قال ممليه عفا الله عنه: والعجب ممن ذهب من العلماء إلى جواز الاستعانة بالكفار معتمداً في ذلك على هذه الآثار والمراسيل الضعيفة والمضطربة ويعرض عن ما خُرِّج في صحيح مسلم والسنن ومسند الإمام أحمد وغيره من رفضه صلى الله عليه وسلم الاستعانة بالمشركين، إننا إذا سلكنا طريق الترجيح وجدنا أن حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم في صحيحه وما وافقه من آثار أخرى أرجح يقيناً من تلك المراسيل المضطربة السند والمتن كما أسلفنا.
قال ابن عبد البر: " وأما شهود صفوان بن أمية مع رسول الله حنيناً والطائف وهو كافر فإن مالكاً قال لم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مالك: ولا أرى أن يستعين بالمشركين على قتال المشركين إلا أن يكونوا خدماً أو نوتيه [181] [182].
وقد ناقش الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن [183] أدلة القائلين بالجواز فتكلم على مرسل الزهري وبين عدم صحة دلالته على المسألة فقال رحمه الله ما نصه: " أما مسألة الاستنصار بهم فمسألة خلافية والصحيح الذي عليه المحققون منع ذلك مطلقاً وحجتهم حديث عائشة وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن حبيب وهو حديث صحيح مرفوع اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري وقد عرفت ما في المراسيل إذا عارضت كتاباً أو سنة ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم، وشَرَطَ أيضاً أن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقوله في هذه القضية واشترط كذلك ألا يكون له دخل في رأي ولا مشورة بخلاف ما هنا كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث ونقله في شرح المنتقى وضعف مرسل الزهري جداً وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام [184].
قال أيضاً ما نصه: " الشبهة التي تمسَّك بها من قال بجواز الاستعانة هي ما ذكرها بعض الفقهاء من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة وهو قول ضعيف مردود مبني على آثار مرسلة تردها النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية، ثم القول بها على ضعفها مشروط بشروط نبه عليها شراح الحديث ونقل الشوكاني [185] منها طرفاً في المنتقى، منها: أمن الضرر والمفسدة وألا يكون لهم شوكة وصولة وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة وأيضاً ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك، وأما الانتصار بالمشرك على الباغي عند الضرورة فهو قول فاسد لا أثر فيه ولا دليل عليه إلا أن يكون محض القياس وبطلانه أظهر شيء في الفرق بين الأصل والفرع وعدم الاجتماع في مناط الحكم " أهـ [186].
قال ممليه عفا الله عنه: والضرورة التي ترد في بعض كلام الفقهاء المجيزين الاستعانة بالكافر هي الضرورة التي تتعلق بالدين ومصلحة الإسلام والمسلمين. أما الضرورة التي تتعلق بحكم الحاكم وحماية كرسيه وسلطته فإنها لا تبيح الاستعانة بالكفار حتى عند القائلين بجواز الاستعانة بهم للضرورة.
قال الشيخ سليمان بن سحمان [187] رحمه الله تعليقاً على كلمة الضرورة التي جاءت في كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: " غلط صاحب الرسالة - يقصد بصاحب الرسالة من رد عليه الشيخ عبد اللطيف - في معرفة الضرورة فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر من رياسته وسلطانه وليس الأمر كما زعم ظنه بل هي ضرورة الدين وحاجته إلى من يعين عليه وتصلح به مصلحته كما صرح به من قال بالجواز وقد تقدم ما فيه والله أعلم " اهـ.
ومن الأئمة الكبار الذين ذهبوا إلى عدم جواز الاستعانة بالكفار في جميع الأحوال الشيخ ابن مفلح [188] في الآداب الشرعية حيث ذكر كلاماً طويلاً في هذا الباب ضمنه مقتطفات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم حيث قال: فصل في الاستعانة بأهل الذمة. قال بعض أصحابنا: ويكره أن يستعين مسلم بذمي في شيء من أمور المسلمين مثل كتابة وعمالة وجباية خراج وقسمة فيء وغنيمة وحفظ ذلك ونقله إلا ضرورة قال في الرعاية الكبرى ولا يكون بواباً ولا جلاداً ونحوها.
وعن أبي موسى الأشعري أنه اتخذ كاتباً نصرانياً فانتهره عمر بن الخطاب رضي الله عنه [189].
وعن عمر أيضاً أنه قال: لا ترفعوهم إذ وضعهم الله، ولا تعزوهم إذ أذلهم الله (1).
ولأن في الاستعانة بهم في ذلك من المفسدة ما لا يخفى وهي ما يلزم عادة أو ما يفضى إليه من تصديرهم في المجالس، والقيام لهم وجلوسهم فوق المسلمين وابتدائهم بالسلام أو ما في معناه ورده عليهم على غير الوجه الشرعي وأكلهم من أموال المسلمين ما أمكنهم لخيانتهم واعتقادهم حلها وغير ذلك.(4/228)
ولأنه إذا منع من الاستعانة بهم في الجهاد مع حسن رأيهم في المسلمين والأمن منهم وقوة المسلمين على المجموع لاسيما مع الحاجة إليهم على قول فهذا في معناه وأولى للزومه وإفضائه إلى ما تقدم من المحرمات بخلاف هذا، وبهذا يظهر التحريم هنا وإن لم تحرم الاستعانة بهم على القتال، وقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتخذوا الكفار بطانة لهم فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} [190] . وبطانة الرجل تشبيهه ببطانة الثوب الذي يلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون عليه بخلاف غيرهم، وقوله {من دونكم} أي من غير أهل ملتكم.
ثم قال تعالى: {لا يألونكم خبالاً}. أي لا يبقون غاية في إلقائكم فيما يضركم والخبال الشر والفساد، {ودوا ما عنتم}. أي يودون ما يشق عليكم من الضر والشر والهلاك، والعنت المشقة يقال فلان يُعنِتُ فلاناً أي يقصد إدخال المشقة والأذى عليه. {قد بدت البغضاء من أفواههم}. قيل بالشتم والوقيعة في المسلمين ومخالفة دينكم، وقيل باطلاع المشركين على أسرار المسلمين. {وما تخفي صدورهم أكبر} أي أعظم، {قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون}.
قال القاضي أبو يعلى من أئمة أصحابنا وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة ولهذا قال الإمام أحمد رضي الله عنه لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب، وقد جعل الشيخ موفق الدين رحمه الله هذه المسألة أصلاً في اشتراط الإسلام في عامل الزكاة فدل على أنها محل وفاق.
وقال الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب وقد سأله يستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ فقال: لا يستعان بهم في شيء. فانظر إلى هذا العموم من الإمام أحمد نظراً منه إلى ردىء المفاسد الحاصلة بذلك وإعدامها وهي وإن لم تكن لازمة من ولايتهم ولا ريب في لزومها فلا ريب في إفضائها إلى ذلك، ومن مذهبه اعتبار الوسائل والذرائع وتحصيلاً للمأمور به شرعاً من إذلالهم وإهانتهم والتضييق عليهم وإذا أمر الشارع عليه الصلاة والسلام بالتضييق عليهم في الطريق المشتركة فما نحن فيه أولى هذا مما لا إشكال فيه، ولأن هذه ولايات بلا شك، ولهذا لا يصح تفويضها مع الفسق والخيانة، والكافر ليس من أهلها بدليل سائر الولايات وهذا في غاية الوضوح، ولأنها إذا لم يصح تفويضها إلى فاسق فإلى كافر أولي بلا نزاع ولهذا قد نقول يصح تفويضها إلى فاسق إما مطلقاً أو مع ضم أمين إليه يشارفه كما نقول في الوصية ولأنه إذا لم تصح وصية المسلم إلى كافر في النظر في أمر أطفاله أو تفريق ثلثه مع أن الوصي المسلم المكلف العدل يحتاط لنفسه وماله وهي مصلحة خاصة يقل حصول الضرر فيها فمسألتنا أولى هذا مما لا يحتاج فيه إلى تأويل ونظر والله أعلم. وقال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [191].
وهذا من أعظم السبيل استدل الشيخ وجيه الدين وغيره من الأصحاب بهذه الآية على أنه لا يجوز أن يكون عاملاً في الزكاة وقد قال أصحابنا في كاتب الحاكم لا يجوز أن يكون كافراً واستدلوا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة} [192]. وبقضية عمر على أبي موسى.
وقال الشيخ تقي الدين في أول الصراط المستقيم في أثناء كلام له: ولهذا كان السلف يستدلون بهذه الآية على ترك الاستعانة بهم في الولايات فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى قال قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتباً نصرانياً , قال: مالك قاتلك الله , أما سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [193]. ألا اتخذت حنيفياً؟ قال قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه، قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله. انتهى كلامه [194]. ورواه البيهقي وعنده فانتهرني وضرب على فخذي وعنده أيضاً فقال أبو موسى والله ما توليته إنما كان يكتب. فقال عمر: له أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب؟ لا تدنهم إذا أقصاهم الله ولا تأمنهم إذا أخانهم الله ولا تعزهم بعد إذ أذلهم الله [195].
وروى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تستعملوا اليهود والنصارى فإنهم يستحلون الرُّشاء في دينهم ولا تحل الرُّشاء [196].(4/229)
وقال سعيد بن منصور [197] في سننه ثنا هشيم [198] عن العوام [199] عن إبراهيم [200] التيمي قال قال عمر لا ترفعوهم إذا وضعهم الله ولا تعزوهم إذ أذلهم الله يعني أهل الكتاب كلهم أئمة لكن إبراهيم لم يلق عمر، وقطع الشيخ تقي الدين في موضع آخر بأنه يجب على ولي الأمر منعهم من الولايات في جميع أرض الإسلام، وقال أيضاً الولاية إعزاز وأمانة وهم يستحقون للذل والخيانة، والله يغني عنهم المسلمين، فمن أعظم المصائب على الإسلام وأهله أن يجعلوا في دواوين المسلمين يهودياً أو سامرياً [201] أو نصرانياً، وقال أيضاً: لا يجوز استعمالهم على المسلمين فإنه يوجب من إعلائهم على المسلمين خلاف ما أمر الله ورسوله، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يُبدأوا بالسلام وأمر إذا لقيهم المسلمون أن يضطروهم إلى أضيق الطرق [202]، وقال الإسلام يعلو ولا يعلى عليه [203]، وقد منعوا من تعلية بنائهم على المسلمين فكيف إذا كانوا ولاة على المسلمين فيما يقبض منهم ويصرف إليهم وفيما يؤمرون به من الأمور المالية ويقبل خبرهم في ذلك فيكونون هم الآمرين الشاهدين عليهم؟ هذا من أعظم ما يكون من مخالفة أمر الله ورسوله، وقد قدم أبو موسى على عمر رضي الله عنهما بحساب العراق فقال ادع يقرؤه فقال إنه لا يدخل المسجد فقال لم؟ قال لأنه نصراني، فضربه عمر بالداوة فلو أصابته لأوجعته وقال لا تعزوهم إذ أذلهم الله ولا تصدقوهم إذ كذبهم الله ولا تأمنوهم إذ خونهم الله [204]، وكتب إليه خالد بن الوليد إن بالشام كاتباً نصرانياً لا يقوم خراج الشام إلا به، فكتب إليه لا تستعمله فأعاد عليه السؤال وإنا محتاجون إليه، فكتب إليه مات النصراني والسلام [205]، يعني قَدِّر موته، فمن ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه [206]، إلى أن قال وقد يشيرون عليهم بالرأي التي يظنون أنها مصلحة ويكون فيها من فساد دينهم ودنياهم ما لا يعلمه إلا الله وهو يتدين بخذلان الجند وغشهم يرى أنهم ظالمون، وأن الأرض مستحقة للنصارى ويتمنى أن يمتلكها النصارى.
وقال أيضاً: كان صلاح الدين [207] وأهل بيته يذلون النصارى ولم يكونوا يستعملون منهم أحداً، ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد، وإنما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل حتى قام بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين وحدثت حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله فإن الله تعالى يقول: {ولينصرن الله من ينصره}[208]. إلى أن قال: وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى ما في بلادهم بل مصلحة دينهم ودنياهم لا تقوم إلا بما في بلاد المسلمين والمسلمون ولله الحمد مستغنون عنهم في دينهم ودنياهم، ففي ذمة المسلمين من علماء النصارى ورهبانهم من يحتاج إليهم أولئك النصارى وليس عند النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون مع أن افتداء الإسراء من أعظم الواجبات وكل مسلم يعلم أنهم لا يتجرون إلى بلاد المسلمين إلا لأغراضهم لا لنفع المسلمين، ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة فإنهم ارغب الناس في المال ولهذا يتقامرون في الكنائس وهم طوائف كل طائفة تضاد الأخرى ولا يشير على ولي الأمر بما في إظهار شعارهم في دار الإسلام أو تقوية أيديهم بوجه من الوجوه إلا رجل منافق أو له غرض فاسد أو في غاية الجهل لا يعرف السياسة الشرعية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين. وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين [209] وصلاح الدين ثم العادل [210] كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا وليعتبر بسيرة من والي النصارى كيف أذله وكبته إلى أن قال: وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مشركاً لحقه ليقاتل معه فقال له: " إني لا استعين بمشرك " [211]، وكما أن استخدام الجند المجاهدين إنما يصلح إذا كانوا مؤمنين فكذلك الذين يعاونون الجند في أموالهم وأعمالهم إلى أن قال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} [212]. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [213].
وذكر سبب نزولها ثم قال وقد عرف أهل الخبرة أن أهل الذمة من اليهود والنصارى والمنافقين يكاتبون أهل دينهم بأخبار المسلمين وربما يطلعون على ذلك من أسرارهم وعوراتهم وغير ذلك وقد قيل:
كل العداوات قد ترجى مودتها ... ... إلا عداوة من عاداك في الدين
انتهى كلامه.(4/230)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً " [214] رواه الإمام أحمد والنسائي [215] وعبد ابن حميد [216] وغيرهم، ومعنى قوله: " ولا تستضيئوا بنار المشركين " أي لا تستشيروهم ولا تأخذوا آراءهم. جعل الضوء مِثْلا الرأي عند الحيرة هذا معنى قول الحسن [217] رواه عبد بن حميد، واحتج الحسن بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} [218]. وكذا فسره غيره، وفسر الحسن: " ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً " أي لا تنقشوا فيها محمداً وفسره غيره محمد رسول الله لأنه كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث عمر: " لا تنقشوا في خواتيمكم العربية " وعن ابن عمر أنه كان يكره أن ينقش في الخاتم القرآن.
