الإسئلة المحرجة التى يوجهها إليهم الجيران الأجانب في المسكن أو الزملاء في الجامعة عن الإسلام والمسلمين !!! والأكثر إيلامًا أن بعضهم لا يلتزم في حياته وسلوكياته بما ينبغى أن يكون عليه المسلم ليجد الآخرون فيه القدوة والمثال الطيب للمسلم !!!
وليت هؤلاء يتذكرون إن أسلافهم العظام - من التجار المسلمين وغيرهم -نشروا الإسلام في معظم أنحاء آسيا وأفريقيا بالقدوة الحسنة فقط لا غير، إذ كانوا قرآناً يمشى على الأرض فأحب الآخرون دينهم وأقبلوا عليه ..
• ومن السبل الجيدة للتحاور والتواصل مع الأخرين إقامة المؤتمرات والندوات الإسلامية الدولية .. على ألا يقتصر الحضور والمشاركة فيها على كبار المفكرين والعلماء من المسلمين وحدهم .. فيجب لكى تتحقق الأهداف المرجوة منها أن يُدعى إليها الكُتاب والمفكرون والإعلاميون المنصفون من غير المسلمين - وعددهم ليس بالقليل - وكذلك مشاهير الغرب من علماء ومفكرين ونجوم في شتى المجالات ممن اعتنقوا الإسلام،فهؤلاء يشكلون واحدة من أهم وسائط الحوار والتواصل مع مجتمعاتهم،وتأثيرهم هناك أفضل بكثير من غيرهم،لأنهم أدرى بمجتمعاتهم ومواطنيهم،وأقدر على التفاهم معهم بذات السبل والأساليب والمناهج الفكرية والإعلامية السائدة هناك .. وعلى سبيل المثال فإن الشعب الفرنسى يعلم جيدًا من هو الدكتور رجاء جارودى - الفيلسوف الذى أسلم وتحول إلى مفكر إسلامى بارز - والملايين هناك يقرأون كتبه ومقالاته ويتأثرون بها - والفرنسيون يعلمون أيضًا من هو الدكتور موريس بوكاى - العالم والطبيب والجراح الفرنسى الشهير الذى تحول للإسلام بعد دراسة عميقة - وقراء كتبه بالملايين .. إذن تأثير مثل هذين في فرنسا يبلغ أضعاف تأثير فريق كامل من الدعاة العرب . ولهذا تجب الاستعانة بأمثال هذين العملاقين وكذلك بالمنصفين من مفكرى الغرب غير المسلمين،فتأثيرهم هائل لأن ما يقولونه هو شهادة نجوم من الغرب وليسوا عربًا ولا مسلمين، وهى أقوى نفوذًا وتأثيرًا هناك بالقطع ..
نشير أيضًا إلى المطرب العالمى كات ستيفن الذى اعتنق الإسلام وتحول إلى داعية إسلامى كبير في بريطانيا، وأسس دارًا للتعليم والدعوة في لندن، وقد اعتنق الإسلام على يديه مئات من الأوروبيين .. وكذلك الدكتور مراد هوفمان المفكر والسفير الألمانى الشهير الذى إعتنق الإسلام و كتب العديد من المؤلفات القيمة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين .
• نرى أيضًا ضرورة إنشاء هيئة عالمية للحوار مع غير المسلمين وفى اعتقادنا أنه لابد أن تتمتع هذه الهيئة بالاستقلال عن جميع الحكومات والتيارات والجماعات السياسية كى نضمن لها الحرية والحياد المناسبين لأداء دورها المهم فى إدارة الحوار مع الآخر والتعريف بالإسلام والحضارة الإسلامية وتحقيق وظيفة التبادل الحضارى مع الآخرين بدون أية مؤثرات سياسية أو إقليمية أو أيديولوجية من أية جهة .. ويمكن أن تكون إحدى العواصم الأوروبية الكبرى مقرًا لهذه الهيئة ، وينبغى أن تضم فى عضويتها عددًا كافيًا من العلماء المؤهلين جيدًا وخبراء فى التحاور مع الشعوب الأخرى بلغات مختلفة ، وتستخدم فى أعمالها كافة وسائل الإعلام والتواصل بكل تقنيات العصر الحديث .
• إنشاء عدد من الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية فى كل العواصم الكبرى بالخارج لتدريس العلوم الإسلامية لأبناء الجاليات الإسلامية هناك ، وأيضًا لتعريف الآخرين بالثقافة الإسلامية وتدريس مفاهيم الإسلام الصحيح لهم.. وكذلك دعم أقسام الدراسات الإسلامية واللغة العربية وإنشاء المزيد منها بشتى الجامعات العالمية الكبرى ، بشرط مهم هو تنقية مناهج الدراسة بتلك الأقسام من كل المعلومات الخاطئة المضللة عن الإسلام ، وأن يكون الإشراف عليها لعلماء مسلمين يكون لهم حق إلغاء أية مواد أو معلومات لا تتفق والمفاهيم الإسلامية الصحيحة .
• دعم المنصفين من المفكرين والإعلاميين والساسة الغربيين المناصرين للإسلام والمسلمين ماديًا وأدبيًا من خلال بند (المؤلفة قلوبهم) فى مصارف الزكاة، فنحن نرى أن هؤلاء المنصفين للإسلام وأهله تنطبق عليهم شروط استحقاق الأخذ من الزكاة تحت هذا البند ، لما لهم من دور عظيم وضرورى فى مواجهة الحملات المسعورة ضد الإسلام والمسلمين . ولمن شاء أن يرجع إلى كتب السيرة العطرة ، ليجد أن النبى صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً من قريش من غنائم غزوة حنين أموالاً طائلة ليؤلف قلوبهم ، وترك الأنصار ثقة فى قوة إيمانهم وسماحة نفوسهم (سيرة ابن هشام - فقه السيرة للغزالى - الرحيق المختوم للمباركفورى) .
ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد ..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
==============
اللجوء السياسي إلى البلاد غير الإسلامية
إعداد/ لجنة البحث العلمي 6/1/1424
09/03/2003(5/75)
اللجوء السياسي: من المصطلحات الحديثة في الفقه السياسي لم يتعرض له فقهاء الإسلام عندما تكلموا عن عقد الأمان والمستأمن في كتب الفقه الإسلامي بهذا الاسم وإن كنا نفهم معناه عند كلامهم عن مستأمن,وقد أطلق هذا المصطلح في القانون الدولي على الحماية التي تمنحها الدولة فوق أراضيها أو فوق مكان تابع لسلطتها لفرد طلب منها هذه الحماية ، والهدف منه هو إنقاذ حياة أشخاص أو حريتهم يعتبرون أنفسهم مهددين في بلادهم (1).فكل شخص هجر موطنه الأصلي أو أبعد عنه بوسائل التخويف والإرهاب أو الاضطهاد لأسباب سياسية أو عنصرية أو مذهبية ولجأ إلى إقليم دولة أخرى طالباً للحماية أو العيش لحرمانه من العودة إلى وطنه الأصلي يسمى لاجئاً سياسياً في مفهوم القانون الدولي (2).
ومن هنا نرى أن اللجوء السياسي هو الحماية التي تمنحها دولة ما فوق أراضيها أو فوق أي مكان تابع لسلطتها لفرد طلب منها الحماية. وأما اللاجئ السياسي فهو الشخص الذي طلب تلك الحماية لأسباب معينة.
حكم اللجوء السياسي إلى البلاد غير الإسلامية:
إن مفهوم الأرض في الإسلام هو أن كل أرض لله وليست لأحد ، وأينما وجد المسلم أرضاً يمكنه أن يعبد الله فيها بحرية فهي أرضه ، وليس هناك بقعة من الأرض أحق من أخرى برسالة المسلم ، ولن يكون المسلم عبداً لمكان ما في هذه الدنيا مرتبطاً بأسبابه(3) .
وعلى هذا الأساس نفهم قوله تعالى : (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ، فإياي فاعبدون) سورة العنكبوت:56]
قال سيد قطب في تفسير هذه الآية: " أنتم عبادي وهذه أرضي وهي واسعة ، فسيحة تسعكم فما الذي يمسسكم في مقامكم الضيق الذي تفتنون فيه عن دينكم ، ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم ؟ غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة، ناجين بدينكم أحراراً في عبادتكم فإياي "فاعبدون" وما دامت كلها أرض الله فأحب بقعة منها إذاً هي التي تجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه(4).
كما أن الإسلام بما فيه من سماحة ويسر يقدر دوافع الإباء التي تجعل الإنسان الحر يرفض الدنية في الدين والدنيا (5)والإسلام يربي الإنسان الحر مستقلاً في رأيه ومواقفه.
وفقهاء الإسلام-رحمهم الله- لم يتعرضوا لبحث هذه المسألة إلا ابن حزم في كتاب"المحلى" وذلك أن أسلافنا ما كانوا يتصورون بعدما عاشوا في الدولة الإسلامية أعزاء أقوياء مكرمين أن يأتي زمان على المسلمين يهاجرون من بلادهم(6).
الأدلة على جواز اللجوء السياسي إلى بلاد الكفر:
1-دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوار المطعم ابن عدي, وكان كافراً.
2-دخول أبي بكر -رضي الله عنه- في جوار ابن الدغنة وكان كافراً.
3- هجرة الصحابة -رضي الله عنهم- إلى الحبشة ودخولهم في جوار النجاشي وكان يومها كافراً
4- يقول ابن حزم -رحمه الله- في المحلى ( 12/125) : وأما من فرَّ إلى أرض الحرب لظلم خافه ، ولم يحارب المسلمين ، ولا أعانهم عليهم ، ولم يجد في المسلمين من يجيره ، فهذا لا شيء عليه لأنه مضطر مكره
وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب ، كان عازماً على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم ، لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه ، وهو كان الوالي بعد هشام ، فمن كان هكذا فهو معذور . انتهى ,ومعلوم أن الزهري عالم من علماء السلف ، وابن حزم يقول عنه معذور رغم أنه كان سيهاجر من أرض الإسلام إلى دار الكفر ليدفع عن نفسه الظلم والقتل . وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن يعذر المسلم عندما يهاجر ـ تحت ظروف الاضطرار والإكراه ـ إلى دار الكفر ويطلب فيها حق اللجوء ليأمن من إعادته إلى حيث هلكته وليدفع عن نفسه الظلم والقهر.
الشروط الشرعية لجواز طلب اللجوء السياسي:
1-أن يتأكد من وقوع الظلم عليه في دار الإسلام ، ويختار الأرض التي يكون فيها آمناً هو وأهله وأمواله ، ويمكنه أن يعبد الله بحرية أكثر من بلاد الإسلام ، فإن لم يجد فليبحث بعد ذلك بين البلاد غير الإسلامية ، وأن يكون في حماية تلك الدولة ؛ لأن الظلم في الإسلام واحد ، سواء جاء من المسلمين أم من الكافرين وما الفائدة من تغيير صاحب الظلم والفتنة ؟!
2-أن لا يعين الكفار على المسلمين بأي أسلوب من أساليب الإعانة ؛ كأن يفشي لهم أسرار المسلمين ، أو أن يقاتل معهم ضد المسلمين ؛ لأن هذا يعتبر خيانة كبرى في الإسلام.
3-أن ينوي الرجوع إلى دار الإسلام فوراً بعد أن تزول الأسباب التي من أجلها ترك دار الإسلام ، إلا إذا كان في بقائه مصلحة عامة للإسلام والمسلمين ، كأن يرجى إسلام أهل الكفر ، أو تعليم المسلمين الذين أسلموا في دار الكفر .
4-أن يكون سفيراً للإسلام في تلك البلاد بخلقه وعمله وإخلاصه ، وأن يقوم بتعريف الناس بالإسلام ، إذا كانت تسمح له ظروف تلك الدولة وقوانينها .
إشكال وجوابه:
هل طلب اللجوء من الدول الكافرة والاستئناف أمام محاكمها من التحاكم الى الطاغوت؟
الجواب:
1-إن الاحتكام إلى القوانين الوضعية ذات الطابع الإداري والتنظيمي ، والتي لا تتعارض مع دين الله وشرعه في شيء ، لايعد ذلك من ضروب التحاكم إلى الطاغوت الذي يكفر صاحبه.(5/76)
يقول الشنقيطي في أضواء البيان ( 4/84) : اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض ، وبين النظام الذي لايقتضي ذلك .
وإيضاح ذلك أن النظام قسمان : إداري ، وشرعي . أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع ، فهذا لا مانع منه ، ولا مخالف فيه من الصحابة ، فمن بعدهم . وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ، ومعرفة من غاب ومن حضر ، وكاشرائه ـ أعني عمر رضي الله عنه ـ دار صفوان بن أمية وجعله إيَّاها سجناً في مكة المكرمة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر . فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به ، كتنظيم شؤون الموظفين ،وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع ، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به ، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة . انتهى .
ومن يتأمل قوانين اللجوء والاستئناف المعمول بها في بلاد الغرب يجدها لا تخرج عن كونها قوانين تنظيمية وإدارية تنظم عملية اللجوء وشؤون اللاجئين وما لهم من حقوق، وبالتالي لا يجوز تحميل المعاني مالا تحتمل وإقحام التحاكم إلى الطاغوت الذي هو كفر بخالق السماوات والأرض في هذا النوع من التحاكم .
2- من يتأمل قصة لجوء الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إلى النجاشي يجد أنهم قد اضطروا ـ بعد لجوئهم الأول ونزولهم في ديار الحبشة ـ للمثول أمام الحاكم النجاشي ـ الكافر يومئذٍ ـ مرتين بسبب مطالبة كفار قريش بهم ، وللذود عن حقهم في إبطال مزاعم قريش الباطلة فيهم ، وكان احتمال تسليمهم إلى كفار قريش في كل مرة وارداً في حال كانت حجتهم واهية أمام مزاعم قريش التي وشوا بها إلى الملك .
وبعد انتهاء الجلسة الثانية وظهور الصحابة على خصومهم كفار قريش أمام الملك ، تقول أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : فخرجا ـ أي عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ـ من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار .(انظر قصة الصحابة مع النجاشي في مسند الإمام أحمد حديث رقم 1740 قال أحمد شاكر: وإسناده صحيح, وصحيح السيرة النبوية ص 101-108 )
والشاهد من هذه القصة أن تكرار الجلسة في مجلس قضاء الملك مرتين وفي زمانين مختلفين ، وفي حضور الخصوم وجميع الأطراف ، هو نفسه ما يسمى في زماننا بالاستئناف ، فهل يصح أن يقال في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم بذلك قد تحاكموا إلى الطاغوت وكفروا .. اللهم لا ، وألف لا .
ـ علماً أنه ليس للمسلم أية حقوق شرعية يستطيع أن يُلزم بها الكفار عند لجوئه إليهم ، وطلبه الأمان منهم ، وما يتحصل عليه من حقوق في ديارهم هو من إنصاف القوم وعدلهم، وهذه الشهادة منا لا ينبغي أن يصدنا عنها عداوة القوم وشنآنهم لنا .
3- أن طالب اللجوء إنما يؤكد للطرف الآخر أنه ممن لهم الحق في طلب الأمان ، وهذا أمر لا يتعارض مع دين الله وحكمه في شيء ، وهو مما كان يمارسه ـ أي طلب الأمان والجوار من الكفار والمشركين ـ الصحابة والمسلمون الأوائل عند توفر دواعيه وأسبابه ، بينما المتحاكم إلى الطاغوت يتحاكم في أمور تضاهي وتعارض حكم الله ورسوله (7).
وبعد هذا يتبين أن طلب اللجوء السياسي في بلاد الكفر تحت ظروف الاضطرار والإكراه بسبب فراره من الظلم لا يعد من التحاكم إلى الطاغوت,
والله أعلم ,وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(1)-الموسوعة السياسية ، 5/467.
(2)- القاموس السياسي، ص 1043.
(3)-انظر :محمد الغزالي ، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة ، الطبعة الأولى ، مطبعة السعادة ، 1963 ،ص 189.
(4) - في ظلال القرآن 5/2749
(5)- انظر : حقوق الإنسان بين تعليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة: ص 186
(6)-(انظر الأحكام السياسية للأقليات الإسلامية ص 56 )
(7)- (انظر حكم الاستئناف لطلب اللجوء السياسي ص 6)
===============
إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه
الشيخ/فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء 11/6/1423
20/08/2002
السؤال: من الملاحظ في الغرب أن النساء اكثر إقبالاً على الدخول في الإسلام من الرجال ، وهي ظاهرة معروفة فإذا كانت المرأة غير متزوجة ، فلا إشكال , إلا من حيث حاجتها إلى الزواج من مسلم.
ولكن الإشكال يكمن فيما إذا كانت المرأة متزوجة ودخلت في الإسلام قبل زوجها ، أو دون زوجها ، وهي تحبه وهو يحبها ، وبينهما عشرة طيبة طويلة وربما كان بينهما أولاد وذرية . ما ذا تفعل المرأة هنا وهي حريصة على الإسلام ، وفي الوقت نفسه حريصة على زوجها وأولادها وبيتها ؟
إن عامة المفتين هنا يفتونها بوجوب فراقها لزوجها بمجرد إسلامها أو بعد انقضاء عدتها منه على الأكثر . وهذا يشق على المسلمة الحديثة العهد بالإسلام أن تفعله ، فتضحي بزوجها وأسرتها .(5/77)
وبعضهن يرغبن في الدخول في الإسلام بالفعل ، ولكن عقبة فراق الزوج تقف في طريق إسلامها هل من حل شرعي لهذه المشكلة العويصة في ضوء الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة؟
أفيدونا أفادكم الله ، وجزاكم عن الإسلام وأهله خيراً .
الجواب:
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا وأسوتنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
أما بعد:
فقد أجمع العلماء والمذاهب قاطبة على تحريم زواج المسلمة من غير المسلم من حيث الابتداء ، واعتبروا مثل هذا الزواج إن حصل باطلاً لا يثبت به شيء.
أما إذا كان الزوجان غير مسلمين ، ثم أسلمت الزوجة وبقي زوجها على دينه..
ففي هذه الحالة مسألتان :
المسألة الأولى : حول انفساخ العقد أو فسخه ومتى يكون ذلك ؟ في هذه المسألة أربعة أحوال :
الأول : ينفسخ العقد لحظة إسلام الزوجة وهو رأي الظاهرية وأبو ثور .
الثاني : ينفسخ العقد وتقع الفرقة إذا انقضت عدة الزوجة دون أن يسلم الزوج, وهو قول الشافعية والحنابلة والمالكية والزيدية مع الخلاف بينهم حول عرض الإسلام عليه أم لا.
الثالث :الحنفية والثوري يفرقون بين دار الحرب ودار الإسلام :
-ففي دار الحرب تقع الفرقة إذا انقضت العدة ولم يسلم الزوج.
-وفي دار الإسلام يرفع الأمر للقاضي فيعرض الإسلام على الزوج ، فإن أبى فرق القاضي بينهما ، وإن لم يفرق فهي زوجته . وهذا مقتضى قول ابن شهاب الزهري وطاووس وسعيد بن جبير والحكم بن عيينة وعمر بن عبد العزيز.
الرابع : مذهب ابن تيمية وابن القيم أن العقد باق لكنه موقوف ، وتمنع المعاشرة الزوجية بينهما .
المسألة الثانية : حرمة المعاشرة الزوجية ، سواء انفسخ العقد بالإسلام أو بعد انقضاء العدة ، أو بموجب قرار القاضي وعلى هذا الرأي اتفق جميع العلماء والمذاهب بعد التابعين ، وما يروى عن علي بن أبي طالب(1)وعمر بن الخطاب(2)والشعبي والنخعي وحماد(3)خلاف ذلك لم يأخذ به أحد. إلا أن الأحناف اعتبروا أن حكم التفريق في دار الإسلام يجب أن يصدر عن القاضي المسلم والتفريق واجب عليه ، لكن(مالم يفرق القاضي فهي زوجته)
أما الظروف المحيطة بالمسلمات الجديدات في البلاد غير الإسلامية في هذا العصر فتتخلص بما يلي:
إن أكثر البلاد غير الإسلامية هي اليوم بالنسبة للمسلمين دار عهد ، و أصبح الرجل والمرأة فيها يدخل في الإسلام دون أن يتعرض إلى فتنة عن دينه . وهو لا يستطيع أن يهاجر إلى بلاد المسلمين لأسباب كثيرة . والمرأة من جنسية دولة غير إسلامية ، عندما تدخل في الإسلام تصبح خاضعة لأحكامه الشرعية ، ولكنها لا تستطيع أن تتحلل من قوانين بلادها المدنية . وعقد الزواج هو اتفاق ين رجل وامرأة بالتراضي الكامل على الحياة الزوجية المشتركة ، لكنه بعد حصوله يخضع لقوانين الأحوال الشخصية النافذة في كل دولة . وفسخه لا يمكن أن يتم إلا بموجب هذا القانون.
وبناء على ذلك فإننا نرى :
1-
إذا أسلمت المرأة وبقي زوجها على دينه تحرم عليها المعاشرة الزوجة بعد انتهاء العدة الشرعية إذا لم يسلم لقوله تعالى : )لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن( ولأن السنة الصحيحة لم تفرق بين المسلمة وزوجها غير المسلمة فوراً ، بل تركت الأمر إلى مدة غير محددة ، واتفق جمهور الفقهاء على تحديدها بمدة العدة . حتى ابن القيم نفسه الذي لا يعترف بالعدة أجلاً للتفريق ، يعتبرها أجلا يجيز للمرأة إذا تم النكاح من رجل آخر ، ولا يبيح لها مقاربة زوجها السابق .
2-
يجب على المرأة المسلمة أن تطالب بفسخ زواجها من زوجها غير المسلم وفق القانون الذي عقد في ظله ، وذلك التزاما بأمر الله تعالى أولاً في منع الحلية بينها وبين زوجها ، وحتى تتمكن من الزواج بآخر . وريثما يصدر القرار بفسخ الزواج أو التفريق بينها وبين زوجها ، فهي زوجة من الناحية الرسمة ، لكنها ليست زوجة من الناحية الشرعية.
3-
نحن لا ننصح الزوجة المسلمة في هذه الحالة بالزواج من رجل مسلم ، ولو كان ذلك جائزا لها شرعاً ، لما يترتب عليه من إشكالات وتناقضات ومخالفات قانونية كتسجيل أولادها من زوجها المسلم على اسم زوجها الأول غير المسلم ، أو أولاداً غير شرعيين ، ومعاقبتها قانوناً بتهمة تعدد الأزواج وهو ممنوع في قوانين جميع البلاد ، وغير ذلك .
4-
إن فترة انتظار الزوجة المسلمة إلى أن يسلم زوجها فتعود إليه أو حتى يتم فسخ زواجها منه وتستطيع أن تتزوج من غيره، قد تمتد إلى عشر سنوات ، وهي مدة طويلة جداً لا تستطيع الصبر عليها المرأة العادية ، ونحن نلاحظ أن الإسلام أباح زواج المتعة في ابتداء الإسلام لصعوبة غياب الرجل عن زوجته عدة شهور في الحرب ، ونتذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حدد للمجاهدين في الجيش الإسلامي أن لا تطول فترة غيابهم عن زوجاتهم أكثر من أربعة أشهر ، لأن المرأة المسلمة لا تصبر أكثر من هذه المدة على غياب زوجها ..
فما هو الحل في مسألتنا هذه؟
-إما أن تتزوج المرأة المسلمة من رجل مسلم بعد انتهاء عدتها ، وهذا أمر جائز شرعاً ، لكنه قد يسبب لها مخالفات قانونية وإشكالات شريعة كما ذكرنا.(5/78)
-وإما أن تعاشر زوجها الأول باعتبار أن العقد لم يفسخ بعد ، لكنها هنا تتعرض لمخالفة شرعية واضحة أكثر مما تتعرض له في الحل الأول . ولا يباح لها ذلك إلا إذا تعذر عليها الحل الأول ، وطال أمد الانتظار ، ولم تستطع الصبر ، فإنها قد تكون مضطرة للوقوع في هذا الحرام، والضرورات تبيح المحظورات ، ولكن هذه ضرورة فردية ،ولا يصح أن يبنى عليها حكم عام.
-وفي هذه الحالة لا بد أن نؤكد أ ن معاشرة المرأة المسلمة لزوجها غير المسلم ليست من قبيل الزنا . فهي امرأته ، لكن لا يجوز له وطؤها لسبب مؤقت - وهو أنه غير مسلم- كما لو كانت حائضاً فوطئها ، فقد ارتكب حراماً لكن لا يعتبر زنا .
وإذا كانت المعاشرة الزوجية محرمة من حيث الأصل كغيرها من المحرمات ، فإن التحريم يمكن أن يرتفع للضرورة.
أما إجراء عقد مبتدئ بين مسلمة وغير مسلم فهو عقد باطل أصلاً ، والوطء فيه يعتبر من الزنا.
-ومن المعروف والمؤكد أن كثيراً من النساء المسلمات المستضعفات بقين في مكة مع أزواجهن الكفار بعد نزول التحريم في آيتي البقرة والممتحنة وحتى فتح مكة ، وهي مدة تصل إلى سنتين . لقد كن معذورات في البقاء مع أزواجهن الكفار لأنهن مكرهات على البقاء في مكة ، ولا يستطعن الهجرة . ومن المعروف أيضاً هذه الأيام أن المرأة المسلمة الجديدة في البلاد الإسلامية يتعذر عليها الهجرة إلى بلاد المسلمين ، بل إن كثيراً من هذه البلاد لا يستقبلها أصلاً عن أنها لا تستطيع الهروب من قوانين بلادها الوطنية ، خاصة إذا كانت من رعايا إحدى الكبرى التي تستطيع تنفيذ قوانينها على رعاياها ولو كانوا مقيمين في بلاد إسلامية . كما أن بقاءها في بلادها فيه مصلحة دعوية مهمة تجاه قومها ، وليس من العدالة الشرعية أن نحملها ما لا تطيق ، وأن نكلفها بأكثر مما كلفت به النساء المسلمات في مكة قبل الفتح.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
(1)-أثر علي الذي فيه إقرار المرأة مع زوجها المسلمة مع زوجها الكافر فيه ضعف لأنه جاء من طريقين الاولى من طريق الشعبي والشعبي رأى عليا ولم يروي عنه ففيها انقطاع والطريق الثانية عن سعيد بن المسيب ومدارها على قتادة وهو ثقة إلا انه يدلس ولم يصرح بالسماع
(2)-أثر عمر الذي فيه إقرارها مع زوجها بعد إسلامها ضعيف لأنه من رواية الحكم بن عتيبة وهو لم يدرك عمر ولا قاربه, أما الأثر الذي فيه تخييرها فقد ورد بلفظ إن شاءت فارقته وإن شاءت أقامت عليه كما ذكر ابن القيم وابن حزم وعبارة أقامت عليه تفسر بالانتظار والمحافظة على عقد الزوجية دون وطء لتوافق رواية عمر الأخرى بالتفريق بينهما كما توافق محكمات النصوص التي انعقد الإجماع عليها كما نقل ذلك القرطبي 3/72 وابن قدامة في المغني 10/10
(3) - خالفهم سائر التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد بن جبر وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن اسلم وابن شهاب وغيرهم كما أن المنقول عن الشعبي انه يرى غير ماروى انظر المحلى 7/312و314 ( الحواشي من وضع المحرر )
==================
اندماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية
إدريس الكنبوري عن"لوموند"الفرنسية 27/3/1423
08/06/2002
يستقر أكثر من 11 مليون مسلم في أهم البلدان الأوربية، ويرجع سبب استقرارهم بها إلى تدفق المهاجرين من المستعمرات الأوروبية السابقة في آسيا وإفريقيا ودول الكارييبي في مطلع الستينيات. وأصبح انغراس هؤلاء السكان قويا عقب التوقيف الرسمي للهجرة من أجل العمل عام 1970، وتكثيف العمل بسياسات التجمع العائلي التي ساهمت في توسيع حضور عائلات المهاجرين في الفضاء الأوروبي. وانبثق التعبير عن الهوية الإسلامية كعامل مهم في الاستقرار, وستتبلور مجموعة من التساؤلات والمفارقات الحادة، أحيانا، حول هذا الحضور للإسلام في أوربا.
أما في الولايات المتحدة، فيعتبر حضور الإسلام ظاهرة جديدة ترتبط بفاعلية المهاجرين المسلمين.
ورغم وجود المسلمين المؤكد ضمن العبيد الذين "صدروا" إلى أمريكا، فإن تاريخ الإسلام لايبدأ، بالفعل، إلا مع موجات الهجرة التي تعاقبت على أمريكا طيلة القرن العشرين، ومنذ عقد السبعينيات، شرع المسلمون الجدد القادمون من الهند وباكستان وأندونيسيا في بناء المساجد والمدارس ونشر الجرائد والمجلات ذات الميول الإسلامية. وتختلف بهذا هجرة المسلمين الأسيويين عن هجرة العرب في مطلع القرن الماضي التي اتسمت بطابعها الاندماجي داخل المجتمع الأمريكي. وانضاف إلى هذه العوامل اعتناق السود الأمريكيين للإسلام بشكل متزايد. ويبلغ عدد المسلمين في أمريكا بين أربعة وستة ملايين نصفهم من السود.
وتأتي أغلبية المسلمين المهاجرين في أوروبا والولايات المتحدة من دول دينها الرسمي الإسلام أو معظم سكانها يدينون به.
ويؤدي استقرار المسلمين في بلاد غير إسلامية، تتبنى توجهات متعددة وعلمانية إلى ابتكار طرق جديدة لعيش المسلمين، يتحكم فيها التعدد الكبير لثقافات المهاجرين، وأيضا احتكاكها بتقاليد وثقافات المجتمعات المستقبلية.(5/79)
وفي "دار الإسلام" توجد شبكات التضامن التي تصل ساكنة أمريكا وأوربا بالمجالات الجغرافية والوطنية للعالم الإسلامي. وفي مجتمعات الاستقبال تختلف التحديات التي يواجهها المسلمون من بلد لآخر: حرب الحجاب في فرنسا، تهميش الجالية الإسلامية في ألمانيا، وتركهم في "الفيتو" في بريطانيا أو الولايات المتحدة.
ولا يفسر النشاط الديني للمسلمين الأمريكيين بخصوصية الإسلام المهاجر، بل بالوضعية الخاصة للبعد الديني، الذي هو جزء لا يتجزأ من الحياة المدنية للأمريكيين، أما في أوروبا، فتجعل المرحلة المتطورة لعلمنة الأخلاق والعقليات الاعتراف بالإسلام اكثر إشكالية.
وتظهر مسالة التنظيم المؤسساتي كقضية أوروبية، ترتبط بخصوصيات العلاقة بين الدول والكنائس اكثر منها مسالة عدم قدرة المسلمين على التكيف مع مبدإ فصل السياسة عن الدين, وإذا كانت كل الدول الأوروبية تعترف بحرية العبادة، فان مسالة الفصل بين الدولة والكنائس ليست القاعدة العامة. ويرتبط تنظيم المسلمين ومطالبهم بالإطار القانوني الموجود.
قضية الحجاب
في البلدان التي يوجد فيها اعتراف قانوني بجميع الديانات (بلجيكا وألمانيا واسبانيا) تسرع عملية إضفاء طابع المشروعية المؤسساتية على الإسلام. هكذا يعترف القانون الإسباني بتاريخ 26 يناير 1992 بحق ممارسة شعائر الدين الإسلامي، التي تضم معظم المجتمعات والفدراليات الإسلامية. ومنذ 1974، اعترفت بلجيكا بممارسة الشعائر الإسلامية، ولعبت دورا رائدا في أوربا، حتى ولو انتظرت عام 1988 لانتخاب المجلس الإسلامي المخاطب الوحيد للدولة البلجيكية.
وترجع مقاومة الاعتراف بالإسلام إلى مسألة عقليات أكثر منها مسألة عوائق مؤسساتية، وفي ألمانيا، تصطدم مطالبة أهم الجمعيات الإسلامية بالاعتراف بها كمنظمات دينية (الاستفادة، مثلا، من الإعفاء الضريبي) بعائق أساسي هو أن المجتمع الألماني ليس مستعدا للاعتراف بالإسلام.
وفي الحالات التي يوجد فيها دين الدولة (في بريطانيا أو الدانمارك أو اليونان)، تمنح ديانة الأقليات نفس الحقوق. ومنذ وقت طويل، يناضل المسلمون البريطانيون لتقبل الدولة المدارس الإسلامية. ولايشكل الاعتراف مؤخرا بالمدارس التي يشرف عليها يوسف إسلام (هو المغني الشهير، "كات ستيفنس" الذي أسلم في السبعينات) إلا تقدما محدودا للإسلام في بريطانيا.
وحتى في البلدان التي تفصل بشكل حاسم بين الدين والدولة، مثل فرنسا، فما زالت مسألة المشروعية المؤسساتية مطروحة. ومنذ 1989، اصبح تنظيم الإسلام قضية الدولة في فرنسا، بحيث حث وزير الداخلية التيارات والجمعيات الإسلامية على تقريب وجهات نظرها، لكنه لم يفلح في الأمر. وآخر المستجدات في الموضوع، عرفها شهر أكتوبر 1999، إذ اقترح وزير الداخلية على الجمعيات الإسلامية توقيع نص يذكر بالمبادئ القانونية المؤسسة للعلاقة بين الدين والدولة قابل للتطبيق على تنظيم الإسلام في فرنسا, ورغم رفض بعض قياديي الجمعيات الإسلامية للأمر الذي اعتبروه منافيا لروح قانون العلمانية، فقد وقع معظم ممثلي الإسلام الفرنسي على هذا النص، بتاريخ 28 يناير2000.
ومنذ ذلك الحين، تتواصل المشاورات.
والمصاعب التي تعترض مؤسسة الإسلام في فرنسا ناجمة عن الفهم الضيق للعلمانية. هذا الفهم يدعو إلى إقصاء الرموز الدينية من المجال العمومي. وهو يهيمن في المؤسسة التعليمية, ونتجت عنه معركة لاهوادة فيها حول لبس الحجاب. ومع ذلك، دأب مجلس الدولة، منذ 1989, على التأكيد على أن حمل الرموز الدينية لا يتعارض مع مبدأ العلمانية.
أما في الولايات المتحدة، فلا تطرح مسألة تنظيم وإضفاء المشروعية المؤسساتية على الإسلام، بحيث تعتبر الدول الفدرالية الشؤون الدينية قضية تعني المجتمع المدني فقط ,.ويكمن الاختلاف الأساسي بين أوروبا والولايات المتحدة في وضعية الدين داخل المجتمع.
ورغم الفصل القاطع بين الدولة والأديان في الولايات المتحدة، فهي أكبر دولة متدينة في العالم الغربي. أما أوروبا فتعرف تغلغلا للعلمانية، وينتج عن هذا، أن الحياة اليومية للمسمين الأمريكان أيسر من المسلمين الأوروبيين، ويشكل الإسلام مكونا من ضمن مكونات أخرى في المشهد الديني الأمريكي.
ومع ذلك لا يجب أن نخلص لوجود قبول كامل للإسلام في المجتمع الأمريكي , فلازالت الأحكام المسبقة والتمييز، هي رموز المفارقة الأمريكية القائمة حتى الآن. ونلمس هذا مثلا في وسائل الإعلام، بحيث تتفق نشرات الأخبار المتلفزة وأفلام هوليود على جعل الإسلام مشابها للإرهاب، وهذه النظرة قد تؤثر على المسلمين في حياتهم اليومية. فبعد تفجير مركز التجارة العالمي، تعرض المسلمون الأمريكيون للتحرش والتهديد. وهذا يذكرنا بتنامي مشاعر العداء تجاه الشباب المغربي الفرنسي عقب التفجيرات التي عرفتها باريس عام 1995.(5/80)
لكن على عكس أوروبا, يتوفر لمسلمي أمريكا وسائل مهمة بالفعل، إذ تشكل حرية التعبير عنصرا مهما داخل المجتمع المدني وتترجم إلى وسائل قانونية متزايدة في يد المواطن, وتحاول العديد من الصحف والمؤسسات والمنظمات التصدي للخطاب السائد الداعي إلى تشويه الإسلام.
وهناك عمل مهم لمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية، هذه الجمعية تناضل ضد جميع التمييزات في حق المسلمين. وهذه الجمعيات كسبت قضايا أمام المحاكم الأمريكية ضد شركات كبرى، مثل شركة الملابس والأجهزة الرياضية "نايك" , لانها استعملت رموزا إسلامية ومست مشاعر المسلمين أو أنها أقصت مستخدمين مسلمين بسبب عقيدتهم.
ورأت العديد من الجمعيات الإسلامية الضاغطة النور في أمريكا خلال العشر سنوات الأخيرة. وفي عام 1990 أسس مثففون ومناضلون مسلمون المجلس الإسلامي الأمريكي الذي يتصل بالبيت الأبيض والكونغرس قصد المحافظة على هوية وحقوق الجماعة الإسلامية, ولتقوم بدور الوسيط بينها وبين السلطات الأمريكية. ومن أهم القضايا التي تدافع عنها هي الحصول على الاعتراف السياسي للجماعة الإسلامية مثلها مثل باقي الجماعات الدينية الأخرى. أما في أوروبا فلا يستطيع المسلمون الدفاع عن قضيتهم بطريقة مماثلة. وأخيرا، كان على المجلس الإسلامي الأمريكي أن يتدخل لدى القنصلية الفرنسية في شيكاغو لصالح شابة مسلمة لتأخذ صورة وهي ترتدي الحجاب. هذا ما لم يحصل عليه المسلمون الفرنسيون في فرنسا.
لكن انبثاق الصوت المسلم الأمريكي ينبع من الخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية للسكان المهاجرين، حيث نجد هناك أكبر تمركز للنخبة المسلمة، ويفوق عدد الأطباء والجامعيين والمهندسين ورؤساء المقاولات بها نظراءهم في الدول الإسلامية والمجتمعات الأوروبية, وهذا ما يفسر حيوية وديناميكية الفكر الإسلامي الأمريكي. ونلاحظ أن مثل هذه النخبة لم تتطور في فرنسا، حيث ترتبط الهجرة بالفئات الفقيرة التي هاجرت من دول المغرب العربي وإفريقيا والهند وباكستان، وبالفعل كان المرشحون للهجرة على العموم، هم العناصر الأكثر هشاشة اقتصاديا والأقل تعليما داخل مجتمعات المصدر. كما أن التفاوت الاجتماعي الذي يجب ملؤه داخل المجتمعات الأوروبية، يظل كبيرا، حتى لو كان يمكن تسجيل تحسنات مهمة في صفوف الأجيال اللاحقة مع ظهور الطبقات المتوسطة، وكذلك مع بروز بعض الرموز الثقافية التي تكونت في أوربا.
=============
"محام كافر عن أسرى جوانتاناموا"
مشرف النافذة 7/8/1426
11/09/2005
طرحت لجنة الدفاع عن أسرى جوانتاناموا بالكويت سؤالاً مهماً حول جواز الاستعانة بمحامين أمريكان في الدفاع عن الأسرى المسلمين, وقد تردد بعض الأسرى وبعض الأهالي في جواز ذلك, وعرضوا الأمر على عدد من الشيوخ.
وأجاب جميعهم بجواز ذلك بل ضرورته في مثل حالهم.
ومن هؤلاء: الشيخ سلمان بن فهد العودة, والشيخ عبد الله بن بيه, والشيخ ناصر العمر, والشيخ عبد الوهاب الناصر الطريري.
وها هنا نص السؤال, وجواب د. سلمان العودة عليه.
نص السؤال:
نحيطكم علماً بأننا في لجنة أهالي الأسرى الكويتيين في غوانتاناموا تعاقدنا منذ ثلاث سنوات مع أحد أكبر مكاتب المحاماة في الولايات المتحدة, وقد قطعنا شوطاً كبيراً في حل هذه القضية الإنسانية من خلال مسارين متوازيين قضائي وإعلامي, أنفقنا خلال هذه السنوات الثلاث مبالغ ضخمة, وقد تمكن المحامون بفضل من الله ومنه الالتقاء بالأسرى, كما نود أن نحيط فضيلتكم علماً بأن النظام المعمول به في القضاء الأمريكي أنه لا يسمح لأي مدعى عليه أن يوكل محاميا من أي جنسية أخرى غير الجنسية الأمريكية.
فالسؤال الآن: هل يجوز الاستعانة بمحامين غير مسلمين للدفاع عن أسرى المسلمين؟
نص الجواب:
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين ، وقائد الغر المحجلين وعلى آله وصحبه والتابعين ، وبعد :
فإن المحاماة هي توكيل عن الخصومة بأجر أو بغير أجر ، فهي نوع من الوكالة .
وتوكيل الكافر جائز فيما يسوغ من مثله ، وقد حكى ابن المنذر أنه لا خلاف في جوازه .
وبوب البخاري في صحيحه :
( باب إِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، أَوْ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ ، جَازَ ).
وساق قصة عبد الرحمن بن عوف ، - قَالَ كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِى فِى صَاغِيَتِى بِمَكَّةَ ، وَأَحْفَظَهُ فِى صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ لاَ أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ ، كَاتِبْنِى بِاسْمِكَ الَّذِى كَانَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ . فَكَاتَبْتُهُ ( عَبْدُ عَمْرٍو ).. الحديث بتمامه .
والصاغية: ما يخص الرجل من أهل ومال .
ووجه الدلالة من الحديث أن عبد الرحمن بن عوف - وهو صحابي في دار الإسلام بالمدينة - فوض إلى أمية بن خلف ، وهو كافر في دار حرب بمكة ، ما يتعلق برعاية أموره وماله ومتعلقاته ، ولم ينكر ذلك كله أحد .
وذلك لأن الأصل في هذا الباب الحل والجواز ، ولا دليل ينقل عن ذلك الأصل .(5/81)
وفي صحيح البخاري أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلّم استأجر عبد الله بن أريقط هادياً خريتاً ، وهو على دين قريش ، فأمنه النبي - صلى الله عليه وسلّم - وأبو بكر ودفعا إليه راحلتيهما ، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال ، فأتاهما براحلتيهما ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل ، وأخذ بهم طريق الساحل .
قال ابن قدامة في المغني ( 7/197 ) : ( وَكُلُّ مَنْ صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ بِنَفْسِهِ , وَكَانَ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ , صَحَّ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً , حُرًّا أَوْ عَبْدًا , مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ) .
وقال : َإِنْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فِيمَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ , صَحَّ تَوْكِيلُهُ , سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا , أَوْ مُسْتَأْمَنًا , أَوْ حَرْبِيًّا , أَوْ مُرْتَدًّا ; لِأَنَّ الْعَدَالَةَ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ فِيهِ , وَكَذَلِكَ الدِّينُ , كَالْبَيْعِ . وَإِنْ وَكَّلَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ , لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ , سَوَاءٌ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , أَوْ أَقَامَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ " .
وكلام العلماء في المسألة طويل ، وما سبق يغني عن الاسترسال في نقله .
والخلاصة: أنه يجوز للمسلم ، سواء كان أسيراً أو غير أسير ، أن يوكل محامياً في الدفاع عنه من المسلمين أو من غير المسلمين ، من الذكور أو الإناث ، ممن يظن أنهم يقومون بالمهمة ويدافعون عنه أمام المحاكم ، ويعطيهم الأجرة المتفق عليها .
بل قد يتعين هذا على من كان يمر بظروف صعبة تؤثر على دينه وعبادته وطهارته وصلاته وعلاقته ومصالحه ، ولا سبيل أمامه إلا توكيل مثل هؤلاء .
وأشكر لجنة الدفاع عن المعتقلين بغوانتانامو الكويتية على بلائها الحسن ، وجهدها المشهود ، في شأن المعتقلين وأهاليهم ، وأدعو اللجان الأخرى في سائر الدول أن تحذو حذوها ، وأن ينسقوا ويتعاونوا فيما بينهم في حماية هؤلاء الأسرى ، والدفاع عنهم ، ومتابعة قضاياهم .
أسأل الله أن يفك أسر المأسورين من المسلمين في كل مكان ، ويعجل بفرجهم ويكشف كربتهم ، ويرد غربتهم ويصلح شأنهم ، ويكفيهم شر كل ذي شر ، إنه سميع قريب . والحمد لله رب العالمين.
وكتبه سلمان بن فهد العودة
الثلاثاء 11/7/1426هـ
=============
قسم الولاء لتحصيل الجنسية
الشيخ/ سعيد الغامدي 15/1/1425
06/03/2004
أنا مقيم في أمريكا وأريد أن أحصل على الجنسية الأمريكية؛ لأن المقيم يجد بعض المشاكل كوجوب البقاء في أمريكا ستة أشهر من كل سنة وغير ذلك، والجواز الأمريكي يساعدني على السفر إلى أغلب دول العالم، بخلاف الجواز الذي أحمله الآن.
المشكلة أنه من شرط الحصول على الجنسية أن أتلو أمام القاضي بيعة الولاء. وصيغنها كما يلي:
"إني أقسم أنني أتخلي عن أي ولاء لدولة أخرى أو حاكم آخر قد سبق لي أن أواليه، وأنني سأدافع عن دستور الولايات المتحدة الأمريكية وقوانيتها ضد جميع أعدائها الداخلية والخارجية، وأنني أوالي الولايات المتحدة الأمريكية، وأنني سأحمل السلاح للولايات المتحدة الأمريكية حينما يلزمني القانون بذلك، وأنني سأخدم الجيش الأمريكي فيما دون القتال حينما يلزمني القانون بذلك، وأنني سأقوم بالعمل المدني للوطن حينما يلزمني القانون بذلك وأنني أتحمل هذه المسؤولية طوعا دون تردد ومن غير نية الإعراض عنها، وعلى كل هذا أقسم بالله"
هل يجوز لي أن أحصل على الجنسية الأمريكية بهذا الشرط؟ هل هناك حيلة تساعدني؟ لم أجد في الإنترنت إلى الآن جواباً عن سؤالي.
أجاب عن السؤال الشيخ/ سعيد الغامدي (عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد).
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد:
هذه القضية من قضايا الولاء والبراء،ولذلك لابد من بيان معنى الولاء وأقسامه وأحكام كل قسم، ثم يمكن بعد ذلك تطبيق سؤال السائل عليه:
الولاء: مصدر والى يوالي موالاة ، وهو المحبة والقرب والدنو والمناصرة، وهو ضد البراء والمعاداة ، وحقيقته إضمار المودة في القلب وإظهارها في الأقوال والأفعال محبة ونصرة وهو على أقسام :
الأول: الولاء لله ولدينه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، فهذا من حقائق التوحيد والإيمان وهو واجب على كل مسلم .
الثاني: الموافقة والمناصرة والمعاونة والرضا بأفعال من يواليهم العبد، وهذه هي الموالاة العامة التي إذا صدرت من مسلم لكافر عدَّ صاحبها كافراً، ومن الموالاة العامة: الدفاع عن الكفار وإعانتهم بالمال والبدن والرأي ومحبة انتصارهم ، وهذا كفر صريح يخرج من الملة، ويسمى (التولي) وهو أخص من الموالاة ، وداخل ضمن مفهومها .
والتولي : مصدر تولّى أي اتخذه ولياً ، وهو بذل المحب لما يرضي المحبوب بذلاً تاماً ، والتولي أخص من الموالاة ، فكل تولٍ داخل في مفهوم الموالاة ، وليس كل موالاة داخلة في مفهوم التولي ، بل موالاة الكفار موالاة مطلقة عامة تعدُّ كفراً صريحاً .(5/82)
وهذه الموالاة مرادفة لمعنى التولي وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في النهي الشديد عن موالاة الكفار ، وأن من والاهم فقد كفر كما قال - تعالى -: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" [المائدة : 51] فالتولي يفيد معنى الاتخاذ والالتزام الكامل بمن يتولاه ، بخلاف الموالاة التي تدل على المحبة والمتابعة بدرجات متفاوتة ، وبين التولي والموالاة عموم وخصوص .
والتولي المأمور به أصل عظيم في دين الله كما قال تعالى: "ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون" [المائدة :56] ويكون ذلك بحب الله - تعالى - وحب ما يحبه وبغض ما يبغضه، وحب رسوله – عليه الصلاة والسلام - وكتابه وحب دينه وأهل دينه ومناصرتهم ، وبغض أعداء دينه ومجاهدتهم.
الثالث : الموالاة الخاصة وهي المصانعة والمداهنة للكفار لغرض دنيوي مع سلامة الاعتقاد وعدم إضمار نية الكفر والردة عن الإسلام ، فهذه كبيرة من الكبائر ، وبين هذا القسم والذي قبله وهو التولي مراتب ، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم بحسب نية الفاعل وقصده .
وفي القسم المذكور من أمور الولاية العامة أمور وهي: الالتزام بدستورها ونظامها وهو - بلا شك - كفري، ومنها حمل السلاح والقتال معها وهذا لايجوز،ويكون من أفعال الكفر إذا كان في قتال المسلمين، وهذا ما تفعله أمريكا اليوم في أفغانستان والفلبين وفعلته في الصومال، وقد تفعله غداً في العراق أو إيران أو غيرها من بلاد المسلمين .
وخير للمسلم أن يكون في إحدى بلاد المسلمين- ولو حصل له بعض الضيم والعنت- من البقاء في الغرب حيث الكفر والفساد واستبطان العداوة للمسلمين، والتخطيط لذلك واستيلاء اليهود ومتطرفي النصارى على زمام الأمور،لاسيما وقد تبين لكثير من الناس مقدار ضخامة الخدعة المسماة ( الديموقراطية) والعدل وحقوق الإنسان، وخاصة بعد الأحداث الأخيرة.
وهناك حالة الاضطرار التي يكون فيها بعض المسلمين مطارداً أو ملاحقاً أو مضطهداً في بلده ويتوقع حصول الأذى الشديد عليه، وليست لديه القدرة على العيش في بلاد المسلمين، ولا القدرة على الهجرة إلى بلاد تؤويه من بلدان المسلمين، وليس أمامه سوى بلاد الكفار، فيجوز له في هذه الحالة، شريطة أن يكون مبغضاً للكفار يعتقد البراءة منهم، مع قيامه بالدين علماً وعملاً حسب المستطاع.
وأصل هذا الحكم الاستثنائي ما حصل للصحابة الكرام – رضي الله عنهم - حين هاجروا إلى الحبشة، وقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً" هذا لفظ ابن هشام في السيرة (2/164) والحديث في دلائل النبوة للأصبهاني (103) وتاريخ الطبري (1/546)، وتفسيره (9/249).
وعندما رجع – صلى الله عليه وسلم – من الطائف ومنعته قريش، طلب الحماية من بعض كفار مكة فأجاره المطعم بن عدي فدخل مكة واعتمر، وبهذه الحماية استطاع – صلى الله عليه وسلم – العيش في مكة آمنا، رواه ابن هشام (2/244)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (3/95) والاستيعاب لابن عبد البر (1/40) وقال في فتح الباري (7/324) أوردها الفاكهي بإسناد حسن مرسل.
وقد استفاد النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه في مكة من حماية بني هاشم وبني المطلب وحماية عمه أبي طالب، رغم كفرهم وشركهم، وفي صحيح البخاري (2/804) قصة خروج أبي بكر – رضي الله عنه – متوجهاً إلى الحبشة فوصل إلى برك الغماد جنوب مكة فلقيه ابن الدغنة سيد القارة، فأعاده إلى مكة وأجاره وأدخله إلى مكة آمنا وبقي في جواره مدة.
وهذا الحال الاضطراري يدخل في عموم قوله – تعالى –: " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً" [ النحل:106] قال ابن القيم مستدلاً بهذه الآية عند كلامه على تحريم الحيل (لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن بالتكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان) إعلام الموقعين (3/191) قال ابن حزم في المحلى(11/198):(5/83)
(وقد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب فقد أبق عن الله - تعالى - وعن إمام المسلمين وجماعتهم ويبين هذا حديثه - صلى الله عليه وسلم - أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين فيما رواه الترمذي (1604) والنسائي(4780) وأبو داود(2645)من حديث جرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ وهو - عليه السلام - لا يبرأ إلا من كافر قال الله - تعالى - "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" [التوبة: 71] فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتد، له أحكام المرتد كلها من وجوب قتله متى قدر عليه، ومن إباحة ماله وانفساخ نكاحه وغير ذلك؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبرأ من مسلم وأما من فرّ إلى أرض الحرب لظلم خافه ولم يحارب المسلمين ولا أعان الكفار عليهم ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره، وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازماً على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم؛ لأن الوليد بن يزيد كان قد نذر دمه إن قدر عليه وكان هو الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور).
=============
حكم الإقامة في بلاد الكفار
سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - عن حكم الإقامة في بلاد الكفار
فأجاب بقوله : الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم ، وأخلاقه ، وسلوكه ، وآدابه وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به ، رجعوا فُسّاقًا ، وبعضهم رجع مرتدًا عن دينه وكافرًا به وبسائر الأديان ـ والعياذ بالله ـ حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين ، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهويّ في تلك المهالك .
فالإقامة في بلاد الكفر لابد فيها من شرطين أساسين :
الشرط الأول : أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان ، وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ وأن يكون مضمرًالعداوة الكافرين وبغضهم مبتعدًا عن موالاتهم ومحبتهم ، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان قال الله ـ تعالى ـ : ( لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم )(المجادلة/22) .
وقال ـ تعالى ـ : ( يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى ان تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين )(المائدة/51 ـ 52 ) .
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ أن من أحب قومًا فهومنهم ، وأن المرء مع من أحب ] .
ومحبة أعداء الله عن أعظم ما يكون خطرًا على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم ، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ من أحب قومًا فهو منهم ] .
الشرط الثاني : أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع ، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة ، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين ، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ ، قال في المغني صـ457 جـ8 في الكلام على أقسام الناس في الهجرة : أحدها من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه ، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى : ( إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا )(النساء/97) .
وهذا وعيد شديد يدل على الواجب ، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه ، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . أ . هـ
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام :
القسم الأول : أن يقيم الدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه فهذا نوع من الجهاد فهي فرض كفاية على من قدر عليها ، بشرط أن تتحقق الدعوة وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها ، لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين وهي طريقة المرسلين وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان فقال صلى الله عليه وسلم : [ بغلوا عني ولو آية ] .(5/84)
القسم الثاني : أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة ، وبطلان التعبد ، وانحلال الأخلاق ، وفوضوية السلوك ؛ ليحذّر الناس من الاغترار بهم ، ويبيّن للمعجبين بهم حقيقة حالهم ، وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضًا لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه ،لأن فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام ، كما قيل : وبضدها تتبين الأشياء ؛ لكن لابد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه ، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامته ، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسوله الإسلام وأئمة الإسلام وجب الكف لقوله تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم كذلك زينا لكل أمةٍ عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون )(الأنعام/108) ، ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عينا للمسلمين ؛ ليعرف ما يدبروه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون ، كما أرسل النبي صلىالله عليه وسلم ، حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم .
القسم الثالث : أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتهم مع دولة الكفر كموظفي السفارات فحكمها حكم ما أقام من أجله ، فالملحق الثقافي مثلاً يقيم ليرعى شؤون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه ، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندريء به شر كبير .
القسم الرابع : أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الأقامة بقدر الحاجة ، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم .
القسم الخامس : أن يقيم للدارسة وهي من جنس ما قبلها إقامة لحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكًا بدين المقيم وأخلاقه ، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه ، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل ، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي ذلك إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال ، والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم ، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط :
الشرط الأول : أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد ، فأما بعث الأحداث " صغار السن " وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم ، وخلقهم ، وسلوكهم ، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع ، فإن كثيرًا من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به ، رجعوا منحرفين في ديانتهم ، وأخلاقهم ، وسلوكهم ، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد ، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضاربة .
الشرط الثاني : أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل ، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقًا أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل .
وفي الدعاء المأثور [ اللهم أرني الحق حقًا وارزقني اتباعه ، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه ، ولا تجعله ملتبسًا عليَّ فأضلّ ] .
الشرط الثالث : أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق ، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم ، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوعة فإذا صادفت محلاً ضعيف المقاومة عملت عملها .
الشرط الرابع : أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم ، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله لما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق ، وإيضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة .
القسم السادس : أن يقيم للسكن وهذا أخطر مما قبله وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة ، وموالاة ، وتكثير لسواد الكفار ، ويتربى أهله بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم ، وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد ، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله ] .(5/85)
وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة ، وعن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله ولم ؟ قال لا تراءى نارهما ] (رواه أبو داود والترمذي ) وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الترمذي سمعت محمدًا ـ يعني البخاري ـ يقول الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً . أ . هـ .
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به ، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم .
هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر نسأل الله أن يكون موافقًا للحق والصواب .
مجموعة فتاوى ابن عثيمين - فتوى رقم 388
نقله الدكتور أحمد نجيب
شبكة أنا المسلم
=============
الابتعاث ومخاطره
تأليف
محمد بن لطفي الصباغ
توزيع
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
بالمملكة العربية السعودية
http://www.saaid.net/
بسم الله الرحمن الرحيم
الابتعاث ومخاطره (*)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمد عبده ورسوله .
أما بعد
فقد آثرت أن أبحث في موضوع الابتعاث لما أرى له من الأهمية العظمى والخطورة البالغة , ذلك أن مستقبل بلاد العالم الإسلامي - يتوقف إلى حد بعيد - على هذه البعثات التي سيكون من أفرادها رجال المستقبل , وحكام هاتيك البلاد , والقيادات الفكرية فيها .
وإنني أشكر للقائمين على هذا المؤتمر إدراجهم هذا الموضوع في جملة الموضوعات التي يعالجها المؤتمر , فذلك يدل على تنبه بخطر هذه الظاهرة التي لا ييتطيع الدعاة تجاهلها , لأن ما يبنيه الداعية في مجال , يهدمه المنحرفون من المبتعثين , لاسيما إن كانت في أيديهم السلطة والصلاحيات .
حوادث صارخة تستلفت النظر :
سمعت مرة من أحد رجالات اليمن أن آلافاً من الشباب من أبناء هذا البلد المسلم الشقيق المؤمن , أُرسلوا إلى الدول الشيوعية , ليدرسوا هناك جوانب مختلفة من المعرفة والاختصاصات .
وعلمتُ في الصيف المنصرم , خلال رحلتي إلى أوربا , أن الصومال ترسل الألوف من أبنائها أيضاً , إلى الدول الشيوعية والاشتراكية ليدرسوا هناك العلوم والمعارف .
وحدث أنني منذ عشر سنوات اجتمعت في الطائرة بشاب من بلد عربي يتوقد ذكاءً , قص عليَّ قصة دراسته , وخلاصتها : إنه كان الأول في امتحان الشهادة الثانوية , فاتصلت دولة من الدول الاشتراكية بوزارة التربية في ذلك البلد , وعرضت عليها الرغبة في أن تعطي هذا الطالب الذكي منحة دراسية في أي فرع نادر من فروع التخصص يرغب فيه , وذهب إلى المدرسة , ولكنه - كما بدا من حديثه - لم يتلق العلم فقط هناك وإنما تلقى الفكر الشيوعي الماركسي وأصبح من المؤمنين به والمدافعين عنه .
مكر مدبر :
ليست عداوة الكافرين للمسلمين خافية على ذي بصيرة , فهم لا يألوننا خبالا , وما أصدق وصف القرآن الكريم لهم , وذلك في قوله تبارك وتعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * » سورة آل عمران 118-120
فهم منذ أن جاء محمد صلى الله عليه وسلم , بهذه الرسالة وهم في مكر مستمر , وقد صفا لهم الجوُّ عندما ضعفنا وأصبحوا أقوياء , وخيم علينا الجهل وتقدموا هم , في مجال العلوم المادية , واستطاعوا احتلال بلادنا , فزين لهم ذلك المضيَّ في عدوانهم علينا , والإمعان في الإستيلاء على بلادنا وثرواتنا , ولكنهم رأوا أن جذور الإسلام عميقة في كيان المسلم مهما كان هذا الفرد المسلم مقصراً , ووجدوا أن روح الإسلام ومعانيه ومثله العليا , مستولية أشد الاستيلاء على مشاعر الناس وتصوراتهم .....(5/86)
فواجهوا هذا الواقع بالمكر والتدبير , وخططوا لإزالة هذه العقبة من طريقهم ... وهي هذا الإسلام الذي لن يمكنهم من تحقيق أغراضهم وأطماعهم , مادام حياً في نفوس المسلمين وسلوكهم .
فمن ذلك كلمة غلادستون أحد زعماء بريطانيا : " مادام هذا القرآن في أيدي المسلمين فلن يقر للاستعمار قرار في ديار الإسلام " وأمثال هذه الكلمة كثير .
وفكروا وقدروا , ثم فكروا وقدروا , ودرسوا كيف يمكنهم أن يزحزحوا الإسلام عن مكانته في صدور المسلمين ؟ وكيف يقتلعون هاتيك الجذور بهدوء ويسر ونجاح ؟ وقادهم تفكيرهم وتقديرهم إلى وسائل عدة ... استخدموها بإتقان وإحكام .
وكان من ذلك الابتعاث , والتبشير ونشر التحلل والإفساد الخلقي والحملات العسكرية المسلحة , والتشكيك , والإلحاد , ومحاربة اللغة العربية , وبعث القوميات العنصرية , والنزعات الوطنية الضيقة لتحل محل الدين , وإفساد مناهج التعليم , ووسائل الإعلام .
ونحن في بحثنا هذا , نود أن ننظر في موضوع الابتعاث , لنبين كيف أنه كان من أفتك الأسلحة لزلزلة الإسلام من القلوب , ومحاولة اقتلاع جذوره العميقة من أعماق نفوس المسلمين , وبين أيدينا حقائق يجب أن لا تغيب عن أذهاننا , من أهمها أنهم أعداء ألداء , فلا يمكن أن يكون منهم حرص على أن نتعلم ونتقوى , وأنهم أنانيون ماديون فلا يمكن أن يكون عندهم مثل هذا الإيثار والتضحية من أجلنا , وقد حرصوا على سلوك كل سبيل لإخفاء هذه الأنانية وذاك المكر , ولكنهم - على الرغم من جهودهم في كتمان ذلك - غلبوا على أمرهم , لأنه أقوى من أن يستر , وظهر ذلك في مواقف عديدة . ولو أنهم دروا أن تعليمنا لا يقودنا إلى أفخاخهم , لما رضوا أن يعلمونا حرفاً واحداً , فمثل هذه البعثات دفع إليها , وكان سبباً من أسبابها :
* الرغبة في أن يكون تجانس وتطابق في التفكير بين المستعمرين وأبناء البلاد بين المسلمين .
وينشأ عن هذا بالضرورة ضعف سلطان الدين , وزحزحة مكانته عند كثير من هؤلاء المتعلمين من المبعوثين .
وستتضح هذه الأسباب عندما نبين نتائجه وآثاره .
وقد يقول قائل : هل هناك مانع من الارتحال لأخذ النافع من علوم القوم ؟
والجواب : لا ... بشروط .
والرحلة في طلب العلم مما درج عليه علماء سلفنا الأفاضل منذ الصدر الأول , امتثالاً لأمر الله عز وجل : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }التوبة122
قال حماد بن زيد : ( فهذا في كل من رحل في طلب العلم والفقه , ورجع به إلى من وراءه يعلمهم إياه )(2)
وقال عبد الرزاق : (هم أصحاب الحديث)(3)
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود الترمذي وابن ماجه والدارمي(4) , في كتبهم : أن رجلاً قدم من المدينة على أبي الدرداء - وهو بدمشق - فقال : ما أقدمك يا أخي ؟
قال : حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله غليه وسلم .
قال : أما جئت لحاجة ؟
قال : لا .
قال : أما قدمت لتجارة ؟
قال : لا .
قال : ما جئت إلا في طلب هذا الحديث .
قال : نعم .
قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له به طريقاً إلى الجنة , وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب , وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء . وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة بدر على سائر الكواكب , وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم , فمن أخذه أخذ بحظ وافر " (5)
وقال عبد لله بن مسعود : (لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته )(6) .
وهكذا فقد بدأت الرحلة في طلب العلم منذ أيام الصحابة رضوان الله عليهم , فرحل أبو أيوب , وجابر بن عبد الله إلى مصر (7), وكذلك التابعون وتابعوهم حتى عصرنا الحاضر .
إذن فنحن قوم نؤيد الرحلة في طلب العلم ونحثُ عليها ولعلنا نحن أول الأمم التي جعلت الرحلة في ذلك من مقدمات العلم ومقومات التعلم , ولكننا لا نترك أمر الرحلة سائباً يقوم على الفوضى ويؤدي إلى النتائج السيئة التي تؤدي إليها الفوضى بل نشترط فيها - كما أشرنا - شروطاً :
وأهم هذه الشروط هي :
1. أن نأخذ في رحلتنا ما تحتاج إليه أمتنا ... أن نأخذ العلم التجريبي وتطبيقاته . فالعلم بحقائقه المجردة لا جنسية له ولا لون , والمخترعات لا تلتزم بدين ولا تعبر عن تصور .
2. أن نأخذ ما نأخذ ونحن محافظون على ذاتنا وكياننا وأنفسنا , معتزون بما أكرمنا الله به من الدين , لأن مثل هذا الإعتزاز يسهل علينا معرفة ما نأخذ وما ندع , ومعرفة مصلحتنا وتحديدها , ولنا الأسوة الحسنة في صنيع أجدادنا , عندما اقتبسوا بعض العلوم النافعة التي كانت عند الأقوام الأجنبية الأخرى .(5/87)
فلقد أقبل أولئك الأجداد في العصر الذهبي للثقافة والتدوين والتبحر العلمي , أقبلوا على الترجمة والابتكار والإبداع , فترجموا كثيراً من الكتب وأبدعوا وابتكروا ... وكان لهم أدب راق يحمل الأصالة العربية في البيان , والوجه الإسلامي إذ جعل وجهته القرآن , وكان لهم طب يتسم بهذه السمة , ورياضيات , وفلسفة , وجغرافيا , وفيزياء , وكيمياء , وكانت هذه العلوم المختلفة مصطبغة بالروح الإسلامية .
3. أن يكون هناك اختيار لمن يذهب , فيختار لهذه المهمة من كان صلب الدين , قوي الإرادة , متقدم السن , محصناً من التأثر .
4. أن يحاط المبعوث هناك بالجو الإسلامي النظيف الذي يذكره إن غفل , ويعينه إن ذكر .
5. أن تكون مناهجنا التعليمية تجعل ممن يذهب لتلك البلاد , واعياً مؤثراً غير متأثر
وسيمر بنا تفصيل لهذه الشروط في ثنايا البحث .
ويقتضينا البحث أن نتساءل عن حكم الإقامة في بلاد الكفار , لأن الابتعاث اليوم – مع الأسف –إنما هو في الأعم الأغلب إلى بلاد الكفار .
***
الإقامة في بلاد الكفار :
قرأت بحثاً قيماً كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الموضوع , وقد قال فيما قال رحمه الله :
(الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير – بحيث يكون (المسلم) أعلم بذلك وأقدر عليه , وأنشط له – أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله في طاعة الله ورسوله دون ذلك )(8)
وقال كلاماً مضمونه أن الحكم على الإقامة أمر نسبي يتعلق بالشخص والظروف , فمثلا قد تكون إقامة الرجل في أرضٍ يسود بها الضلال ويستعلن فيها الكفر , أفضل إذا كان هذا الرجل مجاهداً في سبيل الله , أو داعياً إلى دينه القويم بلسانه وقلمه , وقد تكون إقامته هناك أحسن من إقامته في أرض الإيمان والطاعة .
ومن هنا كانت المرابطة في الثغور على حدود الكفار أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء .قال تعالى وهو أصدق القائلين – {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }التوبة:19| 21.
إذن فالجهاد مع الإيمان أعظم درجة عند الله , من عمارة المسجد الحرام , وسقاية الحجاج , وبركة البيت الحرام وفضل العبادة فيه أمر مسلّمٌ معروف بيِّن لا جدال فيه .
فأفضلية مقام المسلم في دار الكفر مجاهداً في سبيل الله – في تصوري – عائداً إلى أمرين 1- أحوال الشخص , وإمكانياته , ومواهبه , وطاقاته , وأوضاعه الخاصة به .
2- الظروف العامة التي تسود بقعة ما من بقاع الدنيا .
فإذا كان إنسان من الناس متَّزن الشخصية قوياً , مسموع الكلمة موهوباً , يمتلك أداه من أدوات التأثير في الناس عملية كانت أو فكرية , كالكتابة والخطابة وإنشاء المدارس وفتح المستشفيات وما إلى ذلك , مما تقتضيه مصلحة الإسلام في ذلك البلد , وكان يستطيع أن يؤدي رسالته على وجه حسن , وكان يحتمل ما يصيبه من الأذى المتوقع , فلا شك في أن إقامته حيث يقوى على الدعوة , خير له من الحياة في الوسط الطيب الصالح . أما إذا كان هذا الإنسان شخصاً عادياً , يتأثر بالوسط الذي يحيا فيه , وليس لديه شيء من المواهب والطاقات , وكان تعرضه للأذى والفتنة أمراً محققاً , فلا شك في أن مثل هذا يجب عليه أن يختار البيئة الصالحة الفاضلة وأن يقيم فيها , فذلك أروح قلباً وأسلم عاقبة .
وأود أن أقرر أيضاً :
إن وجود المرء مدة طويلة في مجتمع كافر منحرف , وتعايشه معه يجعله يتأثر بأعراف هذا المجتمع وقيمه شاء أم أبى ... ولا يمكن أن يشذ عن هذه السنة فرد , وإن كان التأثر يختلف قوة وضعفاً , سلباً وإيجاباً ... ولكنه موجود على أية حال . ونسبة الذين يسلمون من هذا التأثير نسبة قليلة , وهذا ما جعل الإقامة في بلاد الكفار , أمراً مقيتاً لا تستريح النفس إليه , ومحظوراً إن لم يكن له داعٍ , ولم تتوافر في المسلم المقيم الشروط الذي ذكرناها آنفاً .
ولقد دعت الآية الكريمة أولئك الذين يلتصقون بالأرض , ولا يهاجرون من ديار الكفر ظالمي أنفسهم[ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ] النساء: 97|99.(5/88)
والله تبارك وتعالى يفتح الآفاق أمام عباده ليختاروا الأرض التي يستطيعون فيها إقامة حكم الله . قال تعالى : {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } العنكبوت56
وقال : {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ }النساء: 100
ولكن هل الابتعاث في أوضاعنا القائمة هو من هذا القبيل ؟
لماذا الابتعاث وماذا يدرس المبتعثون ؟
إن الابتعاث إلى الغرب (رأسمالية وشيوعية) أمر درجنا عليه , منذ أن بدأ الاحتكاك بأوروبا في مطلع القرن الثالث عشر الهجري (أي مطلع القرن التاسع عشر الميلادي)كما سنبين ذلك في فصل خاص بتاريخ الابتعاث .
وكان أمراً له مسوغاته دون شك , فلقد ذهب أنصار الابتعاث إلى القول : بأنه لا بد منه , حتى نستطيع أن نواكب عصرنا ونشارك أهله العيش في قضاياه . وقال هؤلاء الأنصار المتحمسون :
إننا في ذهابنا إلى ديارهم نسترد ديناً سلف منا , فلقد كنا في يوم مضى أساتذة الدنيا , عنَّا يتلقى العلم كل راغب فيه , ومنهم أجداد هؤلاء الغربيين , ومن كُتُبِنا كانوا يستمدون المعرفة , حتى أضحت مصادرهم الوحيدة , وكان مثقفوهم ومفكروهم يتخرجون في جامعاتنا , قالوا : فنحن نسترد ما سلف منا إليهم , عندما نتتلمذ على أيديهم ونستمد من كتبهم المعرفة ، وهكذا الأيام يوم لك ويوم عليك , وتلك الأيام نداولها بين الناس .
وإن صح كثير مما قاله هؤلاء الأنصار , فإن هناك شيئاً لا بد من إضافته إلى كلامهم وهو :
إن الرحلة في طلب العلم وسيلة , ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة , لاسيما بعد أن مضى على اتصالنا بحضارتهم وعلومهم الزمن الطويل . وحتى لو تعينت الر حلة وسيلة وحيدة , فقد كان يمكن أن تنضبط ويقضى على محذوراتها .
وسيتضح لنا من دراسة تاريخ الابتعاث وواقع المبتعثين هناك , مدى التفريط والمجازفة بنفر من أبنائنا , وستنكشف بعض الأسرار المهمة في هذا الموضوع .
ونودُّ أن نفرق بين نوعين من العلوم والمعارف :
أما أولهما فلا بد من أخذه وإتقانه بالرحلة أو غيرها , وكلما تفادينا الرحلة ضمنا واقعاً أفضل , خلافاً لما يدعيه الذين يتحمسون للابتعاث , وهذا النوع من المعارف هو ما يتصل بالعلوم البحتة والتطبيقية : كالرياضيات , والكيمياء , والفيزياء , والهندسة , والطب , وما إلى ذلك . إنها علوم تصلنا بأسباب الحضارة والتقدم , بل إن الإسلام ليجعل تحصيل هذا النوع وإجادته , فرض كفاية على المسلمين , إن لم يقوموا به أثموا(9) ولو نظرنا في واقعنا الحاضر لوجدنا أن من أسباب ضراوة الغزو الفكري وشراسته علينا ما قوبلت به حضارة أوربا في بادئ الأمر من سلبية من قبل أكثر أهل العلم والتوجيه في ديار المسلمين , ذلك لأنه إن لم يكن الاقتباس من هذه الحضارة يتم عن إرادة واختيار وبصيرة فإن هذه الحضارة تزحف علينا وعلى معتقداتنا وأخلاقنا لتزلزلها وتغتالها ... أجل إنها تزحف بقضها وقضيضها , وخيرها وشرها ، وصالحها وفاسدها ومثلنا عندئذ مثل قوم جياع أمامهم مائدة حافلة بصحاف مختلفة من الطعام , بعضها في السم القاتل وبعضها طيب جيد , وبعضها حلو , وبعضها حامض .... وقد زينت أتم زينة , ورتبت أفضل ترتيب .
فإن اختار العارفون الطيب النافع لهؤلاء الجياع المحتاجين , تجنبوا السُّم والأذى واستجابوا شاكرين .
وإلا فإن هؤلاء الجياع لا يستطيعون أن يصبروا على الجوع طويلاً لمجرد التحذير والخطر وسيقبلون على هاتيك المائدة المحظورة ثائرين متمردين , يأكلون طعامها النافع والضار . وإذن العلوم التجريبية والتطبيقية هي النوع الذي لا بد من أخذه .
وأما النوع الثاني من المعارف والعلوم فهو قسمان :
1. قسم يتضمن العلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية وآدابها , فليس هناك فائدة ترجى من أخذه عن الغرب , والضرر ظاهر في الابتعاث من أجله , ولا يمكن لأمة تملك الغيرة على ذاتها وكيانها ومثلها العليا , أن ترضى بمثل هذا الوضع الزري .
أليس أمراً مخجلاً أن يذهب رجل من المسلمين إلى اليهود والنصارى , فيتعلم منهم أمور دينه , أو يذهب إلى الأعاجم فيتعلم لغته !!؟؟
وما ثقتنا بعلم رجل تلقى علومه على اليهود والنصارى الموتورين الحاقدين على دين الإسلام وأهله ؟
وما تقديرنا لمن يتخرج في اللغة والأدب على أيدي الأعاجم المستشرقين الذين لا يبينون ولا يتذوقون ؟
إن دراسة هذه العلوم يجب أن تمنع في ديار الكفار , ويجب أن تتم في بلاد المسلمين , وهذا أمر واضح .
2. وقسم يتضمن دراسة الفنون من رقص , ومسرح , وسينما , ونحت , وموسيقى , وما إلى ذلك .
فدراسة مثل هذه الأمور , ومحظور في أي مكان في بلادنا أو في بلاد أعدائنا , ودراستها هناك أشدُّ خطراً .
ويمكن أن يلحق بهذا كل دراسة تنتهي بالدارس إلى الشك والزيغ .(5/89)
ومما يدل على انحراف الابتعاث وارتباطه بغايات هدامة , أن معظم الابتعاث , إنما كان في العلوم النظرية والآداب واللغات وما إلى ذلك , ولم يكن هناك عدد كاف من المبتعثين لدراسة العلوم التجريبية .
ويذكر الدكتور محمد محمد حسين أمر البعثات فيقول : (وأصبح أكثرها يُوجّه توجيهاً أدبياً أو فلسفياً تربوياً بعد أن صارت المجالات الصناعية والخبرات الفنية وقفاً على المستعمرين الأوربيين الذين حولوا المستعمرات وأهلها إلى مزارع ومناجم وعمال لإنتاج المواد الأولية )(10) .
والذي كانت تتطلبه بلاد المسلمين هو العكس من ذلك , فتأخر المسلمين إنما نشأ عن أمور من أهمها إهمالهم للعلوم التجريبية والتطبيقية , وبعدهم عن مجالات الإنتاج والتصنيع الاقتصادي والعسكري .
والابتعاث لدراسة العلوم الدينية واللغوية يتصل لدى التأمل بعمل المستشرقين . فما هو هذا العمل ؟
المستشرقون والدراسات الدينية واللغوية :
إن أي دراسة دينية أو لغوية في ديار الغرب , ترتبط ارتباطاً حتمياً بالمستشرقين , وموضوع الاستشراق جدير بأن يبحث بشكل موضوعي وفي بحث مفرد , وأن يدرس ماله وما عليه , ولكنني – هنا- أحب أن أقول : إن الذي لا ينقضي منه عجبي أن يبقى هذا الموضوع الخطير وهو من أكثر الأمور تأثيراً في تفكيرنا وثقافتنا في العصر الحاضر أن يبقى حتى الآن دون دراسة وافية من وجهة النظر الإسلامية , ذلك لأن الدراسات التي ظهرت فيه دون المطلوب بمراحل .
والذي نريد أن نشير إليه هو أن المستشرقين بلغوا من المكر والدس والحقد منزلة بعسر تصورها , والخطورة فيها أنهم غير مكشوفين , وأن تأثيرهم على تلامذتهم بطيء , فلا يكاد يشعر هذا المبعوث بالخطر العظيم الذي يواجهه في أستاذه .
إذن الابتعاث كان له أكثر من دافع , بعضها دعت إليه حاجة بلادنا , وبعضها كان عند أعدائنا الذين أرادوا أن يصوغوا قيادات فكرية لا تعطي الإسلام الأهمية الكبرى في الحياة , ثم وجهوا دراسة المبعوثين الوجهة التي تحقق لهم أهدافهم ولا تنتهي بنا إلى التطور التقني (التكنولوجي) المطلوب .
وكان للابتعاث أكثر من مظهر , وبعضها إيجابي بناء وهو مسايرة الحضارة الإنسانية والاكتساب من علومها , وبعضها سلبي هدام سنتحدث عنه عندما نتحدث عن آثار الابتعاث .
تلك جوانب من بحث (الابتعاث) تقودنا إلى موضوع حال المبتعثين :
واقع المبعوثين :
سأقدم فيما يأتي خلاصة ما توصلت إليه من دراسة واقعية (ميدانية) قمت بها مع عدد من المبتعثين الذين أقاموا في جهات مختلفة من ديار الغرب , وفي أوقات مختلفة , ونريد من وراء هذه الدراسة أن ننصف هؤلاء الشباب الذين هم فلذات أكبادنا ، وهم في معظم الأحيان الصفوة المنتقاة من شباب الإسلام . لقد تبين لي أن شبابنا المبتعثين يواجهون في الواقع مشكلات كثيرة جداً لا يتسع الوقت لعرضها كلها , أما أهم المشكلات التي يواجهونها فهي ما يلي :
1. الصعوبات التي يتعرض لها الطالب قبل سفره من ناحية الاتصال بالجامعات , وغالباً ما يترك أمر الاتصال بالجامعة للطالب ولجهوده الشخصية , ولذا تراه مستعداً للالتحاق بأية جامعة تقبله , وأسوأ الجامعات مستوى هي عادة أسرعها رداً على طلبات الطلاب وقبولهم
ويمكن تلافي هذه الصعوبات بأن تقوم الجهات الرسمية والجمعيات الإسلامية باختيار المكان الأصلح ومساعدة الطالب على القبول ليضمن المستوى الجيد والدراسة المثلى .
2. الصعوبات التي يلقاها المبعوث من ناحية السكنى ... إنه غريب لا يتكلم لغة البلد الذي يقصده بطلاقة ، والغريب _عادة_ لا يستطيع الحركة لعدم معرفته وكثيراً ما تعمد جهات تبشيرية أو استعمارية لتلقي الوافدين , لتفسد دينهم وأخلاقهم وتستخدمهم بالتالي في مآربها وغاياتها . وتعالج هذه الصعوبات بأن يقوم الصالحون الموجودون من قبل في تلك البلاد – ولاسيما اتحادات الطلاب المسلمين – بتهيئة الوضع المناسب للطالب المبتعث .
3. صعوبة اختيار البحث المناسب وصعوبة موافقة المشرف على الموضوع الذي يرى الدارس حاجة أمته ودينه وبلاده له , ومن ذلك ما جاء في كتاب أستاذنا السباعي رحمه الله "السنة" , قال عن دكتور محمد أمين المصري : "وما كاد يطلع على برامج الدراسة , وخاصة دراسة العلوم الإسلامية فيها حتى هاله ما رآه من تحامل ودس في كتب المستشرقين وخاصة (شاخت) فقرر أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت . تقدم إلى البروفسور أندرسون ليكون مشرفاً على تحضير هذه الرسالة وموافقاً على موضوعها , فأبى عليه هذا المستشرق أن يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت , وعبثاً حاول أن يوافق على ذلك . فلما يئس من جامعة لندن ذهب إلى جامعة كمبردج وانتسب إليها وتقدم إلى المشرفين على الدراسات الإسلامية فهي برغبته في أن يكون في موضوع رسالته للدكتوراه هو ما ذكرنا , فلم يبدوا رضاهم عن ذلك , وظن أن من الممكن موافقته أخيراً , ولكنهم قالوا له بصريح العبارة : إذا أردت أن تنجح في الدكتوراه فتجنب انتقاد شاخت فإن الجامعة لن تسمح بذلك )(11)(5/90)
4. عدم الإلمام الجيد باللغة الأجنبية , وقد مر ذكر هذه المشكلة الثانية . وكثيراً ما يتعرض الطالب للأخطار المحققة في خلقه ودينه وفكره من أجل التمكن من اللغة الأجنبية , إذ ينصحه بعضهم باتخاذ صديق أو أكثر من أبناء البلد الأجنبي الذي يقصده , وغالباً ما يفضلُ له – مع الأسف الشديد- أن يكون هذا الصديق من الجنس الآخر !! وهناك تكون الطامة التي قد تفسد على الطالب دراسته نفسها , بل دينه وخلقه وكيانه كله . وقد يزينون له أن يسكن مع أسرة من أهل تلك البلاد , وفي ذلك ما فيه .
وعلاج هذه المشكلة يكون في أن يستعد الطالب قبل سفره استعداداً لغوياً مناسباً وذلك بأن يدخل بعض الدورات التي تقويه في اللغة , وكذلك فإن عليه أن يدخل بعض المعاهد الخاصة في البلد الذي يسافر إليه , ويحسن أن يكون ذلك بالاتفاق والتشاور مع بعض الجمعيات والمؤسسات الإسلامية القائمة في بلاد الغرب , والقائمون على هذه الجمعيات لهم تجارب سابقة في هذا المجال , فبإمكان الطالب أن يستفيد من ذلك الاستفادة التي تجنبه كثيراً من المزالق .
5. الوسط السيئ الذي يحل فيه , ذلك أن الصالحين في بلاد المسلمين قليلون , فما بالك هناك من ديار الكفار , وغالباً ما يكون أبناء بلدته الموجودون هناك من نوعية سيئة فكراً وتديناً وخلقاً .
إن بعض الطلاب لا تغريهم بالرحلة إلا سهولة دخولهم في جامعات أوربا ذات المستوى السيئ وصعوبة دخولهم في جامعات بلادهم لاشتراط معدل معين لم يستطيعوا إحرازه . فإذا كان هؤلاء من ذوي السلوك المنحرف ساعدهم هذا الواقع على السقوط الخلقي وسهل لهم أسبابه , ولذلك فأنت ترى عدداً ليس بالقليل من أبناء المسلمين هناك ساقطين منكبين على الملذات والشهوات ولا يكادون يلتفتون إلى دراستهم , إن أمثال هؤلاء الطلاب يضاف إليهم زملاء الطالب من الأجانب يشكلون وسطاً يغريه بالفساد .
وعلاج هذه المشكلة يكون بإعداد الوسط الإسلامي المناسب , واختيار الجامعة الجيدة التي يستطيع أن يجد فيها التجمع الإسلامي المنشود .
6. انقطاع الصلة بين المبعوث وبلده : وهذا يساعد كثيراً على التحول من الولاء لبلده ودينه وأمته إلى ولاء للمجتمع الجديد الذي يضمه , وقد نتج عن هذا الانقطاع تخلي عدد من النابغين عن جنسياتهم والاندماج في المجتمع الجديد لقاء إغراءات مادية كبيرة . إن هؤلاء النابغين يكونون بمنزلة الدم الجديد يزيد في قوة الأعداد ويمد من أجل حضارتهم .
ولو أن الصلة معقودة لما خسرت البلاد طاقات وإمكانيات كثيرة , هذا وقد كنت من سنوات سمعت إحصاء مذهلاً يتحدث عن فرار الطاقات والإمكانات والعقول من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار التي كانوا يدرسون فيها .
وعلاج ذلك أن تقوم الدولة المبتعثة والجمعيات الإسلامية بوصل هؤلاء الشباب ببلدهم , واستقدامهم إليها الحين بعد الحين بدعوتهم وتحمل نفقات سفرهم , وبنقل الأخبار ولاسيما أخبار بلدهم من وجهة النظر الإسلامية , وبتزويدهم بالمجلات الرصينة , والجرائد الجيدة , وبالنشرات الهادفة , وبالاستمرار بمراقبة المبتعث , وبإنشاء نوع من الروابط الصالحة الهادفة بين المبعوثين أنفسهم .
7. صعوبات دراسية في التخصص , وهذه ناحية في غاية الأهمية , وأبرز ما تكون واضحة في المبعوثين الرسميين الذين يوفدون على حساب الدولة التي تحدد تخصصات معينة وترسل المبتعثين لدراستها . ويحدث كثيراً –لأسباب متعددة- أن المبتعث لا يستطيع مواصلة دراسته في التخصص الذي اختير له , ولكنه لا يستطيع تغييره ... حتى إن بعض الدول إذا علمت أن الطالب غيّر تخصصه تقطع عنه المنحة وتطلب عودته .
ويجب مواجهة مثل هذه الأمور أن تُدرس كل حالة على حدة , ويُنظر إليها بعين العدل والإنصاف , فإن ثبت أن الطالب جاد , ولكن لأسباب لا تعود إلى إهماله وانصرافه عن التحصيل تعثر في دراسة هذا التخصص الملائم له . فالواجب إتاحة الفرصة له ليعمل على دراسة التخصص الملائم له , وكان يمكن تدارك ذلك لو أن هناك هيئة إسلامية تمدُّ للطالب يد المساعدة والعون والنصح والإرشاد .
8. وهناك صعوبات أخرى مثل معاناة الصوارف الكثيرة عن الدراسة تعود إلى طبيعة الحياة المنحلة , والشهوات المبذولة , بعد انتقال من جو محافظ إلى جو منحل , ومثل الانشغال ببعض الأمور الأساسية التي لا يستطيع قضاءها إلا على حساب الدراسة , ويصعب استقصاء هذه الصعوبات وتحديدها .
هذا واقع المبتعثين وفيه حقائق من الحاضر وحقائق من الماضي , ولا شك في أن حاضر الابتعاث متأثر بماضيه , كما أن حاضره مؤثر في المستقبل , وللابتعاث ماض وتاريخ , فلننظر في تاريخ الابتعاث .
***************
من تاريخ الابتعاث :(5/91)
إن دراسة تاريخ الابتعاث بأناة وتأمل , والنظر في آثاره على المبعوثين السابقين أمر في غاية الأهمية في موضوعنا هذا . وإنه لخليق أن يلقي نوراً كشافاً يظهر أغراض الابتعاث جلية صريحة . وهو موضوع طويل يصلح أن يكون رسالة دكتوراه تستقل بدراسة هذا التاريخ وتلك الآثار . ولقد قرأت كثيراً مما كتب فيه ولم أستطع قراءة كثير مما تاقت نفسي إلى المضي في الاطلاع عليه . وأنا هنا لا أستطيع التفصيل في هذا الموضوع لأن ذلك يخرج بي عن حدود البحث التي رسمتها له .
أول بعثة :
من الأمور التي تزل فيها أقدام كثير من الباحثين تقرير الأوليات بجزم دون استقصاء , وبناء على هذا فلا أستطيع الجزم بأول مبعوث أو بأول بعثة ذهبت من بلاد المسلمين إلى ديار الكفار لتلقي العلم , ولكننا نستطيع أن نقول : إن أشهر هذه البعثات هي تلك التي كانت أيام محمد علي والي مصر , وفي النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري (أي في مطلع القرن التاسع عشر النصراني) يقول الأستاذ محمد عبد الغني حسن :
( يجمع المؤرخون لعصر محمد علي – مصريين وأجانب- على أن بعثة 1826 هي البعثة الأولى , ويخالفهم في ذلك الأمير عمر طوسون الذي يجعل بعثه نقولا مسابكي وزملائه إلى إيطاليا سنة 1813هي أول بعثة لمحمد علي , ويجعل بعثة عثمان باشا نور الدين وزملائه إلى فرنسا سنة 1818 هي البعثة الثانية , ويجعل بعثة سنة1826 إلى فرنسا ثالثة البعثات المصرية )(12) .
فهذا النص يؤيد ما ذهبنا إليه من صعوبة تحديد البعثة التعليمية الأولى إلى ديار الغرب لأننا رأينا مثل هذا التحديد بالنسبة إلى محمد علي كان موضع اختلاف ... من أجل ذلك نؤثر أن نقول : إن بعثات محمد علي (13) التي هي أشهر البعثات وأكثرها تأثيراً في حياتنا كانت في مطلع القرن التاسع عشر أو الربع الأول منه .
البعثات إلى فرنسا :
ويستوقف الباحث تساؤل مريب بالنسبة إلى مكان ذهاب البعثات المصرية لماذا كان إلى فرنسا دون غيرها ؟ ونحن نعلم أن فرنسا غزت مصر أيام نابليون (14) قبل تولي محمد علي بسنوات , وأن خيل الفرنسيين دخلت الأزهر وأن جنودهم جاسوا خلال الديار وأتوا بفظائع مستنكرة ... فكيف تعمد حكومة مصر- بعد أن تخلصت ديارها من الاحتلال الفرنسي- إلى أن ترسل أبناءها إلى فرنسا الغازية ؟ وبلد الغزاة المعتدين الذين ولغوا في دماء الآمنين من السكان , لا يصلح أن يكون محلاً لدراسة أبناء الأمة المظلومة المعتدى عليها , لأن الحقد الذي يغلي في الصدور على الظلمة المجرمين لا يتيح للوافدين مناخاً ملائماً للدراسة , ولأن هذا الوضع العدائي لا يقنع المبعوثين بالأمن هناك .
قد يقول قائل : إن العلاقات السياسية هي التي قضت بهذا وفرضته , ولكن أمراً واضحاً لا بد أن نذكره , وهو إن إفساد الطلبة المبعوثين لم يكن ليتحقق في بلد من البلاد الأوروبية كما كان يمكن أن يتحقق في فرنسا التي خرجت من الثورة الفرنسية وهي تسبح في بحور من الفوضى الخلقية والفكرية والاجتماعية ... من أجل ذلك كانت فرنسا محل البعثات .
ومن المفيد أن نذكر أول وزير لوزارة المعارف المصرية هو أحد أفراد بعثة 1826 وهو مصطفى مختار المولود سنة 1802 والمتوفى سنة 1839 وقد عاد إلى بلاده سنة 1832 أي رحل إلى فرنسا وهو ابن أربع وعشرين سنة وأقام هناك ست سنوات , وهي الفترة التي يتم فيها تكوين شخصية المرء وثقافته , وكان في سن هي ذروة التهاب الشباب .
ويبدو أنه كان هناك في فرنسا يستجيب لرغبات من رغبات نفسه , فقد ذكر مترجموه أنه كان لديه ميل إلى الموسيقى ,فأرسلت له ساعة دقاقة تحدث نغماً موسيقياً كما اشتريت له آلتان موسيقيتان ب184 فرنكاً على حساب الدولة أثناء إقامته هناك (15) وكما يدل هذا الخبر على ميل مصطفى للطرب والموسيقى واشتغاله بهما في فرنسا أثناء طلبة العلم يدل أيضاً على رغبة الدولة في ذاك العهد المبكر المتقدم من اتصالنا بالحضارة على مسايرة الشباب في رغباتهم , ومسارعتها لتحقيق ما يريدون من وسائل اللهو والعبث فلو أن دولة إسلامية قامت الآن بإرسال مثل ذلك إلى بعض المبتعثين لاستغربنا ذلك منها . والموسيقى الآن وموقف الناس منها يختلف عن موقفهم منها قبل مائة وخمس وسبعين سنة , قطعنا خلالها أشواطاً من التطور قد تعادل ما قطعناه خلال ألف ومائتين من السنين قبل ذلك .
ولم يلتزم المبتعثون الحدود التي أرادها مرسلوهم , وعندما حاول بعضهم أن يتشدد في إلزام المبعوثين بعدم مجاوزة المهمات الأصلية باءت محاولتهم بالإخفاق(16) .
يقول الدكتور محمد محمد حسين :
( وكان هؤلاء المبعوثين الذين أرسل أكثرهم إلى فرنسا يقرؤون الكتب الفرنسية ويشاهدون الحياة الفرنسية في أحفل العصور بالصراع الفكري الذي يصحب الثورات وكانت فرنسا تعيش في أعقاب الثورة الفرنسية وما صاحبها وتلاها من قلق فكري وروحي لم يبلغ نهاية مداه , وقد احتل هؤلاء المبعوثين من بعد مكان الصدارة والقيادة في مختلف الميادين )(17)(5/92)
ولو أن الأمر وقف عند حد احتلال هؤلاء مناصب الوزارة والقيادة لهان الأمر شيئاً ما ولكن الأمر كان أعظم رُزءاً وأجل كارثة , فقد كان المجلس الذي أشرف على التعليم أيام محمد علي من الأجانب والأرمن ومن المصريين الذين أتموا دراستهم في الخارج .
وقد ذكر الأستاذ محمد عبد الغني حسن من أسماء أعضاء المجلس الأسماء الآتية : ( كلوت بك – كياني بك – وأرتين أفندي – واسطفان أفندي - ورفاعة الطهطاوي – وبيومي أفندي – وفارين- وحكاكيان- ولامبر- وهامون- ودوزول )
إن , هذا الخبر التاريخي المثير ليكشف لنا عن خبئ كان يتوارى خلف الابتعاث , ولو أننا درسنا حياة رفاعة ومؤلفاته لتبين لنا – مع الأسف الشديد – أن أعداءنا قد وصلوا إلى كثير مما يريدون . فالرجل كان معجباً غاية الإعجاب بحياة القوم , ورجع يمجد لأول مرة الفراعنة الكفار , ويذكرهم كما يذكر الرجل أبطاله وصانعي مجده , مع أن المسلمين في أقطار الدنيا كافة كانوا ولا يزالون يسمون عهد ما قبل الإسلام بالجاهلية . وإذا كان هذا حال الرجل الأزهري المعمم الذي أوفد ليكون إماماً للطلبة ومرشداً لهم . فما بالك بالآخرين الذين كانوا معه ؟؟؟؟ .
ونستطيع – كما يقول الدكتور صديقنا محمد محمد حسين – أن نجد فيما كتبه رفاعة صدى لتفكير القرن الثامن عشر في أوروبا وفي فرنسا الثائرة بوجه خاص ... أن نجد آراء تظهر للمرة الأولى في المجتمع الإسلامي .
* للمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوربا الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض يراد اتخاذها وحدة وجودية يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر ليكونا وحدة متكاملة ذات شخصية مستقلة تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين .
* وللمرة الأولى نجد اهتماماً بالتاريخ القديم يوجه لتدعيم هذا المفهوم الوطني الجديد .
* ولأول مرة تنقل إلى المسلمين النظريات الثورية .
* ولأول مرة نرى عرضاً للنظم الاقتصادية الغربية التي تقوم على المصارف والشركات .
*ولأول مرة نرى كلاماً عن المرأة ليس من شك في أنه من وحي الحياة الاجتماعية الأوروبية مثل إنكار تعدد الزوجات , والمطالبة بتحديد الطلاق والمطالبة باختلاط الجنسين .
***
ويبدو أن الحدة في الابتعاث كادت تهدأ , وذلك عندما قامت حركة نشيطة في نقل العلوم التجريبية والتطبيقية إلى اللغة العربية غير أن أقوى آثمة خائنة أوقفت هذه الحركة ودعت إلى الابتعاث .
يقول الأستاذ محمود محمد شاكر : (... فإن كثيراً من الكتب قد ترجم يومئذ إلى العربية في أنواع العلوم كالطب والهندسة والرياضيات والعلوم الحربية , وطبع أيضاً بمصر طباعة جديدة , ولكن يظهر أن القناصل خوفوا هذا الطاغية الجريء عقى تيسير العلوم لطلابها من أبناء مصر , ينشرها بلسانهم , وزينوا له أن يقتصر على البعثات التي تدرس في الخارج )(18)
آثار الابتعاث ونتائجه
لاشك في أن للابتعاث وجهاً إيجابياً , غير أننا ههنا نودُّ أن نذكر آثاره السلبية ونتائجه الوخيمة لنحذر وننذر أقوامنا من مغبة التساهل في هذا الأمر .
ونقرر في الوقت ذاته أن أثمن ما لدى القوم هو ذاك المنهج التجريبي الذي أورثهم هذه الحضارة العظيمة والمهارات اليدوية والفنية . وما المنهج التجريبي في ذاته إلا هدية الحضارة الإسلامية إلى العالم ... يجب أن يتذكر أبناؤنا أن أسلافهم المسلمين هم الذين استخدموا هذا المنهج وعلموه الناس , وأن الحضارة الإسلامية انتقلت إلى أوروبا عن طريق ثلاث :
1. اتصال الأوروبيين بالمسلمين في الأندلس وصقلية .
2. التجارة .
3. الحروب الصليبية .
ونود أن نورد فيما يلي أهم آثار الابتعاث من الناحية السلبية : إن من آثار الابتعاث والاستسلام له والمبالغة فيه تأكيد العبودية للغرب التي أرادوها في بادئ الأمر , وتحققت لهم في نفر من المبعوثين . إن اله عز وجل حرم علينا مطلقاً التبعية للكفار , وحظر علينا أن نكون ذيولاًَ لغيرنا , والاستسلام لفكرة الابتعاث والمضي فيها إلى أبعد مدى يؤثر مثل هذا التأثير الهدام , ومن أجل ذلك وجب علينا أن نحول دون وقوع هذه الكارثة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا . قال تعالى [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ] آل عمران 110 . وقال : [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ] البقرة 143 . وأمرنا عز وجل أن ندعوه في صلاتنا مرات ومرات أن يهدينا صراطاً متميزاً بأنه صراط الذين أنعم عليهم غير صراط اليهود وغير صراط النصارى (19).
فلا بد من أن يكون الابتعاث بشروطه إجراء مؤقتاً , لاسيما وقد مضى علينا أكثر من قرن ونصف ونحن على اتصال بالحضارة الغربية وأصولها , وقد كان هذا كافياً لو كانت الخطة محكمة . ويجب أن تكون سياسة الابتعاث في نطاق ضيق وأن يستعاض عن ذلك بالزيارات العلمية ذات الهدف المحدد .(5/93)
إن صفوة الأذكياء وخيرة الشباب من أبناء المسلمين يدرسون الثقافة العصرية في أوربا وأمريكا ويخوضون خلال ذلك في لجة الحضارة الغربية ويعيشون الانطلاق الأخلاقي والتحلل السلوكي , والنظرة المادية المسرفة والاتجاهات الإلحادية والسياسية من قومية واشتراكية وليبرالية فيرجع معظم دعاة متحمسين إلى تقليد الحضارة الغربية ونشر قيمها ومفاهيمها وتصوراتها .
بل رجع كثير منهم مشبعين بروح الغرب , يتنفسون برئة الغرب , ويفكرون بعقل الغرب ويرددون في بلادهم صدى أساتذتهم المستشرقين وينشرون أفكارهم ونظرياتهم بإيمان عميق وحماسة زائدة ولباقة وبلاغة وبيان , ومن هنا يكون خطر هؤلاء أعظم من خطر أساتذتهم .
والخطورة البالغة تكمن – كما سبق أن أشرنا – في أن يتسلم هؤلاء المبتعثون بعد عودتهم مسئوليات التوجيه والتربية والإعلام ...
إنهم عندئذ يسلخون أمتهم عن دينها وقوميتها , ويقومون بعملية مسخ لواقعها وقيمها ومثلها .
وإننا لنشاهد دائماً أن الإنسان يتأثر بالبلد الذي يدرس فيه ويحاول دائماً وأبداً أن ينقل ما رآه أثناء الدراسة إلى بلده , مع تفاوت بين هؤلاء الدارسين . تقول الكاتبة المسلمة الأمريكية مريم جميل في كتابها " الإسلام في مواجهة الغرب " :
( إن الحضارة الغربية بقوتها الاقتصادية والسياسية القائمة استطاعت أن تبسط نفوذها على العالم كله , ولما استطاعت الشعوب الآسيوية والأفريقية أخيراً أن تنصر في صراعها للحرية السياسية وتحررت من النير الأجنبي كانت حضارتها قد تحطمت قديماً إن قادة هذه الشعوب من غير استثناء تلقوا ثقافتهم في معاهد أوربا وأمريكا , وكانت هذه المعاهد وأساتذتها قد علموهم أن ينظروا إلى تراثهم الثقافي القومي بنظر الاحتقار والازدراء , وكانوا قد خضعوا عقلياً لفلسفات الحضارة المادية .
وهكذا فإن قادة آسيا وأفريقيا متفقون مع القادة الأوربيين والأمريكيين على أن الهدف الأسمى والمثل الأعلى للمجتمع البشري هو تقدمه عن طريق الصناعات الثقيلة ورفع مستوى الحياة المادية وتوسيع القوة الاقتصادية والسياسية ) (20).
والمثال القوي على ذلك الدكتور طه حسين , الذي رجع إلى مصر فآلت إليه قيادة فكرية للمجتمع , بسبب قيامه بالتدريس في الجامعة وتولية الوزارة , فقد كان عميد كلية الآداب بالقاهرة ومديراً عاماً للثقافة بوزارة المعارف ومستشاراً فنياً فيها وكان مديراً لجامعة الإسكندرية ثم وزيراً للمعارف (21) وبسبب الكتب الكثيرة التي ألفها وأذاعها بين الناس , ومما ضاعف خطره أسلوبه , ذاك الأسلوب الرائع المبين السهل البليغ , فقد نادى في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " بالأمور الآتية :
1. الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلافها .
فهو يقول :
( إن سبيل النهضة واضحة بينه مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء , وهي أن نسير سيرة الأوروبيين , ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً , ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها , حلوها ومرها , وما يحب منها وما يكره , وما يحمد منها وما يعاب )(22) .
يدعي في هذا الكتاب بأن صلة مصر إنما هي بأوربا لا بالشرق يقول :
( إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط , وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط ) .
وينعى على المصريين أن يروا أنفسهم شرقيين فيقول :
( فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون , وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي وحده , بل معناه العقلي والثقافي , فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي , وقد استطعت أن أفهم كثيراً من الغلط وأن أفسر كثيراً من الوهم ولكني لم أستطع قط – ولن أستطيع في يوم من الأيام – أن أفهم هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب ) .
2. وكذلك دعا الدكتور طه حسين إلى إقامة شؤون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين , أي دعا إلى قيام حكومة لا دينية , يقول في كتابه المذكور : ( وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول ) .
ويدعي : ( أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية , وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضاً قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق ) .
3. وكذلك دعا طه حسين إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ويقترح أن تكون الفصحى التي نزل بها القرآن لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية , عند أرباب النحل .(5/94)
يقول : ( وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون , وليست أقل من إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه , ولكنها تقبل من غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها , ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلاتها . فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى , واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر , والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث , والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع ) .
وهذا شيء خطير حقاً , وإن كان يخفى ضرره على كثير من الناس .
ويقول الدكتور محمد محمد حسين تعليقاً على هذا النص وكشفاً عن خبيئة :
( ومن هذا نرى أن المؤلف لا يرى بأساً من أن تتطور لغة الكتابة والأدب في العربية حتى يصبح الفرق بينها وبين عربية القرآن الكريم مثل الفرق بين الفرنسية واللاتينية) (23) ومثال آخر يصلح أن يكون برهاناً على ما يترك الابتعاث من تبعية للغرب في نفس بعض المبتعثين , وهو ما ذكره أستاذنا الدكتور الشيخ مصطفى السباعي عن تجربته مع واحد من هؤلاء التابعين , فقال :
( لما كنا طلاباً في نفس تخصص المادة في الفقه والأصول وتاريخ التشريع في كلية الشريعة وكان ذلك عام 1939 عينت مشيخة الأزهر في عهد الشيخ المراغي رحمه الله , الدكتور علي حسين عبد القادر أستاذاً لنا يدرس تاريخ التشريع الإسلامي , وكان قد أنهى دراسته في ألمانيا حديثاً , وهو مجاز من كلية أصول الدين ومكث في ألمانيا أربع سنوات حتى أخذ شهادة الدكتوراه ...
وكان أول درس تلقيناه عنه أن بدأه بمثل هذا الكلام :
( إني سأدرس لكم تاريخ التشريع الإسلامي , ولكن على طريقة علمية لا عهد للأزهر بها , وإني أعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عاماً فلم أفهم الإسلام , ولكنني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا ) .
فعجبتا _نحن الطلاب _ من مثل هذا القول , وقلنا فيما بيننا : لنسمع إلى أستاذنا لعله حقاً قد علم شيئاً جديراً بأن نعلمه عن الإسلام مما لا عهد للأزهر به . وابتدأ درسه عن تاريخ السنة النبوية ترجمة حرفية عن كتاب ضخم بين يديه , علمن فيما بعد أنه كتاب جولد تسهير " دراسات إسلامية " وكان أستاذنا ينقل عباراته ويتبناها على أنها حقيقة علمية , واستمر في دروسه , نناقشه فيما يبدو لنا – نحن الطلاب – أنه غير صحيح ، فكان يأبى أن يخالف جولد تسهير بشيء مما ورد في هذا الكتاب)(24) .
* ومن أخطر الآثار أن يعود المبعوث يحقق أغراض أعداء الأمة , فمن المعلوم _ كما أشرنا _ أن حاجة المسلمين إلى العلوم التطبيقية حاجة ماسة , ومع ذلك فإن السيد أحمد خان (المولود 1232 _ 1817 والمتوفي سنة 1315 _ 1898) – وهو نموذج من المبتعثين _ كان يعارض في إنشاء دراسات علمية تجريبية في الجامعة التي أنشأها في الهند , وهو من الذين قضوا حقبة في بلاد الانكليز , وهو كما يقول الأستاذ الندوي : ( أول مسلم هندي سافر إلى الجزائر البريطانية في هذا العهد المبكر )(25) وقد عاد وهو من أشد الناس حماسة للدعوة للأخذ بالحضارة الغربية خيرها وشرها .
قال من مقال نشره في " مجلة عليكرة " في تاريخ 19 فبراير سنة 1898 :
( إن الهند نظراً إلى حالتها الراهنة ليست في حاجة إلى تعليم الصنائع , إن الأهم المقدم هو الثقافة الفكرية من المستوى الأعلى ) (26)
وقد عارض أن يكون مشروع تعليم العلوم الصناعية على حساب تعليم الآداب الإنجليزية والدراسات الأدبية .
* ومن أخطر الآثار الانحراف العقيدي والانهيار الخلقي , اللذان يصاب بهما كثير من أبناء الطلبة , ذلك لأن عوامل الإفساد والإغراء , والتشكيك والإغواء التي يتعرضون لها قد تتغلب على عناصر المقاومة التي تكون لدى بعضهم , فالانطلاق من جو مجتمع مغلق إلى جو مجتمع مفتوح يحدث هزة عنيفة لا يمكن أن تتجاهل .
وهناك سببان رئيسيان للانحراف هما : الناحية الفكرية والناحية الخلقية :
فالطالب الناشئ يذهب إلى مجتمع يقوم نظام الحياة فيه على أساس تنحية الدين جانباً والتحلل من قيوده , ويرى في هذا المجتمع ما يبهره من مظاهر التقدم والنظام , فيكون ف حالة نفسية تؤهله لقبول الشبهات , وتُلقى إليها الشكوك بشكل مدروس منظم , ويكون هناك وحيداً يعيش بعيداً عن جماعة المسلمين , فلا يتاح له أن يؤدي الصلوات في جوها المؤثر , ولا أن يحضر موسم العبادة العظيم في شهر رمضان , مما يسهل على الكائدين إيقاع الانحراف عليه .
وهناك الناحية الخلقية التي قد تكون أشد ظهوراً بالنسبة إلى الطلاب المسلمين في ديار الغرب , إذ ينتقل هذا الشاب من بلاد درج الناس فيها على سلوك معين , وأعراف خاصة , فمن ذلك أن المرأة المحترمة لا تكون إلا أما أو أختاً أو بنتاً أو زوجة أو امرأة أجنبية عفيفة صينة . ويسافر الفتى وهو في ذروة التهاب الغريزة الجنسية .ويذهب إلى مجتمع لا يلتزم ذاك السلوك , ولا يعترف بهاتيك الأعراف , ويلقى المرأة فيه متاحاً مباحاً لمن شاء من الناس , ولا يرى كثير من الناس هناك في ذلك شيئاً كبيراً .(5/95)
وليس هناك فتنة أضر على الرجال من النساء كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم .
هذان هما السببان الرئيسيان في الانحراف .
* ومن الآثار الخطيرة تخلف المبتعث في لغته الأم , وقد يكون تخلفه هذا سبباً يدعوه إلى أن يقف مسيئة للغته وأمته , فيؤكد _ مثلا _ بقاء تدريس العلوم التجريبية والتطبيقية باللغة الأجنبية , وذلك ليغطي عجزه وليؤدي العمل المطلوب منه بأسهل سبيل وأقل جهد .
* ومن الآثار الخطيرة أن يعود بعض هؤلاء العابثين جهلة فارغين , وهم يحملون شهادات , ولكنهم لم يستطيعوا التفرغ لطلب العلم لأنهم كانوا عنه في شغل ... هذا ، إذا عادوا ... وإن لم يعودوا فالأمر معروفة خسارته .
------------
ملاحظة لا بد منها :
إن هذا حال معظم الراحلين إلى ديار الغرب من أبناء المسلمين , وليس هذا الحكم كلياً مطرداً ينسحب على كل مبعوث وراحل , بل لقد رأيت في رحلتي الأخيرة إلى أوروبا شباباً يحقر المرء نفسه واجتهاده في العبادة إذا قاس نفسه إليهم , لقد رأيتهم شباباً صالحين يندر وجودهم في هذا العصر صلاحاً وديناً وتقوى وابتعاداً عن المحرمات .
ورأيت هناك زوجات هؤلاء الشباب فتيات مسلمات محافظات على الحجاب وقراءة القرآن وحضور مجالس العلم الديني , وهن يصلحن أن يكنَّ مثالاً وقدوة صالحة للنساء في عصرنا هذا .
ولكن عدد هؤلاء بالنسبة إلى مجموع الطلاب المبتعثين عدد قليل يجعلهم شواذ , والشاذ يؤيد القاعدة ولا يخرقها .
يتلخص لنا من هذا البحث , أن الابتعاث إلى ديار الغرب ظاهرة رافقت تخلف المسلمين وتقدم الكفار , في مجال المادة والعلوم التجريبية , وأن الابتعاث شجعته أيد أثيمة استغلت دوافعه السليمة البناءة , وأصرت أن يستمر حتى بعد مرور ما يزيد على قرن ونصف من الزمان , لأنها رأت آثاره الهدامة الخطيرة التي تفتك بالأمة وكيانها وكرامتها .
وقد ألممنا بنبذة تاريخية سريعة , وعرضنا لبعض النماذج التي انهزمت أمام حضارة الغرب , فعادت معولا يهدم في بناء أمتها ويقوض صرح كرامتها , وقررنا أن آثاره اعتقادية وخلقية وعلمية وسياسية , وضربنا على ذلك بعض الأمثلة , وأشرنا خلال البحث إلى بعض المشكلات وما نراه في حلها .
المقترحات
إزاء هذه المخاطر الجمة نرى ما يلي :
1. لا ابتعاث إلا عند الضرورة , ويمنع الابتعاث في علوم الدين واللغة إلى ديار الكفار , ويقتصر على ما تدعو إليه الضرورة في العلوم التجريبية والتطبيقية .
2. لا ابتعاث إلا بعد الماجستير .
3. انتقاء الطالب المراد ابتعاثه .
4. تعريف الطالب المبتعث بدينه وتسليحه بسلاح العلم , وإظهار عوار الديانات الأخرى , والأنظمة السياسية القائمة على أساس غير الإسلام .
5. تعريف الطالب بالمشكلات التي سيواجهها عند السفر , مثل أنواع الأطعمة والأشربة المحرمة وما إلى ذلك .
6. مساعدة الطلاب في اختيار الجامعات الجيدة .
7. إرسالهم إلى البلاد التي فيهم تنظيمات طلابية إسلامية وتعريفهم بها وربطهم بعناصرها .
8. إلزام الطالب المبتعث بأن يكون متزوجاً , وأن تكون زوجته معه ,
وإذا استطاعت الدول الإسلامية بما آتاها الله من إمكانات مادية , وأن تأتي بالطاقات العلمية إلى بلدها , وتكون الدراسة هنا في بلاد المسلمين , فإن ذلك أفضل وأكمل .
وينبغي أن نقتنع بأن هذا الابتعاث إجراء مؤقت حتى تقوم في دنيا المسلمين دراسات عليا أصلية , ويمكن لنا إذا قامت مثل هذه الدراسات , أن نستعيض بالزيارات العلمية على الدراسة الطويلة , فيطلع الزائرون _ بين حين وآخر _ على ما جدَّ من العلوم والمخترعات .
كلمة أخيرة :
أيها السادة إن مؤتمركم يناقش موضوعاً من أخطر موضوعات الإسلام في هذا العصر , وهو موضوع الدعوة إلى الله , ولقد سبق أعداؤنا إلى مؤتمرات عدة للكيد للإسلام فإن أنتم كنتم على مستوى الحاجة , وخرجتم بتوصيات جادة , تأخذ طريقها إلى التنفيذ , أحسنتم لأنفسكم وأمتكم وإلا فإني أخشى أن يكون ضرر هذا المؤتمر أكبر من نفعه .
فلنتصور عظم هذه المسؤولية التي نتصدى لحملها , ولنعِ حقيقة موقفنا في عصرنا , ولنتذكر أن لنا وقفة بين يدي الله يحاسب كلا منا عن عمله ماذا عمل فيه .
وأسأل الله أن يوفقكم ويسدد خطواتكم على طريق الحق وينفع بكم إنه سبحانه سميه مجيب . والحمد لله رب العالمين .
محمد بن لطفي الصباغ
==============
جلسة مع مغترب
د.محمد بن عبدالرحمن العريفي
من هو المغترب ؟
إنه مسلم أقام في بلاد الكفار .. ألقى فيها رحله .. استقر في جنباتها .. بعدما عصفت به الرياح .. وضاقت به الأرض .. ففارق الأهل والأوطان .. وسكن في شاسع البلدان .. وهو في شرق الأرض .. وأخوه في غربها .. وأخته في شمالها .. وابنه في جنوبها .. أما ابن عمه فقد انقطعت عنه أخباره فلا يدري إذا ذكره .. هل يقول : حفظه الله ! أم يقول : رحمه الله ؟!!
المغتربون كل واحد منهم له قصة .. وكل أبٍ كسير في صدره مأساة .. وفي وجه كل واحد منهم حكاية .. ولعلنا نقف في هذا الكتاب على شيء من واقعهم .. ونجلس معهم .. نفيدهم ونستفيد منهم ..
د / محمد بن عبدالرحمن العريفي
عضو لجنة أوربا في مؤسسة الحرمين الخيرية(5/96)
ص.ب : 151597 - الرياض : 11775
البريد الألكتروني : areefe@usa.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
حدثني الشيخ فقال :
كنت في بلد أوربي يكثر فيه المغتربون من اللاجئين المسلمين الذي سكنوا في هذه البلاد طلباً لحياة أفضل ، وبعدما انتهيت من صلاة التراويح وإلقاء المحاضرة بعدها ، جاء إلىّ أحد الأخوة الكرام وقال :
يا شيخ أحد الأخوة العرب سمع عن مجيئك إلى هنا للدعوة فأحب أن تقابل ابنه !! فتعجبت وقلت : أقابل ابنه ؟!!
لماذا لا أقابله هو ؟! ولماذا لا يأتي إليّ ويطلب ذلك بنفسه ؟
فقال : هو لا يصلي معنا ، ولكن ولده يشكو من مشكلة ، ويريدك أن تشارك في حلها ..
فركبت مع هذا الأخ في سيارته وذهبنا إلى هناك .. فلما دخلنا فإذا بشيخ قد ناهز الستين سنه من عمره ، طُرّد فيها وشُرّد ، وعُذّب وسجن ، ثم استقر به المقام مع فلذات كبده في بلاد الكافرين ، فعاش فيها آمناً مطمئناً يأتيه رزقه رغداً من كل مكان ، سلم عليّ بحرارة ثم أدخلني إلى غرفة الجلوس ..
وبعدها حدثني بطرف من قصة حياته المؤلمة وكيف أنه أتى إلى هذه البلاد طلباً لراحة البال في زمن الشيخوخة بعد شقاء الشباب وعذابه !! قلت له : وهل وجدت راحة البال ؟
قال : فيما يظهر للناس : نعم بيت واسع .. وسيارة فارهة .. وراتب مجزي .. ولا عمل ولا نصب .. ولا كدح ولا تعب .. ولا تشريد ولا خوف ..
كل من رآني ظن أنني مرتاح البال وتمنى لو أنه في مكاني ، ولكن الحقيقة هي أنني أتعس الناس !!
لا أحكم أولادي ولا بناتي !! .. ولا أحكم زوجتي !!
بل لا أشعر أنني رجل له شخصيته ومسئوليته .. حياتي رتيبة جداً ! بل مملة جداً .. أشعر كأنني آلة أو جهاز ينتظر صانعه أن تنتهي مدة صلاحيته ليستبدله بغيره ..
ثم تدارك هذا الشيخ الكبير نفسه وقال : عفواً يا شيخ !! أنا لم أطلب مقابلتك لأجل أن أبث إليك هذه الهموم ، فهي أكبر من أن يحويها مجلس واحد .. وإنما أردت مقابلتك لأجل مشكلة لأصغر أولادي ..
أصغر أولادي - يا شيخ - عمره تسع عشرة سنة ، وقد جاء إلى هذه البلاد وعمره خمس سنوات ، درس في مدارس هذه البلاد .. وخالط أهلها في مدارسهم .. وأسواقهم .. وبيوتهم .. وملاعبهم .. و .. ولم أكن أمنعه من شيء ، بل لم أكن أتدخل في حياته !! لأن التربية الحديثة تقرر ذلك .. وإن شئت فقل إنني لم أكن أستطع أن أمنعه من شيء !! سواء كان محرماً .. أو فاحشة .. أو غير ذلك !! لأنه يستطيع أن يتسبب في سجني أو معاقبتي لو أخبر الشرطة بذلك .. لن أطيل عليك : ولدي منذ فترة طويلة لا يصلي .. ولا يصوم .. بل هو غير مقتنع بالدين أصلاً .. كل الأديان يعتبرها ظلماً للعباد !! .. وفي الفترة الأخيرة بدأ يتضايق كثيراً .. ويعتزل في غرفته ، ولا يخالطنا ، بل صار في كل صباح يحلق رأسه بالموسى .. وله تقليعات غريبة !..
هل يمكن أن أدعوه لك لتقابله ؟ فلعل الله أن يصلح حاله على يدك ..
قلت : لا مانع من ذلك ..
فصاح الأب الشفيق : محمد .. يا محمد ..
وبعد لحظات .. دخل علينا محمد .. شاب قد امتلأ حيوية ونشاطاً .. لعبت به الشهوات كما لعب بها .. مدّ يده إلي وقال السلام عليكم ! وعليكم السلام ، كيف حالك يا محمد ؟ ..
تدخل الأب وقال : يا محمد هذا الشيخ أتى ليناقشك في الأفكار التي تثيرها دائماً عندي ، يا ولدي أنت مسلم .. يا ولدي حرام عليك .. يا ولدي .. ثم بكى الشيخ .. واشتد بكاؤه .. وصمت ..
فقلت لمحمد : ذكر أبوك أن عندك بعض الأسئلة الدينية ، هل يمكن أن أسمعها ؟ .. ولكن - عفواً - قبل أن تذكرها .. هل تفهم اللغة العربية جيداً ( 1 ) ..
فقال أفهم كثيراً منها ، ولكن لا تتكلم معي بالفصحى .
فقلت له : في البداية يا محمد : هل أنت مقتنع بأن الله موجود ؟!
فقال : شو يعني مقتنع ؟!!
فقلت له : يعني : هل أنت مؤمن أن الله موجود ؟!
فقال : شو يعني مؤمن ؟!!
فقلت له : do you believe Allah
فقال : أوه !! نعم .. نعم ..
فقلت : إن الله خلقنا ورزقنا وأمرنا بعبادته ، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين ..و ..
وطال النقاش ولم يقتنع بأن الله تعالى رب حكم عدل يستحق الطاعة والعبادة .. فلما رأيت ذلك ..
قلت له : أريد أن أسمع منك سورة الفاتحة ( الحمد لله رب العالمين ) ..
فلما أراد أن يقرأها التبست عليه !! .. وإذا هولا يحفظ قصار السور ..
فقلت له اقترب واجلس بجانبي ، فلما جلس بجانبي وضعت يدي على صدره وقرأت عليه سورة الفاتحة ثلاث مرات .. فبدأت الدموع تسيل من عينه ، فأوقفت القراءة ..
وسألته : لماذا تبكي ؟!
فقال بصوت يقطعه البكاء : لا أدري .. لا أدري ..(5/97)
فوضعت يدي على صدره وتلوت : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ(22)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الحشر:21– 23
وقوله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } سورة البقرة :164
وقوله : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9)وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10)ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } فصلت : 9 – 12 .
وغيرها من الآيات التي فيها تعظيم وإجلال لله تعالى .. وكان الشاب يبكي بحرارة مع سماعه لهذه الآيات ، بل كان يتقطع بكاءً .. حتى إنني بعدما انتهيت من التلاوة حاولت إكمال النقاش معه فلم يستطع أن يتكلم بكلمة ..
فأمسكت يده وحاولت إيقافه على قدميه .. وقلت : قم صلّ ركعتين ، وابدأ حياة جديدة ..
فقام ذليلاً بين يدي خالقه ومولاه .. الذي سواه فعدله .. الذي خلقه فهو يهديه .. والذي هو يطعمه ويسقيه .. وإذا مرض فهو يشفيه .. والذي يميته ثم يحييه ..
قام بين يدي الملك جل جلاله .. وبكى .. وبكى .. فالقطيعة بينه وبين ربه قد طالت سنوات .. وبعد الصلاة وعدني أن لا يغيب عن صلاة التراويح مع الجماعة ، وحضور المحاضرات .. وكان ذلك ولله الحمد ..
هذا هو الشاب الأول ..
أما الثاني :
فهو أخ لأحد المصلين المحافظين على الصلاة معنا في المركز الإسلامي ، جاء إلى وطلب مني مقابلة أخيه الذي لا يصلي ولا يصوم ولا يتعبد لله تعالى بشيء أبداً ..
ذهبت مع هذا الأخ فلما دخلت البيت ، أجلسني في غرفة الاستقبال ، ثم صاح : محمد .. يا محمد .. هذا اسم أخيه .. شاب عمره ثمان عشرة سنة ..
جاء محمد وصافحني بلطف ثم جلس .. فقال أخوه : هذا يا محمد شيخ داعية زارنا في هذا البلد وأحب التعرف عليك !!
ردّ محمد بلطف : أهلاً وسهلاً ..
بدأت الحديث معه عن الحياة وسبب خلقنا .. وما يستحقه الله تعالى من العبادة والطاعة .. وأن هؤلاء الكفار في ظلال مبين .. وأن السعادة الحقيقة في هذا الدين ..
ثم تكلمت – بصراحة – عن المخالفات المنتشرة بين شباب المسلمين في هذه البلاد .. وعقوبة تارك الصلاة .. و ..
وبدا الفتى غير مكترث بكلامي ولا مبالٍ به .. رغم تكلفي التلطف وتزيين العبارات بالود والتبسم .. لكنه بدا غير جاد في تفهم ما أقول ..
قلت له : يا محمد ، أريد أن أسمع منك سورة الفاتحة ( الحمد لله رب العالمين ) ..
فابتدأ في قراءتها فأخطأ وصوبته .. ثم أخطأ وصوبته .. ثم أخطأ وصوبته .. فسكت !! نعم لا يحفظ سورة الفاتحة !!
قلت له : نحن نحبك .. ونحب لك الخير .. و .. وأريدك أن تأتي معنا لتصلي مع المسلمين ، وتحضر المحاضرة بعد صلاة التراويح ..
وبعد تمنع شديد منه وافق على ذلك ، وأتى معنا .. وصلى التراويح وحضر الموعظة ..
ثم خرج ولم أره بعدها .. فسألت عنه أخاه ؟!
فقال : يا شيخ !! أخي يقول إن الساعة التي قضاها في المسجد كأنها عشر سنوات .. ملل ..
فقلت : لا حول ولا قوة إلا بالله .. ثم دعوت له بالهداية ، وسكتّ ..
أما الثالث :
فقد كنت في ( السويد ) وهي بلد يكثر فيه اللاجئون وبعد صلاة التراويح والمحاضرة ( وكانت باللغة العربية ) جاء إليّ أحد الأخوة العرب وقال:هنا بعض الشباب السويديين المسلمين يريدون الجلوس معك ..وكانوا متحلقين في المسجد ينتظرون ..
فاستدعيت أحد الأخوة ليترجم بيني وبينهم .. وجلست وبدأتُ الحديث عن نعمة الهداية لهذا الدين وأهمية الثبات عليه ..
وهذا الأخ يترجم من العربية إلى الإنجليزية ..(5/98)
وفجأة نادي أحد المصلين باسم هذا المترجم فقام إليه وتركنا .. فسكتّ أنتظر رجوع المترجم لأكمل الحديث .. فطال تأخره وطال سكوتي وسكوتهم ..
وفجأة نطق أحد هؤلاء بلغة عربية مكسرة قائلاً : يا شيخ ، أنا أستتيع أن أترشم كليلاً !! ( 2 ) ..
فعجبت منه وقلت : هل تفهم اللغة العربية ؟!
فقال : أنا عربي فلسطيني !! أمي وأبي فلسطينيان !! لكني مولود في هذا البلد ، وجنسيتي سويدي .. ومنذ ولادتي لم يحرص والداي على تعليمي اللغة العربية ، لكني أفهم قليلاً .. ( قال هذا الكلام بلغة عربية مكسرة مخلوطة بعبارات إنجليزية ) ..
هذا طرف من أحوال أبنائنا من شباب المسلمين في ديار الهجرة .. هذا فضلاً عن أولئك الشباب الذين يجرون وراء شهواتهم ونزواتهم ، ولم يوفقوا إلى الهداية والتوبة ..
وكلامي هذا ليس فقط عن الشباب بل والفتيات أيضاً .. هؤلاء أبناؤنا وبناتنا ..
أما أحوال الآباء فهي أنكى وأشد ..
قال الشيخ :
جاء إلىّ منكسراً ذليلاً .. وقال : يا شيخ !! مللت من هذه الحياة !! كنت أسكن في بلد من بلاد المسلمين .. أسمع الأذان .. وأشهد الصلوات .. وأذكر الله مع الذاكرين .. وأركع مع الراكعين .. ولا أرى صليباً ولا كنيسة ..
نعم كنت في عيش قليل لا أملك الأرصدة والأموال .. ولا شقة فاخرة .. ولا يعالجني مستشفى متطور .. لكنني كنت ملكاً متمكناً .. أتربع على عرش منزلي الصغير .. وأولادي وزوجتي حولي كأننا قمر حوله كواكب ..
بالأمس كنا ولا يرجى تفرقنا *** واليوم صرنا ولا يرجى تلاقينا
كنت أعلم أين يذهب ولدي .. ومع من تجلس ابنتي .. ومن تقابل زوجتي ..
ثم زين لي بعض الأقارب أن آتي إلى هذا البلد المتطور الذي يعطيني الجنسية والراحة ، والأمن والرفاهية ، والراتب والعلاج .. و .. فانخدعت بذلك وجئت إلى السويد ..
قبلت الدولة لجوئي .. أسكنوني في شقة فاخرة .. درسوا أولادي في مدارس متطورة .. عشت الأيام الأولى وكأني في حلم جميل ..
نعم تبدل صوت الأذان .. بجلجلة النواقيس والصلبان .. الوجوه المتوضئة .. المشرقة المؤمنة .. تبدلت بوجوه عليها غبرة ترهقها قترة ..
لكن هذه الحياة الجديدة .. والراحة والدعة جعلتني أغفل عن هذه الأمور ..
مضت أيامي في هذه البلاد .. ومضت الشهور وبدأت أتنبه إلى هذا الواقع الفاسد .. أخاف على أولادي من حولي .. صرت كالجبان المختبئ من عدوه الذي يمسك أولاده عن يمينه وشماله خوفاً عليهم من القتل ..
وفي يوم من الأيام :
طرق باب المنزل طارق ، فلما فتحت الباب فإذا بفتاة شقراء !!
ما تريدين ؟!!
أنا صديقةُ ( موهمد ) في المدرسة ، وأريد أن أدخل عنده في غرفته !!
فزجرتها وطرتها .. وعاتبت ولجدي وناصحته ..
وبعد يومين ..
طرق باب المنزل طارق ، فلما فتحت الباب فإذا بشاب أشقر !!
ما تريد ؟!!
أنا صديق ( سارا ) في المدرسة ، وأريد أن أدخل عندها !! في غرفتها !!
فزجرته وطرته ..
وأعلنت حالة الطوارئ في البيت .. وأصدرت المراسيم والأنظمة :
ممنوع الاختلاط ..
ممنوع الذهاب إلى أي مكان غير المدرسة .. أو المسجد يوم الجمعة ..
ممنوع مقابلة الفتيات السويديات .. أو الشباب السويديين ..
ممنوع .. ممنوع ..
وأخذت أراقب تطبيق هذه الأنظمة بكل دقة ..
ومضت الأيام وأحسست بالراحة وأن الأزمة انقضت ..
حتى كانت الكارثة الكبرى !! ..
في يوم من الأيام خرجت لأشتري بعض الأغراض الخاصة للبيت .. وبعد خروجي بدقائق خرجت زوجتي وابنتي إلى مكتب الشرطة وقدمتا شكوى ضدي !! بأنني أكبت حريتهم .. ولا أحسن التعامل معهم .. وأمنع البنت من أصدقائها !! .. والولد من صديقاته !!.. الخ القائمة الطويلة ..
فثارت ثائرة العدالة ( !! ) على هذا الأب المتخلف .. كيف يحول بين الحبيب وحبيبة ؟! كيف يمنع الشباب والفتيات عن ملذاتهم ؟! .. كيف يقع هذا في بلاد الحرية والتطور ؟!..
فلما عدت إلى البيت .. متعباً .. محملاً بالأرزاق والأطعمة .. فإذا بالشرطة ينتظرونني !! فظننت أن البيت سرق في غيابي .. أو أن أولادي وفلذات كبدي تعرضوا لخطر ..
ألقيت ما في يدي وهرعت إلى البيت لأدخل فإذا برجال العدالة والشرف ( !! ) يوقفوني !!
أنت فلان ؟
نعم !! ماذا تريدون ؟!!
عندنا بلاغ ضدك !! تعال معنا ..
واقتادوني إلى التحقيق .. ثم المحكمة .. وحُكم عليَّ بالسجن ثلاث سنوات .. لأكون عبرة للمعتبرين ..
أما أولادي فقد أعطتهم العدالة ( !! ) منزلاً في غير المدينة التي سجنتُ فيها .. وصرفوا رواتب الأولاد باسم أمهم .. ولم يخبروني بعنوانهم .. ولم يسمحوا لي بالاتصال بهم .. ولا تسأل عن حالي اليوم ..
هذا الأب الأول .. أما الثاني :
فهي امرأة تسكن مع أولادها في شقتها في مدينة بالدنمرك ..
وفي يوم من الأيام وقع شجار بين ولديها الصغيرين ( 4 ، 6 سنوات ) فضربتهما .. فبكيا بصوت مرتفع ..
فلما سمع جارها الدنمركي ( الرحيم الشفيق ) بكاء الأطفال اتصل مباشرة بالشرطة !!
فجاءوا سراعاً وهجموا على الأم وخلصوا الأطفال من الظلم والكبت ( !! ) ..
أفٍ لهم !! يظنون أنهم أرحم بالأبناء من أمهم !!..(5/99)
وخلال ساعات تم ترحيل أحد الطفلين إلى مدينة في شمال الدانمرك ليتربى في كنف عائلة دنمركية ليس لديها أولاد ..
أما الآخر فأُرسل إلى عائلة في النرويج .. !! هذا خبر الطفلين ..
أما الأم فبقيت تتجرع آلام الحسرة والفراق .. في أرض العدالة والحرية والرفاهية ( !! ) ..
أيها الأخ المغترب :
كل واحد من المغتربين له قصة ..
وكل أبٍ كسير في صدره مأساة ..
وفي وجه كل واحد منهم حكاية .. فما هو الحل ؟! ..
هل الحل هو أن تستسلموا للواقع المرّ ؟ .. أم تحاولوا الإصلاح والحفاظ على دينكم وأولادكم بقدر المستطاع .. حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً ..
من خلال واقع الأخوة المغتربين سواء في أمريكيا أو كندا أو استراليا أو بريطانيا أو فرنسا أو الدول الاسكندنافية أو غيرها .. أستطيع أن أخرج بهذه الوصايا ، التي أرجو أن يكون حال من التزم بها أحسن من غيره :
الوصية الأولى :
اعلم أن الكفار أعداء لا يمكن أن ينقلبوا أصدقاء محبين للمسلمين .. أبداً .. مهما أظهروا من العدل والحب والحفاوة فهم أعداء ، ولا يرضيهم منك إلا الكفر .. { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ..
{ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } ..
نعم .. والله ..
فإذا كفرت – حماك الله من ذلك – أحبوك بعض الشيء .. لأنهم يفرقون بين الكافر الذي من جلدتهم وبين من دخل في دينهم من غيرهم ..
قد تقول لي : هم يستقبلوننا ويرحبون بنا ويعاملوننا معاملة حسنة .. ويعطوننا الأموال ويوفرون لنا الراحة ..
فأقول لك : إنهم يفعلون ذلك لمصالح يحصلون عليها منكم .. فهم باستقبالهم لك يربحون مكاسب كثيرة ، إن لم يربحوها كلها ربحوا بعضها ، هم باستقبالهم لك يكثرون عدد سكان بلادهم ، وبالتالي يزيد اقتصادهم وتتطور دولتهم .. هم بك يكثرون عدد العمال والموظفين ويحافظون على عدد السكان لا يتناقص .. لأن بني جلدتهم لا يتكاثرون ولا يحرصون على الإنجاب .. بل يكتفي أحدهم بعشيقة يتمتع بها حتى يموت دون أن يرزق بأولاد .. أو إن أراد أولاداً اكتفى بطفل أو اثنين على الأكثر .. فتجد أن كبار السن عندهم أكثر من الشباب .. وهم يخططون للمدى البعيد ، ويشهد لذلك تقرير نشر قريباً من إدارة الهجرة في أمريكا يصرّح بأن أمريكا لا بدّ أن تستقبل عشرين مليون مهاجر سنوياً لتحافظ على توازن البلد في السنوات القادمة .. فهم ما قبلوا لجوءك رحمة بك وإحساناً إليك .. كلا .. بل يستفيدون منك ..
وإن لم يستفيدوا منك أنت لأن فيك بقية إسلام وقد تعارض بعض ما يخالف الشريعة .. وقد يزعجهم حرصك على صلاتك وعبادتك .. استفادوا من أولادك .. فإن كان في أولادك تربية إسلامية فلم يستفيدوا منهم .. استفادوا من أولاد أولادك .. الذين ولدوا عندهم وتطبعوا بطباعهم وحملوا جنسياتهم ..
هل تعلم أن دولة البرازيل دخلها خلال الخمسين سنة الماضية مليون مسلم ، تنصر منهم إلى الآن نصف مليون !!
{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } ..{ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } .. { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ }.. مع أن غايتهم الكبرى هي أن تتخلى عن إسلامك .. أما اعتناقك للنصرانية فهو أمر ثانوي بالنسبة لهم بدليل أنهم هم أنفسهم غير متمسكين بالنصرانية تمسكاً تاماً ..
وتأمل معي :
كم يُقتل من المسلمين بأيدي النصارى في بقاع كثيرة !! البوسنة .. كوسوفا .. الشيشان .. أريتريا .. السودان .. أندونيسيا ..
هل تظن أن النصارى هنا يختلفون عن النصارى هناك !!
إن الكفر ملة واحدة ..
ومن تأمل بدقة في هه البلاد التي تستقبل اللاجئين المسلمين وتحتفي بهم وجد أنها تغيبهم عن دينهم من خلال التعليم والوظيفة والاختلاط والنظام .. و .. ويدندنون في كل مكان : حرية .. !! .. Free والحرية والرذيلة – عندهم – وجهان لعملة واحدة .. ومن ظل متمسكاً بالأخلاق فهو رجعي متخلف !!..
الوصية الثانية :
اعتبر بقاءك في هذا البلد ليس دائماً ، نعم .. قرّر ذلك .. وأقنع به نفسك .. وزوجتك وأولادك .. بصرف النظر عن واقعيته ..
فهذا حريٌ بأن يجعل انتماءك وولاءك هو لبلاد الإسلام لا لبلاد الكفر .. وسوف يأتي يوم تعود فيه إلى بلاد الإسلام .. تسمع الأذان .. وتصلي مع المصلين ..
واقرأ هذه الفتوى بتمعن ، وهي من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – حفظه الله ( 3 ) – حيث سئل ( 4 ) :
س / ما حكم الإقامة في بلاد الكفار ؟
ج / الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم وأخلاقه وسلوكه وآدابه ، وقد شاهدنا وغيرُنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك ، فرجعوا بغير ما ذهبوا به ، رجعوا فسلقاً ، وبعضهم رجع مرتداً عن دينه وكافراً به وبسائر الأديان – وبعضهم بالله – حتى صاروا إلى الجحود المطلق ، والاستهزاء بالدين وأهله ، السابقين منهم واللاحقين .(5/100)
ولهذا : كان ينبغي – بل يتعين – التحفظ من ذلك ، ووضع الشروط التي تمنع من الهوى في تلك المهالك .
فالإقامة في بلاد الكفر لا بد فيها من شرطين أساسيين :
الشرط الأول :
أمن المقيم على دينه ، بحيث يكون عنده من العلم والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه ، والحذر من الانحراف والزيغ ، وأن يكون مضمراً لعداوة الكافرين وبغضهم ، مبتعداً عن موالاتهم ومحبتهم ، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان ، قال الله تعالى : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم } الآية وقال تعلى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } مثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (( أن من أحب قوماً فهو منهم )) ، (( وأن المرء مع من أحب )) ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم ؛ لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم ، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أحب قوماً فهو منهم )) .
الشرط الثاني :
أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع ، فلا يُمْنع من إقامة الصلاة ، والجمعة والجماعات ، إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة ، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج ، وغيرها من شعائر الدين .
فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة ، لوجوب الهجرة حينئذ ، قال في كتاب المغني ( 8/457 ) في الكلام على أقسام الناس في الهجرة : " أحدها : من تجب عليه : وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه ، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار ، فهذا تجب عليه الهجرة ، لقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " ازهـ .
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام :
القسم الأول :
أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه ، فهذا نوع من الجهاد ، فهي فرض كفاية على من قدر عليها ، بشرط أن تتحقق الدعوة ، وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها . لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين ، وهي طريقة المرسلين ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان ، فقال : (( بلغوا عني ولو آية )) ( 5 )
القسم الثاني :
أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين ، والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة ، وبطلان التعبد ، وانحلال الأخلاق ، وفوضوية السلوك ، ليحذر الناس من الاغترار بهم ، ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم .
وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضاً لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله ، المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه ؛ لأن فساد الكفر دليل دليل على صلاح الإسلام ، كما قيل : وبضدها تتبين الأشياء ، لكن لا بد من شرطِ أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه ، فإن لم يتحقق مراده بأن مُنع من نشر ما هم عليه والتحذير منه ، فلا فائدة من إقامته ، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم ، مثل : أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وأئمة الإسلام ، وجب الكفّ
لقوله تعالى : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
ويشبه هذا : أن يقيم في بلاد الكفار ليكون عيناً للمسلمين ليعرف ما يدبروه للمسلمين من المكايد ، فيحذرهم المسلمون ، كما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم .
القسم الثالث :
أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة ، وتنظيم علاقاتها مع دولة الكفر – كموظفي السفارات – فحكمها حكم من أقام من أجله .
فالملحق الثقافي مثلا يقيم فيرعى شئون الطلبة ، ويراقبهم ويحملهم على التزام الإسلام وأخلاقه وآدابه ، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة يندرءُ بها شر كبير .
القسم الرابع :(5/101)
أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج ، فتباح الإقامة بقدر الحاجة ، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة .
القسم الخامس :
أن يقيم للدراسة ، وهي من جنس ما قبلها – إقامة لحاجة – لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه ..
القسم السادس :
أن يقيم للسكن ، وهذا أخطر مما قبله وأعظم ؛ لما يترتب عليه من المفاسد : بالاختلاط التام بأهل الكفر ، وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية ، من مودة ، وموالاة ، وتكثير لسواد الكفار ، ويتربى أهلُه بين الكفر ، فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم ، وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد ، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( من جامع المشرك ، وسكن معه ، فإنه مثله )) ( 6 ) فإن المساكنة تدعوا إلى المشاركة ( 7 ) .
وعن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين )) قالوا : يا رسول الله ، ولم ؟! قال : (( لا تراءى نارهما )) رواه أبو داود والترمذي ، وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي : سمعت محمداً – يعني البخاري – يقول : الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل . ا.هـ .
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار !! تُعلن فيها شعائر الكفر ، ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله ، وهو يشاهد ذلك بعينيه ويسمعه بأذنيه ، ويرضى به !! بل ينتسب إلى تلك البلاد ، ويسكن فيها بأهله وأولاده ، ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين ، مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده ، في دينهم وأخلاقهم . ا.هـ .
الوصية الثالثة :
أهم ما ينبغي على المسلم أن يعتني به هو دينه ، فما قيمة المال والمسكن والوظيفة والمستشفى والعيش الرغيد في غير طاعة الملك المالك جل جلاله !!..
احرص على إقامة الشعائر أينما كنت .. ومن خصائص هذا الدين أنه دين ظاهر .. أينما أدركتك الصلاة فصلّ .. في السوق .. في المدرسة .. في العمل .. في المصنع .. ولا تخجل من ذلك { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } ..
قال الشيخ :
كنت في السويد فذهبت مع اثنين من الأخوة المقيمين المغتربين لزيارة متحف للكتب القديمة وبعض الآثار .. وبعدما دفعنا رسوم الدخول وأمضينا دقائق .. أدركنا وقت صلاة العصر ..
فقال أحدهما : يا شيخ هيا نخرج لنصلي ثم نعود ..
فسألته مستغرباً : لماذا لا نصلي هنا ؟!!
فقال : هاه !! نصلي أمامهم ؟!1 لا .. لا .. هذا صعب جداً .. جداً ..
قلت : لماذا صعب جداً .. جداً .. ؟!!
فقال : يا شيخ .. نصلي أمام السويديين ؟!!
قلت : نعم نصلي أمام السويديين .. ولماذا لا نصلي أمامهم ؟! ألست تراهم يقبل بعضهم بعضاً أمامنا .. ولا يستحون !! ويضم بعضهم بعضاً .. ولا يخجلون .. ويشربون الخمر في الشوارع .. ويكشفون عوراتهم .. ويرتكبون الأفعال المخلة بالحياء .. ويعتبرون ذلك حرية .. ونحن أحياناً ننظر إليهم ونحن معجبون بهذه الحرية !!
فلماذا لا نصلي أمامهم ونعتبرها حرية ؟!!
فوافق صاحبي على مضض ..
فأخذنا جانباً من هذا المتحف واتجهت إلى القبلة ووضعت أصبعي في أذني ..
فصاح بي صاحبي : يا شيخ !! ماذا تريد أن تفعل ؟!
فأجبته بهدوووء : سوف أؤذن ..
فقال – باضطراب شديد – : يا شيخ تؤذن هنا ؟!
قلت : نعم أليست حرية Free ..!! .. أليسوا يغنون في الشوارع والطرقات .. ويسمون ذلك Free .. !! .. سمّه أنت أيضاً : حرية Free ..!! ..
ثم أذنت وأقمت بصوت منخفض .. وصلينا .. وأكملنا زيارتنا ..
ورآنا الناس ونحن نصلي جماعة .. نكبر ونسبح .. ونركع ونسجد .. ولم يمسك بنا رجال الشرطة .. ولم يدفعونا غرامة .. ولم يقتادونا إلى السجن .. ولم تنطبق السماء على الأرض .. فلماذا يخجل بعض الأخوة من الصلاة أمام الناس .. في الحدائق والأماكن العامة .. بل إن بعض المسلمين يجمعون بين الصلاتين من غير عذر سفر ولا مرض بسبب أنهم يخجلون أن يقيموا الصلاة أمام الناس ..
أيها الأخ الحبيب : إن إظهار هذه الشعيرة وسيلة من أكبر الوسائل للدعوة إلى دين الإسلام .. { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ(45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } ..
ولا أنس أيضاً أن أذكرك أيها الرجل المبارك أن الشعائر الأخرى لا بدّ أن تظهر ، مثل : عدم مصافحة النساء .. ولا الخلوة بهن .. أسأل الله أن يحفظك عفيفاً .. ويصون دينك وإيمانك .. آمين .
الوصية الرابعة(5/102)
منزلك أخي المغترب هو مملكتك التي لا يكاد يزاحمك أحد عليها ، وسوف تسأل عن أفراد هذا المنزل يوم القيامة ، ومن أحسن التعامل مع أولاده وتنشئتهم تنشئة صالحة في صغرهم نفعوه في الدنيا والآخرة .. فأحسنوا إليه في حياته وحياتهم ببرّهم له .. وطاعتهم .. وعنايتهم .. وانتفع بهم بعد مماته بدعائهم واستغفارهم .. { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } .. وكان من دعاء زكريا عليه السلام أنه قال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } .. فلم يسأل ربه أي ذرية .. وإنما أراداها أن تكون ذرية طيبة .. لأن الذرية الفاسدة لا تزيدك إلا عنتاً ومشقة ..
وإليك بعض التوجيهات الهامة في ذلك :
• احرص على إقامة الصلوات في أوقاتها جماعة مع أولادك في المسجد ، فإن لم تتمكن من ذلك فاحرص على إقامتها في البيت في أوقاتها دون تأخير ولا تتساهل بغياب أحد من الأولاد عن صلاتها معكم جماعة ، وذلك في جميع الصلوات .
• احرص على الأذان لكل صلاة ، ولا بأس أن تعلق ورقة في المنزل فيها بيان لأوقات الصلوات ، وتجعل أحد الأولاد مسئولاً عن الأذان للصلاة ، بحيث يكون مكان الاجتماع للصلاة معروفاً غرفة محددة من غرفات البيت فيؤذن المؤذن فيها ويجتمع الباقون لإقامة الصلاة .
• لا بد أن يكون في البيت مكتبة ، ولو صغيرة ، فيها بعض القصص والأحكام الشرعية وغير ذلك ، من الكتب والأشرطة ، ولا تبخل بما تنفقه من مال في ذلك ، فإنه من النفقة في سبيل الله التي تؤجر عليها .
• احرص على أن لا يمر أسبوع إلا ويكون في المنزل درس ديني ، حيث يجتمع أفراد العائلة كلهم وتقرؤون شيئاً من كتاب رياض الصالحين أو التفسير أو غير ذلك ، وهذا مهم جداً في ربط العائلة بعضهم ببعض ، وحتى تحفكم الملائكة وتغشاكم الرحمة ويذكركم الله فيمن عنده ، ولا تتساهل في تغيبهم عن الدرس .
وهذه الدروس المنزلية طبعاً لا تغني عن حضور الدروس المقامة في المركز الإسلامي .
• إن اصطحابك لأولادك إلى المركز الإسلامي من وقت لآخر لحضور الصلوات والدروس العلمية فيه تقوية لإيمانهم ، وربط لهم بإخوانهم المسلمين ، وزرع الشعور بالعزة الإسلامية في نفوسهم .
• لا تتكلم مع أولادك إلا باللغة العربية ، وشدد الأمر في ذلك ، امنع أولادك من الكلام بغير اللغة العربية ، ومن تكلم بلغة المدرسة أو الشارع فعاقبه وكن حازماً في ذلك ، ولا تتسامح بكلمة ولا نصف كلمة .. هذا هام جداً .. جداً ..
الوصية الخامسة :
أولادك عجينة بين يديك تفعل ما تشاء ما داموا في سني الطفولة ، وليس لك عذر إن قصرت في شيء من تربيتهم في هذه المرحلة ، فاحرص على :
أن لا يبلغ ولدك سن الثالثة إلا وقد حفظته سورة الفاتحة ، فإذا أتقنها فحفظه قصار السور كسورة الإخلاص { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
فإذا بلغ خمس سنين فحفّظه ما بعد ذلك من السور ..
حتى إذا بلغ العاشرة من عمره فإذا به يحفظ ثلاثة أجزاء أو أربعة ..
وهذا قد يبدوا صعباً في البداية ولكن إذا تعود الابن على ذلك سهل عليه { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ }
سوف تتعب قليلاً ، ولكن هل تريد الجنة من غير تعب !!
قال صلى الله عليه وسلم : (( حُفّت الجنة بالمكاره ، وحُفّت النار بالشهوات )) ( 8 ) ..وأنت لا تدري متى ترحل من هذه الدنيا وتفارق أولادك .. فحفظهم القرآن ليبقوا لم ذخراً يثقّل ميزانك عند الله تعالى يوم القيامة ..
قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعوا له )) ( 9 ) .. وأيّ صلاح أعظم من صلاح ولد حافظ لكتاب الله تعالى ...
وانتبه من أن تكون أنت أو أولادك ممن اشتكى الرسول صلى الله عليه وسلم .. كما في قوله تعالى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } ..
ويمكن أن تستعين في تدريس أولادك بأمور .. منها :
• الأشرطة المسجلة : حيث يستمع الطفل إلى الشريط ويردد وراءه حتى يحفظ .
• المدرّس الخاص : حيث يتفق عدد من الآباء مع مدرّس واحد يجلس مع أولادهم عدة جلسات في الأسبوع ويتابعهم أولاً بأوّل .
• تشجيع الولد على الحفظ من خلال الجوائز .
• التقليل من الألعاب والأجهزة التي تشغل الولد عن الحفظ ، كألعاب الكمبيوتر ونحوها .
حدثني أحد الدعاة :
أنه ذهب إلى مدينة في السويد لإلقاء المحاضرات فرأى أحد الأخوة الأعاجم لا يفهم من اللغة العربية كلمة واحدة ومع ذلك له بنتان وولد أكبرهم عمره اثنتي عشرة سنة ، وكلهم يحفظون القرآن كاملاً !!
نعم .. وقد رآهم صاحبي واختبرهم ..
ومن حسُن قصده وخلصت نيته وفقه الله تعالى وبارك فيه وفي ذريته .(5/103)
ورأيت في الدانمرك رجلاً أسلم حديثاً ، ولا يفهم من اللغة العربية كلمة واحدة ، وكان حريصاً على حفظ القرآن وتعلم الدين ، حتى إنه يحمل معه دائماً مسجلاً صغيراً وإذا رأى من يتقن العربية طلب منه أن يسجل له شيئاً من سور القرآن أو الأذكار أو نحو ذلك ثم يكرر الاستماع إلى ذلك حتى يحفظه .. { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ..
وحدثني داعية آخر :
أنه كان في استراليا ورأى طفلين مسلمين يحملان الجنسية الأسترالية – وهما من أصل سنغافوري – أحدهما عمره خمس سنوات والآخر سبع سنوات ، كلاهما يحفظ القرآن كاملاً .. ! ..
وهما لا يفهمان من اللغة العربية كلمة واحدة ..
وأخبراني هذا الداعية أنه اختبرهما وعجِب من قوة حفظهما ، قال : حتى إنني خاطبت أحدهما – باللغة الإنجليزية – وقلت له : أخبرني بالآيات التي فيها كلمة ( جهنم ) فسردها لي بسرعة .. ثم طلبت منه الآيات التي فيها كلمة ( الجنة ) فسردها لي !!
وكان الذي اهتم بحفظ هذين الطفلين عليهما هو زوج أمهما .. وكان يحفظهما القرآن عن طريق الاستماع المتكرر للسورة من جهاز التسجيل حتى يحفظها الطفل ، ثم ينتقل إلى غيرها .. فجزاه الله خيراً ..
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
الوصية السادسة :
احرص على أن تعلم أولادك الآداب الإسلامية منذ الصغر فإنهم ينشئون عليها ..
والآداب الشرعية متنوعة :
مثل آداب الطعام والشراب فيقول بسم الله قبل الأكل والحمد لله بعده ، ويأكل باليد اليمنى ..
وآداب المجالسة فيسلم عند الدخول والخروج ، ويحترم الكبير ..
ويلتزم بآداب الكلام فلا يكذب ولا يتلفظ بألفاظ بذيئة ..
وآداب الخلاء كذكر الله قبل الدخول ، وعدم استقبال القبلة أثناء قضاء الحاجة ..
وغير ذلك من الآداب ، وما ذكرته مجرد أمثلة فقط ..
فإذا أهملت تعليم ولدك الآداب الشرعية في صغره ..
هل تدري ما النتيجة ؟ سوف يتولى تأديبه غيرُك ، فيتعلم في الحضانة أن يأكل بالشوكة بيده اليسرى .. ويتعلم في الحضانة أن لا يغلق باب الخلاء ولا يستر عورته عند قضاء الحاجة .. ويتعلم في الشارع السب واللعن والكلام الفاحش ..
فتأمل الفرق بيت التربيتين ...
حدثني أحد المشايخ الدعاة يبلغ من العمر خمسين سنة أنه ألقى محاضرة في أحد المراكز الإسلامية في إيطاليا وتكلم أثناء المحاضرة عن تربية الأولاد والمسئولية نحوهم .. وكان أغلب الحاضرين من العرب المغتربين ..
قال الشيخ :
وفجأة قام شيخ كبير قد تجاوز الثمنين وقطع محاضرتي .. وصاح بأعلى صوته وقال :
يا شيخ !! أريد أن أزوجك ابنتي !! تزوجها وخذها معك !! أرجوك !! يا شيخ !! يا شيخ !!
ثم بكى .. وبكى ..
فتعجبي منه لكنني لم أرد عليه ..
فلما انتهت المحاضرة دعوته إلىّ وشكرته على حسن ظنه بي ، وبينت له أنني لا أرغب في الزواج ، ثم سألته :
ما سبب حماسك وبكائك ؟ ومقاطعتك للمحاضرة ؟؟
فقال : يا شيخ ، نحن كنا أصدقاء أربعة أتينا إلى هذه البلاد مع أولادنا طلباً لحياة أفضل ، وكبر أولادنا وبدؤوا يتفلتون من أيدينا .. ومضت السنين ومات أصحابي فتنصَّر جميع أولادهم وأنا انظر ..
أما أنا فقد كبر الآن سني .. ورقّ عظمي .. واقتربت منيتي .. أنا خائف على ابنتي .. هي اليوم في المسجد .. وغداً لا أدري أين تكون ثم بكى .. وبكيتُ وبكى من حولنا ..
الوصية السابعة :
لا بدّ أن تتعاون مع أم أولادك وتجندها معك في تربيتهم ، وتزرع فيها الصبر والاحتساب ، فأحسن اختيار زوجتك ، واحرص على أن تكون مؤمنة متحجبة عفيفة ، ثم بعد الزواج احرص على ارتقاء إيمانها وزيادة معرفتها بالدين ، وشجعها على حضور المحاضرات والدروس الشرعية ، وقراءة الكتب النافعة واستماع الأشرطة المفيدة ..
فإن الأم إذا صلحت صلح الأولاد تبعاً لها ..
الوصية الثامنة :
أخي الكريم !! منذ كم سنة أنت مقيم هنا في بلاد الغربة ؟! بين الكفار الضالين !!
بعض المغتربين جاء إلى بلاد الغربة منذ عشر سنوات وبعضهم عشرين ، ولا أبالغ لو قلت إن بعضهم جاء منذ أربعين سنة .. سكن معهم في مساكنهم .. وخالطهم في وظائفهم .. وأسواقهم .. وشوارعهم .. ومطاعمهم ..
ولكن الأسئلة الكبيرة التي أريدك أن تجيب عليها بصراحة : من خلال هذه الإقامة الطويلة :
كم شخصاً أسلم على يدك خلال هذه السنوات ؟ .. بل كم شخصاً ناقشته عن الإسلام وأزلت ما في نفسه من شبهات أو سوء فهم عن الإسلام ؟ ..
كم كتاباً أو شريطاً في الدعوة إلى الإسلام وزعت ؟ ..
كم مسلماً مقصراً نصحت ؟ ..
وفي الجانب الآخر أسألك :
كم من الأموال جمعت ؟ .. وكم شقة اشتريت ؟..
وأعوذ بالله أن أسألك : كم معصية كبيرة قارفت ؟؟..
أيها الأخ الحبيب : إن أصحاب المذاهب الضالة الهدامة يعملون دائبين في الدعوة إلى مذاهبهم في دول أوربا وغيرها أكثر من بعض المسلمين ، فانظر إلى نشاط " شهود يهوه " .. ونشاط " الشيعة " .. وغيرهم .. مع أنك على حق وهم على الباطل .. { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحا } ..(5/104)
كن مشعل هداية أينما كنت ، احمل معك الكتب والأشرطة الدعوية ولن تكلف إلا مبلغاً يسيراً يعوضك الله به خيراً ..
أحد المسلمين كان يعمل في شركة كبرى ويحدث نفسه بالدعوة دائماً لكنه يخجل ويتكاسل ، وفي يوم من الأيام أحيل إلى التقاعد أحد زملائه من الموظفين الكبار ، فعمل له أصحابه حفلة توديع ، وأحضر كل واحد من زملائه هدية يودعه بها ..
قال صاحبنا : واحترتُ ماذا أقدم له ؟! فتذكرت أن هذا الموظف يحب التحف والأواني الأثرية القديمة ، فاشتريت له تحفة جميلة وخبأت بداخلها كتاباً صغيراً عن الإسلام وكتبت عنواني عليه ، وغلفتها بغلاف جميل وأهديتها إليه مع بقية زملائي ..
ومضت الأيام ..
وبعد قرابة الشهرين فوجئت باتصال من صاحبي المتقاعد يبشرني بإسلامه .. ويخبرني أنه قرأ الكتاب كله .. ثم اشتاق أن يتعلم معلومات أكثر عن الإسلام فبدأ يبحث ويسأل حتى دخلت الهداية قلبه وأسلم .. والسبب الأول هو هذا الكتاب الذي خبأته له على استحياء ..
والعجيب أن صاحبي المتقاعد بدأ يلومني : لماذا حجبت عني الهداية طوال تلك السنوات ؟!
أيها المغترب الحبيب المبارك :
هل تعلم كيف دخل الإسلام إلى الهند وباكستان والصين وكثير من بلاد أفريقيا .. وغيرها من البلاد البعيد عن مهبط الرسالة ؟؟
لم يدخلها عن طريق الدعاة .. ولا عن طريق الجهاد .. ولا عن طريق المكاتبات .. ولا .. إنما دخلها عن طريق رجال مسلمين ليسوا علماء ولا دعاة ، تجار ذهبوا إلى هناك في تجارة .. ذهبوا ليشتروا البضائع ويبيعوا بضائعهم .. ذهبوا لا يريدون إى الدنيا والمال .. وماذا كانت النتيجة ؟؟
جمع الله لهم الدنيا والآخرة .. جمعوا الأموال .. وتأثر أهل تلك البلاد بالمسلمين .. رأوا صلاتهم .. وحسن تعاملهم .. فسألوهم عن الإسلام فأخبروهم ودعوهم إليه .. فأسلم ما لا يحصى عدده من الناس بسبب هؤلاء التجار ..
في الهند مائة مليون مسلم ، ومن كان سبب هدايتهم ؟!
وفي الصين أكثر من مائة مليون ، من كان سبب هدايتهم ؟!
وفي بلاد أفريقيا مئات الملايين ، ومن كان سبب هدايتهم ؟!
إنهم هؤلاء التجار الذين دخلوا هذه البلاد طلباً للدنيا فجمع الله لهم الحسنيين ..
أيها الأخ المسلم الموفق :
إن حالك لا يختلف كثيراً عن حال أولئك التجار ، هم جاءوا إلى تلك البلاد طلباً للدنيا ، وأنت جئت إلى هذه البلاد طلباً للراحة الدنيوية والعيش الرغيد والأمن على النفس والولد .. فلماذا لا تجمع الدنيا والآخرة !! كما فعلوهم .
أخي الكريم :
لعل الله كتب الهداية لأهل هذه البلاد على يدك أنت ومن معك من المغتربين ..
لعل الله قدّر عليكم من الظروف والمشاكل ما استجلبكم به إلى هذه البلاد لهداية هؤلاء ، فلماذا لا تكونون دعاة إلى ربكم .. { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ..
وليس الدعوة للكفار فقط بل للمسلمين المقصرين المذنبين .. فهم وإن وقعوا في المعاصي أو قارفوا الكبائر فلا يزال فيهم إيمان وحب للدين ورغبة في العودة إليه ..
قال أحد الدعاة :
ألقيت محاضرة في مركز إسلامي بإحدى الدول الأوروبية .. وبعد المحاضرة جاء إليّ شاب تنبعث منه رائحة الدخان ( السجائر ) وقد بدت عليه آثار المعصية .. فصافحني وقبلني بحرارة .. ثم طلب مني أن أخبره كيف يستطيع أن يذهب للجهاد في الشيشان .. قلت له : أنت تريد أن تجاهد ؟! قال : نعم .. قلت : أتدري ما الجهاد ؟ إنه قتل للنفس .. ومفارقة للأهل والأولاد .. فقال : أليس الجزاء الجنة ؟ قلت : بلى .. قال : كل شيء يهون ..
الوصية التاسعة :
كنت في أحد البلاد الأوربية ، وبعدما صليت التراويح وألقيت المحاضرة ، دعاني أحد الأخوة إلى منزله لتناول الشاي ..
وفي ذلك المجلس اجتمع معنا قرابة الثلاثين من الأخوة المغتربين ..
آثرت في البداية أن أستمع ولا أتكلم ..
بدأ الأخوة أحاديثهم ..
احتلال البلد الفلاني ..
وغزو البلد الآخر ..
وغلاء الأسعار ..
والضرائب ..
ثم اشتدّ النقاش .. وارتفعت الأصوات .. وضجّ الصياح ..
ثم تحول الأمر إلى سبّ وتقذيع ..
هذا حالهم .. أما حالي فهو أعجب وأغرب .. لأنني أول الأمر ظننت نفسي انتقلت إلى اجتماع هيئة الأمم المتحدة .
لكني بعدما تلفتّ حولي تذكرت أني لا أزال بين هؤلاء الأخوة .. فبقيت هادئاً ..
في البداية خجلت أن آمرهم بالسكوت .. وانتظرت أن تنخفض أصواتهم .. فلم يفعلوا ..
فلما طال الأمر التفتّ إلى الذي بجانبي وقلت : هل سيطول الحال هكذا ؟!!
فقال : ما رأيت شيئاً !! هم اليوم هادئووون !! إن موعدهم الصبح !! أليس الصبح بقريب ؟!!
ثم قال : هل تريد أن أسكتهم ؟
قلت : هل تستطيع ذلك ؟!! نعم أسكتهم .
فصاح بأعلى صوته : يا جماعة !! نريد أن نستفيد من الشيخ ، يا جماعة !! هدووووء ..
فخجلوا وبدأ بعضهم يسكت بعضاً ..
فقلت لهم : أسألكم سؤالاً :
كلكم تحفظون سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ } ؟
قالوا : نعم !!
فقلت : ما معنى { اللَّهُ الصَّمَدُ } ؟ فسكتوا !!..(5/105)
قلت : كلكم تحفظون { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }
قالوا : نعم !!
فقلت : ما معنى { غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } ؟ فسكتوا !! ..
فقلت : أيها الأخوة الأخيار !! لو اشتغلتم في مجلسكم هذا بتفسير آية .. أو قراءة حديث .. أو النقاش حول تربية أولادكم .. أو حل مشاكل بناتكم .. لكان خيراً لكم مما أنتم فيه ..
كم هي المجالس التي تجلسونها وينطبق عليها قوله صلى الله عليه وسلم : (( ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ، ولم يصلوا على نبيهم ، إلا كان عليهم ترة يعني : ( حسرة وندامة ) فإن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم )) ( 9 ) ؟
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة )) ( 10 ) .
ثم قلت لهم : هذا تفسير ابن كثير موجود على الطاولة أمامكم ، فلماذا لا تستفيدوا منه ؟!!
كيف تريدون أن تنصروا هذا الدين ، وأن تدعوا الناس إليه ، وأنتم تجهلون المبادئ الأساسية من الدين ، لو سألتكم في بعض أحكام الصلاة ، أو الصيام لوجدت أكثرهم بها جاهلاً .. ثم دعوت لهم وختمت المجلس ..
وحدثني أحد الدعاة فقال : كنت في أمريكا في شهر رمضان ، وألقيت محاضرة باللغة العربية حول الأسرة وتربية الأولاد ووسائل الثبات على الدين ..
وما كادت المحاضرة تنتهي حتى قام أحدهم وسأل :
لماذا الحاكم الفلاني يفعل كذا وكذا ؟!!
فأجبته بلطف قائلاً أرجو أن تكون الأسئلة فيما يتعلق بموضوع المحاضرة ..
فقام آخر فقال : لماذا الدولة الفلانية تقاتل دولة كذا ؟!!
فاعتذرت عن الإجابة لأن الإجابة لا تفيدنا بشيء ..
فقام أحدهم متحمساً وقد ظن أنني خائف من الإجابة ، فقال :
يا شيخ !! لا تكن جباناً !! سيد الشهداء هو الذي يجهر بكلمة الحق عند سلطان جائر .. فيقتله .. فاجهر بكلمة الحق وإن وصلت إلى سلطان فقتلك !! أفلا تريد أن تكون سيد الشهداء ؟!!
فقلت له : إذاً ما رأيك أيها الأخ الشجاع أن نجمع لك الآن ثمن تذكرة سفر ، وتعود إلى بلدك وتجهر بكلمة الحق عند الرئيس ( ... ) ، ليقتلك فتكون أول الشهداء !!! ونحن بعدك إن شاء الله ..
فضحك الجميع .. وأغرقوا في الضحك .. ثم ضج المسجد بالكلام والاعتراضات ..
فصحت بأعلى صوتي قائلاً :
يا جماعة !! أنا أحدثكم عن أمور تعيشونها يومياً وتقاسون آلامها ، وأنتم تشغلونا بأمور لو تكلمنا عنها عشر سنين لما استفدنا منها شيئاً ..
ثم رفعت صوتي أكثر ، وقلت :
من منكم يستطيع أن يمنع ابنته من الزنا ؟؟
من منكم يستطيع أن يمنع امرأته من اتخاذ صديق أو عشيق ؟؟
من منكم يستطيع أن يمنع ولده من شرب الخمر ؟؟ أو ارتكاب الفواحش ؟؟
من منكم يستطيع أن يلزم أولاده بالصلاة ؟
.. أو بالصوم ؟
.. أو بالعفة عن المحرمات ؟
.. أو بعدم الاختلاط ؟؟ ..
فسكتوا جميعاً ..
فقام أحدهم وقال : بصراحة يا شيخ : لا أحد .. والله يا شيخ !! لا أحد .. لو منعت ابنتي أو ولدي من شيء اشتكاني إلى الشرطة .. حتى زوجتي ..
فقلت : أيها الأخوة الكرام :
لن يسأل الله أحداً منكم يوم القيامة عن الحاكم الفلاني أو الدولة الفلانية .. ولا عن أسعار النفط ..وأين تصرف عائداته ..
ما ذا يفيدك الكلام في هذه الأمور ما دام أنه من باب معرفة الواقع المحيط بك ، أما الاشتغال بها وإثارتها في المجالس والمحافل فهذا غير مناسب لأبداً ، بل هو مجلبة للجدال والخصومات وأنتم في غنى عن ذلك .. لن يضركم الجهل بها يوم القيامة ..
لكن والله ليسألن كل منكم يوم القيامة عن أولاده وتربيتهم .. وبناته وصيانتهن .. وزوجته وحفظها .. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله سائل كل راع عما استرعاه : أحفظ أو ضيع ؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ) ( 11 ) .
قال الشيخ : فلما سمعوا مني ذلك .. أنصتوا .. واستمعوا ..
أيها الأخ الحبيب :
احرص على طلب العلم .. وتعلم أحكام دينك .. بقراءة الكتب النافعة ، واستماع الأشرطة المفيدة ، ومجالسة طلاب العلم ، وحضور مجالس الذكر .. احذر أن يمرّ عليك يوم دون أن تستفيد فيه فائدة جديدة ..
سل نفسك : هل تتقن القرآن ؟ كم تمضي من الوقت يومياً في قراءة الكتب النافعة وكم تمضي في مشاهدة التلفاز ؟ ثم قارن بين الوقتين .. وسل نفسك .. ألا يستحق هذا الدين أن أبذل له أكثر وقتي تعلماً وتعليماً و دعوة ..
أيها الأخ المبارك : احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وكن مؤثراً فعّالاً ، إذا دُعيت إلى مجلس فخذ معك كتاباً نافعاً .. واقرأ عليهم ولو لمدة عشر دقائق .. عن فضل قيام الليل .. أو فضل ذكر الله تعالى .. أو فضل الصدقة .. أو غير ذلك .. ليكون مجلسكم تحفه الملائكة وتغشاه الرحمة .. ويذكركم الله فيمن عنده ..
أسأل الله تعالى أن يجعلك مباركاً أينما كنت .. آمين .
الوصية العاشرة :(5/106)
إن الفراغ الكثير يؤدي إلى كثير من المفاسد .. من أعظمها : كثرة الكلام والقيل والقال .. فتجد أن كثيراً من الأخوة المغتربين يجتمعون في مجالس متعددة فيبدأ أحدهم في غيبة الآخر أو الانتقاص من عرضه .. أو التدخل في شئونه الخاصة .. أو تقديم اقتراحات وآراء في أمور شخصية دون أن يطلب منه ذلك .. وقد يكون الدافع إلى ذلك أحياناً الغيرة ..
وأحياناً تمتلئ القلوب ضغينة وحقداً .. وبغضاً وحسداً ..
أيها الأخ الحبيب :
كيف تريد أن نوحّد الأمة الإسلامية ونحن لم نستطع أن نوحّد صفوفنا المسلمة في بلد واحد ؟!! بل فرّقتنا الأحقاد والخلافات ..
إن صفاء النفس وسلامة الصدر على المسلمين عبادة من أعظم العبادات ، بل هي من صفات أهل الجنة { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } ..
وما أجمل قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الناس أفضل ؟ فقال : (( كل مخموم القلب صدوق اللسان )) قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب . قال (( هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد )) ( 12 ) .
أحسن إلى المسلمين وإن أساءوا إليك .. واحلم عليهم وإن غضبوا عليك .. واجعل صدرك واسعاً لإخوانك المسلمين ..
وإنما الدنيا أيام معدودات ..
كثير من الناس يستطيع أن يتقرب إلى الله تعالى بصلاة وصدقة وصيام .. ولكن قليلاً منهم من يستطيع أن يتقرب إلى الله بصفاء سريرته على المسلمين .. فاحذر من أن يطلع الله تعالى على صدرك فيرى فيه غلاً وحسداً على المسلمين ..
الوصية الحادية عشرة :
انتبه .. احذر من الزواج من امرأة نصرانية .. نعم قد تقول لي إن ذلك جائز في شريعة الإسلام .. فأقول لك نعم هو جائز .. ولكن عند النظر فيما ترتب ويترتب على هذا الزواج من ضياع الأبناء – غالباً – وكثرة الخلافات بين الزوجين ، أو تخلي الزوج عن دينه ، حتى يصل إلى حال يكون تعلقه بالإسلام بمجرد الاسم فقط .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .. فلا صلاة .. ولا دعوة إلى الله .. ولا حجاب لزوجته .. ولا محاربة للاختلاط .. ولا .. ولا ..
وكلّ هذا قد رأيته بنفسي – والله – عند رجال مسلمين أقدموا على الزواج من النصرانيات ثم بعدما ذهبت سكرة الزواج .. وفرحة الحياة الجديدة .. بدأ أحدهم يجني ثمار تسرّعه في الزواج من النصرانية ..
الوصية الثانية عشرة :
ما هو مصدر تلقي الدين إليك ؟! .. سؤال مهم .. لاحظت أن بعض الأخوة المغتربين يتتبعون الرخص .. ويفرحون بمن يفتيهم بما يوافق أهواءهم .. بل بعضهم إذا سمع فتوى توافق هواه .. طار بها فرحاً ومدح المفتي قائلاً : هذا هو الشيخ العالم .. هذا هو الشيخ الذي يفهم الواقع .. هذا الذي يعيش جراح المسلمين ..
يقول ذلك عن الفتوى وإن كانت تخالف الكتاب والسنة .. أو فيها تمييع للدين .. أو تساهل بالنصوص الشرعية .. أو تحايل للبحث عن الرخص والأقوال الضعيفة .. فالمهم أنها فتوى .. فتوى !!..
أيها المسلم الحبيب :
إن الله سيسألك يوم القيامة سؤالاً واحداً { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } .. لن يسأل عن الشيخ فلان ولا فلان .. وإنما عن اتباع الكتاب والسنة .. فقط ..
أعيد عليك السؤال المهم مرة أخرى : ما هو مصدر تلقي الدين بالنسبة إليك ؟!
هل كل من لبس جبة أو عمامة وظهر في القنوات الفضائية يكون مفتياً .. ويصلح أن يكون مصدراً لتلقي الدين ؟!
إن المقياس الذي ينبغي أن تحكم به على الشيخ المفتي هو أن تكون فتاواه موافقة للكتاب والسنة .. ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ..
قال الشيخ :
ألقيت محاضرة في أحد المراكز الإسلامية .. فجاء إليّ أحدهم وقال : يا شيخ لماذا تشدد في مسألة الاختلاط .. والشيخ الدكتور فلان في قناة ( ... ) يقول إن الاختلاط بين الرجال والنساء جائز في الولائم والحفلات إذا حسنت النية .. وكان نظر بعضهم إلى بعض بغير شهوة ؟!
وألقيت محاضرة في مكان آخر إلى أحدهم .. وقال : يا شيخ ما حكم الربا ؟
قلت : حرام !! بجميع صوره وأشكاله ..
فقال : إن الشيخ فلان في قناة ( ... ) يقول : إنه ضرورة من ضرورات العصر .. ولا بأس به ..
وجاء إليّ مستفتياً عن حكم المعازف والموسيقى .. ثم قال : قد أفتى الشيخ فلان أنها حلال ..
فلا تجعل دينك عرضة لكل من أراد أن ينتقصه أو يفسده عليك .. فإنك ستحاسب وحدك .. وتسأل وحدك
{ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ }
الوصية الأخيرة :
اذكر الوقوف بين يدي الله تعالى واعلم أن هذه الدنيا دار ممرّ لا مقرّ .. واسأل الله تعالى حسن الخاتمة ..
قال صاحبي :(5/107)
كنت أدرس الطب في كندا ، ولا أنسى أبداً ذلك اليوم الذي كنت أقوم فيه بالمرور اليومي على المرضى في غرفة العناية المركزة في المستشفى ، ولفت انتباهي اسم المريض الذي في السرير رقم 3 ، إنه محمد ... أخذت أتفحص وجهه الذي لا تكاد تراه من كثرة الأجهزة والأنابيب على فمه وأنفه ، إنه شاب في الخامسة والعشرين من عمره مصاب بمرض ( الإيدز ) أُخل إلى المستشفى قبل يومين إثر التهاب حادّ في الرئة .. حالته خطرة .. جداً .. جداً .. اقتربت منه .. حاولت أن أكلمه برفق : محمد .. محمد .. إنه يسمعني لكنه يجيب بكلمات غير مفهومة .. اتصلت ببيته فردت عليّ أمه .. يبدوا من لكنتها أنها من أصل لبناني .. عرفت منها أن أباه تاجر كبير يمتلك محلات حلويات .. شرحت للأم حالة ابنها ، وأثناء حديثي معها بدأت أجراس الإنذار تتعالى بشكل مخيف من الأجهزة الموصلة بذلك الفتى مؤشرة على هبوط حادّ في الدورة الدموية ، ارتبكت في حديثي مع الأم .. صرخت بها : لا بدّ أن تحضري الآن ، قالت : أنا مشغولة في عملي وسوف أحضر بعد انتهاء الدوام ، قلت : عندها ربما يكون الأمر قد فات .. وأغلقت السماعة ..
بعد نصف ساعة أخبرتني الممرضة أن أم الفتى وصلت وتريد مقابلتي .. قابلتها .. امرأة في متوسط العمر لا تبدو عليها مظاهر الإسلام .. رأت حالة ابنها فانفجرت باكية .. حاولت تهدئتها وقلت : تعلقي بالله تعالى واسألي له الشفاء ، قالت بذهول : أنت مسلم ؟!!
قلت : الحمد لله !! قالت : نحن أيضاً مسلمون ،
قلت : حسناً .. لماذا لا تقفين عند رأسه وتقرئين عليه شيئاً من القرآن لعل الله أن يخفف عنه ..
ارتبكت الأم .. ثم انخرطت في بكاء مرير ..
وقالت : هاه ! القرآن ؟! لا أعرف !! لا أحفظ شيئاً من القرآن !!
قلت : كيف تصلين .. ألا تحفظين الفاتحة ؟!!
فغصت بعبراتها وهب تقول : نحن لا نصلي إلا في العيد منذ أن أتينا إلى هذا البلد ..
سألتها عن حال ابنها ، فقالت : كان حاله على ما يرام ، حتى تردّت بسبب تلك الفتاة ..
قلت : هل كان يصلي ؟
قالت : لا ، لكنه كان ينوي أن يحج في آخر عمره ( !! ) ..
بدأت أجهزة الإنذار ترتفع أصواتها أكثر وأكثر .. اقتربتُ من الفتى المسكين .. إنه يعالج سكرات الموت .. الأجهزة تصفّر بشكل مخيف .. الأم تبكي بصوت مسموع .. الممرضات ينظرون بدهشة .. اقتربت من أذنه وقلت : لا إله إلا الله .. قل لا إله إلا الله .. الفتى لا يستجيب .. قل لا إله إلا الله .. إنه يسمعني .. بدأ يفيق وينظر إليّ .. المسكين يحاول بكلّ جوارحه .. الدموع تسيل من عينيه .. وجهه يتغير إلى السواد .. قل لا إله إلا الله .. بدأ يتكلم بصوت متقطع : آه .. آه .. ألم شديد .. آه .. أريد مسكناً للألم .. آه آه .. بدأت أدافع عبرتي وأتوسل إليه قل لا إله إلا الله .. بدأ يحرك شفتيه .. فرحت .. يا إلهي سيقولها .. سينطقها الآن .. لكنه قال : ( I cant .. I cant ) أريد صديقتي .. أريد صديقتي .. لا أستطيع .. لا أستطيع .. الأم تنظر وتبكي .. النبض يتناقص .. يتلاشى .. لم أتمالك نفسي .. أخذت أبكي بحرقة .. أمسكت بيده .. عاودت المحاولة : أرجوك قل لا إله إلا الله . لا أستطيع .. لا أستطيع .. توقّف النبض .. انقلب وجه الفتى أسوداً .. ثم مات .. انهارت الأم .. وارتمت على صدره تصرخ .. رأيت هذا المنظر فلم أتمالك نفسي .. نسيت كلَّ الأعراف الطبية .. انفجراتُ صارخاً بالأم : أنت المسئولة .. أنت وأبوه .. ضيعتم الأمانة ضيعكم الله .. ضيعتم الأمانة ضيعكم الله .. { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } ..
أخي المغترب :
تأمل في حال هذا المسكين .. وماذا لو كان ولدك أو ابنتك .. أو أخوك .. أو أنت .. نعم أنت فاحرص على طاعة الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ..
الجأ إلى الله تعالى في جميع أحوالك وسله العون والتوفيق في كل أعمالك .. سله صلاح الذرية { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ }..
وسله الثبات على الدين والنجاة من الفتن { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }..
احرص على ذكر الله تعالى في جميع أحوالك { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } .. واستشعر مراقبته إن دعتك النفس إلى معصية واعلم أنه يراك ويراقبك ..
ومجمل القول : اجعل بينك وبين ربك عز وجلّ علاقة خفية .. من قيام ليل .. أو صيام .. أو صدقة سرّ .. أو دعوة ونصح للناس .. فإن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة ..
أسأل الله أن يحفظك ويوفقك ..
وختاماً : أيها الأخ الحبيب .. أيها المسلم المغترب ..
هذه وصايا استخرجتها لك من مكنون نصحي .. سكبت فيها روحي .. وصدقتك فيها النصح والتوجيه ..(5/108)
فلا يكن نصيبي منك أقل من دعوة لي بظهر الغيب تستنزل بها الرحمات لي ولك من أرحم الراحمين ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محبك : محمد بن عبدالرحمن العريفي
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالرياض
عضو لجنة أوربا في مؤسسة الحرمين الخيرية
1/2/1420هـ الموافق 4/5/2000م
ص.ب : 151597 - الرياض :
===============
نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية
د / محمد أحمد مفتي
إعداد وانتقاء سليمان الخراشي
( يؤكد " موريس دوفرجيه " أن الدميقراطية الليبرالية تعمل ضمن إطار الرأسمالية التي تعني أن السلطة لا ترتبط فقط بالانتخابات ـ كما يدعي الإجرائيون ـ وإنما برجال المال والأعمال المسيطرين على الواقع السياسي والاقتصادي في الدولة ، مما يؤكد كون الديمقراطيات الليبرالية هى " بلوتو ديمقراطيات " قائمة على سيطرة الأغنياء ، وقدرتهم على توجيه دفة المجتمع ، والتحكم في الانتخابات ونتائجها) .
(ويبدو أن المدرسة الإجرائية ـ بافتراضها العقلانية و الرشد في الأفراد ـ قد وقعت في الخطأ ذاته الذي عابته على النظرية الكلاسيكية ، كما أنها بافتراضها خلو الديمقراطية من القيم ، سعت نحو تعميم النظام الديمقراطي وإضفاء صبغة العالمية عليه ، دون النظر إلى العوامل والظروف المرتبطة بنشأة الديمقراطية وقيامها واستمرارها في المجتمعات الغربية . أضف إلى ذلك ، أن قصر قيام الديمقراطية على توفر الانتخابات ، واختزالها في حق التصويت والاختيار للمرشحين الذين يعتلون سدة الحكم ، يفرغ الديمقراطية من محتواها ، فهناك الكثير من الأنظمة التي يقوم فيها الأفراد بانتخاب الحكام دون أن تقوم فيها ديمقراطية ، بل إن بعضها أنظمة استبدادية قمعية) .
( الديمقراطية الغربية تقوم على قيم اجتماعية محددة ، فالديمقراطية نظام قائم على نظرة معينة للكون والحياة والإنسان ، وهي تحمل بعداً " عقيدياً " وترتبط بمفهومات محددة ، ومعتقدات مشتركة بين الجماعة . والديمقراطية بهذا المعنى تمثل نسقاً فلسفياً ، أو قاعدة تبنى عليها النظرة إلى المجتمع ، تستمد هذه النظرة جذورها من أفكار المدرسة الليبرالية التي يعد من أبرز مفكريها : جون لوك ، وجون ستيوارت مل ، وآدم سميث ، وديفد هيوم . ورغم اختلاف وجهات النظر بين هؤلاء المفكرين ، فإن هناك عدداً من الأمور المشتركة بينهم ، منها : النظرة ( الفردية ) للإنسان التي تجعل الفرد وحدة مستقلة قائمة بذاتها ، تتصل بغيرها لتحقيق مصالحها الذاتية ، ومن ثم فالفرد يمثل غاية البناء الاجتماعي كما أن الإنسان ـ وفقاً لهذه النظرية ـ يمتلك حقوقاً ( طبيعية ) منحت له لطبيعته الإنسانية ، بمعنى أن الإنسان لكونه إنساناً ، فإنه يمتلك حقوقاً طبيعية بمعزل عن الدولة أو المجتمع . أضف إلى ذلك أن النظرة الليبرالية للإنسان تبنى على ما يسمى بانعدام القيم المشتركة ، فلا توجد وحدة اجتماعية تحدد القيم الاجتماعية أو السلوك المقبول اجتماعياً من قبل الأفراد ، فالنظرة إلى المجتمع غائبة في الفكر الليبرالي والديمقراطية ـ وفقاً للتعريف الإيديولوجي ـ طراز معين للعيش ينبثق من إطار ذهني يبنى على عدة افتراضات ، منها : الإحساس الدائم بالرغبة في التغيير التى تحرك الأغلبية ، وتدفعهم نحو تعديل أوضاعهم الاجتماعية لتتناسب مع التغييرات الحياتية المتعددة . فالديمقراطي هو ذلك الإنسان القادر على تعديل أوضاع حياته وأفكاره ومبادئه وقيمه وفقاً للمتغيرات الاجتماعية المحيطة به . وينبع التغيير من الإيمان بأن البنى الاجتماعية لا تبنى على قواعد ثابتة ، بل هي نتاج لتفاعل الأفراد وخبراتهم واتفاقهم ، ولذلك ، فما يراه الأفراد ممثلاً للحق والعدل فهو الحق والعدل ، فالإطار الذهني الديمقراطي يبنى على الثقة المتناهية في ( العقل ) الذي يمكن الإنسان من الحياة في إطار المجتمع ( التعددي ) بتقبله لنمط حياة الآخرين ، مما يعكس قدراً كبيراً من العقلانية . أضف إلى ذلك أن ( التعددية ) تضفي على الديمقراطية الرأسمالية طابعاً خاصاً يجعلها تختلف كلية عن المجتمعات التقليدية والاشتراكية التي يفرض المجتمع فيها منظوراً جماعياً للخير العام ، كما يشير نوفاك ، هذا في حين يمتاز المجتمع التعددي بعدم وجود منظور جماعي واحد للخير والفضيلة . ولذلك ، فوجود منظور أخلاقي واحد للقيم في المجتمع يتعارض مع الفكر التعددي ، ومن ثم فأولئك الذين يرغبون في رؤية قيم عقائدية أو أخلاقية واحدة تسود في المجتمع لابد أن ينتهي بهم المطاف إلى معارضة التعددية . وبناءً عليه ، فالمجتمع الديمقراطي غير ملزم بتبني منظور أحادي للوحدة الاجتماعية ، وحين يسود أو يسعى أي منظور عقائدي أخلاقي لفرض رؤيته على المجتمع ، فإنه يصبح من المتعذر بناء مجتمع ديمقراطي ، وذلك لأن الديمقراطية تبنى على المنظور العلماني التعددي للمجتمع) .
( وبناء عليه ، فالتعددية وإمكانية الاختلاف العقيدي يعدان شرطين مسبقين لقيام مجتمع ديمقراطي ، فالمجتمع الذي لا يقر بحق أو حرية العبادة للجميع كيفما شاؤوا لا يصلح أن يكون ديمقراطياً .(5/109)
وقد أكد " كرن شيلدز " أن الديمقراطية نظام سياسي علماني ، فالدين لا علاقة له بالديمقراطية ، فهو يعد مسألة فردية خاصة لا علاقة لها بالتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي :
" فالديمقراطي يمكن أن يكون بروتستانتياً أو يهودياً ، ملحداً ، أو مؤمناً ففيما يتعلق بالدين يمكن القول إن الديمقراطية مذهب محايد يتمثل في مجموعة من المعتقدات العلمانية الصرفة . فالمفهومات الديمقراطية لا ترتبط بالبواعث الدينية أو المضادة للدين . وأي نزاع بين الدين والسياسة الديمقراطية يمكن أن يحدث فقط عند إقحام التعاليم الدينية في الشؤون السياسية ... والديمقراطي ـ نظراً لمعتقداته السياسية ـ لا يقبل ولا يرفض أي تعاليم دينية " ) .
( إن قيام الديمقراطية يرتبط بتوفر شروط أساسية أهمها " العلمانية " فالديمقراطية نظام للحياة قائم على حيادية الدولة تجاه القيم الدينية والأخلاقية انطلاقاً من قاعدة أساسية للبناء الديمقراطي تتمثل في " حرية العقيدة " أي حق الأفراد المطلق في تبني ما يشاؤون من عقائد دون تدخل من أحد ، ودونما تأثير على مسار المجتمع والدولة ، وذلك لاندراج العقيدة ضمن الخيارات الفردية التي لا يجوز للدولة التدخل فيها بحال من الأحوال .
وبناءً عليه ، فالديمقراطية نظام لاديني منبثق عن تصور عن الحياة قائم على فصل الدين عن الدنيا ، ويسعى على بناء النظام السياسي على قاعدتين : قاعدة حيادية الدولة تجاه العقيدة ، وقاعدة سيادة الأمة المترتبة عليها والتي تعني حق الأمة المطلق في تبني نظام الحياة الذي تراه مناسباً) .
( إن القول بأن الأمة هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات في النظام الديمقراطي ، يؤكد كون الديمقراطية نظاماً " لادينياً " للحياة قائماُ على حق الأمة في تبني نظام الحياة الذي تختاره أيا كان ، على أساس أنها تمثل المرجعية العليا للأنظمة والقوانين في الدولة . ونظراً لانعدام القواعد العقيدية أو الفكرية التي تعول عليها لمعرفة الحق من الباطل ، فإن الفكر الديمقراطي الغربي لا يحدد ثوابت منطقية عقلانية للغايات الاجتماعية خارج إطار الاختيار الفردي . فالعقلانية هي انعكاس لرغبات الفرد ومصالحة الذاتية ، وليست محددات خارجية " موضوعي " للسلوك الاجتماعي للأفراد ) .
( إن سيادة الشعب التي تعد القاعدة الأساسية لأي نظام حكم ديمقراطي ، تعبر بالضرورة عن إرادة الأغلبية وسيادتها " إذ إنه من غير الممكن أن تجتمع إرادات الأمة كلها على غاية واحدة " وإذا كان بالإمكان حصول ذلك في بعض الأمور فإن تحققها في كل الأمور أمر في غاية الصعوبة
وبنا عليه ، فالسيادة في النظام الديمقراطي هي للأغلبية . يشير " سميث وليندمان " إلى أنه إذا كان لا بد لفئة ما أن تحكم الدولة فلم لا تكون الأغلبية هي تلك الفئة ؟ فالأغلبية لها حق الحكم ، ببساطة لأنها الأكثر عدداً ، فالكثرة هي التي يعتد بها عند الحديث عن حق الحكم المنوط بالأغلبية) .
(ومن ثم ، فإن أي قرار أو قانون لا تقره الأغلبية يعد لا أخلاقياً . كما أن ذلك يعني ـ من ناحية أخرى ـ أن القانون أو القرار يصبح صحيحاً من اللحظة التي تدعم فيها الأغلبية القرار ، ويفقد صحته وأخلاقيته حين لا يكون للأغلبية الحق في الحكم على القانون أو القرار) .
( أضف إلى ذلك أن ربط التشريع بالأغلبية ـ لافتراض العصمة فيها ـ يؤدي إلى تنازل الأفراد للأغلبية المسيطرة ـ حيث يجد المرء نفسه مضطراً للخضوع لقانون آخر اتفقت عليه الأغلبية رغم مناقضة القانون لمعتقداته . وهذا التنازل للأغلبية لا يصلح كمفهوم قابل للتطبيق في المجتمعات المرتكزة على العقيدة ، وذلك لأن المرء الذي يحمل اعتقاداً دينياً راسخاً يستحيل عليه أن يتنازل عنه ، خاصة إن اعتقد صحته ، في سبيل ترجيح كفة الأغلبية . ولذلك يصعب تماماً تطبيق الأسس الديمقراطية في الدول التي يعتنق أهلها ديناً عملياً مسيطراً ، فلو افترضنا أن " مجلس الأمة " قرر بناءً على قاعدة " الأغلبية " إباحة الربا ، أو إسقاط حد الرجم عن الزاني المحصن ، فهل تؤدي موافقة الأغلبية على هذه التشريعات إلى جعلها حقاً واجب التطبيق في الدولة ؟ وماذا لو وقفت الأقلية في وجه القوانين التي ترغب أكثرية المجلس في إصدارها ، أيسقط حقها لمجرد كونها أقلية ؟ إن الادعاء بعصمة الأغلبية وصحة آرائها لا يصلح مقياساً في الدول التي تحمل عقيدة كلية عن الكون والإنسان والحياة ، فالمسلم ملزم باتباع الشرع وليس بقبول رأى الأغلبية . فلو اتفق أعضاء مجلس الأمة أو الشورى على تبني رأي مخالف للشرع ، فأن هذا الرأي ـ بميزان الشرع ـ يعد رأياًَ باطلاَ ، حيث إن العبرة ليست في عدد المصوتين للقانون بل العبرة بانبثاق التشريع من الشرع الإسلامي واتفاقه معه ).(5/110)
( إذا نظرنا إلى الديمقراطية على أنها حكم الأغلبية فمن المعروف أنه في أي نظام سياسي لا يمكن اعتبار الأغلبية أغلبية سكان الدول ، وذلك من يقطن أراضي الدولة يعد مواطناً . كما أن عدد أولئك الذين يسمح لهم القانون بالتصويت أقل بكثير من عدد مواطني الدولة . كما أن عدد أولئك الذين يشاركون في التصويت بالفعل دائماً أقل من عدد الذين يسمح لهم بالتصويت ، فقيود المواطنة تحد بشكل ملحوظ من عدد الأغلبية ، فقد كانت المواطنة , وما يرتبط بها من حق الانتخاب في معظم الدول الأوربية ، مرتبط بالرجال أصحاب الأملاك . حتى حين حصلت المرأة على حق الانتخاب في القرن العشرين ، فإنه لا تزال هناك شريحة كبيرة من المواطنين لا تشارك في الانتخابات ، إما بحكم السن أو التعليم أو عدم الاهتمام ، هذا غير الأجانب الذين لا تسمح لهم الأنظمة بالمشاركة في الانتخابات .
كل ذلك يعني أن السيطرة على شئون الدولة تصبح بيد " الأقلية " وليست " الأغلبية " التي تفترضها النظرية الديمقراطية . ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية ، ولكن الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى " النخبة " . ومن ثم ، ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة ، وبحكم بعض المزيا الموروثة وغيرها من العوامل . ويؤدي التوزيع غير المتساوي للموارد إلى تحكم فئات اجتماعية معينة في الموارد وإلى السعي ـ عن طريق المؤسسات الاجتماعية . إلى ترسيخ مصالحها ومزاياها الاجتماعية لتصبح جزءاً لا يتجزأ من النظام حتى يألفها الناس ، ويعتقدون مع مرور الأيام بحق النخبة المسيطرة في الحكم .
ولذلك ، إذا أردنا تطبيق المعنى الحرفي للديمقراطية الذي هو حكم الشعب ، فإنه لن يكون هناك مكان للنخب في النظام ، ولكن ذلك يعني من ناحية أخرى أنه لن تكون هناك ديمقراطية في أي مكان في العالم) .
( إن ربط السيادة بالأمة في النظام الديمقراطي ـ وهو ما يميزه عن الأنظمة الاستبدادية التي تجعل السيادة في يد الحاكم ـ يجعل للأمة حق تبني نظام الحياة السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، مما يجعل النظام الديمقراطي يقف على طرفي نقيض مع النظام الإسلامي القائم على سيادة الشرع الإسلامي في واقع الحياة . فالشرع ـ وليس الشعب ـ هو المرجع الأعلى في النظام السياسي الإسلامي ، ومن ثم فجعل الشعب المرجع الأعلى لأنظمة الحياة يعد تعطيلاً صريحاً لسيادة الشرع وهيمنة أحكام الإسلام في الدول ، مما يؤدي إلى ظهور الكفر البواح ، وتحول الدولة إلى دار الكفر .
وقد تواترت الأدلة الشرعية المؤكدة أن السيادة للشرع وحده في الدولة الإسلامية . قال - تعالى - : (( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق )) وقال – تعالى - : (( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )) ) .
( إن النظام الديمقراطي قائم على تبني نظرة محددة للظاهرة والممارسة السياسية وللعلاقات الاجتماعية ـ تنطلق من العلمانية كقاعدة للحياة السياسية تتمثل في بعدها السياسي في أمرين :
1 - في إقرار سيادة الأمة وحقها في تبني نظام الحياة الذي تراه مناسباً لها .
2 - وفي حيادية الدولة تجاه القيم الفردية ، أو ما يسمى بالأخلاق الخاصة . وذلك يعنى أن المجال الخاص للأفراد لا بد أن يبقى بمنأى عن التدخل الخارجي من قبل أي سلطة أخرى ، وذلك من أجل الحفاظ على الحرية الفردية التي تمثل قاعدة البناء الاجتماعي في الدولة . ولقد أدى التزام الديمقراطية ـ الليبرالية بحيادية الدولة تجاه الأخلاق والقيم إلى المناداة بتبني التعددية السياسية والفكرية في المجتمع من منطلق حرية الأفراد.
لقد كان هدف الفكر الليبرالي الديمقراطي من إعلان حيادية الدولة تجاه الأخلاق الخاصة وإقرار التعددية هو التصدي لمفهوم الدولة " الغائية " أو الحركات السياسية الغائية ، من المنطلق الديمقراطي القائم على أن وجود منظور أخلاقي واحد للقيم يتعارض مع الفكر التعددي . ومن ثم ، فالدولة الديمقراطية ملزمة بعدم فرض أو السماح بفرض منظور قيمي مشترك للجماعة ؛ وذلك لأن تبني منظورأحادي للقيم ينافي الديمقراطية) .
( فالدولة الديمقراطية لا علاقة لها " بهوية الإنسان وإيمانه وكفره ونوعية القيم التي يحملها ، فالكل سواء : عالم الدين والبغي ، والمسلم النصراني !!
يقول حيدر علي في معرض نقده للديمقراطية الإجرائية التي يرى أن الإسلاميين يقبلونها مع رفضهم للفلسفة التي تقوم عليها كنظام للحياة : " فالديمقراطية توجد ضمن شروط ومكونات معينة ، وقد تكون الإطار الذي تتفاعل فيه عمليات مثل التحديث ، وأفكار مثل الليبرالية والعلمانية " ومن ثم فاختزال الديمقراطية في انتخابات ومشاركة يقدم نظرة ناقصة لها ، وذلك لأن السؤال الذي يطرح نفسه عند بحث ظاهرة ما يسمى " الديمقراطية الإسلامية " التي ينادي بها بعضهم هو : هل الاختلاف أو التعارض حول ما يؤخذ وما يترك جوهري يؤثر على جوهرها أو أنه اختلاف ثانوي ؟(5/111)
ويجيب حيدر علي على ذلك بقوله إن " الصيغة الإسلامية للديمقراطية ... مطالبة بتكييف نفسها مع ثوابت عقدية وتحريمات ونواه دينية قد تكون عقبات أمام الديمقراطية الصحيحة ... فهناك قضايا تتقاطع مع أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان ، مثل : عقوبة الردة ، ووضعية غير المسلمين ( أهل الذمة ) ، والمرأة ، والحريات الشخصية ، وحرية الرأي والتعبير ، وطاعة ولي الأمر ، والفتنة ومخالفة الجماعة "
وبناء عليه ، فالمطالبة بإقامة نظام ديمقراطي في بلاد المسلمين تقتضي بالضرورة جعل الحرية الفردية والتعددية قواعد تبنى عليها الحياة السياسية في الدولة ، مما يؤدي إلى تناقض بين الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في واقع الحياة وإقامة القواعد الديمقراطية . وأسوق مثالاً يوضح الأمر وهو الذي أشار إليه حيدر علي ، وهو المتعلق بحد الردة ، فالردة حدها القتل لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم ) : " من بدل دينه فاقتلوه " ولكن قتل المرتد يعارض حرية العقيدة والرأي التي يقوم عليها النظام الديمقراطي ، لأن الدين ينظر إليه على أنه مسألة شخصية فردية خاصة ، والنظام الديمقراطي قائم على حيادية الدولة تجاه العقائد والأخلاق .
وهنا يكون المسلم أمام خيارين : فإما أن يطبق حد الردة على المرتد عن دينه من العلمانيين والشيوعيين وغيرهم ممن ينكر أحكام الإسلام ، أو يدعو إلى ما يناقضها ويخرج بذلك عن كونه ديمقراطياً يؤمن بالحرية . أو يتبنى الديمقراطية كقاعدة ، ويطوع أو يلغي الأحكام الشرعية المعارضة في نظر الآخرين لأحكام الحرية والتعددية الفكرية ؛ فيجعل الردة حقاً من حقوق الإنسان وحرية يجب صيانتها ؟!
فهذا كاتب معروف يقول : " فأنا لست مع إقامة حد الردة على من يرتد عن الإسلام " ويجعل - كذلك - اختيار الدين نوعاً من الاختيار الفردي بقوله : " أيضاً إذا بدا لإنسان أن يعتنق النصرانية مثلاُ ، فهذا لون من الاختيار يستوجب منا الحوار مع هذا الإنسان " !
ومن ثم ، فقيام الديمقراطية ـ كما يشير داريوش شايغان ـ يتطلب علمنة العقول والمؤسسات ، أي أن من شروط قيام الديمقراطية تبني العلمانية التي تعني الاعتراف بحرية العقائد والأيدلوجيات ، والسماح لها بالدعوة إلى ما تؤمن به ، من منطلق حقها المطلق في الوجود ، وفي الإيمان والدعوة إلى ما تؤمن به . وقد أشار منصور الكيخيا إلى أن قيام الديمقراطية ونجاحها يتوقف على تبني العلمانية ، " أي الاعتراف بحرية جميع العقائد والأيدلوجيات والتعايش السلمي بينها ، وإحلال الحوار بينها بدلاً من قمعها " .
كما أن قيام الديمقراطية يقتضي علمنة المؤسسات السياسية في الدولة ، فقد أكد حيدر علي أن هناك مؤسسات وأجهزة يؤدي وجودها واستمرارها إلى إعاقة الديمقراطية ؛ مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحسبة التي تقوم بمراقبة الشارع الإسلامي ، والتأكد من التزام الأفراد بأداء الصلاة أو عدم الإفطار في رمضان ، والالتزام بالزي الإسلامي ، والسلوك الإسلامي . ويضيف الكاتب قائلاً : " هذه نماذج لمؤسسات ضرورية تعمل عمل الدولة على المستوى الشعبي وبالتالي تصدر عقوبات وتتسب في مضايقات للمواطنين . وهي غالباً ما تصطدم بالحريات الشخصية وتتدخل في شؤون الآخرين " !!
ومن ثم ، فبقاء مثل هذه المؤسسات يشكل عقبة في وجه بناء مجتمع ديمقراطي تعددي ، فالديمقراطية تقتضي ليس فقط علمنة العقول بقبول الآخرين والاعتراف بهم ، وإنما تقتضي أيضاً إلغا المؤسسات الدعوية والأخلاقية التي تصطدم مع الحرية الفردية وتتدخل في حياة الأفراد الخاصة .
يتضح مما سبق أن الديمقراطية ليست إجراءات عملية شكلية تختزل صورة انتخابات دورية وتداول للسلطة وغيرها ، وإنما هي نظام للحياة قائم على شروط موضوعية جوهرها قائم على النظرة الفردية للإنسان المستمدة من الفكر الليبرالي الذي يجعل الفرد غاية البناء الاجتماعي ، والذي يؤكد انعدام " القيم المشتركة " أو الجماعية كما سبق أن بينا ، ونظام الحياة قائم على الحرية الفردية التي تعني حق المرء في اختيار ما يراه مناسباً من أفكار ، وقيم ، وأخلاق ، ودين ، وطريقة للعيش دون تدخل أي قوى خارجية ، فالمرء سيد نفسه ) .(5/112)
( سعى كثير من الكتاب والمفكرين ، من باب تقليد الثقافة الغربية ، إلى المناداة بإقرار الحرية والتعددية كقواعد للعمل السياسي في بلاد المسلمين . وقد دافع هؤلاء عن حرية الرأي ، وشرعية الاختلاف التي تقوم عليها التعددية ، وشرعية وجود تعددية حزبية . وهذه الأفكار والمعالجات التي صدرت مجاراة للفكر الغربي ، لم تبن على شرعية ولم تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما انطلقت من واقع سياسي قائم وواقع سياسي مأمول . فعندما ابتليت بلاد المسلمين بالاستبداد السياسي ظن هؤلاء أن لا مخرج لهم ولا منجى إلا بالديمقراطية الغربية ، فحاولوا تطويع أحكام الإسلام ومبادئه لتوافق ما أقروه صراحة من الحاجة إلى الديمقراطية ، لكي لا يحبط عمل الأمة !! ولتسويغ تبني مفهومات الغرب وأحكامه ادعى بعضهم أن الشورى هي عين الديمقراطية ، ومزجها آخرون وجعلوها " شوروقراطية " وانطلق عديد من الكتاب من الادعاء بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد ، وأن التنظيم السياسي متروك للاجتهاد البشري ، وذلك لأن الإسلام ـ في رأيهم ـ اكتفى في مجال الظاهرة السياسية بالتعميم ، حيث أتى بقواعد عامة وترك التفصيلات ولم يبينها للناس . وقد دفعهم هذا التصور إلى المناداة بتبني الديمقراطية والدعوة إليها من منطلق اندراجها تحت التفصيلات التي تركها الشرع للاجتهاد البشري .
يقترب هذا الرأي الذي يتبناه بعضهم ، كما يؤكد غودرون كريمر : " بشكل " خطر " من اتجاه علي عبد الرازق الذي عارضوه بشدة . فهم بخلافه يقولون إن الإسلام دين ودولة ، ولكنهم يعودون مثله للقول إن مسائل التنظيم السياسي متروكة للعقل البشري . إن هذه الطريقة في الفهم والتعليل أدت إلى بروز تناقض أساسي داخل الفكر الإسلامي الإصلاحي مؤداه أنه في الوقت الذي تعتبر فيه الدولة مهمة جداً لتطبيق الشريعة ، لأنها هي التي يفترض أن تقوم بذلك ، فإن أشكال التنظيم السياسي اعتبرت أموراً تقنية غير جوهرية "
ورغم هذا التناقض البين إلا أن كثيراً من الكتاب رأوا في حجة " مرونة الشريعة " فرصة للمناداة بتطبيق الديمقراطية التي تبنوها ، وجعلوها قاعدة الانطلاق لبناء الدولة الإسلامية ، بحجة أن الإسلام ترك مجال الأنظمة مفتوحاً للاجتهاد البشري ، ولأن الديمقراطية ـ في رأيهم ـ أقرب الأنظمة المعاصرة للإسلام .
لقد أدى تبني هذا الاتجاه إلى إهمال الإسلام ومعالجته للواقع في خضم اللهث وراء مفهومات الغرب ومعالجاته . كما أدى ـ كذلك إلى إغفال حقيقة ثابتة وهي أن المفهومات الغربية والمعالجات المنبثقة عنها إنما تنطلق من قاعدة فكرية محددة ، وتهدف إلى تحقيق غايات ترتبط بنظام للحياة لا يصلح للتطبيق في بلاد المسلمين .
فالتعددية السياسية التي ينادي بها بعضهم ، مثلاً ، تمثل : " جزءاً من أجزاء منظومة مفاهيمية متكاملة نشأت وترعرعت داخل النسق الفكري الغربي الليبرالي ، ومن هذه المنظومة : المجتمع المدني ، الديمقراطية ، تداول السلطة ، المشاركة السياسية ، توازن القوى ، انتشار السلطة ، صيانة الحقوق ، حقوق الأقليات ، حقوق الإنسان .."
ولقد دفع التقليد أبناء الأمة إلى استيراد قوالب فكرية جاهزة للعمل لها. ولترويجها تمت أسلمتها بأن أرجعت إلى أصول إسلامية ، أو أشير إلى أنها لا تعارض الشريعة الإسلامية ، أو أنها تتفق وروح الشريعة ، " وبعض الإسلاميين سارعوا ـ تحت ضغط أطروحات الآخرين ـ إلى إضفاء اللباس الشرعي من منطلق المقاربة أو توهم المماثلة ، وإجراء القياس مع إلغاء الفوارق الظاهرية أو عدم التنبه لها . ولكيلا تكتشف عقلية التقليد الكامنة وراء ذلك حشرت مجموعة من الآيات والأحاديث والأصول والفروع الفقهية الكامنة وراء ذلك ... وقطعت من سياقاتها لتصبح دليلاً على صحة " التعددية " بمفهومها السائد ، والإفتاء بمشروعيتها ، والموافقة على الأخذ بها " ) .
( والسؤال الذي يطرح نفسه هو : هل الدولة الإسلامية دولة قائمة على التعددية السياسية والفكرية ؟ بمعنى : هل نظام الدولة قائم على الحيادية الفكرية والعملية تجاه التيارات السياسية المختلفة ؟
الإجابة بالنفي قطعاً ، فالدولة الإسلامية دولة عقيدة ، تحمل مفهومات شرعية عن الحياة وتطبقها في الواقع ، فكيف يجوز لها أن تسمح بإقامة ما يخالف ما تدعو إليه ؟ أما فيما يتعلق بوجود جماعات في الدولة الإسلامية تدعو إلى الزندقة أو الفكر الباطني ، أو الشيوعي فهذا لا يعني إقرار شرعية وجودها أو الإذن لها بالدعوة إلى ما تدعو إليه .
وهناك فرق بين أن توجد في الدولة جماعة لا تحمل الإسلام عقيدة وشريعة ، وبين الإقرار بوجودها وإعطائها شرعية من قبل الدولة ، إما بالوقوف منها موقف المحايد ، أو السماح لها بالدعوة إلى المنكرات الفكرية التي تحملها ، وذلك لأن هذه الحيادية المزعومة لا تتفق أصلاً مع الدولة الشرعية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .(5/113)
( هذه النظرة الديمقراطية لا تصلح في مجتمع إسلامي قائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فالعلمانية من أحكام الكفر سواء ما أطلقوا عليها المتصالحة مع الدين أو غير المتصالحة . والشيوعية تؤمن بأن الكون والإنسان والحياة مادة فلا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار؛ فالإيمان يها كفر بالله ، والسماح للحزب الشيوعي بالدعوة إلى ما يدعو إليه كفر بالله . وإقرار الأفراد من مفكرين سياسيين ، أو حزبيين إسلاميين بجواز قيام أحزاب مخالفة للشريعة الإسلامية لا يجعل وجود مثل تلك الأحزاب أمراً جائزاً في الدولة الإسلامية ، لأن الأمر الذي يعول عليه في الحكم على ما يخالف الشرع أو يوافقه إنما هو أحكام الشرع المعالجة للواقع وليس أقوال الرجال ).
( المرجع : كتاب " نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية - مواضع متفرقة منه - ) .
==============
مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث المسائل والأحكام
د. سعد بن مطر العتيبي
(1)
المقالة الثانية :
مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث المسائل والأحكام (1)
مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة من حيث مسائلها لا تخرج في إطارها العام عن الجوانب العملية التي تقبل التَّغَيّر لبنائها على مناط متغيِّر يتغيَّر الحكم الشرعي لمسألته تبعاً لتغيِّر المناط .
وعليه ، فلا يدخل في مجالات إعمال السياسة الشرعية ما يُعرف بالثوابت في ذاتها ، التي منها ما يتعلق بالمكلفين من الأحكام العقدية ، كالإيمان بالله ووحدانيته والإيمان بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتصديقهم ، والإيمان بالكتب والملائكة ، والإيمان باليوم الآخر ، وبالقدر خيره وشرِّه ، وتحريم الشرك ، وتحريم موالاة الكفَّار ؛ فهذه وأمثالها ثوابت في الدِّين لا يمكن أن تتغير ، وكذا " الأحكام الشرعية التي تتضمن قواعد هذا الدِّين وأسسه ، والأحكام المعلومة من الدين بالضرورة ، والأحكام التي تحث على الأخلاق والفضائل ، بل وجميع الأحكام الشرعية العملية التي لم تُبن على العرف أو المصلحة أو التي لم تُناط بعلة أو التي لم تصحبها ضرورة ؛ فإنَّها ثابتة ولا يصح جعلها محلّ نظر وتغيير " (2) .
و الجوانب العملية في الشرعيات ليست على إطلاقها ، بل هي من الأمور المتشعِّبة المتشابكة التي تتطلب استقراءً لمسائلها ليصدق ضبطها ضبطا دقيقا يقرِّب فقه السياسة الشرعية فيها لطالب العالم تقريباً يعينه في تطبيقها ؛ وإنما هذه خطوط عريضة في بيان مجالات السياسة الشرعية من حيث المسائل والأحكام ، مع شيءٍ من ضبط هذه المجالات ؛ فيُقال :
المسائل الفقهية من حيث دخولها تحت السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ، وعدمه ، تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما لا يختص به أولو الأمر ، وليس داخلاً في تدبيرهم بالولاية .
ومجال هذا القسم : الأحكام التي أنيطت وربطت بأسبابٍ متى وُجِدَت وُجِدَت هذه الأحكام ، دون تعلق بالولاية ، فهذا القسم ليس مختصّاً بأولي الأمر ؛ إذ إنَّه يتبع سببه الشرعي (3) ، فمتى وُجِدَ السبب وُجِدَ الحكم ، كإقام الصلاة ، وإيتاء ما يجب في الأموال من زكاة . ويتجلَّى هذا الأصل في عامَّة المسائل التي توصف بالثوابت كالعبادات ، وأصول الأخلاق والآداب الشرعيَّة وما في معناها .
وهذا القسم ليس داخلا في السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ، التي هي من تدبير أولي الأمر وتصرفاتهم المنوطة بالمصلحة الشرعية .
تنبيه :
لا يدخل في هذا القسم ما يتعلق بإطلاق ولي الأمر الشرعي ( قاضيا شرعيا أو مفتياً خبيرا ) وصفاً عقدياً يترتب عليه أحكام عملية للموصوف به في ذاته أو في علاقته بغيره أو علاقة غيره به ، فقد يوجد فيها جوانب عملية تتطلب حكماً شرعياً سياسياً ، ومنها ما يعرف اليوم بأسس التعايش السلمي في المجتمعات وكذلك ما يناقضه ، ولعله يتضح بالمثال في حينه إن شاء الله تعالى ، وإنما أشرت إليه هنا لأهمية استحضاره .
القسم الثاني : ما كان موكولاً إلى تدبير أولي الأمر .
ويتجلَّى هذا القسم في المسائل التي تتوفر فيها الأسباب والأوصاف التالية ، أو بعضها (4) :
1) أن تكون هذه المسائل مما يحتاج إلى نظر وتحرير ، وبَذْل جُهدٍ من عالم بصير ، حَكمٍ عَدْلٍ ، في تحقيق أسبابها ، ومقدار مسبَّباتها ؛ كالتعزيرات ؛ فإنَّها تفتقر إلى تحرير في مقدار الجناية وحال المجني عليه ، حتى تقع المؤاخذةُ على وفق ذلك من غير حيف ؛ وهكذا جميع ما وُكِلَ تقديره إلى اجتهاد الأئمة والحكَّام ، ومن في حكمهم .(5/114)
2) أن تكون مما يفضي تفويضه لجميع الناس إلى الفتن و الشحناء ، والقتل والقتال ، وفساد النفس والمال ؛ كإقامة الحدود ، فمع " أنَّها منضبطة في أنفسها ، لا تفتقر إلى تحرير مقاديرها ، غير أنَّها لو فُوِّضت لجميع الناس ، فبادر العامة لجلد الزناة ، وقطع العُداة بالسرقة وغيرها ، اشتدَّت الحَمِيَّات ، وثارت الأَنَفَات ، وغَضِبَ ذوو المُروءات ، فانتشرت الفِتَنُ ، وعَظُمت الإحَنُ ؛ فحسم الشرعُ هذه المادَّة وفَوَّض هذه الأُمورَ لولاةِ الأمور ، فأذعن الناس لهم ، وأجابوا طوعاً وكرهاً ، واندفعت تلك المفاسدُ العظيمة " (5) ، وجباية الجزية ، وأخذ الخراج من أرض العنوة وغيرها (6) .
3) أن تكون مما قَوِيَ الخلاف فيه مع تعارض حقوق الله تعالى وحقوق الخلق ؛ أو تقاربت فيه المدارك ، وكان النِّزاع فيه في أمر دنيوي ؛ كالأملاك و الرهون والعقود وغيرها ؛ فهذا مِمَّا يَفْتَقِرُ إلى حُكْمِ الحَاكِم - و إنشاء حكم من هذا القبيل ليس لكل من ولي ولاية ؛ قال العلامة القرافي : " لا خلاف بين العلماء أنَّ ذلك ليس لكلّ أحد ، بل إنَّما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص ، وهو ولاية خاصَّة ، ليس كل الولاية تفيد ذلك " ؛ ثم سرد رتب الولايات وبيَّن أحكامها ، وأنَّ من رتب الولايات التي يدخل فيها هذا النوع من الأحكام : الإمامة الكبرى ، وولاية القضاء - (7)؛ فإذا حكم فيها حُكماً مما يقبله ذلك المحلُّ تعين فيه ؛ فلم يُنقض ، ولزم الإذعان إليه (8)؛ لمصلحة الحكم ؛ " لأنَّ الأحكام لو نُقِضت بالاجتهاد لَمَا استقرَّ حكم ؛ لأنَّ القضاة لو نقضوا الحكم بالاجتهاد لأدَّى ذلك إلى أن ينقض كلُّ حاكم حكمَ من قبله ، ويفضي ذلك إلى تضرُّر المحكوم له ، والمحكوم عليه ؛ لأنَّه يُنْزَعُ الحق من أحدهما ، ويُعطى الآخر ، ثم يُنزع من الآخر و يُعطاه غريمه ، ويتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية له ، ولا يخفى ما فيه من الفساد " (9) ؛ سواء كان ذلك بتغير اجتهاده أو بحكم حاكم آخر ؛ كما يلزم من ذلك اضطراب الأحكام و عدم وثوق الناس بحكم الحاكم ؛ فتفوت المصلحة التي نُصب الحاكم لأجلها ، ولا تُفصل الخصومات (10) .