وقال ابن عبد البر قال ابن القاسم [219] سئل مالك عن النصراني يستكتب؟ قال لا أرى ذلك، وذلك أن الكاتب يستشار، فيستشار النصراني في أمر المسلمين؟ ما يعجبني أن يستكتب، وذكر ابن عبد البر أنه استأذن على المأمون [220] بعض شيوخ الفقهاء فأذن له، فلما دخل عليه رأى بين يديه رجلاً يهودياً كاتباً له عنده منزله وقربه لقيامه بما يصرفه فيه ويتولاه من خدمته فلما رآه الفقيه قال: وقد كان المأمون أومأ إليه بالجلوس، فقال: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إنشاد بيت حضر قبل أن أجلس؟ قال نعم، فأنشده:
إن الذي شُرِّفتَ من أجله ... ... يزعم هذا أنه كاذب
وأشار إلى اليهودي، فخجل المأمون ووجم ثم أمر حاجبه بإخراج اليهودي مسحوباً على وجهه فأنفذ عهداً بإطراحه وإبعاده وأن لا يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من أعماله. قال ابن عبد البر كيف يؤتمن على سر، أو يوثق به في أمر، ومن وقع في القرآن، وكذَّب النبي عليه السلام؟
وقد أمر الناصر لدين الله [221] أن لا يستخدم في الديوان بأحد من أهل الذمة، فكتب إليه عن أبي منصور بن رطيناً النصراني إنا لا نجد كاتباً يقوم مقامه، فقال نقدِّر أن رطيناً مات هل كان يتعطل الديوان؟ فحينئذ أسلم وحسن إسلامه [222] اهـ.
[151] سورة هود ’ آية 113.
[152] سورة المائدة، آية 51.
[153] سورة آل عمران، آية 118.
[154] سورة الممتحنة، آية 1.
[155] رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1817)، وأبو داود في كتاب الجهاد برقم (2732)، والترمذي في كتاب السير برقم (1558)، وابن ماجه برقم (2832).
[156] أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامه الأزدي الحَجْري الطحاوي ولد في طحا قرية في صعيد مصر سنة 239هـ، سمع من النسائي وأبي بكر بن أبي داود وأبو زرعة الدمشقي وغيرهم، وعنه الحافظ الطبراني وابن عدي والحافظ أبو سعيد بن يونس المصري وغيرهم له اختلاف العلماء ومعاني الآثار والعقيدة الطحاوية وغيرها، توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة 321هـ. سير أعلام النبلاء 15/27، الأعلام 1/206، مقدمة تحقيق شرح الطحاوية للتركي ص55.
[157] أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن حمدويه الطهماني النيسابوري الحافظ الإمام المعروف بابن البيِّع، ولد بنيسابور سنة 321هـ، سمع من محمد بن علي المذكِّر ومحمد بن الأصم وجمع غفير يقاربون الألفي شيخ، وعنه أبو الحسن الدارقطني وأبو بكر البيهقي وأبو صالح المؤذن وغيرهم، له كتاب تاريخ نيسابور والمستدرك على الصحيحين وعلوم الحديث وغيرها، توفي رحمه الله بنيسابور سنة 405هـ... ميزان الاعتدال 3/608، طبقات الشافعية 4/155، الأعلام 6/227.
[158] خشناء: كثيرة السلاح.
[159] رواه الطحاوي في مشكل الآثار 3/241، والحاكم في المستدرك 2/122، وإسناده حسن. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1101).
[160] رواه أحمد في المسند 25/42 تحقيق التركي، والحاكم في المستدرك 2/121-122 وصححه وسكت عنه الذهبي، والطحاوي في مشكل الآثار (2577)، والبخاري في التاريخ الكبير 3/209 وسكت عنه، والبيهقي في السنن 9/64، وسنده حسن، ويشهد له ما عند مسلم بلفظ: " فلن استعين بمشرك " رقم (1817).
[161] سورة المائدة، آية 51.
[162] الأثر رواه الإمام أحمد في المسند، انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/210، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الجزية، باب لا يدخلون مسجداً بغير إذن 9/204، وأورده ابن كثير في تفسير 2/70 عن ابن أبي حاتم بسنده... انظر: عيون الأخبار لابن قتيبة 1/43، وقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم 1/164.
[163] المذمة في استعمال أهل الذمة ص54.
[164] قوله: " لا تدخولهم في دينكم " مشكل لأنه قد يفهم منه النهي عن إدخالهم في دين الإسلام.
[165] صبح الأعشى في صناعة الإنشا 1/94.
[166] المذمة في استعمال أهل الذمة ص57.
[167] سورة التوبة، آية 28.
[168] رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير رقم (3062)، ومسلم في كتاب الإيمان رقم (111).(4/231)
[169] أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن محمد الكناني العسقلاني المصري الشافعي، الحافظ ولد في مصر سنة 773هـ، أخذ عن السراج البلقيني وعن ابن الملقن والعراقي وغيرهم، انتهى إليه معرفة الرجال واستحضارهم ومعرفة العالي والنازل وعلل الحديث، حكي أنه شرب ماء زمزم ليصل إلى مرتبة الذهبي. له تعليق التعليق وشرح البخاري المسمى بفتح الباري والدرر الكامنة وغيرها توفي رحمه الله تعالى سنة 852هـ. ذيل تذكرة الحفاظ ص380، شذرات الذهب 7/270.
[170] شذرات الذهب 1/52.
[171] أبو عيسى محمد بن عيسى السُّلمي الترمذي، أحد الأئمة، ولد سنة 209، تتلمذ على البخاري وشاركه في بعض شيوخه وأخذ البخاري منه حديثاً واحداً، وروى عن مسلم حديثاً واحداً فقط في السنن برقم (687)، له السنن وكتاب العلل والشمائل وغيرها، توفي رحمه الله سنة 279هـ. ميزان الاعتدال رقم 8035، الأعلام 6/322، التقريب رقم 6246، تهذيب التهذيب 5/426.
[172] سنن الترمذي في كتاب السير، باب ما جاء في أهل الذمة يغزون مع المسلمين هل يسهم لهم تحت رقم (1558).
[173] رواه أبو داود في كتاب الجهاد رقم 2767 بسند صحيح.
[174] رواه البيهقي في السنن الكبرى 9/64.
[175] بتصرف من كتاب الاستعانة بغير المسلمين للدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي ص267-268.
[176] أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النَّمَرَيُّ الأندلسي المجتهد الإمام العلامة حافظ المغرب ولد سنة 368هـ طال عمره فأدرك الكبار وجمع وصنف وسارت بتصانيفه الركبان، سمع من عبد الله بن عبد المؤمن ومن محمد بن عبد الملك ومن أبي الوليد الفرضي، وعنه أبو محمد بن حزم والحافظ أبو علي الغساني وأبو عبد الله الحميدي وجمعٌ له التمهيد والاستذكار والاستيعاب في أسماء الصحابة، توفي رحمه الله تعالى سنة 463هـ انظر: سير أعلام النبلاء 18/153، تذكرة الحفاظ 3/1128.
[177] التمهيد 12/40-42.
[178] أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري، عالم الأندلس، أحد الأئمة الأعلام، ولد بقرطبة سنة 384هـ، فارسي الأصل كانت له ولأبيه من قبله رياسة الوزارة وتدبير المملكة، فزهد بها وانصرف إلى العلم والتأليف، كان رحمه الله تعالى بعيداً عن المصانعة، سمع من يحيى بن مسعود ومن يونس بن عبد الله، صنف المحلى في الفقه والإيصال إلى فهم كتاب الخصال في خمسة عشر ألف ورقة. توفي رحمه الله تعالى سنة 456هـ. سير أعلام النبلاء 18/184، الأعلام 4/254.
[179] مشكل الآثار 3/242.
[180] المستدرك 2/122.
[181] النوتيُّ: الملاّح في البحر. انظر القاموس المحيط ص207.
[182] التمهيد 12/35.
[183] العالم الجليل الفقيه المحقق عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب التميمي من المشارفه، ولد بمدينة الدرعية سنة 1225هـ، وحفظ القرآن وعمره ثمان سنوات، نفاه إبراهيم باشا فيمن نفي إلي مصر وعمره ثمان سنين مع أقاربه، قرأ على علماء الأزهر الشريف ولازمهم سنين، تزوج هناك ثم رجع إلى الرياض سنة 1264هـ، كان رحمه الله مهيباً شجاعاً حازماً وافر العقل، وكان يغزوا مع الإمام فيصل، تخرج على يديه ثلة من العلماء، منهم أخوه إسحاق وابنه عبد الله وسليمان بن سحمان وأحمد بن عيسى وغيرهم، له مصباح الظلام، وشرح نونية ابن القيم لم يكمله، وتأسيس التقديس وله نظم قوي يدل على براعته في الشعر وبحوره، حدث في زمنه قلاقل وفتن ساهم في إخمادها. توفي رحمه الله سنة 1293هـ في الرياض... انظر: روضة الناظرين للقاضي 1/338.
[184] الرسائل والمسائل النجدية 3/67.
[185] محمد بن علي بن محمد الشوكاني، فقيه مجتهد، من كبار علماء اليمن من أهل صنعاء ولد بهجرة شوكان سنة 1173هـ كان يرى تحريم التقليد. له 114 مؤلفاً تولى القضاء بصنعاء سنة 1229هـ ومات حاكماً بها. له نيل الأوطار، والبدر الطالع، والسيل الجرار بنقد كتاب الأزهار، توفي رحمه الله بصنعاء سنة 1250هـ... الأعلام 6/298.
[186] الرسائل والمسائل النجدية 3/164.
[187] الدرر السنية 8/374.
[188] شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج القاقوني المقدسي الحنبلي ولد سنة 708هـ، أعلم أهل عصره بمذهب أحمد. قال ابن كثير كان بارعاً فاضلاً متقناً في علوم كثيرة ولاسيما في الفروع. قال ابن حجر: صنف (الفروع) في مجلدين أورد فيه من الفروع الغريبة ما بهر العلماء اهـ. له هذا الكتاب والآداب الشرعية والنكت على المحرر لابن تيمية، أخذ عن شيخ الإسلام ابن تيمية وكان يقول له: ما أنت ابن مفلح بل أنت مفلح، وكان أخبر الناس بمسائل ابن تيمية واختياراته... توفي رحمه الله سنة 763هـ. شذرات الذهب.6/199، الدرر الكامنة 4/261، الأعلام 7/107.
[189] سبق تخريجه ص 65.
[190] سورة آل عمران، آية 118.
[191] سورة النساء، 141.
[192] سورة آل عمران، 118.
[193] سورة المائدة، آية 51.
[194] اقتضاء الصراط المستقيم 1/164.
[195] سبق تخريجه ص65.
[196] لم أجده في المسند.(4/232)
[197] سعيد بن منصور بن شعبة الخرساني أبو عثمان المروزي صاحب السنن، ولد بجوزجان، روى عن مالك وأبو الأحوص وابن عيينة وغيرهم، وعنه مسلم وأبو داود وأحمد بن حنبل وغيرهم، قال سلمة بن شبيب: ذكرت سعيد بن منصور لأحمد بن حنبل فأحسن الثناء عليه وفخم أمره. توفي في مكة رحمه الله تعالى سنة 227هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 10/586، تهذيب التهذيب 2/338.
[198] هُشيم بن بشير بن القاسم أبو معاوية ولد سنة 105هـ، روى عن الأعمش وسليمان التيمي والأحول. وعنه مالك وشعبة وسعيد بن منصور وغيرهم. قال ابن حجر: ثقة ثَبْتْ كثير التدليس والإرسال الخفي. توفي رحمه الله سنة 183هـ. انظر: التقريب رقم 7362، تهذيب التهذيب 6/41.
[199] العوام بن حوشب الشيباني أبو عيسى روى عن أبي إسحاق السبيعي ومجاهد وجبلة بن سحيم، وعنه ابنه سلمة وشعبة وحفص بن عمر وأصحاب الكتب الستة، كان صاحب أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، توفي رحمه الله سنة 148هـ. انظر: تهذيب التهذيب 4/421.
[200] إبراهيم بن يزيد التيمي أبو أسماء، روى عنه أنس والحارث بن سويد وغيرهم وعنه بيان ابن بشر والحكم بن عتبة وأصحاب الكتب الستة وغيرهم، قتله الحجاج بن يوسف سنة 92هـ، ولم يبلغ أربعين سنة رحمه الله. انظر: تهذيب التهذيب 1/115، التقريب رقم 271.
[201] السامرة: قوم يسكنون جبال بيت المقدس وقرايا من أعمال مصر يتقشفون في الطهارة أكثر من اليهود، يثبتون نبوة موسى وهارون ويوشع عليهم السلام وينكرون نبوة غيرهم وقبلتهم جبل يقال له كزيريم بين بيت المقدس ونابلس، ويذكر أنهم ليسوا من بني إسرائيل البتة، بل قدموا من بلاد المشرق ثم تهودوا. انظر: الملل والنحل 1/260 مع التحقيق.
[202] رواه مسلم في كتاب السلام رقم (2167)، والبخاري في الأدب المفرد رقم (1103) ورواه الترمذي في السنن من كتاب الأدب رقم (2700).
[203] رواه البخاري تعليقاً في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ والدارقطني في كتاب النكاح، باب المهر رقم (30) 3/252 وسنده حسن.
[204] سبق تخريجه ص65.
[205] صبح الأعشى 1/94.
[206] رواه الإمام أحمد في مسنده بلفظ: " إنك لن تدع شيئاً لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه " برقم (21996 ورجاله ثقات.
[207] السلطان الكبير صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي الدويني التكريتي المولود في سنة 532هـ، سمع من أبي طاهر السِّلفي وأبي الطاهر بن عوف والقطب النيسابوري وغيرهم، كان مهيباً شجاعاً حازماً مجاهداً كثير الغزو، قال عنه الذهبي رحمه الله: كانت له همة في إقامة الجهاد وإبادة الأضداد ما سمع بمثلها لأحد في دهر اهـ. قهر بني عبيد ومحا دولتهم، وأسر ملوك الفرنج في (حطين) توفي رحمه الله تعالى بدمشق سنة 589هـ. سير أعلام النبلاء 21/278، شذرات الذهب 4/298.
[208] سورة الحج، آية 40.
[209] أبو القاسم، تقي الملوك، ليث الإسلام، نور الدين محمود بن الأتابك زنكي بن أقسنقُر التركي السلطاني الملكشاهي، ولد سنة 511 هـ، كان بطلاً شجاعاً وافر الهيبة حسن الرمي ذا تعبد وخوف وورع وكان يتعرض للشهادة، قال ابن عساكر: روى الحديث وأسمعه وأجازه اهـ. وكان أظهر السنة بحلب وقمع الرافضة، انتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينة وحصناً. يقال إنه الخليفة الراشد السادس. توفى رحمه الله تعالى سنة 569هـ. نور الدين محمود: محاضرة للشيخ سفر الحوالي، سير أعلام النبلاء 20/531 نور الدين محمود. حسين مؤنس.
[210] الملك العادل سيف الدولة أبو بكر محمد بن أيوب بن شاذي التكريتي، ولد سنة 534هـ ببعلبك، كان ذا عقل ودهاء وشجاعة حليماً ديناً كان خليقاً للملك، أزال الخمور والفاحشة في بعض أيام دولته، وكان كثير الصلاة ويصوم الخميس، قليل المرض، سعيد الحظ والبخت، قال ابن خلكان: كان مائلاً إلى العلماء حتى لصنف له الرازي تأسيس التقديس فذكر اسمه في خطبته. توفي رحمه الله سنة 615هـ... انظر: سير أعلام النبلاء 22/115.
[211] سبق تخريجه ص63.
[212] سورة آل عمران، آية 118.
[213] سورة المائدة، آية 51.
[214] رواه الإمام أحمد في المسند 19/18، تحقيق التركي، والنسائي في كتاب الزينة رقم (5209)، والبيهقي في السنن الكبرى 9/126 من طريق الأزهر بن راشد عن أنس ابن مالك به، وإسناده ضعيف لجهالة الأزهر هذا، ورواه البخاري في التاريخ الكبير 4/16 من طريق سليمان بن أبي سليمان مولى بني هاشم عن أنس بن مالك به، وهذا أيضاً إسناد ضعيف لجهالة سليمان هذا، إلا أنه صح الجزء الثاني من الحديث وهو قوله: " ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً " رواه البخاري في التاريخ الكبير 1/455 بسند صحيح.(4/233)
[215] الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني النسائي صاحب السنن ولد بنسا سنة 215هـ، وسمع من قتيبة بن سعيد وهشام بن عمار وعلي بن حُجر وجمع وعنه أبو القاسم الطبراني وأبو بشر الدولابي، وأبو علي الحسين النيسابوري وغيرهم. قال السبكي سألت شيخنا الذهبي: ايهما أحفظ مسلم أو النسائي فقال النسائي. اهـ. له السنن الكبرى، وأما الصغرى (المجتبى) فمن جمع تلميذه ابن السني على ما ذكره الذهبي في سيرته، وله الخصائص والضعفاء وغيرها، توفي رحمه الله تعالى بفلسطين سنة 303هـ. طبقات الشافعية 3/14، سير أعلام النبلاء 14/125.
[216] عبد بن حميد بن نصر الكشي أبو محمد، سماه أبو حاتم في الثقات بعبد الحميد، روى عن عبد الرزاق وأبو داود ويحيى بن آدم وغيرهم، وعنه مسلم والترمذي والبخاري معلقاً وغيرهم، كان ممن جمع وصنف. توفي رحمه الله تعالى سنة 249هـ... تهذيب التهذيب 3/534.
[217] الحسن بن أبي الحسن البصري الأنصاري، مولاهم، ثقة فقيه فاضل، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وروى عن أنس وجابر وغيرهم، قال أنس سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا قال الذهبي: وأما مسألة القدر فصح عنه الرجوع عنها، وأنها زلة لسان. توفي رحمه الله سنة 110هـ. انظر: ميزان الاعتدال 1/483، تهذيب التهذيب 1/481، التقريب رقم (1227).
[218] سورة آل عمران، آية 118.
[219] عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العُتقي، أبو عبد الله المصري الفقيه صاحب مالك ثقة مات سنة 191هـ رحمه الله تعالى. التقريب رقم (4006).
[220] أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس في العراق، ولد سنة 170هـ كان أحد أعظم الملوك لولا المحنة بخلق القرآن، سمع من أبيه وهُشيم وعباد بن العوام وغيرهم، وعنه ولده الفضل وابن أكثم وغيرهم، وكان مفرطاً في التشيع، لما كبر عني بالفلسفة فجرّه إلى القول بخلق القرآن، امتحن العلماء بذلك فآذاهم فأجاب من أجاب وامتنع من امتنع. توفي في بذندون سنة 218هـ. تاريخ الخلفاء ص306، الأعلام 4/142.
[221] هو الملك المقلب بأمير المؤمنين أبو المطرِّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الداخل بن هشام بن عبد الملك المرواني، ولي وعمره اثنتان وعشرون سنة فضبط الممالك وخافه الأعداء، وكان رحمه الله ينطوي على دين وحسن خلق ومزاح، افتتح سبعين حصناً قال الذهبي في نهاية ترجمته: وإذا كان الرأس عالي الهمة في الجهاد، احتملت له هنات وحسابه على الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلم العباد، وللخزائن أباد، فإن ربك لبالمرصاد اهـ. توفي والينا هذا سنة 350هـ وله اثنتان وسبعون سنة رحمه الله تعالى. سير أعلام النبلاء 15/562.
[222] الآداب الشرعية 2/444.
=================
الحق بالقافلة الفصل الأول ؛ مبررات الجهاد
[الكاتب: عبد الله عزام]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللهلله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا.
وبعد:
فإن الناظر في واقع المسلمين اليوم يجد أن مصيبتهم الكبرى هي ترك الجهاد (حب الدنيا وكراهية الموت) ولذا تسلط الطغاة على رقاب المسلمين في كل ناحية وفوق كل أرض، وذلك لأن الكفار لا يهابون إلا القتال: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) (النساء: 84).
ونحن إذ ندعو المسلمين ونستحث خطاهم للقتال لأسباب كثيرة وعلى رأسها:
1) حتى لا يسود الكفر.
2) لقلة الرجال.
3) الخوف من النار.
4) أداء للفريضة واستجابة للنداء الرباني.
5) إتباعا للسلف الصالح.
6) إقامة القاعدة الصلبة التي تكون منطلقا للإسلام.
7) حماية المستضعفين في الأرض.
8) طمعا في الشهادة.
1) حتى لا يسود الكفر:
ففي الآية الكريمة: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) (الأنفال: 39).
فإذا توقف القتال ساد الكفر وانتشرت الفتنة وهي الشرك.
2) لقلة الرجال:
إن أزمة العالم الإسلامي هي أزمة رجال يضطلعون بحمل المسؤولية والقيام بأعباء الأمانة، وكما جاء في الصحيح: الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلته [1].
أي لا تجد في كل (مائة جمل) واحدا يحتملك في أسفارك، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لصفوة من صحبه تمنوا، فتمنى كل واحد منهم شيئا ثم قالوا: تمن يا أمير المؤمنين، فقال: أتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت مثل أبي عبيدة.
إن الرجال الذين يعلمون قليلون والذين يعملون أقل، وإن الذين يجاهدون أندر وأغرب، وإن الذين يصبرون على هذا الطريق لا يكادون يذكرون.
نظرت ذات مرة في حلقة قرآنية من الشباب العرب الذين وردوا إلى أرض العزة والمجد - أعني أرض أفغانستان - والعز في صهوات المجد مركبه والمجد ينتجه الإسراء والسهر.(4/234)
أقول نظرت في وجوه الشباب، حتى أرى من بينهم من يتقن أحكام التلاوة لأوكل إليه الحلقة، فلم أجد أحدا ، وعندها حق لي أن أقول: ما أنصفنا قومنا، وهو نفس قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما قتل سبعة بين يديه يوم أحد من شباب الأنصار.
ونحن نقول إن إخواننا المتعلمين والدعاة الناضجين لم يفدوا إلينا، بل إن بعضهم ينصح القادمين بالإستقرار في بلده، ولو كان لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة من ظلم الطغاة وجبروت المتسلطين! وبعضهم يفتي بلا علم، يقول: إن الأفغان بحاجة إلى مال وليسوا بحاجة إلى الرجال! وأما أنا فمن خلال معايشتي اليومية لهذا الجهاد وجدت أن الأفغان بحاجة شديدة إلى المال ولكن حاجتهم إلى الرجال أشد، وعوزهم إلى الدعاة أكثر.. أقرر هذا وأنا أعيش السنة الثامنة بين المجاهدين.
وإن كنت في ريب مما أقول فهيا بنا نعبر أفغانستان لتجد جبهة بكاملها ليس فيها من يتقن قراءة القرآن، وانتقل معي إلى جبهة أخرى لتتأكد أن ليس فيها من يعرف صلاة الجنازة، مما يضطرهم لحمل شهيدهم - لأن الشهيد يصلى عليه في المذهب الحنفي - مسافات بعيدة ليجدوا من يصلي عليه.
أما أحكام الجهاد الفقهية كتوزيع الغنائم ومعاملة الأسرى فحدث عن الجهل بها ولا حرج في جبهات كثيرة، مما يضطرهم إلى تحويلهم إلى منطقة فيها عالم أو علماء ليروا فيهم رأيهم حسب مقتضى الشرع الإسلامي، وإنك لتلمس الحاجة الشديدة للدعاة والأئمة وقراء القرآن والعلماء من خلال الآثار العميقة التي خلفها في الجبهات شباب من العرب ذوي ثقافة بسيطة، قد لا تتجاوز المرحلة الثانوية، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر الأخوة: عبد الله أنس، أبا دجانة، وأبا عاصم، وطاهر، وغيرهم كثير، ولو حدثتك عن أبي شعيب الأمي العربي وماذا ترك وراءه من آثار معنوية في ولاية بغلان بكاملها لوقفت واجما مشدوها لا تحير بكلمة ولا ينقضي منك العجب.
ونحن نأمل من الأخوة الذين لم يستطيعوا أن ينفلتوا من قفص العادات الإجتماعية، ولم ينفضوا عن رؤوسهم ركام التقاليد ولم يلقوا عن كاهلهم موروثات الأجيال المهزومة تحت ضغط الواقع المرير، وأمام الهجوم الإستشراقي الماكر الشرير، أقول لهؤلاء الأخوة: إن لم ينفروا إلينا بأنفسهم فلا أقل من أن يدعوا الذين يرفرفون بأرواحهم فوق أرض الجهاد أن يصلوا بأجسادهم إليها.
قلنا للقاضي (مظلوم) أحد أركان أحمد شاه مسعود - ألمع قائد في أفغانستان بلا منازع - حدثنا عن أبي عاصم قارئ القرآن الذي استشهد بينكم في (أندراب) فقال: لم أر مثله في هيبته وسمته ودله (الوقار والسكينة)، فكان أحدنا لا يجرؤ أن يتكلم في حضرته، ولا أن يمد رجله فضلا عن أن يهزل أو يضحك، فماذا تقول يا أخي إذا أخبرناك أن أبا عاصم لا يحمل إلا الشهادة الثانوية وعمره دون الثالثة والعشرين ولكنه يحفظ القرآن؟!
ولذا فقد آن أوان الرجال، وهذا مقام الفعال دون حال المقال.
فدع عنك نهبا صحيحا في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل [2]
لقد حل بالمسلمين أمور عظيمة وأرزاء فادحة أليمة، فدع الكلام عن الطعام وعن أساليب الكلام، ولكن حدثني عن هذا الأمر الجلل وماذا قدم له المسلمون.
أمور لو تأملهن طفل ... ... لظهرت في عوارضه المشيب
3) الخوف من النار:
يقول الله عزوجل: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير) (التوبة: 39).
قال ابن العربي: (العذاب الأليم هو في الدنيا باستيلاء العدو وبالنار في الآخرة) [3].
وقال القرطبي: (وقد قيل أن المراد بهذه الآية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم).
ويقول الله عزوجل: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) (النساء: 97 - 99).(4/235)
روى البخاري بإسناده عن عكرمة: أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمي به فيصيب أحدهم فيقتله فأنزل الله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم...) فإذا كان المؤمنون في مكة - القابضون على دينهم ولم يهاجروا وخرجوا حياء وخوفا من الكفار يوم بدر فكثروا سواد المشركين (عددهم) ثم قتل بعضهم - قد استحقوا جهنم برواية البخاري، فما بالك بالملايين من المتمسلمين الذين يسامون سوء العذاب ويعيشون حياة السوائم، لا يملكون أن يردوا عادية عن أعراضهم أو دمائهم أو أموالهم، بل لا يستطيع أحدهم أن يتحكم في لحيته فيطلقها لأنها تهمة إسلامية ظاهرة، بل لا يستطيع أن ينفرد في لباس زوجته فيطيله حسب الشرع، لأنها جريمة يؤخذ عليا بالنواصي والأقدام، ولا يستطيع أن يعلم القرآن لثلاثة من الشباب المسلم في بيت الله، لأنه تجمع غير مشروع في عرف الجاهلية، بل لا يستطيع في بعض البلدان المسماة الإسلامية أن يغطي شعر زوجته، ولا يستطيع أن يمنع رجال المخابرات أن يأخذوا بيد ابنته بعد وهن من الليل، تحت جنح الظلام الدامس إلى حيث يشاءون! وهل يستطيع أن يرفض أمرا يصدر من الطاغوت يقدم فيه هذا الفرد قربانا رخيصا على مذبح شهوات هذا الطاغية؟!
أليست هذه الملايين تعيش ذليلة مهينة مستضعفة وتتوفاها الملائكة ظالمة لأنفسها؟ فماذا سيكون جوابها إذا سألتها الملائكة (فيم كنتم) ألا يقولون (كنا مستضعفين في الأرض).
إن الضعف ليس عذارا عند رب العالمين، بل هو جريمة يستحق صاحبها جهنم، وقد أعذر الله الطاعنين في السن والأطفال الصغار والنساء الذين لا يجدون حيلة للتخلص، ولا يعرفون الطريق إلى أرض العزة ولا يستطيعون الهجرة إلى دار الإسلام ولا الوصول إلى قاعدة الجهاد.
سأصرف وجهي عن بلاد غدا بها ... ... لساني معقولا وقلبي مقفلا
وأن صريح الحزم والرأي لامرئ ... ... إذا بلغته الشمس أن يتحولا
إن الجهاد والهجرة إلى الجهاد جزء أصيل لا يتجزء عن طبيعة هذا الدين، والدين الذي ليس فيه جهاد لا يستطيع أن يثبت فوق أي أرض ولا أن تستوي شجرته على سوقها، وأصالة الجهاد التي هي من صميم هذا الدين ولها وزنها في ميزان رب العالمين ليست ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة التي تنزل فيها القرآن، وإنما هو ضرورة مصاحبة لهذه القافلة التي يوجهها هذا الدين.
يقول الأستاذ سيد قطب في الظلال (2/742) في تفسير هذه الآية: (لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله في مثل هذا الأسلوب! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مثل هذا الأسلوب.
لو كان الجهاد ملابسة طاردة ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة لكل مسلم إلى قيام الساعة: "من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق" [4].
إن الله سبحانه يعلم أن هذا أمرا تكرهه الملوك! ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه لأنه طريق غير طريقهم ومنهج غير منهجهم، ليس في ذلك الزمن فقط ولكن اليوم وغدا وفي كل أرض وفي كل جيل!
وأن الله سبحانه يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفا ولا يمكن أن يدع الخير ينمو مهما يسلك هذا الخير من طرق سليمة موادعة، فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطر على الشر ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة! هذه جبلة! وليست ملابسة وقتية، هذه فطرة! وليست حالة طارئة.
ومن ثم لا بد من الجهاد.. لا بد منه في كل صورة... ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود.. ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح... ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة... وإلا كان الأمر انتحارا أو كان هزلا لا يليق بالمؤمنين).
أنا لا ألوم المستبد إذا تجبر أو تعدا ... ... فسبيله أن يستبد وشأننا أن نستعدا
4) الإستجابة للنداء الرباني:
قال تعالى: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (التوبة: 41).
وقد أورد القرطبي في تفسيره (8/150) في تفسيرها عشرة أقوال خفافا وثقالا:
1) روي عن ابن عباس: شبانا وكهولا.
2) روي عن ابن عباس وقتادة: نشاطا وغير نشاطا.
3) الخفيف: الغني، والثقيل: الفقير، قاله مجاهد.
4) الخفيف: الشاب، والثقيل: الشيخ، قاله الحسن.
5) مشاغيل وغير مشاغيل، قاله زيد بن علي والحكم بن عتيبة.
6) الثقيل الذي له عيال، والخفيف الذي لا عيال له، قاله زيد بن أسلم.