4) أن تكون مما يُشرع نقضه من تصرفات الولاة والحكَّام ، وهي المسائل التي صدرت عن حكم قضائيٍ مخالفٍ لما يوجِبُ نقضَه ، من نصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ (11)؛ أو التي لم تصدر عن حكم قضائيٍ ، ويسوغ لغيرهم من الولاة والحكام النظر فيها ونقضها أو تغييرها ؛ للمصلحة الشرعية ، لا لمجرد التشهي والغرض ، ومن أمثلة ذلك (12) :
- تولية النوَّاب في الأحكام ، و تأمير الأمراء على الجيوش والسرايا وغير ذلك من الولايات .
- و الصرف من بيت المال وتقدير مقاديره في كل عطاء ، في الأرزاق للقضاة والعلماء وأئمة الصلاة ، وفي أجور موظفي الدولة عموماً .
- وتقدير الخراج على الأرضين ، و ما يؤخذ من التجار الأجانب غير المسلمين .
- واتخاذ الأحمية (13)، من الأراضي المشتركة بين عامة المسلمين .
- وعقد الصلح بين المسلمين والكفار .
فهذا كلُّه ؛ لمنْ تصرَّف به ولغيرِ مَنْ تَصَرف به أو قرَّره أو عقْده من الولاة أن يعيد النظر في السبب المقتضي لذلك هل يقتضيه فيبقيه ، أو لا فغيره أو ينقضه ويبطله . وهذا كله مقيد بقاعدة : (تصرف الولاة على الرعية منوط بالمصلحة ) ؛ " فإنَّ كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية ، لا يحلّ له أن يتصرف ، إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة " (14). فهذه الأسباب تكاد تكون ضوابط ، لما هو موكولٌ إلى تدبير الحكام و ولاة الأمور ؛ بل ذكر القرافي أنَّ ما اشتمل على أحد الأسباب الثلاثة الأولى ، أو اثنين منها ، صار مفتقراً للحاكم إجماعاً ؛ فإذا لم يوجد شيءٌ منها تَبِعَ حُكْمُ المسألة سَبَبَهُ الشرعي كالقسم الأول ، حَكَمَ به حاكم أو لا (15) .
والمسائل الفقهية المندرجة تحت هذا القسم - الذي وُكِل تنفيذه إلى أولي الأمر - أنواع ، يأتي بيانها في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .
(2)
والمسائل الفقهية المندرجة تحت هذا القسم - أعني الذي وكل تنفيذه إلى أولي الأمر ، ولا يفتات عليهم فيه غيرهم - أنواع :
النوع الأول :
مسائل شرعت أحكامها ثابتة لازمة ، لا تتغير عن حالة واحدة ؛ فلا تختلف أحكامها باختلاف الأزمنة ولا الأمكنة ، ولا اجتهاد الأئمة .
وهذا النوع ليس داخلا في السياسة الشرعية بمدلولها الخاص ( المتغير ) ؛ إذْ ليس أمام أولي الأمر في هذا النوع سوى الحكم به كما ورد ، واجتهاد أولي الأمر فيه يقتصر على صحة التطبيق ، الذي هو النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور و الوقائع ، المعروف بـ( تحقيق المناط ) (16) .
ويتجلَّى هذا النوع فيما ليس معلَّلاً من الأحكام من العادات والمقدَّرَات ( و ما يدخله تدبير أُولي الأمر منها ، فعلى سبيل التبع والتضمُّن ) (17) ؛ ومنه مقادير الزكاة ، وتعيُّن الحدود المقدرة على الجرائم كما هي ، ونحو ذلك ، ويدخل فيه كثير من الأحكام التي يتعين القضاء بها عند ثبوت أسبابها .(5/115)
النوع الثاني : أحكام جزئية ، شرعت أو استنبطت لمسائل يتغير مناط الحكم فيها بحسب اقتضاء المصلحة ، زمانا ومكانا وحالا ؛ سواء كان هذا المناط عُرفاً أو علَّة مُتَغيِّرَة ، أو نحو ذلك ؛ وتتجلَّى مسائل هذا النوع في الأحكام المعلَّلة أو التي تقبل التعليل (18) .
ومسائل هذا النوع مندرجة تحت السياسة الشرعية ؛ وهي على أضرب :
الضرب الأول : مسائل ثبتت أحكامُها بنصٍّ أو إجماع أو قياس أو استدلال معتبر ؛ لكن من شأنها ألا تبقى على حال ؛ ومن ثم يتغير الحكمُ فيها ، تبعا لتغير مناطه من حال إلى حال ، لا تغيراً في أصل الحكم ؛ بحيث يرى المجتهد أن الحكم تغيَّر في تلك المسائل تبعاً لذلك ؛ فيحكم بحكم يستلزمه هذا التغيُّر ؛ فالحكم الثاني هنا يُسمَّى سياسة شرعية (19) .
وهذا الضرب له صور ، تتعدد بتعدد أسباب تغير الحكم المعتبرة ، و منها :
- تغيَر العرف الذي جاء التشريع موافقاً له . ومنه : إخراج زكاة الفطر في كل بلد من قوت أهلُها ؛ و لا يلزم إخراجها من قوت أهل المدينة النبوية تقيّداً بما ورد ، من تكليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهلَ المدينة بإخراجها من : التمر والشعير والأقط والزبيب (20) ؛ " لأنَّ هذا كان قوت أهل المدينة ، ولو كان هذا ليس قوتهم بل كانوا يقتاتون غيره ، لم يُكَلِّفهم أن يُخرجوا مما لا يقتاتونه ؛ كما لم يأمر الله عز وجل بذلك في الكفَّارات …" (21) .
وقد تقدم ذكر الكلام في حرمة الفتوى على من لم يعرف حال المستفتي وعرف مجتمعه .
- زوال المصلحة التي جاء الحكم معلَّلاً بها . ومنه : إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس في ادَّخَارِ لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، بعد نهيهم عن ذلك وأمرهم بالتصدق بما بقي ؛ فإنَّه لما كان العام الذي يليه ، ( قالوا : يا رسولَ الله نفْعَلُ كما فعَلْنا العَامَ الْمَاضِي ؟ ) ، قَالَ : (( كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا )) (22) ، وفي رواية : (( إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا )) (23) ؛ حيث بين أنَّ الحكم الأول قد تغيَّر من المنع إلى الإذن ؛ بزوال علَّة النهي (24) .
- تغير الحال التي قُيِّد الحكم بها . ومنه : الإذن بقتال الكفَّار في العهد المدني ، دون العهد المكي على اختلاف أحواله ، وهكذا الأحكام التي جاء تشريعها على مراحل اقتضاها اختلافُ الأحوال ، لا وجودُ ناسخ ومنسوخ بينها ، فهي من هذا القبيل .
وهو أخطر مجالات السياسة الشرعية فيما ورد فيه أكثر من حكمٍ بدليل نصي جزئي . فنحن نرى العلماء الربانيين الذين يشهد لهم من يعرفهم من الأمة بالصدق والإخلاص والديانة وسعة الأفق الفقهي والتجربة في ميدان العمل الدعوي ، المطلعين على أحوال الأمة - نجدهم يفتون بمشروعية الجهاد بالسنان في مكان وزمان ويمنعونه في آخر موجهين الخيار المناسب من خيارات جهاد القلم والبيان ، ونحن أيضاً نرى العلماء الربانيين يحكمون على قاتلِ كافر بأن له أحكام الشهيد ، وعلى قاتل كافر آخر بأنه عمله يُعدّ من الأعمال التي تجرِّمها الشريعة الإسلامية ويفتون الأمة بدعم المجاهدين والمرابطين في مكان ويحرمون دعم آخرين ويجرِّمون التعاون معهم بأي وسيلة !
وإذا قرأنا كليات الأحكام الإسلامية في هذه المسألة قراءة متكاملة كما هي في أذهان الفقهاء الكبار من السابقين واللاحقين ، فإنا سنجد تسبيبا كافيا في فهم ما قد يظنه بعض الناس تناقضا منهم . وذلك أنَّ أحكام الإسلام التطبيقية تتصف بخصائص عظيمة منها : الواقعية الشرعية .
ولعلّ من المناسب إيراد تطبيق تقعيدي وصفي ، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحته في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها ، وذلك في قضية يعد الخطأ في فهمها من أخطر قضايا العصر على أهل الإسلام (25) ، وعرض ذلك بلغة عصرية تُقرٍِّب المراد ، ولا سيما أنّ بعض مسائل هذا الضرب صارت مثار جدلٍ بين فئات جافية التي تلوي أعناق النصوص جهلاً أو تهرباً ، أو لا تقيم لها وزنا وتتستر خلف دعوى تجديد الخطاب الديني في تحريفها أو سوء فهم أصحابها على أحسن حال ؛ وأخرى غالية تجاوزت المشروع بتطبيق النصوص على غير مواردها فأخذت بعضها وأولت الآخر أو ادعت نسخه ، وكلا الفئتين - بغض النظر عن النوايا - قد عانت منها الأمة بعدا عن منهاج ربها ، فجلبت الأولى إلى نفسها وإلى الأمة شقاء البعد عن الله ، وعانت الأخيرة من الشقاء الفقهي وجلبته إلى الأمة ، وقد قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) .
وهذا هو موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى تحت عنوان :
تطبيق السياسة الشرعية على أصل علاقة الدولة الإسلامية بغيرها
(3)(5/116)
ذكرت في الحلقة الماضية المسائلَ الفقهية المندرجة تحت القسم الذي وُكِل تنفيذُه إلى أولي الأمر من الأمراء والحكام العلماء أو العلماء إن خلا الزمان عن حاكم مسلم ( الفراغ السياسي ) ، وتم الحديث عن النوع الأول منه ، وعن النوع الثاني والضرب الأول منه ، ثم عن بعض صوره وكان آخرها الصورة التي : تتغير فيها الحال التي قُيِّد الحكم بها . وأن منها : الإذن بقتال الكفَّار في العهد المدني ، دون العهد المكي على اختلاف أحواله ، وهكذا الأحكام التي جاء تشريعها على مراحل اقتضاها اختلافُ الأحوال ، لا وجودُ ناسخ ومنسوخ بينها ، فهي من هذا القبيل .
وقد وعدت في الحلقة الماضية بإيراد تطبيق تقعيدي وصفي ، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحته في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها ، وذلك في قضية يعد الخطأ في فهمها من أخطر قضايا العصر على أهل الإسلام ، وعرض ذلك بلغة عصرية تُقرٍِّب المراد ، ولا سيما أنّ بعض مسائل هذا الضرب صارت محل غواية وفتنة بين فئات من المسلمين مع ما شغّب بسوء فهمه منها أعداء الدين .
بيان فقه السياسة الشرعية المنبثق من أصل علاقة الدولة الإسلامية بغير المسلمين
تقوم حقيقة العلاقة بين الدولة الإسلامية بغير المسلمين على أساس مقصدي ، هو تبليغهم رسالة الإسلام ( الدعوة ) ، والتعامل معهم وفق ما تمليه الأحكام الإسلامية ، التي تراعي بخاصيتها ظروف متغيرات الزمان والمكان والحال ، وفق قواعد تفسيرية غاية في الدقة ، سبق المرور على أصولها في بيان أسس السياسة الشرعية ؛ ولعلَّ فهم هذه الحقيقة يفسِّر بعض مظاهر الشذوذ الفكري في تصرفات بعض المسلمين ، ولا سيما ممن ليس لديهم فهم كاف لذلك ، سواء من ناحية التنظير أو التطبيق .
وتعامل الدولة الإسلامية مع غيرها - من الدول والكيانات - وفق ما تمليه الأحكام الإسلامية ؛ يختلف باختلاف موقفها من الدعوة الإسلامية ؛ فهو لا يخلو من أحوال يمكن إجمال القول فيها فيما يلي :
الحال الأولى : أن تقتنع تلك الدول والكيانات بالدعوة الإسلامية ، وتتحول إلى الإسلام ؛ وحينئذ فتعامل معاملة بقية المسلمين تماماً ؛ دون أي اعتبار للعرق أو اللون أو حتى المواقف السابقة من الدعوة الإسلامية . وهذا ما يحصل في زمن الفتوحات كما جرى في العهد النبوي وعهد الخلافة الراشدة وما تلاها في عدد من الأقطار كفتوحات الدولة الإسلامية في الأندلس ثم ما جرى بعد ذلك من فتوحات الدولة الإسلامية العثمانية .
الحال الثانية : أن تبقى تلك الدول والكيانات على ما كانت عليه ؛ و تقبل العيش في ظل الحكم الإسلامي ، والانضمام إلى الدولة الإسلامية ؛ وهنا تتمتع رعاياها بحقوق رعايا الدولة الإسلامية من غير المسلمين ؛ من الحماية الإسلامية والحرية الدينية الأصلية ، مقابل دفع الجزية ، ممن يلزمه دفعها وهو القادر على العمل والكسب من الذكور (25) .
أمَّا غير البالغين ، والنساء ، وكذا غير القادرين على العمل والكسب ؛ كالعجزة والمقعدين ، أو غير المتفرغين لذلك لانقطاعهم في الكنائس و المعابد ، كالرهبان ؛ فهؤلاء يتمتعون بالعيش في ظل الحكم الإسلامي دون أي مقابل ، كما يُفيدون وينتفعون من المرافق والمصالح العامة في الدولة ؛ بل إذا احتاج أحد من هؤلاء للمعونة وجب على الدولة الإسلامية تقديم المعونة له ؛ حتى الذي كان يدفع الضرائب إذا عجز عن دفعها لعجزه عن العمل ، تتوقف الدولة الإسلامية عن مطالبته بالضريبة .
الحال الثالثة : أن تبقى تلك الدول والكيانات على ما كانت عليه ؛ ولا تقبل العيش في ظل الحكم الإسلامي ، وهي على أضرب :
الضرب الأول : أن تكون تلك الدولة أو ذلك الكيان قوياً ؛ فهذا لا يُعطى حكماً تطبيقياً واحداً ؛ وإنَّما يختلف التعامل معه باختلاف ظروف الزمان والمكان والحال ؛ وحينئذ فهو على أقسام :
القسم الأول : الدول والكيانات التي يكون بينها وبين الدولة الإسلامية معاهدات ؛ فهذه يجب التعامل معها وفق ما تم الاتفاق عليه في بنود تلك المعاهدات ؛ والوفاء بذلك وفاء تاماً ، فإنَّ من يخل به - من فرد أو دولة - متوعدٌ في الإسلام ، بالإثم الأخروي والعقوبة الشديدة .
وحينئذٍ ، يجب على المسلمين دولاً ومنظمات وأفراداً الاستمرارُ في أداء رسالة الدولة الإسلامية في الدعوة ، بسلوك الطرق السلمية الممكنة ، للدعوة إلى الله في تلك الدول والكيانات ؛ وسلوك جميع السبل السلمية التي تسلكها الدولة الإسلامية في تقوية إيمان المسلمين في الداخل والخارج ، وإقناع غير المسلمين من رعاياها بالإسلام ؛ والإفادة من جميع القوانين المعمول بها في تلك الدولة أو الكيان المعاهَد في ذلك ، ودعم الجمعيات والمنظمات والأحزاب التي تقدم خدمات للجالياتِ الإسلامية ، وتتعاطف مع قضايا المسلمين . ولا يجوز سلوك طرق حربية عسكرية في ذلك .
وهذا ينطبق على كثير من الدول المعاصرة التي بينها وبين أهل الإسلام معاهدات ، وخاصة تلك الدول التي تجد الجاليةُ الإسلامية فيها قدراً من الحريَّة التي تُمكِّنها من التزام دينها والدعوة إليه تحت سقف مقبول من الحرية في ذلك (27) .(5/117)
القسم الثاني : الدول والكيانات التي ليس بينها وبين الدولة الإسلامية معاهدات ؛ وهذه لا تخلو :
إمَّا أن تعلن الحرب على الدولة الإسلامية ؛ وحينئذٍ فيجب على الدولة الإسلامية ، وعلى المسلمين ردّ الاعتداء ودفع العدوان ، واسترداد ما قد يؤخذ من الحقوق وما قد يحتل من الأراضي ؛ وهذا الوجوب على نوعين : وجوب عيني على الدولة التي اعتدي عليها مباشرة ، ووجوب كفائي على بقية المسلمين ( الأمّة ) .
وهذا كحال الصهاينة المحتلين في فلسطين والأمريكان المحتلين في العراق . وهو ما يفسِّر لنا فتاوى العلماء الربانيين في مشروعية وفرضية الجهاد فيها .
ومن السياسة الشرعية توقف الوجوب على فئة من المسلمين دون فئة ، إن اقتضته المصلحة الشرعية ، سواء كان بقصد جلب نفع يشرع جلبه أو دفع ضرر يجب دفعه (28) .
وإمَّا أن لا تعلن تلك الدول والكيانات الحرب على الدولة الإسلامية ؛ لكنها تمنع انتشار الدعوة الإسلامية ، وتحجبها عن الشعب ، وتمنع رعاياها من الدخول في الدين الإسلامي ؛ وبهذا السلوك وهذه السياسة ، يعدّ نظام هذه الدولة نظاماً استبدادياً ؛ يعارض حقوق الإنسان ؛ فيسلب الإنسان حقه في حريته الدينية ، و من ذلك حقّه في اختيار الإسلام ؛ كالشأن في الدول التي أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سراياه ورسله لدعوتهم فوقفوا من الدعوة موقف العداء ، فنتج عن سلوك السياسة الشرعية معهم ما عُرِف فيما بعد بالفتوحات الإسلامية .
ومنه في الزمن المعاصر ما كان يُعرف بالاتحاد السوفييتي سابقا ، وبعض الجمهوريات التي ورثته ، وكالحال في كوبا وغيرها من البلدان الاستبدادية ، وهنا يراعى الفقه السياسي الشرعي بالنظر في حال الدولة الإسلامية وإمكاناتها ، وما تكون فيه من حال قد توجد في زمن دون غيره أو مكان دون غيره ؛ وهذا ما سيأتي تفصيله في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .
(4)
جاء في الحلقة الماضية إيراد تطبيق تقعيدي وصفي ، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحت مسائله في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها ، وذلك ببيان
فقه السياسة الشرعية المنبثق من أصل علاقة الدولة الإسلامية بغير المسلمين
وأنَّ الأساس المقصدي الذي تقوم عليه حقيقة العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها على أساس مقصدي ، وهو تبليغ رسالة الإسلام لغير المسلمين ( الدعوة ) ، والتعامل معهم وفق ما تمليه الأحكام الإسلامية ، التي تراعي بخاصيتها ظروف متغيرات الزمان والمكان والحال ، وفق قواعد تفسيرية غاية في الدقة وهذه تتمة ذاك التطبيق (29):
توقفنا في الحلقة الماضية عند الاحتمال الثالث من القسم الثاني المتعلق بالدول والكيانات التي ليس بينها وبين الدولة الإسلامية معاهدات ؛ إذ فيه أن هذه الدول لها أحوال ، وهي :
إمَّا أن تعلن الحرب على الدولة الإسلامية ؛ وتم الحديث عنه .
وإمَّا أن لا تعلن تلك الدول والكيانات الحرب على الدولة الإسلامية ؛ وهنا يراعى الفقه السياسي الشرعي بالنظر إلى الدولة الإسلامية ويضعها في أحوال قد توجد في زمن دون غيره أو مكان دون غيره :
فإمَّا أن تكون الدولة الإسلامية في حال قوة وتمكّن ؛ وهنا تسلك الدولة الإسلامية والأمةُ الطرقَ السلمية أولاً ، للتأثير على هذا النظام وهذا الكيان - مع إشعاره بطريق ثالثة تُفرِض عليه إن لم يقبل الطرق السلمية - من خلال عرض الخيارين التاليين عليه ، وهما :
1) التحول إلى المنهج الإسلامي عقيدة وشريعة ؛ ويتم بذلك الحصول على جميع مزايا النظام الإسلامي ، ومنها المزايا : السياسية ، والعسكرية ، والقضائية ، والاقتصادية .
2) القَبول بالحكم الإسلامي ، والانضواء تحت رعاية الدولة الإسلامية ؛ مع بقاء من شاء من الرعايا على الديانة التي هم عليها أفرادا كانوا أو جماعات ؛ ويتم بذلك لهؤلاء الحصول على جميع مزايا النظام الإسلامي الخاصة بالرعايا غير المسلمين ، والتي سبق الإشارة إليها .
فإن لم يقبل هذا الكيان بذلك ، فإنّ الدولة الإسلامية تسلك طريق فرض العدل المفقود والحرية المسلوبة ؛ للتأثير على هذا النظام من خلال خيار الدولة الإسلامية الثالث ، وهو :
3) اللجوء إلى الجهاد المشروع من أجل نشر الحرية في اختيار توحيد الله أو ما يعرف في الفقه الإسلامي بـ ( جهاد الطلب ) أو ( جهاد الدعوة ) وغايته إتاحة الحرية الإنسانية ؛ لحماية حق الإنسان في اختيار أن يكون الله عز وجل هو إلهه ، فينضم باختياره إلى الأمة الإسلامية ، أو أن يبقى على دينه ، ويتخلص من الحكم الاستبدادي الظالم ، ويتمتع بالحكم الإسلامي العادل مقابل الضريبة الرمزية التي هي ( الجزية ) التي هي أقل من الزكاة التي يؤتيها المسلم .(5/118)
والجهاد الإسلامي يتميز عن غيره من أنواع القتال بأنَّه : يتصف بالمثالية الواقعية ؛ لما يشتمل عليه نظامه من ضمانات إنسانية راقية ؛ فلا عنصرية ولا عرقية ولا إبادة . وتمنح السياسةُ الشرعية الدولةَ الإسلامية مرونة في تسمية الجزية ، فيجوز أن تفرض باسم آخر كـ ( الضريبة ) في مقابل الزكاة . ويمكن أن يطلق عليها مسمى الزكاة لو اقتضت الحال ذلك ، وله أصل من عمل الخلفاء الراشدين ليس هذا محل تفصيله .
ففي حال قوة الدولة الإسلامية قد تبدأ هي بالقتال ، ولا تقبل المسالمة ولا المهادنة ، حتى يُزال الكيان الظالم الجائر ، الذي يقف في وجه إبلاغ الرسالة ، ويمنع النّاس من التعرف عليها و اتباعها ؛ وفي هذا إعمال للآيات الواردة في ذلك ، والتي اتفق العلماء على الأخذ بها وتطبيقها عند تحقق ظروفها .
ولكنّ هذا الخيار ليس حتماً في حال قوة الدولة الإسلامية ؛ فقد تكون المهادنة والمسالمة لفترة من الزمن تحقق مكاسب عظيمة تفوق مكاسب الحرب والقتال ؛ كما حدث في صلح الحديبية (30) ؛ ومن ثمَّ يشرع للقيادة الإسلامية مهادنة العدو حتى مع القوّة .
وإمَّا أن تكون الدولة الإسلامية في حال ضعف ؛ وهنا يجب عليها سلوك الطرق السلمية الممكنة ، للدعوة إلى الله وإبلاغ الرسالة الخاتمة والدين الحق ؛ وسلوك جميع السبل السلمية الممكنة التي تسلكها الدولة الإسلامية في تقوية إيمان المسلمين في الداخل بشتى صور الدعوة وتهذيب السلوك وتقوية الإيمان وحمايته من أهل الباطل ، وفي الخارج بتقوية إيمان الأقليات الإسلامية ودعوتها للصراط المستقيم ، وإعانتها في تطبيق الإسلام على الوجه الصحيح ، وحل إشكالاتها الدعوية والفقهية ، والسعي في إقناع غير المسلمين من رعايا الدول المسلمة باعتناق الدين الحق ، كما هو الشأن في حال الدولة المعاهدة من خلال المشاريع الدعوية المباشرة أو الموجودة على أرض الواقع بجهود المسلمين فيها أو من خلال دعم الأقليات وحثها على نشر رسالة الإسلام التي تنتمي إليه ، ونحو ذلك مما هو واقع ومعمول به اليوم في صور كثيرة تحتاج مزيدا من الدعم والتواصل .
وفي هذه الحال تقتضي المصلحة الشرعية - في الغالب - عقد معاهدة مع الدول والكيانات الأخرى التي ليس بينها وبينها عهد ؛ فيشرع لها حينئذ المسالمة والصلح - بالمعنى الشرعي الذي يعني الهدنة المؤقتة أو المطلقة ، وليس المعنى القانوني الذي يعني الصلح الدائم – لكف شرها أو تحييدها والانتفاع بما يمكن الانتفاع به من العلاقات ضمن هذا العهد ؛ وتكتفي في سياستها العسكرية بالرد على من يبدؤها بالقتال ، مع العمل على تقوية الجيش الإسلامي وإعداد المقاتلين في الأمة ، ونصر المستضعفين ونشر الدين بالوسائل المشروعة قدر المستطاع ، وهذا يعني أنّ جهاد الطلب ( نشر الحرية ) قد يتأخر مدّة الإعداد للقوة الطالبة ، ولكن جهاد الدفع ( ردّ الغزاة وطرد المحتل ) لا يسقط في هذه الحال ولا يؤخّر ؛ لأنَّه فرض عين ، ولا تصح معه المهادنة (31) .
ومما يندرج تحت ذلك : حال الضرورة ، وذلك أنَّ الضرورة قد توجد مع قوة الدولة الإسلامية وظهورها على غيرها ؛ فقد تمر بضائقة مالية وحالة تزيد الحرب فيها الحال سوءا ، ومع توافر الجند وكثرة العتاد قد يحصل انشغال بحروب المصالح ، كمقاتلة مرتدين ، أو بغاة ، أو دفع كيد الطابور الخامس ، أو نحو ذلك مما لا يسمح بخروج الجند إلى ما وراء الثغور ، لتحقيق أهداف الدولة الإسلامية في نشر الحق والعدل ، وإزالة الكيانات التي تتبنى الظلم والجور ، وتقف في وجه الحرية والعدل ؛ فهنا قد تهادن الدولة الإسلامية تلك الكيانات ، بمال يدفع إليها وتتقوّى به ، أو بغير مال ، أو بمال تدفعه هي دفعاً لما هو أشدّ ضرورة وأعظم ضرراً ؛ كلّ ذلك حسب ما تقتضيه الضرورة الشرعية التي يجب أن يقرِّرها أولو الأمر من العلماء والولاة ؛ على النحو الذي يقرِّره الفقهاء في بيان مشروعية الهدنة ، وبيان مناط تلك المشروعية .
وهكذا تبقى قاعدة : ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما إذا لم يتيسر السلامة منهما جميعاً (32) ؛ وتحصيل أعلا المصلحتين ولو بتفويت الدنيا منهما إذا لم يتيسر تحصيلهما جميعاً (33) .
وإذا قرأنا الأحكام الإسلامية في هذه المسألة قراءة متكاملة كما هي في أذهان الفقهاء الكبار ، فإنا سنجد تسبيبا كافيا في فهم ما قد يظنه بعض الناس تناقضا منهم . وذلك أنَّ أحكام الإسلام التطبيقية تتصف بخصائص عظيمة منها : الواقعية الشرعية . وفي هذا التقعيد الفقهي و التطبيق السياسي الشرعي الوصفي ، ما عليك إلا أن تنزّله على ما يوافقه مما تفوه به علماء الشريعة الربانيون المعاصرون من أحكام وفتاوى بشأنه ، لتظهر الخلفية السياسية الشرعية لتلك الأحكام والفتاوى في البلاد على اختلافها ، وهكذا كل ما تفرع عن هذه الأحكام من مسائل جليلة ودقيقة . ولا أظنك بحاجة إلى أن أعرض فتاوى علماء بعينهم الآن ، وإن رأيت ذلك فإني فاعل ذلك في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى .(5/119)
وثمة تفاصيل تحت هذا التطبيق تتفرع عن مسائل مندرجة عنه أو عن مسائل من مجالات سياسية أخرى ، سيأتي الحديث عنها في حينه إن شاء الله تعالى .
وفي الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى سيكون الحديث عن صور أخرى من صور الضرب الأول من النوع الثاني .
(5)
[ من صور الضرب الأول والثاني وتطبيقاتهما المعاصرة ]
جاء في الحلقة الماضية إيراد تطبيق تقعيدي وصفي ، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحته في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها .
وفي هذه الحلقة نواصل الحديث – إن شاء الله تعالى - عن صور أخرى من صور الضرب الأول من النوع الثاني ، فمن تلك الصور أيضاً :
- تغيُّر الحكم التطبيقي لتغيُّر العلَّة التي بُني عليها ؛ بالنظر إلى تغير حال الناس أو تغير الحال في محل الحكم .
(34) ومن أمثلته التي يذكرها أهل العلم : ما ورد من أمر عثمان رضي الله عنه بالتقاط ضوالّ الإبل لمصلحة أهلها ؛ مع أنَّ النَّصَّ جاء آمراً بتركها (35) ؛ لتغير المصلحة التي بني عليها المنع ؛ فالأمر بتركها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يحقق المصلحة منه ؛ لغلبة الصلاح في الناس حيث تترك ضالة الإبل حتى يجدها ربُّها .
وأمّا في زمن عثمان رضي الله عنه فقد حصل تغيّر في حال الناس أورث خوفاً على أموال الرَّعيَّة من أن تمتدّ إليها يد الخيانة ؛ فرأى عثمان رضي الله عنه أن المصلحة حينئذ في الأمر بالتقاطها وتعريفها ، كسائر الأموال ، ثم تباع ، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها ، إذ لم يعد الأمر بتركها يحقق المصلحة منه على الوجه الأصلح ؛ ولو عادت علَّة المنع من الالتقاط كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لعاد الأمر بالمنع من الالتقاط (36) .
ومنها : وقف عمر رضي الله عنه لسهم المؤلفة قلوبهم لما نتفت علة التأليف في القوم الذين كانوا يؤلفون إلى بعض عهد الصديق رضي الله عنه .
ومن أمثلته المعاصرة : مشروعية التقاط لقطة الحرم بغرض تسليمها مباشرة إلى الجهة المختصة بحفظ ما يلتقط من أموال الحجاج والمعتمرين والزوار ؛ لما يترتب على ذلك من تحقيق المقصد الشرعي بحفظ المال ، وإمكان إيصاله إلى صاحبه ، أو مراجعة صاحبه للجهة المختصة لتسلّم ماله المفقود منها ، ولا سيما مع غلبة الظن بفقدها لتركها عرضة للسرّاق وضعاف النفوس ممن يتصيدون غفلة الزائرين وانشغال الطائفين والعاكفين والركع السجود .
ومنها : مسألة منع بيعِ واقتناءِ أطباق البث الفضائي ، ثم الإذن بها بضوابط تتعلق بالمشاهِد والمشاهَد ؛ وإنَّما منعها من منعها من أهل العلم الكبار في حينه ، لانحصار استعمالها في الشرّ في وقتٍ ، وغلبته فيما بعد ؛ ثم لمَّا ظهرت القنوات النافعة ، لم نجد الفتوى التي تأذن فحسب ، بل وجدنا الفتوى التي تحض على الاشتراك في القنوات الصادرة عن لجان شرعية ، كقناة المجد ، وقناة الناس في وضعها الحالي ، مثلاً، وهذا كلّه من حرص أهل العلم على فتح الذرائع المشروعة ، وتشجيع البَدَل المشروع ، ونشر الخير نشراً آمناً من الخلط والمزج بالشرّ ما أمكن ذلك .
ومنها : مسألة تعليم المرأة في المملكة العربية السعودية تعليما نظامياً ، فلم يمنعه شرعاً أحد من العلماء المعتبرين - كما يزعم بعض النَّاس - وغاية ما في الأمر أنَّ الاختلاط - في بعض البلدان - بين الجنسين كان هو السِّمة العامة لتعليم النساء نظاميا في تلك الحقبة التي مُنِع فيها ، ولذلك استنكره - حينها - كثير من المواطنين حميَّة وغيرة من غير فتوى ؛ فلمَّا اتفق العلماء والولاة على ضمانات خلو التعليم من مفسدة الاختلاط وتوابعها ، مثل قلة الاحتشام وما يترتب عليه -لم يكتف العلماء بالسماح بتعليم المرأة ، بل قادوا هم مؤسستها الحكومية ، وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله .
- ومن تلك الصور : تغيُّر الحكم التطبيقي المبني على العرف ؛ لتغير العرف الذي بني عليه الحكم الأول . ومن أمثلته : تعجيل المهر بعضه أو كله ، أو تأجيله ؛ بحسب العرف ، وما يترتب على ذلك لدى القضاة ، من اعتبار الزوجة ناشزاً أو غير ناشز إن هي امتنعت عن الدخول في طاعة الزوج (37) .
الضرب الثاني : مسائل ثبت في كل واحدة منها أكثرُ من حكم ، بنص أو إجماع أو قياس ؛ بحيث يجتهد أولو الأمر في اختيار الأصلح (38) منها - شرعا - للواقعة المماثلة .
ومن أمثلته : أحكام المهادنة التي مرّ ذكرها في التطبيق السابق ، وكذا الخيارات المصلحية في أحكام الأسرى .
ومن أمثلته المعاصرة : فتوى شيخنا العلامة / عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - في الصلح مع اليهود ، فقد نال منه بها قومٌ ، ظنّاً منهم أنَّ الشيخ قد أخطأ ، مع أنَّ فتواه رحمه الله جاءت على الأصول الفقهية المعتبرة في مشروعية الصلح بمعنى ( الهدنة ) .(5/120)
والشيخ رحمه الله قد بيّن حرمة الصلح الدائم مع اليهود ، وأكَّده في الفتوى ذاتها ، وفي بيانه لمراده - رحمه الله - في فتاوى لاحقة (39) ، وهذا الفرق يدركه العلماء ورجال السياسة ؛ ولذلك نجد اللجان الشرعية في حركة حماس الإسلامية ، تبني موقفها الحالي من الامتناع عن الصلح على موقف الكيان الصهيوني من عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الأمة المسلمة في أرضه كلها وماله ، وهو ما يفسِّر عدم جنوح قيادات الكيان الصهيوني للسلم ؛ بينما لو فعل ذلك ، فلن تجد حركة حماس ما يمنعها شرعا من الصلح ( الهدنة ) مع هذا الكيان .
هذا ما ما ناسب ذكره في هذه الحلقة . وفي الحلقة القادمة سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن الضرب الثالث من هذا النوع ، وذلك الضرب هو : مسائل ورد بشأنها أحكام شرعية ، لكن احتف بها ما يقتضي عدم فعلها ، أو استثنائها من أحكام نظائرها . وهو من أهم مجالات السياسة الشرعية وأكثرها تطبيقا في واقعنا المعاصر ، ولذلك سأورد إن شاء الله تعالى في الحلقة القادة جملة مهمة من التطبيقات العصرية .
والله الموفق .
(6)
[الضرب الثالث وبعض تطبيقاته العصرية ]
الضرب الثالث : مسائل ورد بشأنها أحكام شرعية ، لكن احتف بها ما يقتضي عدم فعلها ، أو استثنائها من أحكام نظائرها . ولذلك أسباب ، منها :
1) عدم فعل المشروع – من حيث الأصل – بالنظر إلى ما يؤول إليه الحال عند تطبيق الحكم .
ومن أمثلته التشريعية : قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة – رضي الله عنها - : (( يَا عَائِشَةُ لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ )) (40)فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مشروع من حيث الأصل ، لكن لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ناظراً إلى ما يؤول إليه من مفسدة – في وقته – أعظم من مصلحة نقض الكعبة وردِّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً باستعظامهم ما لم يعهدوه (41) .
وقد بيَّن الشاطبي رحمه الله أنَّ الإمام مالكاً رحمه الله ، قد راعى قاعدة : ( النظر إلى المآل ) ، عندما شاوره أبو جعفر المنصور أن يهدم ما بنى الحجاج من الكعبة ويردَّها على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم عملاً بهذا الحديث ، كما كان قد صنع عبد الله بن الزبير في خلافته ، فقد قال له : " أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيَّرَه ؛ فتذهب هيبته من قلوب النَّاس " ، فصرفه عن رأيه فيه خشية أن يؤول بناء الكعبة إلى التغيير المتتابع باجتهاد أو غيره ، فملك يبني ليكون بناؤها على القواعد من أعماله ومآثره وآخر يهدم ليجعل إعادتها من أعماله ومآثره مثلا ؛ فلا يثبت بناء الكعبة على حال (42) .
2) حصول ما يقتضي استثناء الواقعة من أحكام نظائرها .
ومن أمثلته المهمة : أنَّ النجاشي الملك الصالح رحمه الله ، كان يتحرى العدل ما أمكنه ذلك ، وكان يحكم يما يمكنه من الشرع ، ومما ثبت في ذلك ما روته أم حبيبة _رضي الله عنها_ أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مع شرحبيل بن حسنة. رواه أبو داود واحتج به وصححه غير واحد من أهل العلم .
وكان النجاشي معذوراً فيما لم يمكنه الحكم به من شريعة الإسلام ؛ لكونه بدار كفر لا شوكة له فيها ، وخوفه على دينه ، وعدم علمه بكثير من الأحكام الشرعية ، وعجزه عن الحكم ببعض ما بلغه .
قال الشيخ أبو العباس ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ : " لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها، بل الوجوب بحسب الإمكان، وكذلك ما لم يعلم حكمه، فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقي مدة لم يصل ، لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر ، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء الزكاة وغير ذلك " (43) .
ومن ذلك ما أفتت به اللجنة الدائمة أن من " أمن على نفسه من الفتنة في دينه ، وكان حفيظاً عليماً يرجو الإصلاح لغيره ، وأن يتعدى نفعه إلى من سواه وألا يعين على باطل ، جاز له العمل في الدول الكافرة ، ومن هؤلاء يوسف _عليه الصلاة والسلام_ ، وإلا لم يجز " (44) .
ومنها : تأخير إقامة الحدود في حال الغزو وقد ورد به النص (45) ؛ درءاً لمفسدة اللجوء للكفار ، ومناصرتهم على المسلمين ، أو كشف أسرار المسلمين لهم .
ومن أمثلته أيضاً : عدم إقامة حدّ السرقة في أوقات المجاعات (46) ؛ درءاً للحد بشبهة الضرورة إلى المسروق .(5/121)
ومنه : فتوى بعض العلماء بجواز التسعير في بعض الحالات (47) .
ومن أمثلته المعاصرة : التوقف عن جهاد الطلب ( الدعوة ونشر الحرية ) - لا ابتداع القول بإلغائه - مع إمكان النكاية في العدو في بعض الظروف والأحوال ، كما إذا غلب على الظّنّ تسبب ذلك في جلب لعدو إلى بلاد المسلمين ، أو القضاء على المكتسبات الدعوية التي تحقق مقاصد الجهاد في البلد الذي يراد إعلانه فيه .
ومن صوره : منع العلماء الربانيين والولاة المخلصين بعضَ الراغبين في الجهاد من المسلمين من بعض البلاد أو الأقليات الإسلامية إلى بلاد يوجد فيها جهاد شرعي يقوم به أهلها ؛ إذا بني المنع على ما يؤول إليه ذهابهم من أضرار على البلاد التي ينتمون إليها أو المسلمين الذي يعيشون بينهم ، بما يعود في المآل على أصل المشروعية في الحال المذكورة بالبطلان ، أو لكون تلك الأضرار مما يجب درؤه شرعا .
ومن أمثلته وتطبيقاته المعاصرة : جواز التجنس بجنسية بلد غير إسلامي في حالات استثنائية يقدرها العالم الرباني ، مع أن الأصل منع البقاء في بلاد الكفر والقبول بجنسيتها .
ومنها : جواز المشاركة في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية في بلد كافر بانتخاب مسلم أو انتخاب كافر هو الأقل ضررا على المسلمين أو الأعدل فيما يتعلق بالمسلمين .
ومنها : المشاركة في المظاهرات التي يراد بها التعبير عن حق أو دفع ظلم أو نفع المسلمين في البلدان التي تأذن للناس بها ، وذلك بضوابط معينة ، ولو مع غير المسلمين (48) .
وفي الحلقة القادمة – إن شاء الله تعالى - نكمل بإيراد أمثلة أخرى وذكر تنبيهات مهمّة في طريقة طريقة ذكر العلماء لمثل هذه الصور ، وكيفية الإفادة الشرعية من مثل هذه الأحكام مما ورد عن أهل العلم الربانيين .
(7)
[تتمة الضرب الثالث وذكر مزيد من تطبيقاته العصرية]
ومن أمثلة المسائل والوقائع التي تستثنى من أحكام نظائرها أيضاً : ما يفتي به بعض العلماء من منع المسلم من رعايا الدول الإسلامية من الزواج بالنساء الغربيات من أهل الكتاب ، إلا في حالات استثنائية ، مع أن الأصل جواز نكاح نساء أهل الكتاب ؛ وذلك لما يترتب على الزواج منهن اليوم من آثار لا تحمد عقباها على الزوج وذريته .
ومنها : منع الأنظمة عندنا في المملكة العربية السعودية من زواج بعض أصحاب المناصب المهمة كأصحاب الوظائف العسكرية والأمنية ، بغير السعوديات ، مع أن الأصل حل زواج المسلمات من أي بلد وأي عرق ، ومع أن الأصل أيضا حل النساء المحصنات من أهل الكتاب من أي بلد وأي عرق .
ومنها : تدخّل ولي الأمر في شؤون الأفراد في كل ظرف يغلب على الظنّ فوات مصلحة شرعية عامَّة بعدم التدخل فيه ، كمنع التدخل في أصل حق التملك ، في مسألة منع الاحتكار ، أو حق التصرف في السلعة بالبيع بالثمن المشروع في الأصل ، كما في الإلزام بالتسعير ، وهكذا التدخل بإجراءات توقف ضررا عاما في الناس .
ولعلَّ منها : التدرج في تنفيذ ما يجب تنفيذه من تطبيقات الشريعة مما يعسر تطبيقه بجملته ، و ذلك في ضوء قول الله عز وجل : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ) [التغابن :16] . وقد مرّ ذكر حال النجاشي رحمه الله في ذلك وما استنبطه العلماء من قصته . ويلحق به كل مخلص من فرد أو جماعة ، قدر أن يعمل لهذا الدين بما يحقق مقاصده ولو بالتدرج ، دون تنازل عن الثوابت ، أو تهاون في الأصول ، أو عمل ما يعود على أصل تشريعي أو حكم شرعي بالبطلان .
وأمثلة هذا الضرب كثيرة ، بل يمكن القول - والله تعالى أعلم - : إنَّ جلّ فروع أنواع الاستحسان بالاجتهاد ، مندرجة تحت هذا الضرب من المسائل ، وهو باب واسع خطير .
ومن هنا نلحظ أن أهل العلم ولا سيما الأوائل منهم ، لم يكونوا يقرِّرون أحكاماً عامّة في هذا الباب ، لكنهم يفتون في كل مسألة وواقعة منه وفق الظرف والحال وما يحتف بذلك من مؤثِّرات في الحكم .
وكذلك لم نجد العلماء الربانيين يأخذون من تلك الفتاوى والتصرفات الاستثنائية أحكاما نهائية عامّة ، فلم نر منهم من قال - مثلاً - إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ألغى حدّ السرقة ! كما يزعم بعض تلاميذ المستشرقين وتلاميذ تلاميذهم في هذا العصر .
وعليه فإنَّ كل مسألة من المسائل الممثل بها هنا ، لا يؤخذ منها جواز تطبيقها من كل أحدٍ وفي كل ظرف ، بل لا بد من الرجوع إلى أهل العلم ، والصدور عنهم في تقرير المشروعية من عدمها في كل مسألة مماثلة بعينها .
وهذه الأمثلة تعود في طريقة استنباطها إلى أحد أسس السياسة الشرعية التي تستند إلى أسس أخرى ، فهي من مسائل ( الاستحسان ) ووجه الاستحسان فيها هو مستند المشروعية التي عدل بها عن نظائرها لكون وجه الاستثناء فيها أقوى من وجه إبقائها على حكم النظائر الأخرى .
هذا ما ما ناسب ذكره في هذه الحلقة . وفي الحلقة القادمة سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن النوع الثالث ، وهو : أحكام وقائع أو إجراءاتٍ وأمور إدارية ، لم يوقف لها على دليل جزئيِ خاصِ ، من نصٍّ أو إجماع أو قياس .
(8)
النوع الثالث : ما لم يرد فيه نص جزئي خاص(5/122)
النوع الثالث : ما لم يرد فيه نص جزئي خاص
بعد الانتهاء من الحديث والتمثيل للنوعين الأول والثاني ، من المسائل الفقهية المندرجة تحت القسم الثاني من مجالات السياسة الشرعية في المسائل والأحكام - وهو الذي وكل تنفيذه إلى أولي الأمر ، ولا يفتات عليهم فيه – يأتي الحديث هنا عن النوع الثالث من هذه المسائل ، وبيانه في هذه الحلقة على النحو التالي :
النوع الثالث : أحكام وقائع أو إجراءاتٍ وأمور إدارية ، لم يوقف لها على دليل جزئيِ خاصِ ، من نصٍّ أو إجماع أو قياس .
وتعالج أحكام هذا النوع من بالاستنباط الاجتهادي ، وذلك بإعمال طرق ( الاستدلال ) ولا سيما التي سبق ذكرها في المطلب الأول من المبحث الثاني وهي ما يعرف بـ ( الأدلة المختلف فيها ) أو ( الأدلة التبعية ) أو طرق استثمار النصوص ، أو ( الاستدلال ) وهو المصطلح المرتضى في هذه الدراسة وهي ما وُصِفت أيضا بأسس السياسة الشرعية .
ومن أمثلة هذا النوع : من الأحكام والوقائع :
- توظيف ولي الأمرِ الأموالَ ، على الأغنياء لدفع خطر طارئ على البلاد ، إذا لم تف خزينة الدولة مع ما يجب جبايته من الزكاة والصدقة وما يجب الحفاظ عليه من المال العام ، بما يُحتاج من مالٍ لدفع الخطر ، وهو مقيد بالشروط التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله تعالى .
ومنها : اتخاذ الإجراءات الرادعة ، التي تحول دون تساهل الناس في أحكام الشرع ، ومن ذلك إساءتهم لاستعمال ولاياتهم الشرعية الخاصة مثلا ، ومن أمثلته : الإجراء الذي اتخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، بإمضاء طلاق الثلاث بلفظة واحدة كما لو كانت ثلاثا ، من غير تغيير للحكم الأصلي ، وهو وقوعه الثلاث طلقة واحدة . فهو إجراء تعزيري لا حكم شرعي أصلي ؛ وليس في هذا الإجراء الذي اتخذه عمر رضي الله عنه مخالفة للشرع كما قد يُظنّ ، وغاية ما فيه : أنّ عمر رضي الله عنه منع المطلق ثلاثا بلفظ واحد من مباح وهو مراجعة الزوجة ، ومن المتقرِّر في علم السياسة الشرعية أن لولي الأمر أن يمنع الناس من بعض المباحات إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة ، ومن يتأمل عبارة عمر رضي الله عنه يجد فيها هذا المعنى ، فقد قال رضي الله عنه : ( إنَّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ! فأمضاه عليهم ) رواه مسلم .
فتأمل قوله : ( كانت لهم فيه أناة ) وقوله ( فلو أمضيناه ) .
- ومنها : كل ما يدخل في باب الجرائم التي يستحق مرتكبها التعزير شرعا ، من حيث تنظيم تفصيلاتها وتنظيم تقدير عقوباتها بحد أعلى وآخر أدنى ، كالأنظمة التي تحدد عقوباتٍ لمرتكبي جريمة الرشوة أو جريمة تزوير في المحررات أو تزييف النقود ، أو اختلاس المال العام ، أو إساءة استعمال السلطة واستغلال النفوذ ، وغير ذلك من الجرائم التي تتعلق بالموظفين العموميين . شريطة أن يتولى تنظيم ذلك ألو الأمر المختصين الشرعيين وأهل الخبرة ، وأن يكون الحكم فيها للقضاء الشرعي ، وعلى هذا جرى العمل لدينا في المملكة العربية السعودية فيما يعرف لدى المختصين في الأنظمة بالجرائم المنظمة في المملكة العربية السعودية .
- ومن أمثلتها أيضا : طلب ولي الأمر - أو من يقوم مقامه عند عدمه - من بعض الجنود أو الفدائيين ، تنفيذ عمليات عسكرية فدائية ، ولو تيقن الجنديُّ أو المجاهد المسلم فيها قتل نفسه تبعا لنكايته بالعدو بنية الجهاد ، لا قصداً للتخلص من الحياة ، ولهذا أدلته وشواهده في القرآن الكريم والسنة الصحيحة .
وينبغي أن يُتفطن إلى أن المسألة أوسع من الصورة الحالية في العمليات الاستشهادية في فلسطين مثلا ، فلو نظّم ولي الأمر فرقا فدائية استشهادية ضمن فرق الجيش الإسلامي ، لكان لهذا وجهه من السياسة الشرعية ، وله شروط وقيود مهمّة ليس هذا محلّ التفصيل فيها ، وإنما قصدت التمثيل هنا ليس إلا .
بل لولي الأمر حتى لو لم ير مشروعية العمليات الاستشهادية أن يدرب فرقة من الجيش على ذلك لحال الضرورة ، وسواء كان ذلك في قطاع البرية أو البحرية أو الجوية .
ولولي الأمر أن يقصر ذلك على مسألة الردع بمثل هذا التقسيم إن لم ير مشروعية ذلك ، ويكون صنيعه هذا من باب السياسة الشرعية .
- ومنه تصنيع الأسلحة الكيماوية ، وبناء المفاعلات النووية ، لغرض الردع ، والمعاملة بالمثل في حال الاعتداء على الدولة الإسلامية ؛ لا لغرض البدء بذلك .
ومنه : من الإجراءات والأمور الإدارية (49) :
- إنشاء الدواوين (50) ؛ وتنظيم شؤون الموظفين ، وتنظيم إدارة الأعمال ، وتنظيم مرور السيارات ، وإجراءات التقاضي ، وعيكلة الأجهزة التنفيذية والقضائية ، وغير ذلك من النظم ، إذا كانت على وجه لا يخالف الشرع ولا يخرج عن قواعده ؛ فإنها حينئذ تكون من الأنظمة الوضعية المشروعة ، أي : التي ينظمها البشر ويسنونها ، مما هو داخل في السياسة الشرعية ؛ وتختلف أحكامها في المشروعية باختلاف حاجة الأمة إليها .(5/123)
- وكذلك ما يندرج في الإجراءات من وسائل تنفيذ العبادات ، من مثل تنظيم بناء المساجد ، و وضع شروط لتعيين الأئمة والمؤذنين ، وتنظيم دفع الحجيج في المشاعر (51) ، وتحديد أعداد الحجيج بنسب معينة ، بما يكون سبباً في تيسير الحج وتقليل المخاطر ؛ وغير ذلك من الإجراءات والتنظيمات التي تشرع لولي الأمر من طريق المصالح المرسلة ، و قاعدة : فتح الذرائع (52) ، وغيرها من المستندات الشرعية المعتبرة ؛ وهذه الأمور لا بأس باستفادتها من أي مصدر ، ولو من تجارب الأعداء من غير المسلمين .
وقد تحدث فقهاء السياسة الشرعية عن أمثلة قد لا يخطر على بال بعض طلبة العلم فضلا عن غيرهم . ومما ذكروه في ذلك تحديد معايير للجودة ، وترتيبات لحماية المستهلك ، بتفاصيل تثير الدهشة .
ومن يقرأ في كتب الحسبة بمختلف أنواعها ومسمياتها يجد من ذلك عجبا .
وخلاصة القول : أنَّ كلّ ما صدر عن أولي الأمر ، من أحكام وإجراءات ، منوطة بالمصلحة ، فيما لم يرد بشأنه دليل خاص ، مُتَعَيِّنٌ - فهو داخل في مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، كما مرَّ بيانه في تعريفها ؛ والله تعالى أعلم .
-------------------------
(1) يحسن مراجعة حلقة مدلول السياسة الشرعية لاستحضار مدلولي السياسة الشرعية ، قبل الدخول في موضوع المجالات ليسهل على طالب العلم استجماع كلياته .
(2)ينظر : وسطية الإسلام وواقعيته ، للأستاذ الدكتور حسين الترتوري :47 وما بعدها ، مكتبة دنديس : الخليل .
(3)ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ، للقرافي :158 ؛ و أنوار البروق في أنواء الفروق ( الفروق ) ، له أيضاً :4/48 .
(4)نصَّ على ضبط الأسباب والأوصاف الثلاثة الأولى وأفادها العلامة القرافي – رحمه الله – في جوابه على السؤال ( الثاني والثلاثون ) : ما ضابط ما يفتقر إلى حكم الحاكم ولا يكفي فيه وجود سببه الشرعي … ؛ فبيَّن أنَّ مُوجِب الافتقار إلى حكم الحاكم ثلاثة أسباب ، فبيَّنها بالأمثلة ، كعادته . ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام : 151-161 . وينظر : تبصرة الحكام ، لابن فرحون : 1/109 وما بعدها .
(5)الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي :153 .
(6)ينظر : المصدر السابق ؛ ومعين الحكام ، للطرابلسي : 41 .
(7)المصدر السابق ، للقرافي : 162 و ما بعدها .
(8)ينظر : المصدر السابق ، للقرافي : 157،80-81 ؛ والفروق ، له : 4/52 ؛ وإدرار الفروق على أنواء الفروق ، لابن الشاط : 4/52 ، وهي حاشية على " الفروق " مطبوعة معه ؛ و المغني ، لابن قدامة [ مع الشرح الكبير ] : 4/511 ؛ و مختصر الفتاوى المصرية ، لأبي العباس ابن تيمية : 356 ؛ و فتاوى ابن الصلاح : 284- 289، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي ، دار الوعي : حلب ، ومطبعة الحضارة العربية : القاهرة .
(9)قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، لعز الدين ابن عبد السلام : 405 ، ط1-1413، تحقيق/ عبد الغني الدقر ، دار الطباع : دمشق . و ج2 ص 47 من طبعة دار القلم بتحقيق الشيخين : د. نزيه حماد ود. عثمان ضميرية ( وهي الطبعة الأكمل ، والله أعلم ) .
(10)ينظر : الإحكام في أصول الأحكام ، للآمدي :4/203 ، تعليق الشيخ / عبد الرزاق عفيفي ، المكتب الإسلامي : دمشق ، بيروت ؛ وجمع الجوامع ، لتاج الدين السبكي [مع شرح المحلي بحاشية البناني] : 2/391 ، دار الفكر : بيروت ؛ والمختصر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، لابن اللحام : 166 ؛ والمصادر السابقة .
وعدم نقض الاجتهاد المستوفي لشروطه إذا اتصل به حكم حاكم ، من القواعد المقررة لدى العلماء في الجملة ، وإن اختلفوا في طريقة تأصيله ؛ وقد حكى الاتفاق على هذه القاعدة عدد من أهل العلم ، منهم الآمدي ، وتاج الدين ابن السبكي ، وابن اللحَّام ، في المصادر السابق ذكرها هنا . وواقع كتب الفقه وشروحها تشهد لذلك ، وإن وقع خلاف في بعض التفريعات .
(11)ينظر : موجبات نقض الأحكام ، في المصادر السابقة .
(12)ينظر تعداداً لكثيرٍ من هذه المسائل : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي :180-190 ؛ وتبصرة الحكام ، لابن فرحون : 102-109 ؛ ومعين الحكام ، للطرابلسي : 38-41 .
(13)الأحمية : جمع حمى ، وهو الحريم ؛ لأنَّه يُحْمَى ، أي : يُحفظ . ينظر : طلبة الطلبة ، للنسفي : 103. وصفته في الأصل : أن يحمي إنسان أرضاً من الموات ، يمنع النَّاس رعي ما فيها من الكلأ ؛ ليختص بها دونهم . وكانت العرب في الجاهلية تعرف ذلك ؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من التضييق على الناس ومنعهم من الانتفاع بشيء لهم فيه حق ، و جاءت الشريعة بضبط ذلك بضوابط ؛ فليس لأحد من الناس سوى أئمة المسلمين ، وليس لهم أن يحموا لأنفسهم شيئا ، ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين ، ونعم الجزية ، وإبل الصدقة ، وضوال الناس منها ، التي يقوم الإمام بحفظها لهم ، وماشية الضعيف من الناس ؛ على وجه لا يستضر به من سواه من الناس . وينظر : المغني مع الشرح الكبير : 6/185( ط دار الفكر) .(5/124)
(14)الذخيرة ، للقرافي :10/43 ، والقاعدة معروفة مشهورة .
(15)ينظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، للقرافي : 158.
(16) ينظر : الموافقات ، للشاطبي : 5/12 ؛ وإن كان ما تتطلبه صحة التطبيق من إجراءات قد داخلا في السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، لكنه داخل في النوع الثاني .
(17)ينظر أمثلة ذلك في : تبصرة الحكام ، لابن فرحون : 1/114 .
(18)ينظر : تقاسيم أبي حاتم محمد بن حبان التميمي (ت/354) في كتابه : المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع ( صحيح ابن حبان ) ، وتلخيصها في خطبة الكتاب التي هي : الفصل الثاني من : الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ، للأمير علاء الدين الفارسي ؛ حيث ضمنها هذا الكتاب : 55 ، ت/ الشيخ : أحمد محمد شاكر/ مكتبة ابن تيمية . فمن القسم الأول : الأنواع : (3،4،16،55،79) ، ومن الثاني : (17) ، ومن الثالث : (34) ، ومن الرابع : (8 ، 11، 24، 40، 42) ، ومن الخامس : ( 3 ، 9 ، 16 ، 38 ، 41 ) .
وإنما أشرت إلى تاريخ وفاة المؤلف رحمه الله لبيان سبق علمائنا في مجال التقسيم الفقهي الدقيق الذي يتباهى به أهل القانون اليوم .
(19)ينظر : المدخل إلى السياسة الشرعية ، لشيخ مشايخنا الشيخ عبد العال عطوه رحمه الله : 45 . مع بعض التصرف .
(20)رواه البخاري : ك/ الزكاة ، ب/ الصدقة قبل العيد ، ح(1510) وغيره ؛ ومسلم : ك/ الزكاة ، ب/ زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير ، ح(985) ؛ وجاء التصريح بالفرض في حديث ابْنِ عمر - رضِي اللَّه عنهما - أَنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : ( فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ …) . رواه البخاري : ك/ الزكاة ، ب/ صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين ، ح(1504) ؛ ومسلم ، الموضع السابق ، ح (984) .
(21) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 25/69 .
(22) رواه البخاري : ك/ الأضاحي ، ب/ ما يؤكل من لحوم الأضاحي ، وما يُتَزوَّدُ منها ، ح(5569) ؛ ومسلم : ك/ الأضاحي ، ب/ بيان ما كان النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء ، ح(1974) . والجَهد : المشقة والفاقة ، وتعينوا : من الإعانة .
(23) رواه مسلم : الكتاب والباب السابقين ، ح(1971) .
(24)ينظر : إكمال المعلم بفوائد مسلم ، للقاضي عياض : 6/424،426، ط1-1419، ت/ د. يحيى إسماعيل ، دار الوفاء : مصر ، ومكتبة الرشد : الرياض .
(25) كنت أود تأخير التطبيقات حتى لا يتأثر تسلسل التنظير الفقهي ، إلا أنني رأيت إلحاح كثير من الإخوة بطرح التطبيقات أثناء التنظير ، ولذا سأدخل بعض التطبيقات أخذاً برأيهم وتحقيقا لطلبهم ، وذلك مع معالجة انقطاع التسلسل بمحاولة تلخيص التقسيم بعد التطبيقات المطوّلة ، ثم المتابعة للتنظير إن شاء الله تعالى .
(26) فيطالب بإعطاء ( الجزية ) ، التي هي أشبه بالضرائب الرمزية ، وهذا مما يدفعه للعمل ، ومن ثم يساهم في الحد من البطالة ، فلا يبقى عاطلاً عن العمل مع قدرته عليه ؛ ويتمتع حينئذ بالحماية الإسلامية ، والإفادة من المرافق والمصالح العامة .
(27) وتحت هذا القسم كثير من قضايا السياسة الشرعية التي سيأتي التمثيل ببعضها فيما بعد إن شاء الله تعالى ، ومنها ما يتعلق بالدولة الإسلامية أو برعاياها أو بالجاليات الإسلامية في تلك البلاد .
(28) ومنه منع العلماء في المملكة العربية السعودية و العراق ، ذهابَ الشباب الراغب في الجهاد من المملكة إلى العراق ، مع أن الجهاد فيه جهاد مشروع ؛ وذلك لما يترتب على ذهاب بعض الأفراد من ضرر كبير يغلب على الظن وقوعه ، في حال السماح بذهاب الشباب للعراق قصد الجهاد ؛ ويتمثل ذلك في مخاطر كثيرة ، منها ما يعود إلى بلاد الإسلام المستقلة : كإيجاد مسوغ لقوى الظلم والطغيان في العراق للاعتداء على البلاد والعباد والمقدسات ، و وضع قلب العالم الإسلامي مأرز الإسلام في دائرة المخاطر التي لا تقارن بمخاطر عدم ذهاب بعض المتطوعين ؛ ومنها ما يعود للمجاهدين في العراق بوصفهم بأوصافٍ تخدِم المحتل ، مع عدم حاجتهم إليها ، والكلام في بيان المفاسد التي تترتب أو يغلب على الظن ترتبها ، يطول .
(29) تحسن قراءة الحلقة الماضية (21) ولو من بداية الحديث عن القسم الثاني .
(30) ينظر : مسائل من فقه الكتاب والسنة ، لعمر الأشقر : 261،262 .
(31) ينظر : المعيار المعرب ، للونشريسي : 2/207 - 209 .
(32) ينظر : المنثور في القواعد ، للزركشي :1/348 وما بعدها ؛ والأشباه والنظائر ، لابن نجيم : 98 .
(33)ينظر : المنثور في القواعد ، للزركشي :1/345 ؛ وقواعد الأحكام في مصالح الأنام [ في عدة مواضع ، منها ] :96-97 ؛ ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة ، للشيخ عبد العزيز بن باز : 5/293 . وقد بين هذه القاعدة وأكثر التمثيل لها العز ابن عبد السلام رحمه الله في : قواعد الأحكام .
(34) ينظر : الموطأ ، للإمام مالك : ك/الأقضية ، ب/ القضاء في الضوال ، ح (51) .(5/125)
(35) في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أعرابيٌّ : كيف ترى في ضالة الإبل ؟ فقال : (( دعها فإن معها حذاءها و سقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها )) ، رواه البخاري : ك/ اللقطة ، ب/ ضالة الغنم ، ح(2428) ؛ ومسلم : ك/ اللقطة ، في أول أحاديثها ولم يوضع فيه تحت باب ، ح (1722) .
(36) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 362 .
(37) ينظر : السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي ، لعبد الرحمن تاج : 82 ؛ و المدخل إلى السياسة الشرعية ، لعبد العال عطوه : 45 . ونشوز المرأة : عصيانها لزوجها ، وامتناعها عنه . ينظر : المصباح المنير ، للفيومي : (نشز) .
(38)ينظر : إجابة الغزّالي على سؤال المصيصي في : البحر المحيط ، للزركشي :6/258-259 ؛ و خطبة ابن حبان لكتابه : المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع ، وهي في : الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ، لعلاء الدين الفارسي :55 ؛ وينظر : مقدمة أستاذنا د. فؤاد عبد المنعم لكتاب : السياسة الشرعية ، لإبراهيم بن يحيى خليفة المشهور بِدده أفندي : 66 ؛ ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين :361 ؛ ونظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي ، لعبد السلام العسري :213 .
(39)ولعلّ من أسباب سوء فهم بعض طلبة العلم ، عدم إدراكهم للفرق بين مصطلح الصلح في الشريعة الإسلامية ، وفي القانون الدولي ، وبيانه : أنَّ المراد بـ ( الصلح ) بالمعنى القانوني الدولي ، هو : عقد اتفاق دائم بين الأطراف المتصالحة . بخلاف معنى الصلح في المصطلح الشرعي الذي يعد رديفا للهدنة في المصطلح الشرعي الفقهي الإسلامي وفي القانون الدولي . وقد بينت ذلك بتفصيل في الجواب على سؤال عن حكم التطبيع مع الكيان الصهيوني نشر في موقع المسلم من قبل ، وهذا رابطه : http://www.almoslim.net/rokn_elmy/show_question_main.cfm?id=10379
(40) رواه البخاري ، ك/ الحج ، ب/ فضل مكة وبنيانها … ح(1586) ؛ ومسلم ، ك/ الحج ، ب/نقض الكعبة وبناؤها ، ح(1333) . وفي رواية : (( فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأرْضِ )) رواه البخاري : الموضع السابق ، ح(1584) .
(41) ينظر : الموافقات ، للشاطبي :5/181 .
(42) ينظر : الموافقات ، للشاطبي :5/181 ؛ و4/113 . وينظر : إكمال المعلم بفوائد مسلم ، للقاضي عياض : 4/428 ؛ و صحيح مسلم بشرح للنووي :9/89 .
(43) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : :19/225.
(44)فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء :2/75 .
(45)ينظر : إعلام الموقعين ، لابن القيم : 3/14-61 ؛ وتنظر المسألة في : المغني ، لابن قدامة [ مع الشرح الكبير ] :10/528-530
(46)ينظر : إعلام الموقعين ، لابن القيم :3/14-16، وينظر المسألة في : المغني ، لابن قدامة [ مع الشرح الكبير ] :10/286 .
(47)الحسبة في الإسلام ، لابن تيمية : 40-49 .
(48)ينظر هذا الرابط : http://www.almoslim.net/rokn_elmy/show_question_main.cfm?id=8716
(49)ينظر : جواب الغزالي على سؤال المصيصي . البحر المحيط ، للزركشي : 6/258-259 ؛ وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، للعلامة / محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت/1393) : 2/377 ، [ الكهف : 26] ، ط1-1417، عناية/صلاح الدين العلايلي ، دار إحياء التراث العربي : بيروت ؛ وتعليق /د. محمد الأشقر ، على : المستصفى ، للغزالي : 1/416 .
(50)الدواوين : جمع ديوان ، وهو : اسم يطلق على الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء ، ثم أطلق على : الدفاتر التي تستخدم في تسيير المصالح المختلفة في إدارة الدولة من الأموال ، والأعمال الإدارية والعسكرية ، وغيرها ، كما يطلق على الأماكن التي توجد بها هذه المصالح ، وموظفي الدولة . وقد اختلف في أصل الكلمة ، هل هي عربية أو معربة ؟ وصوَّب بعض العلماء القول بأنَّها عربية ؛ بأنَّها من دونت الكلمة : إذا ضبطتها وقيَّدتها ؛ لأنَّه موضع تضبط فيه أحوال الناس وتدوَّن .
(51)ينظر : سن الأنظمة في الدولة الإسلامية ، د. يوسف الخضير : 403-405 .
(52)ينظر : الحسبة في الإسلام : 32 ؛ وص : 148 .
===============
هل يجوز الزواج بالنصرانية.. اليوم ؟!!.. خبر وتعليق..
الخبر......
أمريكيتان وأطفالهما يلجأون لقنصلية بلادهما بالسعودية 1110 (GMT+04:00) - 17/06/03
واشنطن، الولايات المتحدة (CNN)-- أعلن مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية الاثنين لـ CNN أن امرأتين أمريكيتين وأطفالهما لجأتا إلى القنصلية الأمريكية في جدة في محاولة لمغادرة الأراضي السعودية.
وأضاف المسؤول أن الإدارة الأمريكية لا تستطيع الإفراج عن أسماء هؤلاء الأفراد بسبب قانون السرية الشخصية.(5/126)
ورغم أن السفارات والقنصليات الأمريكية غير قادرة على منح اللجوء لتفادي انتهاك القانون السعودي، فإن المسؤول في الخارجية الأمريكية قال إن لجوء الأمريكيتين إلى القنصلية "قد يوفر حماية مؤقتة داخل منشآتها لمواطنين أمريكيين يتهددهم خطر، لحين اتخاذ ترتيبات ملائمة تضمن سلامتهم."
وأضاف المسؤول أن الإدارة الأمريكية "على اتصال مع الجهات السعودية ويحاولون التنسيق معهم" بشأن الأمريكيتين وأطفالهما.
وبمقتضى القانون السعودي، فان الأزواج لهم حق المطالبة بحضانة الأطفال الذين يعتبرون مواطنين سعوديين، كما لا يحق للأمريكيات المتزوجات من سعوديين أو بنات السعوديين من زوجات أجنبيات مغادرة البلاد بدون إذن الزوج أو الأب.
وقال مسؤول الخارجية الأمريكية إن إدارته "تسعى لحل عدد من المسائل المتعلقة بحضانة الأولاد، ومسائل أخرى تتعلق بحرية السفر خارج السعودية."
وكان أحد مسؤولي الخارجية الأمريكية قد توجه في أبريل / نيسان الماضي إلى السعودية لمناقشة عدة قضايا، من بينها مسألة سفر النساء الأمريكيات المتزوجات من سعوديين بحرية خارج البلاد.
http://arabic.cnn.com/2003/middle_east/6/17/saudi.refuge/index.html
التعليق...
هل يجوز الزواج بالنصرانيات اليوم؟
جاء النهي عن الزواج بالمشركة في سورة البقرة، قال الله تعالى:
{ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم}.
والإشراك هو عبادة غير الله تعالى مع الله، وبهذا المفهوم فإن اليهوديات والنصرانيات محرمات على المؤمنين، فهم مشركون، قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
لكن جاءت آية المائدة تستثني الكتابيات، فتبيح زواج المؤمنين بهن، قال تعالى:
{والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان}.
وإلى هذا ذهب طائفة من العلماء كابن عباس ومالك وسفيان الثوري والأوزاعي: أن آية البقرة عامة لجميع المشركات من غير استثناء، ثم نسختها آية المائدة في حق الكتابيات.
وذهب قتادة وابن جبير إلى آية البقرة عامة في المشركات دون الكتابيات، فآية المائدة ليست ناسخة، بل حكم مستأنف، يبين جواز الزواج بالكتابيات..
فكلا القولين متفقان على جواز الزواج باليهوديات والنصرانيات..
وذهب طائفة من العلماء إلى ضد ذلك، فزعمت أن آية البقرة ناسخة لآية المائدة، فحرموا نكاح كل مشركة: كتابية، أو غير كتابية؛ واستدلوا على ذلك بأثر عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أنه قال:
"حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله".. صحح سنده النحاس، وقال:
"وهذا قول خارج عن قول الجماعة، الذين تقوم بهم الحجة:
- لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم: عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك وفقهاء الأمصار.
- وأيضا يمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة المائدة، لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة، والمائدة من آخر ما نزل، وإنما ينسخ الآخر الأول.
- وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه، لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين: في واحدة التحليل، وفي أخرى التحريم، ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ، إنما تؤول عليه، وليس الناسخ والمنسوخ بالتأويل..اهـ
كذلك مما قيل في رد قول من قال بمنع الزواج بالكتابيات:
- إن لفظ الشرك لايتناول أهل الكتاب في القرآن، لأن الله تعالى يذكرهما جميعا، كقوله تعالى: {مايود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}، وقال: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين}.. انظر: تفسير القرطبي 3/67-69.
ذلك حاصل كلام العلماء في هذه المسألة، والصواب جواز الزواج بالكتابيات، لكنه مشروط بشروط، من دونها لا يجوز، ذكرت الآية بعضها، وأخرى مستقاة من واقع الحال حين نزول الآية.
- والشروط هي: أن تكون كتابية.. محصنة.. تخضع لقوامة الرجل.. وهذا تفصيلها:
1- أن تكون الكتابية..
كما جاء النص عليه في القرآن: يهودية أو نصرانية؛ مؤمنة بدينها، غير ملحدة، فلا يكفي أنها من بلد نصراني، أو أنها في أصلها نصرانية، من أبوين نصرانيين، بل لا بد كذلك أن تكون هي مقرة بدينها ملتزمة بالجملة بما فيه، وإلا فهو مانع من الإباحة.
2- أن تكون محصنة.
كما جاء النص في القرآن، أي عفيفة، كما قال ابن عباس، وقال الشعبي: "هو أن تحصن فرجها، فلاتزني، وتغتسل من الجنابة" (تفسير القرطبي 6/79)، فإذا كانت بغيّة، أو من اللاتي تهب نفسها لمن شاءت، وتتخذ الأصدقاء من الرجال، اتباعا لثقافات الحرية والانحلال السائدة في بيئتها، فتلك ليست بمحصنة، وهذا مانع من الإباحة.(5/127)
وقد ورد أن عمر الخطاب رضي الله عنه أراد أن يفرق بين حذيفة وكتابية، فقال له حذيفة: "أتزعم أنها حرام، فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟، قال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن". (تفسير القرطبي 3/68).
3- وهو الشرط المأخوذ من واقع الحال حين نزول الآية: أن تكون المرأة من اللاتي تخضعن للرجل، وتقر له بالقوامة، وما يتبع ذلك من الطاعة وعدم النشوز..
وذلك أن العرب حين نزول الآية كان للرجل الولاية على المرأة، فإذا تحقق هذا الشرط، وإلا فالمنع.. وتحقيق الشرط ألا يكونا في بلد يعطل قوامة الرجل على المرأة، ويعينها على النشوز، ويعطيها من الحقوق ما ليس لها، كأن تستحوذ على الأولاد بعد الطلاق، ونحو ذلك..
على أن لهذا الشرط دليلا مستنبطا من قوله تعالى:
{ولاتنحكوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم، أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}..
فإن آية المائدة ما نسخت إلا الحكم في نساء أهل الكتاب دون الذكور، فبقي الحكم المنع في زواج المسلمات بأهل الشرك عموما، ومنهم أهل الكتاب، والسؤال هنا:
لم أذن للمؤمنين ولم يؤذن للمؤمنات الزواج من أهل الكتاب؟…
لاريب أن السبب الظاهر هو: القوامة..
لما كانت القوامة للرجل كان الإذن للمؤمنين، وذلك أن المؤمن إذا تزوج بكتابية، فقوامته عليها مما ييسر دخولها إلى الإسلام، فالمرأة تبع للرجل، تدور حيث دار، فإذا أحبته كان إسلامها أرجى، وهذه المصلحة تتعسر إذا تعطل حقه في القوامة عليها، وهذا بخلاف المؤمنة إذا نكحت مشركا، فإنها معرضة للفتنة في دينها، إما بالأذى، وإما بحبها له، فقد تترك دينها إلى دينه، وهذا متوقع، لما في المرأة من ضعف وعاطفة..
يضاف إلى ذلك أنه في ظل القوامة فإن الرجل المشرك هو الذي يعلو المرأة المؤمنة لو كان زوجها، وفي الأثر: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليها)، فليس الكافر كفؤا للمؤمنة…
هذا الفرق في الحكم يوقفنا على حقيقة الإذن للرجل المسلم أن يتزوج بالكتابية، وأن ذلك كله مبني، من ضمن ما هو مبني عليه، على تحقق القوامة، فإذا عطلت فمفسدتها أكبر من مصلحتها، فلا هو سبيل لإسلامها، إلا قليلا، ويتبعها من المفاسد ما لا يحصى، فربما نشزت عليه فلا يستطيع نيل حقه الشرعي منها، وإذا طلقها لم يقدر على تحصيل أولاده منها، ففسد فراشه، وربما تهود أو تنصر عياله، وهو لايستطيع إلى منع ذلك سبيلا، وأية مصيبة أعظم من أن يتسبب في كفر أبنائه.
إذا علم ما سبق، فإن أكثر أحوال الزواج بالكتابيات اليوم لاتتحقق فيها تلك الشروط الآنفة، أو بعضها، إلا قليلا:
- فالإلحاد يبسط سلطانه على كثير من بلاد الغرب، وهي ظاهرة منتشرة، فالبلاد النصرانية علمانية، لاتحتكم إلى الدين في شيء، ولاتأمر بذلك..
- والانحلال الخلقي، والعلاقات غير المشروعة هو الأصل في أوربا وأمريكا، ومن الظواهر السلبية: أن تكون الفتاة بلا صديق، والاختلاط هو الأصل، وكذا التعري، والحرية الجنسية، والفتاة لاتخضع لولاية أحد عقب الثامنة عشرة من عمرها، وعليها أن تنفق على نفسها، ولها أن تفعل ما تشاء، وفي مثل هذه الأوضاع أنى يمكن تحصيل العفيفة، إلا فيما ندر، والنادر لا حكم له؟!!.
- ثم قوانين تلك البلاد لاتعترف بالقوامة أصلا، بل تعده رجعية تخلفا، وكم عانى المتزوجون من الكتابيات من هذه القوانين، ففقدوا مصالحهم وأبناءهم، وتجرعوا الندم لما لحقهم من الخسران والوبال..
ولو أنهم راعوا الشروط السابقة لما نالتهم تلك المصائب، فإن كثيرا منهم تزوج من ليس لها من دينها إلا الاسم، ولاتلتزم به جملة ولا تفصيلا، وليست بمحصنة، بل بغية لم تتب، ولم تتبرأ من ذنبها، ولا تعترف بالقوامة والخضوع لولاية الرجل، تزوجها بدعوى أنها كتابية دون أن ينظر في تطبيق شروط الزواج بها، فناله ما ناله، مما نسمع به كل يوم..
فبعض الذين تورطوا ابتغوا تصحيح الخطأ، فسارعوا بالخروج بأبنائهم، خشية عليهم من الكفر، واضطروا للتحايل على قوانين تلك البلاد، التي لا تحكم بدين ولا بشريعة، فمنهم من نجاه الله فنفذ بهم إلى بلاد الإسلام، ومنهم من لم يقدر، ثم إن بعض تلك البلاد ما زلت تلاحق إلى اليوم من تسميهم رعايا لهم، وهم أولا هذا المسلم من تلك النصرانية، تلاحقهم إلى بلدانهم تطالب برجوعهم إلى حيث الكفر والرذيلة، بل ربما سعت في تدبير اختطافهم، وكم من هؤلاء الآباء في عنت وخوف، من أن يسرق منهم أبناؤهم.
فلو أنهم عملوا بالشروط، لما وقعوا فيما وقعوا فيه، وكان أمر الله قدرا مقدورا..
مما جاء في هذا السياق: مسالة تزوج المسلم بالكتابية إذا كانت من أهل حرب..
فقد ذهب بعض العلماء إلى المنع من ذلك: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال:
"لايحل، وتلا قول الله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسول ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.
وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير" (القرطبي 3/69)(5/128)
وقال ابن عباس أيضا في قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}: "هو على العهد دون الحرب، فيكون خاصا"، تفسير القرطبي 6/79
والسبب كما صرح مالك، فإن ذلك يضر بالولد، ففي حال الحرب لن تكون للمسلمين إليه سبيل، فقد يكفر، وهذه مفسدة عظيمة، ليس المسلم في حاجة أن يتسبب فيها، وقد أغناه الله بالمؤمنات، والواقع والحال اليوم أن قوانين البلاد الغربية لا تأبه لدين فضلا عن دين الإسلام، ولا يستطيع المسلمون أن يرغموا دولة منها على تطبيق الحكم الشرعي في أبناء المسلمين من الكتابيات، وإذا كان الأمر، فالزواج بهن مفسدة أيما مفسدة، {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم}..
وفي ظننا أن كثيرا من الذين دخلوا في هذه التجربة مقتنعون تماما القناعة بخطأ السبيل الذي ساروا فيه، وربما كان من الخير لهم وللمسلمين أن يعلنوا خطأ تجربتهم، كي يحذر من يريد تكرارها..
أبو سارة
=============
أين المسلمون من هذه فريضة الجهاد اليوم ؟!
وإذ قد تبين لنا حكم الجهاد في سبيل الله ، بأدلته التي لا تقبل الجدال من مسلم عاقل منصف ، فإننا يجب أن نسأل أنفسنا : أين نحن من هذه الفريضة على تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، أو على التعريف الاصطلاحي الخاص ، على أن المراد به قتال الكفار فقط ؟
لقد قعد غالبنا اليوم عن القيام بهذه الفريضة التي لا حياة لنا بدونها ، بل إن الطامة الكبرى أن نرى كثيرا ممن ينتسبون إلى الإسلام يحاربونها ، ويقفون في وجه من يريد القيام بها ، وإن ما عليه غالب المسلمين اليوم من البعد عن الله لأمر يؤسف له ، فحياتهم - في الغالب - حياة جهل وغفلة ومعصية للخالق جل وعلا .
وما نحن عليه اليوم من ترك أعداء الإسلام يقتلون إخواننا المسلمين ، وينتهكون أعراضهم ، ويعذبونهم ، ويخرجونهم من ديارهم ن ويخبرون بيوتهم ، ويرملون نساءهم وييتمون أطفالهم ، ويدنسون مقدساتهم ، لهو تعرض للإثم وترك لفرض عين على كل مسلم في الأرض - كل بما يقدر عليه - لعدم وجود طائفة كافية تقوم بهذه الفريضة ، قياما كافيا ، في شتى أنحاء الأرض ، بل لعدم وجود طائفة تقوم به في بعض أجزاء الأرض دفاعا عن المسلمين ، فضلا عن الجهاد ابتداء ، وقد اتفق علماء الإسلام - استنباطا من نصوص الوحيين - على المسلمين أن يخلصوا المرأة المسلمة ، إذا سباها أعداء الإسلام ، ولو أدخلوها في دار الحرب ، ما داموا قادرين على ذلك .
فقد قال بعض فقهاء الحنفية : " مسلمة سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها من الأسر ، ما لم تدخل دار الحرب ، وفي الذخيرة : يجب على من لهم قوة اتِّباعُهم لأخذ ما بأيديهم من النساء والذراري ، وإن دخلوا دار الحرب " حاشية ابن عابدين [ 4/126 ]
وهذه بلدان المسلمين اليوم تتعرض لغزو أعداء الإسلام ، والاعتداء على أهلها وانتهاك أعراضهم ، وسلب أموالهم ، وتخريب مساكنهم ، وإفساد مصالحهم ، ونساؤهم معتقلات مهانات وراء قضبان السجون على مرأى ومسمع من سكان عواصم المسلمين المحيطة بهم من كل جانب ، فلا يتحرك المسلمون لنجدتهن والدفاع عنهن ، وهن لسن في المشرق ولا في المغرب عنا ، بل في قلب وطننا الإسلامي ، وفي أغلى بقاعه !
لا بل إن بعض الطغاة في البلدان الإسلامية يقفون في وجه رجال الجهاد وأطفاله ونسائه الذين حاولوا الدفاع عن أنفسهم ، ويستجيبون لزعماء الكفر في عقد مؤتمرات تدين من يبذل نفسه وأهله وماله لدحر العدو المعتدي ، ويسمون المجاهد إرهابيا ويحاصرونه من داخل بله وخارجه ، خذلانا له ، ونصرا لعدوه ، بأساليب ماكرة يظنونها تخفى على أولي العقول والألباب !
كما أن أعداء الإسلام من المنتسبين إليه يصدون دعاة الإسلام عن الدعوة الصادقة إلى الله ، ويصدون الناس عن الاستماع لأولئك الدعاة الذين يبلغون دين الله بأمانة ، ويفقهون الناس أن الإله المعبود المطاع الحاكم هو الله ، وأن غيره لا يطاع إلا في دائر طاعة الله ، وأن على المسلمين جميعا أن يحكموا كتاب الله في حياتهم كلها ، لا يقدمون عليها هوى ولا رأيا ولا نظاما ، أيا كان ، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون للناس : إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ظلم الحكام إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها .
هذه الدعوة بهذا المفهوم يطارد أهلها اليوم في كثير من البلدان الإسلامية ، فضلا عن غيرها ، ويحال بينهم وبين الناس ، حتى لا يسمعوها فيستجيبوا لها ، فيلتزموا طاعة الله ، ويخرجوا عن طاعة الطغاة المتألهين عليهم .
وهذا يدل أن أعداء الإسلام في داخل البلدان الإسلامية وخارجها ، يحاربون الجهاد في سبيل الله بمعنييه : الشامل والخاص !
( 9 )
خسارة الأمة الإسلامية بمحاربة الجهاد وفتح الأبواب لدعوات الفساد!(5/129)
وإذا كان الإسلام الذي يجب تبليغه ، هو الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه ، كما قال تعالى : ) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ( [ آل عمران 85 ] وقال تعالى : ) إن الدين عند الله هو الإسلام ( [ آل عمران 19 ] إذا كان الإسلام كذلك ، والدعوة الصادقة إليه محاربة - وفي ذلك مصيبة وخسارة عظيمة على العالم كله - فإن المصيبة العظمى والخسارة الجلَّى ، أن تفتح الأبواب لدعوات الكفر التي تدعمها دول ومؤسسات وشركات عالمية بالمال الوفير والرجال المدربين الأكفاء في تخصصات متنوعة ، والمرافق الكثيرة ، من وسائل اتصال مسموعة ، ابتداء من النشرات وشريط الكاسيت ، ووصولا إلى شبكة الاتصالات العالمية - الإنترنت - أو منظورة أو مقروءة ، ومواصلات ، برية وبحرية وجوية ، ووسائل تعليم ، من مدارس ومعاهد وجامعات ودراسات عليا ، ووسائل توثيق وإحصاء في مراكز بحث متخصصة ، ونواد رياضية وثقافية واجتماعية ، كلها تتسابق إلى عقول المسلمين شبابا وشيبا ، لتفرغها مما بقي فيها من الحق ، وتملأها بالباطل ، إضافة إلى إفساد الأخلاق وإماتة الضمائر ، وتجفيف منابع الخير ، والتفريط في العزة والكرامة والإباء التي منحها الله للمسلمين بهذا الدين العظيم .
وهاهي المؤسسات النصرانية تنشئ المطارات التي تفوق مطارات الدولة في المناطق الإندونيسية التي لا تجدي فيها وسائل المواصلات غير الطائرات ، تنشئها لطائراتها التي خصصتها لمن يسمون بالمبشرين ، تحت ستار الشركات التجارية ، وبها ينتقل المنصرون من مدينة إلى أخرى ، ومن قرية إلى قرية ، ومن سهل إلى جبل ، ومن غابة إلى غابة ، من أجل تنصير المسلمين وإخراجهم من دينهم ، على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي حكومات وشعوبا ، وقد غطوا في نوم عميق ، تاركين تلك المنزلة العظيمة التي منحهم الله : ) كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ( . [ آل عمران : 110 ]وما حصل في إندونيسيا حصل في غيرها من البلدان الأفريقية . لا بل وصل التنصير إلى بعض البلدان العربية الإسلامية القريبة ، حتى أصبحنا نسمع من يرتد علنا ويسمي نفسه اسما نصرانيا ويلح على المسئولين في بلاده أن يثبتوا اسمه النصراني في وثيقته ، بدلا من اسمه الإسلامي ، وأصبحت الكنائس تشيد في أطراف الجزيرة العربية التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أنم يجتمع فيها دينان!
هذا ماعدا الغزو المسلح الذي تشنه دول الكفر على شعوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، كما هو الحال في فلسطين المسلمة التي تحيط بها عواصم الإسلام من جميع الجهات ، وكما حصل في أفغانستان ، والبوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان ، وكما يحصل في جنوب السودان الذي يتعاون على حربه اليهود والنصارى والمنتسبين إلى الإسلام ! وما يحصل في الفليبين لجبهة مورو الإسلامية ، وما تفعله الصين في التركستان الشرقية ، وما تفعله الهند في كشمير وبالمسلمين في داخل الهند ، وما يعانيه الإريتريون المسلون من استيلاء الأقلية النصرانية على مقاليد الحكم وتشريد الأغلبية المسلمة وإنزال الأذى والإذلال بها … !
( 10 )
فأين هم المجاهدون الذين يحطمون جسور الطغيان ويقاتلون أئمة الكفر ، ليتمكن الدعاة إلى الله من تبليغ رسالات الله إلى عباد الله ؟ وأين هم المجاهدون الذين يدفعون عن المسلمين المقهورين المستضعفين في كل تلك البلدان وغيرها .
بل أين المجاهدون الذين ينصرون المظلومين من اعتداء القوي منهم على الضعيف ؟!
أين من يقوم بهذه الفريضة الخطيرة قياما كافيا ، حتى يقال : إن الجهاد اليوم فرض كفاية وليس فرض عين ؟
أين الطائفة الكافية من الدعاة ؟ وأين الطائفة الكافية من ذوي البأس الذين يقاتلون في سبيل الله ؟ وأين الطائفة الكافية من أغنياء المسلمين الذين ينفقون من أموالهم لتبليغ رسالة الإسلام وتجهيز المجاهدين ؟ وأين طائفة حكام المسلمين الكافية التي تقوم باستنفار الأمة وقيادتها لرفع راية الإسلام كل فيما يقدر عليه ؟
أين هم جميعا من هذا الخطر الداهم الذي يكاد يسيطر على كل جزء من أرض الإسلام ؟
إن الداعية المسلم إذا وجد في أي شعب من الشعوب الإسلامية ، لم يجد من يعينه الإعانة الكافية بالمال ليقوم بتبليغ دعوة الإسلام ، مع أن أموال المسلمين ينفق كثير منها في غير محلها ، من المحرمات أو المباحات المبالغ في الإنفاق فيها أكثر من إنفاقها في الواجبات ، وتنفق في الكماليات والترف أكثر من إنفاقها في الضرورات . وكثير من تلك الأموال تصب في أيدي أعداء الله الذين يحارب غالبهم الإسلام بطريق مباشر أو غير مباشر ، وهم يصوغونها في قوالب متنوعة لتدمير المسلمين : تدميرهم في إيمانهم ، وتدميرهم شريعتهم ، وتدميرهم في أخلاقهم ، بطرق شتى : مناهج تعليم ، ووسائل إعلام ، ومغريات شهوات ، إضافة إلى بناء أولئك الأعداء مدارس وجامعات ومراكز بحث ، وملاجئ وكنائس ، ونوادي لجلب أبناء المسلمين إلى تلك المؤسسات لإفساد عقولهم وقلوبهم بما يخالف دينهم .(5/130)
فهل الجهاد والحالة هذه فرض كفاية ، أو هو فرض عين على كل قادر من المسلمين ، كل في مجاله ، حتى توجد الطائفة الكافية للقيام بكل ما يحتاج إليه المسلمون من أنواع الجهاد في كل صقع من أصقاع الأرض ؟
وهل ينتظر المسلمون إلا سخط الله ونكاله وخزيه الذي قد حل بهم فأصبحوا أذلة في الأرض بعد عزهم ، وفقراء بعد غناهم ، ومقودين بعد كانوا قادة العالم ؟!
وهناك أهداف أخرى من أهداف الجهاد في سبيل الله ، منها رد العدوان على المسلمين ، فهل قام المسلمون أو الطائفة الكافية منهم برد العدوان على المسلمين في كل أنحاء الأرض ، حتى يقال : إن الجهاد فرض كفاية اليوم ، قد قام به بعض المسلمين فسقط عن الباقين ؟!
هل خلت الأرض من مسلمين يعذبون ، ويسجنون ، ويخرجون من ديارهم وأهليهم وأموالهم ليهيموا في الأرض طالبين اللجوء في البلدان غير الإسلامية ، ويقتل الكثير منهم ويمثل بهم ؟ كلا ! وليس هذا التعذيب والإخراج والسجن في بلاد الكفر الصريح فقط ، بل في كثير من بلدان المسلمين العربية منها وغير العربية ، التي تربع على كراسي حكمها من حارب الله ورسوله وشريعته وأولياءه من الدعاة والعلماء .
إن كثيرا من دعاة الإسلام وعلمائه يلاقون من حكام بلادهم ما لا يلاقيه أشد الناس إجراما ، كالجواسيس والقتلة وقطاع الطرق ، كما سيأتي في حلقات لاحقة .
فالجهاد فسبيل الله فريضة ، وهو اليوم فرض عين يأثم كل قادر من المسلمين على أي نوع من أنواعه ، إذا لم يقم به ، حتى ترتفع راية الإسلام ، وتحرر بلدان المسلمين من المغتصبين ، ويدفع عن المسلمين العدوان الظالم في كل مكان .
ومعلوم أن الطواغيت الظلمة لا يهادنون المسلمين ، ولو طلب المسلمون مهادنتهم ، لاعتقادهم بأن ثبات دين الله في الأرض وقوة أهله خطر عليهم وعلى مصالحهم التي لا تقوم إلا على الكفر والظلم والعدوان .
ألا ترى أن نبي الله شعيبا - عليه السلام - الذي اختلف قومه في دعوته : أمنت بها طائفة ، وكفرت به أخرى ، وهو يدعو الطائفة الكافرة إلى الصبر حتى يحكم الله بينه وبينهم ، فيأبون إلا أن يخرجوه هو وأصحابه من ديارهم ، أو يعيدوهم في ملتهم ، ولا يطيقون وجود فئة تؤمن بالله وبرسالته في ديارهم ، كما قال الله تعالى : ) وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ( [ الأعراف 88 ]
وهنا يقف الداعي إلى الله كالجبل الأشم مجاهدا في سبيل الله ، للحفاظ على دينه ، والتبري من الكفر الذي نجاه الله منه ، ويلجأ إلى القوي القادر يستنصره فيأتيه نصره ، ويفتح الله بينه وبين عدوه ، وهو خير الفاتحين : ) قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيه إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ( [ الأعراف 87-91 ]
وهكذا بسير الأنبياء والرسل والدعاة إلى الله من أتباعهم ، يدعون الناس إلى تحكيم شرع الله ، ويقيمون الحجج والبراهين على صحة ما يدعون إليه من الحق ، فيقف الطغاة المعارضون لأمر الله يتوعدون أولئك الدعاة بالإخراج من ديارهم ، ويتهكمون بهم ويسخرون منهم ، ويستهزئون با القيم التي يدعون إليها ، كما قال تعالى عن قوم لوط : ) ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ( [ الأعراف 80-82 ]
فالجهاد الذي هو فريضة لازمة لإعلاء كلمة الله ، وإنقاذ المستضعفين ، وقهر أعداء الله ، هو فرض عين اليوم ، وليس فرض كفاية ، حتى تقوم به طائفة من المسلمين بإزاء كل عدو ، فتكفي لدحره وإخراجه من الظلمات إلى النور بالدخول في الإسلام ، ومن الظلم إلى العدل ، ودفع عدوانه عن المسلمين وغير المسلمين .
عندئذ فقط يكون الجهاد فرض كفاية .
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
=============
انظروا عمَّن تأخذون دينكم؟!
خباب بن مروان الحمد
الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى ؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم . ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين...أمَّا بعد:(5/131)
فإنَّ لأهل العلم منزلة عالية في دين الإسلام ، ودرجة رفيعة سامقة ، كيف لا ... وهم الذين اجتباهم الله لحفظ دينه ، ونشر كلمته ، وقرنهم بشهادته فقال:(شهد الله أنَّه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط) ونفى المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم فقال:(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وأوضح أنَّ ألصق الصفات بأهل العلم ؛ خشيتهم لله تعالى ، فقال:(إنَّما يخشى الله من عباده العلماء) ومن خشية العلماء لربهم أنَّهم لا يتكلمون إلا بالعلم والهدى ، ويخشون ربهم من فوقهم أن يتقوَّلوا عليه بلا علم ، ويوقِّعوا عنه بجهل ، لأنَّهم وقَّافون عند حدود الله ونواهيه ، إذ قال تعالى:(ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنَّ السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً)الإسراء(26).
إلاَّ أنَّه ـ وللأسف ـ قد تقحَّم بوابة العلم ، وولج فيها مولجاً لا يستحقه ، أناس ليس لهم في العلم الشرعي كبير إنعام حيث امتطوا صهوة العلم والتعليم ، فتراموا على شاشات الفضائيات ، وأوقعوا بأرجلهم على مهاد المنابر ، وتكالبوا في الكتابة بالصحف والجرائد والمجلات ، إمعاناً منهم لتعليم الناس ما يهمُّهم ، في شؤون الدين والدنيا ، وقسم آخر وهم كثيرون إذا اجتمعوا في المجالس والنوادي ، وطرحت مسألة فقهية أو شرعية ، وجدت المختص وغير المختص يخوض فيها ، ويتمنطق متحدثاً عنها ، مدَّعياً أنَّ لديه علمها وحكمها ، على حدِّ ما ذكره الشيخ: محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ :(قرأت كتاباً لأحد المهندسين يفسِّر حقيقة الصلاة تفسيراً لم يعرفه المسلمون طوال أربعة عشر قرناً ، فعجبت لهذا الحمق في خرق الإجماع ، وقلت: أما يجد هذا المخترع مجالاً لذكائه في ميدان الهندسة ليتقدَّم فيه بدل أن يشغل نفسه ويشغلنا معه بهذه التوافه) [ليس من الإسلام ـللشيخ: محمد الغزالي/56]فترى كثيراً ممَّن على شاكلة هذا الشخص زاعمين أنَّهم مثقفون ومطَّلعون يطلقون لأنفسهم باب الاجتهاد في التحدث عنها بآرائهم ، والغريب أنَّ ذلك يحصل في كثير من المجالس وخصوصاً مجالس كثير من العوام أو غير المتخصصين في العلم الشرعي ممَّن تخصصوا في العلوم التجريبيَّة أو الطبيعيَّة أو غيرها ، وكانوا بعيدين بُعد المشرقين عن البحث والاطِّلاع في أصول الشريعة ومحكماتها، فتجد كثيراً منهم يلتُّ ويعجن في المسألة التي قد تكون مشكلة ، ولو عرضت على عمر ـ رضي الله عنه ـ لجمع لها أهل بدر ليتباحثوا فيها ، ويعطوا الحكم الشرعي المناسب لها المبني على الكتاب والسنة! وإن طرحت على أهل العلم أعطوها حقَّها من البحث والتفكير ، ورحم الله زمناً جاء فيه أنَّ الإمام مالك قال:(إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، فما اتَّفق لي فيها رأي إلى الآن) وقال:(ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي)[ترتيب المدارك1/178].
وإنَّ العجب ليأخذني كلَّ مأخذ ، حين أرى هؤلاء المتقحِّمين باب العلم حين تُعرض أي مسألة من متعلقات الشريعة ، فيتحدثون عنها ، ولم يكلِّفوا أنفسهم البحث عن حكمها ودلائل حلِّها أو حرمتها، بل تجد المبادرة والمسارعة للإفتاء وإبداء الرأي بحجَّة أنَّها وجهة نظرهم ، ولا يعني أن تكون وجهة النظر صحيحة ، وكأنَّ علم الشريعة علم يُتناول على مائدة الحوار والكل يبدي رأيه متوقعاً ومخمِّناً أنَّ ذلك هو الحكم الشرعي!
مع أنَّ هؤلاء العوام أو من يتسمَّون بالمثقفين أمثال (صاحبنا) لو أنَّ رجلاً غير متخصص في الفن الذي هو من اختصاصهم وتكلم فيه زاعماً أنَّ رأيه صواب ، وأنَّ ما يقوله لا يلزم أن يكون صحيحاً ؛ لنظروا إليه نظر شزر ، وقرَّعوه بشديد الخطاب ، لأنَّه تكلم فيما لا يحسنه ،ومن يتكلم بما لا يحسن يأتي بالعجائب!
وَصَدَقُوا ...ولكن لِمَ لا تمرَّر هذه القاعدة والمنهجية عليهم كذلك ؟ أمَّ أنَّ علم الشريعة متاح لكل أحد أن يكون مجتهداً فيه ، وغيره من العلوم لا يتحدَّث فيه إلاَّ من تخصص به وثنى ركبته في نيله عند أهله؟!
وقد لاحظ تلك المشكلة الإمام ابن رجب ـ رحمه الله ـ واشتكى منها قائلاً:( يالله العجب ! لو ادَّعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا ، ولم يعرفه الناس بها ، ولا شاهدوا عنده آلاتها لكذَّبوه في دعواه ، ولم يأمنوه على أموالهم ، ولم يمكِّنوه أن يعمل فيها ما يدَّعيه من تلك الصناعة ، فكيف بمن يدَّعي معرفة أمر الرسول وما شوهد قط يكتب علم الرسول ، ولا يجالس أهله ولا يدارسه) [الحكم الجديرة بالإذاعة].
* أقوال علماء الإسلام في النهي عن التكلم بلا علم:
وقد تواترت كتابات العلماء في التحذير من التكلم بلا علم والإفتاء بالجهل ،ومنهم الإمام الشافعي فقد قال ـ رحمه الله ـ:(فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلاَّ من حيث علموا ، وقد تكلَّم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلَّم فيه منه لكان الإمساك أوْلى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله)[الرسالة/41]
وقال الإمام ابن حزم :(لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها ، فإنَّهم يجهلون ويظنُّون أنَّهم يعلمون ، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون) [مداواة النفوس/67](5/132)
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ :( ولا يحل لأحد أن يتكلَّم في الدين بلا علم ولا يعين من تكلَّم في الدين بلا علم ، أو أدخل في الدين ما ليس منه) [مجموع الفتاوى22/240] وقال كذلك:(فمن تكلَّم بجهل وبما يخالف الأئمة ، فإنَّه ينهى عن ذلك ويؤدَّب على الإصرار ، كما يُفعل بأمثاله من الجهال ، ولا يقتدى في خلاف الشريعة بأحد من أئمَّة الضلالة، وإن كان مشهوراً عنه العلم ، كما قال بعض السلف: لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك)[مجموع الفتاوى22/227] وقال كذلك:( ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذباً وإن كان لايتعمد الكذب كما ثبت في الصحيحين عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قالت له سبيعة الأسلمية وقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع فكانت حاملاً فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:(كذب أبو السنابل ، بل حللت فانكحي)[مجموع الفتاوى10/449].
* من يملك حقّ التكلُّم بالعلم :
ممَّا يهمُّ المسلم المعاصر لهذا الزمن ، أن تكون له بيِّنة لصفات من يؤخذُ عنهم العلم ، ومعرفة جليَّة لسمات أهله وأصحابه ؛ لئلاَّ يختلط عليه الحق بالباطل ، والصواب بالخطأ ، وليعبد الله على بصيرة وبيِّنة، خصوصاً أنّ أحاديث صريحة أتت عن رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في التحذير ممن يتقمصون مسوح العلم وينطقون به ، ومن أئمة الضلال الذين يحكمون بالجور والجهل ، ومن ذلك أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال:(سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات يُصَدَّقُ فيها الكاذب ، ويُكَذَّبُ فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخوَّن فيها المؤتمن ، وينطق الرويبضة . قيل: وما الرويبضة؟قال: الرجل التافه ، يتكلم في أمر العامَّة) أخرجه ابن ماجه(4042) وأحمد في المسند[2/291]بسند حسن ، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني(1887) وثبت عند أحمد من حديث أبي الدرداء أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ قال:(إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون) [المسند6/441] وحدَّث عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال:(إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتَّى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهَّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا) [أخرجه البخاري1/174،175 في كتاب العلم ، ومسلم واللفظ له4/258].
لأجل هذا يتحتَّم على مبتغي طريق الحق ، ومريد طوق النجاة وسبيل الفلاح أن يعرف صفات من يأخذ عنهم العلم ، لئلا يضيع الطريق الشرعي ، ويضل السبيل ، وسأذكرها في عدَّة نقاط:
* صفات من يؤخذ عنهم العلم:
1ـ خشية الله تعالى:
وهي صفة لصيقة بأهل العلم الراسخين الربَّانيين ، الذين يخشون ربهم ، ويراقبونه في ما دقَّ وكبر ، جليلاً كان أو حقيراً ، فخشية ربَّهم ملازمة لهم ، لا يحيدون عنها ولا يتحايلون عليها ، بل هم لله وبالله وعلى الله يفضون له جميع أمورهم ، ويتعلقون بحبال الرجاء والخشية منه ، ولهذا كان يقول جمع من أهل العلم كابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وغيره: (كفى بخشية الله علماً ، وكفى بالاغترار به جهلاً) وحين نادى أحدهم الإمام الشعبي قائلاً له: يا عالم؟ فقال الشعبي:(إنَّما العالم من يخشى الله) وكان طلاب العلم لا يتلقون العلم إلاَّ عمَّن عرف بالخشية والخشوع ؛ فقد قال النخعي ـ رحمه الله ـ :(كان الرجل إذا أراد أن يأخذ عن الرجل نظر في صلاته وفي حاله وفي سمته ، ثمَّ يأخذ عنه).
2ـ تلقي العلم عن الراسخين في العلم:
وذلك لئلاَّ تكون له منهجية مبعثرة في قواعد الترجيح ، ودلائل الاستنباط ، وأن يكون تلقيه من أفواه العلماء وشفاههم ، فيكون متقناً للأحكام ، ولهذا كان السلف الصالح كالإمام الشافعي يقول:(من تفقه من بطون الكتب ضيَّع الأحكام) [تذكرة السامع والمتكلم/83].
فلا يعقل آيات الله ، ولا يفقه أحكامها ويستنبط دلائلها إلا البارعون في العلم ؛ كما قال تعالى:(وما يعقلها إلاَّ العالمون )العنكبوت(18) وكقوله تعالى:(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)النساء(83). فأهل العلم هم أوْلى الناس باستنباط أحكام الدين وشرائعه.قال محمد بن سراقة البصري:حقيقة الفقه عندي: الاستنباط . قال تعالى:(لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [المنثور في القواعد1/67 ـ بواسطة: أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي 1/68 لمحمد أحمد الراشد] لهذا حثَّنا الله تعالى على سؤالهم إن أشكل علينا أمر شرعي ، فقال تعالى:(فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون) الأنبياء(7)(5/133)
أخرج الدارمي في سننه في مقدمته عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (( خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ )) قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟ قَالَ:فَغَضِبَ لَا يُغْضِبُهُ إلاَّ اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ: (( ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا؟! إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ )) .
قال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ :(إنَّ إنصاف الرجل لا يتمُّ حتَّى يأخذ كلَّ فنٍّ عن أهله كائناً ما كان ؛ فإنَّه لو ذهب العالم الذي تأهَّل للاجتهاد يأخذ مثلاً الحديث عن أهله ثمَّ يريد أن يأخذ ما يتعلَّق بتفسيره في اللغة عنهم ، كان مخطئاً في أخذ المدلول اللغوي عنهم ، وهكذا المعنى الإعرابي عنهم فإنَّه خطأ)ثمَّ يؤكِّد الإمام الشوكاني هذه المنهجيَّة المتَّزنة بقوله:(فالعالم إذا ظفر بالحق من أبوابه ، ودخل إلى الإنصاف بأقوى أسبابه ، وأمَّا إذا أخذ العلم عن غير أهله، ورجَّح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا من أهلها ، فإنَّه يخبط ويخلط ، ويأتي من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان وهو حقيق بذاك)ا.هـ [أدب الطلب ومنتهى الأرب/76]
وكم من مدَّعٍ للعلم ، متعالم مع جهل ، ينظر لنفسه نظر الكبر والغرور ، فيظنُّ أنَّ جمع العلم يكون من قراءته للكتب فحسب ، فلا حاجة ليقرأ العلم على أهله ، ولا ليثني ركبه عند أهل العلم ، تلقياً منهم ومذاكرة معهم ، ومراجعة عليهم ، ليعلو كعبه في العلم ، ويعلم أنَّه [من البليَّة تشيُّخ الصحيفة]وقد كان أهل العلم ينهون عن نيل العلم من الكتب فحسب ، بل لابد من مقارنة ذلك بالحضور عند أهل العلم ، والتلقي من الأشياخ ، ليقوى باع الطالب في العلم ، ويشتد عوده في الفهم ، ويصلب مراسه لمعالجة مشكلات الكتب وما يكتنفها من مسائل غامضة. قال كمال الدين الشمني:
من يأخذ العلم عن شيخ مشافهةً *** يكن من الزيف والتصحيف في حرمِ
ومن يكن آخذاً للعلم من صحف *** فعلمه عند أهل العلم كالعدم
قال الأوزاعي : كان هذا العلم شيئاً شريفاً ؛ إذ كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه ، فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله.
وحين يتأمل المرء في بعض الكتب الصادرة ، وما يجد فيها من فهم خاطئ لبعض نصوص الكتاب والسنَّة ، وأقوال أهل العلم ، يتيقن بأنَّ الخطأ ليس في صياغة الشيخ في كتابه بدلالاته اللغوية ، ومعانيه الكلاميَّة ، وإنَّما من الفهم القاصر لقارئ الكتاب ، ممَّا يجعله ينزلق في الفهم القاصر ، كما قال ابن القيم:(ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة) [مدارج السالكين2/431]. وصدق من قال:
وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم
ولا عجبَ أن ترى كثيراً من المسائل التي وقعت بها أخطاء علميَّة ، أدَّت فيما بعد لأن تكون أقوالاً تنسب لبعض المنتسبين للعلم ، لتكون خلافاً يحكى أمد الدهر ، وذلك لقلَّة الفهم ، وضعف العلم ، ولو سكت هؤلاء القوم ولم ينطقوا لكان ذلك بهم أحرى وأوْلى من أن يتكالبوا على التدريس والتعليم ، وبضاعتهم في العلم مزجاة ، وممَّا يحسن إيراده في هذا المقام ما قاله كلثوم العتابي حيث قال:(لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف ) معجم الأدباء(5/19) وقال أبوحامد الغزالي:(لو سكت من لا يعرف قلَّ الاختلاف ، ومن قصر باعه وضاق نظره عن كلام علماء الأمَّة والاطِّلاع عليه فماله وللتكلُّم فيما لا يدريه ، والدخول فيما لا يعنيه ، وحق مثل هذا أن يلزم السكوت) [الحاوي للفتاوى2/116].
ولهذا كان أهل العلم ـ رحمهم الله جميعاً ـ إذا سئلوا عن مسألة ولم يعرفوا لها جواباً قالوا : الله أعلم ، ولم يفذلكوا أو يكذلكوا ، بل كانوا متَّسمين بالوضوح تجاه مستفتيهم ، إن علموا حكم المسألة قالوا بها ، وإن جهلوها قالوا لا نعرفها ، بل كانوا لا يجزمون في فتاويهم ـ في بعض الأحيان ـ إن شعروا أنَّ المسألة قد تحتمل أوجهاً متعدِّدة ، كما نقل عن الإمام مالك أنَّه في بعض الأحيان إن أفتى قال:(إن نظنُّ إلاَّ ظنَّاً وما نحن بمستيقنين) [جامع بيان العلم وفضله2/146] وممَّا نقل عن بعض أهل العلم حين كانوا لا يعرفون حكم المسألة أو يجهلونها ، ما نُقِلَ عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قال:(وابردها على الكبد إذا سئل أحدكم عمَّا لا يعلم ، أن يقول : الله أعلم) [تعظيم الفتيا لابن الجوزي/81].