7) الثقيل الذي له صنعة يكره أن يدعها، والخفيف الذي لا صنعة له، قاله ابن زيد.
8) الخفاف: الرجال، الثقال: الفرسان، قاله الأوزاعي.
9) الخفاف الذين يسبقون إلى الحرب كالطليعة وهو مقدمة الجيش بأسره.
10) الخفيف: الشجاع، الثقيل: الجبان، حكاها النقاش.(4/236)
والصحيح في فهمنا الآية أن الناس أمروا جملة، أي انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت... روي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: أعلي أن أغزو؟ فقال: (نعم)، حتى أنزل الله تعالى (ليس على الأعمى حرج).
وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال، في الثقل والخفة ولا يشك عاقل أن حالتنا التي نعيشها في أفغانستان وفي فلسطين، بل في معظم أرجاء العالم الإسلامي داخلة تحت نص هذه الآية، فقد اتفق المفسرون والمحدثون والفقهاء والأصوليون على أنه إذا دخل العدو أرضا إسلامية أو كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام، فإنه يجب على أهل تلك البلدة أن يخرجوا لملاقاة العدو، فإن قعدوا أو قصروا أو تكاسلوا أو لم يكفوا توسع فرض العين على من يليهم، فإن قصروا أو قعدوا فعلى من يليهم، وثم وثم حتى يعم فرض العين الأرض كلها، ولا يسع (يمكن) أحدا تركه كالصلاة والصيام بحيث يخرج الولد دون إذن والده والمدين دون إذن دائنه والمرأة دون إذن زوجها والعبد دون إذن سيده، ويبقى فرض العين مستمرا حتى تطهر البلاد من رجس الكفار (ولكن خروج المرأة لا بد له من محرم).
ولم أجد (وبقدر اطلاعي القليل) كتابا في الفقه أو في التفسير أو في الحديث إلا ونص على هذه الحالة، ولم يقل أحد من السلف أن هذه الحالة فرض كفاية أو أنه يجب استئذان الوالدين، ولا يسقط الإثم عن رقاب المسلمين ما دامت أية بقعة في الأرض (كانت إسلامية) في يد الكفار ولا ينجو من الإثم إلا الذي يجاهد.
فكل من ترك الجهاد اليوم فهو تارك لفريضة كالمفطر في رمضان بدون عذر أو كالغني الذي يمنع زكاة ماله، بل تارك الجهاد أشد.
وكما يقول ابن تيمية: (والعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا ليس أوجب بعد الإيمان من دفعه).
والحق المبين الذي لا محيد عنه قول أبي طلحة عندما قرأ (إنفروا خفافا وثقالا) قال: شبابا وكهولا ما سمع الله عذر أحد، ثم قال: أي بني جهزوني جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله لقد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فقال: لا... جهزوني، فغزا، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه فيها ولم يتغير رضي الله عنه.
يقول القرطبي (7/151) في تفسيره: (إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار أو بحلوله بالعقر (أصل الدار) فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا ، شبابا وشيوخا ، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له.
ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم.
وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكن غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم.
فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتلها سقط الفرض عن الآخرين.
ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو ولا خلاف في هذا).
وما أجمل أبيات النابغة الجعدي وهو يخاطب زوجته التي ترجوه أن يجلس عند عائلته:
باتت تذكرني بالله قاعدة والدمع ... ... يهطل من شأنيهما [5] سبلا
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني ... ... كرها وهل أمنعن الله ما فعلا
فإن رجعت فرب الخلق أرجعني ... ... وإن لحقت بربي فابتغي بدلا [6]
ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني ... ... أو ضارعا من ضنى لم يستطع حولا [7]
5) اتباع للسلف الصالح:
فقد كان الجهاد دينا للسلف الصالح، وكان صلى الله عليه وسلم سيدا للمجاهدين وقائدا للغر الميامين، فكانوا إذا اشتد الوطيس يحتمون برسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أقربهم إلى العدو، وعدد مغازيه صلى الله عليه وسلم التي خرج بنفسه فيها سبع وعشرون، وقاتل في تسع منها بنفسه: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف وهذا على قول من قال: مكة فتحت عنوة، وكانت سراياه التي بعثها سبعا وأربعين، وقيل أنه قاتل بني النضير [8].
وهذا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في غزوة أو يرسل سرية في كل شهرين أو أقل.(4/237)
وسار الصحب الكرام على سنة النبي الكريم ص، فلقد كان القرآن الكريم يربي هذا الجيل تربية جهادية ويحميهم من أن ينغمسوا في الدنيا كما يحمي أحدنا لديغه من الماء، فلقد روى الحاكم في المستدرك (2/275) وصححه ووافقه الذهبي، عن أسلم أبو عمران قال: حمل رجل من المهاجرين - بالقسطنطينية - على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا ، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد أثرناه على الأهلين، والأموال والأولاد وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلنا وأولادنا فنقيم فيها، فنزل فينا: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (البقرة: 195).
فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
وقد روى عكرمة أن ضمرة بن العيص وكان من المستضعفين في مكة وكان مريضا ، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني فهيء له فراش ثم وضع عليه وخرج فمات في الطريق بالتنعيم - على بعد (6 كم) من مكة [9].
وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود في حمص على تابوت صراف، وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو فقيل: عذرك الله، فقال: أتت علينا سورة البحوث (إنفروا خفافا وثقالا).
وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل، فقال: إستنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.
وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له: يا عم إن الله قد أعذرك، فقال: يا ابن أخي قد أمرنا بالنفير خفافا وثقالا [10].
وهذا إبراهيم بن أدهم عندما أحس بالموت قال أوتروا لي قوسي، وتوفي وهو في كفه، ودفن في إحدى جزائر البحر في بلاد الروم [11].
وهذا عبد الله بن المبارك كان يقطع مسافة ألفين وستمائة كيلو مترا راجلا أو راكبا على دابته ليقاتل في سبيل الله في ثغور المسلمين [12].
وقال زهير بن قمير المروزي: أشتهي لحما من أربعين سنة ولا آكلها حتى أدخل الروم فآكله من مغانم الروم [13].
وهذا قاضي الكوفة عروة بن الجعد كان في بيته سبعون فرسا مربوطة للجهاد [14].
وهذا محمد بن واسع كان من العباد المحدثين الغزاة المرابطين يقول عنه القائد قتيبة بن مسلم الباهلي: لإصبع محمد بن واسع تشير إلى السماء في المعركة أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير [15] – قوي -
وهذا أحمد بن إسحاق السلمي يقول: أعلم يقينا أني قتلت بسيفي هذا ألف تركي، ولولا أن يكون بدعة لأمرت أن يدفن معي [16].
وهذا أبو عبد الله بن قادوس لكثرة قتله من نصارى الأندلس كان النصراني إذا سقى فرسه فلم يقبل على الماء قال له: مالك أرأيت بن مالك أرأيت بن قادوس في الماء [17].
وهذا بدر بن عمار يقتل الأسد بسوطه فيمدحه المتنبي:
أمعف ر الليث الهزبر بسوطه ... ... لمن ادخرت الصارم المصقولا [18]
وهذا عمر المختار يقول عنه غراسياني (القائد الإيطالي): لقد خاض عمر المختار مع جنودنا (263) معركة خلال عشرين شهرا، أما مجموع معاركه فقد بلغت ألف معركة!
وهذا الشيخ محمد فرغلي كان الإنجليز في الإسماعيلية يعلنون حالة الطوارئ في معسكراتهم إذا دخل الفرغلي المدينة، وقد دفع الإنجليز خمسة آلاف جنيه لمن يأتي برأسه حيا أو ميتا.
وهذا يوسف طلعت كان يسمى (جزار الإنجليز) لكثرة ما قتل منهم في قناة السويس، فأعدمهما عبد الناصر إرضاء لسادته الأمريكان!
حدثني محمد بانا - أحد أركان أحمد شاه مسعود - أنه قد أحرق هو ومجموعته في ممر سالنج أربعمائة ناقلة، ويطلق عليه الروس (الجنرال) وقد غنم مائتي كلاكوف ومائتي كلاشنكوف.
وقد حدثني محمد بانا أنه أحرق ذات مرة مائة وخمسين آلية دفعة واحدة.
6) إقامة القاعدة الصلبة لدار الإسلام:
إن إقامة المجتمع المسلم فوق بقعة أرض ضرورية للمسلمين، ضرورة الماء والهواء، وهذه الدار لن تكون إلا بحركة إسلامية منظمة تلتزم الجهاد واقعا وشعارا وتتخذ القتال لحمة ودثارا.
وإن الحركة الإسلامية لن تستطيع إقامة المجتمع المسلم إلا من خلال جهاد شعبي عام، تكون الحركة الإسلامية قلبه النابض وعقله المفكر، وتكون بمثابة الصاعق الصغير الذي يفجر العبوة الناسفة الكبيرة، فالحركة الإسلامية تفجر طاقات الأمة الكامنة وينابيع الخير المخزونة في أعماقها.
فالصحابة رضوان الله عليهم كان عددهم قليلا جدا بالنسبة لمجموع عامة المسلمين الذين قوضوا عرش كسرى وثلوا مجد قيصر.
بل إن القبائل المرتدة عن الإسلام في أيام الصديق قد سيرهم عمر بن الخطاب - بعد أن أعلنوا توبتهم - إلى قتال الفرس، ولقد أصبح طلحة بن خويلد الأسدي - الذي ادعى النبوة من قبل - أحد أبطال القادسية البارزين، واختاره سعد بمهمة استكشاف أخبار الفرس فأبدى شجاعة فائقة.(4/238)
أما الحفنة من الضباط التي يمكن أن يتوهم البعض أن بإمكانهم عمل مجتمع مسلم، فهذا ضرب من الخيال أو وهم يشبه المحال لا يعدوا أن يكون تكرارا لمأساة عبد الناصر مع الحركة الإسلامية مرة أخرى.
والحركة الشعبية الجهادية مع طول الطريق ومرارة المعاناة وضخامة التضحيات وفداحة الأرزاء، تصفى النفوس فتعلوا على واقع الأرض الهابط، وترتفع الإهتمامات عن الخصومات الصغيرة على دراهم، وعن الأغراض القريبة، وسفاسف المتاع وتزول الأحقاد وتصقل الأرواح، وتسير القافلة صعدا من السفح الهابط إلى القمة السامقة بعيدا عن نتن الطين وصراع الغابات.
وعلى طول طريق الجهاد تفرز القيادات، وتظهر الكفاءات من خلال العطاء والتضحية، ويبرز الرجال شجاعتهم وبذلهم.
ولا تحسبن المجد زقا وقينة ... ... فما المجد إلا الحرب والفتكة البكر
ومع ارتفاع الإهتمامات ترتفع النفوس عن الصغائر، وتصبح الأمور العظيمة غاية القلوب وأمل الشعوب.
إذا غامرت في شرف مروم ... ... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... ... كطعم الموت في أمر عظيم
يرى الجبناء أن الجبن عقل ... ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
وطبيعة المجتمعات كالماء تماما ، ففي الماء الراكد تطفو على السطح الطحالب والأعفان، أما الماء المتحرك فلا يحمل العفن فوقه، والقيادات في المجتمعات الراكدة لا يمكن أن تكون على قدر المسؤولية، لأنها لا تبرز من خلال الحركة والتضحية والبذل والعطاء، فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ما برزوا إلا من خلال الأعمال الجليلة والتضحيات الباهظة، ولذا لم يكن أبو بكر بحاجة إلى دعاية إنتخابية عندما أجمعت الأمة على انتخابه، فما أن فاضت روح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى في الجنة تطلعت العيون إلى الساحة فلم تجد أفضل من أبي بكر رضي الله عنه.
والأمة التي تجاهد تبذل الثمن غاليا فتجني الثمرة الناضجة، ليس من السهل أن تفرط فيما جنته بالعرق والدم، وأما الذين يتربعون على صدور الناس من خلال البيان الأول في انقلاب عسكري صنع وراء الكواليس في سفارة من السفارات، يسهل عليهم التفريط بكل شيء.
ومن أخذ البلاد بغير حرب ... ... يهون عليه تسليم البلاد
والأمة الجهادية التي يقودها أفذاذ برزوا من خلال الحركة الجهادية الطويلة، ليس من السهل أن تفرط بقيادتها أو تخطط للإطاحة بها، وليس من اليسير على أعدائها أن يشككوها بمسيرة أبطالها، والحركة الجهادية الطويلة تشعر الأمة بأفرادها جميعا أنهم قد دفعوا في الثمن وشاركوا في التضحية من أجل قيام المجتمع الإسلامي، فيكونون حراسا أمناء لهذا المجتمع الوليد، الذي عانت الأمة جميعها من آلام مخاضه.
لا بد للمجتمع الإسلامي من ميلاد، ولا بد للميلاد من مخاض ولا بد للمخاض من آلام.
7) حماية المستضعفين في الأرض:
إن من بواعث الجهاد الإسلامي حماية المستضعفين في الأرض ورفع المظالم عنهم..
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا). (النساء: 75).
ومعنى الآية وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين.
كيف القرار وكيف يهدأ مسلم ... ... والمسلمات مع العدو المعتدي
وقد اتفق الفقهاء على أن الجهاد يصبح فرض عين بالنفس والمال إذا سبيت امرأة مسلمة، وفي (البزازية) امرأة سبيت في المشرق وجب على أهل المغرب تخليصها.
فليتهم إذا لم يذودوا حمية ... ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى فهل اأتوه رغبة في المغانم
كنت ذات مرة مع حكمتيار في لوجر (ولاية أفغانية) وضرب مركز الولاية ضربة موجعة، فضج أطفال الولاية ولهجت ألسنة نسائها بالدعاء لحكمتيار.
أتسبى المسلمات بكل ثغر ... ... وعيش المسلمين إذا يطيب
أما لله والإسلام حق ... ... يدافع عنه شبان وشيب
لقد جاء الإسلام لإقرار العدل في الأرض: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد: 25).
8) طمعا بالشهادة والمنازل العلى في الجنة:
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي عن المقدام بن معد يكرب مرفوعا: للشهيد عند الله سبع خصال، يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين إنسانا من أهل بيته [19].
وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس) [19-ب].
9) إن الجهاد حفظ لعزة الأمة ورفع الذل عنها:
ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد عن ابن عمر مرفوعا: إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر سلط الله عليهم ذلا لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم [20].(4/239)
10) إن الجهاد حفظ لهيبة الأمة ورد لكيد أعدائها:
(فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذي كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) (النساء: 84).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داوود عن ثوبان: يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل يا رسول الله فمن قلة يومئذ؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت [21].
11) في الجهاد صلاح الأرض وحمايتها من الفساد:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (البقرة: 251).
12) في الجهاد حماية للشعائر الإسلامية:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) (الحج: 40).
13) وفي الجهاد حماية الأمة من العذاب ومن المسخ والإستبدال:
(إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم) (التوبة: 92).
14) وفي الجهاد غنى الأمة وزيادة ثرواتها:
(وجعل رزقي تحت ظل رمحي) [22].
15) والجهاد ذروة سنام الإسلام:
(وذروة سنامه الجهاد) حديث صحيح عن معاذ وهو رهبانية هذه الأمة (وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام) [23].
16) الجهاد من أفضل العبادات وبه ينال المسلم أرفع الدرجات:
قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر أمر العدو، فجعل يبكي ويقول ما من أعمال البر أفضل منه.
وقال عنه غيره: ليس يعدل لقاء العدو شيء، ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال، والذين يقاتلون العدو هم الذين يدافعون عن الإسلام وعن حريمهم، فأي عمل أفضل منه؟ الناس آمنون وهم خائفون وقد بذلوا مهج أنفسهم.
ورد في البخاري (6/9) الحديث: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض).
[1] أي أن الكامل في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة لقلة الراحلة في الابل والراحلة هي البعير القوي على الاسفار والأحمال النحيب التام الخلق الحسن المنظر ويقع على الذكر والأنثى والهاء فيه للمبالغة
[2] البيت لامرئ القيس ومعناه الحرفي: أترك الحديث عن الحجرات التي نهبت أمتعتها، وحثني عن قطيع الجمال القوية التي عليها مدار حياتنا. هذا مثال يقال لمن يتحدث عن الأمور التافهة ويدع الأمور العظيمة
[3] تفسير القرطبي 8/142
[4] رواه مسلم عن أبي هريرة
[5] شأنيهما:طريقا الدمع، سبلا: غزيرا
[6] فابتغي بدلا: تزوجي غيري
[7] ضارعا من ضنى: ضغيفا من مرض
[8] نهاية المحتاج 8/16
[9] القرطبي/249
[10] القرطبي 18/151
[11] تاريخ دمشق لابن عساكر 2/1790
[12] عبد الله بن المبارك/د. المحتسب
[13] ترتيب المدارك للقاضي عياض3/249
[14] تهذيب الأسماء واللغات 1/231
[15] المشوق في الجهاد 66
[16] تهذيب التهذيب لابن حجر 1/14
[17] المشوق في الجهاد
[18] معفر: ممرغ بالتراب. الهزيز: الأسد، الصارم: السيف
[19] صحيح الجامع 5058
[20] صحيح الجامع 688
[21] صحيح الجامع 8035
[22] حديث صحيح رواه أحمد عن ابن عمر صحيح الجامع 2828
[23] حديث حسن رواه أحمد في المسند 3/82 عن أبي سعيد الخدري
===============
حكم الأسرى
[الكاتب: عبد الله عزام]
يختلف حكم الأسير باختلاف الجنس والعمر والدين، والأسرى عادة على ثلاثة أصناف:
أولا: النساء والأطفال: هؤلاء لا يجوز قتلهم أثناء الحرب إذا كانوا منفردين غير مقاتلين، وكذلك بعد الأسر لا يجوز قتلهم، ويصبحون رقيقا بمجرد الأسر [55].
ثانيا: الرجال من أهل المجوس والكتاب: وهؤلاء اختلف آراء الفقهاء فيهم، وإليك التفصيل - إن شاء الله -:
قال بعض العلماء - كالحسن ومجاهد -: لا يجوز قتل الأسير، وحكى محمد بن الحسن التميمي أنه إجماع الصحابة [56].
أما الفقهاء الأربعة: فقد اتفقوا أن الإمام مخير في الأسرى بين القتل والإسترقاق. أما المن بدون مال فقد منعه الحنفية وأجازه الشافعية والحنبلية. أما الإمام مالك فقد اختلفت عنه الرواية في المن بدون مال؛ بالجواز وعدمه [57].
أما الفداء بالمال:
فقد أجازة المالكية والشافعية والحنبلية، وأما الحنفية فقد منعوه. جاء في المبسوط للسرخسي: (سألته عن الأسير يقتل أو يفادى؟ قال: يقتل أو يجعل فيئا). وقال الشافعي: (يفدى بالمال العظيم). وقال محمد: (يفدى إن كان المسلمون بحاجة إلى مال).
واستشهد أبو حنيفة بقول أبي بكر: (لا تفادوه، وإن أعطيتم به مدين من ذهب). ولأن تخلية المشرك ليعود حربا على المسلمين معصية، وارتكاب المعصية لمنفعة المال لا يجوز وهو ترك واجب، وقتل المشرك فرض، ولو أعطونا مالا لترك الصلاة لا يجوز لنا مع الحاجة إلى المال. ولا يجوز تقوية المشركين بالسلاح، فكذلك لا تجوز تقويتهم بالرجال.
والذي يدل على جواز المن والفداء قوله عز وجل: {فإما منا بعد وإما فداء} [محمد: 4]، فنص على جواز المن بدون مال والفداء بالمال.(4/240)
أما الحنفية: فيرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]، لأنها نزلت بعدها، لأن سورة التوبة نزلت بعد سورة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن لا دليل على النسخ، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنه من وفادى وبادل الأسرى وقتل واسترق.
أما بالنسبة للمن؛ ففي صحيح مسلم عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم صلى الله عليه وآله وسلم سلما فأعتقهم، فأنزل الله عز وجل: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة} [الفتح: 42] [58].
وعن جبير بن مطعم؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: (لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) [59].
وفي الصحيحين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من على ثمامة بن أثال من بني حنيفة وهو سيد أهل اليمامة [60].
أما الدليل على جواز الفدية:
حديث ابن عباس رضى الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهيلة يوم بدر أربعمائة) [61].
وأما الدليل على مبادلة الأسرى:
فقد جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فادى بالرجل الذي من بني عقيل - صاحب العضباء - برجلين من المسلمين.
العضباء؛ اسم ناقة الأعرابي التي أصبحت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [62].
ولقد ورد عن أبي حنيفة روايتان أظهرهما عدم الجواز، وأما الصاحبان فقد أجازا مبادلة الأسرى [63].
ولقد قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجال بني قريظة وهم بين الستمائة والسبعمائة. وقتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط [64]، وهذا دليل على جواز قتل الأسرى.
الرأي الراجح في الأسرى:
لا شك أن الرأي الراجح في الأسرى هو رأي الجمهور؛ وهو أن الإمام مخير في الأسرى بما فيه مصلحة المسلمين بين القتل والاسترقاق والمن والفداء بمسلم أو مال. وهذا الرأي الذي تدعمه الأدلة، فالإمام يختار الأصلح للمسلمين بالنسبة للأسرى.
جاء في الشرح الكبير مع المغني [01/704]: (فإن كان فيهم من له قوة ونكاية في المسلمين فقتله أصلح، ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح، ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى إسلامه بالمن عليه أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم أو الدفع عنهم فالمن عليه أصلح، ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقة أصلح كالنساء والصبيان، والإمام أعلم بالمصلحة ففوض ذلك إليه).
إذا أثبت ذلك فإن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة، فمتى رأى المصلحة في خصلة لم يجز اختيار غيرها، لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر لهم، فلم يجز له ترك ما فيه الحظ كولي اليتيم، ومتى حصل عنده تردد في هذه الخصال فالقتل أولى.
قال مجاهد في أميرين، أحدهما يقتل الأسرى؟ وهو أفضل، وكذلك قال مالك. وقال اسحق: (الإثخان أحب إلي، إلا أن يكون معروفا يطمع به في الكثير).
حكم الأسير الشيوعي الأفغاني:
كثير من الشيوعيين إذا أسرهم المجاهدون وشعروا أنهم سيقتلون ينطقون بالشهادتين، ومع ذلك فإن المجاهدين يقتلونهم، واعترض بعض الناس على هذا الفعل ظانين أن كلمة الشهادة تعصم دمه. وقد استشهد هؤلاء الناس بحديث أسامة: (كيف قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟).
والحق أن الحال في أفغانستان يختلف، إذ أن المجاهدين من عادتهم إذا أسروا أسرى جاءوا بهم إلى مجلس القضاء في الحزب، فيحققون معهم، وهم يعرفون بعضهم البعض، فعندما يتأكدون أنه شيوعي، ويعرف عليه أهل قريته، فإنهم يقتلونه سواء نطق بالشهادتين أو صلى أو أقام شعائر الإسلام.
نعم! إن الحكم الشرعي في الكافر الأسير إذا أسلم أنه لا يجوز قتله ويصبح معصوم الدم، ويصير رقيقا في الحال، له حكم الأطفال، فلا يجوز قتله ويصبح عبدا، وهذا عندما تكون كلمة "لا إله إلا الله"، هي الفارق بين الكفر والإسلام.
أما الحال في أفغانستان فهو مختلف تماما، إذ أن بابراك كارمل ونجيب زعيم الحزب الشيوعي الأفغاني الذي يمسح الإسلام من أفغانستان يقول أنا مسلم ويصلي وتظهر صورته بالتلفاز. ومثل هؤلاء يقتلون ولا يقبل ادعاؤهم.
وإليك الأدلة على صحة هذا الحكم:
1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح في مجموعة: (أقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة)، منهم المقيس بن ضبابة وابن خطل والجاريتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه، مع أن نساء أهل الحرب لا يقتلن كما لا تقتل الذرية. وقد صح أن ابن خطل قتل وهو معلق بأستار الكعبة [65].(4/241)
2) روى الإمام مسلم عن عمران بن حصين قال: (كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الوثاق، فقال: يا محمد. فأتاه فقال: ما شأنك? فقال: بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج? - يعني العضباء – فقال: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف، ثم انصرف، فناداه فقال: يا محمد! فقال: ما شانك? قال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح) [66].
قال الشوكاني عن هذا الحديث: (أن للإمام أن يمتنع من قبول إسلام من عرف منه أنه لم يرغب في الإسلام وإنما دعته إلى ذلك الضرورة، ولا سيما إذا كان في عدم القبول مصلحة للمسلمين) [67].
3) الشيوعي الأفغاني؛ إما زنديق أو مرتد، وحكم الزنديق أنه يقتل دون استتابة. هذا رأي جمهور الفقهاء، وبه قال مالك وأحمد والليث وغيرهم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: لا تقبل توبة من كرر ردته كالزنديق، لقوله تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادو كفرا لن تقبل توبتهم}.
وفي الدراية - المذهب الحنفي - روايتان في الزنديق؛ (لا تقبل) كقول مالك وأحمد، وفي رواية؛ (تقبل) كقول الشافعي [68].
4) أما المرتد الذي تغلظت ردته ونصب نفسه لحرب الإسلام والمسلمين فيجوز قتله دون استتابة.
قال ابن رشد [في بداية المجتهد: 2/443]: (وأما إذا حارب المرتد ثم ظهر عليه فإنه يقتل بالحرابة، ولا يستتاب، سواء كانت حرابته بدار الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب إلا أن يسلم، والإسلام يسقط عنه حد الحرابة، ولكن حكمه فيما جنى حكم المرتد إذا جنى في ردته في دار الإسلام ثم أسلم)، أي: يقتل قصاصا إذا قتل.
يقول ابن القيم [في زاد المعاد: 3/464]: (يجوز قتل المرتد الذي تغلظت ردته من غير استتابة، فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ولحق بمكة، فلما كان يوم الفتح أتى به عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فأمسك عنه طويلا ثم بايعه وقال: إنما أمسكت عنه ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال له رجل: هلا أومأت إلي يا رسول الله? فقال: ما ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين) [69].
5) كل من جاهر بسب الله، أم رسول الله ص، أو بسب دين الإسلام فإنه يقتل دون استتابة سواء كان مسلما أو ذميا. ولذلك لما قتل الأعمى أم ولده لأجل سبها النبي صلى الله عليه وسلم أهدر النبي دمها) [70].
ومن أراد الإستزادة في هذا الموضوع فعليه أن يراجع كتاب؛ "الصارم المسلول على شاتم الرسول" لشيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا الحكم إجماع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ومقتضى النصوص على هذا المسألة أكثر من أربعين حديثا [71].
وهذا الشيوعي معروف لدى أهل بلده بسب الإسلام ومعاداة الرسول الله ص، وقد بقي يحارب المسلمين حتى آخر لحظة.
6) ولنفرض أنهم كانوا مسلمين أصلا وسيقوا إلى المعركة قصرا وقتلوا المسلمين فإنهم يقتلون قصاصا. قال عمر: (لو اشترك أهل صنعاء في قتل رجل لقتلتهم به جميعا).
7) المحاربون المسلمون الذين يخرجون على الإمام والبغاة الذين يقطعون الطرق ويخيفون المسلمين؛ هؤلاء يقتلون حدا كما قال الله عز وجل: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
فجزاء المحارب القتل أو الصلب أو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو النفي من الأرض، ولا تقبل توبته بعد أسره وإخضاعه، إنما تقبل التوبة من المحارب بحيث لا يقام عليه الحد إذا تاب قبل أن نقدر عليه.
جاء في فتح القدير عن البغاة [5/733]: (فإن كانت لهم فئة أجهز على جريحهم وأتبع موليهم، وإن كانت لهم فئة يقتل الإمام الأسير وإن شاء حبسه).
فالإمام يحكم نظره فيما هو أحسن الأمرين في كسر الشوكة من قتله وحبسه ويختلف ذلك بحسب الحال، هذا في الأسير المسلم، فكيف في الأسير الشيوعي؟
واتفق الفقهاء الأربعة أن المحارب المسلم الذي يقطع الطريق إذا قتل؛ يقتل، وإن عفى أولياء المقتول [72].
وعليه: يجوز قتل الشيوعي الأفغاني وإن نطق بالشهادتين.
الأسرى من عبدة الأوثان والملحدين:
اختلفت آراء العلماء في حكم الرجال الأسرى من عبدة الأوثان، هل يجوز استرقاقهم أم لا يجوز؟ والخلاف بناء على خلافهم في قبول الجزية منهم أو رفضها.
1) أما الشافعية والحنبلية: فلا يجيزون استرقاقهم بناء على أن الجزية لا تقبل منهم، بل تقبل الجزية فقط من أهل الكتاب والمجوس.
2) أما الحنفية: فيجيزون استرقاق عبدة الأوثان من العجم، أما العرب فلا يجيزون استرقاقهم، وذلك أن الحنفية يقبلون الجزية من عبدة الأوثان.
ولذا: فعند الشافعية الإمام مخير بين القتل والمن والفداء. أما الحنفية فيقولون؛ أن الإمام مخير بين القتل والإسترقاق [73].(4/242)
أما استرقاق أسرى العرب؛ فيجوز بالدليل، لأن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار كانت من سبايا بني المصطلق، فوقعت لثابت بن قيس، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، فقال الناس: (أصهار رسول الله ص)، فأرسلوا ما بأيديهم.
قالت عائشة: (فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق)، رواه أحمد واحتج به في رواية محمد بن الحكم وقال: (لا أذهب إلى قول عمر: "ليس على عربي ملك"، قد سبى النبي صلى الله عليه وسلم العربي في غير حديث، وأبو بكر وعلى حين سبى بني ناجية) [74].
وكذلك كان عند عائشة سبية من بني تميم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعتقيها) [75].
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن: (فاختاروا احدى الطائفتين، إما السبي وإما المال) [76].
وقد افتتح الصحابة أرض الشام وهم عرب، وكذلك أطراف بلاد العرب، ولم يفتشوا العربي من العجمي، والكتابي من الأمي - العربي - بل سووا بينهم، لم يروا عن أحد خلاف ذلك [77].