3ـ ألاَّ يكون من أصحاب تتبع الرخص ، ومن المتساهلين في فتاويهم وتعليمهم:(5/134)
والحقيقة أنَّ أصحاب تتبُّع الرخص صاروا يستمرؤون هذه الخصلة وخاصَّة في هذا الزمان ، بل صاروا يأتوننا بأسماء جديدة للفقه ، فطوراً يقولون: نحن من دعاة (تطوير الفقه الإسلامي) وتارة يقولون : نحن أصحاب مدرسة(فقه التيسير والوسطيَّة) وليتهم كانوا كذلك ، فهناك فرق بين التيسير الذي هو سمة الفقهاء الراسخين ، والتفريط الذي هو سمة المتساهلين!
بيد أنَّ التيسير والترخيص لا يؤخذ إلاَّ من رجل عالم ثبت ثقة، وأمَّا أن يؤخذ ذلك من كل أحد يدَّعي الاجتهاد والتعليم ، فإنَّ ذلك هو المرفوض قطعاً ، وبما أنَّ الربَّاني يرفض الغلو والتشديد ، فهو كذلك يرفض الترخيص والتساهل من غير الثقات ، لذا قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ(إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التَّشدد فيحسنه كلُّ أحد) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر(1/784) فليفرَّق بين أصحاب مدرسة التيسير المتَّبعين لضوابط الشرع ، وبين أولي التساهل والتفريط والتمييع وعلى هذا فقس، من أنصار تطويع الفتوى للواقع ، وليِّ أعناقها لتواكب هذا العصر وتوازن ميوله واتجاهاته خشية أن يٌنْبَزُوا بأنَّهم متشدِّدون متنطِّعون!
وصرنا نرى فتاوى يضحك الجهلاء منها ، كشيخ يرى جواز كشف شعر المرأة لأنَّ هناك عالماً كان يرى كشف شعر المرأة ؛ ولذا فلا بأس بأن تكشف المرأة شعرها ، وشيخ يفتي النساء المسلمات ويدعوهنَّ إلى التَّخلِّي عن الحجاب تلافياً لموجة الاعتداءات على المسلمين التي شهدتها بريطانيا عقب الهجمات على لندن ، وآخر يرى جوازَ بيعِ المسلمينَ للكفَّارِ الخمرَ ، بدعوى الضرورة والحاجة:
أمور تضحك السفهاء منها *** ويبكي من عواقبها الحليم
وثالث يفتي بجواز التطبيع مع اليهود مع أنَّ إباحة ذلك قضيَّة خطيرة للغاية، وشيخ ٌيرى جواز إمامة النساء للرجال ، أو يرى جواز التدخين لمن يقدر على شرائه ، أو بمن يقول بجواز لبس البنطال للنساء في الشوارع بحجَّة أنَّه يستر جسدها ، أو بجواز مصافحة المرأة الأجنبيَّة للرجل وتقبيله لها أو تقبيلها له ، أو من شيخ يرى جواز أن يتغنَّى الفسقة المغنُّون بالقرآن ويعزفوا الوتر على آياته ، وآخر ما اطَّلعت عليه ما نشر عن أحدهم بأنَّه يشكِّكُ في نزول عيسى بن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الأرض في آخر الزمان ؛ ضارباً على الأحاديث الواردة عن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في إثبات هذه المسلَّمة العقديَّة ! وقد سمعت من ذلك عجباً لا أحبُّ أن أزيد به القارئ ضحكاً مزجياً بتعجُّبٍ واستغراب.
ومن الوسائل التي يحاول أدعياء تطوير الفكر الإسلامي أن يطرحوها ؛ اتِّخاذ التلفيق الفقهي وسيلة لمعايشة ضغوط الواقع ، والمقصود بالتلفيق: أن لا يلتزم المفتي أو مستنبط الحكم مذهباً معيَّناً في فتاواه وفي حكمه ، بل يحاول أن يأخذ برخص الفقهاء ، ونوادر العلماء ، وتيسيرات المتقدِّمين ، لتكون مناسبة لفقه القرن الواحد والعشرين ، وهو قرن اندماج الثقافات مع الآخر الغربي/الكافر ، ليكون ذلك وسيلة على إظهار الإسلام بروح المعاصرة والمسايرة!
وقد اطَّلعت مؤخراً على كتاب جديد كتبه:(مراد هوفمان) بعنوان:(في تطوُّر الشريعة الإسلامية) يقرِّر فيه إسلاماً يسميه (الإسلام المعتدل) إذ يرى أنَّ الشريعة الإسلامية قابلة للتطور والمرونة ، ولذا يرى أنَّ شهادة المرأة كافية وخاصَّة في الأمور الاختصاصيَّة بل وملزمة /صـ47، ويرى أنَّ تعدد الزوجات هو استثناء لحالات خاصَّة حيث يسمح به في حالة الأمَّهات الأرامل ممَّن لديهنَّ أطفال يتامى، أو مع يتيمات ، أو لهدف العناية بالأيتام/صـ41، كما يرى أنَّه لا ينبغي إقامة حدِّ الردَّة على المرتد عن الإسلام/صـ53 ، ويرى أنَّ الإسلام ـ كنتيجة نهائية لبحث كتبه في عشرين سطراً ـ لم يقرَّ أبداً رجم الزناة/صـ55، بل يرى أنَّ الحديث عن مفاهيم دار الحرب ودار الإسلام للتعبير عن العلاقة بين الشرق والغرب بأنَّها مفاهيم تجاوزها الزمن/صـ65 ، إلى غير ذلك من الضَّلالات التي وقعَ فيها هذا الرجل ، ليجعل أحكام الإسلام تُؤخذُ بهذه الطريقة المنهزمة ، والمُمَيَّعة!(آلله أذن لكم أم على الله تفترون)يونس(59)
ولولا أن يُظنَّ بنا غلوٌّ *** لزدنا في المقال من استزادا
فهذا الرجل وأمثاله الذين صار لهم توسع وانتشار ؛ من الأشكال التَّي تعرض الدين الإسلامي بطريقة تجعل النصوص الإسلاميَّة ملويَّة أعناقها لتتواءم ـ كما زعموا ـ مع معطيات الحضارة ، ومتغيرات الزمن، وليؤسٍِّسوا فقهاً اجتهاديَّاً جديداً يرعى مصالح الزمان ، وضغوطه الدولية، والَّتي من أهمِّها أن ينظر الغرب إلى هذه العقول بأنَّها عقول مرنة ومنفتحة ، وصدق من قال من علمائنا المعاصرين:إنَّ الاجتهاد لم يُفتح في هذا الزمان وإنَّما كسر كسراً!فرحم الله من قال:
إن رُمْتَ حقَّاً لهذا الدِّين مصلحة *** لا تظلم القوس أعط القوس باريها(5/135)
ولقد كان علماؤنا الأجلاَّء يحرِّمون استفتاء المفتي المتساهل ، كما ذكر الإمام ابن مفلح قائلاً:( يحرم تساهل المفتي ، وتقليد معروف به) [التقرير3/351 بواسطة : زجر الفقهاء عن تتبع رخص الفقهاء/66] وكان الإمام أيوب السختياني ـ رحمه الله ـ يقول:(يخادعون الله كأنَّما يخادعون الصبيان) [أعلام الموقِّعين4/176ـ177] ولهذا شكا بعضهم إلى الفقيه ابن حجر الهيتمي أحدَ قضاة المسلمين ؛ لأنَّه يشدِّد على الناس فلا يحكم إلاَّ بالقول الصحيح ، ولا يسلك بهم مسلك التخفيف والترخيص فأجاب ـ رحمه الله ـ بقوله:(ما ذكر عن هذا القاضي إنَّما يُعَدُّ من محاسنه لا من مساوئه ، فجزاه الله تعالى عن دينه وأمانته خيراً ، فإنَّه عديم النظر إلى الآن ـ ثمَّ قال: ـ فقيام هذا القاضي حينئذٍ بقوانين مذهبه ، وعدم التفاته إلى الترخيص للناس بما لا تقتضيه قواعد إمامه يدلُّ على صلاحه ونجاحه وفلاحه) [الفتاوى الكبرى الفقهية 4/324 بواسطة زجر الفقهاء عن تتبع رخص الفقهاء لجاسم الدوسري/22 ، وكتاب تحذير الفضلاء للمقطري/35ـ36]
ولهذا فإن المنتسبين لأصحاب مدرسة(فقه التيسيرـ أي التساهل والتمييع لقضايا الشريعة ـ) المدَّعين أنَّهم أولو الوسطيَّة والاعتدال ، فإنَّك واجد في كتاباتهم ودروسهم وفتاويهم عجائب من الأقاويل ، التي يرون أنَّهم بها قد وافقوا بين الأصالة الفقهية ، والمعاصرة الزمانيَّة،ومن ذلك ما قاله الشيخ مصطفى المراغي لأعضاء لجنة وضع لائحة الأصول للأحوال الشخصيَّة ـ وكان رئيسها ـ :(ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنَّه موافق الزمان والمكان ، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلاميَّة يطابق ما وضعتم) [تراجم الأعلام المعاصرين لأنور الجندي/ص428].
آه من دهر خؤون أهله *** لا يرون العلم للدين شعارا
طلبوا علماً بماضي غيرهم *** حالهم أحسن إذ كانوا صغارا
فإذا ما الشيب في أذقانهم *** ملؤوا الآفاق ظلماً وبوارا
وقد كان أهل العلم يحذِّرون أشدَّ التحذير من الأخذ برخص العلماء وزلاَّتهم ، وأن تُجعل ديناً يدين العبد بها ربَّه ، فإنَّ ذلك علامة على ضعف الإيمان ، وقلَّة الديانة ، قال الأوزاعي:(من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام) [السير(/125]
4ـ أن يكون له باع طويل في تلقِّي العلم والاجتهاد في تحصيله:
إنَّ ضرورة التأصيل العلمي ، وقوَّة التمكن الشرعي ، له أثره البالغ ـ ولا شكَّ ـ في أهليَّة العالم أو المعلِّم وقت تعليمه وكتابته وإفتائه ، ذلك أنَّه يعطي المتعلِّم أو المستفتي اطمئناناً لمن يسأله،والقارئ ارتياحاً لما يكتبه الداعية المعلِّم، وقد كان أهل العلم الربَّانيين السابقين منهم واللاحقين يطلبون العلم ، ويجتهدون في نيل مرامه ، من المهد إلى اللحد، كما قال الإمام أحمد ، فكانوا لا يفارقون كواغد العلم ، ولا أوراق الشريعة ، فهي معهم في حلِّهم وترحالهم ، بل لا يتركون معلِّميهم وأساتذتهم في طلب العلم عليهم بثني الركب عندهم، ولك أن تعلم أنَّ إماماً كابن الجوزي طلب علم القراءات وقد كان باقعة في العلم ، علاَّمة في الإدراك والفهم ، مشهوراً بين الأنام ، ومع ذلك يطلب هذا العلم مع ابنه الصغير وهو في سنِّ السبعين ، ولم يكن كبر عمره ، وشرف رسوخه في العلم ، حائلاً بينه وبين طلب العلم ، وملازمة أخذه وإدراكه ، والعيش معه ليل نهار ، حفظاً واطِّلاعاً وبحثاً ومذاكرة وفهماً وتعليماً وإفتاءً ، وقد قال علماؤنا بأنَّه: من لم يتقن الأصول حرم الوصول.
إلاَّ أنَّ القضيَّة ـ وللأسف ـ اختلفت وخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه المستعجلون للتدريس ، والمتزبِّبون قبل أن يتحصرموا ، والمدَّعون للعلم والعلم بريء منهم (فعلى هذا لا يكتفى بمجرَّد انتسابه إلى العلم ، ولو بمنصب تدريس أو غيره ، لا سيما في هذا الزمان الذي غلب فيه الجهل ، وقلَّ فيه طلب العلم ، وتصدَّى فيه جهلة الطَّلبة للقضاء والفتيا ، فتجد بعضهم يقضي ويفتي وهو لا يحسن عبارة الكتاب ، ولا يعلم صورة المسألة ، بل لو طولب بإحضار تلك المسألة وهي في الكتاب لم يهتد إلى موضعها ؛ فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون:
لقد هزلت حتَّى بدا من هزالها *** كلاها وحتَّى سامها كل مفلس)
[ما بين القوسين من رسالة في الاجتهاد والتقليد ـ للشيخ: حمد بن ناصر بن معمَّر/48ـ49](5/136)
حتَّى قال الأستاذ: مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ :(والحقيقة أنَّنا قبل خمسين عاماً كنَّا نعرف مرضاً واحداً يمكن علاجه ، هو الجهل والأميَّة ، ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضاً جديداً مستعصياً هو(التعالم). وإن شئت فقل: الحرفيَّة في التعلُّم ؛ والصعوبة كلَّ الصعوبة في مداواته . وهكذا فقد أتيح لجيلنا أن يرى خلال النصف الأخير من هذا القرن ظهور نموذجين من أفراد في مجتمعنا:حامل المرقعات ذي الثياب البالية ، وحامل اللافتات العلميَّة) [شروط النهضة/91 ]ولهذا فإنَّ أحد متعالمي زمننا وهو مهندس ميكانيكي أخرجَ كتاباً عنوانه:( إصلاح أكبر خطأ في تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة) حيث يدَّعي أنَّ مسند الإمام أحمد ليس للإمام أحمد وإنَّما لابنه عبد الله ، بدعوى أنَّ المسند قبل كلِّ حديث أو أثر مرويٌّ بسنده ، يبدأ به بقوله حدَّثنا عبدالله ، قال حدَّثنا الإمام أحمد، فخرج هذا المسكين بالنتيجة العلميَّة التي لم يدركها جميع علماء الحديث على مرِّ الزمن ، واستخرجها هو بفطنته وعلمه وكياسته ، ولم يعلم هذا المتعالم أنَّ مسند الإمام أحمد قد رواه عنه كاملاً ابنه عبدالله ، ولهذا كُتب فيه :حدَّثنا عبدالله بن الإمام أحمد ، وصدق من قال: العلم فضَّاح لغير أهله.
كلُّ من يدَّعي بما ليس فيه *** فضحته شواهد الامتحان
بل وصل بعضنا إلى درجة (الانحطاط الفكري) في تلقِّي العلم الشرعي ممن لم يعرف عنه نبوغه به ، فقد حدَّثني أحد العلماء المعاصرين عن أحد الكتَّاب الغربيين الذين انتسبوا لدين الإسلام ، أنَّه استضيف في أحد الفنادق، وكان حضور الناس إليه بالمئات ، وكان ممَّن حضر ذلك المؤتمر النساء المسلمات ، وبدؤوا يسألونه عن كلِّ صغيرة وكبيرة وصاحبنا الغربي لايفتأ يجيب عن كلِّ ما يسأل عنه ، حتَّى إنَّ إحدى النساء الحاضرات سألته عن مسألة من مسائل الحيض المشكلة عليها ليجيب عنها بما يراه مناسباًُ ، والعجيب أنَّ المقدِّم له يسأله عن ذلك وهو يعلم أنَّ ذلك الرجل المنتسب لدين الإسلام حديث عهد بإسلامه ! فكيف بالله يلج هذا الرجل تلك المداخل وهو قريب عهد بالإسلام؟! ورحم الله ابن رشد إذ قال:(كان العلم في الصدور واليوم صار في الثياب)[خلاصة الأثر للمجبي1/275ـ بواسطة التعالم للشيخ الدكتور بكر أبو زيد /صـ35].
ولن أستطرد بذكر شيء من هذا القبيل ، فلا أحبُّ أن أنكأ الجراح ، ولا أذرَّ الملح على الجراح!ولله درُّ الإمام ابن تيميَّة حين نَقَلَ عن بعضهم:(وقد قال بعض الناس : أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم ، ونصف متفقه ، ونصف متطبب ، ونصف نحوي ، هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان ، وهذا يفسد الأبدان ، وهذا يفسد اللسان) [مجموع الفتاوى5/118].
5ـ أن يتلقَّى العلم ممَّن يقدِّر العلماء ويحترمهم.
المسلم الذي يهوى الحق ويطلبه ، فإنَّه لابدَّ أن تكون لديه علامة لحبِّ أهل العلم وإنزالهم منزلتهم ، واحترام علمهم ، وقد أخبرنا رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ كما في حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه أنَّه قال ـ:(ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقَّه) [أخرجه أحمد بسند جيد].
بيد أنَّ المطَّلع على حال الكثير من الصحفيين ـ وهم الذين يأخذون العلم من الكتب دون المشايخ ـ كما قال الزمخشري في التعاريف(1/449) أو من يتسمَّون بالصحافيين وهم جمَّاعو الأخبار ، فسيجد المراقب لكتاباتهم شيئاً عجيباً من قلَّة احترام العلماء ، والاستهانة بعلمهم ، بله الاجتهاد في تحقيق كثير من القضايا في مجلاَّت لم تُعرف بروح العلم ، بل عرفت بالعلمنة والفسق ، ثمَّ يأتي أحدهم ويناقش قضيَّة حكم استماع الموسيقى والأغاني في نصف صفحة ، ويعرض قول من شذَّ رأيهم في إجازة الاستماع لتلك المعازف ، ويعرض بل يشنِّع ويشغِّب على العلماء الذين أفتوا بحرمتها ، وخاصَّة في هذا العصر ؛ لأنَّ تلك الفتوى لا تتواءم مع القرن الحادي والعشرين!
بينما تجد عند السابقين من طلاَّب العلم قمَّة احترامهم لعلمائهم ، فهذا لا يطرق الباب على شيخه إلاَّ بأطراف أصابعه ، وهذا يهاب من النظر إليه إجلالاً له واحتراماً ، وآخر يخشى أن يزعج شيخه بتصفُّح الأوراق أمامه والانشغال عن درسه بها ، وهذا ينتظر شيخه من المساء إلى الصباح وقد سفَّته الرياح حتَّى يفتح الشيخ له بابه ، وآخر لا يأتي عند شيخه إلاَّ ويقبِّلُ يده ويدعو له بالخير ، وآخر لا يصلي صلاة إلاَّ ويدعو لشيخه بالخير والجنَّة ، ورحم الله ربيعة بن أبي عبدالرحمن إذ قال:(الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور أمَّهاتهم) [شرح ابن أبي العز للطحاوية1/105].
أمَّا الآن فتجد أنّ القوم المتعالمين إذا تعلم أحدهم مسألة أو عشر مسائل ، بدأ يكتب في الصحف والمجلاَّت والجرائد، وينشر علمه الغزير! فيخطِّئ الأئمة المجتهدين ، ويستدرك عليهم ما يظنُّه من زلاَّتهم ، بدعوى الحجَّة الزائفة:(هم رجال ونحن رجال) ولا شكَّ أنَّ الاحتجاج بهذه المقولة حجَّة ساقطة لوجوه:(5/137)
الوجه الأوَّل: أنَّ الاحتجاج بهذه الكلمة غير صحيح ؛ لأنَّ الذي قالها الإمام أبو حنيفة ، كما نقل مقولته عنه ابن حزم ـ رحمه الله ـ :( ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين ، وما جاء عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسمعاً وطاعة ، وما جاء عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تخيَّرنا من أقوالهم ، ولم نخرج عنهم ، وما جاء من التابعين فهم رجال ونحن رجال)[الإحكام لابن حزم4/573]فأبو حنيفة حين قال هذه الكلمة ، فقد قالها لأنَّه يصنَّف من التابعين ، حيث رأى أنس بن مالك ، واجتمع مع جمهرة من التابعين الأكابر، فيصدق عليه أنّه رجل وهم رجال لأنَّه هو وهم من التابعين ، ومن لنا بعلم أبي حنيفة في هذا العصر ، لنقول فيه: هو رجل وهم رجال!
الوجه الثاني: أنَّ هناك فرقاً عظيماً بين هؤلاء الرجال العصريين ، ومن قبلهم من الرجال السابقين ، لأنَّ التابعين هم من القرون المفضَّلة ، التي امتدحها رسول الله ؛ وهو ما أدَّى بابن رجب إلى أن يؤلِّف كتاباً بعنوان:(فضل علم السلف على علم الخلف) ولذا فإنَّ كلام السلف قليل كثير البركة ، وكلام الخلف كثير قليل البركة.
الوجه الثالث: أنَّ من يدَّعي أنَّه رجل ينبغي عليه أن يعرف قدره وقدر الرجال الذين سبقوه ، وإذا كان أبو عمرو بن العلاء يقول:(ما نحن فيمن مضى إلاَّ كبقل في أصول نخل طوال)[سير أعلام النبلاء6/407] مع أنَّ أبي عمرو يعدُّ في عُرف أهل السير شيخَ القرَّاء والعربية.
فهؤلاء المدَّعون للعلم والشيخوخة في طلبه ، لم يعرفوا قدر علمائهم ، وإذا كانوا يعدُّون أنفسهم أنَّهم رجال ، فإنَّ الرجال يحترم بعضهم بعضاً ، وأوْلى بهؤلاء المدَّعين للرجولة أن يقال في حقِّهم ما قاله الشيخ عبدالرزاق عفيفي لأحدهم حين ادَّعى أمامه تلك الدَّعوى قائلاً له : نعم ... هم رجال ... وأنت دجَّال!!
ورحم الله مجاهداً حين قال:(ذهب العلماء فلم يبق إلاَّ المتكلِّمون ، والمجتهد فيكم كاللاعب فيمن كان قبلكم)[أخرجه أبو خيثمة في كتاب العلم/66]فالله المستعان.
وفي الختام:
فإنَّ مريد الحق ، ومبتغي سبل الهدى ، ينبغي أن يحتاط في الأخذ لدينه ، وأن يعرف من يؤخذ عنهم العلم ، وما صفاتهم ، وقد كان علماؤنا الأجلاَّء يُعْنَوْنَ بهذه القضيَّة أشدَّ الاعتناء ؛ فقد قال الإمام محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ:(إنَّ هذا العلم دين ؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينكم) [شرح مسلم للنووي1/84].فليس كلُّ من لبس لباس العلم يؤخذ عنه ، وليس كلُّ من صدَّره الإعلام والفضائيَّات والصحف يُظَنُّ أنَّه ذلك الرجل الخِرِّيت الذي فقه دين الله ، ورضي بمقتضاه ، وألمَّ بفحواه ، وليس كلُّ من كتب مقالاً أو بحث مسألة شرعيَّة أو كتب كتاباً يعدُّ عالماً أو طالباً للعلم ، أو مؤهَّلاً لأن يؤخذ عنه العلم ، ويكفي أنَّ أئمتنا قالوا: ليس العلم بكثرة الرواية والدراية ، ولكنَّه نور يقذفه الله في قلب المؤمن الموفَّق ، مصداقاً لقوله تعالى:(واتَّقوا الله ويعلِّمكم الله) [سورة البقرة/282] قال الإمام ابن القيِّم:
والعلم يدخل قلب كلِّ موفَّق *** من غير بوَّاب ولا استئذان
ويردُّه المحروم من خذلانه *** لا تشقنا اللهم بالخذلان
فاعرف يا ابن الإسلام دينك ، واختر لنفسك عالماً متفقِّهاً في دين الله تنهل منه العلم ، وتأخذ عنه الفتوى ، وإيَّاك ومشايخ السوء ؛ فعنهم ابتعد ، ولهم خالف ، وعلى آرائهم فاضرب ، متأسِّياً بقول العربي الأصيل : ( ليس ذا عشَّك فادرجي ).
كتبت هذا المقال مذكِّراً بأهمِّيَّة هذه القضيَّة ، ومنبِّهاً لها في زمن قلَّ فيه من يعطي لأهل العلم الربَّانيين قدرهم ، ويعرف علمهم ، وما أنا ـ والله ـ إلاَّ رجل مستفيد من بضاعتهم ، متطفِّل على موائدهم ، فرحمني الله برحمته، وجعلني ممَّن يهتدي بهدي نبيِّه وصحابته.
أسير خلف ركاب النُّجب ذا عرج *** مؤمِّلاً كشف ما لاقيت من عوج
فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا *** فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعاً *** فما على عَرَجٍ من ذاك في حرج
سائلاً المولى أن يعصمنا من الفتن ، وأن يحفظنا من زلل القول والعمل ، والحمد لله ربِّ العالمين.
-==============
52 نقلا عن العلماء
في حكم مظاهرة الكفار ومعاونتهم على المسلمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
فهذه نقولات عن أهل العلم تبين حكم مظاهرة الكفار على المسلمين ومعاونتهم بالسلاح أو المال أو الرأي .
وقد جاء النص الصريح من كتاب الله عز وجل على أن من اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين أنه : منافق .. لا يؤمن بالله ولا بالنبي وما أنزل إليه .. وأنه من جملة الكفار الذي والاهم ونصرهم.
1- قال تعالى: " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما . الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا".[النساء:138،139].(5/138)
2- وقال تعالى : " ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون" [المائدة:80 ، 81].
3- وقال تعالى " ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم …" إلى قوله " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي اله يقوم يحبهم ويحبونه …" الآيات ، [المائدة 51-57].
4- وقال تعالى: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ".[آل عمرن:28] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى ، المؤكدة له ، تأكيدا يمنع تأويل الجاهلين ، وتحريف المبطلين.
فاتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين ، أي مناصرتهم ومظاهرتهم ومعاونتهم على أهل الإسلام كفر صريح ، وردة سافرة ، وعلى هذا انعقد إجماع أهل العلم.
وقد جمعت هنا شيئا من كلامهم ، رغبة في تذكير الغافل ، وتعليم الجاهل ، وإرغام المعاند " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ".
أولا: قال ابن جرير الطبري رحمه الله : في تفسير قوله " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " :
(والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله والمؤمنين فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين وأن الله ورسوله منه بريئان).
وقال: (القول في تأويل قوله تعالى "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" يعني تعالى ذكره بقوله "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم ، يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم؛ فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه).
ثانيا : وقال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ".
(وهذا نهي من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفار أعوانا وأنصارا وظهورا ولذلك كسر "يتخذ" لأنه في موضع جزم بالنهي، ولكنه كسر الذال منه للساكن الذي لقيه وهي ساكنة.
ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين ، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني بذلك: فقد برىء من الله وبرىء الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. "إلا أن تتقوا منهم تقاة " : إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل).
ثالثا : وقال ابن حزم رحمه الله في المحلى (11/ 138) : (صح أن قوله تعالى "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم" إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار ، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين ) .
رابعا: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (7/17،18)
(ومثله قوله تعالى "تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع [انتفاء] الشرط انتفاء المشروط ، فقال "وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ" فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب ، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه.
ومثله قوله تعالى (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمنا ، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم ، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً) .
خامسا: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ، في "اقتضاء الصراط المستقيم 1/241 ت: د. ناصر العقل" ، في التعليق على حديث " من تشبه بقوم فهو منهم " :
(وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم ، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم ، كما في قوله " ومن يتولهم منكم فإنه منهم").(5/139)
سادسا : وقال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقم " أيضا:
(فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم).
سابعا: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 18/300 ، بعد ذكر قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " إلى قوله " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه …" : (فالمخاطبون بالنهى عن موالاة اليهود والنصارى هم المخاطبون بآية الردة ، ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة، وهو لما نهى عن موالاة الكفار وبين أن من تولاهم من المخاطبين فإنه منهم، بين أن من تولاهم وارتد عن دين الإسلام لا يضر الإسلام شيئا، بل سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه فيتولون المؤمنين دون الكفار ويجاهدون فى سبيل الله لا يخافون لومة لائم ، كما قال في أول الأمر "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها كافرين" ، فهؤلاء الذين لم يدخلوا في الإسلام وأولئك الذين خرجوا منه بعد الدخول فيه لا يضرون الإسلام شيئا بل يقيم الله من يؤمن بما جاء به رسوله وينصر دينه إلى قيام الساعة).
ثامنا: وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 28/192-193 ( فصل في الولاية والعداوة … فذم من يتولى الكفار من أهل الكتاب قبلنا ، وبين أن ذلك ينافي الإيمان " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "… وقال "إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الأمر والله يعلم إسرارهم". وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم. ولهذا ذكر في سورة المائدة أئمة المرتدين عقب النهى عن موالاة الكفار قوله "ومن يتولهم منكم فإنه منهم").
تاسعا : وقال شيخ الإسلام في اختياراته:
(من جمز إلى معسكر التتر، ولحق بهم ارتد ، وحل ماله ودمه ) نقله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ، الدرر السنية 8/338 ، مجموعة الرسائل النجدية 3/35 ، وعلق الشيخ رشيد رضا في الحاشية بقوله : (وكذا كل من لحق بالكفار المحاربين للمسلمين وأعانهم عليهم ، وهو صريح قوله تعالى " ومن يتولهم منكم فإنه منهم").
عاشرا : وقال ابن القيم رحمه الله في أحكام أهل الذمة : 1/195 [ط. رمادي للنشر] :
(أنه سبحانه قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى فهو منهم "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم، وهذا عام خص منه من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام فإنه لا يقر ولا تقبل منه الجزية بل إما الإسلام أو السيف فإنه مرتد بالنص والإجماع).
الحادي عشر: وقال ابن القيم رحمه الله في " أحكام اهل الذمة " أيضا : 1/479
(ثم انتبه الآمر[ الآمر بالله ، الخليفة العباسي المتوفى سنة 467 ] من رقدته وأفاق من سكرته وأدركته الحمية الإسلامية والغيرة المحمدية فغضب لله غضب ناصر للدين وبار بالمسلمين وألبس الذمة الغيار، وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله تعالى أن ينزلوا بها من الذل والصغار، وأمر ألا يولوا شيئا من أعمال الإسلام وأن ينشئوا في ذلك كتابا يقف عليه الخاص والعام فكتب عنه ما نسخته (… وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين وأخبر أنه من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين فقال تعالى وهو أصدق القائلين "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلى فساد العقل والدين فقال "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين" ثم أخبر عن حبوط أعمال متوليهم ليكون المؤمن لذلك من الحذرين فقال تعالى "ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين" ، ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائه أولياء وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم وأنهم لا يمتنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه فقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق" إلى قوله "إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون" ، وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين إذ تبرءوا ممن ليس على دينهم امتثالا لأمر الله وإيثارا لمرضاته وما عنده فقال تعالى "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده".(5/140)
وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين وحذره نفسه أشد التحذير فقال "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير" …).
الثاني عشر: وقال العلامة البرزلي رحمه الله ، في نوازله ( أحفظ أن المعتمد بن عباد استغاث بهم [أي النصارى] في حرب المرابطين ، فنصرهم الله عليه وهرب هو ، ثم نزل على حكم يوسف بن تاشفين أمير صنهاجة ، فاستفتى فيه الفقهاء فأكثرهم أفتى أنها ردة ، وقاضيه مع بعضهم لم يروها ردة ، ولم يبح دمه بالردة ، فأمضى ذلك من فتواه ولم يبح دمه وأخذ بالأيسر ونقله إلى أغمات وأسكنه بها إلى أن مات بها) نقلا عن " النوازل الصغرى " للعلامة محمد المهدي الوزاني (1/415،428) ، وهو بنصه في النوازل الكبرى، له ، المسماة ب" المعيار الجديد الجامع المعرب عن فتاوى المتأخرين من علماء المغرب " (3/23).
الثالث عشر: فتوى أبي العباس بن زكري رحمه الله : جاء في النوازل الصغرى (1/419) ( وقد سئل أبو العباس بن زكري عن قبائل المغرب الأقصى امتزجت أمورهم مع النصارى وصارت بينهم محبة ، حتى إن المسلمين إذا أرادوا الغزو أخبر هؤلاء القبائل النصارى ، فلا يجدهم المسلمون إلا متحذرين ، وربما قاتلوا مع النصارى.
فأجاب : ما وصف به القوم المذكورون يوجب قتلهم كالكفار الذين تولهم ، ومن يتول الكفار فهو منهم ).
الرابع عشر : فتوى الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله الأنصارى رحمه الله :
جاء في النوازل الصغرى (1/419) : ( وسئل الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله الأنصاري عن أناس سكنوا بأوطانهم ، والنصارى يجاورونهم ، وهم على ثلاثة أقسام : … وقسم نيتهم أن يسكنوا ببلدهم ويغرموا للنصارى .
فأجاب : الجواب عن المسألة الهائلة التي هدت بها أركان الإسلام ، وطمست بها عيون الليالي والأيام … وأما الثلث الثالث فبئس الثلث ، لأنه خسر دينه ودنياه ، وخالف ما أمره به مولاه ، فهؤلاء يستحقون العقوبة العظيمة ، إلى أن قال : وأما الذين يتجسسون على المسلمين فالمشهور أن دم الجاسوس مباح ، وأنه يقتل ، ويكون قاتله مأجورا ، وأما إن شهر السلاح مع النصارى ويأتي في عسكرهم ، فهذا القسم قد مرق من الدين ، فحكمه حكم النصارى في دمه وماله).
الخامس عشر : فتوى العلامة محمد بن مصطفى الطرابلسي رحمه الله :
جاء في النوازل الكبرى (3/78-81) :
(وسئل أيضا عن بلدة استولى عليها الكفار وتمكنوا منها فانضم إليهم بعض القبائل والعشائر ، وصاروا يقاتلون معهم المسلمين وينهبون مالهم ، وينصحون الكفار ويعينونهم على أذى المسلمين ، فكانوا أشد ضررا على المسلمين من الكفار ، فما الحكم فيهم وهذا حالهم؟
فأجاب : إني لم أقف على حكم هؤلاء في كتب مذهبنا معشر الحنفية ولكن وقفت على حكمهم في كتب بعض السادات المالكية، قال في فتح الثغر الوهراني:
لما دعا الناس سلطان الجزائر إلى جهاد الكفار الذين استولوا على ثغر وهران ، جاءوا إليه من كل فج عميق ، وكان هذا غير حال القبائل العامرية ، وأما بنو عامر فإنهم كانوا في ذلك على فرق، منهم من نجا بحصون العدو مدافعا عن نفسه ومعينا للعدو بسيفه وفلسه ، فكانوا يقاتلون المسلمين مع عدوهم ويدفعون عنه ، ويغزون على الحجلة المنصورة بالله تعالى، حتى إنهم كانوا على المسلمين أشد ضررا من الكافرين ، وهكذا كان بعض القبائل ؛ والظاهر أن حكم هؤلاء حكم أهل دار الحرب في قتلهم وأخذ مالهم …) إلى أن قال : ( ومنه تعلم أن من يدخل تحت جوارهم وأمانهم من غير إعانة لهم بنفسه ولا بماله ، ولا يكون لهم عينا ولا ردءا دونهم ، لا يباح قتله ، وإنما هو عاص بمعصية لا تبيح ما عصمه الإسلام من دمه وماله)
إلى أن قال ( ومنهم من لجأ للمسلمين وصار يقاتل العدو معهم وهو مع ذلك يعين العدو خفية ، ويعلمه بأحوال عساكر المسلمين ، ويطلعه على عوارتهم ، ويتربص بهم الدوائر ، وقد اطلع لهم على كتب كتبها في ذلك الوقت كثير من مشايخهم المعروفين عندهم بالأجداد ، يذكرون العدو وعهده ، ويعلمونه ببقائهم عليه ، وانتظارهم الفرج ، مع تضعيفهم لجيوش المسلمين وتوهينهم إياهم؛ وحكم أولئك حكم الزنادقة ، إن اطلع عليهم قتلوا وإلا فأمرهم إلى الله تعالى).
قال الطرابلسي تعليقا : (فليحفظ فإنه مهم ، وقواعد مذهبنا لا تأباه ، والله تعالى أعلم.).
السادس عشر : فتوى العلامة الونشريسي صاحب المعيار رحمه الله
جاء في النوازل الكبرى (1/94-99) قول صاحب المعيار ( وأما مقتحموا نقيضه [أي الجهاد] بمعاونة أوليائهم على المسلمين ؛ إما بالنفوس وإما بالأموال فيصيرون حينئذ حربيين مع المشركين ، وحسبك من هذا مناقضة وضلالا).
السابع عشر : فتوى العلامة التسولي رحمه الله :
وقد استفتاه الأمير عبد القادر الجزائري حول من يداخل الفرنسيين ويبايعهم [من البيع] ويجلب إليهم الخيل ، ويدلهم على عورات المسلمين ، ما حكم الله في أنفسهم وأموالهم ؟
قال الأستاذ الحسن اليوبي في كتابه " الفتاوى الفقهية في أهم القضايا من عهد السعديين إلى ما قبل الحماية " ص 232(5/141)
(وقد نص الفقيه التسولي في جوابه على أن أولئك العملاء إذا أظهروا الميل للعدو الكافر وتعصبوا به ، فيقاتلون قتال الكفار ومالهم فيء.
وبعد أن ساق ما أفتى به بعض الفقهاء من وجوب محاربة القبائل التي تقوم بقطع الطرقات ونهب أموال المسلمين وغير ذلك من الأعمال المنضوية تحت الحرابة عقب على ذلك بقوله : " وإذا كان يقاتل من أراد إفساد الكروم وغابة الزيتون فكيف بمن يريد إفساد الدين بالكتم على الجواسيس ، ونقل الأخبار ، ومبايعة الكفار ، فهم أسوأ حالا من المحاربين ، لأنهم تولوا الكفار ، ومن تولى الكفار فهو منهم".)
قال الأستاذ الحسن اليوبي معلقا ( وهو حكم صائب ، فإذا كان الفقهاء قد رأوا قتل الجاسوس وهو الذين يعين الأعداء بنقل أخبار المسلمين إليهم ، وإذا كان الإمام الونشريسي قد أفتى بأن مجرد الدعاء للكفرة بالبقاء وطول المدى " علم على ردة الداعي وإلحاده وفساد سريرته واعتقاده ، لما تضمنه من الرضى بالكفر ، والرضى بالكفر كفر" فكيف بمن يحمل السلاح إلى جانبهم ، ويدافع عنهم ، ويقتل إخوانه المسلمين ، ويفعل بهم ما يفعله الأعداء من أسر ونهب ، وفوق ذلك يمكن الكفار من التسلط على أراضي المسلمين ورقابهم).
الثامن عشر : وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
( اعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة … الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، والدليل قوله تعالى " ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين".) . الدرر السنية 10/92 ، الطبعة الخامسة ، مجموعة التوحيد ص 23 ، الطبعة الرابعة.
التاسع عشر : وقال الشيخ أيضا ، في شرح ستة مواضع من السيرة :
(فإذا عرفت هذه عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض ، كما قال تعالى " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله"). مجموعة التوحيد ص 19
العشرون : وقال الشيخ أيضا :
( إن الأدلة على كفر المسلم إذا أشرك بالله أو صار مع المشركين على المسلمين ـ ولو لم يشرك ـ أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم المعتمدين ). الرسائل الشخصية ص 272
الحادي والعشرون : وقال الشيخ أيضا : متحدثا عن أعدائه الذين يقاتلهم ويكفرهم:
( النوع الرابع : من سلم من هذا كله ، [أي فعل الشرك ، وتفضيل المشركين على الموحدين ، وكراهية أهل التوحيد ] لكن أهل بلده يصرحون بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك ويسعون في قتالهم ، وعذره أن ترك وطنه يشق عليه ، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ، ويجاهد بماله ونفسه ، فهذا أيضا كفر ، لأنهم لو أمروه بترك صيام رمضان ولا يمكنه ذلك إلا بفراق وطنه فعل ، ولو أمروه أن يتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه مخالفتهم إلا بفعل ذلك فعل )0 مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/301
الثاني والعشرون : وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
(الدليل الثامن عشر : قوله تعالى " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنك والله يشهد إنهم لكاذبون " … فإذا كان من وعد المشركين في السر بالدخول معهم ، ونصرهم والخروج معهم إن جلوا ، نفاقا وكفرا وإن كان كذبا ، فكيف بمن أظهر ذلك صادقا ؟ وقدم عليهم ودخل في طاعتهم ، ودعا إليها ونصرهم ، وانقاد لهم وصار من جملتهم ، وأعانهم بالمال والرأي ؟ هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفا من الدوائر ، كما قال تعالى : " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " [المائدة : 52] وهكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة ، فإن عذر كثير منهم هذا ، هو العذر الذي ذكره الله عن الذين في قلوبهم مرض ، ولم يعذرهم الله به …). الدرر السنية 8/137 ، مجموعة التوحيد ص 209
الثالث والعشرون : وقال الشيخ سليمان أيضا :
(الدليل الثامن : قوله تعالى : " ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [المائدة:51] فنهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، وأخبر أن من تولاهم من المؤمنين فهو منهم ، وهكذا حكم من تولى الكفار من المجوس وعباد الأوثان فهو منهم …
الدليل التاسع : قوله تعالى " ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون" [المائدة:80] فذكر تعالى أن موالاة الكفار موجبة لسخط الله والخلود في النار بمجردها وإن كان الإنسان خائفا إلا المكره بشرطه ، فكيف إذا اجتمع ذلك مع الكفر الصريح وهو معاداة التوحيد وأهله ، والمعاونة على زوال دعوة الله بالإخلاص ، وعلى تثبيت دعوة غيره ؟!.(5/142)
الدليل العاشر : قوله تعالى " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون " [المائدة :81] فذكر تعالى أن موالاة الكفار منافية للإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه ، ثم أخبر أن سبب ذلك كون كثير منهم فاسقين ، ولم يفرق بين من خاف الدائرة ومن لم يخف، وهكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين قبل ردتهم ، كثير منهم فاسقون ، فجر ذلك إلى موالاة الكفار والردة عن الإسلام نعوذ بالله من ذلك.). الدرر السنية 8/127-129 ، مجموعة التوحيد 203 ، 204
الرابع والعشرون : وقال الشيخ سليمان أيضا :
( إن كانت الموالاة مع مساكنتهم في ديارهم، والخروج معهم في قتالهم ونحو ذلك ، فإنه يحكم على صاحبها بالكفر ، كما قال تعالى " ومن يتولهم منكم فإنه منهم "…). الدرر السنية 8/159 ، مجموعة التوحيد ص 97
الخامس والعشرون : وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله :
(وله نواقض ومبطلات تنافي ذلك التوحيد : فمن أعظمها أمور ثلاثة : …
الأمر الثالث : موالاة المشرك والركون إليه ونصرته وإعانته باليد أو اللسان أو المال ، كما قال تعالى " فلا تكونن ظهيرا للكافرين "[ القصص:86] … وقال تعالى" ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هو خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون" [المائدة :80،81] فتأمل ما في هذه الآيات وما رتب الله سبحانه على هذا العمل من سخطه والخلود في عذابه وسلب الإيمان وغير ذلك. وقال شيخ الإسلام في معنى قوله تعالى "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء" فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان). الدرر السنية 11/300-304 ، مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/291
السادس والعشرون : وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن أيضا :
( وأما إيواؤهم ونقض العهد لهم ، ومظاهرتهم ومعاونتهم ، والاستبشار بنصرهم ، وموالاة وليهم ، ومعاداة عدوهم من أهل الإسلام : فكل هذه الأمور زائدة على الإقامة بين أظهرهم ، وكل عمل من هذه الأعمال قد توعد الله عليه بالعذاب والخلود فيه وسلب الإيمان ، وحلول السخط به وغير ذلك ما هو مضمون الآيات المحكمات التي قد تقدمت) الدرر السنية 11/343
السابع والعشرون : وقال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله في " الدفاع عن أهل السنة والاتِّباع " (ص32) : (وقد تقدم أنَّ مظاهرة المشركين ودلالتهم على عورات المسلمين أو الذب عنهم بلسان ٍ أو رضى بما هم عليه ، كل هذه مُكفِّرات ممن صدرت منه من غير الإكراه المذكور فهو مرتد ، وإن كان مع ذلك يُبْغض الكفار ويحب المسلمين) .
الثامن والعشرون : وقال الشيخ أيضا :
(فنهى سبحانه وتعالى المؤمنين أن يوالوا اليهود والنصارى ، وذكر أن من تولاهم فهو منهم ، أي : من تولى اليهود فهو يهودي ، ومن تولى النصارى فهو نصراني، وقد روى ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال : قال عبد الله بن عتبة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر. قال : فظنناه يريد هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " إلى قوله " فإنه منهم " … الآية ، وكذلك من تولى الترك فهو تركي، ومن تولى الأعاجم فهو عجمي ، فلا فرق بين من تولى أهل الكتابين أو غيرهم من الكفار). سبيل النجاة والفكاك ص 35(ت: الوليد الفريان" ، ومجموعة التوحيد ص 220
التاسع والعشرون : وقال الشيخ حمد بن عتيق أيضا :
(الأمر الثالث : مما يصير المسلم به مرتدا : موالاة المشركين ، والدليل قوله تعالى " ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" وقوله تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء" فذكر في الآية الأولى أن من تولى اليهود والنصارى فهو منهم، وظاهرها أن من تولاهم فهو كافر مثلهم ، ذكر معناه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى) سبيل النجاة والفكاك ص 77 ، مجموعة التوحيد ص 242
الثلاثون : وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله
( وتعزيرهم وتوقيرهم كذلك ، تحته أنواع أيضا ، أعظمها : رفع شأنهم ، ونصرتهم على أهل الإسلام ، وتصويب ما هم عليه . فهذا وجنسه من المكفرات ، ودونه مراتب من التوقير بالأمور الجزئية ، كلياقة الدواة ونحوه).
الحادي والثلاثون : وقال الشيخ عبد اللطيف أيضا :(5/143)
(وقال تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة " [آل عمران :28] وقد جزم ابن جرير في تفسيره بكفر من فعل ذلك . قال تعالى " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان" [المجادلة:22] فليتأمل من نصح نفسه هذه الآيات الكريمات وليبحث عما قاله المفسرون وأهل العلم في تأويلها وينظر ما وقع من أكثر الناس اليوم ، فإنه يتبين له – إن وفق وسدد – أنها تتناول من ترك جهادهم ، وسكت عن عيبهم ، وألقى إليهم السلم . فكيف بمن أعانهم أو جرهم على بلاد أهل الإسلام أو أثنى عليهم ، أو فضلهم بالعدل على أهل الإسلام واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم ، وأحب ظهورهم ، فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق). الدرر السنية 8/325-326 ، ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/53
الثاني والثلاثون : وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن حسن رحمه الله
وقد سئل عن الفرق بين الموالاة والتولي ، فأجاب :
( التولي كفر يخرج من الملة وهو كالذب عنهم وإعانتهم بالمال والبدن والرأي ، والموالاة كبيرة من كبائر الذنوب ، كبل الدواة أو بري القلم أو التبشش لهم ، أو رفع الصوت لهم).
الثالث والثلاثون : وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف أيضا :
(من لم يعرف كفر الدولة ، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين لم يعرف معنى لا إله إلا الله ، فإن اعتقد مع ذلك أن الدولة مسلمون ، فهو أشد وأعظم ، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله وأشرك به ؛ ومن جرهم وأعانهم على المسلمين بأي إعانة فهي ردة صريحة). الدرر السنية 10/429
الرابع والثلاثون : وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمه الله :
( وقال صلى الله عليه وسلم " من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله " فلا يقال إنه بمجرد المجامعة والمساكنة يكون كافرا ، بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين ، وأخرجوه معهم كرها ، فحكمه حكمهم في القتل ، وأخذ المال لا في الكفر . وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعا واختيارا ، أو أعانهم ببدنه وماله ، فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر). الدرر السنية 8/456
الخامس والثلاثون: وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله :
( وكون الولاة مرتدين عن الدين بتوليهم الكفار ، وهم مع ذلك لا يجرون أحكام الكفر في بلادهم ، ولا يمنعون من إظهار شعائر الإسلام ، فالبلد حينئذ بلد إسلام ، لعدم إجراء أحكام الكفر ، كما ذكر ذلك شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله عن الحنابلة وغيرهم من العلماء ) إلى أن قال ( وأما الولاة المذكورون ، فإنهم قد حصل منهم موالاة وتول للكفار وموافقة ، ومظاهرة على المسلمين ، فلا شك في ردتهم ، والمتأخرون منهم إما راضون بأفعالهم ، أو معينون لهم ، ولم يظهر منهم مخالفة لمن قبلهم ولا عيب على أفعالهم ، فحكمهم حكمهم ، إلا أن يكون قد تبين لكم منهم خلاف ما عليه أسلافهم ). الدرر السنية 8/491-494
السادس والثلاثون : وقال بعض علماء نجد :
( الأمر الثالث : مما يوجب الجهاد لمن أتصف به مظاهرة المشركين ، وإعانتهم
على المسلمين بيد أو لسان أو بقلب أو بمال ، فهذا كفر مخرج من الإسلام ، فمن أعان المشركين على المسلمين ، وأمد المشركين من ماله بما يستعينون به على حرب المسلمين اختيار منه فقد كفر). الدرر السنية 9/292
السابع والثلاثون : وقال أحمد شاكر رحمه الله في "كلمة الحق":
(أما التعاون مع الإنجليز بأي نوع من أنواع التعاون، قلّ أو كثر، فهو الردّة الجامحة، والكفر الصّراح، لا يقبل فيه اعتذار، ولا ينفع معه تأول، ولا ينجي من حكمه عصبية حمقاء، ولا سياسة خرقاء، ولا مجاملة هي النفاق، سواء أكان ذلك من أفراد أو حكومات أو زعماء. كلهم في الكفر والردة سواء، إلا من جهل وأخطأ، ثم استدرك أمره فتاب وأخذ سبيل المؤمنين، فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم، إن أخلصوا من قلوبهم لله لا للسياسة ولا للناس.
وأظنني قد استطعت الإبانة عن حكم قتال الإنجليز وعن حكم التعاون معهم بأي لون من ألوان التعاون أو المعاملة، حتى يستطيع أن يفقهه كل مسلم يقرأ العربية، من أي طبقات الناس كان، وفي أي بقعة من الأرض يكون).
وقال ( ولا يجوز لمسلم في أي بقعة من بقاع الأرض أن يتعاون معهم بأي نوع من أنواع التعاون، وإن التعاون معهم [ أي الفرنسيين] حكمه حكم التعاون مع الإنجليز: الردة والخروج من الإسلام جملة، أيا كان لون المتعاون معهم أو نوعه أو جنسه).
الثامن والثلاثون : وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
(وقد أجمع علماء الإسلام على أنَّ من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم ) مجموع الفتاوى والمقالات 1/274(5/144)
التاسع والثلاثون: وقال الشيخ عبد العزيز بن باز أيضا : (أما الكفار الحربيون فلا تجوز مساعدتهم بشيء ، بل مساعدتهم على المسلمين من نواقص الإسلام لقول الله عز وجل "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"). فتاوى إسلامية 0 جمع محمد بن عبد العزيز المسند ج4 السؤال الخامس من الفتوى رقم 6901 .
الأربعون : وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله :
(ومن مظاهر موالاة الكفار إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين ومدحهم والذب عنهم وهذا من نواقض الإسلام وأسباب الردة نعوذ بالله من ذلك). الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد ص 351 .
الحادي والأربعون : وقال الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله :
(وأما الوقوف مع دول الكفر على المسلمين ومعاونتهم عليهم فإنه يجعل فاعل ذلك منهم ، قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " والآيات في هذا كثيرة .)
الثاني والأربعون : وقال الشيخ حمود بن عقلا الشعيبي حفظه الله :
(أما مظاهرة الكفار على المسلمين ومعاونتهم عليهم فهي كفر ناقل عن ملة الإسلام عند كل من يعتد بقوله من علماء الأمة قديما وحديثا …)
وقال (وبناء على هذا فإن من ظاهر دول الكفر على المسلمين وأعانهم عليهم كأمريكا وزميلاتها في الكفر يكون كافرا مرتدا عن الإسلام بأي شكل كانت مظاهرتهم وإعانتهم).
الثالث والأربعون : وقال الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله :
(فإنه مما لا شك فيه أن إعلان أمريكا الحرب على حكومة طالبان في أفغانستان ظلم وعدوان وحرب صليبية على الإسلام كما ذُكر ذلك عن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، وأن تخلي الدول في العالم الإسلامي عن نصرتهم في هذا الموقف الحرج مصيبة عظيمة ، فكيف بمناصرة الكفار عليهم ، فإن ذلك من تولي الكافرين ؛ قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" وقد عدّ العلماء مظاهرة الكفار على المسلمين من نواقض الإسلام لهذه الآية).
الرابع والأربعون : وقال الشيخ عبد الله السعد حفظه الله :
(وقد حذر الله تعالى من موالاة الكافرين أشد تحذير ، بل حكم بالكفر والردة على من تولاهم فقال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"[ المائدة51 ] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا). وقال :
(وليعلم كل مسلم أن التعاون مع أعداء الله ضد أولياء الله بأي نوع من أنواع التعاون والدعم والمظاهرة يعد ناقضا من نواقض الإسلام ، دلّ على ذلك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ونص عليه أهل العلم رحمهم الله ، فليحذر العبد أن يسلب دينه وهو لا يشعر).
الخامس والأربعون : وقال الشيخ ناصر العمر حفظه الله :
(رابعاً : حرمة مظاهرة المشركين واليهود والنصارى ، وإعانتهم على المسلمين ، وأن من فعل ذلك عالماً بالحكم طائعاً مختاراً غير متأول فقد برأت منه ذمة الله ، حيث إن المظاهرة والمناصرة أعظم أنواع التولي والموالاة).
السادس والأربعون : وقال الشيخ سفر الحوالي حفظه الله ،في بيانه عن الأحداث :
(إن نصرة الكفار على المسلمين بأي نوع من أنواع المناصرة ولو كانت بالكلام المجرد هي كفر بواح ، ونفاق صراح ، وفاعلها مرتكب لناقض من نواقض الإسلام - كما نص عليه أئمة الدعوة وغيرهم - غير مؤمن بعقيدة الولاء والبراء).
السابع والأربعون : وقال الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله :
(الولاء للمؤمنين وعدم إعانة الكافرين عليهم ، إذ أن الحكم في مناصرة الكافرين على المسلمين ، وتولي اليهود والنصارى جليٌّ مُشرق لا لبس فيه ولا غموض ، تواردت عليه آيات الكتاب ، وأبدأَ القرآن فيه وأعاد " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين" وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة . . " ولذا عدّ العلماء تولي الكافرين ومظاهرتهم على المسلمين انسلاخاً من الدين ، قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في نواقض الإسلام : "الناقض الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله - تعالى - : " ومن يتولهم منكم فإنه منهم" وقال الإمام عبد العزيز بن باز – رحمه الله – "الكفار الحربيون لا تجوز مساعدتهم بشيء ، بل مساعدتهم على المسلمين من نواقض الإسلام لقوله - عز وجل - : " ومن يتولهم منكم فإنه منهم" أ.هـ ).
الثامن و الأربعون : وقال الشيخ بشر بن فهد البشرحفظه الله :
(ومما سبق يتبين أن التعاون مع أمريكا في العدوان على أفغانستان سواء كان بالرجال أو المال أو السلاح أو الرأي هو من قبيل مظاهرة الكفار على المسلمين ، وهو كفر وردة عن الإسلام ، وهذا الحكم يشمل الأفراد والجماعات وغيرهم ).(5/145)
التاسع والأربعون : وقال الشيخ علي الخضير حفظه الله :
(أما مسالة مظاهرة الكفار فأعظم من بحثها هم أئمة الدعوة النجدية رحمهم الله واعتبروا ذلك من الكفر والنفاق والردة والخروج عن الملة وهذا هو الحق ويدل عليه الكتاب والسنة والإجماع…).
الخمسون : وقال الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف في " نواقض الإيمان القولية والعملية " ص 381،382
(وأما مظاهرة الكفار على المسلمين ، فالمقصود بها أن يكون أولئك أنصارا وظهورا وأعوانا للكفار ضد المسلمين ، فينضمون إليهم ، ويذبون عنهم بالمال والسنان والبيان ، فهذا كفر يناقض الإيمان . وهذا ما يسميه بعض العلماء ب"التولي" ويجعلونه أخص من عموم الموالاة ، كما هو عند بعض أئمة الدعوة السلفية في نجد ، مع أن جمهورا من المفسرين يفسرون التولي بالموالاة ) إلى أن قال : ( وعلى كل فلا مشاحة في الاصطلاح ، فالمهم أن مظاهرة الكفار ونصرتهم والذب عنهم يناقض الإيمان سواء سمي ذلك توليا أم موالاة . إن مظاهر الكفار ضد المسلمين خيانة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين).
الحادي والخمسون : وقال الشيخ سليمان العلوان حفظه الله :
(وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على أن مظاهرة الكفار على المسلمين ومعاونتهم بالنفس والمال والذب عنهم بالسنان والبيان كفر وردة عن الإسلام قال تعالى { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . وأي تولٍ أعظم من مناصرة أعداء الله ومعاونتهم وتهيئة الوسائل والإمكانيات لضرب الديار الإسلامية وقتل القادة المخلصين).
الثاني والخمسون : وقال الشيخ سليمان العلوان أيضا :
(والحذر الحذر من مناصرة الكفار على المسلمين بأي نوع أو وسيلة من وسائل النصرة فهذا من التولي وهو كفر ونفاق ومرض في القلوب وفسق .
وليس من شروط الكفر أن تكون مظاهرته للكفار محبة لدينهم ورضى به ، فهذا مذهب ضعيف لأن محبة دين الكفار والرضى به كفر أكبر دون مظاهرتهم على المسلمين . فهذا مناط آخر في الكفر ولو ادعى المظاهر محبة الدين وبغض الكافرين فإن كثيراً من الكفار لم يتركوا الحق بغضاً له ولا كراهية للدين إنما لهم طمع دنيوي ورغبة في الرياسات فآثروا ذلك على الدين قال تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .)
وقال الشيخ أيضا : (قال تعالى { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ، وذلك لأنهم دخلوا في طاعتهم ونصروهم وأعانوهم بالمال والرأي .
ومن ذلك مشاركة الجنود المسلمين الموظفين في الحكومة الأمريكية في قتال الأفغان المجاهدين في سبيل الله فهذا من أكبر الذنوب وأعظمها منافاة لأصل الإيمان .
وتجويز هذا العمل بدليل الإكراه غير صحيح ، فإن للإكراه ضوابط وشروطاً وهي غير متوفرة في هذه الصورة .
فإن هؤلاء العسكريين يسعون لمصالحهم وتثبيت مناصبهم وكسب الأموال في سبيل قتل الأبرياء من المسلمين وهدم ديارهم وهذا لا يجيزه عاقل .
وقد يهددون بالقتل وهذا غير مسوَّغ للمشاركة لأنه لا يجوز شرعاً أن تبقي نفسك في سبيل هلاك الآخرين وقتل المظلومين فليست دمائهم بأرخص من دمائكم ولا دماؤكم بأغلى من دمائهم .
قال تعالى { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .
وقد أفتى بعض المنهزمين بجواز مشاركة المسلمين العسكريين العاملين في الحكومة الأمريكية في قتال الأفغان المسلمين وهذه مخالفة لسبيل المؤمنين ، واجتهادات لا تحمل شعار العلم والفقه .
وقد كتبت رسالة مطولة في نقض هذه الفتوى وبيان منافاتها للأدلة السمعية والعقلية ، فإن المظاهرة أي مظاهرة الكفار على المسلمين من المسائل المجمع على تحريمها وقد سمى الله ذلك كفراً وقد تقدم وسمى ذلك نفاقاً فقال تعالى { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً . الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً } .
وسمى ذلك مرضاً في القلوب فقال تعالى { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } .
وسمى ذلك فسقاً فقال تعالى { تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .(5/146)
والإجماعات المنقولة في هذا الباب كثيرة ، وقد حررت ذلك في غير موضع وبينت الفرق بين الموالاة والتولي ، وأن التولي كفر أكبر وأما الموالاة فمنها ما هو مرادف للتولي ، ومنها ما هو دون ذلك والله أعلم .).
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تعليق :
كتب الإخوة الأفاضل تعليقات عدة على هذا الموضوع ، وقد أضفت هذا التعليق :
(وأحب أن أعلق هنا على ما نقله الأخ محمد السالم عن الشيخ سليمان بن سحمان والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن .
فأقول : ليس هناك تعارض بين ما نقله وما نقلته عنهما .
فغاية ما نقله عنهما أن " التولي " كفر اكبر.
وأما الموالاة فمنها ما هو كفر أكبر، وهي الموالاة العامة المطلقة، ومنا ما هو دون ذلك.
وهذا ما درج عليه جماعة من أئمة الدعوة.
لكن السؤال : ما هو "التولي" ؟!
الجواب : نقول : لقد أوضح أئمة الدعوة أنفسهم انه : مظاهرة الكفار على المسلمين ومعاونتهم بالسلاح والبدن والمال والرأي.
ونقول أيضا : إن هذه الصورة الخاصة ( مظاهرة الكفار على المسلمين ) - سواء سميت " توليا " أو موالاة ... قد بين أئمة الدعوة أنها كفر أكبر ، وعلى رأسهم الإمام محمد بن عبد الوهاب، كما سبق. وحكى فيها الشيخ ابن باز رحمه الله الإجماع.
وقد نقل الاخ محمد السالم كلام الإمامين من كتاب " الموالاة والمعاداة " للشيخ محماس بن عبد الله الجلعود ، مع أن الشيخ قال في بداية هذا المبحث :
( التولي : هو الدفاع عن الكفار، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي وهذا كفر صريح يخرج من الملة الإسلامية ) الموالاة والمعاداة 1/31
ولم يحك الشيخ خلافا !
وقد فاتني بالأمس أن أضيف قول الشيخ محماس هنا.
[ نشر هذا المقال بتاريخ 28/10/2001 ، بشبكة أنا المسلم ، والفجر ، والفوائد].
كتبه ... الموحد
===============
التكفير بناء على قاعدة (الأصل في الناس الكفر) لأن الدار دار كفر
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
ومن الأخطاء الشنيعة في التكفير؛ التكفير بناء على قاعدة (الأصل في الناس الكفر) لان الدار دار كفر ومعاملتهم واستحلال دماءهم وأموالهم وأعراضهم بناء على هذه القاعدة ، التي أصلوها تفريعاً على أن الدار دار كفر ، وهذا أمر منتشر بين كثير من الغلاة ، وقد تحمله بعض الجهال عنهم دون أن يعرفوا أصله وتبعاته ، ونحن ولله الحمد والمنة لم نقل بهذا التأصيل ولا تبنيناه في يوم من الأيام ، بل كنا -ولازلنا- من أشد المنكرين له ، حتى كفرني بعض غلاة المكفرة ، لما خالفتهم فيه ، وناظرتهم في إبطاله ، ويومها لم أجد عندهم ما يحتجون به لتأصيلهم هذا ، إلا عبارة مبتورة لشيخ الإسلام ابن تيمية اقتطعوها من فتوى له حول بلدة ماردين ، وهي قوله فيها : ( ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ) وقد حرفوها فجعلوها ( دار الكفر التي أهلها كفار ) فخرجوا من ذلك أن كل دار كفر - ولو كانت طارئة حادثة لا أصلية - فأهلها كلهم كفار ، إلا من عرفوا تفاصيل معتقده .. وقد بينت لهم يومها أن هذه اللفظة - خصوصا في ماردين وأمثالها من دور الكفر الطارئة - ما هي إلا اصطلاح للفقهاء للدار التي غلب عليها الكفار وعلتها أحكامهم .. ولا دخل لقاطنيها بوصف الكفر إلا من ارتكب سببا من أسباب التكفير .. وذكرت لهم بعض التفصيل الآتي ، ولكنهم لم يرفعوا بذلك رأسا ، وأصروا على التمسك بتلك العبارة .. فعجبت كيف يقلب الهوى الموازين ، ويجعل من يقر بعدم حجية قول الصحابي ولا يقبل قول غيره من أهل القرون الثلاثة المفضلة في فرع من الفروع ، يحتج بقول مبتور مقتطع من كلام عالم في القرن السابع ، وفي مسألة هي من أخطر أبواب الدين ، عندما يظن أن ذلك القول يوافق هواه ، أو يحقق رغبته وحاجته .. !! مع أنهم يقرون بأن جميع الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتج لكلامهم ولا يحتج به ، ويحتاج إلى الدليل والبرهان وليس هو وحده بدليل ولا برهان ..
وقد بين الله عز وجل بعض دوافع النفس وأهوائها ، في الاندفاع نحو التكفير والتسرع فيه أحيانا ، في قوله تعالى : (( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا )) ؛ فقال : ((تبتغون عرض الحياة الدنيا )) .. وكذلك كانت رغبات أولئك الأغرار الذين كنت أناظر بعضهم ، فقد كانوا يتحينون أسهل وأقرب فرصة لانتهاب أو سرقة ما يقع تحت أيديهم من أموال وممتلكات من حكموا عليهم بالكفر ، حتى وإن كانوا من الدعاة والمجاهدين ، أو من المسلمين المستضعفين ، فأموالهم عندهم غنائم ، وقد شاهدت من ذلك أمثلة ، وفي آخر الأمر اقتتلوا هم فيما بينهم واختلفوا على بعض الأموال ..!!
أسأل الله تعالى أن يهديهم سواء السبيل ، وأن يجنب شباب المسلمين هذه الفتن المضلة .. إذ الجرأة على تكفير المسلمين وإباحة دماء الموحدين وأموالهم من غير موجب شرعي ، لا تقدم عليه إلا النفوس المريضة التي لم تشم رائحة الورع والتقوى ..
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ).(5/147)
وقال أيضا فيما يرويه البخاري ومسلم : ( لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ) رواه البخاري من حديث ابن عمر
وفيه : وقال ابن عمر : ( إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله )
وفي البخاري أيضا سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك ، قال : يا أبا حمزة ، ما يحرم دم العبد وماله ؟
فقال : ( من شهد أن لا إله إلا الله ، واستقبل قبلتنا ، وصلى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم ، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم )
وتقدم ما ذكره القاضي عياض في الشفا (2/277) عن العلماء المحققين قولهم : ( إن استباحة دماء المصلين الموحدين ، خطر ، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد ) أهـ .
ونقل عن القابسي قوله : ( ولا تهراق الدماء إلا بالأمر الواضح ، وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء .. ) أهـ . (2/262) .
ولو انشغل هؤلاء في طلب العلم الشرعي وتقليب كتب العلماء ومطالعة الأصول والفروع ، لعرفوا أن دون إباحة الدم والمال وإن صدر القول أو الفعل المكفر ؛ مراحل وشروط وموانع قد تمنع من التكفير فضلا عن الإباحة .. خصوصا في أمثال من تسلطوا عليهم من المستضعفين أو الدعاة والمؤمنين غير الممتنعين بشوكة الطواغيت أو أنظمتهم وقوانينهم .. وأنه لا يلزم من الحكم على الفعل أو القول بالكفر ، تكفير المعين - كما تقدم - ومن ثم فلا تترتب على الحكم آثاره التي يهوونها ويشتهونها ويبتغونها ..
أضف إلى هذا أن جمهور العلماء ، بل ذكر ابن المنذر إجماعهم ؛ على أن مُلك المرتد لا يزول بمجرد ردته(1) إذا كانت ردته غير مغلظة ولا كان ممتنعا ، فإنه يستتاب والحالة كذلك ، وقد يرجع إلى الإسلام .
وكل من تأمل فتوى شيخ الإسلام التي اجتزؤوا منها حجتهم ، وجدها من أولها إلى آخرها حجة عليهم ، فقد سئل رحمه الله عن بلدة ماردين التي احتلها التتار وتغلبوا عليها وفيها أناس مسلمون …. فأجاب رحمه الله : ( الحمد لله دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها … والمقيم بها إن كان عاجزا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه ، وإلا استحبت ولم تجب … ) إلى قوله : ( ولا يحل سبهم عموما ورميهم بالنفاق ، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم(2) وأما كونها دار حرب أو سلم ، فهي مركبة : فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيه بما يستحقه ، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه ) أهـ . مختصرا من مجموع الفتاوى (28/135).
فهو يقرر:
- أن دماء المسلمين وأموالهم ، الأصل الأصيل فيها ؛ هو الحرمة والعصمة حيث كانوا ، ولا دخل للدار أو البلدة في ذلك ، بل مناط تلك العصمة إظهار المرء للإسلام ، لا إظهار الدار للإسلام .
- وأنه لا يحل رمي المسلمين بشيء من صفات النفاق ونحوها ، لمجرد كون الدار قد صارت تحت غلبة الكفار ، دون أن يحدث أولئك المسلمون أمرا .
- وأن الدار التي سئل عنها وأمثالها ، وإن كان ينطبق عليها وصف الفقهاء لدار الكفر لغلبة الكفار عليها ، إلا أنها بالنسبة للحكم على أهلها مركبة .
فليست هي كدار الإسلام الأصلية التي يتميز فيها أهل الكتاب بالغيار ( أي اللباس الذي يميزهم ) ولا يقر المرتد فيها بحال .. فالأصل في كل من عدا أهل الكتاب من ساكنيها ، أنه من المسلمين ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلم المرء في مثلها على من يعرف ومن لا يعرف(3) .. ولذلك نص الفقهاء واستدلوا كثيرا في فروع الفقه بمقولة : ( الأصل في دار الإسلام الإسلام ) ..
ولا هي أيضا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ولم تكن يوما دار إسلام ولا كان جمهور أهلها مسلمين .. فهي إذن ليست دار كفر أصلية ، بل قد كانت قبل تغلب الكفار عليها دار إسلام وجمهور أهلها من المسلمين .. ولذلك لم ينط الحكم على أهلها ومعاملتهم تبعا لشيء من تلك الاصطلاحات لعدم انضباطها ، بل من أظهر الإسلام عصم ماله ودمه وعومل معاملة المسلمين ، ومن خرج عن شريعة الإسلام عومل بما يستحقه .. فكلامه رحمه الله واضح لا لبس فيه ..
ولكن الأمر كما ذكر رحمه الله في موضع غير هذا .. أن اجتماع الشهوة مع الشبهة يقوي الدافع إلى الشبهة ويورث فساد العلم والفهم ..
والقوم وجدوا في ذلك الفهم السقيم ، ما يثبت شبهاتهم ويسوغ شهواتهم ( الغنائمية) فتمسكوا بقوله ( ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ) ؛ فجعلوا الكفر هو الأصل في أهل كل دار تدخل تحت اصطلاح دار الكفر ولو كان وصف الكفر فيها طارئا لغلبة الكفار على أحكامها .. فكفروا أهلها كلهم ولو كان جمهورهم من المنتسبين للإسلام .. وتمسكوا بذلك وأصروا عليه ..(5/148)
هذا وقد كنت تتبعت قديما مصطلح دار الكفر ودار الإسلام وجمعت أقوال كثير من العلماء وتعريفهم للدار ، ونظرت في أثر هذا الاصطلاح عندهم على قاطنيها ، فلم أجد عند أحد من العلماء المحققين شيئا من هذا الذي رامه هؤلاء ..خصوصا في دار الكفر الطارئة التي كان جمهور أهلها مسلمين ..
نعم وجدت شيئا شبيها بمقالاتهم .. عند بعض طوائف الخوارج الضلال ..
فالأزارقة أصحاب (نافع بن الأزرق) قالوا : ( إن من أقام في دار الكفر فهو كافر ، لا يسعه إلا الخروج ) ، ومعلوم أنهم يرون أن دار مخالفيهم من المسلمين دار كفر .
والبيهسية والعوفية قالوا : ( إذا كفر الإمام كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد ) وهذا كله من سخفهم وجهلهم ، وسنأتي على ذكره في الفصل الرابع من هذا الكتاب ..
أما العلماء المحققين ، فقد تدبرت أقوال كثير منهم ، فلم أجد عندهم شيئا من هذه الإطلاقات ؛ ولا يعكر على إطلاقي هذا ما ورد في أحكام القرآن للجصاص وغيره ، مما قد يظنه المتعجل شبيها بذلك ، فليس هو من هذا الباب ، وذلك لكونه ورد في أرض العدو التي يعنون بها دار الحرب أو الكفر الأصلية ، وفي ظل وجود دار إسلام وجماعة المسلمين الذين يقدر المسلم على التحول إليهم ثم هو يفرط في ذلك ويبقى مكثرا لسواد أهل الشرك .
أما إطلاق تلك القاعدة وذلك الاصطلاح وإعماله مطلقا في قاطني الدار التي طرأ عليها الكفر مع أن جمهور أهلها من المنتسبين للإسلام ، دون اعتبار لاستضعاف المسلمين وعدم وجود دار إسلام يهاجر ويأوي إليها المسلم ، ودون أن يتواطأ المسلم أو يعين على كفر ، فهذا ما لم أجده بحال ، وأعجبني في خاتمة المطاف قول الشوكاني في السيل الجرار : ( اعلم أن التعرض لذكر دار الإسلام ودار الكفر قليل الفائدة جدا ، لما قدمنا لك في الكلام على دار الحرب ، وأن الكافر الحربي مباح الدم والمال على كل حال ما لم يؤمّن من المسلمين ، وأن مال المسلم ودمه معصومان بعصمة الأسلام في دار الحرب وغيرها ) أهـ. (4/576).
فهذا الذي يهمنا من ذلك ، وهو موافق لخلاصة كلام شيخ الإسلام في أهل ماردين وغيرهم ..
والعلماء جميعهم على ذلك .. فأنت تخرج من تتبع تعريفاتهم لدار الكفر ودار الإسلام ، بأن هذه المسميات اصطلاح فقهي لا أثر له في الحكم على من أمكن معرفة دينه من قاطني الديار ، وأن من أظهر الإسلام ولم يأت بناقض من نواقضه الظاهرة معصوم الدم والمال حيث كان ..
وتعريفاتهم وإن تفاوتت بعض التفاوت ، فجمهورهم على أن هذا المصطلح يطلق تبعا للأحكام والغلبة التي تعلو الدار، فإن كانت تعلو الدار أحكام الكفر أو أن الغلبة فيها للكفار فقد اصطلحوا على تسميتها دار كفر، وإن كان أكثر أهلها من المسلمين .. وإن كانت الغلبة فيها والأحكام للمسلمين فهي دار إسلام وإن كان أكثر قاطنيها من الكفار، كما يكون الحال في البلاد التي يسكنها أهل الذمة ويحكمها المسلمون ..
قال ابن حزم (456هـ) : (وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين " إنما عنى بذلك دار الحرب ، وإلا فقد استعمل عليه السلام عماله على خيبر وهم كلهم يهود ، وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم فلا يسمى الساكن فيهم لإمارة عليهم أو لتجارة بينهم كافرا ولا مسيئا بل هو مسلم محسن ، ودارهم دار إسلام لا دار شرك ، لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لها ) أهـ المحلى (11/200).
وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي(458هـ) : ( كل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي دار كفر ) أهـ. المعتمد في أصول الدين ص(276).
وقال ابن القيم(751هـ) : ( ما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها ، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جدا ولم تصر دار إسلام بفتح مكة ) أهـ أحكام أهل الذمة (1/366).
وقال الشوكاني (1250هـ) في السيل الجرار (4/575) : (الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام ؛ فهذه الدار دار إسلام ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم ، كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية ، وإذا كان الأمر بالعكس فالدار بالعكس ) أهـ.
وقال سليمان بن سحيمان (1349هـ) شعراً :-
إذا ما تغلب كافر متغلب على ... ... دار إسلام وحل بها الوجل
وأجرى بها أحكام كفر علانيا ... ... وأظهرها فيها جهاراً بلا مهل
وأوهى بها أحكام شرع محمد ... ... ولم يظهر الإسلام فيها وينتحل
فذي دار كفر عند كل محقق ... ... كما قال أهل الدراية بالنحل
وما كل من فيها يقال بكفره ... ... فرب امرئ فيها على صالح العمل(5/149)
فأنت ترى من مطالعة هذه التعريفات وغيرها أنهم اصطلحوا على هذا المصطلح كدلالة على نوع الغلبة والأحكام التي تعلوا الدار ، وينبهون كما رأيت غالباً على أن المسلم معصوم الدم والمال حيث كان وأنه لا أثر لقاطني الديار ، إسلام أكثرهم أو كفرهم في الحكم على الدار ، كما وأنه لا أثر للحكم على الدار وحده في إسلامهم أو كفرهم .. خصوصا إذا كانت دار كفر حادثة طارئة ، لا أصلية ..
وما كل من فيها يقال بكفره ... ... فرب امرئ فيها على صالح العمل
كما قال ابن سمحان ..
• ولقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر عام 7هـ ، وكان أهلها كلهم يهود فأقرهم صلى الله عليه وسلم فيها وصالحهم على زراعتها، فصارت بغلبة المسلمين وعلو أحكامهم عليها ، دار إسلام ، وجازت السكنى والإقامة فيها والاستيطان ، فكان له صلى الله عليه وسلم فيها عمال ..
• وفي المقابل لما ادعى الأسود العنسي النبوة في اليمن وارتد قوم من أهلها واتبعوه حتى غلب على صنعاء - وذلك في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا – فقتل الأسود واليها شهر بن باذان الذي كان قد أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، وفر بعض عمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لما استشرى أمر العنسي ، وارتد خلق معه (وعامله المسلمون هناك بالتقية )(4) فلم يكفروا ببقائهم في دار الردة وعدم فرارهم، بل كان منهم فيروز الديلمي وأصحابه الذين ثبتوا واحتالوا حتى قتلوا الأسود العنسي وعادت الغلبة في اليمن للمسلمين ..
فهاهي صنعاء صارت دار كفر بغلبة المرتدين والكفار عليها بعد أن كانت دار إسلام أي أنها صارت دار ردة ، وبقيت تحت غلبة الأسود الذي ادعى النبوة لمدة أربعة أشهر أو قريباً منها .. ولم يمنع ذلك من وجود مسلمين صالحين فيها ، يأخذون بالتقية ، ويعملون لإعادة الغلبة للمسلمين ، حتى تمكنوا في آخر أمرهم من قتل الأسود وإعادة اليمن إلى حكم المسلمين ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك (5) ، ولا قال أنهم كفروا ببقائهم في صنعاء وعدم فرارهم إذ صارت دار كفر بتغلب الكفار عليهم .. وهذا مع وجود دار الإسلام وجماعة المسلمين .
• وأيضا بعد ذلك لما سقطت مصر ، بأيدي العبيديين الكفرة من بني عبيد القداح واستولوا عليها وتغلبوا على الحكم فيها صارت دار كفر وردة بعد أن كنت دار إسلام وجمهور أهلها من المسلمين ، فبقيت تحت حكم العبيديين نحو مائتي سنة أظهروا فيها رفضهم وكفرهم وزندقتهم ، حتى ألّف ابن الجوزي كتابه ( النصر على مصر ) .. ومع ذلك لم يقل أحد من العلماء المحققين أن حكم الكفر هذا الذي أطلق على الدار وعلى المتغلبين عليها ، قد شمل أهلها المستضعفين ..
بل قد كان فيهم علماء وفقهاء وصالحون كثير ، فمنهم من كان مستخفيا ولا يقدر على إظهار عقيدته في بني عبيد ، بل ولا حتى التحديث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يقتل ( كما حكى إبراهيم بن سعيد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد أنه امتنع من رواية الحديث خوفا أن يقتلوه ) (6)
ومع هذا فعموم المسلمين كانوا يضمرون بغض بني عبيد ، والبراءة منهم ، وربما أظهر ذلك بعضهم بطريقة لا يناله فيها بطشهم ، كما ذكر السيوطي في مقدمة تاريخ الخلفاء عن ابن خلكان أنه قال في العبيديين : ( وقد كانوا يدعون علم المغيبات ، وأخبارهم في ذلك مشهورة ، حتى إن العزيز صعد يوما المنبر فرأى ورقة مكتوب فيها :
بالظلم والجور قد رضينا ... ... وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أعطيت علم الغيب ... ... بين لنا كاتب البطاقة.
وكتبت إليه امرأة قُصة فيها : بالذي أعز اليهود بميشا ، والنصارى بابن نسطور ، وأذل المسلمين بك ، إلا نظرت في أمري ) أهـ (7) .
فمَنْ من العلماء المحققين ، لا من الفشارين المتهورين .. قال بتكفير هؤلاء لمجرد إقامتهم في دار الكفر ما داموا لم يظهروا سببا من أسباب الكفر ؟؟ هذا مع وجود در إسلام يهاجر إليها في ذلك الوقت ، فكيف مع عدمها في زماننا ؟؟
وقد كان العبيديون شرا على ملة الإسلام من التتر كما ذكر الذهبي ، فمنهم من كان يظهر سب الأنبياء .. أما سب الصحابة فحدث ولا حرج – فقد ذكر السيوطي عن أبي الحسن القابسي : ( أن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه من العلماء والعباد أربعة آلاف رجل ليردوهم عن الترضي عن الصحابة فاختاروا الموت ، قال : فيا حبذا لو كان رافضيا فقط ، ولكنه زنديق ) تاريخ الخلفاء ص 13 .
فأنت ترى أنه كان في مصر آنذاك فقهاء ، كما قدمنا أيضا في كلام أبي محمد القيرواني الكيزاني قوله :( إنما أقام من أقام من الفقهاء على المباينة لهم لئلا تخلوا للمسلمين حدودهم فيفتنوهم عن دينهم ) أهـ .
فكان منهم من يستخفي ومنهم من يظهر دينه فيقتل .. كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني : ( كان المهدي عبيد الله باطنيا خبيثا حريصا على إزالة ملة الإسلام ، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق ) أهـ . تاريخ الخلفاء ص 12 .(5/150)
وممن واجههم بكفرهم من العلماء الشهيد – نحسبه كذلك – أبو بكر النابلسي الذي أحضره المعز: ( فقال له : بلغني عنك أنك قلت : لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين بسهم ، فقال ما قلت هذا ، فظن أنه رجع عن قوله ، فقال كيف قلت ؟ قال : قلت : ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر . قال: ولم ؟ قال : ( لأنكم غيرتم دين الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الإلهية ، وادعيتم ما ليس لكم ) فشهره ثم ضربه بالسياط ثم جاء بيهودي فأمره بسلخه فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن ، قال اليهودي : فأخذتني رقة عليه ، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات ..) البداية والنهاية ( 11/284) مختصرا وانظر سير أعلام النبلاء (16/148) .
والشاهد من هذا كله أن أحوال المسلمين تحت حكم المتغلبين الكفار في كل زمان تغلبوا فيه على بعض ديار الإسلام ، كانت تتفاوت بين مستضعف مستخف أو آخذ بالتقية أو مجاهد قائم بدين الله تبارك وتعالى ، ولم يكن العلماء يطلقون الكفر على أحد من هؤلاء ما داموا لم يتلبسوا بشيء من نواقض الإسلام وأسباب الكفر الظاهرة، وإنما كفروا من نصر الكفار أو المرتدين أو أظهر موالاتهم أو صار من أهل دولتهم وحكمهم الكفري كما نقل ابن كثير في البداية والنهاية ( 11/284) عن القاضي الباقلاني قوله في العبيديين : ( إن مذهبهم الكفر المحض واعتقادهم الرفض وكذلك أهل دولته من أطاعه ونصره ووالاه قبحهم الله وإياه ) أهـ.
..و الأمثلة من جنس هذا في التاريخ كثيرة …
والشاهد منه أن الأصل في كل منتسب للإسلام أو مظهر لخصائصه ؛ الإسلام ، ما لم يظهر سببا من أسباب الكفر ، والأصل فيه أنه معصوم الدم والمال والعرض حيث كان ..
-وقد قال تبارك وتعالى : (( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم )) .
فسماهم مؤمنين مع أنهم كانوا في مكة حين كانت دار كفر ، ورغم أنهم كانوا مستخفين لا يعلمهم المؤمنون.
قال في روضة الطالبين (10/282) : ( فرع : المسلم إن كان ضعيفا في دار الكفر لا يقدر على إظهار الدين ، حرم عليه الإقامة هناك ، وتجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام ، فإن لم يقدر على الهجرة ، فهو معذور إلى أن يقدر ، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر سقط عنه الهجرة ، وإن كان يقدر على إظهار الدين ، لكونه مطاعا في قومه ، أو لأن له هناك عشيرة يحمونه ، ولم يخف فتنة في دينه ، لم تجب الهجرة ، لكن يستحب لئلا يكثر سوادهم ، أو يميل إليهم ، أو يكيدوا له ، وقيل ؛ تجب الهجرة ، حكاه الإمام ، والصحيح الأول ) أهـ.
وقال الماوردي : ( فإن صار له بها – أي دار الكفر – أهل وعشيرة وأمكنه إظهار دينه لم يجز له أن يهاجر لأن المكان الذي هو فيه قد صار دار إسلام )
قال رشيد رضا تعليقا على ذلك : ( هذا قول باطل لأن مجرد إظهار الرجل لدينه لا يجعل الدار دار إسلام والأحكام فيها غير إسلامية ، فإن جميع بلاد أوروبة لا يعارض أحد فيها إذا أظهر دينه أو دعا إليه حتى في حال محاربتهم للمسلمين ولأن الهجرة من دار إسلام إلى أخرى جائزة بالإجماع ، ولو قال لا تجب عليه الهجرة في تلك الحالة لكان قريبا ، ولعل هذا هو الأصل ، ووقع الغلط في النقل . ) أهـ من شرح الأربعين النووية ، ص13 ضمن ( مجموعة الحديث النجدية )
- وقال سبحانه وتعالى في تفاصيل قتل المؤمن خطأ: ((وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ..))
فسماه تبارك وتعالى مؤمنا ، وجعل في قتله خطأ كفارة ؛ مع انه مقيم مع أعدائنا في دار الحرب ، على قول طائفة من السلف والفقهاء والمفسرين كما في تفسير ابن جرير وغيره .. وانظر روضة الطالبين ( 9/381) .
وقال الشوكاني في فتح القدير (1/498) : ( و هذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم ثم أسلم ولم يهاجر وهم يظنون أنه لم يسلم وأنه باق على دين قومه ، فلا دية على قاتله ، بل عليه تحرير رقبة مؤمنة ، واختلفوا في وجه سقوط الدية، فقيل وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية ، وقيل وجهه أن هذا الذي آمن حرمته قليلة .. لقول الله تبارك وتعالى : (( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير )) ..) أهـ .
وتأمل وصف الله لهم بالذين آمنوا مع أنهم لم يهاجروا من دار الكفر في ظل وجود دار إسلام كانت الهجرة واجبة إليها .
وقد ذكر الشوكاني بعد ذلك أن بعض أهل العلم أوجب ديته ولكن لبيت المال، ويستأنس لهذا القول ، ولما نحن بصدده أيضا بما رواه أبو داود (2642) والترمذي من حديث جرير بن عبد الله قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم ، فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل، قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا : يا رسول الله لم ؟ قال : لا ترايا { تراءى} ناراهما )
وقد أعلّ الحديث بالإرسال حيث لم يذكر جرير في رواية جماعة ، لكن صححه بعض العلماء بمجموع طرقه .(5/151)
وقد ذكر الخطابي وبعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر لهم بنصف العقل بعد علمه بإسلامهم ، لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار ، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره ، فسقط بذلك حصة جنايته فلم يكن له إلا نصف العقل ( أنظر عون المعبود ) (7/218)
وهذا كله من الدلائل على أن مثل هذا لا يكفر رغم تقصيره في الهجرة ، وعصيانه بالمقام بين ظهراني المشركين ، وليس أظهر في الدلالة على ذلك تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالمسلم وعدم رفع هذه الصفة عنه ، ولا يعكر على ذلك براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه وكون البراءة الكلية لا تكون إلا من الكافر لان المراد بالبراءة هنا براءة الذمة من عقله كاملا (8)، كما قد فسر في الحديث نفسه ، ومن ذلك أيضا قصور حقه في النصرة لتقصيره في الهجرة ، فهذه قرائن صارفة للبراءة المكفرة ، إلى براءة من نوع ثان فسرتها السنة وذكرها الله تعالى في قوله : ((والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير )) .
اللهم إلا أن يضم إلى إقامته في دار الكفر وتقصيره بالهجرة الواجبة إلى دار الإسلام ؛ مظاهرته للمشركين ومحاربته للمسلمين ، فحينئذ تكون البراءة منه براءة كلية مكفرة ..
قال ابن حزم بعد أن ذكر الحديث أعلاه : ( وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر . قال تبارك وتعالى ((المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )) ، ثم قال ؛ ( فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من وجوب القتل عليه متى قدرعليه ، ومن اباحة ماله ، وانفساخ نكاحه وغير ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم ، وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه ، ولم يحارب المسلمين ، ولا أعان عليهم ، ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه لأنه مضطر مكره ) . أهـ المحلى ( 13/138-139)
وهو صريح في أن اللحوق بدار الكفر إنما يكون كفرا ، إذا ما انضاف إليه محاربة المسلمين وإعانة الكفار ومظاهرتهم عليهم ، فهو يتنزل على أنصار الشرك المحاربين للدين أو من ظاهر المشركين والكافرين على الموحدين لا على عموم المقيمين في دار الكفر .
ثم قال ابن حزم : ( وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازما على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه ، وهو كان الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور .
وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم من المسلمين ، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر أو لقلة مال أو لضعف جسم أو لامتناع طريق فهو معذور .
فإن كان هنالك محاربا للمسلمين معينا للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر.) أهـ
وإياك أن تفهم من قوله : (معينا للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر ) ، التكفير بمجرد إعانة الكفار بمطلق الخدمة أو الكتابة ، كما يطلقه بعض الغلاة ، فقد رأيت كيف ربط ابن حزم هذه الإعانة بحرب المسلمين ، فهذا هو الكفر ، أعني حرب المسلمين ومظاهرة الكفار ونصرتهم عليهم في حربهم ولو بالكتابة ونحوها ، لا مطلق خدمتهم والكتابة لهم ، فهذا فيه تفصيل سيأتي في تفصيل العمل عند الكفار .
ثم قال رحمه الله : (وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها وهو كالذمي لهم وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم فما يبعد عن الكفر وما نرى له عذرا ونسأل الله العافية .
وليس كذلك من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية ومن جرى مجراهم لأن أرض مصر والقيروان ( يشير إلى العبيديين ) وغيرهما فالإسلام هو الظاهر وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام بل إلى الإسلام ينتمون وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارا .
وأما من سكن في أرض القرامطة مختارا فكافر بلا شك لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام ونعوذ بالله من ذلك .
وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر ، فهو ليس بكافر لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال من التوحيد والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين غير الإسلام وإقامة الصلاة وصيام رمضان وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان ، والحمد لله رب العالمين . ) أهـ .
ومعلوم أن هذا كله في ظل وجود دار إسلام ..
وتأمل اعتبار ابن حزم لظهور شرائع الإسلام وخصائصه العظام كتوحيد الله والإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهار الصلاة وصيام رمضان وانتساب الولاة للإسلام وعدم براءتهم منه – رغم كفرهم ؛ تأمل اعتباره لذلك في تسويغ إقامة المسلم – أو على الأقل عدم تكفيره – لإقامته في دار كفر هكذا وصفها وهكذا حال ولاتها .. ولا يماحك في شبه هذا لحال بلاد المسلمين اليوم إلا مكابر .(5/152)
وكذا الحديث المذكور في براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن أقام بين ظهراني المشركين ؛ فقد قيل في ظل وجود دار إسلام ، بل قد قيل في وقت كانت الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم واجبة قبل فتح مكة، ومع هذا لم يكفر أمثال هؤلاء بمجرد إقامتهم بين المشركين ، وإن أثموا وعوقبوا بنقصان حرمتهم ، وضعف وقصور ولايتهم ..
فإذا ما عدمت دار الإسلام التي يهاجر المسلم إليها فإنه بإقامته بدار الكفر معذور إذا ما اتقى الله واجتنب الشرك ، وإعانة أهله على المسلمين ، إذ لا سبيل إلى دار إسلام يهاجر إليها حتى يأثم بتقصيره في ذلك ، فضلا عن أن يكفر !! .
فكيف إذا كانت إقامته في دار الكفر والحالة كذلك ، لأجل نصرة دين الله وإظهار التوحيد ومقارعة الشرك والتنديد ؟ لا شك أن مثل هذا المسلم محسن مأجور قائم بدين الله تبارك وتعالى ..
وفي الحديث المتواتر المروي عن بضع عشر صحابيا بألفاظ متقاربة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على أمر الله لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله ) .
ومثله الحديث الآخر : ( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ) وهو في صحيح البخاري ..
فهذان الحديثان يدلان على وجود المسلمين الصادقين والمجاهدين إلى يوم القيامة ، واستمرار وجودهم في كل الظروف ، في ظل وجود دار الإسلام وفي حال عدمها ..
بل قد قرر العلماء وجوب إقامة المسلم في دار الكفر ، إذا أمكنه السعي في تحويلها إلى دار إسلام ؛ كما جاء في ( مغني المحتاج ) للشربيني (4/239) : ( ولو قدر على الامتناع بدار حرب والاعتزال وجب عليه المقام بها ، لأن موضعه دار إسلام ، فلو هاجر لصار دار حرب ، فيحرم ذلك، نعم إن رجا نصرة المسلمين بهجرته ، فالأفضل أن يهاجر ، قاله الماوردي – وقد تقدم – ثم في إقامته يقاتلهم على الإسلام ، ويدعوهم إليه إن قدر.. وإلا فلا ) أهـ .
ونقل في روضة الطالبين (10/282) عن صاحب ( الحاوي ) قوله : ( فإن كان يرجو ظهور الإسلام هناك بمقامه ، فالأفضل أن يقيم ، قال : وإن قدر على الامتناع في دار الحرب والاعتزال ، وجب عليه المقام به ، لأن موضعه دار إسلام ، فلو هاجر لصار دار حرب ، فيحرم ذلك ، ثم إن قدر على قتال الكفار ودعائهم إلى الإسلام لزمه ، وإلا فلا ، والله أعلم .) أهـ
فتأمل إيجابهم المقام بدار الكفر في مثل هذه الحال ، فأين المتنطع المكفر بذلك ، من هذا ! ؟.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح : ( وفيه – أي حديث الخيل – بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة ، لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون ، وهو مثل الحديث الآخر ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ) أهـ . من كتاب الجهاد والسير ( باب الجهاد ماض مع البر والفاجر )
وقريب من هذا المعنى حديث حذيفة المتفق عليه : ( فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ) ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) .
ففيه أنه لا أثر لغياب جماعة المسلمين أو إمامهم- وهذه مقومات دار الإسلام - ولا علاقة لذلك في إسلام المرء أو كفره ، وإنما المناط الذي يتعلق ذلك به هو إظهاره لسبب من أسباب الكفر ..
فهذا كله يدل على أن المسلم إذا كان في دار الكفر ولم يهاجر منها إلى دار الإسلام لعجز أو مانع منعه أو لتمكنه من إظهار دينه فيها ، أو لقيامه بالجهاد ونصرة الدين .. فهو مسلم معصوم الدم والمال ..
فمن باب أولى أن يبقى المسلم كذلك في حال عدم وجود دار إسلام يهاجر إليها أصلا ..
فإن الله تبارك وتعالى لم ينط أحكام التكفير بأمور قاهرة لا كسب للعباد فيها .. وإنما أناطها سبحانه وتعالى بأسباب ظاهرة منضبطة – كما تقدم – تنحصر بقول او فعل مكفر من كسب المكلف .. وما لم يظهر المرء شيئا من ذلك ، فلا سبيل إلى تكفيره ، بأمور خارجة عن إرادته ما دام عنده أصل الإسلام ..
والخلاصة ان مصطلح دار الكفر لا اثر له في الحكم على قاطني الدار ، خصوصا في وقت قد أمست الأرض كلها فيه دار كفر إما أصلية ، أو طارئة لغلبة الكفار وأحكامهم على جميع البلاد ..
ويتأكد ذلك إذا كانت الدار الموصوفة بهذا المصطلح دار كفر طارئ ، أي أنها كانت قبل ذلك دار إسلام ولا زال جمهور أهلها ينتسبون للإسلام ، وهذا أمر غفل أو تغافل عنه كثير من المتحمسين ، فلم يفرقوا بين دار الكفر الأصلية التي يغلب الفقهاء حكمها في حكمهم بالتبعية في بعض المسائل ، وبين دار الكفر الحادثة ، أي التي كانت للمسلمين فغلب عليها الكفار ، فإن الفقهاء يؤصلون فيها لمجهول الحال الذي لا سبيل إلى معرفة حاله – كالميت واللقيط والمجنون – بالإسلام والعصمة ، احتياطا لحرمة المسلمين وعصمة لدمائهم ولو لم يبق فيها إلا مسلم واحد ، لان الإسلام يعلو ولا يعلى ، بل أصّل بعضهم بالإسلام لمثل ذلك ولو لم يظهر فيها مسلم لاحتمال أن يكون فيها مؤمن يكتم إيمانه .(9)
نقل النووي عن الرافعي في روضة الطالبين قوله في سياق كلامه عن اللقيط يوجد في الدار والحكم له بالتبعية ، أن دار الإسلام ثلاثة أضرب :(5/153)
أحدها : دار يسكنها المسلمون ’ فاللقيط الموجود فيها مسلم ، وإن كان فيها أهل ذمة ، تغليبا للإسلام .
الثاني : دار فتحها المسلمون وأقروها في يد الكفار بجزية ، فقد ملكوها ، أو صالحوهم ولم يملكوها ، فاللقيط فيها مسلم إن كان فيها مسلم واحد فأكثر ، وإلا فكافر على الصحيح ، وقيل مسلم لاحتمال أنه ولد مَنْ يكتم إسلامه منهم .
الثالث : دار كان المسلمون يسكنونها ثم جلوا عنها وغلب عليها الكفار ، فإن لم يكن فيها من يعرف بالإسلام ، فهو كافر على الصحيح ، وقال أبو اسحاق : مسلم ،لاحتمال أن فيها كاتم إسلامه ، ,إن كان فيها معروف بالإسلام فهو مسلم ..
هذا في أحوال دار الإسلام ، أما في دار الكفر الأصلية فقال : ( دار الكفر ، فإن لم يكن فيها مسلم ، فاللقيط الموجود فيها محكوم بكفره ، وإن كان فيها تجار مسلمون ساكنون ، فهل يحكم بكفره تبعا للدار ، أو بإسلامه تغليبا للإسلام ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني . )
فتأمل احتياط العلماء وتغليبهم للإسلام عند الإشكال حتى في دار الكفر الأصلية ، احتراما لحرمة المسلمين ، واحتياطا في عصمة دمائهم ؛ فمن باب أولى في دار الكفر الطارئة التي ينتسب جمهور أهلها للإسلام .
وعلى كل حال فما دام هذا المصطلح إنما أطلقه الفقهاء للدلالة على أن الغلبة والهيمنة في الدار للكفار وأحكامهم ، فلا يصح والحال كذلك تأصيل قاعدة (الأصل في الناس الكفر) على هذا المصطلح خصوصا في دار الكفر الطارئة التي ينتسب جمهور أهلها للإسلام ويظهرون خصائصه ..
إذ ما دام المصطلح غير مناط ولا معلق بقاطني الديار ونوع ديانتهم ، فكيف يصح التأصيل لديانتهم عليه .. فالتأصيل معناه ؛ استصحاب حكم الأصل .. فلو كان هذا الاصطلاح مرتبط بديانة جمهور أهل الدار لصار للتأصيل مدخل .. ولذلك فإن الفقهاء إذا تكلموا في دار الإسلام التي يلزم فيها أهل الكتاب بالغيار ولا يقر فيها المرتد بحال – أو إذا تكلموا في دار الكفر الأصلية التي لم يدخلها الإسلام ولا كان جمهور أهلها مسلمين .. تراهم يستعملون التبعية للدار في بعض المجالات الضيقة حيث يعدم الظاهر والسيما ، ويتعذر تبين حال الإنسان ، كاللقيط أو المجنون أو الميت الذي لايبين عن نفسه – يوجد في أحد الدارين ولا يعرفه أحد ولا علامة مميزة تدل على دينه .. فألحقوهم بالدار في مثل هذه الأحوال .. أي أنهم اعتبروا في هذا واستصحبوا فيه ديانة أهل الدار ، لا مجرد الاصطلاح التابع للغلبة والحكم فقط كما يفعله أولئك الغلاة وفي دار الكفر الطارئة..
وعلى كل حال فموضوع الحكم بالتبعية الذي تعرض له الفقهاء لا دخل له بما نحن في صدد رده ، فليس هو فيمن أظهر شيئا من علامات الإسلام وخصائصه ومع هذا يكفر ؛ كما يكفره من يكفره من الغلاة طبقا لهذه القاعدة .. بل ينحصر ذلك في مجهول الحال الذي يتعذر تبين حاله لانعدام السيما ولصغره أو موته أو ذهاب عقله ، وليس هناك من يدعيه من والد أو أولياء ليلحق بهم.. ولذلك فقد نص الفقهاء على أنه متى ظهرت عليه علامة تدل على دينه أو ادعاه أحد ما .. قدم هذا الظاهر على ذلك الاستصحاب .. ولذلك قدموا التبعية للوالدين على التبعية للدار (10).
وذلك لان الاستصحاب كما قد قرر علماء الأصول أضعف الأدلة ولا يصار إليه إلا عند التعذر عن إثبات ظاهر ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (الظاهر يقدم على الاستصحاب وعلى هذا عامة أمور الشرع ) .
وقال في الموضع نفسه: ( التمسك بمجرد استصحاب حال العدم أضعف الأدلة مطلقا ، وأدنى دليل يرجح عليه .. ) إلى قوله : ( ولا يجوز الإخبار بانتفاء الأشياء وعدم وجودها بمجرد هذا الاستصحاب من غير استدلال بما يقتضي عدمها ، ومن فعل ذلك كان كاذبا ، متكلما بلا علم .. )
(فعدم علمه ليس علما بالعدم ) .. ( وما دل على الإثبات من أنواع الأدلة فهو راجح على مجرد استصحاب النفي ) أهـ مختصرا من مجموع الفتاوى (23/ص13) .
وقال أيضا : (فقد اجمع المسلمون ، وعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، أنه لا يجوز لأحد ان يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة ، إذا كان من أهل ذلك ، فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مغير لهذا الاستصحاب ، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن أهل لذلك ) أهـ . مجموع الفتاوى (29/90)
وقال ابن القيم : (شهادة العدل رجلا كان أو امرأة أقوى من استصحاب الحال ، فإن استصحاب الحال من أضعف البينات ، ولهذا يدفع بالنكول تارة وباليمين المردودة وبالشاهد واليمين ، ودلالة الحال ) أهـ اعلام الموقعين (1/96)
تأمل هذا .. مع أن الفقهاء إنما استعملوا ذلك الاستصحاب أو التأصيل في المجال الضيق الذي عرفته حيث يعدم تمييز القرائن ومعرفة الظاهر .. ومع هذا ، فتأصيلهم واستصحابهم ضعيف ، يغيره أدنى دليل أو سيما أو ظاهر أو شهادة أو نحوها ..
فكيف بتلك القاعدة وذلك التأصيل الذي أطلقه أولئك الغلاة المتهورون في عموم أهل الإسلام ، ولم يعتبروا فيها ما يظهره الصالحون منهم أو المجاهدون أو المستضعفون من شعائر الإسلام وخصائصه ..؟؟(5/154)
فقدموا ما أصلوه وقعدوه مستندا إلى حكم اصطلاحي لا دخل له بديانة الناس ، على الظاهر البين والمعلن من أقوال الناس وأعمالهم وشعائرهم الإسلامية .. والدار دار كفر طارئة ليست دار كفر أصلية ..
فلا شك أن تأصيلهم هذا ، أضعف وأضعف وأضعف .. فكيف إذا أضافوا إليه وبنوا عليه استحلال الدماء والأموال والأعراض فهو باطل محض نبرأ إلى الله منه ..
• تنبيه : إلى أن قاعدة (الأصل في جيوش الطواغيت وأنصارهم الكفر) لا غبار عليها : -
يجدر بنا التنبيه هنا إلى أننا وأن كنا ننكر التأصيل سابق الذكر ، إلا أن كلامنا وإنكارنا هذا لا ينطبق على جيوش الطواغيت وأنصارهم ؛ فإن القاعدة عندنا ( أن الأصل فيهم الكفر ) حتى يظهر لنا خلاف ذلك ، إذ أن هذا التأصيل قائم على النص ودلالة الظاهر لا على مجرد التبعية للدار ، فإن الظاهر في جيوش الطواغيت وشرطتهم ومخابراتهم وأمنهم أنهم من أولياء الشرك وأهله المشركين .
- فهم العين الساهرة على القانون الوضعي الكفري ، الذين يحفظونه ويثبتونه وينفذونه بشوكتهم وقوتهم .
- وهم أيضا الحماة والأوتاد المثبتين لعروش الطواغيت والذين يمتنع بهم الطواغيت عن التزام شرائع الإسلام وتحكيمها .
- وهم شوكته وأنصاره الذين يعينونه وينصرونه على تحكيم شرائع الكفر وإباحة المحرمات من ردة وربا ، وخمر وخنا ، وغير ذلك .
- وهم الذين يدفعون في نحر كل من خرج من عباد الله منكرا كفر الطواغيت وشركهم ، ساعيا لتحكيم شرع الله ونصرة دينه المعطل الممتهن ..
فهذه حقيقة وظيفتهم ومنصبهم وعملهم ؛ يتلخص في سببين من أسباب الكفر صريحين وهما :
- نصرة الشرك (بتولي القانون والتشريع الكفري الطاغوتي)(11)
- ونصرة أهله وتوليهم ومظاهرتهم على الموحدين .
والنصوص الدالة على أن هذان سببان من أسباب الكفر البواح ظاهرة متضافرة ، وقد فصلناها في غير هذا المقام ، وليس مقصودنا هاهنا تفصيل هذا ، وإنما التنبيه إلى الأصل المذكور .
فقد أصل الله سبحانه وتعالى لنا في أنصار الكفار وأوليائهم عموما ، أصلا محكما في قوله تبارك وتعالى : ((الذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت )) ، وقوله سبحانه : ((ومن يتولهم منكم فإنه منهم )) فالأصل في كل من أظهر تولى الكفار ونصرتهم أو قاتل في سبيل الطاغوت أو كان في عدوته وحدّه وأظهر نصرته باللسان أو السنان ؛ أنه من جملة الذين كفروا ..
ولذلك كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته مع الكفار المحاربين وفي أنصارهم وأوليائهم وأحلافهم الذين ينصرونهم على المسلمين؛ على هذا الاصل .
أنظر على سبيل المثال معاملته صلى الله عليه وسلم للعباس معاملة الكفار رغم دعواه الإسلام لما أسر في صفوف المشركين يوم بدر ، وانظر مثل هذا أيضا ما رواه مسلم في كتاب النذور (1008) من المختصر من حديث عمران بن حصين في قصة الرجل من بني عقيل حلفاء ثقيف ، لما أسره المسلمون بجريرة حلفائه لما نقضت ثقيف عهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم .. ولم يطلقه النبي صلى الله عليه وسلم رغم ادعائه الإسلام بل عامله معاملة الكفار فغنم ناقته وفداه برجلين من المسلمين .
وعليه كانت سيرة أصحابه صلى الله عليه وسلم من بعده في كل ذوي منعة وشوكة يخرجون عن شريعة الله تبارك وتعالى .
أنظر سيرتهم في خلافة أبي بكر في أنصار مسيلمة الكذاب ونحوهم من المرتدين كأنصار طليحة الأسدي فقد كفروهم جميعا وساروا فيهم سيرة واحدة ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة .
ولذلك أطلق العلماء المحققين القول بإباحة دم ومال المحاربين وأنصارهم وجعلوا حكم الردء فيهم حكم المباشر منهم (12).. وفي المغني (كتاب الجهاد ) ( فصل من أسر فادعى أنه كان مسلما ، لم يقبل قوله إلا ببينة ، لأنه يدعي أمرا الظاهر خلافه ..) أهـ ( 8/261) وذكر فيه قصة سهل بن بيضاء في غزوة بدر وستأتي .
فتأمل كيف جعل الأصل فيمن أظهر الانحياز لجيش الكفار حتى أسر في صفهم ، الكفر ، بحيث لا تقبل الدعوى بخلافه – كما في قصة أسر العباس أيضا – حتى تقوم بينة تغير هذا الأصل الظاهر .(5/155)
ولأجل ذلك كان الأصل عندنا في كل من انتسب إلى هذه الأجهزة والوظائف ، التي حقيقتها ، نصرة الشرك وأهله ؛ الكفر . فنحكم على كل واحد منهم بالكفر ونجري عليه أحكام الكفر بما أظهروه من أسباب الكفر ، ما لم يتبين لنا خلاف ذلك من قيام مانع معتبر من موانع التكفير في حق المنتسب للإسلام منهم فنستثنيه .. وقد قدمنا أن تبين الموانع في حق الممتنعين المحاربين ، غير واجب لامتناعهم ومحاربتهم ، لكن إن ظهر لنا شيء من ذلك في حق بعضهم لم نكفره ، وما لم يظهر ذلك فالأصل الظاهر عندنا منهم هوالكفر، وحقيقة أمر باطنهم إلى الله تبارك وتعالى ، وليس إلينا ، وقد أمرنا بالأخذ بالظاهر ، ولم نؤمر أن نشق عن صدور الناس ولا عن بطونهم ، ولأن أصل هذه الوظائف وظاهرها ما قد عرفت فنحن نعاملهم ونؤصل لهم على هذا الظاهر حتى يظهر لنا خلافه ، بخلاف غير ذلك من الوظائف والأعمال التي ليس أصل طبيعتها وحقيقتها نصرة الشرك أو أهله ؛ ولذلك فلا نقول أن الأصل في الأطباء مثلا الكفر ، حتى يتبين لنا خلاف ذلك ، ولا أن الأصل في المدرسين الكفر ، أو أن الأصل في تولي وظائف الدولة الكافرة كلها الكفر .. كلا فهذه الوظائف كما سيأتي لنا فيها تفصيل ، وليست حقيقة جميعها وطبيعتها نصرة الشرك وأهله ، نعم قد يوجد فيمن يتولى هذه الوظائف من هو من أنصار الشرك وأهله ولكن هذا ليس مختصا بحقيقة الوظيفة وماهيتها، كما قد يوجد من هو من أنصار الشرك وأهله من غير الموظفين ..