ملاحظات حول الأسرى:
1) من أسر أسيرا فلا يجوز له أن يتصرف به، إنما أمره إلى الأمير، والأمير في الجهاد الأفغاني هو أمير الحزب أو التنظيم. ولا يجوز لمن أسر أسيرا أن يقتله إلا إذا امتنع من السير معه، أو كان جريحا لا يستطيع السير.
2) جرحى الحرب من الكفار؛ يجوز قتلهم وإنهاؤهم.
3) الطفل المأسور - السبي - يكون على ثلاثة أقسام:
أن يسبى منفردا عن أبويه فيصير مسلما بالإجماع، لأن الدين إنما يثبت له تبعا، وقد انقطعت تبعيته لأبويه لانقطاعه عنهما وإخراجه عن دارهما ومسيره إلى دار الإسلام تبعا لسابيه المسلم، فكان تبعا له في دينه.
أن يسبى مع أحد أبويه فيحكم بإسلامه أيضا، وبه قال الأوزاعي، وقال أبو الخطاب: (يتبع أباه).
وقال القاضي: (فيه روايتان، أشهرها؛ أن يحكم بإسلامه، والثانية؛ أن يتبع أباه).
وقال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله: (يكون تابعا لأبيه في الكفر لأنه لم ينفرد عن أحد فلم يحكم بإسلامه كما لو سبي معهما).
وقال مالك: (إن سبي مع أبيه تبعه لأن الولد يتبع أباه كما يتبعه في النسب، وإن سبي مع أمه فهو مسلم لأنه لا يتبعها في النسب فكذلك في الدين) [78].
4) المرأة الشيوعية: تقتل لأنها مرتدة. ففي الصحيح: (من بدل دينه فاقتلوه). وكذلك تقتل لأنها تشارك في الحرب وفي الرأي وفي تهييج الكفار ضد المسلمين.
5) لا يجوز تشويه الأسير ولا قطع أذنية، ولا قلع عينيه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة، ولا يجوز قطع رأسه ولا قدميه.
[55] المغني مع الشرح الكبير 10/450
[56] بداية المجتهد 1/279
[57] نيل الأوطار 8/145 عن معاني الصحاح 2/281 المغني 10/200
[58] نيل الأوطار 8/140
[59] رواه البخاري نيل الأوطار 8/140
[60] نيل الأوطار (8/041)
[61] رواه أبو داود وسكت عليه هو والمنذري والحافظ في التلخيص ورجاله ثقات، نيل الأوطار 8/146.
[62] نيل الأوطار 8/146، والمغني 10/401
[63] المبسوط (01/921)
[64] المغني 10/401
[65] زاد المعاد 3/439
[66] رواه مسلم وأحمد
[67] نيل الأوطار 8/147
[68] فتح القدير لابن الهمام 5/309
[69] رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
[70] رواه النسائي وسنده قوي وأبو داود ورجاله ثقات أنظر زاد المعاد
[71] زاد المعاد 3/440
[72] الإفصاح 2/265
[73] المغني 10/400
[74] نيل الأوطار 8/150
[75] متفق عليه
[76] رواية البخاري وأحمد
[77] نيل الأوطار 8/153
[78] الشرح الكبير مع المغني 10/411
================
حكم العين - الجاسوس -
[الكاتب: عبد الله عزام]
يختلف حكم الجاسوس باختلاف دينه وحاله، فالجاسوس الكافر غير الذمي المعاهد وغير المسلم.
والجاسوس: هو الذي يطلع على أسرار الناس وعيوبهم وينقلها. والمقصود بالجاسوس هنا: هو الذي ينقل أسرار المسلمين إلى أعدائهم.
أما الجاسوس الكافر:
فيقتل عند جمهور الفقهاء.
والدليل في هذا الحديث الذي في الصحيحين عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلبوه واقتلوه، فقتله، فنفله سلبه) [79]. وفي رواية مسلم: (قال صلى الله عليه وسلم: من قتل الرجل?، قالوا: ابن الأكوع، قال: له سلبه أجمع) [80].
قال النووي: (فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر وهو باتفاق.. وأما المعاهد الذمي، فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك، وعند الشافعي خلاف في ذلك.. أما لو شرط عليه ذلك في عهده فينتقض اتفاقا).
أما الذمي:
فإن تجسس على المسلمين فقد اختلف الفقهاء في اعتبار تجسسه نقضا لعهده فيقتل أو يكون فيئا للمسلمين أم لا.
فقال الحنفية: لا يكون هذا نقضا إلا أن ينعى عليه في عقد الذمة أو عهد الأمان. جاء في شرح السير الكبير [5/0402]: (قال محمد بن الحسن: وكذلك لو فعل هذا - التجسس - ذمي فإنه يوجع عقوبة ويستودع السجن، ولا يكون هذا نقضا منه للعهد، وكذلك لو فعله مستأمن فينا إلا أنه يوجع عقوبة في جميع ذلك).(4/243)
فإن كان حيث طلب الأمان قال له المسلمون: (قد أمناك إن لم تكن عينا)، فتجاهل المسألة، فلا بأس بقتله، وإن رأى الإمام سلبه حتى يعتبر به غيره فلا بأس بذلك، وإن رأى أن يجعل فيئا فلا بأس به أيضا كغيره من الأسرى، إلا أن الأولى أن يقتله هنا ليعتبر غيره، فإن كان مكان الرجل امرأة فلا بأس بقتلها أيضا إلا أنه يكره.
والشيخ العاقل الذي لا قتال عنده بمنزلة المرأة أيضا، أما الصبي فلا يجعل فيئا ولا يقتل.
أما الجاسوس الذي ظاهره الإسلام:
فاختلفت آراء الفقهاء فيه.
قال الحنفية والشافعية والحنبلية: لا يقتل بل يعزر.
وقال مالك وابن القاسم وأشهب من المالكية: يجتهد في ذلك الإمام.
وقال عبد الله بن الماجشون من المالكية: (إذا كانت تلك عادته؛ قتل، لأنه جاسوس)، وقد قال مالك بقتل الجاسوس وهو صحيح لإحرازه بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض [81]. وقال الأوزاعي: (عاقبه الإمام عقوبة منكلة وغربه إلى الآفاق) [82].
جاء في السير الكبير: (قال محمد بن الحسن:إذا وجد المسلمون رجلا - ممن يدعي الإسلام - عينا للمشركين على المسلمين يكتب إليهم بعوراتهم، فأقر بذلك طوعا فإنه لا يقتل، ولكن الإمام يوجعه عقوبة).
والأصل في هذا الباب؛ حديث حاطب بن أبي بلتعة البدري الذي كتب إلى كفار مكة يخبرهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد غزوهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا حاطب?!)، فقال: (لا تعجل علي إني امرؤ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أقربائهم ولم يكن لي بمكة قرابة، فأحببت إذا فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا، والله ما فعلته شكا في ديني ولا رضى في الكفر بعد الإسلام). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه قد صدق). فقال عمر: (يا رسول الله دعني أجز عنق هذا المنافق؟)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [83].
جاء في شرح السنة [01/47]: قال الإمام: (في حديث حاطب دليل على حكم التأول استباحه المحظور خلاف حكم المعتمد لاستحلاله من غير تأويل وأن من تعاطى شيئا من المحظور ثم ادعى له تأويلا محتملا لا يقتل منه. وأن من تجسس لكفار ثم ادعى تأويلا وجهالة يتجافى عنه).
وقد استدل الجمهور بالآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}، فقد سمى الله حاطب بن أبي بلتعة مؤمنا... والمؤمن لا يجوز قتله ولا سفك دمه. وقد مال ابن القيم إلى رأي الإمام مالك، ونحن نرى رأي الإمام مالك رحمه الله.
قال ابن القيم [في زاد المعاد: 3/411]: (ثبت عنه أنه قتل جاسوسا، واستأذن عمر في قتل حاطب فقال: ومايدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
فاستدل به أيضا من يرى قتله كمالك وبعض أصحاب أحمد وغيرهم رحمهم الله، قالوا ؛ لأنه علل بعلة مانعة من قتله، لم يعلل بأخص من أهل بدر، لأن الحكم إذا علل بالأعم كان الأخص عديم التأثير، وهذا أقوى والله تعالى أعلم.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
[79] هذه رواية البخاري
[80] فتح الباري 6/168 باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير إسلام
[81] تفسير القرطبي (81/25)
[82] شرح السنة للبغوي 10/71
[83] حديث متفق عليه
================
الغلول من الغنيمة
[الكاتب: عبد الله عزام]
الغلول: هو السرقة من الغنيمة قبل قسمتها.
قال ابن قتيبة: (سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه أي يخفيه فيه).
حكم الغلول:
نقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر. وقليله وكثيره حرام.
وقال ابن المنذر: (أجمعوا على أن على الغال أن يعيد ما غل قبل القسمة).
وأما بعدها؛ فقال النووي والأوزاعي والليث ومالك: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، وأما الشافعي فيقول: (إن كان ملكه فليس عليه أن يتصدق به، وإن لم يملك فليس له أن يتصدق بمال غيره). ثم قال الشافعي: (والواجب أن يدفع إلى الإمام كالأموال الضائعة).
الترهيب من الغلول:
وردت أحاديث تقطع نياط القلوب وتفزع المرء المسلم أن يفرط في أموال الجهاد أو يتهاون فيها، ومن الأحاديث في الغلول:
1) روى البخاري [84] عن عبد الله بن عمر قال: (كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها).
والثقل - بفتحتين - هو العيال والمتاع، وكان كركرة هذا عبدا نوبيا أسود أهداه إليه هوزة بن علي الحنفي صاحب اليمامة.(4/244)
2) وفي الصحيحين عن أبي هريرة واللفظ للبخاري [85]: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة، إلا الأموال والثياب والمتاع فأهدى رجل من بني الضبيب يقال له رفاعة بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما يقال له "مدعم"، فوجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى حتى إذا كان بوادي القرى بينما مدعم يحط رحلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سهم غائر - لا يدري من رماه - فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه نارا فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي ص، فقال: (شراك من نار أو شراكان من نار).
والشراك: هو رباط الحذاء.
والأوصال تضطرب إذا قرأت مثل هذا الحديث، وتقض النفس عن مضجعها، فهذا الغلام شهيد إلا أنه غل شملة – عمامة - فدخل النار ليعذب على مصيبته أو هو في النار إلى أن يعفو الله عنه.
إذا كان الذي يغل – يسرق - من غنائم المجاهدين قبل القسمة تشتعل عليه الشملة نارا، فكيف الذي يأكل أموال الجهاد التي جمعت بالدرهم والدرهمين لليتامى والأرامل والأزواج المجاهدين اللاتي لا يجدن ما يقمن به أودهن وتعوزهم لقمة العيش؟ وماذ تكون عقوبة الذي يبذر أموال الجهاد هنا وهناك دون أن أن يرعى حق الله فيها؟ بل لا يوصل إلى المجاهدين من أموالهم وتعطى لمن يتقنون التمسح بالأبواب والتردد على الأعتاب.
نرجو الله أن يعافينا وأن يحمينا من التهاون بأموال المجاهدين وأن يغفر لنا، {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.
روى البخاري [86] عن أبي هريرة: (أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية: كخ... كخ... أما تعرف أنا لا تأكل الصدقة?).
كخ: كلمة زجر للصبي عما يريد فعله.
لقد أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حبة التمر من داخل فم حفيده الحسن لأنها من الصدقة.
الغال يفضح على رؤوس الأشهاد يوم القيامة:
فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره قال: لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة: يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رغاء).
حمحمة: صوت الفرس عند الطعام، وهو دون الصهيل.
أكل الطعام من الغنائم ليس غلولا:
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفع) [87].
والحديث له حكم الرفع للتصريح بكونه في زمن الرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى "لا نرفعه": أي لا ندخره، أولا نستأذن به الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الحسن: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحوا المدينة أو الحصن أكلوا من السويق والدقيق والسمن والعسل...) [88].
ولقد بلغني أن بعض المجاهدين الأفغان يرفض الأكل من طعام الغنيمة حتى يدفع ثمنه ومنهم قائد نازيان (سازنور).
وقد اتفق الفقهاء الأربعة على جواز الأكل من طعام الغنائم قبل القسمة.
قال ابن حجر [في فتح الباري: 6/552]: (والجمهور على جواز أخذ الغانمين من القوت وما يصلح به وكل طعام يعتاد أكله عموما، وكذلك علف الدواب سواء كان قبل القسمة أو بعدها بإذن الإمام وبغير إذنه. والجمهور على جواز الأخذ ولو لم تكن الضرورة ناجزة، واتفقوا على جواز ركوب دوابهم ولبس ثيابهم واستعمال سلاحهم ورد ذلك بعد انقضاء الحرب).
لا يشترط استئذان الأمير في أكل الطعام من الغنائم:
قال عياض: (أجمع العلماء على جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب على قدر حاجتهم، ولم يشترط أحد من العلماء استئذان الإمام إلا الزهري. وجمهور الفقهاء على أنه لا يجوز أخذ الطعام إلى دار الإسلام بل يجب رده، ولا يجوز بيع شيء منه في دار الحرب) [89].
ركوب الدواب ولبس الثياب واستعمال السلاح جائز بدون إذن:
ويجوز ركوب الدواب عند الحاجة، واستعمال الثياب قبل القسمة بدون استئذان، وشرطه الأوزاعي [90].
واشتراط الحاجة؛ استنباط من الحديث عن رويفع بن ثابت مرفوعا: (من كان يؤمن باللهلله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها حتى إذا أعجفها ردها إلى المغانم، وذكر في الثوب مثل ذلك) [91]. وقد حمل أبو داود الحديث على عدم الحاجة، أما مع الحاجة فلا بأس ولا حرج.
قال في الهداية: (لا بأس بأن يعلف العسكر في دار الحرب ويأكلوا مما وجدوه من طعام، لقوله عليه السلام في طعام خيبر: ؛كلوها واعلفوها ولا تحملوها)، ويستعملوا الحطب، ويدهنوا بالدهن، ويقاتلوا بمايجدون من السلاح. كل ذلك بلا قسمة إذا احتاج إليه. ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك شيئا، ولا يتمولونه.. وأما الثياب والمتاع فيكره الانتفاع بها قبل القسمة من غير حاجة) [92].
عدم جواز الإستئثار بالطعام وحرمان الآخرين:(4/245)
لا يجوز لبعض المجاهدين نهب الطعام وحرمان الآخرين، فقد روى أبو داود بإسناده عن أبي لبيد قال: (كنا مع عبدالرحمن بن سمرة بكابل فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها، فقام خطيبا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهب، فردوا ما أخذوا، فقسمه بينهم) [93].
ذبح الأنعام للأكل جائز في دار الحرب عند الأئمة الأربعة:
اتفق الفقهاء الأربعة على جواز ذبح البهائم في دار الحرب كالطعام والعلف، ولكن الشافعي قيده بالحاجة.
وأما الحنفية: فاختلفت الرواية عن محمد بن الحسن، فاشترط في "السير الصغير" الحاجة إلى التناول قياسا، ولم يشترطها في "السير الكبير" استحسانا.. وهو قول الثلاثة - أبي حنيفة، والصاحبين - ولذا يجوز للغني والفقير أن يتناول من الطعام واللحم والخبز والعسل والسكر والفاكهة اليابسة والرطبة والبصل والشعير والزيت والدهن، ولكن لا يجوز للتاجر ولا للأجير الذي دخل لخدمة المجاهدين بأجر، ولو أخذ أو أكل للأجر أثم ولكن لا ضمان عليه.
استعمال السلاح والخيل والدواء تشترط فيه الحاجة:
نص ابن الهمام الحنفي بأن السلاح والخيل والدواء تشترط فيه الحاجة؛ بأن انكسر سلاحه أو مات فرسه، أما إذا أراد أن يوفر سلاحه وفرسه باستعمال ذلك فلا يجوز، ولو فعل أثم ولا ضمان عليه.
الفاضل من الطعام حتى دخول دار الإسلام:
اختلف الفقهاء الأربعة في وجوب رد الطعام الباقي معهم من الغنائم عند دخول دار الإسلام فقالوا: لا بد من رد الكثير.
أما القليل: فقال مالك: (لا يرده)، وهو رواية عن أحمد وقول للشافعي. وقالت الحنفية: (يرده)، وهو رواية عن أحمد، وقول للشافعي لحديث: (أدوا الخيط والمخيط).
هدايا الأمراء غلول:
ومن الغلول هدايا الأمراء والحكام والعمال - الموظفين - ففي الحديث: (هدايا العمال غلول) [94].
وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغال من الغنيمة، وقد ورد فيه حديث ابن اللتيبية الذي رواه مسلم وفيه: (... لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء، وإن كانت بقرة فلها خوار، أو شاة تيعر).
حبس الكتب عن أصحابها من الغلول:
قال الزهري: (أياك وغلول الكتب)، فقيل له: وما غلول الكتب? قال: (حبسها عن أصحابها) [95].
[84] فتح الباري (6/781)
[85] كما في زاد المسلم (1/502)
[86] فتح الباري (6/481)
[87] رواه البخاري - فتح الباري 6/256 -
[88] القرطبي 4/258
[89] بذل المجهود 12/268
[90] بذل المجهود 12/286 وفتح الباري 6/265
[91] رواه أبو داود والطحاوي باسناد حسن - فتح الباري 6/256 -
[92] بذل المجهود 12/267
[93] بذل المجهود 12/269
[94] حديث حسن رواه أحمد والبيهقي
[95] تفسير القرطبي 4/262
===============
مبررات القتال ودوافعه
[الكاتب: عبد الله عزام]
عن أبى موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) [37].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رجلا قال يا رسول الله، رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا؟ فقال: (لا أجر له)، فأعادها ثلاثا، كل ذلك يقول: (لا أجر له) [38].
الآيات:
1) {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}.
2) {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون}.
3) {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}.
4) {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}.
5) {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
إن هذا الدين جاء إعلانا عاما للبشرية كافة يؤذن أن مجال عمله هو الإنسان - كل إنسان - في الأرض - كل الأرض - ومن ثم فإن الجهاد ضرورة حتمية تلازمه كلما أردنا أن نبلغه للناس أو ننشره في ربوع العالمين، لأنه سيقف في وجهه العقبات الكبرى التي يقوم عليها كيان الجاهلية.
سيقف في وجهه عقبات كأداء - سياسية واجتماعية واقتصادية وعرقية وجغرافية - ولا يمكن لدين جاء لينقذ البشرية أن يقف مكتوف اليدين يبلغ باللسان ويدع للجاهلية السلاح والسنان، لأن الجاهلية نفسها ستتحرك لتحمي كيانها وتجتث الإسلام من الجذور، {يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم}.
وسواء تحركت الجاهلية أم لم تتحرك؛ فلا بد للإسلام أن ينطلق بحركته الذاتية التي لا بد منها لقانون التدافع، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}.
إن قانون التدافع بين الحق والباطل؛ هو الذي يحفظ الحياة صالحة، وإلا أسنت الحياة وتعفنت، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}، يعني إن لم تحصل الموالاة بين المؤمنين، والجهاد، والهجرة في سبيل الله يعم الشرك الأرض.
وقانون التدافع: "هو التفسير الإسلامي للتاريخ والأحداث، إن الإسلام لم يأت ليكون دين الجزيرة العربية فحسب، أو ليكون دين العرب فقط، ثم بعد ذلك يقبع في أرجاء الجريزة يدافع عن حدودها ويحمي أطرافها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث للأحمر والأسود.(4/246)
إن الجهاد ضرورة لحماية الشعائر وحفظ الفرائض التعبدية وأماكن أدائها، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره...}.
فالتمكين في الأرض ضرورة حتمية وفرض لازم لحماية العبادة، {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة}.
لقد بلغت الجرأة بأعداء الله أن يعلن "أتاتورك" تحويل مسجد "آياصوفيا" إلى متحف، ويمنع الأذان بالعربية، ويمنع الصلاة أمام الناس، ويفرض السفور على كل امرأة تتعامل مع الدولة أو تدرس في مدارسها!
ولقد وصل الصلف بعبد الحكيم عامر؛ أن يوزع على خطباء المساجد أن يمتنعوا عن الكلام على فرعون سيدنا موسى!
وبلغ الغرور بالنصيري؛ أن يعلن حكم الإعدام عقوبة على من ثبت أنه من الإخوان المسلمين!
ووصل الإستهتار والسخرية بالقيم عند أحدهم أن يؤسس نوادي للعراة يسميها "صفر في الأخلاق"!
ويعلن جمال سالم؛ هزأه بالقرآن الكريم، فيطلب من الأستاذ الهضيبي؛ أن يقرأ الفاتحة معكوسة.
ويصرح حمزة البسيوني قائلا لمن استغاثوا بالله أثناء التعذيب: (لو جاء الله لوضعته في الزنزانة)!
إنها مهزلة مضحكة قاتلة أن يقول قائل: "إن وظيفة الإسلام أن يقف واعظا لأمثال هؤلاء ينصحهم باللسان، ولا شأن له بالسنان، لأنه لا إكراه في الدين"!
لا بد للإسلام من البيان باللسان وإزالة الحواجز أمام دعوته بالسنان.
نعم لا إكراه في الدين بعد تحطيم العقبات التي تحول دون وصول الإسلام إلى الناس، وتمنع دخول الناس في هذا الدين، وتعبدهم لغير رب العلمين، إن الحق يأبى الحدود الجغرافية ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافيا، فالحق يتحدى العقول البشرية النزيهة ويقول لها: "ما بالكم تقولون إن القضية الفلانية حق في هذا الجانب من الجبل أو النهر، وهي باطل إذا تعدت هذا الشاطئ إلى الشاطئ الآخر".
إن وظيفة الجهاد الإسلامي تتلخص في ثلاث نقاط:
1) نشر الدعوة الإسلامية - وهذه أهمها وأساسها -
2) حماية دار الإسلام التي يقيمها، لتكون منطلقا لدعوته ومحضنا آمنا لفكرته.
3) إنقاذ المستضعفين في الأرض، {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا}.
إن قيمة الأرض ذاتها ليس لها قيمة ولا وزن في نظر الإسلام إلا إذا ساد فيها منهج الله، وحكمتها شريعته، وهيمن عليها دينه.
يقول الشهيد سيد: (إن الأرض تعتبر ذات قيمة في المنهج الإسلامي عندما تكون محضنا للعقيدة وحقلا للمنهج ودارا للإسلام ومنطلقا لتحرير الإنسان، وحقيقة أن حماية دار الإسلام؛ حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج، ولكنها ليست الهدف النهائي، وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي، إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها، ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها، وإلى النوع الإنساني بجملته، فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين، والأرض هي مجاله الكبير.
إن مكة - وهي التي تضم البيت العتيق ويكن حبها في قلبه صلى الله عليه وسلم - تترك إذا أقفرت من أن تنبت خضرة أو تعطي ثمرة، إن الجهاد في الإسلام لا يمكن أن يكون دفاعيا - عن بقعة أرض أو عن عرق أو قومية - إنه دفاع عن الدعوة والعقيدة التي يجب أن تعم الأرض كلها، وعن الدين الذي يريد الله أن يظهره على الدين كله، (إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء، فالإسلام ليس نحلة قوم ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله ونظام عالم، ومن حقه أن يتحرك لتحطيم الحواجز بين الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية الإنسان في الإختيار.
إن الإسلام دين واقعي يواجه فساد التصور والمعتقدات بالآيات البينات، ويقابل قوة الجاهلية والسلطان بالقوة والحركة والسنان).
[37] أخرجه الخمسة.
[38] رواه أبو داود.
===============
انقسام العالم إلى دار إسلام ودار حرب
اعلم أن أساس تقسيم العالم إلى دارين - دار إسلام ودار كفر - هو عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، عموما مكانيا لجميع أهل الأرض، وعموما زمنيا من وقت بعثته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ومع عموم بعثته صلى الله عليه وسلم انقسم الخلق إلى مؤمن به وكافر.
ثم فرض الله تعالى على المؤمنين الهجرة من بين الكافرين، وقيض الله لهم أنصارا بالمدينة، فكانت هي دار الهجرة ومجتمع المهاجرين، وبها أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام... ثم ظلت فريضة الهجرة على كل مسلم يقيم بين الكافرين، فتميزت الديار بذلك إلى دار الإسلام - وهي مجتمع المسلمين وموضع سلطانهم وحكمهم - ودار الكفر - وهي مجتمع الكافرين وموضع سلطانهم وحكمهم - ثم فرض الله على المسلمين قتال الكفار إلى قيام الساعة، فسميت دارهم أيضا "دار الحرب".
دار الإسلام؛ هي البلاد الخاضعة لسلطان المسلمين وحكمهم، ودار الكفر؛ هي البلاد الخاضعة لسلطان الكافرين وحكمهم.
وإليك أقوال العلماء في هذا:(4/247)
قال ابن القيم عليه رحمة الله: (قال الجمهور؛ دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم تجري عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جدا ولم تصر دار إسلام بفتح مكة) [18].
وقال الإمام السرخسي رحمه الله: (عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ إنما تصير دارهم دار حرب بثلاث شرائط.
أحدها؛ أن تكون متاخمة لدار الشرك ليس بينها وبين أرض الحرب دار المسلمين.
والثاني؛ ألا يبقى فيها مسلم آمن بإيمانه ولا ذمي آمن بأمانه.
والثالث؛ أن يظهروا أحكام الشرك فيها.
وعن أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى؛ إذا أظهروا أحكام الشرك فيها فقد صارت دارهم دار حرب، لأن البقعة إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة، وكل موضع ظهر فيه حكم الشرك؛ فالقوة في ذلك الموضع للمشركين) [19].
وانتقد ابن قدامة الحنبلي شروط أبي حنيفة، فقال رحمه الله - بعد ذكر شروط أبي حنيفة-: (ولنا أنها دار كفار فيها أحكامهم، فكانت دار حرب) [20].
فجعل ابن قدامة مناط الحكم على الدار؛ نوع الأحكام الجارية فيها، وللإمام السرخسي مثله في كتاب "السير الكبير" [21]، ولأبي يعلى الحنبلي كذلك في كتاب "المعتمد في أصول الدين" [22].
وقد تضمنت أقوال العلماء ذكر سببين للحكم على الدار، الأول؛ القوة والغلبة والثاني؛ نوع الأحكام المطبقة فيها، ولا تناقض بين السببين، لأن الغلبة والأحكام؛ قرينان، فلا يكون المتغلب متغلبا إلا إذا كان هو صاحب الأمر والنهي [23].
قال عبد القادر عودة رحمه الله: (تعتبر دار للإسلام كل البلاد التي فيها سلطان للمسلمين سواء كان المسلمون فيها أغلبية أو أقلية... وكل الأماكن التي يسكنها مسلمون يستطيعون أن يظهروا فيها أحكام الإسلام ولا يمنعهم من ذلك مانع، ويدخل في دار الإسلام كل ما يتبعها من جبال وصحار وانهار وبحيرات وأراض وجزر وما فوق هذه جميعا من طبقات الجو، مهما ارتفعت، ويعتبر في حكم دار الإسلام كل مكان في دار الحرب يعسكر فيه الجيش الإسلامي) [24].
[18] أحكام أهل الذمة: 01/366.
[19] المبسوط: 10/144.
[20] المغني: 10/95.
[21] 5/2137.
[22] ص 276.
[23] راجع الجامع في طلب العلم الشريف: 2/638، وما بعدها.
[24] التشريع الجنائي: 1/295.
===============
أصناف الكفار باعتبار علاقتهم بدار الإسلام
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (الكفار؛ إما أهل حرب وإما أهل عهد، وأهل العهد ثلاثة أصناف؛ أهل ذمة وأهل هدنة وأهل أمان، وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابا... ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل، وكذلك لفظ الصلح...).
إلى أن قال: (... ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء "أهل الذمة"؛ عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله، بخلاف أهل الهدنة؛ فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم - سواء كان الصلح على مال أو غير مال - لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة.
وأما المستأمن؛ فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام؛ رسل وتجار ومستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن فأن شاءوا دخلوا فيه وإن شاءوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها، وحكم هؤلاء أن لا يهاجروا ولا يقتلوا ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن؛ فإن دخل فيه فذاك، وإن أحب اللحاق بمأمنه؛ ألحق به ولم يعرض له قبل وصوله إليه، فإذا وصل مأمنه عاد حربيا كما كان) [25].
قال صاحب "الجامع في طلب العلم الشريف": (وأظن أن كلمة "ألا يهاجروا فيها" تصحيف وتحريف، ولعلها "ألا يجاهدوا").
[25] أحكام أهل الذمة: 2/475 - 476.
===============
أحكام دخول الحربي دار الإسلام
جاء في "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير"، كتاب "الحاء والراء": (ودار الحرب؛ بلاد الكفر الذين لا صلح لهم مع المسلمين) اهـ.
فالحربي؛ كل كافر، ذكر، بالغ، ليس بينه وبين المسلمين عهد.
قال عبد القادر عودة رحمه الله عن الحربي: (هو أصلا ينتمي لدولة في حالة حرب مع الدولة الإسلامية، وهو أيضا من كان معصوما بأمان أو عهد فانتهى أمانه أو عهده، ومن المتفق عليه أن الحربي مهدر الدم، فإذا قتله شخص أو جرحه؛ فقد قتل أو جرح شخصا مباح القتل والجرح، ولا عقاب على فعل مباح).
ثم قال: (أما إذا قتل في غير ميدان الحرب بغير مقتضى، كأن ضبط في دار الإسلام، أو استؤسر فقتله من ضبطه أو أسره، أو قتله غيرهما؛ فإن القاتل لا يؤاخذ باعتباره قاتلا، لأن الحربي مباح الدم، فيبقى دمه مباحا بعد الضبط أو الأسر، وإنما المسؤولية تأتي من كون القاتل اعتدى على السلطة العامة التي يوكل إليها من ضبط أو أسر من الحربيين) [26].
تنبيه:(4/248)
قوله عن الحربي "هو من ينتمي لدولة في حالة حرب مع الدولة الإسلامية"، هذا ليس شرطا في اعتباره حربيا لأنه - أي الحربي - صار حربيا لعلة كفره وامتناعه من التذمم للمسلمين، وعلى هذا لا يشترط أن تكون الحرب قائمة بين الحربيين والمسلمين.