والخلاصة : أن هذا التأصيل إذا كان في وظيفة أو عمل حقيقته أنه سبب من أسباب الكفر الظاهرة ، كنصرة الشرك وأهله ، أو التشريع وفقا لنصوص الدستور الكفري ، ونحو ذلك من المكفرات الصريحة الظاهرة ، فلا حرج فيه عندنا ، ومعناه : إجراء حكم الظاهر على أصحاب هذه الوظيفة ، وإرجاء ما بطن من الأحكام إلى الله تبارك وتعالى.
(1) أنظر المغني ( كتاب المرتد ) ، (فصل : ولا يحكم بزوال ملك المرتد بمجرد ردته .. )
(2) أي أن مناط تلك الصفات ليس هو الدار ، بل وجود تلك الصفات أو موجبها في الشخص نفسه في أي بلد كان .
(3) حديث ( تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) متفق عليه .
(4) أنظر البداية والنهاية (6/308) .
(5) بل روي أنهم فعلوا ذلك عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بعث إليهم يأمرهم بالقيام على دينهم والنهوض في الحرب والعمل في الأسود . أنظر تاريخ الطبري وغيره وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على فيروز لما جاءه خبر قتله للأسود وهو في مرض موته صلى الله عليه وسلم .
(6) مجموع الفتاوى ( 35/ 85) .
(7) تاريخ الخلفاء ص 13 ، وكان ميشا اليهودي عاملا بالشام ، وابن نسطور النصراني بمصر .
(8) وفي رواية للبيهقي (9/12-13) وغيره وفيها عنعنة الحجاج بن أرطأة : ( من أقام مع المشركين ، فقد برئت منه الذمة )
(9) أنظر على سبيل المثال ، المغني ( كتاب اللقيط ) ( فصل ولا يخلو اللقيط من أن يوجد في دار إسلام أو في دار كفر ..) ، وانظر روضة الطالبين ( 5/433-434) .
(10) أنظرعلى سبيل المثال المغني ( كتاب المرتد ) ( مسألة : وكذلك من مات من الأبوين على كفره ..)
(11) وقد نصت قوانينهم نفسها على ان طبيعة وظيفة هذه الأجهزة ومهمتها الرئيسة ؛ حفظ القوانين وتنفيذها ومولاة أهلها .
(12) انظر المغني (8/297) وتأمل تعليله لاستواء الردء بالمباشر في أحكام المحاربة ؛ بكون الحرابة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة ، فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء
===============
عدم التفريق في آثار التكفير بين الكافر الممتنع وبين المقدور عليه
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
ومن الأخطاء الشنيعة في التكفير أيضا عدم التفريق بين الكافر الممتنع وبين المقدور عليه، والتسوية بينهما في استباحة المال والدم دونما استتابه:
وهو ما يتقحمه بعض الغلاة من تكفير المستضعفين من عوام المسلمين في الأمور المحتملة أو نحوها، دون تبين أو نظر أو استتابه واعتبار للشروط والموانع، بل معاملتهم فوراً معاملة الممتنعين باستحلال دمائهم وأموالهم.
* والامتناع يرد على معنيين:
الأول: امتناع من العمل بالشريعة جزئياً أو كلياً.
والثاني: امتناع عن القدرة، أي عن قدرة المسلمين أن يوقفوه ويحاسبوه.
ولا تلازم بين النوعين، فقد يكون الممتنع عن العمل بالشريعة أو بعضها مقدوراً عليه في دار الإسلام، كمن امتنع عن الصلاة أو الزكاة وهو فرد مقدور عليه في دار الإسلام.
• والامتناع الذي يسقط وجوب الاستتابة هو الامتناع عن قدرة المسلمين.
ومعنى الاستتابه؛ يشمل: طلب التوبة ممن حكم عليه بالردة.
ويشمل كذلك: تبين الشروط والموانع قبل الحكم عليه بالردة، وهذا هو المقصود هنا… ومنه تعرف أن عبارة العلماء التي ترد كثيراً في كتب الفقه وغيرها: (من قال أو فعل كذا يستتاب …الخ)، أنها لا تعني دائماً أن المشار إليه قد كفر وتطلب منه التوبة، بل قد تعني أنه قد صدر منه فعل أو قول مكفر، ويجب تبيّن حاله، أي تبيّن الشروط والموانع حقه.(5/156)
وبعدها، إما أن يحكم ببراءته من الكفر لتخلف شرط من شروط التكفير أو قيام مانع من موانعه في حقه، وإما أن يحكم بردته إن تحققت الشروط وانتفت الموانع، فتطلب منه التوبة، وهي النوع الثاني والأخير من الاستتابة، الذي يكون قبل إقامة حد الردة عليه.
ولذلك فلا يحل التعجل في أخذ مثيلات هذه العبارة وإطلاقها أو إعمال بعض توابعها في الناس دون النظر في مقصود أهل العلم فيها… ويجب التنبه إلى أن المقدور عليه من الناس ليس كالممتنع في هذا..
فالمقدور عليه: لا يمتنع عن النزول على حكم الله وشرائعه، ولا يمتنع عن سلطان المسلمين، ولا يمتنع بسلطان الكفار وشوكتهم ودولتهم وقوانينهم.
أما الممتنع: فهو الذي يمتنع إما بدار الكفر، فيلتحق بها فيمتنع بشوكة أهلها الحربيين أو بدولتهم وسلطانهم وقانونهم بحيث يأبى النزول على أحكام المسلمين ولا يتمكن المسلمون من إقامة حكم الله عليه، أو يمتنع بطائفة وشوكة بين المسلمين تمنعه من المسلمين وحكمهم.
فمثل هذا حكمه حكم أهل الحرب يباح قتله وقتاله وأخذ ماله لمن قدر عليه دون استتابة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان:
أحدهما: عقوبة المقدور عليه من الواحد والعدد…
والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال) أهـ. مجموع الفتاوى ط دار ابن حزم (28/193).
ويدخل في حكم الممتنعين عن قدرة المسلمين وعن شرائع الإسلام في هذا الزمان؛ الطواغيت المعطلين لأحكام الشريعة، المشرعين والمحكمين للقوانين الوضعية الكافرة، وأنصارهم وجندهم الذين يظاهرونهم على المسلمين ويظاهرون قوانينهم ويقوّون شوكتها ويحمونها ويمتنعون من النزول على أحكام الشرع ؛ فهؤلاء قد جمعوا بين نوعي الامتناع، الامتناع عن الشرائع والامتناع عن القدرة ،إذ هم من أشد المحاربين للإسلام وأهله.
وقد قال شيخ الإسلام في فتواه الشهيرة في التتار: (كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة…) إلى قوله: (وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة، وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون….
قال الله تعالى (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله…) (28/278-279) (ط دار ابن حزم).
إلى آخر فتواه وقد بين فيها أن قتالهم ليس من جنس قتال البغاة المسلمين بل من جنس الذين قاتلهم أبو بكر الصديق من المرتدين.
وقال: (وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين -مع كونهم يصومون ويصلون، ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين، فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلاً للمسلمين؟!) (28/289).
أما المقدور عليه، فالواجب استتابته قبل الحكم عليه بالتكفير، أي أنه يجب النظر في شروط التكفير وموانعه في حقه، هل قام مانع من تكفيره أو عدم شرط، فإن ثبت عليه التكفير لم يقتل ولم يزل ملكه عن أمواله حتى يدعى إلى التوبة والعود إلى الإسلام وهو النوع الآخر من الاستتابة(1). ولا يزول ملكه حتى يقتل مرتداً لاحتمال عوده إلى الإسلام(2)
ويندرج تحت حكم المقدور عليهم، المستضعفين من عوام المسلمين في هذا الزمان إذا كانوا لا يمتنعون عن الشرع بشوكة المرتدين ولا بقوانينهم المسلطة على العباد، ولا يستنصرون بهم أو يظاهرونهم على الموحدين، فكيف إذا كانوا مجتنبين للطواغيت وشركياتهم محققين لقوله تعالى (( اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ))؟؟.
فلا يحل مساواتهم والحال كذلك بالمحاربين الممتنعين من المرتدين وأنصارهم المتسلطين على أزمة الحكم في بلاد المسلمين ، فإذا صدر من بعضهم قولاً أو عملاً مكفراً عن جهل أو خطأ أو تأويل على التفصيل الذي قدمناه لك في فصل شروط وموانع التكفير؛ لم يجز المبادرة إلى تكفيرهم قبل الاستتابة أي إقامة الحجة والنظر في الشروط والموانع وقد تقدم قول شيخ الإسلام: (وأما من لم تقم عليه الحجة، مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل) أهـ مجموع الفتاوى (7/609-610).(5/157)
فلا يحل والحال كذلك ما يفعله كثير من الجهال المتهورين من البحث عن صيد ضعيف من عوام المظهرين للإسلام ليمتحنوه بسؤال في أي باب من الأبواب التي يكفرون بها… ولا يهمهم إن كان ذلك الباب من المحتملات، أو مما استعوصه الجهابذة في أبواب التكفير بالمآل، أو مما لا يكفر به إلا بعد إقامة الحجة، كما لا يهمهم كون ذلك الصيد من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، أو ممن ولاءهم للدين وعاطفتهم مع أهله وربما وقعوا في بعض الأخطاء التي يعذر الجاهل فيها… فهمُّ أولئك الأغرار، تصيّد هذه الأخطاء لا علاجها، ليقفزوا مباشرة إلى التكفير فالاستحلال والتخوّض في الأموال… وأحياناً استباحة الدماء… ولا يأبهون بشروط التكفير أو يراعونها أو ينظرون في موانعه، بل منهم من لم يسمع بشيء من ذلك قبلها… ثم ومع هذا فمنهم من يجعل هذا من الإعداد والجهاد في سبيل الله تعالى!!.
ولو كانوا أبطالاً ومجاهدين حقاً؛ لتصدوا لجهاد أعداء الله المحاربين لدين الله وشرعه، أو الممتنعين بهم وبشوكتهم وبقوانينهم الكفرية من أنصارهم وأوليائهم وأشياعهم… إذن لأغناهم الله من فضله، ولوجدوا فيما هنالك مغانم كثيرة.
وإذ لم يقدروا على هذا، فهلا اشتغلوا بدعوة أولئك المستضعفين غير الممتنعين غالباً، وسعوا في هدايتهم، إلى أن يقويهم الله ويعينهم على جهاد الممتنعين.
فإن الله –كما قال عمر بن عبد العزيز- بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً.
ولقد رأيت من هؤلاء الغلاة الجهال في الباكستان من كان يسرق وينتهب أموال أيتام المسلمين وفقرائهم ومهاجريهم بل ومجاهديهم، بحجة أن الأصل في الناس الكفر لأن الدار دار كفر… أو لأنهم لم يكفروا الكفار الذين يكفرهم أولئك الأساتذة!! ثم ما فتئوا أن تجرؤوا فقتلوا بعض الموحدين الذين خالفوهم في ذلك فاستباحوا دماءهم بحجج واهية وشبه فارغة.
وقد قدمنا لك ما نقله القاضي عياض عن القابسي: (ولا تهراق الدماء إلا بالأمر الواضح…) (2/262) الشفا ، واحتياطهم هذا كان في ولاية القضاء مع التمكين والشوكة … فكيف في أحوال هؤلاء؟؟
وقد حدثني في السجن من ندم من بعض أولئك المتهورين على تهوّره؛ أنهم كانوا يستقلون سيارة الأجرة ليلاً من الطريق العام دون أن يعرفوا صاحبها، وهم يخفون أسلحتهم، ثم يمتحنون السائق بأن يطلبوا منه أن يذهب بهم إلى خمارة ليشتروا خمراً… فإذا وافقهم، أو قال بعض عبارات يجاملهم فيها… لم ينصحوه أو يعظوه، فهم لم يسألوه لينصحوه، بل ليغنموه، ويبادروه بأسلحتهم بعد أن أمنهم، فيسلبوه كدّ نهاره على عياله… هكذا مباشرة يكتفون بهذا السؤال الاستدراجي… فيقررون ويحكمون ويخرجون من الدين ويغنمون…!!
مع أن الذي سألوه عنه، وما فعله من إيصالهم إليه ؛ معصية وتعاون على الإثم والعدوان، وما هو بمكفر يقيناً ولا احتمالاً. وحتى لو صدر منه شيئاً مكفراً، فدون أخذ المال مراحل وعقبات، خصوصاً إن لم يكن ممتنعاً، وقد ذكر ابن المنذر الإجماع على أن المرتد لا يزول ملكه بمجرد ردته(3)، وإنما يكون ذلك بعد قتله أو موته، ودون ذلك الاستتابة واحتمال الرجوع… وهذا فيمن بدّل دينه وانتقل إلى ملة أخرى كما هو متعارف عليه عند الفقهاء عند إطلاقهم لمصطلح الردة. فكيف بكفار التأويل ممن يلتزمون شعائر الإسلام ولم يتخلوا عنه قط ولا حاربوه أو حاربوا أهله أو ظاهروا أعداءه، وإذا ووجهوا بكفرهم أنكروا ذلك وبرؤوا منه أو ذكروا تأويلاتهم وأعذارهم، ومن يكفرهم إنما يكفرهم باجتهاد قد يصيب وقد يخطئ… أفتباح العصمة وتهراق الدماء بمثل هذا؟؟؟
وإذا كان أولئك الأغرار إنما سألوه، لينتظروا منه إنكاراً كي يتفضلوا بعد ذلك بفقههم الواسع!! فيعصموا دمه وماله… فهم قد غرّروا به من قبل حين غيّروا سمتهم وحلقوا لحاهم ولم يبقوا أثراً من سيما أهل الدين على أنفسهم، ثم استدرجوه كي يجيبهم بما يشتهون؛ بطلبهم وبوجهتهم. وما ينتظرونه من إنكاره، قَلَّ من يفعله اليوم إلا الغرباء المستمسكون بدينهم بقوة، أما العوام الجهال الذين يمضون حياتهم بالركض خلف لقمة العيش بسبب ما ضيقه الطغاة على العباد في أرزاقهم ومعيشتهم… فتغلب عليهم المجاملات والمداهنات، بل وكثير منهم لا يبالي بكسب المال من حرام… وهذا وحده لا يكفي للتكفير، فضلاً عن إباحة الأموال والدماء.
وربما لو أنه حين ركبوا معه رأى عليهم سيما أهل الدين والصلاح ودعوه للخروج معهم كما يفعل رجال الدعوة (جماعة التبليغ) لوعدهم خيراً أو لخرج… ولو أنهم سألوه سؤالاً دينياً، لانطلق يجاملهم أيضاً بعاطفة دينية وحماس وكأنه شيخ الإسلام ومفتي الديار.
فما هكذا تورد الإبل وما هكذا يكون التثبت والتبين، وما هكذا يقطع بأحكام الشرع التي تستباح بها الدماء والأموال ، خصوصاً في ظل عموم الجهل وضعف العلم والعلماء.(5/158)
ولا يبرّر أو يسوّغ مثل هذه الحماقات ؛عاطفة هؤلاء الشباب الدينية أو زعمهم أنهم يريدون بتلك الأموال الإعداد لجهاد الطواغيت، أو نحوها من الدعاوى صادقة كانت أم كاذبة. فالله طيب لا يقبل إلا طيباً.. والوسيلة لابد أن تكون مشروعة ونظيفة ومطهرة كالغاية عند المسلمين.
ثم اعتقل هؤلاء بعد ذلك في قضايا سلب وسرقة عديدة وقد أظهروا تديّنهم، وأطلقوا لحاهم فكانوا أحدوثة عند أعداء الله استغلوها لتشويه الدين وأهله، والطعن في الجهاد عبر صحافتهم الخبيثة ولقد رأيتهم قد زجوا في مهاجع اللصوص، والعساكر يهزؤون بهم ويستخفون، ويشككون بتدينهم، بل ويعظونهم في قضاياهم التي ارتكبوها.
وما من أعجب الأشياء علج ... ... يعرفني الحلال من الحرام
ثم رأيت بعضهم بعد مدة وقد انتكس أو كاد … يضرب أخماساً بأسداس… ويطلق عبارات فيها تسخط واعتراض على أقدار الله، لاستطوال السجن واستبطاء الفرج.
فنسأل الله تعالى العفو والعافية والهداية لشباب المسلمين.
* فائدة: ومما يصلح إلحاقه بهذا الموضع والتنبيه عليه؛ التفريق بين الردة المجردة التي يستتاب صاحبها، وبين الردة المغلظة التي لا استتابة فيها:
وذلك أن الردة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول ص (366) فصاعداً؛ (على قسمين: ردة مجردة، وردّة مُغلّظة شرع القتل على خصوصها، وكل منهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها. والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعم القسمين، بل إنما تدل على القسم الأول ؛ كما يظهر ذلك لمن تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد، فيبقى القسم الثاني، وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه، ولم يأت نص ولا إجماع لسقوط القتل عنه، والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي فانقطع الإلحاق. والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل ذا تاب بعد القدرة عليه، بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرّق بين أنواع المرتدين كما سنذكره، وإنما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا واحداً على تباين أنواعه، ويقيس بعضها على بعض، فإذا لم يكن معه عموم نطقي يعم أنواع المرتد لم يبق إلا القياس، وهو فاسد إذا فارق الفرع الأصل بوصفٍ له تأثير في الحكم، وقد دلّ على تأثيره نصُّ الشارع وتنبيهه، والمناسبة المشتملة على المصلحة المعتبرة.
وتقرير هذا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن دلائل قبول توبة المرتد مثل قوله تعالى: (( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم)) إلى قوله: ((إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا)) ، وقوله تعالى: ((من كفر بالله من بعد إيمانه )) ونحوها، ليس فيها إلا توبة من كفر بعد الإيمان فقط، دون من انضم إلى كفره مزيد أذى وإضرار، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تضمنت قبول توبة من جرّد الردة فقط. وكذلك سنة الخلفاء الراشدين إنما تضمنت قبول توبة من جرّد الردة وحارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الأصلي على كفره ، فمن زعم أن في الأصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جرد الردة أو غلظها بأي شيء كان فقد أخطأ، وحينئذ فقد قامت الأدلة على وجوب قتل الساب، وأنه مرتد، ولم تدل الأصول على أن مثله يسقط عنه القتل فيجب قتله بالدليل السالم عن المعارض(4).
الثاني: أن الله سبحانه قال: ((كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم، وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات، والله لا يهدي القوم الظالمين، أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون)).
فأخبر سبحانه أن من ازداد كفراً بعد إيمانه لن تقبل توبته، وفرق بين الكفر المزيد كفراً، والكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول، فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القرآن.
وهذه الآية إن كان قيل فيها إن ازدياد الكفر المقام عليه إلى حين الموت، وإن التوبة المنفية هي توبته عند الغرغرة أو يوم القيامة، فالآية أعم من ذلك(5).(5/159)
وقد رأينا سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فرقت بين النوعين فقبل توبة جماعة من المرتدين، ثم إنه أمر بقتل صبابة يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ولم يتب قبل القدرة عليه، وأمر بقتل العرنيين لما ضموا إلى ردتهم نحواً من ذلك، وكذلك أمر بقتل ابن خَطَل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم وأمر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء؛ وإذا كان الكتاب والسنة قد حكما في المرتدين بحكمين، ورأينا أن من ضرّ وآذى بالردة أذى يوجب القتل لم يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه، وإن تاب مطلقاً، دون من بدّل دينه فقط، لم يصح القول بقبول توبة المرتد مطلقاً، وكان الساب من القسم الذي لا يجب أن تقبل توبته… ولأن المرتد المجرد إنما نقتله لمقامه على التبديل، فإن عاود الدين الحق زال المبيح لدمه كما يزول المبيح لدم الكافر الأصلي بإسلامه، وهذا الساب أتى من الأذى لله ورسوله… بما أتى به وهو لا يقتل لمقامه عليه، فإن ذلك ممتنع، فصار قتله كقتل المحارب باليد.
وبالجملة فمن كانت ردته محاربة لله ورسوله بيد أو لسان فقد دلت السنة المفسرة للكتاب أنه من كفر كفراً مزيداً لا تقبل توبته منه.
الوجه الثالث: أن الردة قد تتجرد عن السب والشتم، فلا تتضمنه، ولا تستلزمه، كما تتجرد عن قتل المسلمين وأخذ أموالهم، إذ السب والشتم إفراط في العداوة، وإبلاغ في المحادة مصدره شدّة سفه الكافر، وحرصه على فساد الدين وإضرار أهله…).
إلى قوله ص(370): (والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب، فكذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة، كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية، وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه، كما لا ينفع من قال الكفر، أن لا يقصد أن يكفر…).
إلى قوله ص (371): (وحاصل هذا الوجه أن عصمة دم هذا(6) بالتوبة قياساً على المرتد متعذر لوجود الفرق المؤثر، فيكون المرتد المنتقل إلى دين آخر، ومن أتى من القول بما يضر المسلمين ويؤذي الله ورسوله وهو موجب للكفر على نوعين تحت جنس الكافر بعد إسلامه، وقد شرعت التوبة في حق الأول فلا يلزم شرع التوبة في حق الثاني، لوجود الفارق من حيث الإضرار، ومن حيث أن مفسدته لا تزول بقبول التوبة) أهـ.
والخلاصة: أنه كما يجب التفريق بين الكفار الممتنع وغير الممتنع في وجوب استتابة الأخير دون الأول.
فكذلك يجب التنبه إلى الفرق بين الردة المجردة والردة المزيدة المغلظة، في وجوب استتابة من كانت ردته مجردة ، وعصمته وحقن دمه برجوعه إلى الإسلام، وعدم وجوب ذلك فيمن غلّظ الردة، وحتى لو تاب ورجع إلى الإسلام قبل قتله لم يحقن ذلك دمه ولم يرفع عنه القتل، لتعلق القتل بأمور مزيدة على الردة وتبديل الدين، كشتم الرسول وقتل المسلم وزنا المحصن ونحو ذلك من الحدود التي لا تسقط بالتوبة لتعلق حقوق العباد بها، وهذا مما يخالف به المرتد الكافر الأصلي كما بين شيخ الإسلام في مواضع أخرى من الصارم.
ومنه تعرف الفرق أيضاً بين القتل ردة والقتل حداً، فالثاني تجري عليه أحكام المسلمين بعد قتله فيغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ويورث ماله لأهله، بخلاف الأول فإنه تجري عليه أحكام الكفار.
(1) وفرق شيخ الإسلام في الصارم المسلول في هذا بني الردة المجردة والردة المغلظة، فذهب إلى عدم استتابة من ارتد ردة مغلظة وكفراً مزيداً وسيأتي.
(2) انظر المغني (كتاب المرتد) (فصل: ولا يحكم بزوال ملك المرتد بمجرد ردته…).
(3) انظر المرجع السابق.
(4) واضح أن معنى عدم قبول توبته؛ أي أن توبته لا تحقن دمه. ولا تسقط عنه القتل ومن ثم فلا تشترط استتابة من كانت ردته مغلظة مزيدة، أما رجوعه إلى الإسلام إن رجع فلا يمنعه منه أحد، وكذا قبول توبته عند الله إن تاب فلا يقدر على حجرها عنه أحد، كما بين شيخ الإسلام في مواضع من الصارم، وستأتي الإشارة إليه من كلامه في هذا الموضع. ومن ثم فمن أظهر ذلك قبل قتله لم يقتل ردة، بل قتل حداً على ما غلظه وزاده في ردته من سب للرسول صلى الله عليه وسلم أو قتل معصوم أو نحوه.
(5) أي أنها تشمل أحكام الدنيا التي يتكلم فيها الشيخ وأحكام الآخرة التي ذكرها المفسرون في معنى عدم قبول توبة من مات على ردته، أو من تاب عند الغرغرة.
(6) أي الساب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمرتد مزيدة مغلظة.
==============
حكم أخذ الجنسية للمكره من دولة كافرة
[الكاتب: حمود بن عقلاء الشعيبي]
الإخوة الليبيين (...) حفظهم الله تعالى:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فقد اطلعت على رسالتكم الطويلة الموجهة إلينا، التي تذكرون فيها حالتكم وما تعانونه من الملاحقة والمطاردة وعدم الأمن في بلادكم ولا في البلاد الأخرى، وقد يُلجئكم ذلك إلى أخذ الجنسية البريطانية لكي تأمنوا بذلك في تلك البلاد وفي غيرها من البلاد إذا سافرتم باعتباركم من حاملي الجنسية البريطانية فلا تتعرضون لأذى، وتسألون عن حكم ذلك؟ ثم ذيلتم رسالتكم بعدة أسئلة تطلبون الإجابة عنها؟(5/160)
فنقول وبالله التوفيق يجوز حسب الحالة التي ذكرتم أخذ وطلب الجنسية البريطانية نظرا لحالتكم وما ذكرتم في السؤال.
ومما يدل على ذلك الأدلة الآتية:
1) قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا... الآية}.
فقد أجاز الله الكفر في حالة الإكراه إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، وطلب الجنسية المذكورة من هذا الباب، فقد جاز لكم ذلك لأنه ألجأتكم ضرورة الإكراه إلى ذلك، لكن بشرط أن يكون طالب الجنسية مبغضا للكفار معاديا لهم يرى البراءة منهم، قائما بدينه بقدر ما يستطيع.
2) قصة طلب الحماية والإجارة من الرسول صلى الله عليه وسلم من المطعم بن عدي، لما رجع من الطائف فلم يستطع أن يدخل مكة إلا بطلب الحماية من هذا الكافر، وبهذه الحماية استطاع أن يدخل مكة ويأمن فيها.
وهي مروية في السير، رواها ابن إسحاق في سيرته، وابن هشام في تلخيصه، وابن كثير في الفصول وفي البداية والنهاية.
3) انتفاع الرسول صلى الله عليه وسلم من حماية أبي طالب وبني هاشم وبني المطلب له، حيث كانوا يحمونه ويذبون عنه رغم كفرهم.
4) قصة حماية ابن الدغنة - سيد القارة - لما قام بحماية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لما خرج من مكة، فأجاره هذا الكافر وأعاده إلى مكة آمنا.
5) قصة الهجرة إلى الحبشة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمستضعفين في مكة: (الحقوا بأرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد، فاحتموا ببلاده حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه).
6) وقول ابن القيم رحمه الله لما تكلم عن تحريم الحيل قال: (لاخلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان) اهـ [اعلام الموقعين: 3/191].
ومن أقوال أهل العلم في هذه المسألة ما جاء عن الزهري رحمه الله فيما روى عنه ابن حزم رحمه الله في المحلى، ويأتي نصه في كلام ابن حزم إن شاء الله.
ومن أقوال أهل العلم في هذه المسألة؛ ما قاله ابن حزم رحمه الله في "المحلى" قال: [في باب المرتدين/المسألة رقم: 2198] - لما تكلم عن من لحق بدار الكفر والحرب - قال: (وأما من فرّ إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين ولا أعانهم عليه ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لاشيء عليه لأنه مضطر مكره، وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازما على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه وهو كان الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور، وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم من المسلمين فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر أو لقلة مال أو لضعف جسم أو لامتناع طريق فهو معذور) اهـ
ومما تقدم من الأدلة يتبين؛ أنه يجوز لمثلكم أن يحمل الجنسية البريطانية، بشرط أن تكونوا كارهين لهم ولدينهم مع عدم موالاتهم. قائمين بما تستطيعون من الدين.
وأما ما ذكرتم من القسم أو التعهد عند أخذ الجنسية المذكورة؛
فما دام أنهم يخيرونكم بين القسم و التعهد ولكم مندوحة عن القسم، فتعملون بالتعهد وتضمرون الإيمان بقلوبكم بالله مع كراهيتكم لهم.
أما ما ذكرتم من مسألة التوقيع أو القسم أمام المحامي فلا حاجة لذلك، وما ذكرنا لكم يكفي إن شاء الله.
وأما ما ذكرتم في السؤال الأخير من الاستفهام عن التفريق؛ فلا فرق في ذلك.
هذا ما تبين لنا في ذلكم.
والله أعلم
ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والتيسير والله يحفظكم.
أملاه؛ حمود بن عقلاء الشعيبي
في 5/6/1422 هـ
=============
الرد على من زعم ان الأصل في المجتمعات الإسلامية؛ الكفر، وان من لم يكفر أهلها فهو كافر
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
بسم الله الرحمن الرحيم
ظهرت عندنا مجموعة من الشباب تكفر بالطاغوت وتدعو إلى ذلك على أنه ركن التوحيد، ثم تتبع ذلك القول؛ أن الأصل في المجتمعات الإسلامية اليوم الكفر، وبأن الناس فيها كفار أصليون إلا من أظهر لهم إسلامه، وذلك بأن يكفر بالطاغوت ويقول بقولهم؛ إن الأصل في الناس الكفر وإلا يكون كافراً، ولو كفر بالطاغوت ما لم يقل بالقول السابق.
ويحتجوّن على ذلك؛ بأن الأنبياء عليهم السلام جاءوا إلى أقوامهم ودعوهم إلى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فمن أجاب حكم له بالإسلام، ومن امتنع بقي على كفره، وكذلك في عهد مسيلمة الكذاب من كان تحت حكمه فهو في دار الكفر، وكل شخص هناك حكمه الكفر حتى يُظهر إسلامه بكفره بالطاغوت مسيلمة والإيمان بالله، ويستدلون بقصة خالد بن الوليد رضي الله عنه مع مُجاعة في ذلك الوقت، حيث لم يعترف خالد بإسلامه لمّا أمسكه، لأنه لم ينكر على الطاغوت.
وكذلك اليوم الأصل في الناس كلهم الكفر حتى يدخلوا في الإسلام، وذلك بالكفر بالطاغوت - الحكام اليوم - والإيمان بالله، وتكفير كل من لم يفعل ذلك، وهذا شرط عندهم؛ لأن الناس عندهم ما حققوا التوحيد أصلاً، فلم يدخلوا الإسلام وهم كفار - وإن صلّوا وصاموا وزكّوا وحجّوا - وكذلك لو كفرت أنا - مثلاً - بالطاغوت وجاهدته؛ فأنا كافر عندهم حتى أُكفّر المجتمع كلّه.(5/161)
وعندهم؛ الدخول في الإسلام لا يكون بقول لا إله إلا الله فقط، ويردّون على قصة أسامة رضي الله عنه لمّا قتل الرجل، بأن ذمّ النبي صلى الله عليه وسلم له ما كان لأن أسامة قتل مسلماً بعد أن قال كلمة التوحيد، ولو كان الأمر كذلك لأقيم على أسامة الحد، ولمّا لم يحدث ذلك، فهمنا أن الرجل المقتول لم يدخل في الإسلام بنطقه كلمة التوحيد، وأن الذمّ لأسامة كان على شيء آخر، وهو التسرّع في القتل – مثلاً - هكذا يقولون.
وأيضاً يقولون؛ إن اليهود كانوا يقولون لا إله إلا الله فلم تنفعهم ولم يدخلوا بها الإسلام، حتى يخرجوا من كفرهم الذي وقعوا فيه.
فهم إذن يركّزوا على طرح سؤال: كيف يدخل الشخص في الإسلام؟
ويقولون إن شيخهم هو "ضياء الدين القدسي"، وينشرون له بعض الكتب، والتي رأيت منها كتاب يُسمّى "الكفر بالطاغوت ركن التوحيد"، ووضع على غلافه اسمه المذكور، والعجيب أنني لمّا بدأت بالاطلاع عليه وجدته هو نفس كتابك المسمّى بـ "الطاغوت"، مع تغيير طفيف بتقديم وتأخير بعض العبارات!
والسؤال هو؛ من هم هؤلاء؟ ومن شيخهم المذكور؟ وكيف نثبت أن الكتاب ليس له؟ وكيف يكون الرد على أقوالهم السابقة الذكر، مع ذكر الدليل بالتفصيل، وبارك الله فيكم وجعله في ميزان حسناتكم.
* * *
الجواب:
الحمد لله رب العالمين.
الكفر بالطاغوت حق، وهو شرط لصحة الإيمان، فهذا أمر مسلَّم به، لا يُجادل فيه موحد.
ولكن المشكلة تكمن عندما يوضع هذا الأمر في غير موضعه، ويُحمل على من لا يجوز أن يُحمل عليه، أو يُحمَّل من المعاني السقيمة المخالفة للشريعة وقواعدها، فيحصل حينئذٍ الإفراط أو التفريط!
والقول بأن المسلمين في مجتمعاتهم اليوم الأصل فيهم الكفر، ومن لا يكفرهم أو يقول بهذا القول فهو كافر؛ لا يقول به عالم، بل ولا مسلم عاقل يعز عليه دينه، وهو من جملة أقوال ومعتقدات خوارج وغلاة هذا العصر.
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم له ذمة الله وذمة رسوله) [البخاري].
وقد أجمع أهل العلم؛ على أن المرء يدخل الإسلام ويُحكم له بالإسلام إذا نطق بشهادة التوحيد، أو رؤي يصلي صلوات عدة، وإن لم يُعرف عنه الإقرار باللسان.
قال القرطبي في كتابه "الجامع" [8/207]: (الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله دون غيره من الأقوال والأفعال، إلا في الصلاة، قال إسحاق بن راهويه: ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع، لأنهم أجمعهم قالوا: من عُرف بالكفر ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها حتى يصلي صلوات كثيرة ولم يعلموا منه إقراراً باللسان، أنه يُحكم له بالإيمان) اهـ.
ومشكلة هؤلاء الغلاة الجهلة - الذين ورد السؤال عنهم - أنهم لا يميزون بين القدر الذي يدخل المرء به الإسلام، وبين القدر الذي به يستمر له حكم الإسلام، وبين القدر الذي يرفع عنه السيف في أجواء القتال!
فالقدر الذي يُدخل المرء الإسلام؛ هو شهادة التوحيد، وكذلك إقامة الصلاة - كما تقدم -
والقدر الذي به يستمر له حكم الإسلام؛ أن يُحافظ على إقامة الصلاة، وأن لا يُعرف عنه أنه قد أتى ناقضاً من نواقض الإيمان والتوحيد.
والقدر الذي يرفع عنه السيف في أجواء القتال؛ أن يقول أي عبارة تدل على أنه يريد الدخول في الإسلام؛ كأن يقول: "صبأت"، أو "السلام عليكم"، أو "أنا منكم"، ونحو ذلك من العبارات، فهذه العبارات لا تُدخل صاحبها في الإسلام، لكنها ترفع عنه السيف في أجواء القتال إلى أن يُعلَّم الكلمات الصحيحة التي تُدخله الإسلام.
لذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على خالد بن الوليد رضي الله عنه أشد الإنكار لما قتل أولئك النفر الذين قالوا له: "صبأنا، صبأنا"، وكانوا يريدون أن يقولوا أسلمنا، إلا أنهم لم يُحسنوا التعبير فقالوا صبأنا، فلم يقبل منهم خالد رضي الله عنه فقتلهم، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ من فعله، وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) - مرتين - وأمر بدفع دية القتلى.
وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 94]، فأمر الله تعالى بالتثبت والتبين ممن يلقي السلام على المسلمين المجاهدين في أجواء القتال، ويدع قتالهم، وأن لا يستعجلوا قتله، لاحتمال أن يكون مؤمناً أو أنه يريد الدخول في الإسلام، فأخطأ التعبير فابتدأ بالسلام بدلاً من شهادة التوحيد.
كذلك ليس من الإسلام في شيء؛ أن لا تقبل إسلام العباد إلا بعد أن تختبر اعتقادهم، وتحملهم على أقوال واعتقادات معينة، فهذا ليس من دين الله في شيء ولم يقل به عالم معتبر، وهو من قول أهل البدع والزيغ والضلال.(5/162)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: (ليس من شروط الإتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه؛ فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال، وقول القائل لا أصلي خلف من لا أعرفه، كما لا أسلم مالي إلا لمن أعرفه؛ كلام جاهل لم يقله أحد من أئمة الإسلام).
وقال: (وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال: لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن، فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم) اهـ.
فإذا كانت الصلاة تصح خلف مستور الحال، ولا يُشترط للصلاة خلفه معرفة اعتقاده أو اختباره وامتحانه، فمن باب أولى؛ أن تحكم بإسلامه، وإسلام غيره ممن يُظهرون الإسلام وتجهل اعتقاداتهم، ومن دون أن تختبرهم أو تحملهم على أقوال أو اعتقادات معينة.
والأدلة التي استدلوا بها - الواردة في السؤال - ليس منها شيء يُخالف ما تقدم ذكره.
وإليك بيان وتفصيل ذلك:
قولهم: (ويحتجوّن على ذلك بأن الأنبياء عليهم السلام جاءوا إلى أقوامهم ودعوهم إلى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فمن أجاب حكم له بالإسلام، ومن امتنع بقي على كفره...).
أقول: تلك الأقوام التي بُعثت إليها الأنبياء بدعوة التوحيد، هل كانوا - قبل أن يستجيبوا أو يستجيب بعضهم لدعوة التوحيد - ممن يشهدون أن لا إله إلا الله ويُقيمون الصلاة، أم أنهم كانوا من عبدة الأوثان والطواغيت، وممن يجحدون شهادة التوحيد، ولم يعرفوا طعم الإيمان؟
الجواب لا بد أن يكون؛ أنهم كانوا من عبدة الأوثان والطواغيت، وممن يجحدون شهادة التوحيد، ولم يعرفوا الصلاة لله عز وجل ولا طعم الإيمان!
وإن كان الجواب كذلك، أقول: كيف يُحمل حال وواقع من كان من عبدة الأوثان والطواغيت، وممن يجحدون شهادة التوحيد، ولم يعرفوا الصلاة لله عز وجل ولا طعم الإيمان قط، على من أقر بالتوحيد، وأقام الصلاة، ولم يُعرف عنه ما يُنقض توحيده وإيمانه، كما هو حال المسلمين في مجتمعاتهم في هذا الزمان؟!
لذا فالاستدلال في واد، والمسألة المستدل عليها في وادٍ آخر ومختلف!
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (ما أعرفُ منكم شيئاً كنت أعهدهُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ليس قولكم لا إله إلا الله!)، قلنا: بلى يا أبا حمزة؛ الصلاة؟ فقال: (قد صليتم حين تغرب الشمس، أفكانت تلك صلاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!).
وعن الحسن البصري قال: (لو أنَّ رجلاً أدرك السلف الأول، ثم بُعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً إلا هذه الصلاة)!
وعن ميمون بن مهران قال: (لو أنَّ رجلاً أُنشر فيكم من السلف، ما عرف فيكم غير هذه القبلة)!
وعن أم الدرداء قالت: (دخل عليَّ أبو الدرداء رضي الله عنه وهو غضبان، فقلت له: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم من أمرِ محمدٍ شيئاً إلا أنهم يُصلون جميعاً)!
وعن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن حبان بن أبي جبلة، عن أبي الدرداء قال: (لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم اليوم، ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابُه إلا الصلاة)! قال الأوزاعي: (فكيف لو كان اليوم؟!)، قال عيسى: (فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟!).
قلت: رغم هذا الواقع المرير الذي ينقله الصحابة والتابعون لهم بإحسان عن مجتمعاتهم التي كانوا يعيشون فيها، وعن غربة الدين في تلك المجتمعات، إلا أنهم لم يكونوا يصفون تلك المجتمعات بالكفر، وأن من فيها كفار مرتدون لا بد من أن يُدعوا من جديد إلى الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، وأن من لا يقول بهذا القول أو يعتقد به؛ فهو كافر مرتد، فهذا لم يفعله الصحابة ولا التابعون، وحاشاهم أن يفعلوا ذلك!
قولهم: (وكذلك في عهد مسيلمة الكذاب من كان تحت حكمه فهو في دار الكفر وكل شخص هناك حكمه الكفر حتى يُظهر إسلامه بكفره بالطاغوت مسيلمة والإيمان بالله، ويستدلون بقصة خالد بن الوليد رضي الله عنه مع مُجاعة في ذلك الوقت،حيث لم يعترف خالد بإسلامه لمّا أمسكه لأنه لم ينكر على الطاغوت...).
أقول: كل من كان تحت حكم مسيلمة الكذاب وسلطانه، وتابعه على كفره وكذبه وتكذيبه فهو كافر مرتد، وليس كل من كان تحت حكمه وفي سلطانه كذلك، إذ كان فيهم المكره والمستضعف، والمعتزل لمسيلمة وكفره المظهر لدينه وتوحيده، وهؤلاء لهم حكم آخر.
وخالد أنكر على مجاعة لكونه؛ كان من أعز أهل اليمامة، ولم يبد عذراً، ولم يرسل له رسولاً يخبره إن كان خائفاً من قومه ومن مسيلمة أم لا، مما دل أن خالد بن الوليد رضي الله عنه كان يقيل عثرة من كان هذا وصفه، ومع ذلك فخالد رضي الله عنه لم يحكم بردة مجاعة وعفا عنه، وقال له: (قد عفوت عن دمك، ولكن في نفسي حرج من تركك)، لما رأى من صدق لهجته!
فإن عُلم ذلك، هل المسلمون في زماننا ممن يشهدون شهادة التوحيد ويقيمون الصلاة، ولم يُعرف عنه ما يُخرجهم من الملة، هم كمن آمن بمسيلمة الكذاب وبنبوته، وكذب محمداً صلى الله عليه وسلم؟!
فإن كان الجواب: لا - وهو كذلك - عُلم أن الاستدلال في واد وأن المسألة المستدل عليها في وادٍ آخر ومختلف.(5/163)
ويُمكن أن يُقال كذلك: كان في عهد خالد بن الوليد توجد الدولة الإسلامية والأرض الإسلامية التي يُمكن اللجوء والهجرة إليها، والتي بها يتمايز الصفان، فهل في زماننا توجد الأرض أو الدولة الإسلامية التي نحمل الناس على الهجرة إليها ليتمايز أتباع الطاغوت وجنده ممن سواهم؟!
فإن قيل: لا... لا يوجد، أقول: إذاً لا تحمل هذا على ذاك ولا تقس عليه!
قولهم: (وعندهم الدخول في الإسلام لا يكون بقول لا إله إلا الله فقط، ويردّون على قصة أسامة رضي الله عنه لمّا قتل الرجل، بأن ذمّ النبي صلى الله عليه وسلم له ما كان لأن أسامة قتل مسلماً بعد أن قال كلمة التوحيد، ولو كان الأمر كذلك لأقيم على أسامة الحد، ولمّا لم يحدث ذلك، فهمنا أن الرجل المقتول لم يدخل في الإسلام بنطقه كلمة التوحيد، وأن الذمّ لأسامة كان على شيء آخر وهو التسرّع في القتل مثلاً...).
أقول: حديث أسامة وعدم إقامة حد القتل على أسامة رضي الله عنه؛ لا يعني ولا يُفيد بأن الذي قال لا إله إلا الله لا يدخل الإسلام، وإنما يُفيد أن من قال لا إله إلا الله يدخل الإسلام ويُرفع عنه السيف في أجواء القتال، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة: (كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)، أي جاءت تُحاججك وتتشفع لصاحبها وتُجادل عنه، وهي لا تتشفع إلا لمسلم موحد، ولا تُجادل إلا عن مسلم موحد!
فإن قيل: لماذا إذاً لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم حد القتل على أسامة؟!
أقول: الذي أقال عثرة أسامة رضي الله عنه أنه كان متأولاً، لا يعلم أن من قال لا إله إلا الله في أجواء القتال ترفع عنه السيف؛ لاحتمال أن يكون متعوذاً قد قالها تقية وفرقاً من القتل لينجو، فلأجل ذلك أقال النبي صلى الله عليه وسلم عثرته بعد أن زجره ذلك الزجر البليغ، حتى أن أسامة رضي الله عنه - لشدة ما أغلظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليه سوء صنيعه - قال: (حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم)!
مما يدل على ذلك حديث المقداد بن الأسود - فالسنة تفسر بعضها بعضاً - قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتله)، قال: فقلت يا رسول الله إنه قد قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) [متفق عليه].
قال النووي في "الشرح" [2/106]: ("فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال"؛ فأحسن ما قيل فيه وأظهره ما قاله الإمام الشافعي، وابن القصار المالكي وغيرهما، أن معناه فإنه معصوم الدم محرم قتله بعد قوله لا إله إلا الله كما كنت أنت قبل أن تقتله، وإنك بعد قتله غير معصوم الدم ولا محرم القتل كما كان هو قبل قوله لا إله إلا الله) اهـ.
قلت: كونه معصوم الدم يعني أنه مسلم، وأن قوله أسلمت لله أو لا إله إلا الله قد نفعه وعصم دمه وماله كأي مسلم آخر، والذي جعل الصحابي غير معصوم الدم - لو قتله - هو أن الحجة الشرعية التي تُحرم قتل من كان هذا وصفه قد بلغته، فلم يعد يُعذر بالجهل ولا بالتأويل.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم له في المرة الثانية: (فإن قتلته، إنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال).
بينما أسامة رضي الله عنه لم تكن الحجة الشرعية قد بلغته فيما قد خالف فيه مجتهداً، فعُذر بالجهل والتأويل، والله تعالى أعلم.
أما قولهم: (وأيضاً يقولون إن اليهود كانوا يقولون لا إله إلا الله فلم تنفعهم ولم يدخلوا بها الإسلام حتى يخرجوا من كفرهم الذي وقعوا فيه...).
أقول: ليس الأمر كذلك، وإنما الذي حصل أن طائفة من اليهود اتفقوا فيما بينهم على أن يُظهروا الإيمان والصلاة أول النهار، ويُظهروا الكفر والارتداد آخره، ليجرئوا الناس على الردة ويصدوهم عن سبيل الله، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
قال ابن كثير في التفسير: (ليقول الجهلة من الناس: إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب من دين المسلمين).
ولما أنزل الله تعالى حكم وحد الردة؛ توقفوا عن هذا المكر والكيد، لكن أين الدليل مما تقدم على أن من قال لا إله إلا الله لا تنفعه ولا تدخله الإسلام، فالآية تتكلم عن قوم يُظهرون الإيمان والتوحيد في أول النهار وفي آخره يُظهرون الكفر والردة، والمسألة المستدل عليها، قوم أظهروا شهادة التوحيد وأقاموا الصلاة، ولم يُظهروا ضده من الكفر والشرك والردة؟!
وبالتالي فالدليل المذكور في واد، والمسألة المختلف عليها في وادٍ آخر ومختلف، لا يحمل هذا على ذاك إلا جاهل من ذوي الجهل المركب.(5/164)
أما سؤالك عن كتابي "الطاغوت"، وكتاب المدعو "ضياء الدين القدسي"، والمسمى "الكفر بالطاغوت ركن التوحيد" وزعم أنه من تأليفه ووضع اسمه عليه!
أقول: قد قمت بفتح رابط الموقع الذي ذكرته في سؤالك، ووقفت على الكتاب المذكور، والمسمى "الكفر بالطاغوت ركن التوحيد"، واحتفظت بنسخة منه في جهازي، فوجدت أن الكتاب من أوله إلى آخره هو كتابي، وهو عبارة عن نسخة ثانية من كتابي "الطاغوت"، مع وجود بعض الكلمات القليلات المتفرقات في ثنايا الكتاب ليست لي، لكن لا تمنع من وصف الكتاب أنه من أوله إلى أخره بحرفه ونصه هو لي!
كتاب "الطاغوت" انتهيت من كتابته في الرابع من شهر رمضان/سنة 1416 هـ، كما هو مثبت في الطبعة التي قامت بطباعتها ونشرها "دار البيارق"، والرجل لدهائه لم يذكر تاريخاً قط في كتابه، حتى لا يُعرف الأول من الآخر، لكنه أخطأ عندما ذكر كتابي "الطاغوت" كمرجع لكتابه في جملة قائمة المراجع؛ مما يدل أن كتابي كتب وطُبع قبل كتابه المزعوم والمسروق!
كنت أظن أن هناك من يسرق مقالاً أو صفحة أو فقرة لكاتب آخر، فينسبها لنفسه تشبعاً بما لم يُعط وبما ليس فيه، أما أن يسرق كتاباً بكامله من أوله إلى آخره ويضع اسمه عليه بدلاً من اسم صاحبه ومؤلفه، وصاحبه لا يزال حياً يُرزق؛ فهذه جرأة لم أتوقعها، ولا يُقدم عليها إلا لص محترف، لا يستحي من الله، ولا من عباده!
والسؤال الذي نوجهه لـ "ضياء الدين القدسي"؛ كيف تُلزم الناس باعتقادك المنحرف، وأن يأخذوا منك الدين، ومن لا يُتابعك على باطلك وجهلك فهو كافر، ثم في نفس الوقت أنت سارق كاذب، مجروح العدالة، تتشبع بما لم تُعط، وبما ليس فيك، وقد قامت عليك البينة القاطعة في ذلك، ألا تخاف الله؟!
خذ ما تشاء، واسرق ما تشاء، وتشبَّع بما تشاء، فعند الله الملتقى، يوم تُسترد الحقوق حسنات، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
=============
ما هي "بلاد الحرب"؟
[الكاتب: محمد رشيد رضا]
متى يُدعى الأجنبي وأمته؛ "أمة محاربة"، بعرف الشرع؟
وما هي "بلاد الحرب"؟
* * *
الجواب:
دار الحرب؛ مقابلة لدار الإسلام التي تكون فيها الحكومة الإسلامية التي تقيم أحكام الإسلام.
فكل أمة أجنبية لا تعقد حكومتها مع الحكومة الإسلامية معاهدة على السلام والأمان وعدم الاعتداء؛ تكون أمة محاربة، وتكون دارها دار حرب، لأن الحرب فيها عرضة للوقوع في كل وقت، إذ لا عهد يمنعها.
وللفقهاء تعريف لهما لوحظ فيهما جريان الأحكام من الجانبين.
عقد العلامة ابن مفلح الفقيه الحنبلي فصلاً وجيزًا لهذه المسألة في كتابه "الآداب الشرعية"، قال فيه ما نصه [ج1/ص231]: (فكل دار غلب عليها أحكام المسلمين فدار الإسلام، وإن غلب عليها أحكام الكفار فدار الكفر ولا دار لغيرهما).
وقال الشيخ تقي الدين - وسئل عن ماردين؛ هل هي دار حرب أو دار إسلام؟ - قال: (هي مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار الإسلام التي يجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث، يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويعامل الخارج عن شريعة الإٍسلام بما يستحقه، والأول هو الذي ذكره القاضي والأصحاب، والله أعلم).
وقال في "كشاف اصطلاحات الفنون": (ودار الإسلام عندهم؛ ما يجري فيه حكم إمام المسلمين من البلاد، ودار الحرب عندهم؛ ما يجري فيه أمر رئيس الكفار - كلمة الكفار؛ تشمل في الاصطلاح الشرعي غير المسلمين من كتابيين ووثنيين ومعطلة - من البلاد كما في "الكافي".
وفي "الزاهدي"؛ أن دار الإسلام ما غلب فيه المسلمون وكانوا فيه آمنين، ودار الحرب ما خافوا فيه من الكافرين، ولا خلاف في أنه يصير دار الحرب دار إسلام؛ بإجراء بعض أحكام الإسلام فيها.
وأما صيرورتها دار الحرب - نعوذ بالله - فعنده بشروط:
أحدها: إجراء أحكام الكفر اشتهارًا بأن يحكم الحاكم، ولا يرجعون إلى قضاة المسلمين، ولا يحكم بحكم من أحكام الإسلام، كما يأتي في الحرة.
وثانيها: الاتصال بدار الحرب، بحيث لا تكون بينهما بلدة من بلاد الإسلام يلحقهم المدد منها.
وثالثها: زوال الأمان الأول، أي لم يبق مسلم ولا ذمي آمنًا إلا بأمن الكفار - أي غير المسلمين - ولم يبق الأمان الذي كان للمسلم بإسلامه وللذمي بعقد الذمة قبل استيلاء الكفرة.
وعندهما؛ لا يشترط إلا الشرط الأول).
وهو يعني بقوله: (فعنده)؛ الإمام أبا حنيفة، وبقوله: (وعندهما)؛ أبا يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ولفقهاء المذاهب أقوال أخرى في دار الإسلام ودار الحرب وأحكامها.
والأصل فيها؛ أن دار الإسلام ما كان أهلها من المسلمين وغيرهم آمنين بسلطان الإسلام وحكمه العدل، وجارية فيهم أحكامه.
ودار الحرب؛ ما كان أمانها وأحكامها بسلطان غير المسلمين وغير أحكام الإسلام - سواء كانت بينهم حرب أم لا - فيدخل في دار الحرب ما كان حكامها من المعاهدين المسالمين.(5/165)
ولهذه المسألة فروع مشكلة في هذا، فإنَّ بعض البلاد التي تسمى حكوماتها إسلامية؛ لا تجرى فيها الأحكام الإٍسلامية من حيث هي إسلامية، بل لها تشريع وضعي مخالف للشرع الإٍسلامي، يُسمى باسم البلد أو القطر، ويُسمى رئيس حكوماتها؛ شارعًا، وتنفيذ الأحكام باسمه، بمعنى أنه هو الشارع والمنفذ لها بسلطانه واسمه، لا بحكم الله واسمه، ولا نخوض في بسط هذه المسائل.
مجلة المنار؛ العدد 2
ربيع الآخر/1354 هـ
==============
أنواع الديار وأحكامها
ما هي أنواع الديار؟ وما أحكامها؟
* * *
الجواب:
الحمد لله.
أنواع الديار بشكل عام؛ داران دار إسلام، ودار كفر، وهذا التقسيم مجمع عليه بين علماء الأمة من السلف والخلف.
والدليل على هذا التقسيم كما قال تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}، وقوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}، وأيضاً قوله تعالى: {سأوريكم دار الفاسقين}.
وكما جاء في حديث ابن عباس الطويل في الرجم وفيه أن عبد الرحمن بن عوف قال لعمر بن الخطاب بمنى: (فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة... الحديث) [رواه البخاري: 6830].
ومنها ما رواه النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا من المهاجرين، لأنهم هجروا المشركين، وكان من الأنصار مهاجرون، لأن المدينة كانت دار شرك، فجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة) أهـ.
والأدلة في ذلك كثيرة.
ودار الإسلام:
هي الأرض التي تعلوا فيها كلمة الله ويظهر توحيده وطاعته ويؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر، وتكون الأحكام الغالبة هي أحكام الإسلام، وخاضعة لسلطان المسلمين وحكمهم، حتى وإن كان هنالك دار لأهل الذمة فإنها تسمى دار إسلام لأنها محكومة بالإسلام، وغالبية أحكامها إسلامية.
وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة فتح خيبر؛ بعد أن فتحها عيّن عليها والياً مسلماً يقيم فيهم حكم الله، وأهلها هم اليهود وهم لايزالون على كفرهم.
وقد بوّب البخاري في صحيحه: (باب؛ استعمال النبي صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر).
وقال ابن حزم: (وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم فلا يسمى الساكن فيهم لإمارة عليهم أو لتجارة بينهم كافراً ولا مسيئاً، بل هم مسلم محسن، ودارهم دار إسلام لا دار شرك، لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها والحاكم والمالك لها...).
وإن كان هنالك دار تعلوا فيها كلمة الله ويظهر توحيده وطاعته ويؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر، وتكون الأحكام الغالبة هي أحكام الإسلام، ولكن إن أُعلن بالشرك من غير نكير ولا تغيير، وخاصة إذا كان ممن في يده مقاليد السلطان والحكم أو كان منهم تغيير لبعض قواعد الشريعة بالتبديل والمسخ، مع أنهم يقيمون الصلاة والجماعة ويظهرون شرائع الدين الأخرى، فإنها تسمى دار كفر.
كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن بني عبيد القداح: (... فإنهم ظهروا على رأس المائة والثالثة، فادعى عبيد الله أنه من آل علي من ذرية فاطمة، وتزيا بزي الطاعة والجهاد في سبيل الله، فتبعه أقوام من أهل المغرب وصار له دولة كبيرة في المغرب ولأولاده من بعده، ثم ملكوا مصر والشام وأظهروا شرائع الإسلام وإقامة الجمعة والجماعة ونصبوا القضاة والمفتين، لكن أظهروا أشياء من الشرك ومخالفة الشرع، وظهر منهم ما يدل على نفاقهم، فأجمع أهل العلم على أنهم كفار وأن دارهم دار حرب، مع إظهارهم شعائر الإسلام وشرائعه...).
ودار الكفر:
هي الدار التي فيها الغلبة لأحكام الكفر وسلطانه.
وقال القاضي أبو يعلى: (وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام؛ فهي دار كفر).
وتنقسم دار الكفر إلى قسمين:
دار حرب:
وهى التي ليس بينها وبين دار الإسلام صلح أو هدنة، ولا يشترط قيام الحرب فعليا لصحة هذه التسمية، بل يكفي عدم وجود صلح كما ذكرنا، بما يعني أنه يجوز للمسلمين قتال أهل هذه الديار وقتما شاءوا، ومن هنا سميت دار حرب.
ومن أحكام دار الحرب؛ سبى ذراريهم, وتغنم أموالهم، ويجب الهجرة منها، سقوط وجوب المَحْرَم لسفر المرأة المهاجرة من دار الكفر، وإذا أسلم بعض عبيد الكفار وهاجروا صاروا أحراراً ويملكون ما خرجوا به من أموال أهل الحرب... وغيرها من الأحكام المعروفة التي لا يتسع المقام في الشروع فيها.
==== =========
دار عهد:
وهى التي بينها وبين دار الإسلام موادعة وصلح وهدنة، وتسمى أيضاً دار كفر ولا تأخذ أحكام دار الكفر.(5/166)
ولا تجوز موادعة الكفار على الصلح وترك الحرب إلا بالنظر إلى مصلحة المسلمين، كأن يكون بهم ضعف، لقوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) محمد 35، وذلك لأن الله فرض علينا قتال الكفار حتى يكون الدين كله لله، لم يفرض علينا مسالمتهم ومصالحتهم إلا عند حاجتنا لذلك، قال تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، وقال تعالى: {وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله} [انظر المغني مع الشرح الكبير: 10/517، والسير الكبير، لمحمد بن الحسن: 5/1689].
ولا يجوز عقد الهدنة إلا من إمام المسلمين أو من يُنيبه.
ونظراً لغياب هذا الإمام في زماننا هذا فلا اعتبار لأي معاهدات دولية يعقدها الحكام الكافرون، لصدورها ممن ليست لهم ولاية شرعية على المسلمين، فوجودها كعدمها، إذ المعدوم حكماً كالمعدوم حقيقة.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى القول بقسم ثالث من أقسام الديار وهي الدار المركبة.
والدار مركبة:
هي الدار التي يسكنها المسلمون، ولكن حكموها الكفار.
مثل بلدة "ماردين" في زمن شيخ الأسلام ابن تيميه عندما احتلوها التتار، وهي بلدة أهلها مسلمون، أو سلطانها أرتد وأظهر الشركيات والكفريات، كحال بلاد المسلمين في وقتنا الحالي.
وعندما سئل شيخ الإسلام عن بلد "ماردين" التي أهل مسلمون واحتلها التتار؟ فقال: (وأما كونها دار حرب أو سلم؛ فهي مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث، يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه) اهـ.
قال الشيخ سليمان بن سحمان:
ولم تجر للكفار أحكام دينهم ... ... على أهلها لكن بها الكفر قد حصل
وما كان فيها الجانبان على السوى ... ... فقال تقي الدين في ذلك المحل
يُعامل فيها المسلمون بحقهم ... ... وذا الكفر ما قد يستحق من العمل
فلا تُعط حكم الكفر من كل جانب ... ... ولا الحكم بالإسلام في قول من عَدَلِ
ودماء المسلمين وأموالهم محرّمة في هذا الدار المركبة، ويجب الابتعاد عن الأهداف الذي يكون قريب منها المسلمون، ولا يجوز للمسلمين في هذه الدار مساعدة العدو بأموالهم وأنفسهم، سواء كان عدواً من المشركين الأصليين أو من المرتدين، كحال بلاد الإسلام الذي يحكمها المرتدون وأظهروا الشركيات وكفروا بما أُنزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا والله أعلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبه؛ الشيخ عبد الله بن سعد الفهد
مجلة صوت الجهاد، العدد 30، محرم/1428 هـ
==============
أحكام تتعلق بزوجة الغائب والمفقود
تاريخ 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
السلام عليكم تحية طيبة وبعد : رجل تزوج قبل 3 سنوات وبعد شهر من الزواج سافرإلى أمريكا اللاتينية وانقطعت أخباره طول هذه المدة ويئس الأهل من رجوعه ومن المتوقع أنه مات ولكن الشيء الذي حدث أن أخ المفقود قد تزوج امرأة المفقود فهل يصح في الإسلام مثل هذا الزواج ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا غاب الرجل من امرأته لم يخل من حالين :
أحدهما : أن تكون غيبته غيبة غير منقطعة ، يعرف خبره ، ويمكن الاتصال به ، فهذا ليس لامرأته أن تتزوج بإجماع أهل العلم ، إلا أن يتعذر الإنفاق عليها من ماله فلها أن تطلب من القاضي فسخ النكاح ، فيفسخ نكاحه.
الحال الثاني : أن يفقد وينقطع خبره ، ولا يعلم له موضع ، فهل لزوجته أن تتزوج من غيره ؟ اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال:
1 - مذهب الحنفية والشافعية وهو القول الجديد للشافعي :
أن امرأة المفقود لا تتزوج حتى يتبين موته أو فراقه لها ، وحجتهم من ذلك ما روى المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "امرأة المفقود امرأته حتى يأتي زوجها ".
وروى الحاكم وحماد عن علي : " لا تتزوج امرأة المفقود حتى يأتي موته أو طلاقه ".
2 - مذهب الحنابلة : والمعتمد عندهم التفصيل في غيبته :
أ - فإن كانت غيبته ظاهرها الهلاك كالذي يفقد بين أهله ليلاً أو نهاراً ، أو يخرج إلى الصلاة فلا يرجع أو يمضي إلى مكان قريب ليقضي حاجته ويرجع ، فلا يظهر له خبر ، أو يفقد بين الصفين في القتال ، أو ينكسر بهم مركب بحري فيغرق بعض رفقته ، أو يفقد في مهلكة كبرية موحشة ، فتتربص زوجته أربع سنين ، ثم تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً ، وتحل بعدها للأزواج ، ولا يتوقف ذلك على حكم حاكم ولا إلى طلاق ولي زوجها ، بل متى مضت المدة والعدة حلت للأزواج .
ولهم تفصيل فيما إذا عاد الزوج المفقود .
ومستندهم في ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه ، أنه جاءته امرأة فقد زوجها ، فقال: تربصي أربع سنين ، ففعلت ، ثم أتته فقال : تربصي أربعة أشهر وعشراً ، ففعلت ، ثم أتته فقال : أين ولي هذا الرجل؟ فجاؤوا به ، فقال: طلقها ، ففعل ، فقال عمر: تزوجي من شئت . رواه الأثرم والجوزجاني والدارقطني .
ويروى هذا أيضاً عن عثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير . قال أحمد : خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو القول القديم للشافعي .(5/167)
ب : وإن كانت غيبته ظاهرها السلامة كسفر التجارة في غير مهلكة ، والسفر لطلب العلم أو للسياحة ، فالمذهب أنها تتربص تسعين عاماً من يوم ولد ، ثم تعتد ، ثم تحل للأزواج.
3 - مذهب المالكية : والمفقود عندهم إما أن يكون مفقوداً :
1 - في دار الإسلام
2 - أو في بلاد الكفر
3 - أو بين الصفين في قتال بين المسلمين
4 - أو بين الصفين في قتال بين المسلمين والكفار
فالمفقود في بلاد الإسلام يؤجل له أربع سنين بعد البحث عنه والعجز عن خبره ، ثم تعتد زوجته .
والمفقود بأرض الشرك كالأسير، وحكمهما أن تبقى زوجتاهما لانتهاء مدة التعمير وهي سبعون سنة على الراجح .
والمفقود في الفتن بين المسلمين تعتد زوجته بعد انفصال الصفين.
والمفقود في القتال بين المسلمين والكفار يؤجل سنة بعد النظر والكشف عنه ثم تعتد زوجته .
وقالوا :
إن زوجة المفقود في بلاد الكفر تبقى إلى التعمير وهو بلوغ زوجها سبعين سنة بشرط دوام النفقة ، فإن لم تجد نفقة فلها طلب الطلاق ، وكذا لو خشيت الزنا .
وبعد العرض لأقوال المذاهب المتبعة ، فالحاصل أن زواج المرأة قبل مضي أربع سنين - على فرض أن غيبة الزوج ظاهرها الهلاك - لا يصح ، ويجب فسخ هذا النكاح عند الحنابلة ، وكذلك عند المالكية ، فيما إذا كان فقده في بلاد الإسلام .
ولهذا نقول : ما أقدمت عليه المرأة من الزواج بأخي زوجها بعد ثلاث سنوات منكر ظاهر ، ويلزمها فسخ هذا النكاح ، والرجوع في ذلك إلى المحكمة الشرعية في بلدهما .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
شرع الله مصدر حقوق الإنسان عندنا، لا شرع الأمم المتحدة.
تاريخ 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
السلام عليكم واجهني أستاذ في التاريخ بهذا الادعاء أن الإسلام يقر بحقوق المسلم و الذمي وأن لا وجود لمفهوم حقوق الإنسان المتعارف عليها في الأنظمة الغربية حاليا ولما أعرفه من تعنت هذا الأستاذ أود أن تشيروا علي جزاكم الله خيرا بمراجع أفحم بها المتطاولين على دين الله وأدعوا لكم بالتوفيق والأجر الوفير و الثواب العظيم من الله عز و جل
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد:
جزاك الله خيراً على حرصك على الدفاع عن دين الله تعالى والردّ على المتطاولين على الإسلام.
واعلم - رحمك الله - أن التدافع بين الحق والباطل سنة كونية من سنن الله لا تتوقف إلاّ حين يرث الله الأرض ومن عليها ، ولن يهدأ أصحاب هذه الدعاوى الباطلة ويوقفوا اتهاماتهم للإسلام إلاّ إذا ترك المسلمون دينهم ومضوا وراءهم تاركين شرع الله ، قال تعالى: ( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ). [ البقرة : 120].
ولقد أقر الله تعالى حقوق الإنسان في شريعة الإسلام الغراء على نحو يحفظ للآدمي آدميته ويصون له كرامته بما لا يتنافى مع الفطرة السليمة والشرع القويم . وأما الحقوق المتعارف عليها في الأنظمة الغربية ، فإن بعضها موجود لدينا - والحمد لله - والبعض الآخر مما ينافي الفطر السليمة كإباحة اللواط والزنى وشرب الخمر ونحو ذلك من الفواحش بدعوى الحرية الشخصية وحقوق الإنسان ، فهذا لا يقره شرع ولا دين ، وإليك بعض المراجع التي تعينك على ما أردت من دفاع عن دين الله تعالى .
1 - حقوق الإنسان بين الشرعية الإسلامية والقانون الدولي .
د. محمد الحسيني مصيلحي / تقديم الشيخ جاد الحق علي شيخ الأزهر - ط. دار النهضة العربية .
2 - حق الإنسان في الأمن بين النظم البشرية ومنهج القرآن الكريم .
د. عبد العظيم خضر - دار الحرمين .
3 - حقوق الأفراد في دار الإسلام .
د. عبد الكريم زيدان - مؤسسة الرسالة .
4 - حقوق الإنسان في نظر الشريعة الإسلامية .
د. عبد السلام الترمانيني .
5 - حقوق الإنسان بين الإسلام والمذاهب المعاصرة .
د. عبد الله المحمود - دار الشروق .
6 - حقوق الإنسان بين القرآن والإعلان .
د. أحمد حافظ نجم - دار الفكر العربي .
7 - حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة .
الشيخ محمد الغزالي - دار الدعوة .
8 - الحقوق في الإسلام - 3 أجزاء - سلسلة ندوات الحوار بين المسلمين .
مؤسسة آل البيت - الأردن .
9 - الفقه السياسي في الإسلام .
د. يوسف القرضاوي - مكتبة وهبة .
10 - وهل بالإسلام حرية للرأي .
عبد السلام البسيوني - الأقصى .
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
إلقاء التحية والسلام على الكافر
تاريخ 16 صفر 1422 / 10-05-2001
السؤال
ما حكم السلام على الكفار
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد اختلف العلماء في السلام على الكافر ابتداءً، وفي رد السلام عليه إن سلم هو، فأكثر العلماء من السلف والخلف على تحريم الابتداء ووجوب الرد عليه، فيقول في رده على سلام الكافر: وعليك أو عليكم. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه" رواه مسلم.(5/168)
وذهبت طائفة إلى جواز ابتدائنا لهم بالسلام وكذلك ردنا عليهم، وهو مذهب ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز وهو وجه عند الشافعية، لكن باللفظ المفرد كأن يقول: السلام عليك للواحد، والسلام عليكم للجماعة، بخلاف المسلم فإنه يسلم عليه بلفظ الجمع سواء كان مفرداً أو جماعة.
وذهبت جماعة إلى أنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة، أو لسبب معتبر كمصلحة دينية مرجوة، وهو قول عكرمة والنخعي، وعن الأوزاعي أنه قال: إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون .
والأظهر ـ والله أعلم ـ أن المسلم إذا كان في دار الإسلام فإنه يحرم عليه ابتداؤهم بالسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام.." وغيرهم من الكفار من باب أولى، إلا إذا كان المسلم في دار الكفر بينهم فله أن يسلّم عليهم مبتدئا وراداً، مصانعة لهم ودفعاً للضرر الذي قد يحصل من ترك السلام عليهم، والأولى أن يستعمل كلاما يفيد التحية ، غير لفظ السلام . والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم سفر المرأة بالطائرة دون محرم
تاريخ 29 ذو القعدة 1424 / 22-01-2004
السؤال
أود سؤالكم عن الحديث الشريف التالي :
" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة" رواه البخاري
فهل المقصود بقوله عليه الصلاة و السلام "مسيرة يوم و ليلة" المسافة المقطوعة في يوم و ليلة ، أم أن المقصود هو الزمن "يوم و ليلة " بغض النظر عن المسافة.
و هل الحديث المذكور هو قطعي الدلالة لفظا أم ظني الدلالة لفظاً ؟
و إذا أردت أن أسافر بالطائرة وحدي من دولة مسلمة إلى أخرى مسلمة وكان زوجي في وداعي و سيكون أخي في استقبالي في الدولة الأخرى، فهل أنا من المقصودين في حديثه عليه الصلاة و السلام أم لا؟
و جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالنهي عن سفر المرأة بلا محرم جاء مقيدا بسفرها مسيرة يوم وليلة، كما في الحديث المذكور. وجاء مقيداً في روايات أخر بسفرها ثلاثاً، وفوق ثلاث، ويومين، وليلة، ويوما واحد، وبريداً، وهو مسيرة نصف يوم.
وجاء النهي عن سفرها بلا محرم مطلقاً من غير تحديد مدة السفر. فدل على أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، وقد قرر ذلك الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه على صحيح مسلم في كلام جامع نافع ننقله بلفظه. قال رحمه الله:
( قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم" وفي رواية "فوق ثلاث" وفي رواية "ثلاثة" وفي رواية "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم" وفي رواية "لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها" وفي رواية "نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين" وفي رواية "لا يحل لامرأة مسلمة تسافر ليلة إلا ومعها ذو حرمة منها" وفي رواية "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم".
وفي رواية "مسيرة يوم وليلة" وفي رواية "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم". هذه روايات مسلم.
وفي رواية لأبي داود "ولا تسافر بريدا" والبريد مسيرة نصف يوم. قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين، واختلاف المواطن، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أوالبريد. قال البيهقي: كأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم فقال: لا. وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال: لا. وسئل عن سفرها يوماً فقال: لا. وكذلك البريد. فأدى كل منهم ما سمعه، وما جاء منها مختلفاً عن رواية واحدة فسمعه في مواطن، فروى تارة هذا، وتارة هذا، وكله صحيح، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفراً، فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين، أو يوماً، أو بريداً، أو غير ذلك، لرواية ابن عباس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السابقة: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً. والله أعلم). انتهى من شرح مسلم للنووي.
وحيث صح النهي عن سفر المرأة بلا محرم، لزم امتثاله، ولايتوقف ذلك على كون الحديث قطعي الدلالة، أو ظني الدلالة.
وقد حكي الإجماع على تحريم سفر المرأة بلا محرم، إلا السفر للحج والعمرة ، والخروج من دار الشرك، أو الفرار من الأسر، قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: "واستدلوا به على عدم جواز السفر للمرأة بلا محرم، وهذا إجماع في غير الحج والعمرة، والخروج من دار الشرك".
ونقل النووي عن القاضي عياض قوله: ( واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم، إلا الهجرة من دار الحرب فاتفقوا على أن عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام، وإن لم يكن معها محرم...
قال القاضي عياض: قال الباجي: هذا عندي في الشابة، وأما الكبيرة غير المشتهاة فتسافر في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم.(5/169)
وهذا الذي قاله الباجي لا يوافق عليه، لأن المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة. ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس، وسقطهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها، لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته، وخيانته، ونحو ذلك. والله أعلم) انتهى من شرح النووي.
وعليه فإنه لا يجوز لك السفر بلا محرم من دولة مسلمة إلى أخرى مسلمة حسبما ورد في سؤالك.
ومن تأمل ما في السفر في هذا الزمن من المخاطر، كجلوس المرأة إلى جانب رجل أجنبي عنها ، واضطرار الطائرة للهبوط في دولة أخرى وتأخر موعد رحلتها ونحو ذلك ، من تأمل هذا علم حكمة الشرع في تحريم سفر المرأة بلا محرم ولو كان ذلك بآلة تقطع المسافة في ساعة أو أقل فإن هذه الأحكام شرعها من يعلم حال خلقه وما يصيرون إليه من تطور وتقدم ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم عمل المرأة مضيفة في الطائرة
تاريخ 22 شوال 1421 / 18-01-2001
السؤال
ما حكم عمل الفتاة كمضيفة ضمن الطائرات في شركة خارج بلدها علماً أن الشركة تابعة لبلد إسلامي وتم إخبار الفتاة أن الشركة تعتبر محرماً لها وما حكم الأجور التي تقاضتها تلك الفتاة من هذا العمل؟
أفتونا رحمكم الله
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالذي يظهر أنك على معرفة بوجوب وجود محرم يصحب المرأة أثناء سفرها، وهذا الحكم ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بعدة ألفاظ في الصحيحين وغيرهما، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها حرمة" أي: رجل محرم لها، كما هو مبين في الرواية الأخرى "لا يحل لامرأة مسلمة أن تسافر مسيرة ليلة إلا معها رجل ذو حرمة منها".
وهذا الحديث واضح الدلالة في عدم جواز سفر المرأة بدون محرم لها، قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه على صحيح مسلم: (فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك، لرواية ابن عباس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السابقة "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً. والله أعلم). انتهى.
وقد حُكي الإجماع على تحريم سفر المرأة بلا محرم، إلا السفر للحج والعمرة، والخروج من دار الشرك، أو الفرار من الأسر.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): (واستدلوا به على عدم جواز السفر للمرأة بلا محرم، وهذا إجماع في غير الحج والعمرة، والخروج من دار الشرك).
وقال القاضي عياض (واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم، إلا الهجرة من دار الحرب، فاتفقوا على أن عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام، وإن لمن يكن معها محرم). نقله النووي في شرح مسلم.
أما الحج والعمرة فقد اختلف فيهما العلماء، فمنهم من أوجب وجود المحرم للمرأة، ومنهم من أجاز سفرها مع الرفقة المأمونة.
وعليه فسفرك للرحلات الداخلية أو الخارجية داخل في ما اتفق عليه الفقهاء من المنع من السفر إلا مع وجود المحرم.
ومحرم المرأة هو زوجها أو من يحرم عليه نكاحها تحريماً مؤبداً، كالأب والابن والأخ.
ومن قال إن الشركة تعد محرماً فقد أخطأ خطأ بينا، ولعل مراده أنها رفقة مأمونة، لكن هذا فيمن أرادت الحج أو العمرة ـ كما سبق ـ وليس في كل سفر.
ثم إن ما يخصك ليس هو السفر فقط، بل السفر والإقامة والتنقل، وما يصحب ذلك من مفاسد عظيمة يراها الناس جميعاً من الاختلاط والمصافحة والتبرج، أو التستر بالحجاب الذي لا يعد حجاباً شرعياً كافياً، ولا شك أن في السفر مجرداً مخاطر عدة، ومنها: اضطرار الطائرة للهبوط في دولة أخرى، وتأخر موعد رحلتها ونحو ذلك، مما يؤكد عظمة هذه الشريعة التي منعت المرأة من هذا السفر إلا مع المحرم.
هذا في السفر المجرد، فكيف بالسفر المصحوب بالاختلاط، والتنقل من مكان إلى مكان، إلى فندق ونحوه مع التبرج والسفور... الخ. ولهذا لا يستريب عالم في منع المرأة من هذا العمل، ولو كانت قارَّة في بلدها لا ترحل عنه.
وأما الأجور المترتبة على هذا العمل، فهي أجور محرمة ولا شك، فإن العمل المحرم لا يعقبه راتب حلال.
ولهذا ننصحك بتقوى الله تعالى والخوف من عقابه، والحذر من فتنة الدنيا وزينتها، فإن الدنيا إلى زوال، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، وغدا توفى النفوس ما كسبت، ويحصد الزارعون ما زرعوا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وفقنا الله وإياك لطاعته ومرضاته.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
دار الإسلام ودار الحرب
تاريخ 20 محرم 1422 / 14-04-2001
السؤال
ما معنى دار حرب و دار السلم؟ وهل لبنان يعتبر دار حرب؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(5/170)
فقد عَّرف الفقهاء دار الإسلام ودار الحرب بتعريفات وضوابط متعددة يمكن تلخيصها فيما يلي، دار الإسلام هي: الدار التي تجري فيها الأحكام الإسلامية، وتحكم بسلطان المسلمين، وتكون المنعة والقوة فيها للمسلمين.
ودار الحرب هي: الدار التي تجري فيها أحكام الكفر، أو تعلوها أحكام الكفر، ولا يكون فيها السلطان والمنعة بيد المسلمين.
قال الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: تعتبر الدار دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها، وإن كان جُلُّ أهلها من الكفار.
وتعتبر الدار دار كفر لظهور أحكام الكفر فيها، وإن كان جل أهلها من المسلمين. المبسوط للسرخي 10/144.
وقال الإمام ابن القيم: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم يجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها. أحكام أهل الذمة 1/266.
ويقول الإمام ابن مفلح: فكل دار غلب عليها أحكام المسلمين فدار الإسلام، وإن غلب عليها أحكام الكفر فدار الكفر، ولا دار لغيرهما. الآداب الشرعية 1/213.
إذا عرفت هذا استطعت التمييز بين دولة وأخرى من حيث كونها دار إسلام، أو دار حرب. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم الإقامة في الدول الإسلامية المطبقة للقوانين الوضعية
تاريخ 21 ربيع الأول 1422 / 13-06-2001
السؤال
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فنشكركم على هذه الخدمة التي يستفيد منها الكثير من المشاركيين راجين العلي القدير أن يجعلها في ميزان حسناتكم.
السؤال نحن نعيش في دولة تطبق الدستور أي قوانيين وضعية وضعها أشخاص . ما حكم العيش في هذه الدولة التي لا تطبق الشريعة الاسلامية ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلاشك أن تنحية شريعة الله عن الحكم، وإحلال القوانين الوضعية مكانها من البلاء الذي استشرى في كثير من الدول الإسلامية، فضلاً عن الدول الكافرة - الغربية أو الشرقية - التي لا تحكم شرع الله أصلاً، كما هو معلوم ومعروف لدى الصغير والكبير، ولكن المسلم إذا كان يأمن على نفسه وماله وأهله، ويستطيع إقامة شعائر دينه في بلدة من البلدان، لم تجب عليه الهجرة حينئذ من هذه البلدة، ولو كانت لا تطبق الشريعة الإسلامية، مالم يكن الفساد منتشراً فيها، بحيث يخشى على نفسه وأولاده الوقوع فيه. والأصل في الهجرة أنها - كما قال الإمام ابن قدامة -: الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام. قال تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) الآيات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: "لا تراءا ناراهما" رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ومعناه: لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، وحكم الهجرة باق، لا ينقطع إلى يوم القيامة في قول عامة أهل العلم....). ثم قال: (إذا ثبت هذا، فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: أحدهما: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، أو لا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة، لقول الله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً) [النساء: 97].
وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه، لقول الله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً)، ولا توصف باستحباب لأنها غير مقدور عليها.
والثالث: من تستحب له، ولا تجب عليه، وهو: من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إقامة دينه،وإظهاره في دار الكفر، فتستحب له لتكثير المسلمين، ومعونتهم، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة، وقد كان العباس عمّ النبي صلى الله عليه وسلم مقيماً بمكة مع إسلامه، وروي أن نعيماً النحام، حين أراد أن يهاجر جاء قومه بنو عدي، فقالوا له: أقم عندنا وأنت على دينك، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا، وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم، فتخلف عن الهجرة مدة، ثم هاجر بعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قومك كانوا خيراً لك من قومي لي، قومي أخرجوني وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك"، فقال: يا رسول الله، بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله، وجهاد عدوه، وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله، أو نحو هذا القول). انتهى.
انظر: المغني لابن قدامة (10/513) مع الشرح الكبير.(5/171)
وعلى هذا، فلا تجب عليك الهجرة إلا إذا كنت لا تتمكن من إقامة شعائر دينك، أو كنت لا تأمن على نفسك وعرضك ومالك، وحيث أمكنك أن تهاجر إلى بلد آخر تتمكن فيه من المحافظة على ذلك.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
نقل زكاة المال إلى بلد آخر... رؤية شرعية
تاريخ 23 شوال 1422 / 08-01-2002
السؤال
1-هل يجوز نقل زكاة المال إلى بلد مسلم فيه قريب فقير لا يعمل؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالأصل المتفق عليه هو أن الزكاة تفرق في بلد المال الذي وجبت فيه.
واتفق الفقهاء على أن أهل البلد إذا استغنوا عن الزكاة -كلها أو بعضها- لانعدام الأصناف المستحقة أو لقلة عدد أصحابها، وكثرة مال الزكاة، جاز نقلها إلى غيرهم.
وقال أكثر العلماء بالإجزاء، وسقوط الوجوب عمن نقلها ولم يكن أهل البلد قد استغنوا عنها وحكاه بعضهم إجماعاً، قال القاري في شرح المشكاة نقلا عن الطيبي: "واتفقوا على أنه إذا نقلت وأديت يسقط الفرض، إلا عمر بن عبد العزير فإنه رد صدقة نقلت من خراسان إلى الشام إلى مكانها، قال القاري: (وفيه، أن فعله هذا لا يدل على مخالفته للإجماع، بل فعله إظهاراً لكمال العدل، وقطعاً للأطماع)ا.هـ
والصحيح أن في المسالة خلاف، فالمعتمد عند الشافعية ورواية عند الحنابلة عدم الإجزاء، وسقوط الواجب عمن نقلها مع وجود مستحقيها.
واختلف أهل العلم هل يأثم من نقلها دون داع إلى النقل أم لا؟ فذهب الشافعية والحنابلة إلى تأثيمه وذهب الحنفية إلى عدم تأثيمه، وقالوا: (يكره نقلها، إلا أن ينقلها إلى قرابة محتاجين لما في ذلك من صلة الرحم، أو إلى فرد أو جماعة هم أمس حاجة من أهل بلده، أو كان نقلها أصلح للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام، لأن فقراء المسلمين الذين في دار الإسلام أفضل وأولى بالمعونة من فقراء دار الحرب، أو إلى عالم أو طالب علم لما فيه من إعانته على رسالته، أو كان نقلها إلى من هو أورع أو أصلح أو أنفع للمسلمين، أو كانت الزكاة معجلة قبل تمام الحول، فإنه في هذه الصور جميعها لا يكره له النقل)ا.هـ
وهذا هو الراجح، واختاره شيخ الإسلام فقال: (تحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي، ويجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية) وكلام شيخ الإسلام فيه رد على معتمد مذهب الحنابلة وكذا المالكية فإن مذهبهم أنه يجب تفرقة الزكاة بموضع الوجوب أو قربه، وهو ما دون مسافة القصر، لأنه في حكم موضع الوجوب وخلاصة مذهبهم في نقل الزكاة هو أنهم قالوا: (إن لم يكن بمحل الوجوب. أو قربه مستحق فإنها تنقل كلها وجوباً لمحل فيه مستحق ولو على مسافة قصر، وإن كان في محل الوجوب أو قربه مستحق تعين تفرقتها في محل الوجوب أو قربه، ولا يجوز نقلها لمسافة القصر، إلا أن يكون المنقول إليهم أعدم -أحوج وأفقر- فيندب نقل أكثرها لهم، فإن نقلها كلها أو فرقها كلها بمحل الوجوب أجزأت، فأما إن نقلها إلى غير أعدم وأحوج فذلك له صورتان:
الأولى: أن ينقلها إلى مساو في الحاجة لمن هو في موضع الوجوب فهذا لا يجوز، وتجزئ الزكاة أي ليس عليه إعادتها.
الثانية: أن ينقلها إلى من هو أقل حاجة ففيها قولان:
الأول: ما نص عليه خليل في مختصره أنها لا تجزئ.
الثاني: ما نقله ابن رشد وصاحب الكافي وهو الإجزاء لأنها لم تخرج عن مصارفها، ولمزيد الفائدة يمكن للأخ السائل وغيره أن يراجع فقه الزكاة للشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "انقطعت الهجرة"
تاريخ 12 ذو القعدة 1422 / 26-01-2002
السؤال
1-قال الرسول صلى الله عليه و سلم:الزموا مساكنكم فقد انقطعت الهجرة........ما معنى الحديث وما مدى صحته..و السلام عليكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن هذا اللفظ لم نطلع عليه، وإنما اطلعنا على ما في سنن النسائي ومسند الإمام أحمد وهو أن يعلى بن أمية قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أمية يوم الفتح، فقلت: يا رسول الله، بايع أبي على الهجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبايعه على الجهاد، وقد انقطعت الهجرة" ومعنى الحديث: أن الهجرة من مكة قد انقطعت لصيرورتها بعد الفتح دار إسلام، وهذا المعنى وهو انقطاع الهجرة من مكة جاء في صحيح البخاري من قول عائشة رضي الله عنها: انقطعت الهجرة من فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة.
وأما الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن المكان الذي يرى فيه المنكر ولا يستطيع تغييره، ويخشى من الوقوع فيه، إلى مكان سالم من ذلك، فهي واجبة على الدوام.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
تفسير قوله تعالى ( إنما جزاء الذين يحاربون الله...)
تاريخ 12 ذو القعدة 1422 / 26-01-2002
السؤال
ما معنى قول الله تعالى:(5/172)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة:33)
الفتوى
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمقصود بقوله تعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة:33] هم المحاربون، من الحرابة وتسمى قطع الطريق عند أكثر الفقهاء، وهي: البروز لأخذ مال أو للقتل أو الإرعاب على سبيل المجاهرة مكابرة اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث، زاد المالكية محاربة الاعتداء على العرض مغالبة. أهـ انظر الموسوعة الفقهية 17/153 وقد اختلف العلماء في العقوبة المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة:33] هل هو على الترتيب أم على التخيير؟
1- فذهب الجمهور إلى أنها على الترتيب، وأن لكل عقوبة ما يقابلها من العمل، على تفاصيل لهم في ذلك.
2- وذهب الإمام مالك وغيره إلى أنها على التخيير، بمعنى أن الإمام مخير في عقوبة المحارب بين العقوبات السابقة، فيعاقبه بما يراه مناسباً:
والعقوبات هي:
1- القتل، ومعناه واضح.
2- والصلب، وهو التعليق على خشبة ونحوها
3- وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف: وهو قطع اليد مع الرجل التي تخالفها، فاليمنى مع اليسرى، واليسرى مع اليمنى، وهذا يعني أنه إذا ضبط المحارب قبل أن يتوب فإنه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، فإن ضبط مرة أخرى قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى.
4- والنفي من الأرض للعلماء فيه أقول:
فقال بعضهم:
1- هو التغريب عن البلاد.
2- وقال بعضهم: هو أن يطلب حتى يخرج من دار الإسلام
3- وقال بعضهم: هو السجن.
أما بقية الآية فمعناها واضح.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
حكم الربا في دار الكفر كحكمه في دار الإسلام
تاريخ 26 ذو القعدة 1422 / 09-02-2002
السؤال
سؤالي عن شراء البيت في كنداً لأني أسكن هناك والطريقة المتبعة عندنا هي طريقة ربوية، بعض المسلمين يقولون شراء البيت عن طريق البنوك الربوية يجوز لأننا لا نسكن في بلد إسلامي كما أفتى عدد من الباحثين بذلك لعدم وجود خيار آخر، أنا أريد أن آخذ منك المشورة في هذا الصدد.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فحكم الربا في دار الكفر كحكمه في دار الإسلام سواء، هذا مذهب جماهير العلماء: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة.
ودليلهم على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة القاضية بتحريم الربا مع عدم التفريق بين دار الحرب ودار الإسلام، ولا بين تعامل المسلم مع مسلم أو مع كافر، وأما عن حكم الاقتراض بالفائدة الربوية لبناء مسكن فقد تقدمت الإجابة عنه في الجواب رقم:
1297
واعلم أن شراء السكن ليس ضرورة، ما دام يمكن دفع هذه الحاجة أو الضرورة بالاستئجار.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الرد على من أنكر الزنا بزعمه أن القرآن لم يحرمه
تاريخ 14 محرم 1423 / 28-03-2002
السؤال
لماذا لم ترد آية بتحريم الزنا ؟ لأن أكثر الآيات كلها نهي . ثم على أي أساس يرجم الزاني المحصن حتى الموت ؟ لا يوجد آية في القران تقر بذلك ؟ فيدوني جزاكم الله خيراً . لا مانع من نشر السؤال والإجابة عليه .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(5/173)
فإن من أعظم الفتن تحويل الأمور القطعية إلى أمور محتملة، وجعل الأمور المجمع عليها أمورًا مختلفًا فيها، وهذا يصدق على تحريم الزنا الذي أجمعت عليه الأمة الإسلامية جيلاً بعد جيل . وأصبح معلومًا من دين الإسلام بالضرورة، بحيث لا يستطيع المسلم دفعه عن نفسه، كوجوب الصلاة والزكاة، وكحرمة الخمر والربا. ومن الخطر أن ننقاد غافلين للهدامين الذين يريدون أن يجعلوا كل شيء في الدين - حتى الأصول والضروريات - محل بحث وجدال، وقيل وقال. وقد أجمع العلماء على أن من أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، ولم يكن حديث عهد بالإسلام، ولا ناشئًا ببادية أو ببلد بعيد عن دار الإسلام: فإنه يكفر بذلك ويمرق من الدين، وعلى الإمام أن يطلب منه التوبة والإقلاع عن ضلاله، وإلا طبقت عليه أحكام المرتدين .. وأما حديث العهد بالإسلام، والناشئ بالبادية ونحوهما، فيعرَّف الحكم ويبين له الصواب، فإن أصر على موقفه عُدَّ مرتدًا.
وحرمة الزنا ثابتة من عدة وجوه:
أولا: من القرآن الكريم : ودلالته على تحريم الزنا بينة، ولا يجهلها إلا من جهل اللغة والشرع، ومن زعم أن التحريم لا يستفاد إلا من لفظ (حرم) و(يحرم) فهذا جهل مركب، فإن التحريم - بإجماع العلماء - تدل عليه ألفاظ كثيرة، مثل: لعن فاعله، أو تشبيهه بالشيطان، أو الإخبار بأنه رجس أو فاحشة. . . إلخ.
على أننا نقول: إن القرآن الكريم نص على تحريم الزنا بلفظ التحريم أيضا، وذلك أن الله تعالى قال في سورة الأعراف (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق . . . الآية) وقال تعالى في سورة الأنعام (قل تعالوا أتل ماحرم ربكم عليكم أن لاتشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولاتقربوا الفواحش ماظهر منها وما بطن00) فالفواحش حرام بنص الآيتين، ثم قال تعالى في سورة الإسراء (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وسآء سبيلا)
قال البيضاوي:ولا تقربوا الزنا بالعزم والاتيان بالمقدمات فضلا عن أن تباشروه.
قال القرطبي في تفسيره : (قال ابن عباس: هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ قط في ملة. وقد قيل: إنها العشر كلمات المنزلة على موسى)
قال العلماء :ولا تقربوا الزنى أبلغ من أن يقول: ولاتزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنى0
ثانيًا: من السنة : فقد روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن والإمام أحمد في المسند وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن"
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان كان عليه كالظلة، فإذا انقطع رجع إليه الإيمان" رواه أبو داود.
وعن أبي هريرة قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يلج الناس به النار؟ فقال: "الأجوفان: الفم والفرج" وسئل عن أكثر ما يلج به الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسن الخلق"رواه أحمد
وعن سمرة بن جندب قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ قال: فإن رأى أحد قصها، فيقول: ما شاء الله! فسألنا يوما فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا. قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس 000 قالا: انطلق فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نارا، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة، فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق فانطلقنا 000 قلت: طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت، قالا نعم 000 والذي رأيته في الثقب فهم الزناة )
وعن جابر أن رجلا من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: إنه قد زنى، فأعرض عنه، فتنحى لشقه الذي أعرض فشهد على نفسه أربع شهادات، فدعاه فقال: هل بك جنون؟ هل أحصنت؟ قال: نعم فأمر به أن يرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدرك بالحرة فقتل) رواه البخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف. قال سفيان كذا حفظت، ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده) رواه البخاري.
وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة) رواه البخاري.(5/174)
والأحاديث في ذلك كثيرة موفورة. ومن زعم أنه لا يقبل الاحتجاج بالسنة فقد كذب القرآن نفسه، الذي صرح بأن الرسول هو مبين القرآن وشارحه، قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) ولو رد الناس السنة اكتفاء بالقرآن ما عرفوا صلاة ولا زكاة ولا حجًا، فإنها كلها جاءت مجملة في القرآن، وإنما بينتها السنة. وقد قال رجل لمطرف بن عبد الله -أحد التابعين-: لا تحدثونا إلا بالقرآن . فقال له مطرف: " والله ما نريد بالقرآن بدلاً . . . ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا " يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن هنا كان أمر القرآن بطاعة الرسول، والاحتكام إليه، مقارنًا للأمر بطاعة الله، قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر).
ثالثا: الإجماع: فإن علماء الإسلام في سائر الأعصار قد أجمعوا على تحريم الزنا ، إجماعًا مؤكدًا لا شك فيه ولا جدال، حتى أصبح ذلك معلومًا من الدين بالضرورة0
رابعًا: قواعد الشريعة الكلية : فإنه لو لم يكن هناك نص ولا إجماع في المسألة لكانت قواعد الشريعة العامة، ومبادئها الكلية كافية في الدلالة على تحريم الزنا، فإن التحريم في الإسلام يتبع الخبث والضرر، فما تحقق ضرره بالفرد أو بالجماعة كان حرامًا، ولو لم يرد فيه نص بخصوصه. وضرر الزنا على الفرد في دينه وجسمه مما لا ريب فيه، وكذلك ضرره على الأسرة في تماسكها وترابطها، حيث نرى الزناة لا يقدرون مسئوليتهم عن زوجاتهم وأولادهم، فيهملون رعايتهم وتربيتهم بل النفقة عليهم، ومن وراء ذلك كله ضرر المجتمع كله بانتشار العربدة، وفساد الأخلاق وخراب البيوت، وانتشار الأمراض مما يؤدي في النهاية إلى التفسخ والانحلال العام، فأي إنسان له مسحة من عقل أو دين يدرك
الفساد العريض الذي يسببه الزنا.
والله أعلم
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم ذبح الحمير لإطعام الحيوانات
تاريخ 11 صفر 1423 / 24-04-2002
السؤال
ما حكم الدين في شخص صاحب حديقة حيوانات يضطر إلى ذبح الحمير لإعطاء لحمهم كغذاء للحيوانات
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ....أما بعد:
فالبهائم والطيور والنمل وغير ذلك من الدواب أمم تعبد الله وتسبحه كما قال الله تعالى : ( تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [الإسراء:44] فلا يجوز قتل شيء منها إلا المؤذي أو الصائل أو ما رخص الشرع في قتله كالفواسق الخمس - الحية والعقرب والغراب والحدأة والكلب العقور - أو ما أباح الله تذكيته أو اصطياده لأكله، وما سوى ذلك فلا يجوز قتله عبثاً لغير غرض صحيح، خصوصاً ما ورد النهي عن قتله كالنمل والصرد والضفدع. وقد روى الشافعي وأحمد والنسائي وابن حبان عن عمرو بن الشريد قال : سمعت الشريد يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من قتل عصفوراً عبثاً عج - رفع صوته - إلى الله عز وجل يوم القيامة يقول: يا رب إن فلاناً قتلني عبثاً ولم يقتلني لمنفعة " وروى الشافعي والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من إنسان يقتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عنها، قال : يا رسول الله وما حقها؟ قال: يذبحها ويأكلها، ولا يقطع رأسها ويطرحها "، وأما قتلها لغرض صحيح أو منفعة معتبرة فلا حرج فيه، وقد نص الفقهاء على أن إمام المسلمين إذا أراد العودة ومعه مواش فلم يقدر على نقلها إلى دار الإسلام: أنه يذبحها ويحرقها بعد موتها ولا يدعها للعدو. قال صاحب العناية في شرح الهداية : " ذبح الحيوان يجوز لغرض صحيح، ولا غرض أصح من كسر شوكة الأعداء ".
والذي نراه في المسألة المسؤول عنها هو أنه لا يجوز لصاحب الحديقة ذبح الحمر ونحوها لإطعامها للحيوانات التي يربيها في حديقته، لأن هذا ليس غرضاً صحيحاً ولا منفعة معتبرة تبيح له ذبحها، لا سيما إذا أمكن أن يطعمها غير ذلك .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
============
أحكام الملتَقَط في دار الإسلام
تاريخ 20 ربيع الأول 1423 / 01-06-2002
السؤال
ما حكم زواج اللقيط وهل يشترط أن تكون الفتاة لقيطة أيضا أفتونا جزاكم الله خير الجزاء؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد :
اللقيط وهو الولد المتروك في الشوارع مجهول الأب أو الأولياء، إذا وجد في دار الإسلام أو في بلد يغلب عليه المسلمون فهو حرٌّ مسلم في جميع أحكامه، فهو مسلم تبعاً للدار، وحرٌّ لأن الأصل في الآدميين الحرية. فالله تعالى خلق آدم وذريته أحراراً.
وعلى هذا، فإن جميع تصرفاته وعقوده لها حكم تصرفات غيره من أحرار المسلمين، بما فيها زواجه وطلاقه .. فما ذكره السائل من اشتراط زواجه من لقيطة مثله ، غير صحيح ولم يقُل به أحد .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
==============(5/175)
الحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر
تاريخ 30 ربيع الأول 1423 / 11-06-2002
السؤال
إذا عمل أحد في المافيا أو عمل تاجر مخدرات بالغرب وباع المخدرات لشباب الغرب الفاسدين هل هذا العمل حرام أم حلال؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز للمسلم أن يعمل في المافيا أو أن يكون تاجر مخدرات ومحرمات لا في بلاد الغرب ولا في غيرها وذلك لما يأتي:-
1- لأن جريمة المخدرات وأعمال المافيا تظل جريمة في حق الإنسان أيَّ إنسان بما تمثله من شر وفساد في الأرض، وقتل وتدمير للإنسان. وهذا الوصف لا ينفك عنها في أي مكان، فالتحريم ملازم لها في كل الأحوال ولا يختص بزمان ولا مكان. وما جاء الإسلام إلا لينقذ البشرية من الشرور بجميع أصنافها.
ولا شك أن كلا من العمل في ترويج المخدرات والعمل في عصابات المافيا يعتبر شراً محضاً، وقد حرم الإسلام الخمر -وهي أقل ضرراً من المخدرات- وأوجب على شاربها الحد، ولعنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن شاربها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه.
أما المافيا فإن الإسلام سمى أصحابها محاربين، وقد أنزل فيهم قول الله جل وعلا:إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33].
2- المسلم يلتزم أحكام الإسلام أينما حلَّ وذهب، يقول الشوكاني رحمه الله: فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها. السيل الجرار4/152.
ويقول الشافعي: والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر. الأم 7/355.
3- المسلم إذا دخل ديار الغرب بإذن منهم واشترطوا عليه عدم الفساد أو الإخلال بأمن بلادهم، فيجب على المسلم أن يفي بالشرط وأن يُنجز الوعد والعهد، فالله تعالى يقول:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، وهذا عام فيجب الوفاء بالعقد مع أي كان من مسلم و كافر. وفي الحديث الصحيح: المسلمون على شروطهم.
4- إن صورة المسلم الذي يتعامل بالمخدرات ويروج لها أو يشارك في المافيا، صُّد عن سبيل الله وقطع لطريق هؤلاء إلى الإسلام، والله تعالى يقول:أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ*الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [هود:19].
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
حكم الكذب على الزوجة
تاريخ 23 جمادي الأولى 1423 / 02-08-2002
السؤال
أنا متزوج ولي طفلتان وتغربت بحكم عملي عن أهلي فترة طويله ليس لها تاريخ محدد وكنت أعاني من بعض المشاكل الزوجية الأساسيه لحياة الرجل وتزوجت من امرأة مسيحية أسلمت قبل الزواج منها وحسن إسلامها فكراً وعملاً ولما علمت زوجتي الأولى غضبت وهددت بطلب الطلاق فأفهمتها أني طلقت الثانية ولم أفعل في الواقع فهل من إثم؟ ثم أني أخرت عملية الإنجاب من الأخرى حتى أطمئن على استقرار العشرة معها وخوفا من أن أضطر للطلاق فتتفسخ الأسرة الجديدة واعاني من احتمال بعدي عن أبنائي منها ولا سيما أنها إذا وقع الطلاق ستعيش في غير دار الإسلام. فهل من إثم على تأخير الإنجاب منها؟
نسال لكم ولنا الرحمة من الله وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا بأس في كذب الزوج على زوجته لإصلاحها وحسن عشرتها، وعلى هذا المذاهب الأربعة، إلا أن المالكية كرهوا ذلك.
وعليه، فلا إثم عليك -إن شاء الله- في كذبك على الزوجة الأولى بإخبارك لها بطلاق الزوجة الثانية، والأولى لك أن تستخدم المعاريض، ففي المعاريض مندوحة عن الكذب، ثم حاول إقناعها بنفسك أو بمن له كلمة عليها بأن الله قد أباح التعدد، أو رغَّب فيه، فقال سبحانه وتعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) [النساء:3].
إلا أن الله سبحانه قد شرط لذلك العدل، فقال: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) [النساء:3].
أما بالنسبة لتأخير الإنجاب حتى تتضح معالم العلاقة بين الزوجين، فإنه لا بأس به، وقد تقدم لذلك تفاصيل تجدها في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 15099، 7291، 16855، 5536.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الكذب والسرقة من الكفار...رؤية شرعية
تاريخ 02 جمادي الثانية 1423 / 11-08-2002
السؤال
هل يجوز سرقة مال الكفار؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فاعلم أن الشرع قسم الكفار إلى صنفين: محاربين ومسالمين أو معاهدين، والمسالمون أو المعاهدون قسمان: قسم له عهد دائم وهم الذين يعرفون في الإسلام بأهل الذمة.. أي لهم ذمة الله ورسوله والمسلمين.
وقسم له عهد مؤقت وهم المستأمنون.(5/176)
وأما المحاربون فهم الذين بينهم وبين المسلمين حرب قائمة أو متوقعة، وليس بينهم وبين المسلمين عهد ولا صلح ولكل قسم أحكام تخصه.
فأما المسالمون أهل الذمة فالقاعدة التي تحكم تعاملنا معهم من حيث الجملة هي أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، إلا أشياء مستثناة تنظر في مواضعها.
وبخصوص السؤال هل يجوز سرقة مال الكفار؟ فهذا القسم من الكفار لا خلاف بين علماء المسلمين أن سرقة أموالهم حرام، وأن المسلم إذا سرق من الذمي فإن يده تقطع متى تحققت شروط القطع المعروفة، نقل هذا الاتفاق ابن قدامة في المغني فقال: ويقطع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي، ويقطع الذمي بسرقة مالهما. وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً. 8/368 المغني
وكذلك يحرم الكذب عليهم أو خديعتهم أو غشهم.
وأما المعاهدون المستأمنون الذين بينهم وبين المسلمين عهد أو صلح أو هدنة، فمتى تحققت شروط الصلح فيجب علينا الوفاء بكل الالتزامات والعهود، وهذا إجماع لا خلاف فيه، انظر موسوعة الإجماع 1/418
لقول الله تعالى:فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة:7].
وبالنسبة لحكم سرقة أموال المستأمنين، فمن حيث إنها حرام لا إشكال في ذلك، لكن هل تقطع يد المسلم إذا سرق من مستأمن؟ تقطع عند الحنابلة لأنه سرق مالاً معصوماً، وعند الشافعية لا يقطع لأن المستأمن إذا سرق من المسلم أو الذمي لا يقطع، قالوا: لأن المستأمن عندما التزم بالأمان لم يلتزم بما يرجع إلى حقوق الله تعالى من الأحكام، وحد السرقة حق الله تعالى غالب فيه ولم يلتزمه المستأمن فلا يقام عليه الحد، أحكام الذميين والمستأمنيين صـ269.
وبقي الصنف الثاني وهم المحاربون: وهؤلاء الأصل فيهم أن دماءهم وأموالهم مباحة للمسلمين، إلا أنه مع ذلك توجد أخلاق تحكم التعامل معهم، فمما يذكره العلماء في هذا الصدد:
ما قاله الإمام الماوردي : وقد أجمع الفقهاء على أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان أو بموادعة حرم تعرضه لشيء من دم ومال وفرج منهم؛ إذ المسلمون على شروطهم.
: ومن المعروف اليوم أن الدول لا تمنح أي راغب في دخول أراضيها تأشيرة دخول إلا بشرط أن يلتزم بدساتيرها وقوانينها العامة التي تقضي بتحريم السرقة والغش وأكل أموال الآخرين بالباطل والاعتداء وما شابه ذلك. وهذا العرف مقارن لحصول الشخص على التأشيرة بل هو سابق عليه، وحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء به ولو لمشرك؛ ما لم يتضمن شرطاً فاسداً فيه معصية الله. الأم للشافعي 4/185 نقلاً عن كتاب من فقه الأقليات المسلمة صـ64.
وكذلك إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان حرم التعرض لماله، وقالت المالكية: يقطع يد المسلم إذا سرق مال الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان، فيقول في حاشية الصاوي على الشرح الصغير: السرقة أخذ مكلف نصاباً فأكثر من مال محترم لغيره ... ويدخل في المحترم: مال الحربي الذي دخل بأمان فيقطع سارقه. انتهى الجزء الرابع "السرقة"
وأما سؤالك عن الكذب على الكفار؟ فاعلم أن الكذب حرام سواء على المسلم أو غيره، ولا رخصة فيه إلا ما استثناه الشرع كما جاء في الحديث: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس كذبا إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. رواه مسلم.
قال القاضي عياض : لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة هو على إطلاقه وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة.... وقال آخرون منهم الطبري : لا يجوز في شيء أصلا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب....... وكذا في الحرب بأن يقول لعدوه مات إمامكم الأعظم وينوى إمامهم في الأزمان الماضية، أو غداً يأتينا مدد أي طعام ونحو هذا من المعاريض المباحة. 16/158
وقال ابن حزم في كتاب الإجماع: اتفقوا على تحريم الكذب إلا في الحرب ومداراة الرجل امرأته وإصلاح ذات البين ودفع مظلمة مرادة بين اثنين مسلمين أو مسلم وكافر.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=================
التعامل بالربا في دار الكفر...رؤية فقهية
تاريخ 30 جمادي الأولى 1423 / 09-08-2002
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله
أرجو إجابة وافية عن حكم أكل مال المصارف والبنوك في البلدان النصرانية والتعامل معها ؟ وشكرا والسلام عليكم...
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمصارف والبنوك الربوية لا يجوز التعامل معها بإيداع أو استثمار، سواء كانت في بلاد إسلامية أو غير إسلامية، للعن النبي صلى الله عليه وسلم: آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء. رواه مسلم.
ولا يستثنى من ذلك إلا حالة اضطرار المسلم إلى وضع ماله في البنك خوفا عليه من النهب والسرقة، فإذا لم يجد بنكاً إسلامياً، جاز له حيئذ أن يضعه في البنك الربوي في الحساب الجاري الذي لا يترتب عليه فوائد ربوية، وعلى فرض حدوث فائدة ربوية فإنه يأخذها ويتخلص منها بدفعها للفقراء والمحتاجين.(5/177)
واعلم أن التعامل بالربا محرم في دار الإسلام ودار الكفر عند جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة، وأبي يوسف ومحمد من الحنفية.
وقال أبو حنيفة : لا يحرم الربا في دار الحرب بين المسلم وأهل الحرب، ولا بين مسلمين لم يهاجرا منها، واحتج بما روي عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب. ولأن أموال أهل الحرب مباحة بغير عقد، فالعقد الفاسد أولى.
واستدل الجمهور بعموم الأدلة المحرمة للربا، وأن ما كان حراماً في دار الإسلام فهو حرام في دار الحرب، كسائر الفواحش والمعاصي.
وأجابوا عن أثر مكحول بأنه مرسل إن صح إسناده إلى مكحول ، مع كونه محتملاً لأن يكون نهياً، فقوله "لا ربا" كقوله تعالى:فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ [البقرة:197].
ومن دخل دار الحرب بأمان لم يكن له أن يستبيح الأموال ولا أن يغش ولا أن يسرق. وانظر تفصيل هذه المسألة في المغني لابن قدامة 4/84 ، والمجموع للنووي وتكملته للسبكي 9/489/10/487.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الربا مفسدة في نفسه، فيمتنع من الجميع
تاريخ 02 رجب 1423 / 09-09-2002
السؤال
بعد دراسة مستفيضة اقتنعت بجواز العقود الفاسدة في المعاملات المالية في دار الحرب، لكن الاستشكال عندي، هل التعامل بالربا مثلا يكون أخذاً وإعطاء أم أخذاً فقط؟ أفيدونا مشكورين
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الربا محرم على الآخذ والمعطي، كما صرحت بذلك الأحاديث النبوية الشريفة، ومنها ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الآخذ والمعطي فيه سواء.
ومنها ما رواه مسلم أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء.
ولتعلم أن ما توصلت إليه بعد دراستك المستفيضة، مخالف لما عليه جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، وأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة، لأن الحرام في دار الإسلام، حرام في دار الكفر، كسائر الفواحش والمعاصي، ولأن حرمة الربا كما هي ثابتة في حق المسلمين، فهي ثابتة في حق الكفار، لأنهم مخاطبون بالمحرمات، ولأن الربا مفسدة في نفسه، فيمتنع من الجميع.
ونحب أن ننبه السائل إلى أن ارتياح النفس لأمر ما لا يصح أن يبنى عليه الأحكام الشرعية أو الترجيح بين أقوال أهل العلم دون الاعتماد على دليل معتبر.
ولا يملك القدرة على أخذ الأحكام الشرعية أو الترجيح بين الأقوال إلا من ملك آلة ذلك من العلوم التي تؤهله له، ممن يمارسون الفتوى، ويعرفون الخلاف وأسبابه، وهذا يحتاج من المرء جهداً كبيراً، لا يعلم قدره إلا الله، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياك لما يحب ويرضى، وراجع الفتوى رقم:
20702 والفتوى رقم: 13433 والفتوى رقم: 17269 والفتوى رقم: 20632 والفتوى رقم: 20318.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
تصرفه عليه الصلاة والسلام إذا أراد غزو قوم
تاريخ 24 رجب 1423 / 01-10-2002
السؤال
هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد غزو قوم يرسل من يسمع هل يرفعون الأذان أم لا؟
هل يوجد شيء من هذا القبيل؟!
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد جاء في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً لم يغر عليهم حتى يصبح وينتظر، فإن سمع الأذان كف عنهم وإلا أغار عليهم.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع النداء كف عنهم، وإن لم يسمع النداء أغار عليهم....
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار.......
ومن هذه الأحاديث وما أشبهها أخذ المالكية بوجوب الأذان في كل قرية وسنيته في كل مسجد، يقول الشيخ الشيباني الشنقيطي في كتابه تبيين المسالك: قال الإمام مالك في الموطأ: وإنما يجب النداء في مساجد الجماعات التي تجمع فيها الصلاة، قال الباجي: وحمل لفظ مالك على ظاهره أولى عندي، وأن الأذان واجب وليس بشرط في صحة الصلاة، ولو أن أهل مصر تركوا الأذان لأثموا بذلك، ولوجب جبرهم عليه، وأخذهم به.... وقال عياض: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر لأنه شعار أهل الإسلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع الأذان أغار وإلا أمسك.
وقال أبو عمر بن عبد البر: ولا اعلم خلافاً في وجوب الأذان جملة على أهل الأمصار لأنه من العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر....
ثم قال: وقال أبو حنيفة إنه سنة للصلوات الخمس والجمعة، وقال أحمد إنه فرض كفاية، وللشافعي قولان: أحدهما أنه سنة، والآخر أنه فرض كفاية.(5/178)
ولا تعارض بين هذه الأحاديث وبين ما جاء في صحيح مسلم وغيره عن عائشة وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.... اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا..... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم......
هذا الحديث وما في معناه يدل على أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يكن يبدأ قوماً بالقتال حتى يخيرهم بين هذه الأمور الثلاثة، وأن من بدأهم بالقتال كانت الدعوة قد بلغتهم قبل ذلك ورفضوها. وهذا ما ذهب إليه مالك ومن معه من أهل العلم، قال الشيباني في تبيين المسالك على مذهب الإمام مالك: وقبل البدء في قتال الكفار يدعو إلى الإسلام ولم لم تبلغهم الدعوة على المشهور، فإن أبوا دعوا لدفع الجزية، فإن لم يجيبوا قوتلوا....
ثم قال: ومقابل المشهور أن وجوب الدعوة خاص بمن لم تبلغهم، وبه قال الثلاثة، ودليل مشهور المذهب ما في صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية.. الحديث.
وما رواه أحمد من حديث ابن عباس: ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً حتى يدعوهم.
ثم قال: ومذهب إمامنا مالك أن الجزية تؤخذ من جميع أهل الشرك وعبدة الأوثان والنار وأهل الجحود مثل ما تؤخذ من أهل الكتاب.
وهذا ما درج عليه صاحب الرسالة حيث يقول: ناظمها في شأن من تؤخذ منهم الجزية:
ومن مجوس ونصارى العرب === لا من قريش لمكانة النبي .
قال الباجي في المنتقى: وأما عبدة الأوثان وغيرهم ممن ليس بأهل الكتاب فإنهم يقرون على الجزية.
واستدل مالك بحديث عائشة المتقدم عند مسلم وفيه أمره صلى الله عليه وسلم لكل من أمر أن يدعو إلى الإسلام، ثم إلى دفع الجزية، بدون أن يفرق بين مشرك وكتابي، قاله في تبيين المسالك، ثم قال: وقال الشافعي: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، وقال أبو حنيفة وأحمد: تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس.
وبهذا يتبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزو قوم دعاهم إلى الإسلام أولاً فإن أجابوا كف عنهم، وإلا دعاهم إلى الجزية فإن أجابوا كف عنهم، وإلا قاتلهم مستعينا بالله تعالى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
مسائل في أحكام دار الإسلام ودار الحرب
تاريخ 24 شعبان 1423 / 31-10-2002
السؤال
- ما هو تعريف الدارين أي دارالإسلام ودارالكفر؟
- ما هي العلاقة بين الدارين أي ( دار الإسلام ودارالكفر)؟
- وما حكم الإقامة في دار الكفر الأصلي؟
- ما هي شروط دارالإسلام؟
- وأخيراً كيفية استئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة إسلامية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تقدم الكلام عن معنى دار الحرب ودار الإسلام، وشروط دار الإسلام، وذلك في الفتوى رقم: 7517.
وتقدم الكلام عن أحكام الإقامة في دار الحرب، والهجرة إليها، وذلك في الفتوى رقم: 8614.
وتقدم الكلام عن العلاقات بين دار الحرب ودار الإسلام، وذلك في الفتوى رقم: 20632.
وتقدم الكلام عن استئناف الحياة الإسلامية، وإقامة دولة إسلامية، وذلك في الفتوى رقم: 1411.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الفرق بين الذمي والمعاهد
تاريخ 03 شوال 1423 / 08-12-2002
السؤال
ما الفرق بين الذمي والمعاهد ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فعقد الذمة هو: إقرار الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية. وانظر مطالب أولي النهى.
وأهل العهود: هم الذين صالحهم إمام المسلمين على إنهاء الحرب مدة معلومة لمصلحة يراها.
والعهد هو الصلح المؤقت، ويسمى الهدنة والمهادنة والمسالمة والموادعة. وانظر الموسوعة الفقهية.
وقد يطلق لفظ أهل العهد على أهل الذمة، قال ابن الأثير: المعاهد أكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدة ما. انتهى
وقد يطلق أيضًا على المستأمن، قال الشوكاني: المعاهد: هو الرجل من أهل الحرب يدخل دار الإسلام بأمان فيحرم على المسلمين قتله. انتهى
وفي شرح الخرشي على خليل: المعاهد: بفتح الهاء وهو الشائع على الألسن، أي الذي عاهده المسلمون، أي أعطوه عهدًا وموثقًا ألا يتعرضوا له، وبكسرها، أي الذين عاهد المسلمين، أي أخذ منهم عهدًا وموثقًا بالأمان. انتهى
ومما سبق يتبين الفرق بين الذمي والمعاهد.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم الاحتفال بعيد أول السنة الميلادية الكريسمس.
تاريخ 10 ذو القعدة 1425 / 22-12-2004
السؤال
ما حكم الاحتفال بعيد الكريسمس ( أول السنة الميلادية ) ؟ بالتفصيل . وجزاكم الله خيراً......
الفتوى(5/179)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز لأحد من المسلمين مشاركة أهل الكتاب في الاحتفال بعيد الكريسمس "أول السنة الميلادية" ولا تهنئتهم بهذه المناسبة لأن العيد من جنس أعمالهم التي هي دينهم الخاص بهم، أو شعار دينهم الباطل، وقد نهينا عن موافقتهم في أعيادهم، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار:
1- أما الكتاب: فقول الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً [الفرقان:72].
قال مجاهد في تفسيرها: إنها أعياد المشركين، وكذلك قال مثله الربيع بن أنس، والقاضي أبو يعلى والضحاك.
وقال ابن سيرين: الزور هو الشعانين ، والشعانين: عيد للنصارى يقيمونه يوم الأحد السابق لعيد الفصح ويحتفلون فيه بحمل السعف، ويزعمون أن ذلك ذكرى لدخول المسيح بيت المقدس كما في اقتضاء الصراط المستقيم 1/537، والمعجم الوسيط1/488،
ووجه الدلالة هو أ نه إذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور، لا مجرد شهوده.
2- وأما السنة: فمنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذا اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر. رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي على شرط مسلم.
ووجه الدلالة أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما...... والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، وقوله صلى الله عليه وسلم: خيراً منهما. يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية.
3- وأما الإجماع: فمما هو معلوم من السير أن اليهود والنصارى ما زالوا في أمصار المسلمين يفعلون أعيادهم التي لهم، ومع ذلك لم يكن في عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك، وكذلك ما فعله عمر في شروطه مع أهل الذمة التي اتفق عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم: أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وإنما كان هذا اتفاقهم على منعهم من إظهارهم، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها! أو ليس فعل المسلم لها أشد من إظهار الكافر لها؟
وقد قال عمر رضي الله عنه: إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تتنزل عليهم. رواه أبو الشيخ الأصبهاني والبيهقي بإسناد صحيح.
وروى البيهقي أيضاً عن عمر أيضاً قوله: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم.
قال الإمام ابن تيمية: وهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم؟! أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟ أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟! أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟! وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم، فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك؟ ثم قوله: واجتنبوا أعداء الله في عيدهم. أليس نهياً عن لقائهم والاجتماع بهم فيه؟ فكيف عن عمل عيدهم......... اقتضاء الصراط المستقيم 1/515
4- وأما الاعتبار فيقال: الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله فيها: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة:48].
قال ابن تيمية: فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل إن الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه. اقتضاء الصراط المستثقيم 1/528
وقال أيضاً: ثم إن عيدهم من الدين الملعون هو وأهله، فمواقتهم فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه....
ومن أوجه الاعتبار أيضاً: أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيداً لهم، حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يقضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر....
هذا ما تيسر ذكره من الأدلة. ومن أراد الاستزادة فليراجع اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية، وأحكام أهل الذمة لابن القيم، والولاء والبراء في الإسلام لمحمد سعيد القحطاني.(5/180)
وبناءً على ما تقدم نقول: لا يجوز للمسلم مشاركة أهل الكتاب في أعيادهم، لما تقدم من أدلة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، كما لا يجوز تهنئتهم بأعيادهم لأنها من خصائص دينهم أو مناهجهم الباطلة، قال الإمام ابن القيم: وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.
وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه..... إلخ. انظر أحكام أهل الذمة 1/161 فصل في تهنئة أهل الذمة... لابن القيم رحمه الله.
فإن قال قائل: إن أهل الكتاب يهنئوننا بأعيادنا فكيف لا نهنئوهم بأعيادهم معاملة بالمثل ورداً للتحية وإظهاراً لسماحة الإسلام..... إلخ.؟
فالجواب: أن يقال: إن هنئونا بأعيادنا فلا يجوز أن نهنئهم بأعيادهم لوجود الفارق، فأعيادنا حق من ديننا الحق، بخلاف أعيادهم الباطلة التي هي من دينهم الباطل، فإن هنئونا على الحق فلن نهنئهم على الباطل.
ثم إن أعيادهم لا تنفك عن المعصية والمنكر وأعظم ذلك تعظيمهم للصليب وإشراكهم بالله تعالى وهل هناك شرك أعظم من دعوتهم لعيسى عليه السلام بأنه إله أو ابن إله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، إضافة إلى ما يقع في احتفالاتهم بأعيادهم من هتك للأعراض واقتراف للفواحش وشرب للمسكرات ولهو ومجون، مما هو موجب لسخط الله ومقته، فهل يليق بالمسلم الموحد بالله رب العالمين أن يشارك أو يهنئ هؤلاء الضالين بهذه المناسبة!!!
ألا فليتق الله أولئك الذين يتساهلون في مثل هذه الأمور، وليرجعوا إلى دينهم، نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال جميع المسلمين.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الجمعة واجبة على من قام ببلاد الكفر إذا توفرت شرائطها
تاريخ 03 ذو القعدة 1423 / 06-01-2003
السؤال
ما هو حكم صلاة الجمعة في ديار الكفر؟ وهل يأثم من لم يصلها في ديار الكفر سواء كانت ديار كفر أصلية أو غير أصلية؟ أرجو أن توافونا كما تعودتم بالأدله من كتاب الله وسنة رسوله؟ و جزاكم الله خيراً...
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الجمعة إذا توفرت شرائطها وجب أداؤها، لأن فرضية صلاة الجمعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الفرضية لا تعلق لها بدار دون دار، فهي فرض في دار الكفر كما أنها فرض في دار الإسلام.
وسبق بيان أدلة وجوب الجمعة في الفتوى رقم:
8688
ولم تقيد هذه الأدلة الواجب بمن كان في دار الإسلام دون غيره، فمن تركها في دار الكفر من غير عذر فهو آثم.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
ماهية الضرورة الملجئة لجواز سفر المرأة بغير محرم
تاريخ 24 ذو الحجة 1423 / 26-02-2003
السؤال
ماحكم من تسافر من دون محرم لضرورة ملحة؟ وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن سفر المرأة دون محرم لا يجوز شرعاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم.. رواه البخاري ومسلم.
ويستثنى من ذلك حالة الضرورة الملجئة إذا كانت في مكان غير آمن وخافت على نفسها، وكذلك الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وألحق بعضهم بذلك السفر للحج والعمرة إذا كان مع رفقة مأمونة، وهذا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات وتقدر بقدرها.
ولمزيد من التفصيل والأدلة عن أحكام سفر المرأة نحيلك إلى الفتوى رقم: 3096.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم الصدقة والحج عن تارك الصلاة جهلا
تاريخ 23 محرم 1424 / 27-03-2003
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن نعيش في النقب 48 وتوفي والدي عام 1981 ولم يكن يصلي ليس جحودا وإنما جهلاً ولم يكن في منطقتنا مساجد أو دعاة وعدد المصلين لا يتجاوز أفرادا وكان والدي يصوم ويتصدق فهل الصدقة عنه والحج والدعاء ينفعه؟
أفيدوني رحمكم الله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فنظراً لكون هذا الوالد كان لا يصلي جهلاً لا جحوداً فلا مانع من التصدق والحج عنه والدعاء له، لكونه معذوراً بالجهل.
فقد ذكر ابن قدامة في المغني والنووي في المجموع: أن تارك الصلاة إن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار لا يحكم بكفره.
وبناء على هذا، فهو معذور بجهله، ولا يدخل في الخلاف في كفر تارك الصلاة.
وعليه، فلا بأس أن يحج عنه ولده، ولا بأس بالصدقة عنه والدعاء له، ونرجو الله أن ينفعه بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم.(5/181)
هذا ونهيب بطلاب العلم أن ينشطوا في تعليم الناس كليات الدين ومسائله الأساسية حسب طاقتهم، وأن يستخدموا ما تيسر من الوسائل في ذلك.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
حرمة التعامل مع الكفار في كل أمر محرم شرعاً
تاريخ 16 ربيع الأول 1424 / 18-05-2003
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: سؤالي هو: ما حكم بيع الخمر لغير المسلمين في غير بلاد المسلمين؟ مثل أمريكا وغيرها من البلدان وما العقوبة على بيع الخمر لغير المسلم في غير بلد مسلم؟ أفيدونا أفادكم الله؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ذهب جمهور العلماء إلى حرمة التعامل مع الكفار في كل أمر محرم شرعاً، سواء أكان ذلك في دار الإسلام أو في دار الكفر.
ومن المعلوم أن الخمر محرمة على المسلم شربا وبيعا وشراء وغير ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها. رواه أبو داود.
كما أن في بيع الخمر ولو لغير المسلمين نوعاً من التعاون على الإثم والعدوان وقد قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم بيع الخمر للكافر
تاريخ 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: سؤالي هو: ما حكم بيع الخمر لغير المسلمين في غير بلاد المسلمين؟ مثل أمريكا وغيرها من البلدان وما العقوبة على بيع الخمر لغير المسلم في غير بلد مسلم؟ أفيدونا أفادكم الله؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ذهب جمهور العلماء إلى حرمة التعامل مع الكفار في كل أمر محرم شرعاً، سواء أكان ذلك في دار الإسلام أو في دار الكفر.
ومن المعلوم أن الخمر محرمة على المسلم شربا وبيعا وشراء وغير ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها. رواه أبو داود.
كما أن في بيع الخمر ولو لغير المسلمين نوعاً من التعاون على الإثم والعدوان وقد قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
معنى حديث "إذا بويع لخليفتين.."
تاريخ 29 ربيع الثاني 1424 / 30-06-2003
السؤال
أريد معرفة معنى الحديث الشريف: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فحديث: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما. ومثله حديث: إنه ستكون هنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان. ومثله حديث: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه. روى ذلك كله مسلم في صحيحه.
قال الإمام النووي: فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق المسلمين ونحو ذلك، ونهي عن ذلك فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بقتله قتل.
وفي الحديث دليل على منع إقامة إمامين أو خليفتين لأن ذلك يؤدي إلى الشقاق والمخالفة، وحدوث الفتن وزوال النعم، وقد نقل الإجماع على ذلك النووي في شرح مسلم فقال: اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين من عصر واحد سواء اتسعت دار الإسلام أم لا، وقال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد: قال أصحابنا لا يجوز عقدها لشخصين، قال: وعندي أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد، وهذا مجمع عليه، قال: فإن بعد ما بين الإمامين وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال، قال: وهو خارج من القواطع، وحكى المارزي هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل وأراد به إمام الحرمين، وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف ولظواهر إطلاق الأحاديث. انتهى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
لا بأس بعضلها لتفتدي منك
تاريخ 20 جمادي الثانية 1424 / 19-08-2003
السؤال
زوجتي لها علاقة غرامية مع شخص غير مسلم، وقد اعترفت بذلك وتطلب الطلاق، ولي منها ولدان، وإذا طلقت هل أستطيع أن آخذ الولدين؟ وعمر كليهما أقل من خمس سنوات، وهل أنا ملزم بأن أدفع لها المهر المؤخر؟ حتى لو لم يكن عندي مال، وقد طلبت منها أن تعيد إلي ما صرفت عليها خلال ست سنوات. آمل الإجابة باللغة العربية.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(5/182)
فإذا كانت زوجتك على ما ذكرت من عدم العفة، فإن من المستحب تطليقها، وذلك خشية أن تلوث فراشك وتلحق بك ولدًا أنت في الحقيقة منه بريء، لكن لا مانع من عضلها حتى تفتدي نفسها منك بمال وهو ما يعرف عند الفقهاء بالخلع. قال ابن قدامة في المغني في معرض تعداده لأنواع الطلاق: والرابع: مندوب إليه وهو عند تفريط المرأة في حقوق الله الواجبة عليها -مثل الصلاة ونحوها - أو تكون له امرأة غير عفيفة. قال أحمد: لا ينبغي له إمساكها، وذلك لأن فيه نقصًا لدينه، ولا يأمن إفسادها لفراشه، وإلحاقها به ولدًا ليس هو منه، ولا بأس بعضلها في هذه الحال والتضييق عليها لتفتدي. اهـ
وعلى هذا فبإمكانك أن تقول لها: إني موافق على طلاقك لكن بشرط إعفائي من مؤخر الصداق، فإن قبلت ذلك فإن مشكلة مؤخر الصداق انحلت. أما إن لم توافق فليس أمامك إلا أن تطلقها إذا علمت إصرارها على تلك العلاقة الآثمة، ويبقى مؤخر الصداق -والحالة هذه- دينًا لها في ذمتك، إلا أن تتنازل عنه.
أما الحضانة فالأصل فيها أنها للأم ما لم تكن على حال لا يؤهلها لذلك، كما هو حال زوجك، فتنتقل الحضانة إلى من هو أولى بها من الإناث.
ويبقى أن ننبهك إلى أنك إذا كنت أصلاً من أهل ديار الإسلام ومقيمًا بديار الكفر من غير ضرورة فينبغي رجوعك إلى دار الإسلام لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولما قد يترتب على الإقامة فيها من الفتنة في الدين والتعرض لأسبابها.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
تبادل المتزوج الصور مع زميلته أشد قبحاً
تاريخ 02 رجب 1424 / 30-08-2003
السؤال
السلام عليكم هل يجوز التعامل مع زميلة لي بالعمل كأن أسألها عن طريقة عمل أكلة معينة وتبادل الصور معها مع العلم بأني متزوج كما أنها أيضا تطلب أن تأخذ صورة معي هل في تصرفي هذا شيء يغضب الله؟ وما المفروض أن تكون عليه علاقة الزميل بالزميلة في العمل مع العلم بأن زوجتي تعلم بهذا وتغضب غضبا شديدا للتعامل مع الزميلة في غير حدود العمل علما بأني في دولة أجنبية والسلام عليكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فلا يجوز لك التعامل مع هذه المرأة إلا وفقاً للضوابط الشرعية، وفي حدود ما أباح الله، فيجوز لك الحديث معها للحاجة بلا خضوع منها وتليين في الكلام، وبلا خلوة، أو تبادل نظرات ونحو ذلك مما هو حرام شرعاً. وأما تبادل الصور أو أخذ صورة معها فلا، لأن ذلك منكر، وجالب لسخط الله وغضبه، وسبيل للوقوع في الفاحشة، فالواجب عليك التوبة من ذلك، والبعد عن كل الأسباب الداعية إلى الوقوع فيه. ولمزيد من الفائدة راجع الفتوى رقم: 28121. وننبهك إلى أمرين: الأول: أن فعلك لتلك المنكرات وأنت متزوج أشد قبحاً، لأن الزواج مداعاة للعفة. الثاني: إن كان مقصودك بالدولة الأجنبية إحدى دول الكفر، وأنت من أهل دار الإسلام، فلا يجوز لك الإقامة هناك ما لم تكن ثمة ضرورة، وراجع في هذا الفتوى رقم: 2007. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
تواجدك في مكان الدراسة ليس عذرا في ترك الجمعة
تاريخ 09 شعبان 1424 / 06-10-2003
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أردت استشارتكم جزاكم الله خيراً في أمر صلاة الجمعة، فأنا أعيش في الغربة، وبيني وبين المسجد مسافة 30 إلى 50 دقيقة باختلاف الزحام وطرق المواصلات، فهل يجب علي أن أذهب إلى المسجد لصلاة الجمعة مع العلم بأنه بالإضافة للمسافة فإنه غالبا ما يكون علي أيضا أن أتواجد في مكان البحوث الذي أدرس فيه هنا. وجزاكم الله خيراً إن شاء الله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن الجمعة إذا توافرت شرائطها وجب أداؤها سواء في دار الإسلام أو الكفر، وقد سبق بيان أدلة وجوب الجمعة في الفتوى رقم: 8688ولم تقيد هذه الأدلة الوجوب بدار دون دار. وعليه؛ فما دمت تسكن داخل البلد فإن صلاة الجمعة واجبة عليك، ولو بعد عنك المسجد، كما هو مبين في الفتوى رقم: 13026 وأما تواجدك في مكان الدراسة فليس عذراً في ترك حضور الجمعة، وراجع الفتوى رقم: 35578والفتوى رقم: 36118 والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم التعامل مع البنوك في ديار الكفر
تاريخ 29 شعبان 1424 / 26-10-2003
السؤال
لقد سمعت فتوى من شيخ فاضل بأن المقيم في الغرب يستطيع أن يتعامل مع البنوك، فتح سوبر ماركت، مطاعم، شراء عقار، على أساس أن هذه التعاملات عقود فاسدة لأنها مع غير المسلمين، أرجو الإفاده أكثر في هذا الموضوع؟ وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فحكم الربا في دار الكفر كحكمه في دار الإسلام سواء، هذا مذهب جماهير العلماء مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة.
ودليلهم على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة القاضية بتحريم الربا مع عدم التفريق بين دار الحرب ودار الإسلام، ولا بين تعامل المسلم مع مسلم أو مع كافر.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============(5/183)
الفرق بين السفر والهجرة
تاريخ 23 شوال 1424 / 18-12-2003
السؤال
ما حكم السفر إلى البلدان الغربية بقصد العمل أو الدراسة؟ ما الفرق بين السفر والهجرة إلى البلدان الغربية؟ ما حكم استعمال العطر في شهر رمضان؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد تقدم الكلام عن حكم الإقامة في بلاد الكفار على الإجمال، وذلك في الفتوى رقم: 8614. وتقدم الكلام عن الإقامة فيها لأجل الدراسة، وذلك في الفتوى رقم: 1620. وتقدم الكلام عن الإقامة فيها لأجل العمل، وذلك في الفتوى رقم: 20391. وتقدم الكلام عن المخاطر والمقاصد التي تترتب على الإقامة فيها، وذلك في الفتوى رقم: 2007. أما عن الفرق بين السفر والهجرة إلى البلاد الغربية، فاعلم أولا أن الهجرة الشرعية لا تكون من دار الإسلام إلى دار الكفر، ولا من دار الكفر إلى دار كفر أخرى، وعليه، فالسفر إلى البلاد الغربية الكافرة لا يعد هجرة شرعية، نعم يسمى هجرة في اللغة، أما عن الفرق بين الهجرة والسفر لغة: فإن بينهما عموما وخصوصا، فقد يكون السفر لأجل الهجرة، وقد يكون لأجل غرض آخر، والهجرة قد تكون بسفر وقد تكون بلا سفر إذا كانت المسافة دون مسافة السفر. وأما عن استعمال العطر في شهر رمضان، فقد تقدم الكلام عن ذلك في الفتوى رقم: 892. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
تعريف الفقهاء لدار الإسلام
تاريخ 08 ذو القعدة 1424 / 01-01-2004
السؤال
ما هو المفهوم الصحيح للدولة الإسلامية، وما هي سماتها ومواصفاتها، وهل جميع الدول التي تنتمي إلى مؤتمر الدول الإسلامية هي دول إسلامية في المفهوم الشرعي، وعلى رأسها ماليزيا كونها الرئيسة الحالية لهذا المؤتمر، أفيدونا بارك الله فيكم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد عرف الفقهاء دار الإسلام بأنها الدار التي تجري فيها أحكام الإسلام وتكون القوة والمنعة فيها للمسلمين، فما كان من الدول على هذا الوصف فهي دولة إسلامية، وما لم تكن كذلك فليست دولة إسلامية. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم لقطة دار الكفر
تاريخ 12 ربيع الأول 1425 / 02-05-2004
السؤال
كيف نتصرف لو لقينا نقوداً في الطريق علماً بأننا نحن في بريطانيا؟ وجزاكم الله خيراً كثيراً، ونفع بكم المسلمين.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق أن بينا حكم اللقطة وما يجب على الملتقط، يراجع ذلك في الفتوى رقم: 11132.
واعلم أن لقطة دار الكفر التي يدخلها المسلم بأمان حكمها حكم لقطة دار الإسلام، جاء في المغني لابن قدامة: فأما إن دخل دارهم بأمان فينبغي أن يعرِّفها في دارهم لأن أموالهم محرمة عليه، فإذا لم تُعرف ملكها كما يملكها في دار الإسلام. انتهى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
الصلاة في مسجد بني بقرض ربوي أفضل أم في غيره
تاريخ 20 ربيع الثاني 1425 / 09-06-2004
السؤال
الشيخ عبد الله الفقيه ..
يشهد الله أنني أحبك في الله وأستريح كثيرا لفتواك نسأل الله أن يوفقنا إلى الصواب دائما ..
الشيخ عبد الله ..
أنا من سكان بريطانيا ويوجد بجانب بيتي مسجد بناه إخواننا الباكستانيون وقد أخذوه بالربا ولم يسددوا حتى هذه اللحظة المبالغ التي عليه وهم طبعا حسبما يقولون أن علماءهم أجازوا لهم هذا بأخذ الربا في البلدان غير المسلمة ..
ويوجد بجانبه مسجد آخر ليس بعيدا عنه مسجد بناه المتبرعون وتقام الجمعة في المسجدين .
فيا شيخ أنا أريد أن أسأل هذه الاسئلة بخصوص المسجدين :
أيهما أفضل الصلاة في المسجدين ؟
هل تجوز الصلاة في المسجد الربوي ؟
هل أدعو الناس لترك الصلاة في المسجد الربوي والذهاب إلى المسجد الآخر ؟
هل يجوز أن نأكل في الحفلات التي يقيمها المسجد وهم عادة هنا في بريطانيا المساجد تعمل تجمعا في الشهر مرة أو أكثر من مرة وتكون خلالها دروس ووجبات ؟
وبارك الله فيك ..
بانتظار الاجابة
ملاحظة قديمة أكررها أرجو أن ترسلوا لي الإجابة على الإيميل لا ترسلوا رقم الفتوى فأنا أضيع كثيرا بهذه في الماضي .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله قد حرم تناول الربا وأمر بالابتعاد عنه، قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ](البقرة:278)
وعليه؛ فلا يجوز أخذ قرض ربوي مطلقا سواء كان لشراء مكان يتخذ مسجدا أو لغرض آخر من الأغراض؛ بل إن ما يقصد به التقرب إلى الله كبناء المساجد ونحو ذلك، يتأكد فيه اتقاء الربا والحذر منه، لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا،
وقد سبق أن بينا أن حكم الربا في دار الكفر كحكمه في دار الإسلام سواء وذلك في الفتوى رقم: 13433، والفتوى رقم: 20702.
ولذلك فالواجب مناصحة أو لئك الإخوة الذين بنوا المسجد بقرض ربوي وبيان الحق لهم.(5/184)
وأما الصلاة في ذلك المسجد الذي بني بقرض ربوي، فهي جائزة، وكذلك الاجتماع فيه وحضور الحفلات التي يقيمها والأكل فيها، لأن القرض بعد قبضه يدخل في ملك المقترض، ويكون دينا عليه، وسواء في ذلك القرض الربوي وغيره، إلا أنه في القرض الربوي يأثم المقترض لتعامله بالربا.
وأما أي المسجدين أفضل، من حيث الصلاه فيه، ففي ذلك تفصيل، فإذا تاب هؤلاء الإخوة الذين بنوا المسجد بقرض ربوي واعترفوا بخطئهم، فالصلاة في المسجد ين سواء، وإن أصروا على ما فعلوا، فالصلاة في المسجد الآخر أفضل ليكون ذلك رادعا لكل من يريد أن يحذوا حذوهم في بناء المساجد بقروض ربوية، وفي حالة إصرار هؤلا ء الإخوة وعدم توبتهم فلا حرج أن تبين للناس أن الصلاة في المسجد الآخر أفضل.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
مصلحة الدعوة والتعليم أعظم من مصلحة إعفاء اللحية
تاريخ 29 جمادي الثانية 1425 / 16-08-2004
السؤال
أنا شاب أقيم في منطقة وأنا ملتزم والحمد لله وأريد أن أعمل في هذه المنطقة وأحفظ القرآن فيها وهذه المنطقة لا تريد أن يكون الشاب ملتحيا فهل أحلق لحيتي من أجل العمل والبقاء في هذه المنطقة حتى أحفظ القرآن أفيدونا جزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يثبتك على دينه، وأن يرزقنا العمل الصالح والعلم النافع.
وبخصوص إعفاء اللحية فلا شك أنه من سنن الهدى التي ندب الشرع إلى فعلها، كما جاء في صحيح مسلم: عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية....
ومع أن إعفاء اللحية من سنن الفطرة إلا أنه ليس على رأس قائمة المأمورات، فإذا تعارض إعفاؤها مع العمل لهذا الدين وتعلميه قدم ذلك عليه، فمصلحة الدعوة والتعليم أعظم من مصلحة إعفاء اللحية، وعند التعارض تقدم المصلحة الأعظم على ما دونها، ولهذا وجدنا شيخ الإسلام ابن تيمية يستحب للمسلم في دار الكفر أو دار الحرب ترك مخالفة الكفار في الهدي الظاهر إذا ترتب على مخالفتهم فوات مصلحة أو ضرر يلحقه فقال في "اقتضاء الصراط المستقيم": ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار الحرب أو دار الكفر غير دار الحرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.
وما قرره ابن تيمية لا يختص بدار الكفر أو دار الحرب، بل إذا اقتضت المصلحة الدينية والموازنة الشرعية بين المصالح والمفاسد أن يحلق المسلم لحيته في دار الإسلام فلا مانع منه، مع كراهية ذلك بقلبه، ولكن لا بد أن يغلب على الظن كون الحلق هو الوسيلة الوحيدة لتحصيل مثل هذه المهمة. وراجع الجواب رقم: 3198.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
أخذ الفقير المال الحرام من حائزه على وجه الصدقة
تاريخ 16 صفر 1426 / 27-03-2005
السؤال
لدي سؤالان، الأول: عندما يكون هنا أحد المغنين ونوى التوبة ويريد التصدق بأمواله، هل سيكون ماله على الأشخاص المتصدق عليهم حلالا أم حراما، علما بأنهم يعلمون أن مصدر هذا المال من الحرام؟
الثاني: هناك من يفتح البارات في دول الكفر لإضلال أبنائهم والمال المتحصل عليه من عمله ذلك يقوم باستخدامه ضدهم بطرق أخرى هل يجوز له ذلك؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما المال الحرام الذي اكتسبه صاحبه من عمل محرم فإنه حلال لمستحقه من الفقراء والمساكين مع علمهم أنه مال كسب من وجه محرم، فهو في حق حائزه حرام وفي حق آخذه بالحق حلال، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مسألة في الأموال التي يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما... وذكر منها الأموال التي قبضت بعقد فاسد من ربا أو ميسر ونحو ذلك.. ثم قال: وإذا أنفقت كانت لمن يأخذها بالحق مباحة كما أنها على من يأكلها بالباطل محرمة. انتهى.
ولأن هذا المال ليس ملكا لمن اكتسبه بالعمل المحرم ولا هو ملك لمن دفعه عوضا عن المنفعة المحرمة، فسبيله إذاً صرفه على الفقراء والمحتاجين ومصالح المسلمين العامة.
وأما عن جواب السؤال الثاني، فاعلم أن ما كان حراماً في دار الإسلام فهو حرام في دار الكفر، فيحرم على المسلم بيع الخمر لكافر أو مسلم، والثمن المكتسب من ذلك سحت يتخلص منه في مصالح المسلمين العامة ومن ذلك صرفه على الفقراء والمساكين، وراجع الفتوى رقم: 52331.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
السفر للعمل بغير إذن الوالدين
تاريخ 25 صفر 1426 / 05-04-2005
السؤال
أولاً جزاكم الله خيراً على توفير هذه الخدمة لنا،(5/185)
أنا شاب في مقتبل العمر أعزب أسأل الله أن يزوجني ليعصمني من الفتن فأنا أقيم في مصر وأبي رجل كبير السن يقوم بخدمة نفسه وليس في حاجة لي إلا أنه يريد من يؤنس وحدته وأنا أريد السفر للخارج لمحاولة استقرار أموري، ولكن يؤرقني أبي ووحدته ولا أريد أن أغضب ربي عز وجل، فما عنده لا ينال إلا بطاعته فلا أدري أأسافر وأتركه حتى ييسر الله لي وأرسل له ليعيش معي في بلدي الجديد أم أقيم معه وأنتظر رحمة الله عز وجل وتوفيقه؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كان سفرك آمنا ولا مخاطر يخشى عليك الهلاك فيها لا في طريقك ولا في عملك وبلد إقامتك ولا تخشى على أبيك من الضياع لو سافرت عنه، فلا مانع من السفر بدون إذن والدك وإن مانع من سفرك، والأولى أن ترضيه بما تراه مناسباً.
قال الإمام السرخسي الحنفي في شرح السير الكبير: وكل سفر أراد الرجل أن يسافر غير الجهاد لتجارة أو حج أو عمرة فكره ذلك أبواه، وهو لا يخاف عليهما الضيعة فلا بأس بأن يخرج، لأن الغالب في هذه الأسفار السلامة، ولا يلحقهما في خروجه مشقة شديدة، فإن الحزن بحكم الغيبة يندفع بالطمع في الرجوع ظاهراً، إلا أن يكون سفرا مخوفا عليه منه، نحو ركوب البحر، فحينئذ حكم هذا وحكم الخروج إلى الجهاد سواء، لأن خطر الهلاك فيه أظهر.
والسفر على قصد التعلم إذا كان الطريق آمنا، والأمن في الموضع الذي قصده ظاهراً لا يكون دون السفر للتجارة، بل هذا فوقه لقوله تعالى: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ. فلا بأس بأن يخرج إليه وإن كره الوالدان، إذا كان لا يخاف الضيعة عليهما.
قال: وإن كان يخرج في التجارة إلى دار الحرب بالأمان فكرها ذلك فإن كانوا قوما يفون بالعهد معروفين بذلك فلا بأس بأن يخرج، لأن الغالب هو السلامة، فصار هذا والخروج إلى بلدة أخرى من دار الإسلام سواء. انتهى.
وقال النووي في المجموع: إذا أراد الولد السفر لطلب العلم فقد جزم المصنف في أول كتاب السير بأنه يجوز بغير إذن الأبوين، قال: وكذلك سفر التجارة لأن الغالب فيها السلامة. انتهى.
وقال السيوطي في الأشباه والنظائر: منها: تحريمه على الولد إلا بإذن أبويه، ويستثنى السفر لحج الفرض ولتعلم العلم والتجارة. انتهى، أي لا يحرم سفر التجارة بدون إذن الوالدين، نسأل الله عز وجل أن ييسر لك أمرك.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
عمل المرأة بدار الكفر
تاريخ 22 ربيع الأول 1426 / 01-05-2005
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد الله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم والحمد لله حمداً كثيراً على جميع نعمه والتي من بينها الإنترنت.
أنا مواطن مسلم أسكن الآن في إسبانيا ولدي أخت تسكن معي وهي متزوجة غير أن زوجها لم يوفق في الحصول على جواز سفر فضلاً عن التأشيرة, علماً بأن أختي جاءت بغاية العلاج وبعد أن أجرت العملية على ركبتها أصبحت مرتبطة بالفحوصات الطبية المتعلقة بصحتها مما أدى إلى إقامتها في إسبانيا من حين إلى آخر، فلهذا ترغب في البحث عن عمل عله يساعدها في سد احتياجاتها اليومية ومصاريف علاجها، ونظراً لصعوبة العثور على عمل يستوفي جميع شروط الشريعة الإسلامية في هذه البلاد فما هو الحل، علماً بأن الأعمال التي تعرض على النساء هنا هي من قبيل ما يلي:
1- العمل كحاضنة أولاد.
2- خادمة أعمال منزلية وهذه نوعان وهي مقيمة في منزل العائلة التي تشتغل عندها ولها عطلة نهاية الأسبوع، والنوع الثاني لها ساعات محددة وتذهب إلى منزلها.
3- العمل في رعاية المسنات تقوم على جميع احتياجاتهن من نظافة وطهي وعلاج وغير ذلك وفي هذه الحالة هنا أيضاً النوعان السابقان أي مقيمة أو لمدة ساعات معينة.
4- العمل في المقاهي والمطاعم في غسل الأواني -في بعض الحالات قد تكون احتوت خمرا أو لحم خنزير- أكرمكم الله.
5- العمل في الفنادق كمنظفة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن إقامة المسلمين بدار الكفر لحاجة شرعية جائزة، وتقدر الإقامة بقدر الحاجة فإذا انقضت رجعت المسلمة إلى دار الإسلام، ويشترط لجواز الإقامة أن تأمن المسلمة على دينها، وفي الحديث: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. رواه أبو داود، قال الحافظ ابن حجر: وهذا محمول على من لم يأمن على دينه.
وعليه، فلا مانع من إقامة أخت السائل في بلاد الكفار لغرض التداوي، فإذا لم يعد لها حاجه بادرت إلى العودة إلى بلاد الإسلام.
وأما بالنسبة لحكم عمل المرأة المسلمة فإنه يشترط فيه شروط من هذه الشروط أن يكون العمل في ذاته مباحاً وعليه، فلا يحل لها أن تعمل في إعداد وتنظيف آنية الخمر والخنزير ونحو ذلك من الأعمال المتعلقة بهما.(5/186)
ومن الشروط كذلك أن لا يكون في عملها خلوة بأجنبي، أو كشف شيء من عورتها، أواختلاطها برجال أجانب، أو تعرضها للفتنة في مكان عملها، أو استذلال لها بخدمتها الكافرين، فإذا سلم العمل من هذه المحاذير جاز وإلا لم يجز، وإذا تقرر ذلك فإنه ينظر في الأعمال المعروضة في السؤال فأي عمل منها أمكن الالتزام فيه بالضوابط المتقدمة، فلا مانع من أن تعمل المرأة المسلمة فيه. وراجع الفتوى رقم: 29125، والفتوى رقم: 33338، والفتوى رقم: 51643.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
الإقامة بدار الكفر والاقتراض بفائدة لشراء بيت
تاريخ 29 ربيع الأول 1426 / 08-05-2005
السؤال
سؤالي هو أنني متزوج منذ قرابة العام من فتاة مؤمنة وصاحبة دين قوي تزوجتها وأحضرتها إلى ألمانيا والجديد أن الحياة لم تعجبها بأي شكل من الأشكال لعدة أسباب منها أننا نعيش هنا في بيئة فاسدة ولخوفنا على مستقبل أولادنا من الانحراف في هذه البيئة التي لا حول لنا ولا قوة فيها، ولأننا نعيش في مكان بعيد عن أهلنا وعائلاتنا وبيئتنا فهل يجوز أن تأخذ زوجتي قرضا من البنك في ألمانيا وأن نشتري لنا منزلا صغيرا في بلدنا مع العلم أننا إن لم نشتر بيتا ونعود في وقت قريب سيصبح من الصعب أن نعود في المستقبل البعيد لأن أولادنا إذا كبروا وتعودوا على الحياة في ألمانيا فلن تعجبهم الحياة في بلدنا ولربما لا نقدر أن ننزلهم غصبا إلى بلدنا لأنه هنا توجد حرية الرأي فلا يصح أن تضرب ولدك أو أي شيء آخر وفي حال قررنا أن نعود الآن فلا يوجد عندنا عمل في بلدنا ولا بيت ولا شيء نستطيع العيش منه إلا في حال اشترينا بيتا فهذا سيسهل علينا أشياء كثيرة أخرى لأن المنزل هو الأساس فالجميع هنا ينصحنا بأن نعود إلى بلدنا المسلمة بأسرع وقت ممكن قبل أن يكبر أولادنا ويصبح من الصعب العودة لأسباب أختلاف الدراسة بين المانيا وبلدنا ولصعوبة الحياة فهل يجوز لزوجتي أن تأخذ قرضا من البنك مع العلم أنهم يأخذون فائدة على هذا القرض ولأنه لا يوجد أنسان آخر يقرضنا هذا المبلغ فالرجاء ثم الرجاء يا أخي الشيخ ساعدنا ماذا نفعل هل نبقى هنا حتى يفوت الميعاد ونخسر أولادننا أو دين أولادنا ونكون من النادمين أو نعود الآن إلى بلدنا بلا شيء فلا عندنا منزل أوعمل أو مال ولا يوجد في بلادنا مساعدات إنسانية على عكس هنا في أوروبا فنحن الآن تدفع لنا الدولة مساعدة جيدة من أجرة البيت إلى التآمين الصحي إلى الطعام ومصروف الأولاد ولكنني متأكد أننا إن عدنا إلى بلدنا فسوف لا نجد من يساعدنا كما يساعدونا الآن في المانيا فهل يجوز أن نشتري بيتا عن طريق القرض لهذه الأسباب كلها التي أخبرتك بها وأن ديننا الإسلامي والحمد لله دين يسر وليس دين عسر فنحن مضطرون جدا أن نعود إلى بلدنا قبل فوات الآوان ولأن زوجتي تريد العودة بحجة أنها تقول إننا نعيش في بلاد لا دين فيها وتريد العودة بأسرع وقت ممكن فهل أخسر زوجتي وأولادي وأبقى هنا أم آخذ القرض وأعود أو ماذا أفعل فرجائي أيها الشيخ الجليل أن تفتي لنا عن هذه الاسئلة كلها وأنا والله أعرف أنها كثيرة ولكن ظروفنا قاهرة.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أنه يجوز للمسلم الإقامة بدار الكفر لحاجة ماسة أو مصلحة راجحة شريطة أن يأمن على دينه وخلقه ودين وخلق من هم تحت رعايته ومسؤوليته من زوجة وأبناء ونحوهم، وإذا كان الواقع ماذكره السائل فإن الخروج من هذه الدار إلى دار الإسلام أو على أقل تقدير إلى مكان في دار الكفر يأمن فيه على نفسه وأهله متعين عليه، هذا وإذا كان لا يحل للزوج أن يسكن زوجته في دار الإسلام في مكان يحصل لها بسببه ضرر في دينها وخلقها فكيف يجوز أن يسكنها في بيئة لا يسلم فيها طفل ولا امرأة ولا رجل كما هوفحوى سؤال الأخ الكريم. سئل شيخ الإسلام
عن رجل له زوجة أسكنها بين مناجيس وهو يخرج بها إلى الفرج إلى أماكن الفساد ويعاشر المفسدين. فأجاب: الحمد الله رب العالمين، ليس له أن يسكنها حيث شاء ولا يخرجها إلى حيث شاء بل يسكن بها في مسكن يصلح لمثلها ولا يخرج بها عند أهل الفجور بل ليس له أن يعاشر الفجار على فجورهم ومن فعل ذلك وجب أن يعاقب عقوبتين عقوبة على فجوره بحسب ما فعل وعقوبة على ترك صيانة زوجته وإخراجها إلى أماكن الفجور.اهـ. فالحاصل أنه ليس لك أن تقيم بهذه الدار وهذا المكان الذي تصفه بأنه بيئة فاسدة ، وليس لك أن تسكن زوجتك وأولادك في مكان لا تأمن فيه عليهم الفتنة، وقد أحسنت زوجتك الصالحة إذ رفضت الاقامة في مكان كهذا، وأما مسألة الاقتراض بفائدة فإنه حرام إلا لضرورة أو حاجة تنزل منزلتها ، فإذا أمكن أن تجد بيتا ولو بالإيجار مع قدرتكما على دفع الإيجار فلا يحل لكما الاقتراض بفائدة. وإن لم تقدرا على الاستئجار فلا مانع من الاقتراض لشراء مسكن للسكن، لأن السكن من الضرورات، وراجع الفتوى رقم: 6689، والفتوى رقم: 15092 .
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
الغش والتزوير في دار الكفر
تاريخ 14 ربيع الثاني 1426 / 23-05-2005(5/187)
السؤال
صديقي ذهب من هذا البلد إلى بلد أوربي كلاجئ من فلسطين، في الحقيقة هو ليس من فلسطين بل هو من بلد آخر ولكن أصله من فلسطين، حتى يحصل على إقامة رسمية هناك. ويريد الآن أن يرجع إلى بلده لأنه يعتقد أنه على خطأ، فهل يجوز له أن يبقى في ذلك البلد ويحصل على الراتب، أم عليه أن يرجع إلى بلده، فهل لو بقي هناك هل يجوز له أن يستفيد من هذا
الراتب؟ فهل يعتبر راتبه محرما؟ فماذا عليه أن يفعل الآن؟
أريد إجابة عاجلة
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالكذب والغش حرام في دار الكفر كما هو كذلك في دار الإسلام، ومن دخل دار الكفر بأمان وعهد فيحرم عليه خيانتهم وأخذ مالهم بالتزوير والكذب.
وعليه فإذا كان ما فعله صديقك من سبيل التزوير والغش فإن الواجب عليه التوبة إلى الله عز وجل وإصلاح وضعه بالتزامه الشروط المرعية في هذا الباب، لقوله صلى الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم. رواه أبو داود. فإذا كانت الشروط في استحقاق الراتب والإقامة لا تنطبق عليه فلا يحق له شيء منهما، وراجع للمزيد الفتوى رقم: 20632 والفتوى رقم: 29762.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
بيع الأطعمة المشتملة على كحول لغير المسلمين
تاريخ 27 ربيع الثاني 1426 / 05-06-2005
السؤال
نحن مجموعة من المسلمين نعيش فى بلد غير إسلامى ونقوم بشراء الأطعمة الحلال بالجملة ثم نقوم بتوزيعها فيما بيننا إلا أنه بطريق الخطأ اكتشفنا بعد شراء بعض الأطعمة أنها تحتوى على الكحول ولا نستطيع إعادتها إلى المصدر الذى اشتريناها منه، والسؤال هو: هل يجوز أن نبيعها لغير المسلمين كي نسترد أموالنا، مع العلم بأنني قرأت الفتوى رقم 50778 ولكني غير متأكد بأن الفتوى المذكورة تنطبق على حالتنا؟ ولكم منا جزيل الشكر والعرفان.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي عليه جمهور العلماء هو حرمة التعامل مع الكفار في كل أمر محرم شرعاً، سواء أكان ذلك في دار الإسلام أو في دار الكفر.
ومن المعلوم أن الكحول وسائر المسكرات منهي عنها كالخمر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام. رواه أحمد وأبو داود.
فهي إذا محرمة على المسلم شربا وبيعاً وشراء وغير ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها. رواه أبو داود.
كما أن في بيع الكحول ولو لغير المسلمين نوعا من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {المائدة:2}.
وعليه، فلا يجوز أن تبيعوا هذه الأطعمة لغير المسلمين ولا للمسلمين ولو قدرتم على استرداد الثمن الذي دفعتم، ورد السلع إلى مصدرها الذي اشتريتموها منه، ولو بأقل من الثمن فإن لكم ذلك، فإن لم يمكن فهي مصيبة نزلت بكم.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
قسمة التركات لا فرق فيها بين دار الإسلام ودار الكفر
تاريخ 06 جمادي الأولى 1426 / 13-06-2005
السؤال
فى حالة وفاة شخص مسلم فى بلاد المهجر هل يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية في توزيع التركة مع العلم، أن الهالك ترك وصية لأخيه وفي حالة عدم توافق الورثة، فهل يجوز تطبيق قانون هذا البلد الذي توجد به كل ممتلكات الهالك؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا بد للمسلم من تطبيق شرع الله وتنفيذ حكمه سبحانه لا فرق في ذلك بين دار الإسلام ودار الكفر، وقسمة التركات وتوزيعها مما بينه سبحانه وتعالى بنفسه ولم يكله لملك مقرب ولا نبي مرسل، وختم ذلك بأمر عظيم بليغ، فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ {النساء:13-14}.
فهذا هو الواجب أن توزع التركة كما أمر الله سبحانه وتعالى ولا يجوز رفض ذلك، فعلى جميع الورثة الانقياد والإذعان له، فقد قال سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا {الأحزاب:36}، فلا خيرة للمسلم بعد أمر الله وحكمه، وإذا اضطر المسلم في بلاد الغرب إلى مخاصمة ومحاكمة فينبغي أن تكون إلى المراكز الإسلامية في تلك البلاد أو إلى هيئة إسلامية أو محكمة شرعية خارجها، ولا يلجأ إلى المحاكم الوضعية بحال ما أمكن ذلك، كما بينا في الفتوى رقم: 26057.(5/188)
وأما وصية الميت لأخيه فإنها لا تنفذ ولا تجوز إذا كان وارثاً إلا إذا أجازها الورثة فتكون عطية منهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. أخرجه أبو داود وغيره وصححه الألباني.
وأما إن كان غير وارث لكونه محجوبا عن الإرث بوجود ابن أو أب للميت فتجوز له الوصية في الثلث فما دونه وعلى الورثة تنفيذ الوصية قبل قسمة التركة كما جاء في كتاب الله: مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ {النساء:12}، كما بينا في الفتوى رقم: 21998.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الموازنة بين الإقامة في دار الإسلام ودار الكفر
تاريخ 09 جمادي الأولى 1426 / 16-06-2005
السؤال
فضيلة الشيخ
أنا مسلم مقيم في أوروبا منذ عشرين سنة تقريبا، لقد وصل حال المسلمين في هذا البلد إلى مستوى من الذل والإهانة ما يصعب وصفه وبدأت أفكر في العودة إلى بلدي الأصلي المغرب إلا أنه لي أطفال يدرسون الثانوية بقي على الحصول على شهادتهم سنتان وأصبحت أخشى على بناتي أن يحصل لهن ما حصل للكثير من المسلمين بالذوبان في هذا المجتمع لكن وضع بلادي لا يساعد بناتي على التعليم حيث التعليم هناك باللغة الفرنسية ولا توجد مدارس تساعد على قبولهم في الثانويات هناك فأرجو النصح هل أعود وأضحي بكل شيء وخصوصا لي بنت بقي على تخرجها طبيبة سنتان فقط أم أصبر على ما يصيبنا ونفوض الأمر لله وما رأي الشرع في الإقامة في دار الكفر، مع العلم بأن لنا في هذا البلد الحرية التامة في القيام بشعائرنا الدينية أكثر مما هو عليه الحال في البلاد الإسلامية؟ وجزاكم الله خير الجزاء.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل جواز الإقامة للمسلم في أي مكان من أرض يستطيع القيام فيها بأداء شعائر دينه ويأمن فيها على نفسه وعياله وماله.... وما دمت آمنا على دينك ونفسك وعيالك.. هناك، ولكن طول المقام تترتب عليه مفاسد... وكذلك الرجوع إلى الوطن تترتب عليه مفاسد أخرى أيضاً.. فإن عليك أن توازن وتقارن بين تلك المفاسد فترتكب أقلها ضرراً.
فقد قال أهل العلم: إن الشريعة مبناها على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد أو تقليلها، وترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين باحتمال أدناهما وأقلهما ضرراً.
مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار كرامة المسلم وحريته في كلا البلدين، فلا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه أو يهينها بالمقام في مكان أو الرحيل إلى آخر يهان فيه أو يذل... فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه. رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
سفر المرأة مع صبي لها
تاريخ 07 شعبان 1426 / 11-09-2005
السؤال
أرجو التكرم بالإجابة على سؤالي هذا تحديدا دون تحويل الأمر إلى فتوى سابقة أو رد على سؤال سابق السؤال هل يجوز أن أسمح لزوجتي ومعها ابني وعمره عام ونصف بالسفر إلى أمريكا لزيارة أختها المتزوجة هناك وأخيها؟
ولكم جزيل الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يجوز لك أن تأذن للمرأة بالسفر بدون محرم إلى أمريكا ولا إلى غيرها، لما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم منها. والحديث في الصحيحين .
ولا شك أن السفر بدون محرم يزداد تحريماً إذا كان إلى بلاد الكفر التي نهى الشرع عن الإقامة فيها، إضافة إلى ما هم عليه من الانحلال والتفسخ والفساد الأخلاقي، قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم. وفي رواية: فوق ثلاث. وفي رواية: ثلاثة. وفي رواية: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم. وفي رواية: لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها. وفي رواية: نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين. وفي رواية: لا يحل لامرأة مسلمة تسافر ليلة إلا ومعها ذو حرمة منها. وفي رواية: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم.
وفي رواية: مسيرة يوم وليلة. وفي رواية: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. هذه روايات مسلم.(5/189)
وفي رواية لأبي داود: ولا تسافر بريداً. والبريد مسيرة نصف يوم. قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين، واختلاف المواطن، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد، قال البيهقي: كأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم فقال: لا. وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال: لا. وسئل عن سفرها يوما فقال: لا. وكذلك البريد. فأدى كل منهم ما سمعه، وما جاء منها مختلفاً عن رواية واحدة فسمعه في مواطن، فروى تارة هذا، وتارة هذا، وكله صحيح، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفراً، فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين، أو يوماً، أو بريداً، أو غير ذلك، لرواية ابن عباس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السابقة: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً. والله أعلم. انتهى من شرح مسلم للنووي.
وقد حكي الإجماع على تحريم سفر المرأة بلا محرم، إلا السفر للحج والعمرة، والخروج من دار الشرك، أو الفرار من الأسر، قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث الصحيحين السابق: واستدلوا به على عدم جواز السفر للمرأة بلا محرم، وهذا إجماع في غير الحج والعمرة، والخروج من دار الشرك.
ونقل النووي عن القاضي عياض قوله: واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم، إلا الهجرة من دار الحرب فاتفقوا على أن عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام، وإن لم يكن معها محرم...
قال القاضي عياض: قال الباجي: هذا عندي في الشابة، وأما الكبيرة غير المشتهاة فتسافر في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم.
وهذاالذي قاله الباجي لا يوافق عليه، لأن المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة. ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس، وسقطهم ما لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها، لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته، وخيانته، ونحو ذلك. والله أعلم. انتهى من شرح النووي.
واعلم أن الولد الصغير لا يعتبر محرماً للمرأة لأن المحرم المطلوب في السفر لابد أن يكون بالغاً عاقلاً على الراجح من أقوال أهل العلم، قال ابن قدامة: ويشترط في المحرم أن يكون بالغاً عاقلاً، قيل لأحمد: فيكون الصبي محرماً؟ قال: لا، حتى يحتلم لأنه لا يقوم بنفسه فكيف يخرج مع امرأة؟. وذلك لأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة، ولا يحصل إلا من البالغ العاقل فاعتبر ذلك.
وقال الأحناف كما نص عليه صاحب الهداية: ولا عبرة بالصبي والمجنون لأنه لا تتأتى منهما الصيانة.
وقال زكريا الأنصاري الشافعي في شرح البهجة: وينبغي عدم الاكتفاء بالصبي لأنه لا يحصل معه الأمن على نفسها، إلا مع مراهق ذي وجاهة، بحيث يحصل معه الأمن لاحترامه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
المعاهد.. معناه.. وشروط سكنه في البلاد الإسلامية
تاريخ 04 ذو القعدة 1426 / 05-12-2005
السؤال
ما معنى المعاهد وما شروط تواجده في البلد المسلم ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمعاهَد اسم مفعول من عاهد . قال في النهاية : المعاهد : من كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة ، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدة ما .
وقد يطلق أيضاً على المستأمن ، قال الشوكاني : المعاهد : هو الرجل من أهل الحرب يدخل دار الإسلام بأمان فيحرم على المسلمين قتله . انتهى
وفي شرح الخرشي على خليل : المعاهَد : بفتح الهاء وهو الشائع على الألسن ، أي الذي عاهده المسلمون ، أي أعطوه عهداً وموثقاً أن لا يتعرضوا له ، وبكسرها ، أي الذي عاهد المسلمين ، أي أخذ منهم عهداً وموثقاً بالأمان . انتهى
ويشترط لسكنى المعاهد في البلاد الإسلامية شرطان :
الأول: أن لا يكون سكناه في شيء من جزيرة العرب ، وقد بينا ذلك مفصلاًِ في الفتوى رقم : 7706 ، فليرجع إليها .
والشرط الثاني : أن لا ينقض العهد الذي تم معه ، ومتى نقض العهد كان للإمام الخيار في قتله، أو استرقاقه، أو أخذ الفداء منه، أو المن عليه، أو رده لذمته .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الوفاء بالعقد مع الكافر
تاريخ 21 محرم 1427 / 20-02-2006
السؤال
أنا شاب مسلم أسكن في بلد أوروبي ولي صديق لا يعمل يأخذ المساعدة المالية من الدولة، لكن انتقل إلى دولة أوروبية أخرى ويعمل هناك مع استمرار أخذ المال من الدولة الأولى ويقول هذه ليست سرقة بل نوع من الجهاد أو بالأحرى أجاهد فيهم اقتصادياً، هل هذا صحيح، وإن لم يكن هل التستر عليه يعتبر حراما بالنسبة لي في الإسلام؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(5/190)
فالعمل الذي قام به صديقك لا يجوز، لأن فيه تحايلا على أخذ أموال الناس بالباطل، وذلك لأن الدولة التي يأخذ منها المنحة لو علمت أنه يشتغل في دولة أخرى لمنعتها عنه، أضف إلى ذلك أنه سيضطر إلى تحايلات أخرى لإثبات أنه لا زال عاطلاً عن العمل حتى يستمر في أخذ المنحة، وهذا مع ما فيه من الكذب فهو مناف لأمر الله تعالى بالوفاء بالعقود، فقد قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ {المائدة:1}.
وهذا عام فيجب الوفاء بالعقد مع أي كان من مسلم أو كافر، قال الإمام الشافعي: والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر. وقال الماوردي: وقد أجمع الفقهاء على أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان أو بموادعة حرم تعرضه لشيء من دم ومال وفرج منهم إذ المسلمون على شروطهم.
وأما التبليغ عنه إلى الجهات المسؤولة فلا نرى ذلك، بل يكتفى بنصحه وتحذيره من أكل المال الحرام.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الصلاة في المساجد في ديار الكفر
تاريخ 04 صفر 1427 / 05-03-2006
السؤال
ما هى ديار الكفر وهل يجوز عدم الصلاة بالمساجد بديار الكفر ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فدار الكفر هي كل دار كانت أحكام الكفر فيها ظاهرة غالبة .
وأما الصلاة فواجبة على المسلم أينما كان سواء كان في دار الكفر أو دار الإسلام، وإذا وجد مسجد في ديار الكفر فالمطلوب من المسلم أن يصلي فيه مع إخوانه المسلمين ليحوز زيادة الأجر والثواب، فالصلاة في المسجد خير من الصلاة في البيت بالنسبة للرجل، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة . وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى .
ومن أهل العلم من ذهب إلى أن صلاة الجماعة في المسجد واجبة على الرجال ، إلا من عذر ، ومنهم من ذهب إلى أنها شرط في صحة الصلاة فلا ينبغي التساهل في حضور الجماعة في المسجد مع قوله صلى الله عليه وسلم : من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر . رواه ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الحرام في بلاد الإسلام حرام في بلاد غير المسمين
تاريخ 08 صفر 1427 / 09-03-2006
السؤال
سؤالي هو : هل يجوز المتاجرة بتذاكر حفلات غنائيه علما بأن الحفلات هي لمغنيين أجانب والشراء أجانب غير مسلمين أيضا والمتاجره في بلد غير مسلم؟
وبارك الله جهودكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن ما هو محرم في بلاد الإسلام هو كذلك محرم في بلاد غير الإسلام ، يقول الإمام الشافعي في كتاب الأم : إن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر ، والحرام في بلاد الإسلام حرام في بلاد الكفر .
وقال أبو يوسف : لا يجوز للمسلم في دار الحرب إلا ما يجوز له في دار الإسلام . اهـ. من بدائع الصنائع .
ويقول الإمام النووي : فما كان حراما في دار الإسلام كان حراما في دار الحرب, سواء جرى بين مسلمين أو مسلم وحربي ، سواء دخلها المسلم بأمان أم بغيره ، هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف والجمهور . أهـ .
وعليه.. فلا يحل لك المتاجرة في هذه الحفلات ولا بيع تذاكر المغنين والمغنيات, سواء أكانوا مسلمين أو كفارا، وسواء كان المشترون لها مسلمين أو كفارا لاشتمال الأغاني على ماهو محرم شرعا كما لا يخفى على أحد .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
معنى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ) و (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ)
تاريخ 09 شوال 1427 / 01-11-2006
السؤال
أرجو تفسير الآيات 6***61 من سورة التوبة ؟
وشكرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(5/191)
فقد جاءت الآية السادسة من سورة التوبة في سياق حديث القرآن الكريم عن قتال المشركين بعد انتهاء مدة العهد وانسلاخ الأشهر الحرم حيث يقول تعالى : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ {التوبة: 5 } وفي هذا السياق يقول تعالى في الآية السادسة آمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأولياء الأمر من بعده : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ {التوبة : 6 } قال أهل التفسير : وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وحصارهم وأخذهم ورصدهم استجار بك وسأل أمانك وذمتك فأعطه ذلك حتى يسمع القرآن وأحكامه وأوامره ونواهيه، فإن قبل الإسلام فبها ونعمت، وإن أبى ورفض فرده إلى مأمنه، أي إلى المكان الذي يأمن فيه. قال صاحب الظلال : وبعد انتهاء العهد وانسلاخ الأشهر الحرم وإعلان الحرب يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك، فهو لا يعلنها حرب إبادة على كل مشرك؛ وإنما حملة هداية كلما أمكن ذلك، فالمشركون الأفراد أو الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى له يكفل لهم الإسلام في داره الأمن، ويأمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيرهم حتى يسمعوا كلام الله ويتم تبليغهم فحوى هذه الدعوة، ثم يحرسهم حتى يبلغوا مأمنهم، هذا كله وهم مشركون!! إن هذا يعني أن الإسلام حريص على كل قلب بشري أن يهتدي، وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان .
وأما الآية رقم ( 61 ) فهي في المنافقين وهي في نوع خاص منهم، وقد فضحهم الله عز وجل في هذه السورة وفي غيرها وبين قبيح أعمالهم وفضح ما تنطوي عليه سرائرهم الخبيثة فقال تعالى : وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {التوبة: 61 } قال المفسرون : ومن المنافقين صنف يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بألسنتهم وينالون من شخصه ودينه ودعوته بالكذب والباطل ويقولون: هو أذن . أي من قال له شيئا صدقه فينا ومن حدثه صدقه، فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا. والأذن هو من يسمع إلى مقال كل أحد ، ومراد المنافقين بهذا القول -قاتلهم الله- أنهم إذا آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وبسطوا فيه ألسنتهم بالكذب والزور وبلغه ذلك اعتذروا له وحلفوا على ذلك فسيقبل منهم لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه، فهو أذن -في زعمهم قبحهم الله- يصدق كل ما يقال لا يفرق بين الحق والباطل اغترارا منهم بحلمه عنهم وصفحه عما يصدر منهم كرما وحلما وتغاضيا عن الجاهلين ، فرد الله تعالى عليهم وأجاب عن قولهم بقوله تعالى : قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ . كأنه قال : نعم هو أذن؛ ولكن نِعْم الأذن هو لكونه أذن خير وليس أذنا في غير ذلك. والمعنى : أنه صلى الله عليه وسلم أذن خير للمنافقين ورحمة لهم حيث لم يكشف أسرارهم ولم يفضح قبائحهم، فكأنه قال : هو أذن كما قلتم لكنه أذن خير لكم لا أذن سوء، فسلَّم لهم قولهم فيه؛ إلا أنه فسره بما هو مدح له وثناء عليه، وإن كانوا قصدوا الذم وعدم الفطنة. ومعنى : ورحمة للذين آمنوا منكم . أي الذين أظهروا الإيمان منكم وإن لم يكونوا مؤمنين في الحقيقة، وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولهم جهلا بحالهم بل رفقا بهم ورحمة لحالهم. ومعنى : يؤمن بالله . يصدق به وبكل ما جاء من عنده. ومعنى : ويؤمن للمؤمنين . يصدقهم لما علم من صدق إيمانهم وإخلاص نياتهم. ومعنى "والذين يؤذون رسول الله" بالقول والفعل "لهم عذاب أليم" في الدنيا بالقتل، فالذي يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم حده القتل، وأما في الآخرة فمصيره النار وبئس القرار . اهـ . ملخصا من كتب التفسير .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الربا في دار الحرب و دار الإسلام
تاريخ 18 صفر 1428 / 08-03-2007
السؤال
السادة المشايخ ما سبب ورود حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: لا ربا بين مسلم وكافر فى ديار الكفر. أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وما هي المناسبة التي قيل فيها هذا الحديث، وأين قالها أفي المدينة أم خارجها، ولمن قالها؟ ولكم مني جزيل الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأنا لم نجد من ذكر سبب ورود هذا الحديث مع العلم بأن الحديث ضعيف فهو مرسل أرسله مكحول وهو تابعي. وقد اختلف العلماء في العمل به وفي معناه، أما في معناه فحمله النووي وابن قدامة لو ثبت على أن المراد به النهي عن الربا في دار الحرب، كقوله: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ. وكقوله: لا ضرر ولا ضرار.(5/192)
وحمله بعض الحنفية على نفي الربا، وأما حكم الربا في دار الحرب فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه حرام في دار الحرب كحرمته في دار الإسلام، فما كان حراماً في دار الإسلام كان حراماً في دار الحرب، سواء بين المسلمين وبين أهل الحرب، أو بين مسلمين لم يهاجرا من دار الحرب، وبهذا قال الشافعية والمالكية والحنابلة، وأبو يوسف من الحنفية، وقالوا: إن النصوص في تحريم الربا عامة، ولم تفرق بين دار ودار، ولا بين مسلم وغيره وهذا هو الموافق لما علم في الإسلام من العدل في المعاملات مع الكفار والوفاء. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يحرم الربا في دار الحرب بين المسلم وأهل الحرب، ولا بين مسلمين لم يهاجرا من دار الحرب، واحتجوا بالحديث: لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب.
قال ابن قدامة في المغني: ويحرم الربا في دار الحرب، كتحريمه في دار الإسلام، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو يوسف والشافعي وإسحاق. وقال أبو حنيفة: لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب، لا ربا بينهما. لما روى مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب. ولأن أموالهم مباحة، وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحاً. ولنا، قول الله تعالى: وحرم الربا. وقوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل. وقوله: من زاد أو ازداد فقد أربى. عام، وكذلك سائر الأحاديث. ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب، كالربا بين المسلمين، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن، وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه، بخبر مجهول، لم يرد في صحيح، ولا مسند، ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل محتمل، ويحتمل أن المراد بقوله: لا ربا. النهي عن الربا، كقوله: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ....
وفي المجموع شرح المهذب عند الكلام على الربا:
ولا فرق في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حراماً في دار الإسلام كان حراماً في دار الحرب، سواء جرى بين مسلمين أو مسلم وحربي، سواء دخلها المسلم بأمان أم بغيره هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف والجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يحرم الربا في دار الحرب بين المسلم وأهل الحرب، ولا بين مسلمين لم يهاجرا منها، وإذا باع مسلم لحربي في دار الحرب درهما بدرهمين أو أسلم رجلان فيها ولم يهاجرا فتبايعا درهما بدرهمين جاز، واحتج له بما روى عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب ولأن أموال أهل الحرب مباحة بغير عقد، فالعقد الفاسد أولى، واحتج أصحابنا بعموم القرآن والسنة في تحريم الربا من غير فرق، ولأن ما كان ربا في دار الإسلام كان ربا محرما في دار الحرب، كما لو تبايعه مسلمان مهاجران، وكما لو تبايعه مسلم وحربي في دار الإسلام، ولأن ما حرم في دار الإسلام حرم هناك، كالخمر وسائر المعاصي، ولأنه عقد على ما لا يجوز في دار الإسلام، فلم يصح كالنكاح الفاسد هناك والجواب: عن حديث مكحول أنه مرسل ضعيف فلا حجة فيه، ولو صح لتأولنا على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب جمعاً بين الأدلة.
وأما: قولهم: إن أموال الحربي مباحة بلا عقد، فلا نسلم هذه الدعوى إن دخلها المسلم بأمان، فإن دخلها بغير أمان فالعلة منتقضة كما إذا دخل الحربي دار الإسلام فبايعه المسلم فيها درهما بدرهمين، وأنه لا يلزم من كون أموالهم تباع بالاغتنام استباحتها بالعقد الفاسد ولهذا تباح أيضاً على نسائهم بالسبي دون العقد الفاسد.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
البقاء في دار الكفر.. أم الهجرة لدار الإسلام والعمل في بنك ربوي
تاريخ 07 ربيع الأول 1428 / 26-03-2007
السؤال
أنا شاب عمري 25 سنة، عشت في بلد مسلم, عندما بلغ عمري 18 سنة هاجرت إلى بلد أوروبي فرنسا للدراسة, والآن وقد أتممت دراستي شرعت في العمل في فرنسا, أرغب في العودة إلي بلدي, فشرعت في البحث عن عمل, وجدت عملا في بنك ربوي, سؤالي: مع العلم بأني أعمل في ميدان الحاسوب والتكنولوجيا، فهل يجوز لي العمل في هذا البنك والعودة إلي بلد الإسلام أم أبقى في عملي الحالي؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالجواب على هذا السؤال في نقطتين:
الأولى: أن هجرة المسلم من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام تكون واجبة إذا خشي على نفسه الفتنة ولم يقدر على إظهار شعائر دينه، أما إذا كان قادراً على إظهار شعائر دينه ولم يخش فتنة فالهجرة في حقه مستحبه لا واجبة.(5/193)
النقطة الثانية: إذا كان لا يجد في حال عاد إلى بلده سوى هذا العمل المحرم، فإنه يبقى في البلد الذي هو فيه ولا يسافر، لأن سفره مستحب وعمله في البنك الربوي محرم، ولا شك أن اجتناب المحرم مقدم على إتيان المستحب.
أما إذا كان سفره من دار الكفر إلى دار الإسلام واجب فيجب عليه الهجرة، وليبحث عن عمل مباح شرعاً وسيجد، فإن الحرام لم يُطبِق على أرض الإسلام، وإن فرض أنه لم يجد عملاً إلا في هذا المجال المحرم وليس له مورد للرزق يكفي حاجته، فإن العمل في البنك الربوي أقل ضرراً وأهون مفسدة من بقائه في بلاد يخشى فيها على دينه، وهذا شأن المفاسد إذا اجتمعت ولا يمكن اجتنابها كلها، فترتكب المفسده الصغرى لدرء المفسدة الكبرى، جاء في الأشباه والنظائر: إذا تعارض مفسدتان رُوعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما. انتهى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم العمل في تحرير عقود الربا لغير المسلمين
تاريخ 27 ربيع الثاني 1428 / 15-05-2007
السؤال
سيدي الفاضل هل يجوز العمل في بنك ربوي فرنسي وعملي هو تحرير عقود لغير المسلمين لكي يحصلوا على مبالغ نقدية من هذا البنك لشراء ما يحتاجون إليه وبزيادة فوائد يأخذها البنك؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العمل في كتابة عقود الربا حرام، لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء. رواه مسلم.
ولا فرق في حرمة كتابة عقد الربا بين أن يكون ذلك العقد للمسلمين وبين أن يكون لغيرهم، وما كان حراماً في دار الإسلام فهو حرام في دار الكفر أيضاً، يقول الإمام الشوكاني رحمه الله: فإن أحكام الشرع لازمه للمسلمين في أي مكان وجدوا ودار الحرب ليست بناسخه للأحكام الشرعية أو بعضها. انتهى.
ويقول الإمام الشافعي: والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر. انتهى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
أقوال أهل العلم في تبعية الصغير لوالديه في الدين
تاريخ 04 رجب 1428 / 19-07-2007
السؤال
رجل نصرانى متزوج من نصرانية وأنجبا ولدين هداه الله بعد ذلك للإسلام ولكن ظلت زوجته على دينها وكذلك الولدان، تزوج من أخرى مسلمة ورزقه الله منها بولد, ثم توفاه الله فكيف تقسم التركة بين زوجته النصرانية وولديها وبين الزوجة المسلمة وولدها؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالرجل المذكور إذا مات مسلماً فلا ترثه زوجته النصرانية، أما ولداها فإن كانا وقت موته غير بالغين سن الرشد فلهما الإرث لأنهما يتبعان أباهما في الدين، وكذلك إذا كان أحدهما غير بالغ فله الإرث، وإن بلغا معاً وكانا نصرانيين فلا إرث لهما، وكذلك إذا كان أحدهما نصرانياً بالغاً فلا إرث له وترثه زوجته المسلمة وولدها، وتقسيم التركة على النحو التالي:
لزوجته المسلمة ثُمُن تركته وللأولاد الثلاثة ما بقي إذا كان ولداه من النصرانية محكوم بإسلامهما، وإن حكم بإسلام أحدهما كان الباقي للولدين المسلمين.
وإليك لمزيد من التفصيل نقل كلام أهل العلم فيما يتعلق بتبعية الصغير لوالديه في الدين، قال ابن قدامة في المغني ممزوجاً بالخرقي: (ومن أسلم من الأبوين، كان أولاده الأصاغر تبعاً له) وبهذا قال الشافعي. وقال أصحاب الرأي: إذا أسلم أبواه أو أحدهما، وأدرك فأبى الإسلام، أجبر عليه، ولم يقتل. وقال مالك: إن أسلم الأب، تبعه أولاده، وإن أسلمت الأم لم يتبعوها، لأن ولد الحربيين يتبع أباه دون أمه، بدليل الموليين إذا كان لهما ولد، كان ولاؤه لمولى أبيه دون مولى أمه، ولو كان الأب عبداً أو الأم مولاة، فأعتق العبد لجر ولاء ولده إلى مواليه، ولأن الولد يشرف بشرف أبيه، وينتسب إلى قبيلته دون قبيلة أمه، فوجب أن يتبع أباه في دينه أي دين كان. وقال الثوري: إذا بلغ خير بين دين أبيه ودين أمه، فأيهما اختاره كان على دينه، ولعله يحتج بحديث الغلام الذي أسلم أبوه، وأبت أمه أن تسلم، فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أبيه وأمه، ولنا أن الولد يتبع أبويه في الدين، فإن اختلفا، وجب أن يتبع المسلم منهما، كولد المسلم من الكتابية، ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى، ويترجح الإسلام بأشياء، منها أنه دين الله الذي رضيه لعباده، وبعث به رسله دعاة لخلقه إليه، ومنها أنه تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة، ويتخلص به في الدنيا من القتل والاسترقاق وأداء الجزية، وفي الآخرة من سخط الله وعذابه، ومنها أن الدار دار الإسلام يحكم بإسلام لقيطها، ومن لا يعرف حاله فيها، وإذا كان محكوماً بإسلامه، أجبر عليه إذا امتنع منه بالقتل، كولد المسلمين، ولأنه مسلم فإذا رجع عن إسلامه وجب قتله، لقوله صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه. وبالقياس على غيره. انتهى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
شروط جواز السفر للدراسة في ديار الكفار
تاريخ 16 رجب 1428 / 31-07-2007
السؤال(5/194)
أنا شاب حصلت على شهادة الماجستير في اللغة العربية، وقد ابتعثتني الجامعة إلى أمريكا للدراسة في قسم الدراسات الشرقية، وخلال تعلمي للغة الانجليزية بدأت أفكر في حكم إقامتي وهل هي جائزة، وهل الراتب الذي سوف أحصل عليه من هذه الشهادة راتب حلال أم أنه ما بني على باطل فهو باطل، علما بأن القسم يعطيني بعض المواد الدراسية في تعلم اللغة العبرية، والمدينة التي أقيم فيها تضم مسجداً تصلى فيه الجمعة والجماعة، وأنا أنوي الزواج في عودتي الأولى إلى السعودية، فأفيدونا؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأن الأصل أن الإقامة في بلاد الكفار لا تنبغي إلا لضرورة أو حاجة معتبرة، فإن كان التخصص الذي تدرسه لا يتوفر في بلاد المسلمين فلا بأس بالإقامة هناك لتلقي العلم مع أخذ الحيطة والحذر مما قد يفسد على المسلم دينه وأخلاقه... ولذلك فإننا نوصيك بتقوى الله تعالى وصحبة الأخيار والمحافظة على الجماعة والجمعة ما دام ذلك متوفراً لك وفي محل إقامتك.
وما ذكرت من نيتك الزواج عند العودة هو الصواب وكان الأولى أن تكون قد تزوجت وصحبت زوجتك معك لتكون صوناً لك وعونا لك على الطاعة ونوائب الغربة... ولتعلم أن دراسة اللغة الأجنبية عموماً ليست من الباطل، بل قد تكون من الأمور الضرورية التي لا بد للمسلمين من معرفتها ولربما ترقى أن تكون فرض كفاية، فقد روى الإمام أحمد وغيره أن زيد بن ثابت رضي الله عنه تعلم السريانية في سبعة عشر يوماً بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صححه الألباني في السلسلة.
وأما الراتب الذي سوف تحصل عليه من الشهادة فحكمه يترتب على حكم العمل بها فإن كان العمل مباحاً كان ما يترتب عليه من الراتب مباحاً، والعكس صحيح.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
لا يجوز لمن لم يأمن على دينه السفر لديار الكفر
تاريخ 10 جمادي الثانية 1428 / 26-06-2007
السؤال
هل يمكنكم تزويدي بإيميل شيخ من مشايخ كوسوفو أو البوسنة لأمر خاص يتعلق بي دينياً، وهل يجوز لي الهجرة إلي أرض الغرب وأمي موافقة بلسانها وغير راضية بقلبها لعلمها بأني لن أحقق شيئاً هنا لسيطرة إخوتي على تركة أبي رحمه الله، وهل أسافر ولن أنساها وسأكون وفياً لها من أرض الغرب، السؤال الأهم هو: اعطوني عناوين لمشايخ من تلك الدولتين البوسنة أو كوسوفو لأمر خاص يتعلق بفتوى مصيرية، أنا لا أطلب موقعا إسلاميا للإجابة بل عناوين مشايخ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس من اختصاصنا البحث عن مثل هذه العناوين لأن الموقع مشغول ببيان الأحكام الشرعية العلمية فقط، والأصل أنه لا يجوز السفر إلى بلاد غير المسلمين إلا لضرورة كطلب علم لا يوجد في بلاد المسلمين مع حاجة الفرد أو جماعة المسلمين إليه، وكذا الدعوة إلى الله تعالى ونحو ذلك، وذلك لما يترتب على السفر إلى تلك البلاد من المفاسد خصوصا في جانب الأخلاق، ومع ذلك فإن المرء إذا أمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتن، وقدر على إقامة شعائر الإسلام فإن أهل العلم لا يرون بأساً في هجرته، والأدلة الواردة في عدم جواز الإقامة في بلاد الكفار محمولة على من يكون غير قادر على إقامة شعائر الإسلام وغير آمن على دينه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تراءى ناراهما. رواه أبو ادود والنسائي والترمذي، وصححه الألباني، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا الحديث: وهذا محمول على من لم يأمن على دينه.
وكقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {النساء:97}، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: هذه الأية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص الآية.
وأما إذا خشي على دينه بالإقامة في بلاد الكفر فتجب عليه الهجرة منها إلى بلد آمن، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 10334، والفتوى رقم: 2007.
وأما بر الأم فهو من آكد الواجبات، فاحرص على رضاها مهما كان حالك فبرها ودعاؤها خير لك، فعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك. متفق عليه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الإقامة في بلاد الكفار
تاريخ 25 ربيع الثاني 1428 / 13-05-2007
السؤال(5/195)
أرجو من فضيلتكم أن تفيدوني وأن تنصحوني من فضلكم لأني في حيرة ومذبذب قليلا وإني خائف وعندي رهبة يا شيخ، هاته قصتي وأرجو من فضلكم الجواب سريعا إن أمكن، أنا جزائري مقيم في ايطاليا مند 8سنوات وكنت في غفلة وتشبهت بهم و لكن كنت أصلي الحمد لله و لكن في غفلة مع بعض المعاصي من الموسيقى ودخول الأماكن التي فيها المعاصي كالسينيما, ومند 3سنوات
رزقني الله حب الالتزام وزوجة صالحة كنت دائما أدعو الله بزوجة صالحة وتمنيتها مند زمن والحمد لله، وفي هاته الفترة اشتدت علي الابتلاءات لكن الحمد لله, ولكن يا شيخ أريد منكم التوضيح فعندي عدة أمور أريد معرفتها: أولا: لما علمت أن الهجرة حرام ومع الحديث كما تعلم مع أني الحمد لله الله رزقني بغض البصر وصرفني عن المعاصي كالأفلام والأغاني والموسيقى وما شابه ذلك وأنا مقبل عن الزواج وأنا أفعل الأوراق لزوجتي فتعسرت علينا كثيرا الأمور وتوفيت أختي مع ولدها في حادث مند ستة أشهر ثم توفي أخو زوجتي مند شهرين في حادث أيضا، أريد أن أعرف هل يجوز لي الإقامة هنا لمدة معينة مع زوجتي مع أني في الجزائر تصعب علي الامور في ضيق في السكن وسأعاني قليلا منهم من ناحية الالتزام مع أني الحمد لله من عائلة محترمة ولكن تعلم الحلال والحرام وأنا أخاف كثيرا من صلة الرحم, والأمر الثاني فيما يخص اللحية فإني مقصرها وإني متردد في إعفائها وأقول عندما يقوى الايمان أعفيها، ولو فعلتها وينظر إلي بنظرة وبعدها أتحرج مع العلم يوجد القليل ممن يلتحي ، فهل عندما أتزوج أعفيها لأن قلبي يحترق لإعفائها وتركها وأخاف عندما أعفيها ربما لا أعمل وأعلم أن هذا خطا كبير ولكن أشعر أني وحدي ولا أحد يساعدني وأني وحيد وليس لي صحبة صالحة لأني ابتعدت عن الصحبة السيئة، و أنا في حيرة، أرجو منكم أن تساعدوني و أخاف على إيماني و التزامي يا شيخ أجبني من فضلك, وهل لي عذر لتقصيرها هنا , لأني أشعر أني والله وحدي فلا يوجد من يساعدني في الدين، أرجو منكم التوضيح و أعتدر عن اللغة لأني لا أجيدها كثيرا، وأدعو الله أن يغفر لك ذنوبك و يرزقك حسن الخاتمة بكلمة التوحيد .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكر السائل الكريم على اهتمامه بدينه ونهنئه على الالتزام بطريق الحق، ونسأل الله لنا وله الثبات والتوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا..
ونوصيه بتقوى الله العظيم وبالاستقامة على طريقه المستقيم، ونذكره بقول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً {الطلاق: من الآية4}
وأما حكم الهجرة إلى بلاد الكفار والإقامة فيها.. فالأصل فيه عدم الجواز لغير ضرورة أو حاجة ملحة تنزل منزلتها، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل والأدلة في عدة فتاوى منها الفتوى رقم: 2007، والفتوى رقم: 23168، نرجو أن تطلع عليهما .
وأما عن اللحية فإن الأصل وجوب توفيرها لقوله صلى الله عليه وسلم: خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب. متفق عليه.
وقد بينا حكم من اضطر لتقصيرها أو حلقها في الفتوى رقم: 23161، نرجو أن تطلع عليه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
كلمة هادية للأزواج القاطنين في بلاد الغرب
تاريخ 04 ربيع الثاني 1428 / 22-04-2007
السؤال
أنا متزوجة منذ 7 أشهر وزوجي يعمل في فرنسا وبعد زواجنا جئت لأعيش معه وفي نفس الوقت أتمم دراستي في هذا البلد، مشكلتي هي أني لا أطيق العيش في فرنسا حيث هناك اختلاف كبير في القيم والأخلاق وخصوصا المسألة الدينية، عدم وجود مساجد قريبة، وأيضا البعد عن الجو العائلي وخصوصا أني شديدة التعلق بعائلتي، وينعكس هذا على علاقتي بزوجي، فأرجو النصح من فضلكم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا ننصحك ما دمت قد سافرت بالفعل مع زوجك أن تسعي في التفاهم معه على ما يحقق لكما مصالحكما، واعلمي أن الزوج له الحق في السفر بزوجته إلى أي مكان بشرط أن تكون آمنة فيه على نفسها ودينها، كما أن الأولى بالزوجين أن يبقيا في مكان واحد حفاظاً على دينهما وعفتهما.
وبناء عليه، فإن أمكنكما التفاهم بينكما على انتقال كل منكما إلى بلد مسلم تقام فيه شعائر الله وتعيشان فيه عيشة طيبة فهو أولى لكما، وإن لم يتيسر ذلك فحاولا أن تتعاونا بينكما على برنامج رباني مع الاعتزال التام عن جميع أماكن الفجور، وحاولي الاتصال بأهلك دائماً عن طريق وسائل الاتصالات الحديثة، وإذا أمكنك زيارتهم أحياناً برفقة زوجك فلا بأس، واحرصي في مواصلة دراستك على الاستقامة على الدين والبعد عن الخروج إلا بالحجاب الشرعي، وابحثي عن أخوات ملتزمات تتعاونين معهن على البر والتقوى، واعمري وقتك بالأعمال الصالحة وحفظ القرآن ومطالعة كتب الحديث والسيرة، ونمي علاقتك مع زوجك بواسطة برنامجكما الرباني فاعملا درساً يومياً في القرآن والسيرة النبوية، وسماع بعض الدروس النافعة والتلاوات الجيدة عبر الإنترنت، ولا بأس أن تمارسا بعض المسليات المباحة أحياناً.
والله أعلم.(5/196)
المفتي: ... مركز الفتوى
============
كذب المقيم في الغرب على السلطات لتوفير المال
تاريخ 20 ربيع الأول 1428 / 08-04-2007
السؤال
أنا أعيش في لندن مشكلتي هي أن الشخص الذي يعيش مع عائلته لا بد أن يدفع إيجار البيت ومصاريف العيال وقبلهم طبعا ضرائب الراتب وضريبة إيجار الشقة من غير إيجار الشقة، الصافي من الراتب قليل جداً، مع العلم بأنني كبير عائلتي ويحتاجون مني لمصروف كل شهر ،إذا قلت للدولة إنني لا أقيم مع زوجتي يتكفلون بكل شيء أما أنا فيخصم مني مصروف العيال من راتبي ويدفعون إيجار الشقة لزوجتي وهذا بقانونهم يسمى (السبرت) أو (الزعل الوقتي بين الزوجين)، مع العلم بأن أكثر المجتمع يعيش هكذا وقصدي المسلمين، فأرجو أن تنصحوني لأنني محتاج للنصيحة؟ جزاكم الله ألف خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنصيحتنا للأخ الكريم أن يلزم الصدق في أحواله كلها، لحديث: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة.. رواه مسلم. وأن يفي بالشروط المشترطة لجواز الاستفادة من الضمان الاجتماعي، لحديث: المسلمون على شروطهم. رواه أحمد.
وأن لا يخون القوم ويخدعهم وقد دخل بلادهم بعهد وأمان على أموالهم وأعراضهم، يقول الإمام الماوردي: وقد أجمع الفقهاء على أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان أو بموادعة حرم تعرضه لشيء من دم ومال وفرج منهم إذ المسلمون على شروطهم. انتهى.
فإذا كان هذا من البلاد التي بينها وبين المسلمين حرب ودخلها الفرد بأمان فكيف بغيرها من البلدان، وما ذكرته من تورط المسلمين في هذه المعاملات يسيء إلى الإسلام ويصد الناس عنه إذا اطلعوا على أن أهله يرتكبون الحيل ويقولون الكذب للحصول على المال بغير حق.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
ما تفعله المقيمة بدار الكفر التي يمنعها أخوها من العودة
تاريخ 15 ربيع الأول 1428 / 03-04-2007
السؤال
أعيش في بلاد الكفار عند إحدى قريباتي وأرغب في الرجوع إلى بيتنا لكن أخي منعني منذ سنوات ولازال لأنه يريد أن يبيع ممتلكات أبي ويأخذ حقه وأبي لازال على قيد الحياة، وأنا جد متعبة وأخي يريدني أن أعمل ولا أعود ويأخذ مال أبي وينوي أن يطرد أمه وأختيه فور وفاة الأب قالها لأمه, تسبب لي ولوالدي في كثير من الأذى ويكاد يقتلنا من النكد، فكيف أتصرف خصوصا أني عازمة على العودة إن شاء الله وليس لي مأوى ولا دخل هنا؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكرتِه عن أخيك من كونه يريد بيع ممتلكات أبيك وأبوك ما زال على قيد الحياة، وأنه ينوي أن يطرد أمه وأختيه فور وفاة الأب، وقد تسبب لك ولوالدك في كثير من الأذى... إلى غير ذلك مما فصلتِه تفصيلاً، يفيد بوضوح أن أخاك ليس له دين ولا خلق ولا مروءة، وأنه لا يرعى لك ولا لأحد من قرابته إلا ولا ذمة، وبالتالي فلا ينبغي أن تطيعيه فيما يدعوك إليه من العمل وترك العودة، وليس من شك في أن هجرة المسلمة إلى بلاد الكفر وإقامتها فيها لا تباح إلا في ظروف ضيقة، حيث تأمن على نفسها ودينها، وتستطيع إقامة الشعائر.
وإذا قُدر اسيفاؤها لجميع الشروط التي تباح بها الهجرة والإقامة في بلاد الكفر، فإن الإقامة في بلاد الإسلام، حيث تقام السنة وتوجد المساعدة على العبادة أولى بكثير من الإقامة في بلاد الكفر، فإذا اجتمع كل هذا مع ما ذكرته من النكد والتعب من جراء أفعال أخيك، ومن انعدام المأوى والدخل عندك في محل إقامتك، لم يبق أي مبرر لعدم الإسراع في تنفيذ عزمك ورغبتك في العودة، للحيلولة دون ما يريده أخوك من الفساد.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
ترك الوطن واللجوء إلى دولة غربية
تاريخ 09 ربيع الأول 1428 / 28-03-2007
السؤال
إني من العراق وإني مريض أمراضا مزمنة، لكني حصلت لي مشاكل والحمد لله خلصني الله منها بسلام، ولم أرغب العيش في العراق وأريد طلب اللجوء إلى السويد لوحدي علماً بأني متزوج وعمري 35 عاماً وعندي أطفال وأؤمن لهم مستقبلهم بحيث أترك لهم بيتين ومحلا تجاريا وأحصل على موافقتهم في السفر، فما هو جوابكم بحيث لا أبقى في العراق وأبعد عن المشاكل؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا نرى لك أن تخرج من بلدك لتتركها بالكلية، ولا بأس بأن تغادرها لمدة محددة لأجل غرض مباح كالعلاج ونحو ذلك ثم تعود إليها بعد انقضاء الغرض الذي سافرت من أجله، والواجب عليك أن تجتهد قدر الإمكان في تحصيل كل ما من شأنه أن يغلب على الظن أن يكون معه أهلك وعيالك في مأمن من الضياع، وننبه إلى أن السفر إلى البلاد المذكورة لا يخلو من مخاطر على الدين، فمهما أمكن المرء تحصيل ما يبتغي في بلاد المسلمين فذلك أولى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
حكم الإعانة على إنشاء مدرسة إسلامية في بلد غير مسلم
تاريخ 22 صفر 1428 / 12-03-2007
السؤال(5/197)
يقوم بعض المسلمين في فرنسا بإنشاء مدرسة ثانوية خاصة حيث ستدرس كل المواد المدرجة في البرنامج الدراسي الفرنسي مع بعض المواد الإسلامية واللغوية (العربية)، هدفها تعليم الإسلام والبعد عن الاختلاط مع الكفار في أوقات الدراسة والرياضة و الترفيه، فهل هذا حرام وهل يمكنني إعانتهم، وهل إعانتي إياهم تعتبر تحريضا على الهجرة إلى بلاد الكفر والبقاء فيها؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا ثبت أن الهدف الذي تراد من أجله تلك المدرسة هو تعليم الإسلام والبعد عن الاختلاط المحرم في أوقات الدراسة والرياضة والترفيه... فإن الإعانة عليها لا تقل عن أن تكون مستحبة إن لم نقل بوجوبها، وأما أن توصف الإعانة على هذا الأمر بأنها من التحريض على الهجرة إلى بلاد الكفر والبقاء فيها، فإنه أبعد ما يكون عن الإنصاف.
ذلك أن الهجرة إلى بلاد الكفر والبقاء فيها أمران موجودان قبل إنشاء تلك المدرسة، والذي يهاجر إلى بلاد الكفر ويبقى فيها لا يمكن أن يكون الجالب له إليها هو وجود تلك المدرسة! والهجرة إلى دار الكفر والبقاء فيها إذا كانا بنية نشر الدعوة الإسلامية والعقيدة الإسلامية والأخلاق الإسلامية، وتحصين المسلمين عن الانحراف والانغماس فيما تمتلئ به البيئة من الفجور، كان ذلك من الأعمال الصالحة التي قد لا يتوفر مثلها في البيئات الإسلامية.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
إظهار شعائر الدين في بلاد الغرب
تاريخ 15 صفر 1428 / 05-03-2007
السؤال
أرجو توضيح معنى إظهار الدين بالنسبة للذين يعيشون في بلاد الغرب (أي بلاد الكفر)
هل إظهار الدين يتمثل فقط في خروج المرأة بحجابها و صلاة الرجل في المسجد و إعفاؤه للحيته أم يتعدى ذلك و يستوجب سماع الأذان لكل صلاة بصوت عال و إمكانية الذبح في العيد أمام الملأ و غير ذلك
مع العلم أننا جئنا إلى الغرب بعد أن خرجنا من بلاد تسمي نفسها بلادا إسلامية لكنها تمنع الحجاب و اللحى و المواظبة على الصلاة في المسجد لكن فيها المساجد كثيرة و يسمع فيها الأذان و لك أن تذبح فيها و تصل الرحم و غير ذلك.
أرجو الإجابة مع التوضيح و التفسير و جزاكم الله عنا خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلعلك تشيرين بالسؤال عن كلمة إظهار الدين إلى ما يذكره الفقهاء من مثل هذه العبارة عند الحديث عن الإقامة في بلاد الكفر أو الهجرة منها، وهم يعنون بإظهار الدين أن يستطيع المسلم إقامة شعائر دينه من عبادات وغيرها من غير حرج يلحقه أو تعرض لأسباب الفتنة عن دينه. وراجعي الفتوى رقم: 10043
وقد بينا فيها أن من اضطهد في بلد وخاف على دينه أن عليه أن يهاجر منه إلى بلد يأمن فيه على نفسه ودينه، فإن وجد من بلاد الإسلام فذاك، وإلا جازت له الهجرة إلى بلاد الكفر بشرط أن يأمن فيها على دينه ونفسه، ونرجو أن تراجع الفتوى رقم:2007 ، لمزيد من الفائدة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
هل تترك من تخشى على دينها دار الكفر دون زوجها
تاريخ 24 ذو الحجة 1427 / 14-01-2007
السؤال
فضيلة الشيخ أريد أن أستشيرك في هذه المسألة، أنا متزوجة وزوجي يعمل في أمريكا وقد تم سفري عنده من بلادي وأول ما دخلت هذه البلاد تحطمت نفسيتي ولم أعد أحتمل العيش هنا وأنا حالي هنا أني دائما في البيت لا أهل ولا أقارب ولا أصحاب لا نعرف أحدا هنا كلهم كفار فقط نعيش أنا وزوجي وأمه أحس كأنني في عالم آخر أو أنني في كهف منقطع عن العالم وقد أثر هذا الوضع على ديني فأصبحت لا أقوم الليل ولا أصوم النهار وحتى أني أصبحت أبحث عن أي شيء لأرفه عن نفسي فسرت أبحث مع الأسف عن التعبير عن مواقع( سكس) وصور وغير ذلك والله المستعان اللهم اغفر لي وأصبحت أضعف إيمانيا أكثر وأكثرعلما أنني كنت داعية في بلدي لذلك قررت الرجوع لبلدي والله أرفع شعار إني مهاجر إلى ربي لأني أريد الرجوع لصديقاتي الصالحات وبيئتي الملتزمة كي أرجع لله وأريد أن أذهب عمرة أيضا عندما أرجع لبلدي ومنها أكمل دراستي لأنه بقي فصلان وأتخرج ولكن السبب الأساسي لسفري الدين فسؤالي لك فضيلة الشيخ هل تشجعني على ذلك فأنا سأبعد عن زوجي بهذه الحال تقريبا ستة أشهر وقد سألت زوجي هل تصبر ستة أشهر قال نعم علما أن شهوته قوية جدا وأنا لا أريد أن أكسب إثما مع إني أخاف إذا بقيت هنا أن أضعف إيمانيا أكثر والله المستعان فما العمل جزيتم الجنان أرجو من فضيلتكم الإجابة سريعا حتى تساعدني باتخاذ القرار ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(5/198)
فقد سبق أن بينا أن الهجرة من بلاد الكفر يختلف حكمها باختلاف أحوال الناس راجعي في هذا الفتويين : 28551 ، 51334 ، فإن كان الأمر على ما ذكرت من أنك تخشين على دينك بالإقامة هنالك فينبغي أن تحاولي إقناع زوجك بالرجوع إلى بلدكم والبحث عن عمل فيه، فتأمنون على دينكم، فإن اقتنع فالحمد لله وإن أصر على البقاء هنالك فلا نرى لك مخالفته والهجرة دونه، وهذا من باب النصيحة إذ ما يدريك أن تكوني في مأمن من الفتنة ببعدك عن زوجك ويجب عليك مجاهدة نفسك ومدافعة وساوس الشيطان بفعل شيء من المنكرات، ومن ذلك ما ذكرت من مشاهدة المواقع الإباحية والصور، وخير ما يعينك في الوقاية من الوقوع في ذلك مراقبتك لله تعالى وخوفك من أليم عقابه، ويمكنك أيضا الاستعانة ببعض البرامج التي تحجب بها المواقع الضارة وغيرها مما لا يرغب المرء في مطالعتها، وراجعي في هذا الفتوى رقم : 64703 ، وينبغي أن تشغلي نفسك بما ينفع من سماع العلم النافع والمواعظ التي ترقق القلب، لا سيما وأن الله تعالى قد يسر من الوسائل ما يستطيع به المسلم تحصيل ما يصبو إليه من هذا العلم وهذه المواعظ، ومن ذلك المواقع المفيدة على الانترنت ، وينبغي لزوجك أن يكون عونا لك في هذا السبيل وفي تحصيل أسباب دفع الملل والسآمة .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
احترام المسلم قوانين البلاد التي دخلها بأمان
تاريخ 27 شوال 1427 / 19-11-2006
السؤال
أنا أعمل في شركة للصباغة طيلة الأسبوع، لكن يوم السبت والأحد أحيانا أشتغل في الصباغة لحسابي الخاص وذلك في الخفية دون إخبار السلطات . وهذا خارج عن القانون في فرنسا، فمن حيث الشرع هل هذا حلال أم حرام ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمسلم مطالب شرعا باحترام قوانين البلد التي دخلها بأمان ما لم تخالف هذه القوانين شريعة الإسلام، لأن هذا مقتضى عهد الأمان، والأصل في ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ {المائدة: 1 } وقوله صلى الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما . رواه الترمذي , وقال: حديث حسن صحيح .
وعلى المسلمين عموما وعلى من يمثلونهم في الخارج خصوصا أن يكونوا نماذج طيبة للمسلم الصادق الوعد الذي لا يخون ولا يغدر، وأن يمتثلوا أمر ربهم القائل في كتابه العزيز: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {المؤمنون: 8 } وقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا {النحل: 91 } .
وعليه فإذا كان القانون يلزم العامل بإخبار السلطات عن عمله في أيام الإجازات، أو كان يمنع من العمل في أيام الإجازات فيجب الوفاء بذلك .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم احتيال المقيم في الغرب ليحصل على سكن أحسن
تاريخ 22 شوال 1427 / 14-11-2006
السؤال
أنا أسكن في لندن مع زوجي ولي طفلان ولد وبنت، ونسكن في بيت غرفة نوم واحدة وصالة وهو إيجار خاص وليس بيتا من بلدية الحكومة، وهو بيت ضيق علينا وإذا أردنا أن نسكن بيتا أكبر لا يكون عندنا أولوية في بيت من البلدية, فنحن الآن لنا في هذا البيت 4 سنوات ويلزمنا الانتظار 4 سنوات أخرى أو أكثر لنحصل على بيت غرفتين نوم (أي بيت أوسع) ولكن أغلبية الذين يسكنون هنا يعملون اتفاقا مع صاحب البيت على أنه يريد أن يخرجهم من البيت أي أنهم يصبحون من غير بيت وتضعهم البلدية في بيت مؤقت حتى يعطوهم بيتا بسرعة فهم أولويتهم ( أ ) والذين في مثل وضعنا السابق الأولوية ( ج) يظلون ينتظرون إلى ما شاء الله حتى يأخذ الذين أولويتهم ( أ ) أو (ب) وهم كثيرون لاستخدامهم هذا الأسلوب مع صاحب البيت الذي يسكنونه حتى تعطيهم الحكومة بسرعة , أفيدونا ماذا نعمل ونحن نرى ما يحصل من تلاعب, هل ننتظر في هذا الضيق (مع العلم أن هذا البيت الذي نسكنه حصل لنا أمور كثيرة مثل ظهور العفن الكثير في البيت فمع وجود الأطفال هذا وضع غير صحي , ظهور فئران في البيت وأيضا بعد فترة سرق لنا حقيبة بها ذهب لي وأخيرا قبل شهر كان يوجد تسرب في الطابق العلوي مما أدى إلى وقوع جزء من سقف غرفة النوم وكذلك ظهور العفن في سقف الصلة وغرفة النوم والحمد لله على كل حال.
سامحوني على الإطالة ولكني في ضيق نفسي وضغط مع الأطفال , فماذا أفعل مع العلم أن زوجي تارك كل شيء لي وهو لا يتعب نفسه في شيء , فإذا أردنا أن ننتقل إلى بيت آخر فأنا أبحث و أرتب كل شيء.
فهل أبقى أنتظر على هذا الوضع أم أعمل مثل غيري أو أرحل إلى بيت أوسع وهذا يعني أنه لا يوجد لنا أولوية في بيت من البلدية ونظل ندفع إيجار بيت خاص؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعلى المسلمين المقيمين في بلاد الغرب أن يلتزموا بالشروط المرعية التي استحقوا بها الإقامة في تلك البلاد. لحديث: المسلمون على شروطهم. رواه أبو داود.(5/199)
وأما الاحتيال والتزوير في سبيل الحصول على سكن أحسن مما هو متاح فهو غير جائز، لما ثبت من النهي عن التزوير والغش. قال الله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ {الحج:30} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من غش فليس منا. رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته يسكت. متفق عليه.
قال الراغب: الزور: الكذب، وقال الحافظ: ضابط الزور: وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل، وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه: لابس ثوبي زور، ومنه: تسمية الشعر الموصول: زورا.
فعليكم -إذا- أن ترضوا بالانتظار أو أن تؤجروا بيتا آخر؛ فإن التزوير لا يجوز إلا لضرورة، وليست الحال التي ذكرتها ضرورة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الابتعاث إلى الخارج للدراسة
تاريخ 20 رجب 1427 / 15-08-2006
السؤال
الشيوخ الأفاضل في موقع الشبكة الإسلامية... نشكر لكم جهودكم على مساعدتنا في الرد على استفسارات الجمهور.. ونسأل الله لكم التوفيق دائماً، السؤال هو: أنا لدي أخ أريد ابتعاثه إلى الخارج للدراسة بتخصص غير متوفر لدينا في بلادنا أو أنه متوفر ولكنه بسعر باهظ الثمن، وفي الخارج سيكون تكلفته أقل علي... فهل أنا آثم في إرسال أخي إلى الخارج بحكم أن البلاد التي سأبتعثه إليها هي بلاد فتن كما يسميها البعض؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الدراسة في البلاد التي تكثر فيها الفتن تعتبر مخاطرة بالدين الذي هو أعز ما يملكه المسلم، لا سيما إذا كانت تلك البلاد بلاد كفر، ومن المعلوم أن الإنسان لا يخاطر بصحة بدنه ويدخل إلى بلاد تكثر فيها الأوبئة والأمراض الفتاكة من أجل أن الدراسة فيها مخفضة الثمن، والدين أولى بالمحافظة عليه، ورحم الله من قال:
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه**** فما فاته منها فليس بضائر
وقد سبق لنا أن أصدرنا عدة فتاوى في بيان أن الدراسة في بلاد الكفر لا تجوز إلا عند الضرورة, كأن يكون التخصص المراد دراسته لا يوجد في بلاد المسلمين, وكان عند الدارس من العلم ما يدفع به الشبهات, ومن الاستقامة ما يدفع بها الشهوات، وكذلك إذا كانت البلاد بلاد إسلام ولكن تكثر فيها الفتن والمغريات، فإذا كان بإمكان أخيك أن يدرس في بلده فلا نرى له جواز السفر إلى بلاد التي تكثر فيها الفتن إذا كانت التكاليف مقدوراً عليها، والسلامة في الدين لا يعدلها شيء.
ولو أنفق المرء مزيداً من المال في سبيل سلامة دينه لكان هذا أولى وأنفع له من المخاطرة بالدين في سبيل توفير المال، وأما إذا كانت التكاليف في بلده غير مقدور عليها أو كان التخصص الذي يرغب في دراسته لا يوجد في بلده فلا حرج حينئذ في ابتعاثه للدراسة بالشروط المذكورة آنفاً... وينبغي له أن يقدم الدراسة في بلدٍ إسلامي على الدراسة في بلاد الكفر، فإن بلاد الإسلام وإن وجد فيها فتنه من الفتن فهي أخف غالباً من بلاد الكفر. وانظر في ذلك الفتوى رقم: 31862، والفتوى رقم: 34751، والفتوى رقم: 36009.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
العودة إلى بلاد الإسلام لمصلحة تربية الأولاد
تاريخ 19 جمادي الثانية 1427 / 16-07-2006
السؤال
أعيش في بلد أوربي ولى ابنتان في عمر الطفولة. أيجب علي العودة
إلى بلدي حفاظا عليهم من الحياة الغربية وعاداتها، وإن لم أفعل هل أكون قد قصرت في حقهما أمام الله عز و جل، علما بأني مواظب على اصطحابهما معي إلى المسجد باستمرار.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمسلم ممنوع من الإقامة في بلاد الكفر التي لا يستطيع أن يقيم فيها شعائر دينه ولا يأمن فيها على تربية أبنائه، وتراجع الفتوى رقم: 2007 ،
وعليه في هذه الحالة أن يهاجر إلى دولة مسلمة يأمن فيها على دينه، لكن إذا كان يستطيع إقامة شعائر دينه في تلك البلاد، ويستطيع أن يربي أبناءه على شعائر هذا الدين فلا يحرم عليه البقاء فيه، وإن تطلب منه ذلك جهدا ومشقة في الحفاظ على أبنائه من تأثير ذلك المجتمع، لأن بذل الجهد وتحمل المشقة لا بد منهما في سبيل الاستقامة على الدين والتمسك به خاصة في هذا الزمان حتى في البلاد الإسلامية فالفتن موجودة هنا وهناك، وإنما تختلف من مكان إلى آخر قلة وكثرة، ولكننا ننصح بالعودة إلى بلد إسلامي ما دام ذلك في الإمكان فإن الفساد فيه مهما بلغ لا يمكن أن يوازن بما يحصل من الفساد في غيره، وعليه أن يكثر من الدعاء بصلاح الذرية والله الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
إقامة الآمن على دينه في بلد غير مسلم
تاريخ 21 جمادي الأولى 1427 / 18-06-2006
السؤال(5/200)
أنا شاب مقيم بإيطاليا أرجو منكم هاته الفتوى بوضوح وإني أدعو لكم بالثباث و أن يرزقكم الله بالدار الغرفة إن شاء الواحد الأحد. أنا جزائري مقيم بإيطاليا منذ 8 سنوات، فالحمد لله ربي رزقني بحبي الالتزام وأريد أكثر ورزقني بزوجة صالحة والحمد لله وأني مقبل على الزواج بعد رمضان إن شاء الله وأني خاطب وعاقد شرعي ومدني منذ عامين ولكن أريد بوضوح هل يجوز بقائي هنا لمدة معينة و بإتيان زوجتي هنا معي لأني لا أحتمل ما يوجد هنا مع غض البصر لأني قرأت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا بريء ممن يعيش بين ظهراني الكافرين, إني أريد فتوى واضحة من فضلكم ؟
مع الدعاء ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكر السائل الكريم على اهتمامه بدينه وحبه للالتزام به, ونسأل الله تعالى لنا وله الثبات .
وفيما يخص سؤاله فإن الحديث الذي أشار إليه صحيح كما قال الألباني وغيره ، ولفظه : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين . رواه أبو داود والترمذي وغيرهما ، قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( وهذا محمول على من لم يأمن على دينه ) ولذلك فإن من كان آمنا على نفسه, ويستطيع أداء فرائضه وإقامته شعائر دينه لا يحرم عليه المقام بأرض الكفار ، وإن كان الأولى أن يكون مع المسلمين وفي بلادهم ، ولذلك ننصحك إذا أردت البقاء هناك أن تأتي بزوجتك حتى تكون عونا لك على طاعة الله تعالى وأمنا من الفتن والمعاصي ، أما إذا كنت تخاف الفتنة في دينك أو لا تستطيع إقامة شعائر دينك فعليك أن تترك تلك البلاد إلى بلاد المسلمين ، وللمزيد من الفائدة نرجو أن تطلع على الفتاوى ذات الأرقام التالية : 2007 ، 63482 ، 51334 .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
التزام المسلم بقوانين البلاد التي دخل إليها
تاريخ 15 ربيع الثاني 1427 / 14-05-2006
السؤال
أنا شاب مسلم أدرس وأعمل ببلد أوروبي علماني لمدة وجيزة فقط, وأتمتع بإعانات بطريقة غير قانونية يعني لا تحق لي حسب قانون هذا البلد, مع العلم أني مجبر على دفع ضرائب عن راتبي وهي راتب عن كل اثني عشر راتبا يخصم من حسابي البنكي عنوة أي حتى دون رضاي, فهل يحق لي الاحتفاظ بهذه الإعانات بحكم أخذهم لمالي دون رضاي أم لا يجوز لي ذلك. مع العلم أيضا أن العمل في هذا البلد يستوجب الرضا بقانون الضرائب عندهم والذي لم يبن على شرع الله, فهل يعتبر هذا الرضا الشكلي شرطا من الشروط التي أمرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بالوفاء بها ؟
وأثابكم الله كل الخير لما تقومون به من إرشاد ونصح.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقول السائل إن هؤلاء يأخذون ماله بدون رضاه كلام غير صحيح لأنه عندما دخل إلى بلادهم أقر بلسان حاله أو مقاله بالموافقة على قوانينهم وأنظمتهم، أي أنه بدخوله البلد بفيزا رسمية فقد أعطاهم عهد الأمان، وعقد الأمان يفرض على المسلم الالتزام بقوانين البلاد التي دخل إليها ما لم يؤد به ذلك إلى الوقوع فيما حرم الله ، فالذي ينبغي عليه الوفاء له وعدم الخيانة، ومن الخيانة أن يأخذ ما لا يستحق من الإعانات المشروطة بشروط لا يلتزمها ، وهنا تناقض وازدواجيه ظاهرة في تصرف السائل مع قوانين البلاد التي يعيش فيها ، فهو إذا كان الأمر في مصلحته كالمساعدات المذكورة يأخذها ولو بالغش والتزوير ، وإذا كان على خلاف ذلك كدفع الضرائب يمتنع بحجة أن هذا القانون مخالف للشرع، فلا هو دفع ما يلزمه بموجب عقد الأمان ولا هو كف عن أخذ ما لا يستحق أيضا .
والذي نراه والله أعلم هو أن يلتزم المسلم الداخل إلى هذه البلدان بدفع الضرائب المقررة، وأن يكف عن أخذ الإعانات والمساعدات التي لا يحق له قانونا أخذها ، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : المسلمون على شروطهم . رواه أحمد .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الإقامة في ديار الكافرين وشفاعة سيد المرسلين
تاريخ 21 ربيع الأول 1427 / 20-04-2006
السؤال
أرجو منكم الإجابة على سؤالي مباشرة دون تحويلي إلى إجابات أخرى من فضلكم، هل يشفع الرسول في من تبرأ منهم حسب الحديث الشريف: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. وهل مصير من يقيم في بلاد المشركين من أجل توفير حياة مادية وثقافية أفضل هو من أصحاب النار خالدين فيها، أفيدوني؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(5/201)
فإن إقامة المسلم بين الكفار جائزة إذا أمن المسلم على دينه وكان قادراً على إقامة شعائر الإسلام، وإذا أقام بنية دعوة الناس إلى الله تعالى كان مأجوراً على ذلك إن شاء الله، والأدلة الواردة في عدم جواز الإقامة في بلاد الكفار محمولة على من يكون غير قادر على إقامة شعائر الإسلام وغير آمن على دينه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تراءى ناراهما. رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وصححه الألباني. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا الحديث: وهذا محمول على من لم يأمن على دينه.
وكقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {النساء:97}، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص الآية.
وأما إذا كان المسلم لا يأمن الفتنة على دينه أو كان غير قادر على إقامة شعائر الإسلام، فإن إقامته حينئذ بين الكفار معصية من المعاصي، والمعاصي إذا كانت من موحد لا تخلد صاحبها في النار، ولا تمنع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. رواه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان والحاكم والذهبي والألباني وغيرهم.
ولحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة, فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً. رواه مسلم في صحيحه.
ولكن لا يجوز أن يفهم من هذا الكلام التهوين من شأن المعاصي، اتكالاً على ثبوت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وسعة عفو الله تعالى وفضله ورحمته، فإن الله تعالى كما أنه غفور رحيم، فإنه كذلك شديد العقاب، شديد الغيرة على محارمه, وقد جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تتوعد من انتهك حرمات الله تعالى بالعذاب الأليم يوم القيامة. والواجب على المسلم أن لا يغلب جانب ما جاء من نصوص الوعد في القرآن والحديث على ما جاء فيهما من الوعيد، لئلا يفضي به ذلك إلى ارتكاب ما حرمه الله تعالى، وإلى أمن مكره عز وجل، وقد قال الله تعالى: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ {الأعراف:99}، والمقيم في بلاد الكفار إذا كان غير آمن على دينه، قد يتعرض للفتنة في عقيدته، وقد يؤدي ذلك إلى انعدام الإيمان والردة عن الدين بالكلية نسأل الله السلامة والعافية، فيموت على الكفر، فلا تنفعه شفاعة الشافعين، بل يدخل النار خالداً مخلداً فيها والعياذ بالله.
وعليه فإن كان الذي يريد أن يحسن من وضعه المادي بالإقامة في بلاد الكفار قادراً على إقامة شعائر دينه وعنده من العلم ما يدفع به الشبهات التي قد ترد عليه, ومن التقوى ما يدفع به الشهوات، من كان هذا حاله جاز له البقاء في دار الكفر، سواء للعمل أو لغيره، ومن لم يأمن على دينه لم يجز له البقاء هناك، وللمزيد من التفصيل والفائدة حول حكم الإقامة في بلاد غير المسلمين، راجع في ذلك الفتوى رقم: 2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم تزوير بطاقة الدراسة للعمل في دار كفر
تاريخ 20 ربيع الأول 1427 / 19-04-2006
السؤال
هل يجوز تزوير بطاقة الدراسة للحصول على عمل في ديار الكفر؟
جزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه, أما بعد:
لا يجوز ذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: من غش فليس مني. رواه مسلم. وراجع الفتوى 28155 .
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الرحيل عن البلاد التي تعظم فيها فتنة النظر
تاريخ 19 ربيع الأول 1427 / 18-04-2006
السؤال
أنا مقيم في فرنسا و وفقني الله تعالى إلى حفظ القرآن ولكن أعاني من كثرة النظر إلى ما حرم الله أي الكاسيات العاريات وما أكثرهن في هذه البلاد وأخيرا قلت لزوجتي أن نرجع إلى بلاد المغرب ولم توافقني لأن أهلها مقيمون في فرنسا ولم تقدر على الابتعاد عنهم أرشدوني.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يعينك على حفظ كتابه, وأن يرزقك حسن فهمه وتدبره والعمل به, وأن يكون حجة لك لا عليك.(5/202)
وننبهك إلى أنه لا يجوز للمسلم أن يقيم في بلاد تنتشر فيها المنكرات, وخصوصا إذا كان يخشى الوقوع فيها والنظر إلى مفاتن النساء من أخطر المنكرات أثرا وأكبرها ضررا, فلا يجوز لك البقاء مع ما ذكرت من حالك. فإذا كانت لك ضرورة ملجئة إلى البقاء هناك, واستطعت أن تغض بصرك وتحفظ دينك فلا بأس بالبقاء حتى تزول ضرورتك, وإلا فعليك أن تنصح زوجتك وتبين لها ذلك عسى الله تعالى أن يهدي قلبها فتستجيب لك, ولا حرج عليك أن تستعين بمن يؤثر عليها من صديقاتها وأقاربها, وقبل هذا وذاك تكثر لها من الدعاء, فالقلوب بيد الله تعالى يقلبها كيف شاء. فإذا لم تجد منها استجابة وكنت تخشى ببقائك معها في تلك البلاد على دينك ففارقها وارحل بدينك فهو خير لك, وسيعوضك الله تعالى خيرا مما فقدته. ولمعرفة خطورة النظر وإفساده لدين صاحبه انظر الفتاوى ذات الأرقام التالية:5776 ، 18768، 19561.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
فوائد وأحكام للمقيمين في ديار غير إسلامية
تاريخ 13 ربيع الأول 1427 / 12-04-2006
السؤال
موضوع الفتوى يتعلق ببناء مسجد في بلد غير مسلمة.
أخوكم في الله عضو في جمعية إسلامية في إحدى البلاد غير المسلمة، قد قام الإخوة هنا بعد سنوات طويلة من الإقامة في هذه المدينة باستئجار شقة لاستخدامها كمصلى ومكان للتعليم والاجتماع لكن بعد مضي أكثر من ست سنوات على استئجارنا للشقة لاحظنا مايلي:
1- أن الحضور في صلاة الجمعة لا يتجاوز 20 إلى 40 شخص ويصل في حالات خاصة جدا( آخر جمعة من رمضان مثلا) إلى 70 شخصا أو أكثر.
2- نقيم صلاة العشاء يوميا نظرا لبعد بعض الإخوة عن المصلى وانشغال البعض الآخر في الشركات التي يعملون فيها، وتقام صلاة العشاء في وقت متأخر جدا عن المعتاد في البلاد الإسلامية حرصا على اجتماع أكبر عدد ممكن من المصلين.
لكن عدد الذين يحضرون للصلاة بانتظام لم يتجاوز ثلاثة أشخاص في أغلب الأحوال ربما يزيد في أيام عن خمسة أشخاص لكن ذلك غير منتطم. وللعلم فإن عددا ممن يقيمون في هذه المدينة يقضون أوقاتهم في الخمارات والنوادي الليلية. كما أن البعض يتعذر بتأخر وقت الصلاة عن الموعد المعتاد.
3- من خلال تعاملي مع غالبية الإخوة هنا أستطيع أن أقول أن أغلبهم جمع ثلاث صفات: الكذب، الخيانة، إخلاف الوعد. بالإضافة إلى أن البعض يتعاطى المسكر وله انحرافات سلوكية معروفة عند أصدقائه.
4- إهمال الصلاة في مكان العمل، حيث إن أغلبهم يمضي عليهم وقت الظهر والعصر ولا تجدهم يتحركون من أماكنهم للوضوء والصلاة.
5- هناك اهتمام من بعض المسلمين الجدد(نساء في الغالب) لتعلم الدين واللغة العربية؛ وعدم وجود مسجد أو مصلى يعني عدم تنظيم أي دروس لهم. نحن نقوم بتنظيم درسين للنساء أحدهما أسبوعي وآخر شهري. كما يتم تنظيم درس أسبوعي للأطفال لتعلم القرآن واللغة العربية.
6- تقام صلاة العيدين في قاعات مستأجرة ؛ في الغالب تكون قاعات احتفالات يشرب فيها المسكر.
7- تفرق كلمة المسلمين هنا، ووجود مشاكل تنظيمية ودينية بينهم. مثلا قام أحد الرافضة الأغنياء بتجميع عدد من الجهلاء بسبب أمواله وطلب منهم ترشيحه لرئاسة الجمعية ووعد بأن يقوم ببناء مسجد أو شراء مبنى ليكون مسجدا. علما بأنه ممن يشرب المسكر بحسب ما ذكر لي من بعض الإخوة. وقد قمت مع إخوة عرب هنا بوضع نظام أساسي للجمعية استثنينا فيه كل من هو ليس من أهل السنة والجماعة من الترشح للعضوية، كما جعلنا لكل مجموعة عرقية من المسلمين ممثلا لهم في مجلس الجمعية العمومية. وقد حصلت مشاجرة بين الصوفيين والإخوانيين وجماعة التبليغ في أحد المساجد التابع لجمعية أخرى في هذه الدولة؛ فقامت الشرطة بإغلاق المسجد لمدة أسبوعين .
8- ضعف المسلمين عموما في كافة مناطق هذه الدولة. فليس لهم من يطالب بحقوقهم في إقامة الشعائر والإجازات والتعليم الإسلامي والأكل الحلال. توجد حوالي خمسة جمعيات لكن أغلبها غير مسجل رسميا والجمعيات المسجلة لديها مشاكل مالية وإدارية.
بناء على ماسبق، هل نقوم بشراء مبنى لاستخدامه كمسجد أم لا ؟ وفي حالة عدم شرائنا لمسجد فهل يلحقنا شيء من الإثم؟ حيث إن بعض الإخوة يقومون بتعليم الدين واللغة طلبا للثواب من الله سبحانه وتعالى، لكننا نعتقد أنه بعد مغادرة هؤلاء الإخوة لهذه البلد فربما يقوم المقيمون الدائمون هنا بإغلاق المصلى ولن يكون هناك صلاة جماعة ولا تراويح ولا تعليم. فهل يعتبر هؤلاءالإخوة مقصرين في العمل إن لم يحثوا الجمعية على شراء مسجد؟ علما بأن أغلب المقيمين هنا لا يثق بعضهم بإمامة من هو أفضلهم قراءة بسبب مشاكل شخصية ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنهنئ الأخوة الأعضاء فى الجمعية المذكورة على توفيق الله تعالى لهم على الاهتمام بالدعوة إلى الله تعالى وبذل جهودهم لنصرة الإسلام وتبصيرالمسلمين
فى أموردينهم نسأل الله تعالى أن يعينهم وأن يثبتهم على طريق الحق وأن ييسر أمورهم .(5/203)
1ـ ثم نقول لهم إن عليهم أن يقوموا بالأمور التالية : أن يسعوا فى جمع كلمة المسلمين هناك ويتعاونوا مع كل من يعمل فى مجال الدعوة إلى الله تعالى ويسعى لنصرة الإسلام والمسلمين وراجع الفتاوى ذوات
الأرقام التالية : 10157/10515/12682 .
2ـ أن يبذلوا جهدهم لنصح المسلمين المتصفين ببعض الصفات التى ذكرت. ويكون ذلك برفق وحكمة مع مراعاة الظروف التى يعيشونها والمجتمع الذى يقيمون فيه.
3ـ أن يتصدوا لمحاربة الأفكار المنحرفة ومجادلة أصحابها بالحكمة والموعظة الحسنة.
4ـ أن يقوموا ببناء مسجد إذا استطاعوا ذلك لأن بناء المساجد من فروض الكفاية ففى كشاف القناع ممزوجا بمتن الإقناع الحنبلي : ( يجب بناء المساجد في الأمصار والقرى والمحال ) جمع محلة بكسر الحاء ( ونحوها حسب الحاجة ) فهو فرض كفاية قال المروذي : سمعت أبا عبد الله يقول : ثلاثة أشياء لا بد للناس منها : الجسور والقناطر وأراه ذكر المصانع والمساجد انتهى , وفي الحث على عمارة المساجد ومراعاة مصالحها آثار كثيرة وأحاديث بعضها صحيح . انتهى
فإن عجزوا عن بناء مسجد استأجروا مبنى وخصصوه للصلاة فيه وإقامة الدروس والمحاضرات ، ومن المعلوم أن فرض الكفاية يسقط بفعل البعض ويسقط الإثم عن الباقين ويأثم الجميع إذالم يقم به أحد ففى المنتقى للباجى : ولأن القيام بالشهادة من فروض الكفاية كالجهاد والصلاة على الجنائز فإذا قام بها بعض الناس سقط فرضها عن سائر الناس , وإذا ترك القيام بها جميعهم أثموا كلهم إذا كان الحق مجمعا عليه وبالله التوفيق. انتهى وراجع الفتوى رقم: 10427 .
5ـ على الإخوة القائمين على هذا الأمر أن يعلموا الناس أمور دينهم لكي يستطيعواأن يقوموا بحمل هذا الدين والدعوة إليه فى مجتمعهم ويتولوا مهمة الإمامة والتعليم وغير ذلك من الوظائف المشتملة على خدمة هذا الدين ونصرته.
مع التنبيه على أن دين الإسلام هو الدين الذى اختاره الله تعالى لأن يكون خاتما لكل الأديان وناسخا لها وسيقيض الله تعالى له من يبلغه ويحمله ويدافع عنه وليس وجوده في بلد ما مرتبطا بأشخاص بأعيانهم .
6ـ صلاة العشاء من الأفضل تأخيرها إلى الثلث الأول من الليل مالم يشق ذلك على المصلين فإذا كان تأخيرها يشق على المصلين أو بعضهم فيتخلف عنها فالأولى أداؤها بعد دخول وقتها ولا تؤخر, وراجع الفتوى رقم: 1442 .
7ـ العدد الذى تنعقد به الجمعة محل خلاف بين أهل العلم وتقدم تفصيله في الفتوى رقم: 3476 .
8ـ من صحت صلاته صحت إمامته لغيره كما تقدم فى الفتوى رقم: 18067 ، كما أن الأولى بالإمامة سبق ذكره في الفتوى رقم: 3591 .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم الهجرة غيرالشرعية إلى أوروبا
تاريخ 28 صفر 1427 / 29-03-2006
السؤال
ما حكم الهجرة غير الشرعية من الجزائر نحو أوروبا مع العلم بأن معظم المهاجرين فقراء ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الهجرة غير الشرعية إلى أوربا أو إلى غيرها لا تجوز من الجزائر ولا من غيرها لما فيها من تسبب المسلم في إذلال نفسه ومن المخاطر التي تترتب عليها ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه ، قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يعرض نفسه من البلاء لما لا يطيق . رواه الترمذي ، وصححه الألباني .
وروى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا .
ولا يبرر هذا النوع من الهجرة أن أصحابه فقراء فقد يتعرضون للضياع في البحر أو في الصحراء وقد يهلكون أو يعتقلون ، والله تعالى يقول : وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ {البقرة: 195 } ويقول تعالى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {النساء: 29 } فصاحب هذه الهجرة معرض للهلاك أو الاعتقال والإذلال ، ولهذا فإنها لا تجوز .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
إقامة المرأة مع بناتها في بلاد الغرب
تاريخ 12 صفر 1427 / 13-03-2006
السؤال
أنا أم لثلاث بنات أعمارهن بين ستة سنوات وسنة,أعيش في بلاد الغرب لكن أمنيتي أن يكن قرة أعيني وأسعى إلى تربيتهن بما يرضي الله إن شاء الله.ما حكم الإسلام في الإقامة في بلاد الغرب مع العلم أن في بلدي الأصلي الكثير من الفساد،
أرجو الإجابة على سؤالي دون تحويلي إلى إجابة أخرى .شكرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يحفظك وبناتك ويرشدك إلى طريق الصواب والاستقامة، ولتعلمي أن المسلم إذا كان يقيم ببلد غير مسلم آمن على دينه ونفسه وماله وعرضه ويستطيع إقامة شعائر دينه فإن الهجرة لا تجب عليه من ذلك البلد.
ولكن يستحب له أن يهاجر إلى بلاد المسلمين لتكثير سوادهم والتعاون معهم على إقامة الدين وإظهار شعائره والمشاركة فيها وسماع الأذان والصلاة في الجماعة ورؤية الصالحين وعدم التعود على مشاهدة المنكرات.(5/204)
ولهذا ننصح السائلة الكريمة بالرجوع إلى بلدها الأصلي والعيش فيه مع الأهل والأقارب والتعاون معهم على البر والتقوى وتربية بناتها على الطهر والعفاف والاستقامة على دين الله تعالى إذا كان باستطاعتها ذلك، وليس فيه مشقة زائدة عليها لأن بلاد المسلمين تظل أحسن حالا من بلاد غيرهم مهما وقع فيها من الفساد والانحراف، ونرجو أن تطلعي على الفتويين التاليتين:58361، 12829، للمزيد من الفائدة والأدلة وأقوال أهل العلم.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
لا يجوز البقاء في مكان يغلب على الظن الفتنة في الدين
تاريخ 24 ذو الحجة 1426 / 24-01-2006
السؤال
أنا موظف وأتقاظى راتبا 5000 درهم في دبي متزوج وعندي 4 أطفال موجودون في سوريا لا أستطيع أن أبقيهم معي ولي 11 سنة في العمل ويوجد لي والد مسن يريد أحدا أن يعتني به وكنت في صراع مستمر من الفتن وإجازتي شهر في السنة أقسمها إلى ثلاث سفرات ولكن وجدت الحل أن أستقيل وأرجع إلى سوريا لكي لا أرتكب أي معصية وأنا الآن قدمت الاستقالة ولكن زوجتي تعارض ذلك مع أني استخرت الله وتوكلت عليه وأني قلت الرزق واحد فأرجو أن تفيدوني بذلك هل ما قمت به صحيح ؟
جزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز البقاء في مكان يغلب على الظن الفتنة في الدين بالبقاء فيه ، وكما يشرع الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فيشرع الهجرة من بلاد المعصية والفسق إلى بلاد الطاعة ، وانظر الفتوى رقم : 25370 ، والفتوى رقم : 48193 ، وعليه فما فعلته صحيح من هذا الجانب ، وصحيح من جانب آخر وهو قربك من والدك المسن خاصة إذا كان بحاجة إليك .
واعلم أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
بلاد الملحدين وبلاد أهل الكتاب
تاريخ 24 ذو الحجة 1426 / 24-01-2006
السؤال
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد :
أريد أن أستفسر عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول في حق المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفار " أنا برئ ممن يعيش بين ظهرانيهم " والحديث الآخر الذي يقول " المسلم والكافر لا تتراءى نارهما " ، السؤال هو : هل هذان الحديثان ينطبقان على البلاد أو الدول الملحدة فقط أم على بلاد أهل الكتاب أيضاً ، وإن كان الأمر الثاني كذلك فهل ينطبق على جميع بلاد أهل الكتاب وإن كان فيها مدن خاصة بالمسلمين فيها مساجدهم ومصالحهم الخاصة وأعمالهم وهم منفصلون تماماً عن الكفار ويستطيعون إقامة دينهم بدون أي مضايقة من الحكومة أفتونا جزاكم الله ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن بلاد الملحدين وبلاد أهل الكتاب سواء في الديار ، وليعلم أن السكن ببلاد غير المسلمين يختلف الحكم فيه بحسب تمكن العبد من القيام بشعائر دينه وسلامته من التأثر بالباطل المحيط ، فإن خاف على نفسه مما يفسد عقيدته أو يوقعه في المعاصي تعينت عليه الهجرة والفرار بدينه ، وأما إن استطاع الحفاظ على دينه والقيام بما أمكن من الدعوة إلى الله تعالى والتأثير في البلد الذي هو فيه فلا حرج عليه في البقاء به ، وأما المدن الخاصة بالمسلمين فإنها تعتبر دار إسلام إن كان المسلمون مستقلين فيها ومنفصلين عن الكفار وأحرارا في عباداتهم وآمنين من دخول الكفار عليهم بفجورهم ، وأما إن كان الكفار أحرارا في الدخول بقرى المسلمين وإقامة أعمال الفجور كفتح دور البغاء والرقص والسينما فإنها تصبح حينئذ مثل باقي المدن ، وراجع الفتاوى التالية أرقامها : 69518 // 3497 // 65814 // 2007 // 64452 // 51334 .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
============
ترك الدراسة بل عدم الإقامة في دار الكفر
تاريخ 16 ذو الحجة 1426 / 16-01-2006
السؤال
سؤالي هو أنني مغربة عن بلادي وأعيش في إسبانيا حيث أعيش هنا مع القوم الكافرين يعاملونني على أنني عربية جرثومة ملوثة لا تغتسل وذلك لأنني محجبة. ويشتمونني لأنني و بصراحة مجتهدة في الدراسة وكذلك لا أعرف التعامل مع المعلمين الذكور فأنا مسلمة وديني مختلف تماما عنهم يتناقشون في أمور الجماع ووو... يحاولون أن يدمجوني معهم, وأشياء كثيرة لا أعرف ماذا سأفعل هل أترك المدرسة أم ماذا؟ أرجوكم ساعدوني.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(5/205)
فلا يخفى أن من أهم ما يجب أن يعنى به المسلم الحفاظ على دينه إذ إن حفظ الدين أولى الكليات الخمس في شرع الله تعالى، فالواجب صونه عما قد يفسده. والدراسة بالمدارس المختلطة يغلب أن يكون فيها خطر على المسلم أو المسلمة في دينه وعرضه، وإذا كانت هذه المدارس في بلاد الكفر كان الخطر أعظم، فإذا كنت تخشين على دينك ضررا باستمرارك في الدراسة بهذه المدرسة فينبغي أن تبحثي عن غيرها مما تأمنين فيها على دينك، فإن وجدت فالحمد لله؛ وإلا فالواجب عليك ترك الدراسة بهذه المدرسة إذ إن السلامة لا يعدلها شيء. وراجعي الفتوى رقم: 10308
وننبه إلى أن المسلم إذا خشي على دينه بالإقامة في بلاد الكفر فتجب عليه الهجرة منها إلى بلد آمن، فإن كان حالك كذلك فتجب عليك الهجرة، وإن كنت تقيمين مع أهلك في تلك البلاد فينبغي أن تناصحيهم بالهجرة إلى بلد تأمنون فيه على دينكم. وراجعي الفتوى رقم: 10334 ، والفتوى رقم: 2007.
وثم أمر آخر ينبغي التنبه له وهو أنه ينبغي للمسلم عند الفتن أن يزداد تمسكا بدينه وإقبالا على ربه فذلك أعظم لأجره. وراجعي الفتوى رقم: 35951 ، والفتوى رقم: 63743.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
كيف يحفظ الشخص نفسه في بلاد غير المسلمين
تاريخ 27 ذو القعدة 1426 / 28-12-2005
السؤال
كيف يمكنني أن أتعامل مع النصارى الذين أنا محاطة بهم ويؤذوني إنهم قاسون جدا ولا يعرفون شيئا اسمه الرحمة و حسن التعامل مع الناس.
أرجوكم أرشدوني أنا مغربة عن بلدي وذلك يكفيني!
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقبل الجواب عما سألت عنه، نريد أولاً أن ننبهك إلى أن العيش في مثل البلاد التي أنت فيها لا يجوز إذا كان الشخص لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه، ولا يأمن على نفسه من الفتنة في دينه. وأما إذا كان يستطيع أن يقيم شعائر الدين ويأمن على نفسه من الفتنة، فإن العيش فيها يكون مكروها.
وعليه، فالذي ننصحك به هو الهجرة والانتقال عن الإقامة بين هؤلاء إذا كان ذلك متاحا لك. وإذا لم تجدي إلى ذلك سبيلا فعليك بالتحفظ منهم، والبعد عن أذيتهم، والتستر عنهم.
ونسأل الله أن يسلك بك سبل الرشاد، وأن يقيك من الفتن.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
المال الممنوح من الدول الأوروبية للاجئين إليها
تاريخ 12 ذو القعدة 1426 / 13-12-2005
السؤال
لي صديق في أوروبا وطلب اللجوء (وهو بالفعل عنده مشكلة كبيرة في بلده وقد تؤدي به إلي الموت) وحتى الآن الدولة لم تسمح له بالعمل وهي التي تعطيه مصروفه الشهري وكل احتياجاته، فهل صحيح أن هذا المال الذي يحصل عليه من الدولة حرام، وهل يجوز أن يعمل بدون علم الدولة، وما حكم المال المكتسب في هذه الحالة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المنحة التي يأخذها العاطل عن العمل حلال له بشرطها، وراجع تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 50617.
وبخصوص عمل الشخص المذكور بدون إذن الدولة، فإنه غير جائز، فالمسلمون على شروطهم. وهذا الشخص عندما طلب اللجوء إلى الدولة التي آوته التزم ولابد بشروطها وقوانينها، فيجب عليه الوفاء بها إلا شرطاً يحل حراماً أو يحرم حلالاً، وراجع للمزيد من الفائدة الفتوى رقم: 12761.
هذا وإذا عمل الشخص عملاً مباحاً استحق أجرته مع إثمه لمخالفته لشروط اللجوء التي التزمها.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
بقاء الأسرة في الدولة الكافرة عند الحاجة
تاريخ 28 شوال 1426 / 30-11-2005
السؤال
أرجو من فضيلتكم أن تفتوني فى أمري، فأنا أقيم مع زوجي ببلد أجنبي من أجل أن يكمل زوجي تخصصه وتدريبه الطبي، وقد أكمله الآن، والآن لا ندري هل إقامتنا لفترة أطول شرعية أم لا، لأننا ندفع ضريبة ولا ندري فيما تستخدم وعودتنا لبلدنا الآن يؤثر على تعليم أطفالنا بشكل كبير خاصة وأن أحدهم مصاب بداء التوحد ولديه صعوبة فى التعليم ويتلقى مساعدة فى المدرسة وفى بلدي يتعرض مثله للتوبيخ والنعت بألقاب وربما الضرب فى المدرسة لصعوبة الحفظ لديه وضعف مقدراته وهنالك مدرسة واحدة تتبع للبلد الذي أقيم به الآن وبها نفس نظام التعليم وسألنا مديرها بواسطة الإيميل إن كان بإمكانهم قبول ابننا بعد أن شرحنا له وضعه فأجاب بإنه لا يمكنه أن يقرر قبل أن يقابله فى مطلع العام الدراسي القادم وهذا يجعل الأمر أكثر صعوبه إذ إننى لا بد أن أرتب أمر المدارس لإخوته قبل بداية العام الدراسي بدون أن أضمن له مقعد بتلك المدرسة وإذا لم يقبل ابني فسيكون محطما نفسيا لحساسيته الشديدة أفتوني؟ جزاكم الله خيراً، فأنا قلقة على أبنائي، ولكن لا أريد أن نبيع آخرتنا بعرض زائل؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(5/206)
فإنا نسأل الله أن يصلح أبناءكم ونوصيكم بالدعاء لهم بصلاح حال الدارين، فدعاء الوالد مستجاب كما في حديث الترمذي ومما ثبت من الدعاء في ذلك، قوله تعالى: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ {البقرة:128}، وقوله تعالى: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {الأحقاف:15}، وقوله تعالى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ {إبراهيم:35}.
وليعلم أن بقاء الإنسان في دول الكفر يختلف الحكم فيه بحسب تمكن العبد من القيام بشعائر دينه، وسلامته من التأثر بالباطل المحيط به، وإمكان تربية الأولاد على ذلك، فإن لم يستطع القيام بدينه تعينت عليه الهجرة إلى بلد يقيم فيه دينه ويربي أولاده عليه، وأما إن استطاع الحفاظ على دينه في ذلك البلد فلا تجب عليه الهجرة منه ولكنها تستحب.
وليعلم أن الأولاد الصغار لا بد لتربيتهم وتعليمهم من مساهمة الوالدين وإشرافهم فلتباشري بنفسك تعليم الولد المذكور، وانظري في المدرسة المناسبة له، واستعيني بالوسائل المعاصرة في تعليمه وراسلي المدارس لتعرفي أيها أصلح له، ويمكن استشارتك للأطباءفي علاج موضوعه، وراجعي في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 46936، 12829، 57580، 12982.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
المحرم في ديار الإسلام محرم في ديار الكفر
تاريخ 10 شوال 1426 / 12-11-2005
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
أستاذنا الفاضل وشيخنا الجليل, , حفظكم الله وجعلكم منارا للإسلام والمسلمين .. آمين.
أستاذنا الفاضل :
من غير الإطالة عليكم أستاذنا , فنحن في هذه البلاد كما هو معلوم , أن أكثر الأعمال المتاحة للمسلمين فيها شبهة حرام (و الله أعلم), مما يجعل الكثير يتساءل وفي حيرة من أمره، عن حكم مثل هذه الأعمال و كذا الثمن المستفاد أو المكتسب منها. فعلى سبيل المثال سيدي الفاصل, فإن من الأسئلة المعتاد طرحها تكرارا العمل في المطاعم والمقاهي ذات الأطعمة و الأشربة المحرمة و كذا صالات القمار والكباريه.
الأسئلة:
ما حكم العمل في مثل هذه الأعمال؟ و في حالة الحرمة, ما حكم المال المكتسب منها؟ وكيف التخلص منه في حالة التوبة ؟ وماذا عن امتلاك المسلمين محلات (مطاعم مثلا) لبيع وترويج المحرمات (الخنزير و الخمور....)؟ وما الحكم الشرعي في الأموال المكتسبة منها؟ علما أنهم بإمكانهم استثمار هذه الأموال في الحلال .
أستاذنا الفاضل: أمام مثل هذه النوازل و في وضعيتنا في هذه البلاد, هل يمكن إعمال قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) و( الأمور بمقاصدها) و(الضرورات تقدر بقدرها)؟ وهل يمكن القول بأن المسلمين أو غير المسلمين في المهجر(هذه البلاد مثلا) مخاطبون بالفروع بدل الأصول؟ أو بتعبير آخر هل هناك خطاب شرعي خاص تراعى فيه وضعية مسلمي المهجر؟
أفدونا سيدي الكريم حفظكم الله, وجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز العمل في بيع المحرمات كالخمر والخنزير ولو لغير المسلمين؛ لأن غير المسلم مخاطب بفروع الشريعة على الراجح، وقد بينا حكم العمل في هذه الأماكن في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 2049، 9233، 22582، 51352.
وإذا لم يجز للمسلم العمل في هذه الأماكن فلا يجوز له تملكها لهذا الغرض من باب أولى.
ومذهب جماهير العلماء أن المحرم في ديار الإسلام محرم في ديار الكفر لا فرق بينهما، وأن الضرورات تبيح المحظورات بضوابط واحدة لا تختلف من بلد إلى بلد، وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - من تجويز بعض الأمور في ديار الحرب دون ديار الإسلام مذهب مرجوح مخالف لما عليه جماهير العلماء، وهو ما دلت عليه الأدلة الصحيحة، وراجع في هذا الفتوى رقم: 66936، 20702، 39926.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الإقامة في بلاد الكفر لأجل العمل وتسديد الديون
تاريخ 06 رمضان 1426 / 09-10-2005
السؤال
أنا مسلم وكنت أعيش في بلادي غير مستقر بسبب أخي الذي كان يعمل في السياحة وقد أخذ أموالا كثيرة من الناس بنية سفرهم إلى الخارج ولكنه لم يوفق في ذلك وضاع المال كله وسحبت معه في هذا التيار ولكني أدين بقليل(5/207)
جدا، ولكن لا أقدر على السداد لهذا الدين لو عملت في بلادي، فهاجرت إلى بلد أجنبي وعلمت بعد الوصول أن كثيرا من الناس قدموا بلاغا إلى الشرطة عني وعن أخي فعملت على أن أبقى في هذا البلد الأجنبي لكي أعمل بها حتى أسدد ديوني، مع العلم أنني ملتزم دينيا حمدا لله ومطلق لحيتي وزاد ارتباطي بالله أكثر عندما أقمت في هذا البلد الأجنبي، والحمد لله أنا أدعو كل زملائي في العمل علي طاعة الله وعمل الخير ولكني قمت بعمل لجوء سياسي في هذا البلد لأتمكن من الإقامة بها بدون إزعاج من الشرطة وأعمل علي مساعدة أخي ليأتي معي ويسدد ديونه وأنا علمت أن الإقامة في بلاد الكفرة حرام، فماذا أفعل ؟ فهل بعد قصتي هذه إقامتي هنا لتسديد ديوني حرام أم حلال مع العلم أنني في هذا البلد علي استقامة دينية جيدة وأدعو إلى الله كل مسلم وأحاول مع الكفار بعض الوقت، فدلوني أثابكم الله هل أنا على صواب أم خطأ وإن كان خطأ فما العمل لسداد ديوني
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا أن بينا في الفتوى رقم: 3497، أنه لا تجوز الهجرة إلى بلاد الكفر إلا تحت ضرورة ملجئة أو غرض دعوي بشرط أن يتمكن المهاجر من إقامة دينه ويأمن على نفسه من الوقوع في الفتن، فتن الشهوات والشبهات.
فإذا كان حال السائل كما ذكر من أنه مدين وقد يتعرض للسجن في بلده لعدم تمكنه من سداد ديونه، وأنه على استقامة ودين فلا حرج في إقامته إن شاء الله تعالى في بلاد الكفر لأجل العمل وتسديد الديون وهذه ضرورة.
ولكن يحرم عليه أن يكذب في إقامته كأن يطلب اللجوء السياسي في تلك الدول وهو في الحقيقة ليس مضطهدا سياسيا في بلده ونحو ذلك، بل الواجب عليه الصدق، وإن كان لا بد من طلب اللجوء ولا يتمكن من الإقامة إلا بذلك فليقل الصدق وسبب طلبه للجوء كما هو الواقع، أو يطلب ما يعرف باللجوء الإنساني، مع الإكثار من ذكر الله تعالى والاستغفار واللجوء إليه عز وجل لعل الله أن يجعل له مخرجا.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الهجرة بالمال إلى الغرب للعمل
تاريخ 14 شعبان 1426 / 18-09-2005
السؤال
ماحكم.الاسلام في الهجرة بالمال إلى أوروبا من أجل العمل .؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأصل أنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار إلا لضرورة كطلب علم لا يوجد في بلاد المسلمين مع حاجة الفرد أو جماعة المسلمين إليه، وكذا الدعوة إلى الله تعالى ونحو ذلك، ومما يجيز للتاجر المسلم السفر إلى بلاد الكفار جلب البضائع النافعة لبلاد المسلمين مما ليس في بلادهم، وكذا قصد الحصول على الربح دون الإقامة في بلادهم، وذلك لما يترتب على الإقامة هناك من مفاسد لا تحصى وأضرار بالغة تعود على النفس والزوجة والأولاد، هذا فضلا عما ورد من النهي عن الإقامة في ديار الكفار كما بيناه في الفتوى رقم: 2007، ومع ذلك فإن المرء إذا أمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتن، وقدر على إقامة شعائر الإسلام فإن أهل العلم لا يرون بأسا في هجرته بماله إلى أوروبا أو غيرها من بلاد الكفر من أجل العمل.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==================
حكم استباحة أموال الكفار
تاريخ 25 رجب 1426 / 30-08-2005
السؤال
سؤالي من الأهمية بمكان بحيث أريد الرد مستفيضا ما أمكن سؤالي عن البيع والشراء لمن يقوم بالعمل الحر في بلد أوروبي يقيم فيها كمواطن لأني سمعت من صديق يفترش بضاعة في إحدي الأسواق في دولة أوروبية قال لي إنه أحيانا يتعمد عدم دفع الإيجار نظير افتراشه هذه البضاعة بحجة جواز استباحة مال الكافر بحجة أنها دولة محاربة وهو يريد منفعة بهذا الأسلوب الملتوي أيضا أحيانا يدفع مبلغ الأجرة ناقصا بالاتفاق مع المسئول حتى لا تأخذ منه الدولة أي شيء علما بأن هذا الأخ مسلم عربي ويحمل جنسية هذا البلد الأوروبي ويتمتع هو وأولاده بكامل حقوق المواطنة من تعليم وصحة ..الخ.
أيضا تعلل لي بقصة رجل مسلم أخذ حمار كافر في زمن الصحابة ومحاولة استيلاء المسلمين علي قافلة أبي سفيان لاستباحة أموالهم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا {الإسراء: 34}.
ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سرقة أموال الكفار المعاهدين أو المستأمنين حرام، وراجع لتفصيل ذلك، وما يتعلق به مما جاء في سؤالك الفتوى رقم: 20632، والفتوى رقم: 45143.
ومن هذا تعلم أنه لا يجوز لصديقك ما يفعل، وسواء في ذلك البلاد التي ذكرتها أو غيرها.
ولم نقف على ما ذكره صديقك من قصة سرقة الحمار، وأما استدلاله بمحاولة استيلاء المسلمين على قافلة أبي سفيان فهو استدلال غير صحيح، لان الله أحل للمسلمين ما يغنمون من أموال الكفار في القتال، فأين هذا من عدم الوفاء بالعهد والإخلال بالشرط.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
من قضايا الشباب المهاجرين إلى غير بلاد المسلمين
تاريخ 08 رجب 1426 / 13-08-2005
السؤال(5/208)
إخواتي في الله... أما بعد:
إخوتي في الله، فنحن طلاب ندرس في دولة أوروبية وهي تقوم بدفع مساعده لجميع الطلاب وما علينا سوى تقديم طلب مرفق بختم الجامعه لنحصل على هذا الدعم، فهل يجوز لنا أخذ هذه النقود على أساس أنها مقدمة من دولة أجنبية، كما أن هناك طلابا يتزوجون من أهل هذه البلاد فيحصلون على إقامه دائمة وعلى إثرها يحق لهم الحصول على معونه من أجل السكن والمعيشة وتأمين صحي من الدولة حتى إنهاء الفترة الدراسية أو سن 25، فهل يجوز ذلك وهل تعتبر هذه من الباءة التي يعتمد عليها للزواج، وأخيراً، هناك بعض الطلبه قد تزوجوا في البداية دون علم ذويهم لمعارضة الأهل أن يتزوج أبناؤهم في سن مبكرة أو من زوجة أجنبية ولو كانت مسلمة مع أن كثيرا منهن أكثر التزاماً من العربيات, وأن بالزواج من هؤلاء الأخوات عون وتثبيت لهن وحفظ لنا أيضا فكثير من الشباب المسلم وللأسف وقعوا من بداية الطريق والعياذ بالله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما أخذكم لتلك المساعدات فلا حرج فيه وإن كان الأولى التنزه عنه لما فيه من منة الكافر على المسلم، وانظر الفتوى رقم: 15384.
وأما زواج الشباب من نساء تلك البلاد دون إذن الآباء والأمهات فهو وإن كان صحيحاً إلا أن الأفضل تركه وعدم الإقدام عليه إلا بعد إذن الوالدين لما في ذلك من برهما والإحسان إليهما لشدة تعلقهما بالولد وحرصهما على مصلحته وهذا ما لم يخش الوقوع في الفتنة وإلا فليبادر إلى الزواج.
وأما نساء تلك البلاد فإن كن مسلمات فلا حرج في الزواج منهن بل قد يندب إليه إن كان القصد إعفافهن وتأليف قلوبهن سيما إذا كن من ذوات الخلق والدين كما ذكرت، وأما إن كن غير مسلمات فلذلك حالتان أن يكن كتابيات، وقد بينا حكم نكاحهن في الفتوى رقم: 323، والفتوى رقم: 7787.
والحالة الثانية أن يكن وثنيات أو لا دين لهن فلا يجوز الزواج منهن لقول الله تعالى: وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ {البقرة:221}، وانظر الفتوى رقم: 2779.
وأما نية الشاب في الزواج وقصده للمال من وراء ذلك أو غيره من الأمور المباحة فلا حرج فيه لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك. متفق عليه.
والأولى أن يقصد بالزواج إعفاف نفسه وزوجته عن الحرام وتكثير سواد الأمة بالنسل، كما قال الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ {البقرة:187}، أي من الولد والإعفاف كما قال أهل العلم.
وننصح شباب المسلمين بالمبادرة إلى الزواج كما أمرهم بذلك نبيهم عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، إذا استطاعوا فإن لم يسطيعوا فعليهم بالصوم وغض البصر ونحو ذلك من السبل المعينة على عفاف النفس وطهارة القلب، وانظر الفتوى رقم: 3659.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه
تاريخ 06 رجب 1426 / 11-08-2005
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا لي سؤال وأتمنى من القائمين على هذا الموقع أن يجيبوني عليه بأقرب فرصة ممكنة.
أنا شاب مسلم وأعيش في السويد وذلك مؤخرا وأنا وحيد هنا وليس لي معين إلا الله عز وجل وأنا أدعوه ليل نهار بأن يعينني ويصبرني وأنا أتيت إلى أوروبا بغاية العلم وقد كنت في أسبانيا لفترة ستة أشهر وأتيت إلى السويد لأن في السويد يقومون بتقديم عون للطلاب لكي يستطيعوا الدراسة وذلك إن كانوا يملكون الإقامة في هذا البلد وأنا لا أملكها ولا يمكن الحصول عليها إلا بالزواج وقد رأيت الكثير من الناس حصلوا عليها عن طريق زيارة الديسكوتيكات وإقامة علاقات مع فتيات سويديات وما إلى ذلك وأنا لا أريد أن أصل إلى هذه الأماكن ولكن في بعض الأحيان لا أرى سبيلا آخر وأنا تعبان جدا من الذل والهوان اللذين أعيش فيهما لأجل ذلك أرجوكم أن تساعدوني وأن تعطوني جوابا أستطيع من خلاله تحديد ما أستطيع فعله وهل يجوز أن أزور تلك الأماكن أو لا؟ أو كيف أستطيع الزواج بمسلمات هنا فأنا لا أريد الوصول إلى تلك الأماكن وإن شاء الله لن أصل ولا أريد الزواج بكافرات وأنا بالفعل أريد الستر لنفسي في هذا المجتمع الكافر لأن الحرام مباح في هذا المجتمع وأنا شاب في العشرين من عمري وأنا والحمد لله لم أخطئ في حياتي أبدا ولن أخطئ إن شاء الله.
أرجو أن تجيبوني وأن تعطوني حلا أو جوابأ يعينني لاتخاذ قراري والله المستعان.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يجوز للمسلم الهجرة إلى بلاد الكفر إذا كان لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه، ولا يأمن على نفسه من الوقوع في الحرام، أو كان ذلك يؤدي إلى إهانته ومذلته.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم وصححه الألباني.(5/209)
ولهذا، فإن كان المقام هناك يعرضك للوقوع في الفتن أو الإهانة والمذلة، فإن عليك أن تترك تلك البلاد وتتحول إلى غيرها من بلاد الله الواسعة التي تجد فيها ما يعينك على إقامة دينك وتأمن فيه من الفتن والمخاوف.
ولا يجوز لك بحال من الأحوال ارتياد الأماكن المحرمة وإقامة العلاقات المحرمة مع الفتيات بأي وجه من الوجوه.
وبإمكانك أن تتصل بالجالية المسلمة هناك وبالمركز الإسلامي ليرشدوك وتستعين بهم للوصول إلى ما تريد من الإقامة والدراسة، وما يعينك على طاعة الله فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه.
وهذا ما ننصحك به ونؤكد عليك لأن الإنسان في الغربة ضعيف وعرضة لأن تجتاحه شياطين الإنس والجن.
نسأل الله تعالى أن يحفظك من كل مكروه وأن يعينك على طاعته ويجنبك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وللمزيد من الفائدة نرجو الاطلاع على الفتاوى التالية: 2007، 8003، 31200.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
السفر إلى بلاد آسيا
تاريخ 17 جمادي الثانية 1426 / 24-07-2005
السؤال
سأسافر قريبا إلى بلد في آسيا بماذا تنصحوني؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كنت مطمئنا على أنك ستقيم شعائر دينك، وتنجو من الفتن، فلا مانع من هذا السفر، وننصحك بتعلم أحكام دينك، والمحافظة على واجباتك، والابتعاد عن المحرمات وعن أسباب الفتنة، ونوصيك بالدعوة إلى الله ما استطعت إليها سبيلاً، مع الزيادة في الحذر والبعد عن أماكن الفساد، وعن سائر المغريات، والاجتهاد في الاحتياط للدين، وغير ذلك من أمور الخير التي يتاح لك فعلها.
وإن كنت لست مطمئنا على إقامة دينك، أو أنك لست مطمئنا على أنك ستنجو من الفتن، فالذي ننصحك به حنيئذ هو ترك هذا السفر، لأن دين المرء هو رأس ماله في هذه الحياة، والواجب على المسلم المحافظة عليه والحرص على اجتناب كل ما من شأنه أن يضيعه عليه، وراجع لمزيد الفائدة فتوانا رقم: 2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
تجب الهجرة من بلاد الكفر لمن خشي على انحراف أبنائه
تاريخ 02 جمادي الثانية 1426 / 09-07-2005
السؤال
الاسم:محمد > الجنسية:سويدي والأصل عراقي من بغداد العمر:34 > باسمه تعالى أنا أعيش في السويد ولدي زوجة وطفل صغير وأنا أعيش هنا برفاهية من جميع النواحي المادية إلا من ناحية الدين حيث إني متدين وأريد ولدي أن يكون ولدا صالحا . فالدولة تجبرنا على تسليم ابننا إلى الحضانة ويقضي وقتا طويلا هناك وأنا لا أوافق على هذا الشيء حيث إن هذا البلد لا يعتقد بوجود الله وأنا أخاف على ولدي جدا جدا وسألت كثيرا من العلماء في هذا الأمر وقالوا لي هاجر إلى بلاد إسلامية وأمر الهجرة إلى البلاد الإسلامية صعب جدا جدا وأطلب من أي شخص قادر على مساعدتي بإيجاد عمل لي أو يرشدني إلى جهة تساعدني في هذا الأمر لا اقدر أن أعيش في أي بلد اسلامي أنا وزوجتي وابني وأنا لا أريد بهجرتي إلا رضا الله تعالى، ومن قدر على مساعدتي في هذا الأمر فله أجر كبير عند الله ، وسوف أدعو له بالخير والتوفيق. وجزاكم الله خير الجزاء > من يريد مساعدتي يرسل لي على العنوان التالى )
mohammad_ahmad@maktoob.com
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كنت في بلاد الكفر عاجزا عن إقامة شعائر الإسلام أو تخاف على نفسك الوقوع في المعاصي بسبب انتشار الفساد هناك، أو التنشئة على مبادئ الكفر بالنسبة للأولاد، فإن الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام في حقك واجبة، وللمزيد من الفائدة راجع الفتوى رقم: 58361.
وأما إذا كنت تستطيع أن تقيم شعائر الإسلام من صلاة وغيرها وقادرا على اجتناب المحرمات فلا يجب عليك الخروج من تلك البلاد، وعليك حينئذ أن تحرص على التمسك بدينك، ولمعرفة وسائل الاستقامة على دين الله تعالى راجع الفتوى رقم: 1208 والفتوى رقم: 13135 مع العلم أن الأولى أن يعيش المسلم في بلاد المسلمين حفاظا على دينه ودين أهله.
وأما بخصوص البحث عن عمل في البلاد الإسلامية فيمكنك أن تستعين بمواقع التوظيف على شبكة الإنترنت فإنها قد تسهل لك ذلك، وكثير من الجهات تعلن على مواقعها عن الوظائف الشاغرة لديها.
نسأل الله تعالى أن يعينك على الاستقامة على دينه وعلى تربية أولادك تربية صالحة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
موقف الشرع من السفر لبلاد الكفر لتعلم اللغة
تاريخ 22 جمادي الأولى 1426 / 29-06-2005
السؤال
ما حكم الذهاب لدراسة اللغة الإنجليزية في نيوزلندا أو بعض الدول الأخرى علما أن الإقامة هناك مع عائلة، والمدة شهر أو شهران وجزيتم خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأصل عدم جواز الإقامة بين ظهراني المشركين والكفرة، لقوله صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. وفي رواية: لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم. رواه الترمذي وأبو داود.(5/210)
وقد أجاز العلماء السفر إلى بلادهم للحاجة من غير إقامة فيها، كأن يكون لتجارة أو طلب علم لا يوجد في بلاد المسلمين، أو لعلاج أو للدعوة إلى الله تعالى ونحو ذلك إن ضبط بالضوابط الشرعية، وقد بينا بعض ذلك والمحاذير المترتبة على السفر إلى تلك البلاد في الفتوى رقم: 2007 وليس السفر لمجرد دراسة اللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات مما يبرر السفر إلى بلاد الكفر، وذلك لإمكانية دراسة تلك اللغات ببلاد المسلمين، بل إن معاهد تلك الدول التي تدرس لغاتهم متوفرة في البلاد الإسلامية، كما أنه لا تجوز الإقامة مع عائلة لا تلتزم بأحكام الشرع وضوابطه، إذ لا يمكن التحرز من رؤية نسائها العاريات المتبرجات، ولا تؤمن الفتنة حينئذ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مساكنتهم كما في الحديث السابق.
فلا يجوز لك أن تسافر إلى تلك البلاد لدراسة اللغة فقط، ولا أن تقيم مع عائلة لا تلتزم بأحكام الشرع وآدابه.
وأما حكم دراسة اللغة الأجنبية في معاهد الكفار ومدارسهم فراجع فيه الفتوى رقم: 31707 والفتوى رقم: 8221.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
واجب من لا يستطيع إقامة شعائر دينه في بلده
تاريخ 19 جمادي الأولى 1426 / 26-06-2005
السؤال
في بلدنا الذي يهتم بدينه ويحاول التفقه فيه والذي يكون مواظبا على صلاة الجماعة يكون مآله السجن والتعذيب فماذا نفعل؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن كان لا يستطيع إقامة دينه ولا إظهاره في بلد وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر يمكن له أن يمارس فيه شعائر دينه بأمان، هذا إن كان يستطيع الهجرة، كما أوضحنا في الفتوى رقم: 17898، والفتوى رقم: 8614.
فإن كان لا يستطيع الهجرة أو كان قادراً ولا يجد جهة يهاجر إليها، فالواجب عليه أن يصبر على دينه بحيث يؤدي الصلاة في وقتها مع التفقه في أمر دينه، ولو أدى ذلك خفية إن خشي ضرراً، وهنالك أمور هي من الدين ومن مظاهره إلا أنه إن كان يترتب على إظهارها ضرر كبير مثل السجن أو الضرب، فإنه يجوز حينئذ التخلي عنها ارتكاباً لأخف الضررين، ومن هذه الأمور اللحى والمواظبة على الصلاة في المسجد مثلاً إن ترتب على ذلك مثل ما ذكرنا، ولمزيد الفائدة طالع الفتوى رقم: 3198، 37674.
ونذكر السائل الكريم بما في سنن الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يأتي على الناس زمان القابض فيهم على دينه كالقابض على الجمر.
قال الألباني: صحيح، قال في تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي: قال الطيبي: معناه كما لا يقدر القابض على الجمر أن يصبر لإحراق يده كذلك المتدين يومئذ لا يقدر على ثباته على دينه لغلبة العصاة والمعاصي وانتشار الفسق وضعف الإيمان. قال: وقال القارئ: الظاهر أن معنى الحديث كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد وتحمل غلبة المشقة كذلك في ذلك الزمان لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلا بصبر عظيم. انتهى
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
هجرة من لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه
تاريخ 09 جمادي الأولى 1426 / 16-06-2005
السؤال
المعذره لا أجيد كتابة العربية أنا شاب مغربي مقيم ببلجيكا أريد الزواج لكن الظروف غير مواتية الفتاة تريد أقصى مدة خطوبة ممكنة لا زلت أتابع الدراسة متبق لي عامان، لكني أعمل في نفس الوقت وأربح ما يكفي لأعيش والسلطات البلجيكية تعين العاطلين عن العمل بنسبة للزوج، كما ورد في إحدى فتاواكم أن الإقامة في بلاد غير مسلمة محرمة، فهل من حل آخر سوى الزواج والبقاء هنا أم علي العودة إلى بلادي، علما بأن هنا مساجد كثيرة وعددا مهما من المسلمين وأن فرص العمل في المغرب شبه منعدمة، ما سيدفع بي إلى ترك فكرة الزواج وربما الانحراف عن الطريق المستقيم؟ وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يهديك ويقيك من الانحراف عن الطريق المستقيم، وييسر لك من الظروف ما تتمكن معه من الالتزام بكافة أمور دينك، وقد بينا من قبل حكم الهجرة إلى بلاد الكفر في فتاوى سابقة، وقلنا فيها إن من لم يستطع القيام بشعائر دينه في بلاد الكفر فسفره إليها حرام، وإلا فمكروه، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 2007.
وعليه فإذا كنت مطمئناً على إقامة شعائر دينك، والنجاة من الفتن، فلا مانع من بقائك في تلك البلاد حتى تنهي دراستك وتتيسر لك ظروف عمل تعود بها إلى بلدك، ولا شك أن الزواج أولى لك من عدمه، خاصة أنك ذكرت أنك تربح ما يكفي لعيشك، وأن السلطات البلجيكية تعين العاطلين عن العمل.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
تأخير الهجرة من دار الكفر لتجديد الإقامة
تاريخ 20 ربيع الثاني 1426 / 29-05-2005
السؤال(5/211)
لي أخ هاجر ليعمل ببلد أوروبي, بعد ثلاثة سنوات من الهجرة علم بعدم جواز العيش في بلاد الكفار لمن يخاف على دينه, وكلنا يعرف قدر الفتن والمغريات التي يتعرض لها المسلم في تلك البلاد، لذلك فقد عزم على الرجوع إلى بلده العربي، لكنه لا يدري هل يجوز له البقاء في تلك البلاد لمدة لا تتجاوز أربعة أشهر التي هي موعد تجديد أوراق الإقامة في تلك البلاد وذلك بغية الاستفادة من امتيازاتها، مثلا لشراء سلع وبيعها في بلده العربي, أو في حالة مرض أحد الآباء يذهب به للعلاج في تلك البلاد، مع العلم بأن تلك المدة -أربعة أشهر- ستمكنه من جمع أمواله التي معظمها عند أصدقاء استلفوها منه؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام عند عجز المسلم عن إقامة شعائر دينه، أو الخوف من الوقوع في المعاصي والذنوب بسبب الفساد المنتشر واجبة.
وعلى المسلم الذي أراد التوبة من إقامته في البلاد الفاسدة أن يبادر إلى ذلك، ما دام لا يستطيع إقامة شعائر دينه من صلاة ونحوها . أما إذا كان يستطيع أن يؤدي شعائر دينه من صلاة وأن يجتنب المحرمات، فلا يجب عليه الخروج من تلك البلاد مع أنه هو الأولى، وليحرص على كل حال على أداء الفرائض، وليغض من بصره، وليحفظ فرجه، ويكف أذاه، وليبتعد عن سائر المحرمات، ولا ينجرف في تيارات المدنية ومغريات الحياة، وسفور النساء، وابتذال الأخلاق، فإنها حبائل الشيطان يصطاد بها أولياءه، ونسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
البقاء في دار الكفر مع توفير اللحية أم الرجوع إلى الوطن حيث يمنع إطلاقها
تاريخ 07 ربيع الثاني 1426 / 16-05-2005
السؤال
أنا أستاذ جامعي في فرنسا أريد العودة إلى الوطن ولكن هنالك يمنعون اللحية. فأيهما أهم أن أعود وأحلق لحيتي أم أن أبقى في فرنسا.
وجزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا تجوز الإقامة في بلاد غير المسلمين لمن لا يستطيع أن يقيم شعائر الدين، أو لا يأمن على نفسه الوقوع في الفتنة، وذلك لما يترتب على السكنى بين ظهراني الكافرين من محاذير جسيمة ومخاطر عظيمة. منها أنه سيجعل على نفسه سبيلا للكافرين، والله تعالى يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا {النساء : 141 } . ومنها أنه بمساكنته لهم واختلاطه معهم قد يتأثر في عقيدته فيواليهم محبة وإعجابا بهم، لما يرى مما عندهم من زهرة الحياة الدنيا وزينتها مما لا يزن عند الله جناح بعوضة. ومنها أنه قد يخف عنده الشعور بالكراهية لما هم عليه من كفر بالله تعالى ومنكرات وانحلال، فالنفس تألف ما اعتادته، وفي هذا من الخطر ما لا يخفى ولن يبقى مع المرء أدنى مقومات الإيمان، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن. ومنها أنه يعرض ذريته للفساد، وأنت عليم أن الطفل في كثير من بلاد الكفار لا سيطرة لأبيه عليه، ولعلك إذا تأملت هذه المخاطر العظيمة فهمت قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. خرجه أصحاب السنن.
وبناء على هذا، فإن عليك أيها الأخ الكريم أن تقارن بين تين الحالتين، فإن كنت تستطيع إقامة شعائر دينك في الدولة التي أنت بها، ولا تخشى الوقوع في شيء من تلك المحاذير التي بيناها ومن بينها ما هو أعظم من حلق اللحية، وهذا لا ريب أنه من الصعوبة بمكان، فلا بأس بالبقاء محافظا على إعفاء اللحية، والأولى لك أن تهاجر إلى بلد مسلم لا تخشى فيه من تلك المحاذير. وإن كنت لا تستطيع ذلك وتخشى الوقوع في شيء من المحاذير السابقة، فإن الرجوع إلى الوطن يتعين ولو أدى إلى تخفيف اللحية أو حلقها إن لم يكف تخفيفها ارتكابا لأخف الضررين.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الالتزام بشروط المساعدات في الغرب
تاريخ 02 ربيع الثاني 1426 / 11-05-2005
السؤال
هل يعتبر عدم الإبلاغ عن مصدر كسب آخر أوعدم الإبلاغ عن حقيقته كإعطاء قيمة قليلة
للمكسب وذلك في إحدى البلاد الأوروبيه من قبيل التحايل ومن ثم يعتبر مالا حراما.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعلى المسلمين في بلاد الغرب أن يكونوا مثالاً يحتذى به في الصدق والوفاء بالشروط المرعية، لحديث: المسلمون على شروطهم. رواه أبو داود. ونحن نعلم أن المساعدات التي تعطى للعاطلين عن العمل من بلاد الغرب لها شروط فيجب الالتزام بهذه الشروط ولا يجوز التحايل عليها. هذا إذا كان المقصود هو السؤال عن حكم المساعدات ونحوها، أما إذا كان السؤال عن الضرائب وحكم التحايل على التهرب أو التخفيف منها، فيراجع بشأن ذلك الفتوى رقم: 11198.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
التمسك بالحجاب والصلاة على وقتها في الغرب(5/212)
تاريخ 22 ربيع الأول 1426 / 01-05-2005
السؤال
أنا طالبة بإحدى الجامعات الألمانية وأنا هنا لنيل درجة الدكتوراه علما بأني المسلمة المحجبة الوحيدة في القسم الذي أدرس به، معي فتاة أخرى من بلدي لكنها للأسف لا ترتدي الحجاب ولا تصلي وتلبس لبس الأوربيين وتجاريهم في العادات.
المشكلة هي أني كنت في البداية في مكتب لوحدي وكنت أقفل على نفسي وأصلى فرضي ولا أجاريهم في حفلاتهم أو أكلهم لأن ديني يمنعني من ذلك، وكانوا دائما يتساءلون لماذا تقفلين المكتب ولماذا تصلين وكذا والحمد لله هم نوعا ما يتقبلون أمر الصلاة لكن الأكل صعب جدا أن يتفهموا أننا نأكل بطريقة ذبح معينة ولماذا لا ترتدين اللبس مثل فلانة التي هي من نفس بلدي
عموما أنا الآن في مكتب مشترك مع فتاتين ألمانية وروسية وهما الإثنتان مسيحيتان ولم أستطع الصلاة في مكاني هذا لأن المكتب مفتوح طوال اليوم وكل منهن يأتيها أصدقاؤها وكذا ، فصرت أؤجل صلاتي حتى أعود إلى البيت وأصلي متأخرة عن الوقت وأحيانا أصلي الظهر والعصر والمغرب مرة واحدة، فهل يصح لي ذلك خصوصا أن الحرب تشن علي من جانب ابنة بلدي التي تصف الحجاب بالتخلف وأخاف أن أوصف بالإرهابية أو أن أوقف عن دراستي؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فشكر الله سعيك وأثابك على تمسكك برمز العفة والطهر، وهو حجابك الذي أمرك الله به، ونسال الله جل وعلا أن يثيبك ويثبتك على ذلك.
وأما جواب سؤالك، فهو أنه يجب عليك أن تؤدي كل صلاة في وقتها ولا تبالي باستهزاء المستهزئين، فإنهم لا يعقلون، فقد قال الله تعالى عنهم: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ {المائدة: 58} فلو استجاب المسلم لمطالبهم فإنهم لا يرضون منه إلا بترك دينه واتباع ملتهم كما قال الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ {120}.
ولا يضرك أن تصلي ويراك رجال أو نساء أجانب مادمت بالحجاب الشرعي في صلاتك.
فإذا ما ترتب على ذلك ضرر بك أو غلب على ظنك حصول ضرر فلا حرج عليك في أن تجمعي بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير.
فقد ذهب أشهب من المالكية وابن المنذر من الشافعية وابن سيرين وابن شبرمة إلى جواز الجمع لحاجة ما لم يتخذه عادة لحديث ابن عباس المذكور الذي رواه مسلم قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس ماذا أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.
وأما الجمع بين العصر والمغرب فلا يجوزقطعا لعدم اشتراكهما في الوقت، هذا، واعلمي بارك الله فيك أن الإسلام والتمسك به هما مصدر عزة هذه الأمة وسعادتها في الدنيا والآخرة، فلنرفع به رؤوسنا ولا نبالي بمن استهزأ أو أراد أن يصدنا عن ديننا، وكيف لا نرفع رءوسنا بديننا ونعتز به وهو دين الله الحق ونوره في الأرض في حين أن أهل الباطل والخنا والفجور لا يستحيون من باطلهم وفجورهم، بل يجاهرون به ويدعون إليه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
مخالفة القوانين المرعية في بلاد الغرب
تاريخ 26 صفر 1426 / 06-04-2005
السؤال
أنا أعيش في دولة أوربية وأحد قوانينها ينص على أنه يمكن للمرء المتزوج أن يعيش وحده في شقة بدون أن ينفصل عن زوجته وبذلك يتقاضى الطرفان أجورا أكثر تسد الحاجة وأنا أريد أن أسأل هل هذا حرام أم حلال لأن زوجي عنده ديون كثيرة وصاحب الدين يضغط عليه وزوجي يجهد نفسه بالعمل لكن لا يستطيع أن يسدد الدين وهذا الدين منذ 3 سنوات ولم يستطع أن يسدد فهل هذا حرام؟
وشكرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعلى المسلمين المقيمين في بلاد الغرب أن يلتزموا بالشروط المرعية التي استحقوا بها هذه الإعانات والأجور. لحديث: المسلمون على شروطهم. رواه أبو داود. فأما الاحتيال والتزوير في سبيل زيادة الأجور والإعانات فهو غير جائز، ولذا لا يحل لكما اختلاق صورة غير واقعة في الحقيقة سعياً منكما للالتفاف على القانون من أجل زيادة المرتب أو الإعانة، وليس في تحمل زوجك الدين وعجزه عن الوفاء به ما يسوغ القيام بهذا العمل.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
إصلاح المسكن المهجورفي الغرب وسكناه
تاريخ 13 صفر 1426 / 24-03-2005
السؤال
من فضيلتكم بيان حكم الشرع
في ما يلي .لي قريب يسكن في بلاد المهجر .وفي هذه البلاد توجد أملاك عمومية مهجورة ومهدمة .وبإمكان أي مقيم شرعي أن يصلح جزءا من هذا الملك ويتخذه مسكنا له وهذا بعلم الدوائر الرسمية وتمنح له شهادة الإقامة ويعطى جميع الوثائق الضرورية إلى أن يوجد له سكن قار .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(5/213)
فلا حرج في ذلك إذا كان بإذن الدوائر المختصة لأن الحق في ذلك لها، ولكن يشترط لجواز إقامة هذا الشخص في تلك البلاد أن يكون متمكنا من إقامة شعائر دينه ولا يخشى من الوقوع في الذنوب والمعاصي المنتشرة هناك، وراجع الفتوى رقم: 51334.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
السفر إلى الغرب للمشاركة في دورة تدريبية
تاريخ 12 محرم 1426 / 21-02-2005
السؤال
لدي دورة تدريبية في فرنسا -وأنا من أهل الكويت- عن طريق العمل وهي بعثة ماذا تنصحوني؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كنت محتاجاً لهذه الدورة ولا يمكن تحصيلها في بلدك فلا مانع من الذهاب إلى البلاد المذكورة لتحصيلها، هذا إن علمت من نفسك الثبات في تلك البلاد على الدين والخلق، وستجد هناك من زملائك من يعينك على الخير ويذكرك إذا نسيت، أما إن علمت من نفسك بسابق التجربة معها ضعفاً وافتناناً فلا تذهب، فإن السلامة في دينك وأخلاقك لا يعدلها شيء.
وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
من مفاسد الإقامة في ديار الكفر
تاريخ 28 ذو الحجة 1425 / 08-02-2005
السؤال
أسأل الله أن يبارك فيكم و يجعل أعمالكم خالصة لوجه الله تعالى وأن يضعها في ميزان حسناتكم... أما بعد:
إنني فتاة أبلغ الثامنة عشرة من عمري، أقيم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنتين ونصف تقريبا مع والدي واثنين من إخوتي، كان السبب لقدومي إلى هنا لرؤية والدي الذي لم نره لمدة أربع سنوات والحمد لله الذي يسر لنا السبل للقدوم، كنت في السادسة عشر من عمري وكان يجب علي أن أكمل تعليمي لأن هذا ما اعتاد عليه العصر، لم أكن أعلم عن طريقة العيش هنا ولا كيفية تفكيرهم جيدا لكنني كثيرا ما سمعت عن السلبيات التي تحدث في هذا المجتمع بسبب فساد أخلاقهم وتفكيرهم، كنت ملتزمة بالحجاب الشرعي بفضل الله قبل قدومي إلى هنا لكنني بعد أن أتيت طلب مني والدي خلع الجلباب عند الذهاب للمدرسة وخلع المنديل... لكنني لم أوافق إلا على عدم الالتزام بالجلباب لأنه لم يتوفر لدي إلا اثنان وكان من الصعب الالتزام به لأنني كنت أحتاج لكل يوم إلى تغييره وكنت أجد صعوبة في الحركة عند ارتدائه... فما كان لي إلا أن وافقت على ارتداء لباس القميص مع بنطال من قماش "لكنه للأسف لم يكن يطابق صفات اللباس الشرعي" المهم بعد أن دخلت عالم المدرسة الذي يشيع بالفواحش والإثم والعصيان بدأت قصتي التي بسببها جعلت نظرتي للعيش هنا مستحيلا أو شيئا من الصعب أن أقبله أو أستمر به.
في البداية, كنت بفضل الله محافظة على قراءة الأذكار مثل الصباحية والمسائية وغيره من الأمور التي كنت أحافظ عليها وأنا في بلدي، وكنت أيضا أحافظ على إشغال نفسي بقراءة القرآن في المدرسة حتى لا أطلع على ما يفعلون ولا أنشغل بهم بوقت الفراغ الذي يكون بآخر الحصة أو عند تغيب أحد المدرسين، كنت الوحيدة التي ترتدي الحجاب في المدرسة والتي تظهر شعائرها الدينية كمسلمة، حاولت احتمال ما كنت أرى وأواجه من أمور تخل بالشرف والأخلاق ولا يرضي بها عاقل مثل الاختلاط وغيره من الأمور التي كان من الصعب أن تغض بصرك عنها أو تجنبها حتى، لقد بينت لوالداي بأنني لا أحتمل البقاء هنا لما أراه في المدرسة لكنهما لم يأخذا ذلك بعين الاعتبار مما أدى إلى الرضا بما أنا عليه والتهاون بما أراه، بعد فترة من الزمن بدأ إيماني يضعف قليلا قليلا وبدأت أتأثر بهم والميل إلى قبول ما يفعلون، والمصيبة الكبرى هي التحدث إلى الجنس الآخر والشعور بالراحة والانشراح للتحدث إليهم كأن الأمر طبيعيا ولا يوجد أي شيء في ذلك، وبعدها أصبحت أتحدث إلى طالب نصراني مما أدى إلى حدوث علاقة بيني وبين ذلك الطالب والتحدث إليه عن طريق الهاتف والخروج معه من دون علم الأهل وأحمد الله أنه أبقاني لهذه اللحظة حتى أكفر عما فعلت وفتح باب التوبة لي قبل أن ينتهي أجلي وأنني ما زلت عذراء، إنني الآن انتهيت من الدراسة في تلك المدرسة التي كانت أسوأ مدرسة في الحي وعلمت ذلك بعد أن انتهى كل شيء ووقعت فيما لا يرضي الله عز وجل، ولقد مررت أيضا باختبار صعب خلال دراستي فيها؛ لقد حاول المدرسون والطالبات والمشرفون أن انضم إلى ديانتهم إلى أن أصبحت أفكر بتغيير ديانتي واعتناق الديانة الكاثوليكية، لكن الحمد لله الذي ثبتني على دين الحق وأسأله الثبات حتى الممات.(5/214)
شيخنا الفاضل.. إنني الآن بفضل الله عدت إلى رشدي واستقمت وأحاول قدر المستطاع الالتزام بما أمر الله به وبما أوصاني به الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنني الآن أواجه ضغوطات من قبل الوالدين لأنني على هذا القدر من التدين بحيث لا أخرج معهم إلى الأسواق المختلطة إلا إذا اضطررت إلى ذلك بشكل كبير وعدم الجلوس معهم عندما يأتي ابن عمتي لزيارتنا ويربطون رفضي لعدم تلبية رغبتهم لمثل هذه معصية وعدم احترام والتقليل من شأنهم وهو عكس ذلك تماما، إنني أريد أن أعيد الحياء الذي فقدته بسبب وجودي في تلك المدرسة والابتعاد عن مكان الشبهات وتطبيق ما أمرني به الله والرسول عليه الصلاة والسلام، إنني في الحقيقة كرهت الإقامة هنا وأكره الارتباط بأي شخص يريد الإقامة هنا لأنني أريد أن أنسى ما حصل لي ولا أريد تربية أولادي هنا أيضا، لا يوجد لدي صديقات لتعينني على طاعة الله ورسوله وأواجه الكثير من الفتن في البيت وأحاول تجنبها مثل سماع الأغاني ومشاهدة التلفاز والاختلاط وغيره من الأمور التي لا ترضي الله عز وجل, وأيضا لتربية أخي الصغير الذي يمشي في طريق الانحراف قليلا قليلا على تعاليم الدين الإسلامي وغرس الإيمان في قلبه وهو يبلغ من العمر تسع سنوات، إن أهلي طيبون ويخافون علينا من أمور الدنيا لكنهم لا يدركون كثيرا الواقع الذي سيكون بعد الموت أو عند الوقوف بين يدي الله عز وجل عما نفعل ولم يغرسوا فينا كثيرا من الأمور التي ينبغي أن يغرسوها منذ الصغر كالصلاة، إنني أخشى على نفسي من الفتن والانحراف وأحاول إقناعهم بالنزول إلى البلد العربي الذي يتواجد فيه بقية إخوتي غير المتزوجين هناك ولدي عم وخالة ليس لديهم أي اعتراض على الاهتمام بي والحرص علي وبالطبع لن يصلوا إلى الحد الذي يكون من قبل والداي حفظهما الله من الرعاية والحرص على ما ينفعني، وأمي تخاف ويصعب عليها أن أكون بعيدة عنها لأنني الوحيدة لها، أقدر لها ذلك لكنني في الحقيقة أخشى على نفسي وأواجه الصعويات الكثيرة في هذه البلاد التي تضعف همتي وإيماني أحيانا، فهل إذا رجعت إلى هناك بهدف الحفاظ على ديني والحفاظ على صحتي لأنني لا أستطيع الكشف على صحتي هنا لأنها مكلفة وأبي غير قادر على تحملها وأعذره على ذلك ولا ألومه -أسأل الله أن يبارك فيه وأن يوفقه لما يحب ويرضى- وأيضا لتربية أخي التربية الصحيحة البعيدة عن مواطن الفتن والفواحش من غير الحصول على موافقتهما بعد محاولتي بإقناعهما لكن من غير جدوى أكون آثمة أم لا، والرجاء نصحي بهذا الشأن.
أعتذر كثيرا على الإطالة لكنني فضلت وضع التفاصيل حتى تكون على بينة من الأمر ويكون واضحا وأسأل الله أن يكون شرحي لمسألتي قد أعانك للحكم على ما سألتك عنه يا شيخنا الفاضل وجزاك الله خير الجزاء وأحسن إليك.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله لك الثبات والتوفيق والهداية ونوصيك بالتوبة الصادقة، ونقول لك إن الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام عند عجز المسلم عن إقامة شعائر دينه أو الخوف من الوقوع في المعاصي والذنوب بسبب الفساد المنتشر واجب وعليه فيجب أن تهاجر المرأة ولو لم يأذن لها أبوها ولا زوجها وتذهب ولو وحدها كما نص على ذلك العلماء.
ونصيحتنا لوالدك أن يتقي الله تعالى، فإن الحياة لا تدوم وهي دار ممر، لا مقر لأحد فيها، فكيف لا يهتم بدين بنته وهي تعرض عليه ما تجد من الفتن والبلايا ، ويكفي لمعرفة الحال مطالعة السؤال، فقد حمل في طياته عظة وعبرة لمن كان يعقل، والله المستعان، وننصح بمطالعة الفتوى رقم: 5045، والفتوى رقم: 12829.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
من خشي الفتنة على نفسه في ديار الكفر وجب عليه الخروج
تاريخ 27 ذو القعدة 1425 / 08-01-2005
السؤال
أنا مسلم أعيش في الغرب فقد أكملت دراستي وأصبح لي أكثر من عامين وإني أشتغل هنا, إني متزوج وأب لابنتين الحمد لله مشكلتي أنني قررت قبل شهرين أن آخذ عائلتي إلى الجزائر خوفا عليهم من هذه البيئة ولي مصاعب مادية أيضا. رجعت إلى الغربة لكي أدخر مبلغاً من المال وأرجع به إلى الجزائر لأفتح به مكتبا في تخصصي. لقد وجدت نفسي مفتوحا للفتن وما أكثرها في هذا البلد و أريد الرجوع إلى بلدي وأهلي رغم أنني لم أحصل المبلغ الكافي. أنا أخشى حقا على ديني في هذه الديار ولكني أعلم أنني سأجد مشقة في تحصيل وظيفة في بلدي. هل أكون آثما إذا رجعت إلى بلدي وعلامة نقص في صبري وإيماني أم أصبر على هذا الوضع حتى أجد منصب شغل في بلدي أو بلد مسلم آخر أو أجمع المبلغ الكافي للرجوع إلى بلدي. عفوا على الاطالة و جزاكم الله خيراً على مجهودكم. في أمان الله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الإقامة في مثل تلك البلاد لا تجوز لمن خشي الفتنة في دينه. وعليه؛ فإذا كانت ظروف بلدك لا تناسب الآن، أو أنك ستجد مشقة فابحث عن بلد آخر تقيم فيه، وتطمئن على دينك وتربية أولادك ريثما تتناسب ظروفك للإقامة في بلدك.(5/215)
وهذه الهجرة بالدين إذا فعلتها نجوت بنفسك وأهلك، وكانت دليلاً على صبرك وإيمانك، وأما البقاء في بلاد يتم فيها تعريض النفس والأهل للفتن فهذا هو الدليل الواضح على نقص الإيمان وقلة الصبر.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
السفر بالمصحف إلى أرض العدو
تاريخ 15 شوال 1425 / 28-11-2004
السؤال
ما صحة هذا الحديث (عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو)، وقد قيل لي إن هذا النهي في حالة ما إذا خيف وقوعه بأيدي العدو، فهل هذا صحيح حيث إن الحديث غير مقيد بشرط؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحديث حديث صحيح رواه البخاري ومسلم، وعلة النهي هي الخوف من أن يناله العدو فيحصل له الامتهان، كما تدل له رواية مسلم: كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو.
كذا قال النووي في شرح مسلم، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 34457، 29022.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
هل يصلح سيارته عند من يخالف القانون في بلد غير مسلم
تاريخ 26 شعبان 1425 / 11-10-2004
السؤال
يوجد في المدينة التي أعيش بها (بلد غير مسلم) شاب مسلم يعمل في مجال تصليح أجسام السيّارات. بعض المسلمين يصلّحون سياراتهم عنده و ذلك لرخص السعر بالمقارنة بغيره. المشكلة أنّه لا يوجد لديه محل مرخّص (لديه غرفة كبيرة في بناية يستعملها لخزن السيارات أثناء صيانتها). هل يجوز أن أصلح سياراتي عنده؟ أم هل هذا يعتبر معاونة على الإثم حيث بحسب علمي أنّه يجب إحترام قوانين البلد حتى ولو كان بلد غير مسلم؟ أنا لا أدري إن كان مايفعله مخالفا للقانون، ولكن على افتراض أنّه مخالف، هل يجوز لي الذهاب عنده على أساس أنّه صديق يساعدني على صيانة السيارة حيث إنّه لا يوجد شئ في القانون يمنعني من شراء عدّة و تصليح سيارتي بنفسي؟.
جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب في حق المسلمين المقيمين في البلدان غير الإسلامية أن يراعوا قوانين تلك البلدان وأن يلتزموا بها ما لم تخالف نصاً شرعياً، فإنه لم يؤذن لهم بالإقامة في هذه البلدان إلا عندما أقروا صراحة أو ضمناً باحترام قوانينها، وفي الحديث: المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. رواه النسائي.
وعليه، فيمتنع في حق هذا الشاب المسلم أن يفتح محلاً لإصلاح السيارات بدون ترخيص إذا كان الترخيص مشروطاً.
أما إذا لم يكن المكان محلاً يتطلب ترخيصاً، وإنما يفعل ذلك في جانب من بيته بحيث لا يكون مخالفاً للقانون فلا مانع.
وعليه، فيمنع أن تصلح سيارتك عند هذا الشخص إذا كان مخالفاً لقوانين البلد السائغة، لأن في ذلك إعانة له على باطله، ولك أن تصلح سيارتك عنده إن سلم من المخالفة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
السفر لبلاد الغرب لغرض صحيح.. رؤية شرعية
تاريخ 12 شعبان 1425 / 27-09-2004
السؤال
أريد أن أسأل سؤالاً يحيرني منذ فترة وهو رأي الشرع في عمل أريد أن أعمله، وهو أني متحصل على شهادة الحقوق وأريد الذهاب إلى دولة أوروبية من أجل مواصلة الدراسة في اختصاص القانون الدولي، فدلوني جزاكم الله خيراً، حول رأي الشرع في دراسة مادة الحقوق والذهاب إلى أوروبا لمواصلة الدراسة، والعمل هناك بعد التخرج، فأغيثوني بإجابة على هذا الأمر ورجائي أن تكون الإجابة دقيقة؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا مانع شرعاً أن يسافر المسلم إلى أوروبا لمقصد مشروع إذا كان قادراً على إقامة دينه هناك وآمنا من الوقوع فيما حرم الله تعالى، وما ورد من النهي عن الإقامة مع المشركين ومساكنتهم... حمله كثير من أهل العلم على من لم يأمن على دينه؛ كما في فتح الباري وتحفة الأحوذي.
وعلى ذلك فمن كان آمنا على دينه ونفسه وماله وعرضه فلا مانع من سفره لغرض صحيح، ولمزيد من الفائدة خصوصاً فيما يتعلق بالعمل في مجال تخصصك وما يتصل به نرجو الاطلاع على الفتاوى ذات الأرقام التالية: 50312، 2007، 44943، 51334.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
السفر لبلاد الكفار للعمل والدراسة والسياحة
تاريخ 23 رجب 1425 / 08-09-2004
السؤال
أريد أن أعرف رأي الشرع حول حكم من يعمل ويدرس ويسافر للسياحة في بلاد ليست مسلمة..فهل ماله الذي تحصل عليه من العمل حرام؟ وماذا عن الدراسة والسياحة؟
وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تقدم الكلام عن الإقامة في بلاد غير المسلمين لأجل العمل أو الدراسة أو غير ذلك من الأغراض وذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية:(5/216)
51334 ،17945 ، 41509. وخلاصة ما في تلك الفتاوى أن الناس في الهجرة من تلك الديار على ثلاثة أقسام: القسم الأول: من لا يستطيع الهجرة لمرض وعجز ونحو ذلك فهؤلاء لا تجب عليهم الهجرة. والقسم الثاني: من يستطيع الهجرة إلا أنه يستطيع أن يقيم شعائر دينه ويأمن على نفسه الفتنة فهذا تستحب له الهجرة ولا تجب عليه. والقسم الثالث: من يستطيع الهجرة ولا يستطيع أن يقيم شعائر الدين أو لا يأمن على نفسه الفتنة فهذا تجب عليه الهجرة. أما عن المال الذي تحصل عليه المرء من العمل في بلاد غير المسلمين فهو راجع إلى نوع العمل فإذا كان العمل محرما فالمال المتحصل منه حرام، وإذا كان مباحا فالمال المتحصل منه مباح.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
مسألة حول التجنس بجنسية دولة كافرة
تاريخ 20 رجب 1425 / 05-09-2004
السؤال
أنا أخت جزائرية الأب والأم، لكن ولدت في فرنسا، وقد علمت مؤخراً أن بإمكاني الحصول على الجنسية الفرنسية، وليست لي حاجة بها لولا أن أبي الآن يقطن سويسرا ولا يستطيع زيارتنا هنا بالجزائر، فأود التأكد من جواز حصولي على الجنسية الفرنسية؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا أن أصدرنا عدة فتاوى في بيان عدم جواز التجنس بجنسية دولة كافرة إلا في حال الضرورة المعتبرة شرعاً والملجئة لذلك، فنحيلك إلى هذه الفتاوى وهي تحت الأرقام التالية: 47633 والفتاوى المرتبطة بها، والفتوى رقم: 51281.
ولا نظن أن زيارتك لوالدك ضرورة تبيح لك التجنس، وإذا لم يكن هو قادراً على زيارتكم في الجزائر ولم تكونوا قادرين على زيارته في سويسرا لصعوبة الحصول على الفيزا مثلاً فبإمكانكم أن تلتقوا في بلد آخر، والبدائل كثيرة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم الكذب للحصول على إقامة في دولة كافرة
تاريخ 17 رجب 1425 / 02-09-2004
السؤال
أعيش
في بلد أوربي , وعندما أتيت إلى هذا البلد أخبرنى الأصدقاء الذين سبقوني بأن الإقامة في هذا البلد تتطلب أن تطلب حق اللجوء السياسي علما بأنني من بلد به مشاكل سياسية, ولكني شخصيا لا أعاني من أي مشكلة مع الحكومة في بلدي الأصلي ولكن مشكلتي اقتصادية فقط بسبب الفقر وضيق الحال في بلدي .
مما اضطرني إلى أن أكذب في هذا البلد الأوربي وأقول إنني أعاني من مشكلة سياسية حتى أستطيع الإقامة والعمل في هذا البلد وترتب هذا الأمر أن الدولة تتكفل بي إعانتي وأسرتي من تقديم للمال والسكن والعلاج .
ما حكم إقامتي في هذا البلد وما حكم المال الذي يقدم لنا, هل مابنى على باطل فهو باطل؟
مع العلم بأنني تحصلت على أوراق الإقامة في هذا البلد بعد 3 سنوات وأعطيت الإقامة بموجب المدة التي قضيتها في هذا البلد لا بسبب المشكلة التي ألفتها وكذبت فيها .
أفيدوني جزاكم الله خيرا, ومثل مشكلتي هذه يعاني منها آلاف المسلمين فى أوربا, إذا لم يكن الملايين.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أخي السائل أن طلبك للجوء السياسي وأنت لست مطاردا في بلادك فيه محاذير:
الأول: الكذب، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا. رواه مسلم.
الثاني: طلب اللجوء من غير ضرورة لذلك، وقد قال الله تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ {هود: 113}.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقال ابن جرير عن ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا، وهذا قول حسن، أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم رضيتم بأعمالهم. اهـ.
الثالث: أخذ المال عن طريق الكذب والخداع.
الرابع: إقامتك في بلاد الكفر والتي قد يترتب عليها التفريط في الواجبات والوقوع في المحرمات.
فالواجب عليك أخي السائل التوبة إلى الله عز وجل، فإن من تاب تاب الله عليه، وأما بخصوص إقامتك في بلاد الكفر وحكم المال الذي أخذته فانظر الفتوى رقم: 29616، 41334، 25698، 51334، 28155، 47026، 50478.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الإقامة بديار الكفر بغرض الدعوة إلى الله
تاريخ 29 جمادي الثانية 1425 / 16-08-2004
السؤال
عندما أقول لبعض المقيمين هنا في أوروبا إن الإقامة في بلاد غير المسلمين لا تجوز إلا بشروط يعللون إقامتهم بالدعوة، فما هي الشروط الواجب توافرها فيمن يدعو غير المسلمين في بلادهم، وما هي القواعد التي تحدد مدة إقامته وكيفيتها، وهل يترك هذا النوع من الدعوة للمبادرات الفردية أم أن الأصل فيه أن يوكل للدول أو الحكومات أو الهيئات؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا تجوز الإقامة في بلاد المشركين إلا بشروط مذكورة في الفتوى رقم: 51334 وهذه الشروط في حق جميع الناس سواء كان داعياً إلى الله عز وجل أو تاجراً أو دارساً أو غير ذلك.(5/217)
وهي في حق الداعي إلى الله عز وجل أوكد، فإنه إن لم يقدر على إقامة شعائر دينه أو كان لا يأمن على نفسه من الفتن فكيف يدعو؟! ولربما جاء ليصلح فيفسد، فتعليل من أشرت إليهم الإقامة بغرض الدعوة لا يسقط تلك الشروط.
ثم إن الدعوة إلى الله عز وجل هي أشرف الوظائف لأنها وظيفة المرسلين، وليس كل أحدٍ يصلح أن يتصدر للدعوة ويخاطر بدينه فيقيم في بلاد الكفر يزعم غرض الدعوة، بل لا بد للداعي أن تتوفر فيه مواصفات الدعاةِ إلى الله عز وجل من العلم بما يدعو إليه والعلم بحال المدعوين والعلم بطرق ووسائل الدعوة، قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ {يوسف:108}، وقال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {النحل:125}.
فإذا توفرت فيه تلك المواصفات جاز له البقاء وكان ذلك جهاداً في سبيل الله عز وجل، وعمله من أفضل القربات، كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {فصلت:33}، ولا تحدد إقامته هناك بمدة معينةٍ؛ بل له البقاء ما دام قائماً بهذه المهمة العظيمة وتوفرت فيه شروط الإقامة ومواصفات الدعاةِ إلى الله.
وأما من لم تتوفر فيه شروط الإقامة ومواصفات الدعاة فنقول له:
فدع عنك الكتابة لست منها**** ولو سودت وجهك بالمداد.
ولا ينفعه تعلله بالبقاء لأجل الدعوة، وقول السائل "وهل يترك هذا النوع.... إلخ" نقول: لعله ليس من المصلحة الشرعية تقييد أمر الدعوة بالدول والحكومات التي كثير منها في حاجة إلى من يدعوها لتطبيق شرع الله ونصرة دينه؛ بل كل من كان أهلا ً للدعوة فهو مطالب بذلك سواء كان فرداً أو حكومة أو هيئة إسلامية.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
نصائح وإرشادات للمقيمين في ديار الغرب
تاريخ 27 جمادي الثانية 1425 / 14-08-2004
السؤال
أسأل عن شرعية الإقامة في هذه البلاد لمن أراد العيش فيها عموماً، ولمن أراد تحصيل بعض العلم غير المتوفر في بلده أعني -أنني أنوي تكملة دراستي في المستقبل إن شاء الله، لكن حالياً ليس لدي أي إمكانية لذلك (لا مادية ولا قانونية)- أرجو منكم مد يد العون لي وإفادتي برأي الشرع في هذين السؤالين؟ جزاكم الله خيراً، كما أرجو أن تقدموا نصيحة للشباب الذين يعيشون في دول أوروبا هذه الفئة التي تعاني الأمرين الغربة ومشاكلها السرقة والزنا والمخدرات... إلخ، وبين العودة إلى أرض الوطن بالخيبة واليأس وربما تحطم نفسي يعانيه هؤلاء بعد سنين ضاعت دون جدوى سوى خسارة العمر، نرجو إفادتكم سواء عبر الإنترنت أو التلفزيون (أقرأ، الجزيرة....).
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
أما حكم الإقامة في بلاد غير المسلمين، فانظر لمعرفته الفتوى رقم: 51334.
وأما هؤلاء الشباب الذين ذكرت، فنسأل الله أن يهدي قلوبهم، ويشرح صدورهم، وينور بصائرهم، ويأخذ بناصيتهم للبر والتقوى، وينعم علينا وعليهم بالتوبة النصوح، ويوفقنا وإياهم للسعادة في الدارين، ونقول لهم: اتقوا الله، واعلموا أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا {الملك:2}، وأنها متاع فان، كما قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ {سورة الحديد:20}.
وأن لحظة واحدة في النار تنسي أعظم نعيم يشعر به المرء في هذه الدنيا، كما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط.
فاحذورا المعاصي، وبادروا بالتوبة قبل أن يتخطفكم الموت، ويحال بينكم وبين التوبة، واعلموا أنكم إذا تبتم فإن الله لن يضيعكم، فقد قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ {سورة الطلاق:2-3}.(5/218)
ومما يعينكم على التوبة، أن تتركوا تلك البلاد - إذا لم يمكنكم إقامة دينكم فيها- وتبحثوا عن بلد إسلامي تستطيعون العيش فيه وإقامة دينكم، ففي الحديث الصحيح في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، أنه أرشد إلى أن ينطلق إلى أرض بها أناس يعبدون الله تعالى، وأن لا يرجع إلى أرضه التي هي أرض سوء، فكان ذلك سبباً في رحمة الله له، ودخوله الجنة، وراجعوا لمزيد من الفائدة الفتوى رقم: 45909، والفتوى رقم: 43151، والفتوى رقم: 29853.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
البقاء في بلاد غير المسلمين يختلف باختلاف حال المقيم
تاريخ 04 جمادي الثانية 1425 / 22-07-2004
السؤال
ما هي صحة الحديث التالي: (أنا بريء من من عاش أربعين يوما بين ظهرانية الكفار)، وما هو حكم الشرع في الذي يعيش في بلد الكفر بغرض العمل، لأن بلده لا توفر له نفس الراتب، وما هو حكم الشرع فيمن يعيش في بلد الكفر بغرض الدراسة؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن اللفظ الصحيح للحديث هو: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا لم يا رسول الله قال لا تراءى ناراهما. رواه أبو داود والترمذي والطبراني في المعجم الكبير وهو حديث صحيح، قال الحافظ ابن حجر: وهذا محمول على من لم يأمن على دينه. انتهى.
وأما عن حكم الإقامة في بلد الشرك بغرض العمل أو الدراسة ممن كان يأمن على دينه بدار الكفر بحيث يقدر على إقامة شعائر دينه وعنده من العلم ما يدفع به الشبهات التي قد ترد عليه ومن التقوى ما يدفع به الشهوات، من كان هذا حاله جاز له البقاء في دار الكفر، سواء للعمل أو لغيره.
ومن لم يأمن على دينه لم يجز له البقاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. رواه أبو داود، قال الحافظ بن حجر: وهذا محمول على من لم يأمن على دينه.
قال في فتح الوهاب وهو من كتب الشافعية: وسن لمسلم بدار كفر أمكنه إظهار دينه لكونه مطاعاً في قومه أو له عشيرة تحميه ولم يخف فتنة في دينه ولم يرج ظهور إسلام ثم بمقامه هجرة إلى دارنا لئلا يكيدوا له.
ووجبت عليه إن لم يمكنه ذلك أو خاف فتنة في دينه وأطاقها أي الهجرة لآية: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء97].انتهى بتصرف، والحاصل أن البقاء هناك يختلف باختلاف حال المقيم، وانظر الفتاوى رقم: 28551، 2063، 2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم خلع المرأة للحجاب في بلاد الغرب
تاريخ 16 ربيع الثاني 1425 / 05-06-2004
السؤال
تعلمون عداوة الغرب اليوم لنا والنساء خاصة، فما حكم خلع المرأة لحجابها لعوائق دنيوية، ما هو حكم ذلك، وأيضاً متى يجوز خلعه للضرورة هناك، وما هي حالات الضوابط في هذا؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز خلع المرأة للحجاب إلا لضرورة أو حاجة ويكون ذلك بقدرها، وأما خلع الحجاب بسبب الإقامة في بلاد الكفار فليس بمبرر شرعي، بل يجب على المرأة التي لا تستطيع إظهار شعائر دينها الهجرة من هذا البلد الذي يُلْزِمها بالتخلي عن رمز عفتها وصيانتها ويرغمها على التبرج والسفور إلى بلد إسلامي تستطيع فيه القيام بما أوجب الله عليها، ولعل هذا الذي ذكر في السؤال من استحالة ارتداء الحجاب في هذا البلد الكافر هو أحد الأسباب التي جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين. لما في الإقامة بين أظهرهم من الخطر على الدين والأخلاق، ولا سيما على النساء والأطفال، وضعاف الدين، وقليلي العلم، وفي الفتوى رقم: 8614 زيادة بيان لهذه المسألة فلتراجع.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
ضوابط جواز السفر لطلب الرزق
تاريخ 22 ربيع الأول 1425 / 12-05-2004
السؤال
تركت بلدي وذهبت إلى الإمارات بحثاً عن الأموال أو تستطيع أن تقول طمعاً ولا يخفى عليكم ما يترتب على ذلك من قطع الأرحام، مع العلم بأني لدي عمل داخل بلدي؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا بأس على الشخص في أن يترك بلده ويسافر إلى بلد آخر بحثا عن الرزق، إذا كان العمل الذي سيعمله حلالاً، وكان البلد المسافر إليه بلداً إسلامياً ولو كان لديه عمل في بلده، قال الله تعالى: عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ .. [المزمل:20]، وقال سبحانه:
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا [النساء:101].(5/219)
وهذا لا يعني قطيعة الأرحام لأنه يمكن أن يصل أرحامه بالهاتف والمراسلة والهدايا والعطايا ونحو ذلك، ويجعل التقاءه المباشر بأرحامه عند الرجوع إلى بلده، ومع هذا فالأفضل طبعاً هو أن يكون قريباً من أهله خصوصاً والديه حتى يتيسر له برهما والإحسان إليهما.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
سافرت إلى الغرب لتحافظ على حجابها
تاريخ 12 ربيع الأول 1425 / 02-05-2004
السؤال
أنا امرأة. بلدي يمنع فيه الحجاب وأهلي يرفضون بقائي بالبيت بحجة أن لي شهادات عليا و ينبغي أن أعمل, حتى أني تعرضت للضرب حين رفضت الخروج للعمل و نزعوا حجابي بالقوة. أرسلت طلبا لمواصلة دراستي بالخارج و بالفعل تحصلت علي منحة ووجدت في ذلك مخرجا للحفاظ علي حجابي و
ارتداء ثياب ساترة و تفادي الشغل (لي في الجامعة مكتبي الخاص والمشرفة علي امرأة ) فقد كان أهلي هداهم الله يمنعونني حتى من ارتداء تنورة طويلة و قميص بأكمام , التحق بي أخي بعدها لكنه يتم دراسته عن قريب بعد أن فرحت بمجيئه بصفته محرما لي. هل إقدامي على السفر خطأ و هل بقائي هنا إن من الله علي بشغل أراعي فيه حدود الله دون اختلاط محافظة على حجابي (خاصة إذا سافرت بعدها لبلد مسلم) فيه شيء؟ . أفتوني يرحمكم الله فإني أخشى أن أكون على خطأ وضلالة وأنا أحسب أني على طاعة وعلى خير فألقى ربي بصحيفة سوداء ووالله إن هذا الأمر ليقض مضجعي خاصة بعد تجربة طلاق كسرتني و انهرت بعدها و لا يكاد يمر يوم دون أن أسكب فيه من العبرات ما يعلمه الله و صرت أرى أن ما أمر به من مشاكل ما هو إلا لغضب الله سبحانه علي و أدعو الله دائما بتفريج كربتي لكن الإحساس الدائم بالألم و بأن الله ما يصيب بمصيبة إلا بذنب يحرق قلبي.
عذرا على الإطالة و سدد الله رأيكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه يتعين على الأهل أن يكونوا عونا لبنتهم على المواصلة في طريق الهدى عملا بقوله تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً] (التحريم: 6).
ولا يجوز لهم إجبارها على نزع الحجاب، كما لا تجوز لها طاعتهم في ذلك، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 31956.
وأما السفر للخارج بدون محرم فالأصل منعه لثبوت النهي في حديث الصحيحين.
ثم إن من لا يستطيع الحفاظ على دينه في وطنه الأصلي تتعين عليه الهجرة منه إلى بلد يتمكن فيه من التمسك بطاعة الله تعالى، ولكن يتعين عليه أولا أن يبحث عن بلد مسلم أولا لأن السكن بين أظهر المشركين منهي عنه شرعا، فإن لم يتيسر له ذلك ووجد بلدا غير مسلم ولكنه يعطي الحرية للإنسان في الحفاظ على تمسكه بدينه فلا شك أن السكن به أولى من البلد الذي يمنع فيه من الالتزام بالدين، ولذا فإنا ننصحك بالإكثار من الدعاء واللجوء إلى الله تعالى والإنابة والإقبال بصدق على طاعته، وعليك أن تبحثي عن بلد مسلم تمكنك فيه الإقامة والاستقامة على الدين فإن لم يتيسر فلا حرج عليك في البقاء في البلد الذي تقيمين فيه حالا ما دام بلدك الأصلي على الحال المذكورة.
وننصحك البحث عن زوج صالح يكون عونا لك على طاعة ربك، فقد كان من هدي السلف عرض المرأة نفسها على من يتزوج بها وعرض الرجل بنته على من يتزوج بها.
ونسأل الله أن يفرج كروب الأمة وأن يزيح الحدود بين البلاد الإسلامية وأن يخرج العراقيل المانعة من تمسك الناس بدينهم الذي هو سبب عزهم وصلاح أمورهم في الدنيا والآخرة.
وراجعي الفتاوى التالية أرقامها: 38005، 3420، 6015، 32981، 32955، 16946، 5249.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الهجرة من دار الفسق والبدعة مشروعة
تاريخ 14 ربيع الأول 1425 / 04-05-2004
السؤال
أعيش في بلد يكثر فيه فعل الحرام والمنكرات وعدم تطبيق حكم الله في الحياة اليومية, أخاف على نفسي وأهلي من الفتن المنتشره. وينقصنا من العلماء مَنْ يعلمنا ديننا على مذهب أهل السنة والجماعة، هل اللوم يقع علي لأني أتيت بأهلي ليعيشوا هنا، حيث أنني مواطن, دلوني على حل وأريحوني من الهم والغم؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كان الإنسان يعيش في بلاد الفسق أو بلاد البدعة وكان لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه أو لا يأمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتنة فإنه يجب عليه أن يهاجر من هذه الأرض، أما إذا كان يستطيع أن يقيم شعائر الدين ويأمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتنة فإنه يستحب له أن يهاجر من هذه الأرض ولا يجب عليه ذلك، وفي حالة وجوب الهجرة فإن الإنسان ملام على عدم الهجرة إن كان يقدر على ذلك، فإن كان لا يقدر على الهجرة فليجتهد وسعه في الحفاظ على دينه ودين أهله حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً، وراجع للمزيد من الفائدة الفتوى رقم: 25370، والفتوى رقم: 8328.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
أحوال يتأكد معها السكن في الوطن الأصلي
تاريخ 06 ربيع الأول 1425 / 26-04-2004
السؤال(5/220)
أنا شاب حائر...أعيش في فرنسا والسبب في هذه الحيرة هو أن الكثير من الشباب يرغبون في هجرة أوطانهم لسخطهم على هذه الأخيرة فكيف نعاملهم لبث حب الوطن الذي لا يقوم إلا بهم?
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا خطورة السفر لبلاد الكفر وحكمه في الفتوى رقم: 2007 فعليك أن تبين لهم ولنفسك مخاطر بلاد الكفر ومنع السفر إليها للكسب لغير ضرورة، وأهمية السكن في بلاد يحافظ فيها العبد على دينه، ويتأكد السكن في الوطن الأصلي إذا توقف عليه بر الأبوين أو القيام بشؤون الأبناء والأسرة الذين يحرم تضييعهم، ثم إن حب الوطن مشروع فقد استدل العلماء لمشروعية حب الوطن بحب الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا رجع من سفره ورأى أُحُداً من بعيد قال: هذه طابة وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه. رواه البخاري.
ثم إننا ننبه إلى أن ما شاع عند الناس من أن حب الوطن من الإيمان حديث رده المحدثون وحكموا عليه بالوضع، نص عليه الملا علي القاري في كتابه المصنوع في معرفة الحديث الموضوع، والبيروتي في أسنى المطالب، والألباني في السلسلة الضعيفة، وراجع الفتوى رقم: 38887.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
هل يهاجر من دار صعب عليه العيش فيها
تاريخ 28 صفر 1425 / 19-04-2004
السؤال
نحن نعيش في بلد كثرت فيه الفتن والمشاكل فصعب علينا العيش لا يوجد عمل,لا بيت,لا زوجة.فهل يجوز الهجرة إلى بلاد الكفر من أجل الرزق والعمل فقط ثم العودة إلى بلدي فأستقر فيها. وهل يجوز شراء التأشيرة لأن طلبها مستحيل؟
بارك الله فيكم...
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعيش في مثل تلك البلاد لا يجوز إذا كان الشخص لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه، ولا يأمن على نفسه من الفتنة في دينه، أما إذا كان يستطيع أن يقيم شعائر الدين ويأمن على نفسه من الفتنة في الدين، فإن العيش فيها مكروه، والذي ننصح به هو عدم الذهاب إلا لحاجة كتعلم علم أو دعوة إلى الله أو معالجة مرض ونحو ذلك، وراجع التفاصيل في الفتويين: 25755، والفتوى رقم: 12829.
وأما عن شراء التأشيرة فإنه راجع إلى حكم الذهاب إلى تلك البلاد فإذا كانت الحالة مما يجوز فيها الذهاب، فالشراء جائز.
وإذا كانت مما لا يجوز فالشراء لا يجوز، وإذا كان المراد بالشراء هو دفع رشوة لأجل ذلك فحيث جاز لك الذهاب فإن ذلك يجوز ما لم تضر غيرك بذلك ممن هو أولى منك.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
حكم الهجرة إلى بلاد الكفر لمن لم يستطع إقامة شعائر دينه في بلده
تاريخ 23 صفر 1425 / 14-04-2004
السؤال
ما هو حكم الهجرة إلى بلد كافر ككندا أو فرنسا للدراسة، علما بأني أعيش في بلد أصله مسلم ولكن للأسف أداء الشعائر الدينية في كندا أيسر بكثير من أدائه في بلدي (مثلاً هنا تمنع السلطات إطالة اللحية ولو قليلاً مع التهديد اللفظي والبدني أيضاً فهي تهدد كل من ترتدي الحجاب وتمنعهن من دخول المدارس كذلك فهي تمنع الطلبة من أداء الصلاة في المعاهد والكليات...)، وكل هذا الأشياء لا تمنع في كندا!! فهل يجوز أن أهاجر إلى هذا البلد للدراسة إن لم أتمكن من الذهاب إلى بلد مسلم آخر تتوفر فيه دراستي؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من كان في بلد لا يستطيع فيه إظهار شعائر دينه والقيام بأوامر ربه يتعين عليه الهجرة منه إلى مكان يعبد فيه ربه ويدل لذلك قول الله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا* وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء].
وإذا أراد الهجرة فعليه أن يختار أفضل البلاد وأرفعها مستوى في الدين حتى يجد بيئة صالحة وصحبة صالحة تعينه على الطاعة، ويدل لذلك ما في صحيح مسلم أن العالِم لما سأله التائب عن التوبة قال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.(5/221)
وبناء عليه؛ فإنه يتعين عليك البحث أولاً عن دولة مسلمة تتوفر فيها حرية الدين، فإن لم تتيسر وكانت هناك بعض دول الكفر تعطي حرية للمسلم في عبادة الله تعالى فلا شك أن الهجرة إليها أولى من البقاء في الدولة التي لا تعطي الحرية للمسلم في العبادة.
ولكن ينبغي أن يلاحظ أنه لا بد للمسلم المهاجر إلى دول الكفر من التحفظ من مخاطر بلاد الكفر والتفقه في أمور دينه والارتباط بالمساجد وأهلها والإكثار من حضور مجالس العلم التي تصله بالله وتلاوة القرآن والحفاظ على الأذكار المأثورة وصلوات الفرض والنفل والبعد عن أجواء السوء والرذيلة ورفاق الشر والفجور، ويتعين عليه الاتصال بالعلماء مباشرة أو عن طريق وسائل الاتصال ليستفتيهم فيما يعرض له من إشكالات في أمور دينه.
ويستحسن أن يحصل دائماً في كل يوم حفظ آيات وأحاديث في موضوع معين ويقدم فيه درساً لزملائه الطلاب ولأهل المسجد حتى تكون هجرته بغرض الدعوة إلى الله ولتكون تلك الأنشطة حماية له من أسباب الفساد وشياطين الإنس والجن، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 8614، 38634.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم إقامة من يستطيع إقامة شعائر دينه في بلاد الكفر
تاريخ 22 صفر 1425 / 13-04-2004
السؤال
أنا شاب مسلم ومتزوج أعمل بالولايات المتحدة كمحلل نظم بشركة برمجيات هناك.
السؤال هو أنني قرأت حديثاً صحيحاً للرسول عليه الصلاة و السلام يقول : "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" ، فهل نحن من نعيش في دولة غير مسلمة كأمريكا المقصودين بذلك رغم أنني أحافظ على شعائر ديني وأستطيع الصلاة والصيام وأداء صلاة الجمعة بالمسجد.
جزاكم الله خيرا عنا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا حكم الهجرة إلى بلاد الكفر في فتاوى سابقة، وقلنا فيها إن من لم يستطع القيام بشعائر دينه في بلاد الكفر فسفره إليها حرام، وإلا فمكروه، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 2007.
ثم إنا ننبهك إلى أنه ينبغي أن تنظر في طبيعة عمل الشركة، فإن كان عملها وبرامجها لا تخدم شيئاً محرماً في الشرع فلا حرج في العمل بها، وإن كان يخدم شيئاً محرماً فيحرم العمل بها، لما فيه من العون على المعاصي، وراجع الفتوى رقم: 9832، والفتوى رقم: 3143، والفتوى رقم: 18462.
هذا وقد ذكر أهل العلم أن السفر لبلاد الكفر بقصد الدعوة إلى الله تعالى جائز.
وعليه؛ فإن أمكنك الاتصال بالعاملين للإسلام هناك، والتعاون معهم على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، وتتخذ منهم صحبة صالحة تعينك على الاستقامة على الدين والمحافظة على الأعمال الصالحة، وتحفظ أسرتك من مخاطر الإقامة بدار الكفر، فاحرص على ذلك، وإن علمت أنك لن تستطيع الحفاظ على دينك فبادر بالهجرة إلى بلاد الإسلام، فإن دينك هو أهم ما يجب أن تحافظ عليه.
وراجع الفتوى رقم: 20063.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
نصيحة موجهة للمسلمين في ديار الكفر
تاريخ 29 محرم 1425 / 21-03-2004
السؤال
ما هي نصيحتكم للمسلمين الذين يعشون في بلد الكفر؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الإقامة بين الكفار والعيش بين ديارهم أصل كثير من البلايا، وعلى المسلم المقيم في بلاد الكفار أن يهاجر إلى بلد إسلامي يقيم فيه شعائر دينه ويأمن على نفسه وعياله.
أخرج أبو داود والترمذي من حديث جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. ولا تجوز الإقامة في بلاد الكفر إلا لضرورة، ويمكن أن تراجع حكم العيش في بلاد الكفر وأضراره في الفتوى رقم: 2007.
أما النصيحة التي نوجهها إليهم فهي أن يعودوا إلى بلدهم إذا كانوا يستطيعون ذلك، ولم تكن مصلحة إقامتهم هناك أرجح من مصلحة عودتهم.
ثم إذا لم يكونوا مستطيعين العودة أو لا يرون المصلحة فيها أرجح من المصلحة في عدمها، فعليهم بالتزام شريعتهم ودينهم، فليقيموا الصلاة وليؤدوا سائر الفرائض، وليغضوا من أبصارهم، وليحفظوا فروجهم، ويكفوا أذاهم، وليبتعدوا عن سائر المحرمات، ولا ينجرفوا في تيارات المدنية ومغريات الحياة، وسفور النساء وابتذال الأخلاق، فإنها حبائل الشيطان يصطاد بها أولياءه، والله تعالى مطلع عليهم أينما كانوا، فسيجزيهم بما استحقوا.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
كيف تحفظ نفسك في ديار الكفر
تاريخ 12 محرم 1425 / 04-03-2004
السؤال
ماهي النصيحة التي تعطوني إياها وأنا في بلد الغربة
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(5/222)
فلتعلم أولاً أيها الأخ الكريم أن إقامة المسلم في دار الكفر غير جائزة إلا لضرورة اقتضتها كتحصيل علم نافع لا يوجد في بلاد المسلمين، أو علاج، أو مصلحة تعود بالنفع على الإسلام والمسلمين، أو غير ذلك من الضروريات أو الحاجيات، فإذا كانت إقامتك لهذه الأسباب فاعلم أن الضرورة تقدر بقدرها، فعليك أن تحتاط لدينك وخلقك غاية الحيطة، فإن رأس مالك في هذه الحياة دينك، فإذا ذهب لم يبق لك شيء. فكل ما من شأنه إضعاف دينك وإفساد خلقك، فلا تقربه، وأفضل ما تفعله في ديار الكفر أن تبحث عن رفقة مؤمنة صالحة على مذهب أهل السنة والجماعة فتلزمهم، فإنهم ضمان لك من الانحراف بعد تثبيت الله لك، فمن شأن الرفقة الصالحة أن تذكر الشخص إذا نسي، وتعينه إذا ذكر، وتحفظه وتحوطه، وفي الحديث: فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. رواه أحمد وغيره.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الوسائل المحرمة للإقامة في ديار الكفر يزيد الأمر حرمة
تاريخ 09 محرم 1425 / 01-03-2004
السؤال
نشكركم جزيل الشكر على المجهود الطيب الذي تبذلونه في سبيل تنوير أمتنا، فجزاكم الله كل خير.
نحن مجموعة من الشباب ( نرجو تبيان إن كانت الفتوى للمجموعة تختلف عن الفرد)، جئنا من بلاد المغرب العربي للدراسة في فرنسا بوثائق صحيحة( تأشيرة + شهادة إقامة لمدة عام متجددة).
بالمقابل هناك في إيطاليا- وأحيانا في بلاد أوروبية أخرى - توجد تسوية لوضعية الأجانب الذين هم بدون وثائق، شريطة إحضار شهادة عمل إيطالية( مع العلم أن هذه الأخيرة - شهادة العمل - تشترى إن صح هذا القول من طرف أرباب العمل الإيطاليين).
سؤالنا التالي: ما حكم الله عز وجل في:
1) شراء( إن صح هذا القول) شهادة العمل هذه، وهل تعتبر رشوة، وهل يعتبر هذا الفعل تزويرا؟
2) التصريح (الكاذب) بفقدان جواز السفر لمصالح سفارة بلادنا في إيطاليا، بغية الحصول على جواز سفر جديد، مع العلم أننا فريقان، الأول يريد العمل في أوروبا ثم العودة إلى البلاد الإسلامية، أما الفريق الثاني فيريد العمل والاستقرار في أوروبا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالإقامة في بلاد الكفر لا تجوز أصلاً إلا لضرورة أو حاجة معتبرة أو مصلحة راجحة، فإذا لم يك شيء من هذه الأعذار فلا يجوز للمسلم أن يقيم بين ظهرانيهم، وما يبذله من وسائل في سبيل ذلك ولو كانت مباحة لا تجوز لأن الوسائل لها حكم المقاصد، فكيف إذا كانت الوسائل محرمة أيضاً كالكذب والتزوير والرشوة وغير ذلك مما ذكر في السؤال.
وما تقدم هو في حق الفرد كما هو في حق الجماعة كما هو في حق المقيم لمدة قصيرة أو طويلة أيضاً، وراجع الفتوى رقم: 15738 ، والفتوى رقم: 2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
السفر للغرب للحاجة جائز
تاريخ 09 محرم 1425 / 01-03-2004
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
أرجو منكم أن تجيبوني على هذا السؤال: أنا شاب مسلم من الجزائر سئمت من وضعي الحالي، فأنا قد بلغت
سن الثلاثين ولم أتزوج بعد ورغبت في الهجرة إلى بلاد الغرب للعمل والدراسة، نظرا لما أعانيه من تهميش وضيق في المعيشة، فبما تنصحونني؟ بارك الله فيكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن السفر إلى بلاد الكفر إن كان للإقامة عندهم، فإنه لا يجوز إلا في حالة الضرورة لما يترتب عليه من خوف الفساد في العقيدة وما يقتضيه التعامل معهم بالحرام، والتأثر بأخلاقهم ومعاملاتهم، روى جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين.، وفي رواية: لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم. رواه الترمذي وأبو داود.
وأما السفر إلى بلادهم للحاجة، من غير إقامة فيها، فهذا لا مانع منه، مثل أن يكون لطلب علم لم يتيسر في بلاد المسلمين أو لعلاج، أو للدعوة إلى الله.... مع الالتزام بضوابط الشرع في كل ذلك.
وعليه فلا مانع من أن تسافر إلى بلاد الغرب للعمل والدراسة إذا أمنت على نفسك، ثم تعود إلى وطنك بعد أن تقضي ما أردت، واعلم أن ما ذكرته من تهميش وضيق في المعيشة يعالج بتقوى الله، قال الله تعالى:
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
من الأحوال المبيحة للهجرة إلى ديار الكفر
تاريخ 04 محرم 1425 / 25-02-2004
السؤال
أنا شاب متزوج وأب لطفلتين أعمل مع زوجتي في شركة وطنية قد استكملت كل الإجراءات للهجرة إلى كندا
أريد الهجرة مع زوجتي وأطفالي لتحسين وضعي الاجتماعي ثم التوجه إلى أحد البلدان العربية أو الرجوع إلى بلدي ... أريد معرفة رأي الشرع في هذا
أفيدونا جزاكم الله كل خير
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا حكم الهجرة إلى ديار الكفار لأجل تحسين المعيشة، وذلك في الفتوى رقم: 20063.(5/223)
كما بينا تفصيل حكم الهجرة في الفتوى رقم: 2007.
وخلاصة الأمر أنه لا تجوز الهجرة إلى ديار الكفر من أجل مجرد تحسين المعشية؛ إلا إذا ضاقت السبل المحصلة للضروري من العيش في بلاد المسلمين، أو وجد المرء على نفسه ودينه وأهله خطرا يأمن منه بالهجرة إلى أحد بلاد الكفار عند عدم وجود بلد مسلم يسعه العيش فيه، وإنما منع الشرع من الإقامة في ديار الكفار، لأن المسلم فيها لا يمكنه إظهار شعائر دينه إلا بكل صعوبة، كما أنها بلاد يظن بها وجود الفتن والمحرمات، والمرء لا يأمن فيها على نفسه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
زواجها يستلزم إقامتها في بلد غربي
تاريخ 04 ذو الحجة 1424 / 27-01-2004
السؤال
أعيش حاليا ببلد غربي بحكم دراستي وقد تقدم لي شاب فلسطيني ملتزم ولله الحمد (أنا من بلد عربي آخر) إلا أنه ينوي الاستقرار في هذا البلد حتى يكون قريبا من والديه و حتى يستطيع خدمتهما لكني أرغب في العيش ببلد عربي حتى يتربى الأطفال في مجتمع عربي مسلم علما بأنه تتوفر هنا المدارس الإسلامية والمساجد, فما حكم البقاء في بلد غير إسلامي في هاذه الحالة؟ و بارك الله فيكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الإقامة في بلاد الكفار بغير ضرورة معتبرة لا تجوز، وقد تقدمت لنا فتاوى كثيرة في هذا الموضوع، فراجعي منها الفتاوى تحت الأرقام التالية: 714/2007/25591.
وعليه؛ فإذا كان زواجك من هذا الشخص يستلزم إقامتك في هذا البلد فلا يجوز لك القبول، لأن ذلك يستلزم الوقوع في معصية الله تعالى، واعلمي أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
الهجرة من بلاد الكفر إذا خشي على نفسه الفتنة
تاريخ 21 ذو القعدة 1424 / 14-01-2004
السؤال
. أعيش في الغرب و حائرة كيف أتعامل مع غير المسلمين دون أن أغرس كره الإسلام في قلوبهم (إذا انطويت كلياعلى نفسي) و دون أن أفقد هويتي كمسلمة,
2 .أيضا كيف السبيل للحفاظ على الأبناء في مثل هذه المجتمعات دون أن يشعروا بالغربة في بلاد نشأتهم (أي بلاد الغرب)؟ هل منعهم من مخالطة غير المسلمين هو الحل؟ أم كيف السبيل لتريتهم خاصة إذا كان الوالدان مضطرين للعيش في الغربة لظروف قاهرة؟
أفيدونا مأجورين.
الفتوى
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فمن لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه في بلاد الكفر أو كان يخشى على نفسه الفتنة، فإنه لا يجوز له البقاء في تلك الديار، ويجب عليه أن يهاجر عنها إذا استطاع ذلك، ومن كان يستطيع أن يقيم شعائر دينه ويأمن على نفسه، فإنه يستحب له أن يهاجر عن دارهم.
وأما عن التعامل مع غير المسلمين في دار الكفر، فلا بد من أن يتضح عند كل مسلم أن الولاء والبراء -أي الحب في الله والبغض في الله- هو أوثق مراتب الإيمان، فلا بد من بغض من أبغضهم الله.
قال الله سبحانه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]، ولا يلزم من هذا إساءة الخلق معهم، بل ينبغي أن يتعامل معهم بالحسنى ويدعو إلى الإسلام بالرفق واللين، ولا تجوز مخالطتهم حال معصيتهم إلا لأجل دعوتهم ونهيهم عن المنكر، وبهذا يكون قد جمع المسلم بين إعطاء صورة جيدة عن الإسلام لدى الكفار وبين المحافظة على الهوية والذات، وأما عن الأولاد، فإن الأمر أشد خطورة، ولذا، فلا بد من الحرص عليه وتنشئتهم التنشئة الإسلامية وإدخالهم المدارس الإسلامية، وتهيئة البيئة الصالحة والأصدقاء الصالحين لهم، فإذا لم يمكن ذلك ورأى المرء أن أولاده قد انحرفوا وانصهروا في المجتمع الكافر، فإن الهجرة حينئذ لازمة ولا محالة "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، وراجعي لمزيد فائدة الفتاوى التالية: 2007، 30837، 10875.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
إباحة الإقامة في ديار الكفر مشروطة بالضرورة
تاريخ 21 شوال 1424 / 16-12-2003
السؤال
أنا أسكن في الدانمارك ولي زوجة في العراق وكذلك لي أولاد في الكويت، ولا أستطيع السفر إلى الكويت إلا إذا حصلت على فيزا وسامح الله العرب، وأنا لا أحب العيش في بلاد الكفر، بماذا تنصحوني بالرجوع إلى العراق أم الانتظار، علما بأنهم طلبوا مني إحضار أولادي ورفضت وأبقيتهم في الكويت، أرشدوني؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى(5/224)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإذا كنت تجد بلداً إسلامياً يمكنك أن تقيم فيه وتأمن على نفسك ومالك، فيجب عليك الانتقال إليه وترك الإقامة في ديار الكفر، وسواء في ذلك العراق أو غيره. وإن كنت لا تجد بلداً إسلامياً على نحو ما ذكرنا، فلا حرج عليك في البقاء حيث أنت حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً، وهذا بشرط أن تكون قادراً على إقامة واجبات دينك في هذا البلد الذي أنت فيه، فإن لم يمكنك ذلك فيجب عليك أن تتحول إلى بلدٍ يمكنك أن تقيم دينك فيه ولو كان بلداً آخر من بلاد الكفر، وراجع للأهمية الفتوى رقم: 23168، والفتوى رقم: 18462. ونسأل الله أن يفرج همك وأن يكشف كربك وأن يبلغك حاجتك، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم المشاركة في القرعة للحصول على جنسية دولة كافرة
تاريخ 16 شوال 1424 / 11-12-2003
السؤال
السلام عليكم سؤالي يتعلق بمشروعية المشاركة في القرعة التي تنظمها بعض الدول للحصول على جنسيتها أو على رخصة للإقامة والعمل بها، مع العلم بأن الأمر يتعلق بدولة ذات أغلبية غير مسلمة، فما حكم المشاركة في هذه القرعة التي لا تستدعي سوى إرسال طلب عبر الإنترنت، بنية الرحيل لإتمام للدراسة في هذه البلاد ثم العودة بعد ذلك، إن كنت من الفائزين؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فالسفر والإقامة في بلاد الكفر الأصل فيه المنع إلا إذا دعت حاجة معتبرة شرعاً لذلك، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 18462. ولا شك أن طلب الجنسية مدعاة للإقامة والإدانة لهذه الدولة، والالتزام بقوانين هذه الدولة الكافرة التي تخالف في مجملها أحكام الشرع الحنيف. وعليه؛ فلا يجوز للسائل أو غيره من المسلمين أن يشارك في تلك القرعة، وإن شارك وفاز اسمه فيها، فلا يصح له شرعاً أخذ تلك الجنسية، ولمزيد من الفائدة يراجع الفتوى رقم: 26795. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم إقامة المرأة في غير وطنها بدون محرم
تاريخ 14 رمضان 1424 / 09-11-2003
السؤال
عندي جارة تقول بأنها داعية وهي مقيمة في المملكة المتحدة بدون محرم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فلا شك أن هذه المرأة إن كانت قد سافرت إلى تلك البلاد بلا محرم ولغير ضرورة فقد ارتكبت إثماً، إذ لا يجوز شرعاً للمرأة أن تسافر بغير محرم، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أثناء إقامتها هناك فلا يشترط لها المحرم، وتراجع في هذا الفتوى رقم: 13511. وأما الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا تشترط للقيام بها السلامة من الوقوع في المنكر، إذ لو اشترط ذلك لتعطلت هذه الفريضة. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الهجرة لدار الكفر
تاريخ 11 رمضان 1424 / 06-11-2003
السؤال
زوجي يريد الهجرة إلى كندا وذلك لنيل درجة الماجستير وللحصول على الجنسية، وأنا بفضل الله أرتدي النقاب، وملابسي يغلب عليها اللون الأسود وأخاف على ديني وبناتي والتزامي ونحن بفضل الله ماديا لا نحتاج إلى شيء، فما هو حكم الدين لو طلب مني زوجي خلع التزامي مع بقائي محجبة فقط كأغلب السيدات؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فالهجرة إلى بلاد الكفار لمن قدر على إقامة شعائر دينه مكروهة، ولمن عجز عن ذلك محرمة. وأما كشف الوجه والكفين لخوف ضرر أو حاجة، فسبق في الفتوى رقم: 28087، والفتوى رقم: 39227، وعليه، فإن كان الدافع لأمر زوجك هو خوف الضرر عليك ونحو ذلك، فلا نرى مانعا من طاعته. وأما التجنس بجنسية بلاد كافرة، فسبق بيان حكم ذلك في الفتوى رقم: 1204. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===========
حكم المتاجرة في بلاد الكفار
تاريخ 02 رمضان 1424 / 28-10-2003
السؤال
الإقامة في بلاد الكفر حرام بالإجماع فهل تعتبر النقود التي يتاجر بها من العمل في بلاد الكفر حرام أيضا أم لا وشكرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فالإقامة في بلاد الكفار ليست حراماً بإطلاق، بل في المسألة تفصيل تقدم في الفتوى رقم: 12829 والمال المستفاد من المتاجرة في بلاد الكفار إذا انضبطت بالضوابط الشرعية مال حلال ولو كانت التجارة خلال الإقامة الممنوعة في بلاد الكفار، لأن التجارة أمر منفصل عن ذلك. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
هل تقيم مع أهلها أم تبقى معهم في دار الكفر
تاريخ 26 شعبان 1424 / 23-10-2003
السؤال
عشت في إحدى الدول طيلة حياتي، وأجبرتني الظروف على الانتقال لبلد آخر بشكل مفاجئ، أتمنى العودة إلى مكاني الأول رغم أن هذا ضد رغبة أهلي، وأعاني من هذا الوضع الجديد جدا، هل في محاولتي العودة ما يغضب الله، وكيف لي أن أعرف أين الأنسب لي؟
الفتوى(5/225)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فنحن لا نعرف ظروف الأخت السائلة في البلد الذي تقيم فيه الآن، ولا في البلد الذي ارتحلت منه، وهل هي متزوجة أم لا؟ ولكن نقول إن أفضل بلاد يعيش فيها المسلم هي البلد الذي يكون فيه أطوع لله تعالى، ولهذا منع المسلم من الإقامة في ديار الكفار لهذا السبب، ولنا في ذلك فتوى تراجع تحت الرقم: 30393. وإذا كانت الأخت السائلة متزوجة فإنها تقيم مع زوجها حيث أقام، ما لم تؤد هذه الإقامة إلى ما حرَّم الله عز وجل، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وإذا لم تكن متزوجة فإنها تقيم مع والديها، وتنزل عند رغبتهما وتجتهد في برهما والإحسان إليهما، وبالجملة فإن سكنها مع أهلها وأوليائها خير من سكنها بعيدة عنهم، ما لم تك متزوجة وبالشرط المتقدم، والموضوع يحتاج إلى إيضاح أكثر من طرف السائلة. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتو
=============
إذا أقام بدار كفر لا يستطيع أن يقيم فيها دينه
تاريخ 15 شعبان 1424 / 12-10-2003
السؤال
السلام عليكم. أنا مسلم مهاجر في الصين قد تخرجت في المحاسبة وأرسلت إلى إحدى الدوائر الحكومية في القرى . المسلم إذا عمل في الدوائر والمؤسسات الحكومية منع من الإيمان وإقامة الصلاة إذا فعلها طرد من العمل، أو يضطر إلى الكفر وترك الصلاة. ومع ذلك لا توجد مؤسسة وحركة إسلامية في هذه الأحوال إني اضطررت إلى أن أعمل لأنني خفت أن أقع في الضلالة. ولكن كثيراً من الناس لامني وزعم أنني أخطأت لأنني لم أجد عملاً ليس فيه ضرر في الدين. دلوني كيف أفعل؟ وأعطوني حكم المسلم الذي يعمل في مؤسسات حكومية شيوعية؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز لك البقاء في هذه البلاد، وعليك بالهجرة منها إلى بلدٍ إسلامي تستطيع أن تقيم دينك فيه، وعدم الهجرة في هذه الحالة من أكبر المحرمات إلا أن تكون عاجزاً عن الهجرة، فيرتفع عنك الإثم إلى حين القدرة على الهجرة، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً* إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء: 97-98-99].
قال ابن جرير الطبري: يعني جل ثناؤه بقوله: إن الذين توفاهم الملائكة، إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة، ظالمي أنفسهم، يعني: مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه.
وقد بينا معنى الظلم في ما مضى قبل، قالوا فيم كنتم، يقول: قالت الملائكة لهم: فيم كنتم، في أي شيء كنتم من دينكم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض، يعني: قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: كنا مستضفين في الأرض، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم، فيمنعوننا من الإيمان بالله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، معذرة ضعيفة وحجة واهية، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى الأرض التي يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله، فتوحدوا الله فيها وتعبدوه، وتتبعوا نبيه؟.
يقول الله جل ثناؤه: فأولئك مأواهم جهنم، أي: فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم، الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، مأواهم جهنم، يقول: مصيرهم في الآخرة جهنم، وهي مسكنهم، وساءت مصيراً، يعني: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها، مصيراً ومسكناً ومأوى.
وراجع الفتوى رقم: 20391.
ومتى ما كنت عاجزاً عن الهجرة واضطررت إلى عمل على نحو ما ذكرت، بحيث إنك لا تجد ما تأكل أو ما تشرب أو ما تلبس ونحو ذلك إلا بعمل تجبر فيه على عدم إظهار الإيمان، وإقامة الصلاة، فلك أن تعمل وتخفي إيمانك وتصلي سراً، ولا إثم عليك في هذه الحالة ولو ترتب على ذلك تأخير الصلاة عن وقتها، لأنك مكره، قال الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106]، وراجع الفتوى رقم: 12633.
أما إذا كنت غير مضطر لهذا العمل حيث تجد غيره، أو أنك غير مضطر إليه لأنك تملك مالاً تستطيع أن تتعيش منه، فلا يجوز لك العمل فيه، وقد فصلنا الكلام في حكم عمل المسلم عند الكافر في الفتوى رقم: 33338.
وراجع للأهمية الفتاوى ذات الأرقام التالية: 7049، 17324، 33634.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
هاجر للدراسة فشعر باليأس والفشل
تاريخ 10 شعبان 1424 / 07-10-2003
السؤال(5/226)
أنا شاب أدرس في أمريكا، وعندما كنت في بلادي قبل 5 أعوام كنت جيدا في الدراسة، والآن فقدت الأمل ولم أعد آمل بالنجاح، وأشعر باليأس والفشل، فكيف أفعل؟ لأرجع إلى صوابي؟! انصحوني وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فبداية، ننبه الأخ الكريم إلى أن الإقامة في بلاد الكفر لا تجوز إلا لضرورة ملجئة، أو حاجة تنزل منزلة الضرورة، لما في البقاء في بلاد الكافرين من محاذير كثيرة، ومن أمثلة الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة: تعلم علم ينفع المسلمين، ولا يمكن تعلمه إلا في بلاد الكفر. ومتى ارتفعت الضرورة أو الحاجة وجبت عليه الهجرة إلى بلاد المسلمين. وراجع لمعرفة أدلة ذلك الفتوى رقم: 2007، والفتوى رقم: 20969. أما بالنسبة لما تشعر به من فقدٍ للأمل ويأسٍ و إحباط، فعلاجه يتمثل في تقوية الإيمان بالله، لأن هذه الأمور التي تشكو منها هي أعراض ضعف الإيمان، لأن المسلم يستصحب دوما روح الأمل لاتصاله بربه وثقته بوعده، وما دام يؤمن إيمانا كاملا بأن الله رحمن رحيم لطيف خبير، رؤوف جواد كريم، عفو غفور، تواب، مدبر لكل ما في هذا الكون، فكيف يتسرب إليه اليأس والإحباط؟! وللمزيد حول هذه النقطة، نرجو مراجعة الفتوى رقم: 18771. ولمعرفة وسائل تقوية الإيمان راجع الفتوى رقم: 19370. ثم عليك بتنظيم وقتك بما يمكنك من القيام بواجبات دينك ودنياك، وصحبة الصالحين من أصحاب الهمم العالية الذين يحرصون على النبوغ في مجال تخصصهم لخدمة دينهم وأمتهم. وراجع لزاما الفتوى رقم: 35559، والفتوى رقم: 1492، والفتوى رقم: 20725، والفتوى رقم: 16790، والفتوى رقم: 33707. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم العلاج في بلاد الكفر
تاريخ 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
أين أجد الفتوى الخاصة بتحريم السفر للخارج لغرض العلاج؟ شكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد سبق بيان كلام أهل العلم في مشروعية التداوي في الفتوى رقم: 27266. وإذا كان الدواء مشروعاً ولم يكن ببلدك أطباء متخصصون، أو لم تكن فيه وسائل العلاج الكافية، فإنا لا نعلم فتوى تحرم السفر للخارج بحثاً عن الدواء، ما دام السفر مضبوطاً بالضوابط الشرعية، وكنت قادراً على التكاليف. وعليك أن تتحرى في جهة السفر، فابحث عن الدواء في بلاد المسلمين، لما يخاف من رؤية المناكر في أرض الكفر ومساكنة الكفار، وصرف المال في فنادقهم ومستشفياتهم وشراء بضائعهم، وإن لم تجد أطباء مسلمين ولا بلداً مسلماً تتمكن فيه من العلاج، فلا مانع شرعاً من ذهابك إلى أرض المشركين بحثاً عن العلاج. وعلى المرضى أن يحرصوا على الاستقامة والاتصال بالله دائماً، لا سيما في تلك البلاد، حتى لا يموتوا على سوء الخاتمة، وراجع في حكم السفر لبلاد الكفر لغير ضرورة الفتوى رقم: 2007. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الدراسة في بلاد الكفار
تاريخ 08 جمادي الثانية 1424 / 07-08-2003
السؤال
أريد الدراسة في فرنسا تخصص الطب أو الإعلام الآلي، لأن المستوى عال في فرنسا، أفضل من الجزائر. أولا أريد إتقان اللغة الفرنسية في الجامعة الفرنسية، ثم الدراسة في برنامج'دبلوم الدخول إلى الدراسات الجامعية العلمية' وهذا الدبلوم يعادل البكالوريا الفرنسية، ثم دراسة الطب أو الإعلام الآلي، لأن في الجزائر يطلبون معدل 12.5/20 للقبول في مجال الطب، وأنا أخشى أن أكرر البكالوريا في بلادي ولم أتحصل على المعدل 12.5/20 وبالتالي فكرت في دخول جامعة فرنسية لأخذ دبلوم الدخول للدراسات الجامعية السؤال الأول: ما حكم ذلك؟ السؤال الثاني: ما حكم العمل بالدبلوم الذي أتحصل عليه من الجامعة الفرنسية؟ 'هل المال الذي أكتسبه حلال أم حرام؟ اسمحوا لي على طرح سؤالين'. أرجو الإجابة مع فائق الاحترام والسلام عليكم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإننا ننصحك بالدراسة في بلاد المسلمين وعدم الإقدام على ما ذكرت لما للدراسة في بلاد الكفر من مفاسد على الدين والأخلاق، والتي لا يسلم منها الشباب في الغالب، وإذا كانت دراستك في تلك البلاد تشتمل على حرام كاختلاط محرم أو غير ذلك من المحرمات، فإن الدراسة فيها ستكون حرامًا قطعًا. وراجع التفاصيل في الفتاوى التالية أرقامها: 1620، 19009، 31862، 28551. أما عن الراتب الذي تتقاضاه من العمل الذي توظفت فيه بناء على هذه الشهادة فإنه حلال، ما لم يكن نفس العمل يشتمل على الحرام أو كنت قد تحصلت على الشهادة بغش أو تزوير. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الهجرة أحيانا تكون واجبة
تاريخ 21 جمادي الأولى 1424 / 21-07-2003
السؤال
زوجي يريد أن نهاجر في سبيل الله، وأنا أمتنع عن ذلك، أريد لأبنائي الاستقرار، وخصوصا أنه يعيل خمسة أطفال، فبم تنصحونني؟ هل لي الحق في ذلك؟
الفتوى(5/227)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإذا كنت تقصدين بالهجرة في سبيل الله مفارقة بلاد تنتشر فيها الفواحش وتخشون من الوقوع فيها أنتم أو أولادكم، فإن الهجرة واجبة عليكم. وراجعي للأهمية الفتوى رقم: 530 والفتوى رقم: 714. وإذا كنت تقصدين غير ذلك فبينيه لنا حتى تتسنى لنا الإجابة عليه. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم الدراسة في بلاد الكفر
تاريخ 13 جمادي الأولى 1424 / 13-07-2003
السؤال
السلام عليكم، أنا على وشك التخرج من كلية الطب، الحقيقة أن رواتب الأطباء حديثي التخرج في بلدي ضئيلة جدا (ما يوازي 25دولارا) وهو ما لا يتناسب ومتطلبات الحياة العادية أو حتى القيام بدراسات عليا للتخصص في مجال معين، وقد عرض علي أحد أقاربي أن ألحق به في الولايات المتحدة حيث يمكنني الحصول على التعليم المتميز والراتب الملائم، ونيتي أن أسافر لبضع سنوات أعود بعدها -بإذن الله- لأفيد المسلمين بعلمي ومالي. سؤالي: هل في ذلك مخالفة لما يسمى بالولاء والبراء؟ وهل أأثم على ما سيؤخذ مني من ضرائب قد توجّه لضرب إخواني المسلمين؟ أرجو الإفادة.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإذا كنت تأمن على نفسك من الفتن وتستطيع أن تقيم شعائر الدين في بلاد الكفار ولا يمكنك الحصول على العلم الذي تريده في بلاد المسلمين فلا حرج عليك -إن شاء الله- في الذهاب للدراسة في أمريكا أو غيرها من بلاد الكفر، وإذا قضيت غرضك رجعت إلى بلاد المسلمين لنفعهم. وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه. ولمزيد من الفائدة تراجع الفتوى رقم: 20969. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
لا يحكم على المسلم بالكفر بإقامته بدار الكفر.
تاريخ 07 جمادي الأولى 1424 / 07-07-2003
السؤال
ماهي دار الكفر و ماهوحكم الذين يعيشون في هذه الدار، هل هم مسلمون أم كفار أم مشركون، أرجو الإجابة بالتفصيل.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن دار الكفر هي الدار التي تجري فيها أحكام الكفر، ولا يكون العز والمنعة فيها للمسلمين، وقد سبق بيان ذلك مدعمًا بأقوال أهل العلم في الفتوى رقم: 7517. وقد يعيش في هذه الدار المسلم أو الكافر، إذ لا يلزم من مجرد الإقامة في دار الكفر كفر من فعل ذلك إن كان في الأصل مسلمًا، لكن قد يحكم عليه بوجوب الهجرة من دار الكفر أو استحبابها حسبما تقتضيها حاله من حيث تمكنه من إقامة شعائر دينه أو عدم تمكنه من ذلك على تفصيل قد سبق أن بيناه في الفتوى رقم: 12829. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الإقامة في بلاد الكفر للحصول على الجنسية
تاريخ 14 ربيع الثاني 1424 / 15-06-2003
السؤال
السلام عليكم، أنا شاب حديث الزواج أعيش في كندا وزوجتي تعمل بالبلاد الأصل، وأدرس في الوقت الراهن حيث أنهي دراستي في العام القادم إن شاء الله، لكن أمامي عرض أخذ الجنسية الكندية إذا ما بقيت عاما آخر هنا، هل أعود إلى زوجتي أم أصبر لأخذ الجنسية من أجل الحصانة في بلادي؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنه لا تجوز لمسلم الإقامة في بلاد الكفر، لما قد يترتب على ذلك من الفتن في دينه، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. رواه أبوداود والترمذي وعلى هذا، فلا تجوز للسائل الإقامة في هذه البلاد الكافرة بعد انتهاء دراسته.
أما بخصوص حكم الجنسية، فقد سبقت لنا فيه فتوى برقم 26795، .
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
متى تباح الدراسة في بلاد الكفر
تاريخ 09 ربيع الأول 1424 / 11-05-2003
السؤال
أريد السفر إلى فرنسا للدراسة فقيل لي يجب عليك حلق اللحية للحصول على التأشيرة علما بأنني سأعفيها بعد الذهاب للدراسة، ما حكم الشرع؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن الدراسة التي تحاول السفر من أجلها إلى بلاد الكفر إن كانت ممكنة في بلاد المسلمين فلا يجوز السفر من أجلها إلى بلاد الكافرين؛ لما يترتب عليه من المخاطر على دينك، لأن الهجرة إلى بلاد الكفر لا تباح إلا في حالة الضرورة الملحة كعلاج أو دراسة تخصص لا يوجد في بلاد المسلمين. ويمكنك الرجوع إلى الفتوى رقم: 2007، أما حكم حلق اللحية بغية الحصول على غرض شرعي أو الخوف من ضرر، فالجواب مفصل في الفتوى رقم: 3198. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
أصدقاؤه يدعونه إلى الحرام وهو يعيش في بلاد الكفار كيف يفعل؟
تاريخ 24 صفر 1424 / 27-04-2003
السؤال(5/228)
عمري 25 سنة أدرس الطب في انجلترا وأسكن في مكان لا يوجد فيه عرب ولا مسلمون ومشكلتي أن جميع الناس هنا غير مسلمين فأنا أريد أصدقاء وأريد الخروج والاختلاط بهم وهم يشربون الخمر ويصادقون النساء ولكنهم يحترموني ومع ذلك كيف استطيع أن أصون نفسي عندما أرى أصدقائي وهم يشربون الخمر ويعاشرون النساء وأعرف أنه محرم وابتعد عنه ولكن أنا إنسان ولي غريزة مثل الآخرين إلى متى استطيع كبح نفسي وليس هناك حل إلا أن أمكث في غرفتي وأغلق عليّ بابي كيف وإلى متى يمكن هذا؟ لأنه كان لي أصدقاء كثر في بلدي وكنت أتصادق معهم وأخرج معهم فلا يمكن أن أمكث وحيداً أعرف أن الله يثيب على الصبر وعلى الابتعاد عن المحرمات ولكن كيف أستطيع كبح نفسي؟ وقد صمت ولكن لم ينفع ذلك وأجد نفسي كأني غير عادي تصور كيف يستطيع الشاب أن يصبر خاصة إذا كانت البنات تتعرض له وتطلبه فما هو الحل لي ولمثلي من الشباب؟ ولا أستطيع الزواج في الوقت الحالي لعدم قدرتي المادية.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقبل الإجابة على سؤالك راجع الفتوى رقم: 2007 لمعرفة حكم الإقامة في بلاد الكفار.
والذي ننصحك به هو أن تترك الإقامة في بلاد الكفار، وتتحول للدراسة في بلد مسلم، فإن كان ذلك ليس بمقدورك فانتقل إلى مدينة أخرى يكثر فيها المسلمون الصالحون حتى تجالسهم وترتبط بهم، فإن كان ذلك ليس بمقدورك فتزوج وابق مع زوجتك، فإن قلت ليس لدي تكاليف الزواج فنقول استدن لأجل ذلك، فإن كان ذلك ليس بمقدورك فأغلق عليك بيتك، ولا تخالط هؤلاء الفجرة ، واعلم أن الشيطان له خطوات فهو لا يأمرك بالكفر ابتداءً لكنه يأمرك أولاً بالمكروهات، ثم بالمشتبهات، ثم بالصغائر، ثم بالكبائر، ثم بالكفر والعياذ بالله، فإياك إياك أن تسول لك نفسك شيئاً من ذلك فتخسر دينك ودنياك وأخراك.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
عدم موافقة الزوجة للخروج من بلد الكفر لا تعتبر
تاريخ 14 صفر 1424 / 17-04-2003
السؤال
السلام عليكم. أعيش أنا وزوجتي وأولادي في أمريكا وأريد أن أذهب بهم إلى اليمن ليعيشوا هناك عدة سنوات خوفا عليهم من الانحراف ولكن أستطيع أن أكون نفسي علما أن زوجتي غير موافقة. ويوجد لي أهل في اليمن كالوالد والوالدة . وتتراوح أعمار الأولاد ما بين 4سنوات إلى4 أشهر.افتوني جزاكم الله خيراً
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالذي ننصحك به هو أن ترجع أنت وأهلك جميعاً إلى بلدكم وتتركوا العيش في بلاد الكفار، وذلك لما ذكرت من المفاسد المترتبة على بقائكم في بلاد الكفر، وراجع الفتويين التاليتين:
8614 2007 لمعرفة حكم الإقامة في بلاد الكفار.
وعدم موافقة زوجتك غير مؤثر في ذلك، فحاول أن تقنعها بالتي هي أحسن وأن تطلعها على الفتوى رقم: 7930 والفتوى رقم: 10875
كما يجب عليك ألا تقصر في حقوقهم إذا اضُطررت إلى أن تبقى أنت وحدك وترجعهم إلى بلدك، وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
المحافظة على الدين أولى وأهم من أي شيء آخر
تاريخ 28 محرم 1424 / 01-04-2003
السؤال
أخي لا يصلي ولديه صديقات لا أدري مدى علاقته بهن لكن سلامه معهم مثل الأجانب وأختي مراهقة وترى كل ذلك نحن نعيش في أوروبا وأخي عمره 26 سنة وهو يعمل وقد نصحته بالزواج ولكنه رفض مع أنه يستطيع الزواج وهو يعيش مع أمي وأختي وليس لديه أي نخوة فهو لا يساعدهم في شيء إلا بعد إلحاح أما أبي فيعيش في بلد آخر وليس له تأثير في حياتنا أخي يؤثر بالسلب على أختي لأنه يفعل ما يريد ويعيش معهم ولكنها ممنوعة من كل شيء لذلك أقترحت طرده من البيت خاصة أنه يقضي وقته كله خارج البيت وأحيانا يبيت خارجه وأخاف أن تتأثر أختي به أمي طردته مرة ولكن رق قلبها ورجع ورجعت أفعاله وأختي سلوكها تغير وارتبطت بواحد وبالصدفة عرفنا وقطعت علاقتها به ولم نخبر أمي لأنها سوف تنهار هل نطرده أم ماذا نفعل؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا كنتم تسألون حقاً عماذا تفعلون ليسلم لكم دينكم الذي هو رأس مالكم، والمصدر الواجب لسعادتكم في دنياكم وفي آخرتكم، إذا كنتم تسألون عن ذلك حقاً وصدقاً، فعليكم أن تفروا من تلك البلاد التي ينتشر فيها الفساد بكل أشكاله وأصنافه بأيسر الطرق وأسهلها، ولا يستطيع فيها الصالحون المصلحون أن يأخذوا على أيدي سفهائهم الفاسدين المفسدين، لأن الفساد في تلك البلاد مشرع محمي من طرف السلطة العليا بدعوى الحريات الشخصية، كما هو معروف لديكم حتماً.
فلا يجوز للمسلم أن يقيم في بلد ينتشر فيه الفساد، ويغلب فيه سلطانه بحيث لا يستطيع المسلم فيه أن يحافظ على دينه، ويقيم شعائره، ويحمل كل من له عليهم ولاية على ذلك امتثالاً لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6].(5/229)
ولذلك قرر العلماء أنه لا يجوز للمسلم أن يقيم في ديار الكفار إلا لضرورة أو حاجة ماسة، وقد ثبت في سنن الترمذي وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تراءى نارهما".
فعليكم أن تفروا بدينكم من تلك البلاد الموبوءة إلى بلاد تستطيعون فيها المحاظة على دينكم، وتجدون من يعينكم على الخير.
واعلموا أن المحافظة على الدين أولى وأهم من أي شيء آخر بما في ذلك الوظائف، ورغد العيش، والاعتبارات المادية برمتها.
ولله در الشاعر حيث يقول:
إذا أبقيت الدنيا على المرء دينه فما فاته منها فليس بطائل
هذا هو الحل الذي نراه.
أما طرد ذلك الولد من البيت، فليس حلاً جذرياً لتلك المشكلة، وإن طردتموه فلن يحصن ذلك البنت المراهقة التي ذكرتم أن سلوكها بدأ يتغير، وذلك لأن مصدر الفساد ليس أخاها فقط، بل المجتمع كله، والبيئة جمعاء.
ولكن إذا كنتم حقيقة عاجزين عن مغادرة تلك البلاد والفرار بدينكم منها، فاطردوا ذلك الولد بعد أن تبذلوا له غاية النصح والتوجيه ولا ينفعه شيء من ذلك، وليس هذا من باب أن ذلك حلاً لمشكلتكم، بل من باب أن لا تكونوا مأوى له وعوناً على إثمه وعدوانه، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2].
ثم عسى أن يردعه ذلك عن بعض غيه وفساده، فيرجع إلى رشده ويتوب إلى ربه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم عدم الدفع للمواصلات في بلاد الكفر
تاريخ 23 محرم 1424 / 27-03-2003
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.... بوركتم على المجهود العظيم.... إخواننا أريد أن أستفتي مشايخنا في قضية وهي:
أنني طالب أدرس بدولة أوربية وتوجد مواصلات أنشأتها الحكومة داخلية بين المدينة واستخدم المواصلات للتنقل... ولكن المشكلة أنه كل ساعة ندفع ما يعادل دولاراً ونصف دولار لاستخدامنا هذه الوسيلة وهي غالية نسبيا بسبب وضعي كطالب يدرس وعلى نفقتي. أما الحكومة أوالمسؤلون فلا يدققون في من يدفع أو لا يدفع... لكن قانونيا يجب الدفع ومن هذه المواصلات المترو والباصات والترام.
فسؤالي: لو كنت أستخدم هذه المواصلات يوماً أدفع وآخر لا... هل يوجد إثم على ذلك...؟ أي هل يجب ان أدفع لأنها أمانة؟
أفتوني جزاكم الله خيراًً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
فالحق الذي يلزمك بركوب هذه الوسيلة من وسائل المواصلات يجب عليك دفعه، ولا يسقط عنك لقلة ما في يدك، لأنك بسكنك في هذه البلاد، وأخذك تأشيرة الإقامة منهم قد أمنتهم على أموالهم وأنفسهم فلا يحل لك أن تخونهم.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
تستطيع القيام بكثير من أمور الدين
تاريخ 23 ذو الحجة 1423 / 25-02-2003
السؤال
هل تستطيع المرأة عدم التّديّن عندما تكون خائفة على نفسها من السّجن أو الطرد من الشّغل فهنا في بلادنا يمنعون التّديّن رغم أنّه بلد عربيّ مسلم ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فيجب على المسلم إن كان في بلد عجز فيه عن إظهار شعائر الدين الهجرة إلى بلد يتمكن فيه من عبادة ربه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:97]، وقال تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56].
وقد سبق الكلام عن أحكام الهجرة في الفتوى رقم:
12829.
وتعبير الأخ السائل بلفظ "عدم التدين" غير صحيح؛ لأن كثيراً من أمور الدين يمكن القيام بها دون علم أحد كالصيام والصلاة والذكر، وعلى ذلك فقس.
وقد سبقت لنا فتاوى عن حكم كشف المرأة لوجهها عند الضرورة أو قول كلمة الكفر عند الإكراه الملجئ، وذلك تحت الأرقام التالية:
12489، 12498، 12633.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
أحوال الهجرة من بلاد الكفر
تاريخ 23 ذو الحجة 1424 / 15-02-2004
السؤال
أدرس في دولة من دول الاتحاد السوفييتي السابق تسمى (أرمينيا) وأنا الآن في السنة الدراسية الثالثة
من الدراسة التي مدتها خمس سنوات وأنا هنا أعاني من مشاكل وهي عدم وجود مسجد لإقامة صلاة الجماعة
هذا يعني أني لا أصلي الصلاة جماعة مع الكفر والفجور والإباحية والخلاعة الموجودة في هذا البلد وأردت أن أعلم الفتوى في بقائي هنا وإكمال مدة دراستي ( سنتان ونصف) هذا وقد طلبت إفتائي في هذا الأمر من قبل وقد أفتيتم بترك هذا البلد والاستدلال بقوله تعالى(( ومن يتق الله يجعل له مخرجا)) وقد حاولت ترك هذا البلد والذهاب إلى بلد آخر فلقيت المجابهة والمعارضة من كل مكان من أسرتي وأصدقائي ومن كل مكان(5/230)
وبما أنني أدرس في اللغة الإنجليزية هذا يعني أنني لا أستطيع الذهاب إلا إلى دولة تدرس في اللغة الإنجليزية ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد نصحناك في الفتوى المشار إليها والتي هي برقم: 15462، بأن تترك الدراسة في بلاد الكفر وتتحول إلى بلاد الإسلام؛ لأنك ذكرت أن ذلك ممكن إلا أنه سيؤخرك سنة، ولأن ذلك هو الأفضل والأسلم لك في دينك وعرضك.
وقد أحلناك في الفتوى المشار إليها على فتاوى فيها تفصيل الأحكام المتعلقة بالعيش في بلاد الكفار والهجرة منها، وخلاصة ما في تلك الفتاوى أن الناس في الهجرة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من لا يستطيع الهجرة لمرض وعجز ونحو ذلك فهؤلاء لا تجب عليهم الهجرة.
والثاني: من يستطيع الهجرة إلا أنه يستطيع أن يقيم شعائر دينه ويأمن على نفسه الفتنة فهذا تستحب له الهجرة ولا تجب عليه.
والثالث: من يستطيع الهجرة ولا يستطيع أن يقيم شعائر الدين أو لا يأمن على نفسه الفتنة فهذا تجب عليه الهجرة.
وأنت أخبر بحالك وحال البلد التي أنت فيها، أما عن معارضة أهلك فراجع الفتوى رقم:
20969.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
ضوابط علاقة المسلم بالكفار في ديارهم
تاريخ 30 ذو القعدة 1423 / 02-02-2003
السؤال
ماهي ضوابط علاقة المسلم بالكفار الذي يعيش المسلم في بلادهم؟ جزاكم الله خيراً....
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالأصل أن الإقامة في ديار الكفار غير جائزة إلا إذا دعت إلى ذلك مصلحة، كتعلم علم يتعذر الحصول عليه في بلاد المسلمين مع حاجة المسلمين إليه أو الدعوة إلى الله ونحو ذلك، وقد مضى بيان ذلك في الفتوى رقم: 20969 - والفتوى رقم: 2007.
فإذا أقام المرء في بلادهم مؤقتاً لقضاء حاجته المشروعة التي ذهب من أجلها، وجب عليه أن يلتزم الآداب العامة والقوانين التي سنتها تلك البلاد ما لم يوقعه ذلك في كفر أو حرام، ومن جملة الحقوق التي تتعلق للكفار:
1- عدم الاعتداء على أموالهم أو أعراضهم.
2- دعوتهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
3- التزام الصدق، واجتناب الغش والتدليس.
4- الإحسان إليهم والرفق بهم رجاء أن يهتدوا للإسلام، فالمسلم يدعو بسلوكه وتعامله أكثر مما يدعو بكلامه ووعظه.
وقد سبق بيان كثير من هذه الأمور مع أدلتها في الفتاوى التالية: 20632 -
9896 -
21363.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم اللجوء لبلاد الكفر لتحصيل لقمة العيش
تاريخ 03 شوال 1423 / 08-12-2002
السؤال
ما حكم الشرع فيمن يهاجر من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفر في الدول الأوروبيه طلبا للعيش الكريم حيث تقدم تلك الدول للمهاجرين الراتب الشهري والتعليم والصحه لهم. فعلى سبيل المثال فأنا أب لأربعة أطفال وكنت أعمل في أبوظبي وقد أنهيت خدماتي قبل ثلاث سنوات واضطررت للعودة إلى فلسطين ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث عن عمل ودون جدوى وأخيراً فإنني أفكر بالهجرة إلى دولة أوروبية لإيجاد لقمة العيش لأولادي علما بأن الدولة العربية يوجد فيها فرص للعمل ولكن وللأسف الشديد ليست للمسلمين وأنما للسيخ والهندوس والكفار. وأنا متردد خوفا على أولادي من الضياع في تلك الدول الكافرة , فأين الدول الإسلامية؟ وجزاكم الله خيراً...
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن لم يتيسر لك عمل ببلدك، وضاقت بك السبل، وتمكنت من العمل ببلاد أوروبا، وأمنت على نفسك وأهلك وولدك الفتن، وقدرت على إقامة شعائر الإسلام، فلا بأس في إقامتك بتلك البلاد على أن يكون بنية العودة متى ما يتيسر لك الأمر ببلد مسلم، وإن لم تأمن الفتنة في دينك فلا يجوز لك الإقامة ببلاد الكفر.
وانظر الفتاوى التالية:
12829 -
8614 -
20063.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
حكم إقامة الفتاة في سكن جامعي في دولة كافرة
تاريخ 28 رمضان 1423 / 03-12-2002
السؤال
السلام عليكم
سبق وأن سألتكم عن حكم إقامة الفتاة في سكن الجامعة بعيدا عن أهلها على أن يرافقها في السفر محرم.. وأجبتم أنه يجوز لو كان القائمون على السكن ثقة والآن أسألكم هل ينطبق نفس الكلام لو كانت الدولة التي تدرس فيها الفتاة وتقيم في سكن جامعتها.. دولة كافرة؟ أم أن تلك الفتوى تخص البلدان الإسلامية فقط؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الأصل أن تكون الدولة الكافرة غير مأمونة في هذا الأمر، وعلى المسلمة إذا جاز لها المقام في أرض الكفار لتوفر الشروط اللازمة لذلك فيها وأرادت السكن في السكن الجامعي أن تحتاط لنفسها، وتتأكد بالفعل هل هذا السكن آمن ويصلح لها أم لا؟ وإلا فلا ينبغي لها أن تسكن في سكن تتعرض فيه للفتن ومخاطر الفساد في الدين والأخلاق، فأهم ما يملكه المسلم هو دينه وأخلاقه. ولحكم الإقامة في بلاد الكفار والمحاذير المترتبة عليه تراجع الفتوى رقم:
23173 - والفتوى رقم:
2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============(5/231)
هجرة الإنسان من مكان المعصية إلى مكان الطاعة واجبة
تاريخ 18 رمضان 1423 / 23-11-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أنا في بلد الزنى فيه يكاد أن يكون مباحاً وبأرخص الأثمان وكم أجاهد النفس وأتمسك بالسنة والصلاه وخاصة الفجر ... فكيف نتقي الفتن وهي حتى في البيوت والشوارع إلخ تلحقنا .. إني أحبكم في الله والسلام عليكم .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فأحبك الله الذي أحببتنا فيه، ونسأل الله لنا ولك الثبات على دينه، واعلم أن العيش في بلاد تشيع فيها الفاحشة وينتشر فيها الفساد، ويشق على المرء فيها الالتزام بأوامر الله، واجتناب حرماته لا يجوز، ويجب عليه الهجرة من تلك البلاد إن أمكنه ذلك إلى بلد يستطيع فيه الاستقامة على شرع الله وإلزام نفسه بطاعته تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: فأحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلماً وتارة كافراً وتارة مؤمناً وتارة منافقاً وتارة براً تقياً وتارة فاسقاً وتارة فاجراً شقياً، وهكذا المساكن بحسب سكانها. فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة. انتهى
فاعلم أن فساد المجتمع لا يسوغ الوقوع في المعصية فيلزمك الاستقامة على شرع الله والابتعاد عن معاصيه والاحتراز عن فساد المجتمع.
ومما يعينك على ذلك المحافظة على الفرائض والإكثار من النوافل لاسيما الصوم فإنه وجاء.
واشغل وقتك بما يعود عليك بالنفع في دنياك، وعليك أن تبادر إلى الزواج إن كنت غير متزوج، واختر ذات الدين لتكون عوناً لك على الطاعة.
واختر لك صحبة صالحة ترافقهم وتقضي معهم أوقات فراغك يدلونك على الخير ويعينونك عليه، ويبعدونك عن الشر ويحذرونك منه، وإياك وصحبة الفساق ومجالستهم فهي من أكبر وسائل الإغواء والإضلال، وابتعد عن كل مواطن الفتنة، وأسباب الإثارة، والجأ إلى الله سبحانه بالدعاء أن يعصمك من كل معصية وفتنة.
إذا لم تستطع الزواج وغلبك وخشيت على نفسك الوقوع في الزنا بحيث لم يصبح أمامك إلا أن تزني أو تستمني، فافعل الاستمناء لدفع فاحشة الزنا بارتكاب أخف الضررين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما إنزاله باختياره بأن يستمني بيده فهذا حرام عند أكثر العلماء، وهو إحدى روايتين عن أحمد بل أظهرها، وفي رواية إنه مكروه.
لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف على نفسه الزنى إن لم يستمن أو يخاف المرض، فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، وقد رخص في هذه الحالة طوائف من السلف والخلف، ونهى عنه آخرون.
فتاوى شيخ الإسلام61/1
وإذ استشعرت دائماً مراقبة الله هان عليك تجنب المعاصي. نسأل الله لنا ولك السلامة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
شروط جواز الهجرة لديار الكفر
تاريخ 29 شعبان 1423 / 05-11-2002
السؤال
ما حكم العمل في بلاد الكفار خصوصا إن كان السائل من الدول الإسلامية التي تحارب الالتزام بشرع الله وتعذب الملتزمين
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالأصل هو عدم جواز الهجرة إلى بلاد الكفر والإقامة فيها كما بينا في الفتوى رقم 2007 لكن من لم يأمن على نفسه أو دينه أو أهله في بلده، ولم يجد بلداً مسلماً يأوي إليه أو تعذر عليه ذلك، فلا حرج عليه في الهجرة إلى بلاد الكفر إذا كان سيأمن فيها على نفسه ودينه، وعليه أن يسعى جاهداً في الحفاظ على دينه، وأن يقلل من الاختلاط بالناس، ومن التواجد في أماكن الفتن خصوصاً فتن النساء.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
الاستدلال بحديث (أنا بريء من...) في محله
تاريخ 01 شعبان 1423 / 08-10-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حديث أبي داود المذكور في الفتوى 5045 ليس بهذا اللفظ كما أظن، وإنما ( أنا بريء من دم إمرئ مسلم أقام بين المشركين). يرجىالتأكد من اللفظ وسبب الحديث رجاء"، لأن الحديث ورد في دية المسلم المقتول في الحرب وهو بين أظهر المشركين، وجزاكم الله خيراً.....
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الحديث المسؤول عنه ورد بنفس الصيغة التي وردت في الفتوى رقم:
5045.
وقد أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، ولفظه كاملاً عن جرير بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منه بالسجود فأسرع فيهم القتل، قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قال: يا رسول الله لم؟ قال: لا تراءى ناراهما. وهو أيضاً في سنن الترمذي.
وأما سبب الحديث، فهو كما ذكرت إلا أن الحكم عام، وذلك للقاعدة الأصولية، وهي العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعلى هذا فإن الاستدلال بالحديث على منع المقام في البلاد الكفرية هو استدلال في محله.
وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى، وجزاك الله أحسن الجزاء على حرصك على معرفة الحق، وإرشاد الناس إليه.(5/232)
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
موقف الشرع من العمل في بلاد الكفر
تاريخ 26 رجب 1423 / 03-10-2002
السؤال
أبلغ من العمر 33 عاما0أعمل في أمريكا وعملي حلال والحمد لله أي بعيد عن الخمر وبيعها والربا والملاهي الليلية0أقيم الصلاة في مواعيدها بقدر ما أستطيع0
ولكن هذا المجتمع ليس إلا فسقة وفجرة ولكني مضطر إلى التعامل معهم بما فيه من إباحية واختلاط0
سؤالي:
ما حكم الشرع في إقامتي في أمريكا بنية العمل فقط لجمع المال لكي أعود إلى وطني وأتزوج بمن خطبت منذ عام؟؟؟
مع العلم بأني أموت كل يوم من الضيق والمرار الذي أعانيه000
فهل إذا مت فعلا على أرض الكفر هذه سيقبل الله مني توبتي؟مع العلم بأني قد تبت منذ زمن بعيد عن كل الكبائر التي فعلتها؟؟؟
والله أعلم بأني مضطر للعمل هناك لعدم إتاحة فرصة العمل في موطني وبأنه بمجرد إنهاء الغرض الذي أنا هنا له فسأعود في الحال0
وجزاكم الله خيرا0
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فنشكر السائل الكريم على اهتمامه بدينه، ونقول له بأن الأصل هو جواز التعامل مع الكفار، وقد رخص العلماء في السفر إلى بلادهم لحاجة مهمة أو ضرورة ملجئة أو لمهمة دعوية.
وأما ما عدا ذلك من الإقامة معهم لغير ضرورة أو حاجة ملحة فإنه لا يجوز، وذلك لما يترتب عليه من مؤالفتهم ومشاهدة منكراتهم..
والتعامل معهم بالمعاملات التي يفرضونها على المسلم وهي تتنافى مع دينه، وربما يؤدي ذلك بضعاف النفوس إلى مجاراتهم والرضا بمنكراتهم والعياذ بالله.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين". رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله.
وبإمكان المسلم أن يطلب الرزق في أي مكان يأمن فيه على دينه ونفسه. قال تعالى: ( ومَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب ) (الطلاق:2، 3)
ولتعلم أخي الكريم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبة تجب ما قبلها سواء مات التائب في بلاد الإسلام أو في بلاد الكفر، وإن كان الأفضل له أن يترك بلد المعاصي.
والحاصل أنك إذا كنت مضطراً للعمل في تلك البلاد فإنه يجوز لك العمل فيها بقدر الضرورة، فإذا زالت الضرورة وجب عليك أن تغادرها إلى بلاد المسلمين.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
السفر لبلاد الكفر بين المصلحة والمفسدة
تاريخ 12 رجب 1423 / 19-09-2002
السؤال
هل يجوز الصلاة في الصف المقطوع بالعمود؟
هل يجوز السفر إلى بلاد الكفر؟
هل يجوز التهجين الاصطناعي؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد كره العلماء الصلاة بين الأساطين لورود النهي عن ذلك، ولانقطاع الصف.... ولتفاصيل ذلك وأدلته نحيلك إلى الفتوى رقم:
15177
وأما عن السفر إلى بلاد الكفر.. فإن كان للإقامة عندهم فهذا لا يجوز إلا في حالة الضرورة القصوى، لما يترتب عليه من خوف الفساد في العقيدة، وما يقضيه التعامل معهم بالحرام، والتأثر بأخلاقهم ومعاملاتهم، وبالتالي محبتهم وموالاتهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. وفي رواية: لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم، فهو مثلهم. رواه الترمذي وأبو داود عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
وأما السفر إلى بلادهم للحاجة من غير إقامة فيها، فهذا لا مانع منه، مثل أن يكون للتجارة أو لطلب علم لا يوجد في بلاد المسلمين، وعلاج، أو للدعوة إلى الله...... فهذا لا مانع منه إذا ضبط بالضوابط الشرعية.
ولمزيد من الفائدة والأدلة يرجى الاطلاع على الفتوى رقم:2007
وأما عن التهجين الاصطناعي فنحيلك إلى الفتوى رقم: 4260
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
العذر القاهر يرفع إثم الإقامة في بلاد الكفار
تاريخ 17 جمادي الثانية 1423 / 26-08-2002
السؤال
أنا مسلم من بلد عربي أقيم في بلاد غير إسلامية وشئت أم أبيت سيتأثر أولادي بثقافة تلك البلاد بنسبة أو بأخرى والسؤال هل أنا آثم في هذه الإقامة علماً أني مطارد في بلدي لأجل ديني وأكثر من بلد عربي لم تقبل إقامتي لنفس السبب السابق ؟ أفيدونا ولكم جزيل الشكر........
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الأصل هو عدم جواز الإقامة في بلاد الكفر، إلا أن بعض أهل العلم المعاصرين قد أفتوا بجواز الإقامة في بلاد الكفر في مثل هذه الظروف التي يمر بها كثير من المسلمين ممن يخشون الفتنة في دينهم إذا رجعوا إلى بلادهم.
وننصح الأخ السائل بأن يتقي الله ما استطاع، وليسدد ويقارب في تربية أولاده على قيم الإسلام، وليكثر من سؤال الله تعالى التوفيق.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
البديل المأمون بلاد المسلمين
تاريخ 10 جمادي الثانية 1423 / 19-08-2002
السؤال
السلام عليكم.... أما بعد:(5/233)
سيدي الفاضل أبدأ كلامي بعنوان لإحدى الخطب الشباب أمل وألم أنا شاب اكتب إليكم للسؤال عن حكم الإسلام في الهجرة من بلادالإسلام إلى بلاد الغرب، سيدي الكريم لقد منع الحجاب وأحل التبرج، لقد منعت السنة وأحلت البدعة، لقد ضاقت بنا الدنيا بما رحبت، جزاكم الله عنا كل خير والسلام عليكم ورحمة الله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز للمسلم السفر إلى بلاد الكفر، والإقامة بين أظهرهم إلا إذا وجدت حاجة بالغة تدعو إلى ذلك، كعلاج مرض تعذر علاجه في بلاد المسلمين، أو دراسة علم لا يوجد في بلاد المسلمين، ونحو هذا، وذلك لما يترتب على الإقامة المذكورة من مخاطر عظيمة ذكرت في فتوى سابقة برقم:
2007.
وعلى هذا فما ذكره السائل لا يعد مسوغاً كافياً للهجرة إلى بلاد الكفر لأن الذي هرب منه في بلده سيجد ما هو أشد منه، وأعظم في البلاد التي يريد أن يهاجر إليها.
وعليه.. فنصيحتنا للأخ أنه إذا لم يستطيع أداء شعائر دينه في بلده فليهاجر إلى بلد إسلامي آخر.
ثم إذا لم يجد سبيلاً إلى ذلك وأصبح مضايقا في بلده، فعليه أن يزن الأمور بدقة، فإن وجد أن بلاد الكفر سيجد فيها حرية لممارسة شعائر دينه لا يجدها في بلده، فلا مانع من الهجرة حينئذ، وإن كنا نشك في وجود مثل هذا في هذه الأيام.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
رغبة الأب في دراسة ابنه في ديار الكفر...نظرة شرعية
تاريخ 03 جمادي الثانية 1423 / 12-08-2002
السؤال
السلام عليكم.
شيخي الجليل.أحبك والله في الله.وأسأله تعالى لك الأجر والمثوبة على ما تقدمة للمسلمين. وأسال ذلك أيضا لإخواننا القائمين على هذا العمل.
سؤالي هو: أدرس في بلاد كفر،أريد الرجوع إلى بلاد المسلمين لكن والدي هداه الله يريد لي الاستمرار في الدراسة في تلك البلاد لأن العلم فيها خير مما هو عليه في موطني.ما حكم الشريعة في هذه المسألة؟
وأرجو من شيخي العزيز حفظه الله وأبقاه أن لا ينساني من دعائه. جزاكم الله خيراً. والسلام
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن طاعة الوالدين من أوجب الواجبات، قال تعالى:وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23].
ولكن هذه الطاعة مقيدة بالمعروف، فقد روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف. واللفظ لمسلم.
ولا شك أن الأصل في الإقامة في بلاد الكفر هو أنها لا تجوز، ولا يستثنى من ذلك إلا ما دعت إليه الضرورة أو الحاجة الشديدة كالقيام بالدعوة، أو طلب العلاج، أو طلب علم يحتاجه المسلمون ولا يوجد إلا في تلك البلاد، ونحو ذلك.
ثم إنه ينبغي التفريق بين بلاد الكفر: فما كان منها تنتشر فيه المنكرات انتشاراً بحيث يخشى المقيم فيه على نفسه من الوقوع فيما حرم الله فلا شك أنه لا يجوز الإقامة فيه بحال، لأن الدين رأس مال المرء فمن خسره فقد خسر كل شيء. أما ما كان خالياً من انتشار المنكرات انتشاراً يخشى معه المرء من الوقوع فيها فهو الذي تمكن الإقامة فيه للأسباب المتقدمة.
وإنما كان الأصل هو منع الإقامة في بلاد الكفر لأن ضرر الإقامة فيها أعظم من النفع المتوقع، فقد روى الترمذي بإسناد صحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قال الألباني صحيح.
فإذا تقرر هذا وكنت تخشى على نفسك الوقوع فيما ينتشر هنالك من منكرات فلا يجوز لك طاعة والدك في هذا الأمر، ويجب عليك الرجوع إلى بلدك، وإن كنت تأمن على نفسك ودينك من الوقوع في شيء من ذلك، وكان ما تدرسه مما يحتاجه المسلمون، وليس موجوداً في بلدك بوضع مساوٍ لما تجده هناك، فالذي ننصحك به هو إكمال دراستك مع المحافظة الشديدة على الدين، والاتصال بإخوانك العاملين في المراكز الإسلامية فهم عون لك على الالتزام، نسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والسداد والثبات والرشاد.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===========
حكم العمل في بلاد الغرب
تاريخ 25 جمادي الأولى 1423 / 04-08-2002
السؤال
هل يجوز العمل في الدول الغربية وأمريكا لعدم توافر فرصة جيدة في بلدي مع أنني ملتزم وهذه الوظيفة ليس فيها ما حرمه الله؟ وجزاكم الله خير الجزاء
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالإقامة في دار الكفر والإباحية لا تخلو من أضرار ومفاسد في الدين والخلق، وهذا ظاهر في أكثر أبناء المسلمين الذين يقيمون بين ظهراني المشركين، فقد تقطعت صلتهم بدينهم وفسدت أخلاقهم وسلوكياتهم، وانحلت عرى أسرهم وتشعبت بهم السبل، ونقل لنا من أخبارهم وحكاياتهم ما يحزن القلب ويندى له الجبين، ونحن نقول للأخ السائل: إن السلامة لا يعدلها شيء.(5/234)
وإن دين المرء وخلقه أبقى له من متاع رخيص أو دنيا زائلة، وإنه من يتق الله يجعل له من أمره يسراً، ويرزقه من حيث لا يحتسب. ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فليتق المرء ربه، وليجمل في طلب رزقه الذي ضمن له.
واعلم أن كل طريق أدت إلى فساد الدين وذهاب الخلق فحرام على المسلم أن يسلكها، فما أدى إلى الحرام فهو حرام.
وللوقوف على الحكم الشرعي في الإقامة في مثل تلك البلاد، انظر الفتوى رقم:
2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
حكم العمل في ديار الكفر
تاريخ 23 جمادي الأولى 1423 / 02-08-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- ما حكم من يعمل في بلد الكفر؟
وشكرا لكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فيحرم البقاء والإقامة في بلاد الكفر لمجرد العمل لمن لا يستطيع أن يقيم شعائر الدين ، ويخشى على نفسه الفتنة، لما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين".
ولا تجوز الهجرة إلى بلاد الكفر إلا تحت الضرورة الملحة أو لغرض الدعوة، وبشرط أن يغلب على ظن المهاجر أنه سيسلم من الوقوع في ما لا يرضي الله، وانظر الفتوى رقم: 2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
هل ترخص الهجرة لديار الكفر لتحسين المعيشة
تاريخ 15 جمادي الأولى 1423 / 25-07-2002
السؤال
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
أنا شاب مسلم من الجزائر مداوم على استقبال فتاوى الشيخ الدكتور عبد الله الفقيه حفظه الله.
يا شيخ لقد استعسرت لدينا الأمور في بلدنا نظراً لما نعيشه من فتن نتيجة البعد عن دين الله سبحانه وتعالى فالسكن غير موجود والمعيشة صعبة نتيجة الظروف الاجتماعية السيئة نريد الزواج لنتحصن ونريد اتساعا في الرزق يساعدنا على ذلك ولكن هذا مفقود عندنا السؤال:
هل يجوز لي الهجرة إلى أوروبا للعمل هناك لفترة حتى أتمكن من تكوين نفسي ثم أعود إلى بلدي أو أستقر في بلد مسلم أعيش فيه كريما أم أن الضرورة التي أتكلم عنها لا تصل إلى درجة التفكير في الهجرة إلى بلاد الكفر؟
وجزاكم الله عنا كل خير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن السفر إلى بلاد الكفر فيه خطرٌ عظيمٌ على الدين والأخلاق، لما في تلك البلاد من ما يدعونه من الحريّة، وعدم إنكار المنكر، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تَرَاءَى ناراهما" رواه أبو داود والترمذي.
أما إذا كان المهاجر عنده علمٌ وبصيرةٌ، وكان ذهابُه إلى هناك للدعوة إلى الله، وبيان محاسن الإسلام، فيجوز لهذا وأمثاله الهجرة إلى هناك بهذا المقصد الشرعي بشرط أن يأمن على نفسه الوقوع فيما حرم الله، وهذا أمر عسير جداً بالنسبة للشاب غير المتزوج، فأبواب الفتنة هنالك مفتحة على مصاريعها، ومن خسر دينه فقد خسر كل شيء، والصبر على بعض منغصات الحياة أهون من الصبر على نار جهنم، ومصاعب الدنيا وملذاتها كل ذلك إلى زوال، والعاقل يركز تفكيره على وضع يجعل إذا خرج من هذه الحياة خرج وربه عنه راض، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
نوعية الضرورة تحدد جواز الحلف لأخذ الجنسية من عدمه
تاريخ 28 ربيع الثاني 1423 / 09-07-2002
السؤال
لأخذ الجنسية تحتاج أن تصرح أنك لا تؤمن في أكثر من زوجة، فهل يجوز لي أن أفعل ذلك لأخذ الجنسية،
بالاختصار: هل يجوز لي أخذ الجنسية بموافقة جميع ما يكون في الأوراق ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز لك الإقامة في ديار الكفار ولا أخذ جنسيتهم إلا لضرورة أو حاجة، خصوصاً إذا ترتب على أخذها تصريح منك بعدم الإيمان ببعض الشرائع كتعدد الزوجات أو الولاء للكافرين ونحو ذلك ولمزيد الفائدة تراجع الفتوى رقم: 3732.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
البديل الأفضل عن قضاء شهر العسل في البلاد الأوربية موجود
تاريخ 23 ربيع الثاني 1423 / 04-07-2002
السؤال
أنا شاب سأتزوج إن شاء الله ونريد أن نقضي أنا وزوجتي بعض الوقت في السفر للخارج هل السفر للبلاد الأجنبية في حكم الدين محلل أم علينا وزر؟ البلاد الأوروبية مثل: أسبانيا، تركيا، بالطبع غير أميريكا
مع العلم أننا والحمد لله ملتزمان وأننا إن شاء الله في استغناء عن أي نوع من أنواع المعاصي التي ترتكب في الأفراح وإن شاء الله سنكتفي بوليمة عائلية فقط للإشهار عن الزفاف.
الرجاء إفادتي بالرد في أسرع فرصة جزاك الله عنا كل خير إن شاء الله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(5/235)
فنقول للأخ الكريم إن الله تعالى جعل في بلاد الإسلام مندوحة عن بلاد الكفر لمن أراد السفر والترفيه، أو قضاء ما يسمى بشهر العسل، وأيضاً يختار من بلاد المسلمين أفضلها وأكثرها محافظة على الدين وقوانين الشرع.
فالسفر إلى بلاد الكفر والبلدان التي تسمح بالمحرمات والفواحش خطر عظيم على المسلم وأهله، والله تعالى أمرنا بالبعد عن مواطن الإثم ومساكن الظالمين، فقال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) [الإسراء:32].
وفي سبيل المنع من الزنا حرّم ما يؤدي إليه من: اختلاط، وتبرج، وخلوة، وخضوع في القول، ونظر، وكل ذلك مما نهى الله عز وجل عنه ورسوله لا يسلم منه من سافر إلى بلاد الإباحية والفساد.
فصيانة للدين والعرض لا يجوز السفر إلى مثل هذه البلدان إلا لحاجة لا بد منها، على أن يكون عند الشخص من الدين والعلم ما يحجزه عن تلك المفاسد المشار إليها.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
كيف يحتاط المسلم لدينه في بلاد الكفر
تاريخ 18 ربيع الثاني 1423 / 29-06-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيراً أما بعد:
ما حكم الشرع في طالب جامعي يدرس في أوروبا يسكن في حي جامعي مختلط بصفة مؤقته ولكنه
لا يختلط معهم ويتحرى في أكله الحلال يأكل(الفواكه - الأرز- السمك والخضروات) علما أن هذه المأكولات تحضر في مطاعم كافرة ومن طرف كفار فهل عليّ من حرج؟ وما يجب عليّ فعله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فليعلم الأخ أن إقامة المسلم في دار الكفر لا تجوز، إلا لضرورة اقتضتها كتحصيل علم نافع لا يوجد في بلاد المسلمين أو علاج أو مصلحة تعود بالنفع على الإسلام والمسلمين، أو غير ذلك من الحاجات المعتبرة في الشرع.
ومن المعلوم أن الضرورات تقدر بقدرها، فيجب على كل مسلم يقيم في بلاد الكفار أن يحتاط لدينه وخلقه، فلا يسكن في مكان يختلط فيه الرجال والنساء، لأن في سكنه في مثل هذه الأمكنة خطر عظيم على دينه وخلقه، وكذلك لا يجوز الاختلاط بالرجال منهم إلا لحاجة وبقدرها، وعليه أن يبحث عن سكن فيه مسلمون يسكن معهم، ويتعاون معهم على طاعة الله، ويشد بعضهم أزر بعضٍ.
وفي الحديث الصحيح: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى نارهما".
قال العلماء معناه: لا يحل للمسلم أن يساكن المشركين ويقيم بينهم حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم بحيث يراهم، وهذا فيه حث للمسلم على التباعد عنهم.
أما طعام أهل الكتاب وذبائحهم فلا حرج على المسلم أن يأكل منها إذا كانت حلالاً في نفسها أو جَهِل حالها، لأن ذبائح وطعام الكتابيين حلال لنا، لقول الله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [المائدة:5].
وإذا جَهل المسلم شيئاً من طعامهم أحلال هو أم حرام؟ فالأصل الجواز حتى يدل دليل على المنع.
وهذا في غير ما يحتاج إلى ذكاة، فإما ما يحتاج إلى الذكاة فلا يجوز له أن يأكله إذا كان غالب أهل البلد أنهم لا يذكون، وراجع الفتوى رقم: 1813.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
قد توجد حالات تجعل السكن في بلاد الكفر أفضل
تاريخ 04 ذو الحجة 1424 / 27-01-2004
السؤال
أيهما أفضل أن تقيم أسرة مسلمة في بلد كفر (كندا) مع استطاعتها الالتزام بالتعاليم الدينية والتزام أبنائها بها أم العودة بهم إلى بلدهم الإسلامي مع صعوبة التزامهم الديني وذلك لقوانين هذا البلد التي تنظر إلى الإسلام على أنه إرهاب ولا توفر مدارس إسلامية كما هو الحال هنا حيث أن بناتي في مدرسة إسلامية الآن وملتحقات بحلقة تحفيظ قرآن وملتزمات والحمد لله بتعاليم دينهم الإسلامي؟
وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا شك أن إقامة المسلم في البلاد الإسلامية وبين إخوانه المسلمين أولى وأحسن من عيشه في بلاد الكفار وبين أظهر الكافرين، إلا أنه قد توجد حالات لبعض الأشخاص تكون حياته وسكنه في بلاد الكفار أفضل له من عيشه في بلاد المسلمين لظروف وملابسات، كما هي حالة الأسرة المسؤول عنها حسب ما ظهر في السؤال.
وعليه، فلا حرج على هذه الأسرة أن تقيم في كندا مادامت الحالة كما ذكرت في السؤال.
ولمزيد الفائدة تراجع الفتوى رقم: 2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
الهجرة على ثلاثة أضرب
تاريخ 10 ربيع الأول 1423 / 22-05-2002
السؤال
إذا كنا نعيش في بلد للمنافقين فهل يجب علينا تركه أم نستطيع العيش معهم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن النفاق مذموم كله، وهو قسمان :
نفاق أصغر غير مخرج من الملة، وهو التخلق بأخلاق المنافقين من الكذب ونقض العهد وخلف الوعد والخيانة و.....
ونفاق أكبر مخرج من الملة، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام. ولا ندري أيهما أراد السائل.
وعلى العموم فإن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:(5/236)
أحدها: من تجب عليه الهجرة، وهو من لا يستطيع إظهار شعائر الدين وهو قادر على الهجرة.
والثاني: من لا هجرة عليه، وهو من عجز عنها لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف كالنساء والولدان ونحوهم.
والثالث : من تستحب له الهجرة، وهو من يقدر عليها ويستطيع إظهار شعائر الدين.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الجهل بالفروض الواجبة في ديار المسلمين ليس عذرا
تاريخ 21 صفر 1423 / 04-05-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله
الحمد لله الذي هداني بعد أن أصبح عمري 19 عاما. فأنا طوال السنين التي فاتت لم أكن أصلي. لم أحافظ إلا على الصيام. ولكن قد علمت حديثا أن الاستمناء في نهار رمضان مفطر. لقد بدر مني ذلك مرارا. ولكن لا أعرف عدد الأيام التي بدر مني الاستمناء فيها أو في كم رمضان. هل يجب علي القضاء, وإن وجب فأنا أجهل عدد الأيام. هل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) يشمل حالتي حيث أني كنت أجهل حكم الاستمناء.
الفتوى
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فعذر المسلم بجهل حكم ما، يختلف باختلاف البلاغ وعدمه، وباختلاف المسألة نفسها وضوحاً وخفاءً.
ومن كان يقيم في ديار المسلمين والتي يوجد فيها العلماء والفقهاء فيلزمه تعلم الفروض الواجبة عليه، ومنها أحكام الصوم ومفطراته، ومن فرط في ذلك فلا يعذر بجلهه في ذلك.
والاستمناء مفطر للصائم عند عامة العلماء، ولذا لا تعذر بجهل هذا الحكم، ويلزمك ما هو مبين في الجواب رقم 5259 والجواب رقم 10509
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
الإقامة في بلاد الكفر لأجل الدعوة جهاد
تاريخ 10 صفر 1423 / 23-04-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا شاب مسلم ومتزوج مسلمة من نفس بلادي ولنا ثلاثة أطفال أكبرهم ثلاث سنوات ونصف وإني مقيم في بلاد كفر؟ ولكن نحن متمسكون بديننا والحمد لله أكثر من بلادنا؟ ونحن نرجع إلى بلادنا كل سنة حوالي شهرين أو أكثر,وإني أملك مصدر رزق في بلاد الكفر يجلب لي المال الوفير مما يسهل لي عيشي وأعطي لأهلي وأتصدق منه وأذهب كل سنة إلى العمرة أنا وزوجتي. مع العلم أنا وزوجتي متفقان على أن لا نبقى في بلاد الكفر كثيرا وإنا إن شاء الله سنرجع إلى وطننا. أرجو منكم أن تفيدوني ما حكم إقامتي في بلاد الكفر التي أقيم فيها لأجل مسمى.
وجزاكم الله أحسن الجزاء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفتوى
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ....
أما بعد :
فالإقامة المؤقته أو الدائمة في بلاد يظهر فيها الشرك أو الكفر لغرض من أغراض الدنيا غير جائزة إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك أو صاحبت تلك النية مصلحة شرعية راجحة، كمن يذهب من أهل العلم والبصيرة إلى تلك البلاد للدعوة وتعليم الناس فتعرض له نية التجارة أو التكسب، فإذا رأيت من نفسك القدرة على الدعوة إلى الله تعالى وتعليم الناس ونشر الإسلام فلا حرج عليك في الإقامة في تلك البلاد إن أمنت على نفسك الوقوع في المحرمات، بل إن إقامتك هناك حينئذ نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى .
وأما إن رأيت من نفسك العجز عن ذلك فالسلامة لا يعدلها شيء، وراجع ما كتبناه حول الموضوع في الجواب رقم :
2007
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
التوصل لمحرمٍ بوسيلة محرمة أعظم إثما
تاريخ 14 صفر 1423 / 27-04-2002
السؤال
الإخوة الأفاضل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أمر بسيط لكن الرجاء موافاتنا برأيكم فيه ولكم الشكر الجزيل
عندنا في مدينتنا مدينة في فرنسا شخص مسلم من بلد أفريقي طلب اللجوء السياسي وليس عنده أي مشكلة مع بلده أو حكومته ولكنه افتعل ذلك للبقاء في هذا البلد فقد كذب على السلطات هنا ماذا يفعل للكفارة عن كذبه؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنه لا يجوز لمسلم أن يقيم في بلاد الكفار أو يهاجر إليها إلا لضرورة، كأن يخشى على نفسه القتل أو السجن، ولم يجد بلاداً يلجأ إليها غير بلاد الكفار، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال:"لا ترايا ناراهما" . رواه الترمذي وهو صحيح. وفي رواية: "لا تراءى ناراهما" > رواه أبو داود .
وهذا يدل على أن الأصل هو حرمة الإقامة بين الكفار أو بالقرب منهم، ولأن في الإقامة عندهم من المفاسد ما لا يُحصى، كالتعرض للفتن، وضياع الأبناء، والوقوع في المحرمات دون ضرورة تدعو إلى ذلك.
وقد أجاز العلماء السفر إلى بلادهم لأجل الدعوة إلى الله، أو تعلٌّم العلوم الضرورية التي يحتاج إليها المسلمون مما لا يوجد إلا في بلاد الكفار، بشرط أمن الفتنة، والعودة مباشرة عند انتهاء الحاجة.
وبناءً على ذلك، فإن مجرد هجرة الأخ المذكورة من بلده إلى بلد كافر لا يجوز، فكيف إذا انضم إلى ذلك الاحتيال والكذب؟.(5/237)
لا شك أن ذنبه أعظم، لأنه توصل إلى محرم بوسيلة محرمة، ونحن ننصح الأخ الكريم بالعودة إلى بلده، والرضى بما قسم الله له، حفاظاً على دينه، ورعاية لمصالح ذريته.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
شروط جواز إعانة مريد الهجرة إلى بلاد الكفر
تاريخ 14 صفر 1423 / 27-04-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله
ما حكم الشرع في إنسان يقيم في أوربا وله أصحاب في البلاد الإسلامية يريدون منه أن يساعدهم على الهجرة إلى أوربا علما أن إقامة هذا الإنسان في أوربا مؤقتة؟
والسلام عليكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ....
أما بعد :
فلا تجوز الهجرة إلى بلاد الكفار بقصد الإقامة فيها إلا إذا دعت ضرورة لذلك، وكذلك لا يجوز الذهاب إليها للسياحة والتنزه، وذلك لما في هذه البلاد من المنكرات الشائعة، والفتنة التي لا ينجو منها إلا من رحمه الله تعالى، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " رواه أبو داود .
أما إذا كان السفر إليها لأجل الدعوة إلى الله، وتعليم الناس دين الله، فلا بأس لما في ذلك من المصلحة الراجحة، ويشترط لهذا أن يكون المرء آمنا على نفسه من الوقوع في تلك الفتن، وهو صعب المنال.
ومن خلال ما تقدم يتبين أنه لا يجوز لك إعانة أحد على هذه الهجرة، لأنه من التعاون على الإثم والعدوان الذي نهى عنه محكم القرآن، كما في قوله تعالى : ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: من الآية2)، إلا إذا كان هذا الذي ستساعده يريد الذهاب للدعوة، بشرط ألا ينوي الإقامة الدائمة، بل ينوي أن يرجع إذا أحس أنه سيتضرر أو أن مهمته قد انقضت، أو يكون ممن هم مضطرون اضطرارا حقيقياً إلى الذهاب إلى تلك البلاد ممن يخشون على أنفسهم القتل أو السجن إن هم بقوا في البلاد الإسلامية، وراجع الفتاوى رقم :
2007 ورقم: 714
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
دخول دار الكفر بأمان لا يبيح أموالهم وغدرهم
تاريخ 22 ذو القعدة 1422 / 05-02-2002
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
نحن نعيش في دولة كافرة لأسباب سياسية ونحاول بقدر الإمكان أن نعمل للهجرة فما حكم التزوير بالأوراق الرسمية للحصول على مرتب من الدولة لا نستطيع الحصول عليه إلا به؟
علماً أنه ليس في ذلك ضرر على المسلمين ولا حتى على أحد وإن أهل البلد يفعلون ذلك أيضاً، وهو شيء قد يكون عاديا وأنا أرى أن منعي من هذه المساعدة ظلم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الفقهاء يقررون أن من دخل دار الكفر بأمان، فلا يحل له غدرهم بشيء من أموالهم وأنفسهم، هذا إن كانوا حربيين، فإن كانوا غير ذلك فمن باب أولى.
وعليه، فنقول للأخ السائل: طالما أنك دخلت هذا البلد بأمان، فلا يحل لك أن تأخذ من أموالهم ما يعتبرونه خيانة وغدراً، وعليك أن تسعى جاهداً للخروج من بلاد الكفر، وطلب الرزق في بلاد المسلمين.
فإن اضطررت إلى البقاء فاستعن بالله، واطلب الرزق الحلال، ولا يحملنك كفر القوم على أن تأخذ ما لا يحل لك، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم" رواه مسلم.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
من يدرس ويقيم في أماكن مختلطة كيف يحفظ صيامه؟
تاريخ 24 رمضان 1421 / 21-12-2000
السؤال
أنا طالب وأدرس في دولة كافرة والدراسة خليط بين الرجال والنساء وبعض المدرسين نساء والمشكلة التي أعاني منها أنه أحيانا يجب مناقشة المدرسة أو أحد طالبات الصف وأحيانا يدخل نوع من المرح في المناقشة وأحيانا يصافحونني وأنا أخشى أن يكون نصيبي من رمضان والحالة هذه الجوع والعطش علما أن البائع فتاة ومنظف السكن فتاة فما حكم الصوم هل هو مقبول إن شاء الله ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حال أقوام في صومهم بقوله: "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" رواه أحمد والحاكم، ذلك أن مقصود الصوم هو تحصيل التقوى، كما قال تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 183].
فإذا لم يحصل من الصوم مقصوده، وهو التقوى فلم يبق للصائم إلا الجوع والعطش، فاحذر أخي الكريم أن تكون من هؤلاء الأقوام، الذين ضيعوا غاية صومهم بفعل ما يغضب الله جلا وعلا.(5/238)
هذا من حيث الثواب والأجر، وتحصيل الغاية التي من أجلها شرع الصوم، وهي التقوى. أما من حيث صحة الصوم: بمعنى هل يجزئ أم لا؟ فالراجح أنه يجزئ مع وجود المعاصي، التي ذكرت، مالم يصاحب ذلك نزول المني، فإذا نزل المني فقد فسد صومك ولزمك القضاء والتوبة، وإذا شرعت لك الإقامة في بلد الكفر لضرورةٍ، أو لحاجة المسلمين لتخصصك، فاحذر ـ أخي ـ من فتن تلك البلاد، واحرص على دينك أشد الحرص، ولتكن مناقشتك للأستاذة أو لغيرها في حدود الحاجة دون توسع، وغض بصرك قدر الإمكان. فإن ذلك كله إنما يؤذن فيه للحاجة ولما يقتضيه ظرف الدراسة والتعلم. واعلم بأن جواز بقائك في هذه البلاد مقيد ـ بالإضافة إلى الشرطين السابقين ـ بما إذا لم تخش الوقوع في المحرمات، كالوقوع في فاحشة الزنا، فإن خشيته وجب عليك أن تغادر تلك البلاد لأن حفظ الدين مقدم . والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
تجوز الإقامة في بلاد الكفار إذا كانت لغرض الدعوة
تاريخ 17 جمادي الأولى 1422 / 07-08-2001
السؤال
عمري 20 سنة خطبني من أهلي رجل إماراتي لا يعرف العربية ويعيش في لندن. أرادني لديني ويريد من تكون معه تشاركه حياته وتعينه على دينه وهو رجل محافظ يريد تعلم العربية ويريد حياة دينية ....... هل يجوز لي أن أوافق على مكوثي في بلد الكفار. أنا أرغب بشدة أن أكون داعية هناك وأن أعلمه العربية..؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الإقامة في بلاد الكفر ضررها دائماً أكبر من نفعها وذلك لما فيها من مجاورة الكافرين، وكثرة مشاهدة المنكرات، وعدم استطاعة تغييرها. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بقوله: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" رواه أبو داود.
غير أنه في بعض الحالات قد يلجأ إليها لتحصيل مصلحة، كالدواء مثلا، أو الدعوة إلى الله، أو نحو ذلك، فإذا كان زواجك من هذا الرجل يُعينه على التمسك بدينه، وأنت على ثقة من دينك ولا تخشين على نفسك من الانحلال والهزيمة أمام تيار الفساد، ولديك من العلم الشرعي والقدرة على التوجيه والإقناع ما يرشحك لإفادة الأخوات المسلمات هناك فلا مانع من زواجك منه، إذا كان مستقيماً، راغباً في الخير، معينا عليه.
وإن كان الزواج فيما نرى من مقيم في بلاد المسلمين أولى وأسلم للدين، حتى وإن كانت هناك بعض المصالح التي أشرت إليها في سؤالك، لأن المرأة الداعية يمكن أن تمارس هذه الوظيفة الشريفة في أي مكان، ولعل بلادك بحاجة ماسة إلى جهودك الدعوية، بصورة لا تقل عن حاجة البلاد الأخرى إليها.
والله تعالى أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
حكم الارتحال عن بلد مسلم
تاريخ 17 جمادي الأولى 1422 / 07-08-2001
السؤال
هل تجوز الهجرة لإنسان ضاق به العيش فى مجتمع يشوبه الجهل والتخلف والتعسف؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا كان هذا المجتمع الذي ذكرت مجتمعاً مسلماً في الأصل، فلا ينبغي لهذا الإنسان أن يهاجر عنه إذا كان باستطاعته أن يدعو إلى الله تعالى، ويعلم شرعه، ويبصر الناس فيه، ويعلمهم ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم، لأن ذلك من النصح لعامة المسلمين.
وفي صحيح مسلم وغيره عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" أما إذا كان هذا الإنسان لا يستطيع نفعهم وخاف على دينه أو نفسه أو عرضه فعليه أن يهاجر عنهم إلى بلد يأمن فيه على دينه ونفسه وعرضه.
وإن كان الباعث لهذا الإنسان على الهجرة من بلده، هو طلب الرزق وسعة العيش، فلا حرج في ذلك بشرط أن لا يكون في تركه للبلد الذي هو فيه تضييع لبعض الحقوق والواجبات عليه، وأن لا يكون البلد الذي سينتقل إليه فيه خطر عليه في دينه، أو نفسه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الهجرة للإقامة والعمل في البلاد الأجنبية
تاريخ 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
هل يجوز التقدم بطلب هجرة للإقامة والعمل في البلاد الأجنبية مثل كندا وأستراليا..وهل يتعارض ذلك مع حديث(إني برىء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)؟ أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فلا تجوز الهجرة إلى بلاد الكفر إلا تحت ضرورة ملحة أو لغرض دعوي واضح ممن هو أهل للدعوة إلى الله، بشرط أن يغلب على ظنه أنه سيسلم من الوقوع في المنكرات المنتشرة في بلادهم انتشاراً مذهلاً ، وذلك للحديث الذي أشرت إليه، وهو حديث ثابت رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه ، ولمزيد من التفصيل يراجع الجواب :
2007
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
لا تجوز الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد غير المسلمين إلا في حال الضرورة
تاريخ 18 ذو القعدة 1421 / 12-02-2001
السؤال(5/239)
ما حكم الشرع في الهجرة إلى الدول الأجنبية مع العلم أنني متزوج ولي ثلاثة أطفال أعمارهم مابين ال12 و 3 سنوات. وأنا أعمل مهندس بترول وأحيا حياة مادية مستقرة لكن هناك الكثير من المنغصات التي تدفعني إلى التفكير في الهجرة ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا تجوز الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد غير المسلمين لمن لا يستطيع أن يقيم شعائر الدين ، ولا يأمن على نفسه الوقوع في الفتنة ، وذلك لما يترتب على السكنى بين ظهراني الكافرين من محاذير جسيمة ومخاطر عظيمة . منها أنه سيجعل على نفسه سبيلاً للكافرين، والله تعالى يقول: ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) [النساء : 141 ] . ومنها أنه بمساكنته لهم واختلاطه معهم قد يتأثر في عقيدته فيواليهم محبة وإعجاباً بهم ، لما يرى مما عندهم من زهرة الحياة الدنيا وزينتها مما لا يزن عند الله جناح بعوضة . ومنها أنه قد يخف عنده الشعور بالكراهية لما هم عليه من كفر بالله تعالى ومنكرات وانحلال فالنفس تألف ما اعتادته ، وفي هذا من الخطر ما لا يخفى ولن يبقى مع المرء أدنى مقومات الإيمان ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن . ومنها أنه لا يأمن أن يصاب هؤلاء بعذاب من عند الله تعالى وهو بين أظهرهم فيصيبه ما أصابهم . ومنها أنه يعرض ذريته للفساد وأنت عليم أن الطفل في كثير من بلاد الكفار لا سيطرة لأبيه عليه ، ولعلك إذا تأملت هذه المخاطر العظيمة فهمت قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" خرجه أصحاب السنن . لذلك عليك أن تحمد الله تعالى على ما منّ عليك به من نعمة الإيمان وكفى بها نعمة ، وعلى ما من عليك به من استقرار مادي، وتصرف ذلك فيما يرضى الله تعالى وتحافظ على تربية أطفالك تربية صالحة على وفق شرع الله تعالى ، فإن أعظم ما ينبغي أن يحرص عليه الأباء هو صلاح أبنائهم ليكونوا لهم قرة عين في حياتهم ، ومادة لزيادة حسناتهم بعد مماتهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" والحديث في صحيح مسلم . واعلم أنه من الغفلة عن حقائق الأمور بمكان - أن يظن أحد أنه سيعيش في الدنيا بدون منغصات. وأسعد الناس حالاً فيها من آمن بالله تعالى وصدق رسوله واهتدى بشرعه وكان آمناً معافىً عنده قوت يومه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا " أخرجه الترمذي وابن ماجه . ومن أراد أن يتهنأ بما آتاه الله من نعمة فليتمثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: " انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فذلك أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" ، كما في المسند والسنن.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
لا يجوز السفر إلى بلاد الكفر لقصد التنزه
تاريخ 14 ذو القعدة 1421 / 08-02-2001
السؤال
أنا عربي أعيش في بلد عربي مسلم. فما حكم السفر إلى أوروبا بقصد التنزه؟ وشكرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد:
فإن السفر إلى بلاد الكفار لقصد التنزه وقضاء العطل من المنكرات العظيمة التي تفشّت عند كثير من المسلمين، حتى اصبحت من جملة العوائد، وأصبح من ينكر على الناس مثل هذا الأمر مثاراً للعجب والسخرية، وربما اتهم في أحايين كثيرة أنه إنسان معقد، أو أنه غير منطقي، أو غير واقعي. بل وربما استدل بعضهم بالآيات التي فيها بيان عدم عداوة المشركين ما داموا لم يقاتلونا … مع أن الفرق واضح لكل ذي عقل. فالذي يفتى به أن السفر إلى بلاد الكفار لقصد التنزه وقضاء أوقات الفراغ، أو ما يسمى عند عامة الناس بالسياحة أو الثقافة لا يجوز شرعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تراءى ناراهما" (أي المسلم والكافر) رواه أبو داود والترمذي عن جرير رضي الله عنه وهو صحيح. فننصحك بعدم الذهاب لتلك البلاد للغرض المذكور في سؤالك لما فيه من مخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى ما قد يتعرض له الشخص هناك من فتن. لكن لو قصد زيارة المسلمين ودعوتهم، أو كانت له حاجة من تجارة، أو علم، فلا حرج مع توخي الحذر.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم السفر لبلاد الكفر لأجل الزواج
تاريخ 03 ذو القعدة 1422 / 17-01-2002
السؤال
1-السلام علكيم ورحمة الله وبعد، تعرفت على فتاة مسملة تقيم في بلد غير مسلم وأود الزواج منها مع العلم أنها لا تستطيع أن تترك هذا البلد لأمور خاصة جداً لذلك قررت أن أهاجر إلى هناك وأن أتزوج منها فما حكم ذلك وجزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(5/240)
فإذا سافرت إلى بلاد الكفار من أجل الزواج ثم رجعت بزوجتك للإقامة في بلاد المسلمين فلا بأس بذلك، وأما الإقامة في بلاد الكفار فلا تجوز إلا لحاجة أو ضرورة بشروط وضوابط سبق بيانها في الفتوى رقم:
2007
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
إن استطعت إكمال الدراسة في بلدك فهو أفضل
تاريخ 16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم أنا طالب في جامعة الإمارات وأود السفر إلى الخارج لمواصلة التعليم في أمريكا فما حكم الإسلام في هذة النقلة ؟ وقد قطعت شوطاً في الدراسة هنا. أفيدوني أفادكم الله . وشكرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد:
أخي الكريم : بما أنك قد قطعت شوطاً كبيراً في دراستك فأكمل ما تبقى ولا تجعل عمرك يضيع في مثل هذه التنقلات. وأنت تعلم كم هي المفاسد الموجودة في بلاد الكفار مما لا يخفى عليك. فالأولى بك وقد وفقك الله للدراسة في ديار المسلمين وبقي لك اليسير منها أن تكمل ما تبقى في بلادك، وإن دعت الحاجة إلى السفر كتخصص نادر في علم معين وأنت تريد به سد ثغرة في بلاد المسلمين فلا مانع من السفر -إن شاء الله- ووفقك الله لكل خير. والله تعالى أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
هل يرجع لبلده من دار الكفر وتخسر زوجته الحجاب للحفاظ على الأولاد
تاريخ 01 جمادي الثانية 1425 / 19-07-2004
السؤال
إنّني مواطن عربي مسلم مقيم في كندا متزوج ولي ولدان أكبرهما في الرابعة من العمر. أودّ تربيتهما تربية إسلامية إلا أنّ التجارب المعاشة حتى اليوم بيّنت صعوبة تحقيق هذا المبتغى. ففي كندا تصعب السيطرة على الأبناء نظرا لمنع الحكومة لبعض وسائل التأديب وحمايتها للأطفال والتي تصل إلى حدّ سلبهم من أهاليهم ووضعهم في عائلات استقبال كندية غير مسلمة. وهذه الحماية المبالغ فيها تجعل الطفل يتمرّد على والديه مما يفقد الأولياء السيطرة على أبنائهم. وأظنّ والله أعلم أنني أستطيع تربيتهم أحسن في وطني الأم عوضا عن كندا. من ناحية أخرى أنا الابن الوحيد لوالديّ اللذين كبرا في السن وأحسّ أنه من واجبي برّهما في هذه المرحلة العمرية. مشكلتي هي أنّ زوجتي متحجّبة ورجوعها إلى الوطن الأمّ يعني بالضرورة نزعها للحجاب فهو ممنوع هناك. ونحن الآن محتارون: * هل نعود إلى بلدنا فتنزع زوجتي الحجاب وفي المقابل تتوفر لدينا فرصة أفضل لتربية أبنائنا تربية إسلامية وأبرّ والديّ اللذين هما في أمسّ الحاجة إليّ في هذه الفترة . *
أو نبقى في كندا فتبقي زوجتي على الحجاب ولكن ضياع أبنائي يظلّ محتملا بل وبنسبة كبيرة وأبقى بعيدا عن والديّ . الرجاء إفادتنا وجازاكم الله خيرا .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فتربية الأولاد على الأسس الإسلامية والآداب الشرعية واجب أناطه الله بالآباء. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }(التحريم: 6)
وبر الوالدين والإحسان اليهما واجب على الأبناء في كل زمان، قال الله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}(الإسراء: 23)
ويتأكد هذا الواجب إذا كبر الوالدان أو أحدهما. روى مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف، قيل من يا رسول الله ؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة. وعلى هذا.. فالواجب عليكما أن تعودا إلى بلدكما أو غيره من البلدان حيث تتمكنان فيه من تربية الأولاد تربية إسلامية، مع القيام بحقوق الوالدين، ولا يجوز للزوجة نزع الحجاب كفيما كان الأمر إلا أن تجبر على ذلك ولم تمكن الإقامة في بلد آخر يقبل لها الحجاب، وتتمكن فيه هي وزوجها من القيام بواجبات بنيهما، فيباح لها ذلك من باب ارتكاب أخف الضررين اتقاء لأشدهما، وعليها حينئذ أن تقر في بيتها ولا تتعرض لأماكن تواجد الرجال، وأن تصون نفسها ما استطاعت، ومتى زال الإكراه، وجب عليها المبادرة إلى الحجاب.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
تعقيب على من يفتي بجواز شراء المنازل بالربا في دار الكفر
تاريخ 25 ربيع الثاني 1425 / 14-06-2004
السؤال
الرجاء إيفادنا بالإجابة على هذه الأسئلة أفادكم الله
أنا مقيم في المملكة المتحدة منذ 9سنوات وأسكن بالإيجار وأرغب في شراء منزل لي ولكنني لم أفعل ذلك لأن القرض من المصرف الربوي حرام ثم ذهبت إلى المصرف الإسلامي ولكني صدمت بأنهم يستغلون الموقف و يطلبون أكثر من المصرف الربوي بكثير جدا.
ماهو رأيك في هذه المسألة؟
المسألة الثانية هي الاستثمار في المصارف الربوية وهي عبارة عن الودائع المصرفية وتسمى بالإنجليزي بوند الشير في المصارف مع العلم أن المصرف أكد لي بأنهم لن يستعمل في أي شيء محرم إسلاميا كالخمر والدخان
شاكرا لكم حسن تعاونكم
صلاح التويجري(5/241)
لقد قمت بسؤال أحد أعضاء الإفتاء بأوروبا وأفتى بجواز ذلك وقد أرسل لي نسخة من هذه الفتوى، أفيدونا أفادكم الله
الأخ المكرم صلاح التويجري
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ج1 بخصوص شراء منزل للسكن عن طريق البنك الربوي، فأحيلك على فتوى المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث بهذا الخصوص والتي ترى نسخة مرفقة منها، وأنا مع خلاصة الفتوى في جواز شراء السكن عن هذا الطريق مع مراعاة عدم قدرتك على الشراء نقداً.
وقضية ما أشرت إليه بخصوص المصارف التي تتعامل بصيغة شرعية، فأنا شخصياً لا أراها البدائل الحقيقية للمعاملة الربوية، لما أشرت إليه من الاستغلال، ولذا لا أرى وجودها يمنعك من الشراء عن طريق القرض العقاري.
ج2 بحسب ما شرحته عن طبيعة الاستثمار، وأنا كانت لي بعض المداولات مع بعض البنوك بهذا الخصوص ولم يظهر لي إشكال شرعي في التعامل مع البنك في ذلك، فلا أرى مانعاً من الإقدام عليه إذا كنت ترى مصلحتك فيه.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق أن بينا حكم شراء منزل عن طريق قرض ربوي في الفتوى رقم: 1986 ، والفتوى رقم: 6689 ، والفتوى رقم: 15092 ، وقلنا هناك بحرمة هذا الأمر، لحديث جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. رواه مسلم . وأدلة أخرى تجدها في الفتاوى المشار إليها.
وسبق أن بينا أيضا أن حرمة الربا في ديار الكفار كحرمته في ديار الإسلام كما في الفتوى رقم: 20702 ، وسبق كذلك أن بينا أنه لا يجوز للمسلم أن يتعامل مع البنوك الربوية عن طريق الودائع المصرفية ، لأن ذلك عين ربا الجاهلية الذي حرمه الله ورسوله، وراجع الفتوى رقم: 36738.
أما بخصوص الفتوى المذكورة في السؤال بجواز شراء المنازل عن طريق الربا، والفتوى الأخرى الخاصة بجواز التعامل مع البنوك الربوية بالودائع المصرفية، فكل عالم من العلماء مهما كانت منزلته في العلم والفضل يؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم، لأن كل من عدا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل العلم حسبه أن يجتهد ويستفرغ وسعه في الوصول إلى الحق، فيصيب ويخطئ وهم يترددون بين الأجر والأجرين، للمصيب منهم أجران وللمخطئ أجر واحد، إذا كان مهيأ للاجتهاد، فإن لم يكن مستوفيا الشروط فقد عرض نفسه لخطر عظيم، ونحن نرى أن ما جاء في هذين الفتويين اجتهاد غير صحيح، لأن الربا حرام ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن المحرم لا يستباح إلا لضرورة؛ لقوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [سورة الأنعام: 119] وليس من الضرورة عدم قدرتك على الشراء النقدي أو أن بعض البنوك الإسلامية يستغل حاجة الناس، ما دمت تستطيع الاستغناء عن شراء هذا المنزل بالاستئجار.
وأما التعامل مع البنوك الربوية بالودائع المصرفية، فقد تتابعت المجامع الفقهية على القول بحرمته، وأول مجمع صرح بحرمة ذلك هو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في سنة 1965، وقد حضره عدد من كبار العلماء وجاء فيه: أن فوائد البنوك هي الربا الحرام.
والحكم ذاته أقره مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي.
ونسأل الله أن يوفقنا وإياك وجميع المسلمين إلى ما يحبه ويرضاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم أخذ من تزوجت منحة حادث العمل المشروطة بعدم الزواج في دار الكفر
تاريخ 27 ذو القعدة 1424 / 20-01-2004
السؤال
امرأة فقدت زوجها إثر حادث في دولة أوربية( فرنسا) وعمرها 22 سنة و ترك لها طفلتين، هذه الدولة أعطتها منحة حادث العمل؛ ولكنها بعد ضغوط الأهل تزوجت من رجل ثان إبان الثورة الجزائرية ولها منه 3 أولاد, ولم يكن هذا الزواج مصرحاً به لدى السلطات الفرنسية والجزائرية. بعد الاستقلال أصبح هذا الشخص عاطلاً عن العمل حتى توفي بعد عشرة دامت أكثر من 40 سنة, وكل هذه المدة وهي تتقاضى هذا الراتب وتعول هذه الأسرة المكونة من7 أشخاص مع العلم أن القانون الفرنسي في حالة التصريح بهذا الزواج يمنع عنها هذا الراتب، ما حكم تقاضي هذه المرأة لهذه المنحة قبل وفاة الزوج الثاني وبعده وهي الآن عمرها تجاوز 70 ولا عائل لها.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يجوز الإقدام على مخالفة الشروط التي تفرضها الدول على المقيمين بها، ولو كانت هذه الدول كافرة، ما دام ذلك الشرط لا يخالف الشرع.
ولا تبدو أية مخالفة للشرع في الشرط المذكور، إذ أن الدولة قد قيدت منحة حادث العمل للزوجة بعدم زواجها، وهذا مما لا مانع فيه، قال خليل بن إسحاق المالكي: واتبع شرطه إن جاز.
وقال في كشاف القناع وهو حنبلي: ولو دفع لزوجته مالاً على أن لا تتزوج بعد موته فتزوجت، ردت المال إلى ورثته نصاً.
وهذا موافق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم. رواه أبو داود، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 9271(5/242)