فقد قال عبد القادر بن عبد العزيز حفظه الله عن دار الحرب: (وهي التي ليس بينها وبين دار الإسلام صلح أو هدنة، ولا يشترط قيام الحرب فعليا لصحة هذه التسمية، بل يكفي عدم وجود صلح كما ذكرنا، بما يعني أنه يجوز للمسلمين قتال أهل هذه الديار وقتما شاءوا، ومن هنا سميت دار حرب) [27].
وقال ابن تيمية عليه رحمة الله: (إذا أسر الرجل منهم - أي من الكفار - في القتال أو غير القتال، مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة، فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح؛ من قتله أو استعباده أو المن عليه أو مفاداته بمال أو نفس، عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة) [28].
[26] التشريع الجنائي: 1/533 - 534.
[27] الجامع في طلب العلم الشريف: 2/645.
[28] المجموع: 28/355.
==============
حكم دماء الكفار وذكر شروط الجهاد
[الكاتب: أحمد بن حمود الخالدي]
1) فإن الأصل أن دمّ الآدمي معصوم وكان دم الكافر في أول الإسلام معصوماً بالعصمة الأصلية وبمنع الله المؤمنين من قتله قال تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم}.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لم أُؤْمر بالقتل بعد) وكدم القبطي الذي قتله موسى عليه السلام ودم الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة في زماننا فإن موسى عليه السلام عدّ ذلك ذنباً في الدنيا والآخرة ولأن بلوغ الدعوة استتابة عامة من كل كفر، وإنا لا نجيز قتل كافر حتى نستتيبه فإن قتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وهذا معنى الإستتابة.
فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقاً بدعوتهم إِذْ لاعذاب إلا على من بلغته الرسالة لحديث بريدة الطويل الذي أخرجه مسلم بعدما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بغزو الكفار فقال: (فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - إلى أن قال - ثم ادعهم إلى الإسلام) ونحن إذا لقينا عدونا دعوناه إلى الإسلام فإن أبى فالجزية فإن أبى استعنا بالله وقاتلناه لحديث بريدة المتقدم.
وأما إذا إستفاضت الدعوة وعلم بها القاصي والداني وتحققنا ذلك أخذناهم على كل حال فقد: (أغار النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارّون فقتل مقاتلتهم، وسبى نساءهم وذراريهم) أخرجاه من حديث ابن عمر.
وهذا لا يكون إلا بعد المفاصلة التامة بين الحزبين والتميز بين الدارين دار الكفر ودار الإسلام وإلا امتنع قتالهم لقوله تعالى: {إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله...}.
وقال ابن القيم في الزاد أثناء كلامه على مراتب الجهاد: (لايتم الجهاد إلا بالهجرة ولاالجهاد والهجرة إلا بالإيمان) وأما اشتراط المفاصلة فلمنع الله المؤمنين من قتال أهل مكة لأنّ ثمة مانعٌ يمنع من القتال وهو وجود رجال ونساء من أهل الإيمان بين أظهر المشركين وليسوا متميزين بمحلة أو مكان لايمكن أن ينالهم أذى، فلذا قال تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم - إلى أن قال - لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً} فعلل بعدم التزايل الذي هو معنى التميز والمفاصلة فتنبه لهذا الأصل فقد ضل بسبب عدم اعتباره خلق كثير في مسألة قتال الكفار وجهادهم.
وأيضاً قوله تعالى: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} فبين أن من آمن لم يمكنه الجهاد إلا بعد الهجرة وأيضاً تنبه لقوله {معكم} بعدما هاجر فرتب الله الجهاد على الهجرة ترتيباً محكماً وأيضاً قوله تعالى: {يوم التقى الجمعان} وقوله: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} والآيات في ذلك أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر وهي واضحة لمن تأملها جداً [34].
[34] الصارم المسلول (104)، والصفدية (317-323)، الصارم المسلول (21 3،223،325).، راجع شرح (باب ما جاء في:الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله) من كتاب التوحيد، مجموع الفتاوى (9/280،245، 252، 253)، زاد المعاد لابن القيم (3/50،71، 108، 160 - 3/11)، الدرر السنية (8/ 240، 241 - 9 /253).
==============
في بيان أقسام الدور وأحكام أهلها
[الكاتب: أحمد بن حمود الخالدي]
إذاً فالدار تنقسم إلى دارين لاثالث لهما:
أ) دار كفر: كحال مكة قبل البعثة وبعدها قال تعالى: {القرية الظالم أهلها}وقوله تعالى{: سأريكم دار الفاسقين}
ب) ودار الإسلام: كالمدينة بعد الهجرة فإن الهجرة كانت واجبة من مكة إلى المدينة قال تعالى: {والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم}حتى فتحت مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاهجرة بعد الفتح) متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(4/249)
فدار الإسلام هي التي تعلوها أحكام الإسلام وإن كان جمهور أهلها كفاراً كحال المدينة في أول الأمر قبل نبذ العهود وإجلاء اليهود، وكذا اليمن ونجران والبحرين والشام في زمن عمر رضي الله عنه.
ودار الكفر هي التي تعلوها أحكام الكفار وإن كان جمهور أهلها مسلمين كدار العبيديين الذين ملكوا مصر والشام والمغرب.
فمتى كانت الشوكة للكفار جرت أحكامهم وعلت ومتى كانت الشوكة للمسلمين علت أحكامهم لامحالة فالحكم للغالب لا المغلوب وأحوال البلاد كأحوال العباد تارة مؤمنة وتارة كافرة وذلك لأن صفتها عارضة ليست لازمة. والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
وأما إذا طرأ على الولاة الكفر وهم مع ذلك لا يجرون أحكام الكفر في البلاد ولا يمنعون من إظهار شعائر الإسلام ولأهل الدين حوزة واجتماع على الحق وهم في ذلك مظهرون لدينهم ولا أحد يمنعهم من ذلك فالبلد حينئذٍ بلد إسلام لعدم إجراء أحكام الكفر عليها ولكن يجب إزالة هذا الحاكم المرتد وتنصيب غيره إن أمكن ذلك بلا مفسدة وفتنة.
2) وتنقسم دار الكفر إلى: كفار حربين أو كفار معاهدين.
فالحربيون: كأهل مكة قبل صلح الحديبية.
والمعاهدون: كأهل مكة بعد الصلح.
وأما أهل الذمة؛ فدارهم دار إسلام لأنهم تحت حكم المسلمين وبذمتهم آمنين فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من اليهود والنصارى لقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون}، وأخذها (من مجوس هجر) أخرجه البخاري من حديث عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه [35].
[35] الدرر السنية (9/ 248،257, 428)، (8/،261- 263, 491، 497)، وإجماع أهل السنة والجماعة جمع الزير (93)، ومجموع الفتاوى (18/281- 284)، (27/45،53، 143)، (35/139)، أحكام أهل الذمة لابن القيم (ج/269) وراجع تفسير السعدي سورة الحشر آية (9)، وزاد العاد (3/108).
===============
أسباب النزول المتعلقة بسورة الممتحنة
[الكاتب: وسيم فتح الله]
إن سورة الممتحنة من السور التي وافقت حركة المجتمع المسلم في تنزلاتها في مرحلةٍ حرجة من مراحل صراع الدولة الإسلامية مع رموز الكفر آنذاك، ولعمر الحق إننا اليوم بحاجة إلى تدبر وتمعن هذه السورة وكأنها تتنزل علينا اليوم وذلك لشدة ملابستها للواقع المعاصر، ولسوف يبدو عياناً لكل ذي بصيرة أن أسباب النزول التي سنتعرض لها في هذا الموضع لا تختلف عن مفردات واقع الصراع الذي تخوضه الأمة اليوم إلا في أسماء الأشخاص اللهم إلا ما كان له تعلق بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم أو بأحداث دينية لا تتكرر بطبيعتها وإن كانت تتكرر نظائرها وأعني بطبيعة الحال الهجرة الأولى من مكة إلى المدينة فقد ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية وإذا استُنفرتم فانفروا" [11]، فهذه الهجرة المخصوصة قد مضت لأهلها، ولكن بقي لها نظير في الهجرة المعنوية من الكفر إلى الإسلام ومن المعصية إلى الطاعة وأخرى حسية في هجرة دار الكفر إلى دار الإسلام وفي النفير لنصرة المسلمين كما دل عليه توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لمجاشع بن مسعود السلّمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى اله عليه وسلم أبايعه على الهجرة فقال: "إن الهجرة قد مضت لأهلها ولكن على الإسلام والجهاد والخير" [12]. والشاهد على كل حال هو ضرورة عدم الوقوف ببصائرنا عند رسوم وشخوص أصحاب مناسبات نزول الآي، بل نتجاوز ذلك إلى صفات من نزلت فيهم ومناسبات هذه التنزلات حتى تتيسر لنا (معرفة حكمة الله تعالى على التعيين فيما شرعه بالتنزيل) [13]، فآي القرآن التي أنزلها الله تعالى وبيَّن فيها شرائعه إنما تدور حول مصالح العباد جلباً ومفاسدها درءً، ولا يمكن أن يتسنى لنا فهم ذلك فهماً صحيحاً كاملاً إلا بالتدبر في آحاد الحوادث التي تتعامل معها آيات التنزيل ومفردات التشريع الإسلامي العظيم، ولقد اقتصرت فيما يلي على الصحيح مما ورد من أسباب ومناسبات نزول آيات هذه السورة العظيمة، فلنتأمل.
أولاً: سبب نزول فاتحة السورة:(4/250)
تقدم معنا أن قريشاً نقضت عهد النبي صلى الله عليه وسلم بمظاهرتها على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وقد بيَّت النبي صلى الله عليه وسلم المسير لفتح مكة وعمى على ذلك وتستر عليه، وفي الصحيح أن علياً رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها، قال: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة قلنا لها أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتُخرجِنّ الكتاب أو لنلقيَنّ الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها.فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يُخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب، ما هذا؟" قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، يقول: كنت حليفاً ولم أكن من نفسها، وكان معك من المهاجرين من لهم بها قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدقكم" فقال عمر: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق" فقال: "إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً قال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم" فأنزل الله السورة: "يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق " إلى قوله " فقد ضل سواء السبيل" [14]، وهذا الحديث والآية من أعظم الأصول المقررة لعقيدة الولاء والبراء كما سنبينه لاحقاً إن شاء الله، وسأرجئ التعليق على الحديث إلى موضعه من الكلام على الآية إن شاء الله.
ثانياً: سبب نزول الآية الثامنة:
وهي قوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين" [15]، فلقد أورد الإمام البخاري في صحيحه حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أتتني أمي راغبةً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصِلها؟ قال: نعم" قال ابن عيينة - وهو شيخ شيخ البخاري في سند هذا الحديث - فأنزل الله تعالى فيها: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين" [16]، [17] قلت: وهذا التصريح بسببية النزول غير مرفوع ولا موقوف، ولكن يشهد لصحته أن أسماء رضي الله عنها ذكرت هذه القصة في فترة العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش - وهذا معنى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في الحديث - كما جاء صريحاً في رواية مسلم قالت: "قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: "يا رسول الله قدمت علي أمي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال نعم صلي أمك" [18]، فهذه الرواية وإن لم تذكر سببية هذه القصة في نزول الآية إلا أنها صريحة في ذكر زمان القصة وهو الزمان الذي تعلقت به الأحداث والمناسبات التي نزلت السورة بسببها، كما تفيد هذه الرواية في التصريح بكون أم أسماء مشركة، والحقيقة إن الإمام القرطبي قد ذكر في تفسيره هذا الخبر جازماً عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر الصديق طلق امرأته قُتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر الصديق قرطاً وأشياء فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين" [19]، فالراجح والله أعلم أن هذا سبب نزول صحيح، وإن تحرير هذه المسألة مهم كما سيتبين معنا لاحقاً إن شاء الله.
ثالثاً: سبب نزول الآية العاشرة:(4/251)
وهي قوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهن" [20]، وقد تقدم معنا أن من بنود صلح الحديبية الاتفاق على أن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قريش بغير إذن وليه فإن على النبي صلى الله عليه وسلم رده إلى قريش، وكان هذا عاماً في الرجال والنساء على حدٍ سواء، فعن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذٍ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد يومئذٍ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً، وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ - وهي عاتق - فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: "إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن" إلى قوله: "ولا هم يحلون لهن" [21]، [22] وفي رواية أخرى مطولة من حديث عروة أيضاً وفيه: "ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: "يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهن" حتى بلغ " بِعِصَم الكوافر" فطلق عمر يومئذٍ امرأتين كانتا له في الشرك.." [23]، قلت: تأمل الفاء التي تفيد التعقيب والفورية وهكذا كان وقع كلام الله عز وجل في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمرون فينفذون بلا تردد ولا تلكؤ فرضي الله عنهم أجمعين.
وعن عروة قال: أخبرتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: "يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن" إلى " غفور رحيم"، قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بايعتك" كلاماً يكلمها به، والله ما مست يده يدَ امرأةٍ قط في المبايعة وما بايعهن إلا بقوله" [24]
ونقل القرطبي رحمه الله ثلاثة أقوال في الذي كان صلى الله عليه وسلم يمتحنهن به وخلاصة هذه الأقوال ما يلي:
1) أنه كان يستحلفها ما خرجت لبغض زوج، ولا رغبةً من أرضٍ إلى أرض، ولا طلباً لدنيا، ولا عشقاً لرجل من المسلمين، فإذا حلفت على ذلك قبل منها، وهذا منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2) أنه كان يمتحنها بشهادة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهو أيضاً منقول عن ابن عباس.
3) أنه كان يمتحنها بالآية التي وردت بعد آية الامتحان وهي آية المبايعة وهذا ما صرحت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الحديث المتقدم. [25]
قلت: ولا تعارض بين هذه الأقوال الثلاث وإن كان القول الأخير من القوة بمكان سنداً ومتناً، ومدار الامتحان كله على تحرير النية والعمل فتكون نية الهجرة خالصة لله تعالى وتكون نفس الهجرة براءة من الكفر وموالاة لأهل الإيمان موالاةً صرفة خالصة لا تشوبها شائبة دنيا ولا هوى نفس ولا رغبة دنيا، وهو المطلوب.
رابعاً: سبب نزول الآية الحادية عشرة:
تقدم معنا أن عمر رضي الله عنه طلق اثنتين من نسائه كنَّ على الشرك فورما نزل قوله تعالى: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر" [26]، قال عروة: أخبرتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن، وبلغنا أنه لما أنزل الله تعالى أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهم وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعصم الكوافر أن عمر طلق امرأتين قريبة بنت أبي أمية وابنة جرول الخزاعي، فتزوج قريبةَ معاويةُ بن أبي سفيان وتزوج الأخرى أبوجهم، فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم أنزل الله تعالى: "وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم " [27] والعقَب ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار، فأمر أن يُعطى مَن ذهب له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللاتي هاجرن" [28]، قلت: أي لما أنكر الكفار حق المسلمين في رد صداق نسائهم اللاتي يهاجرن إلى الكفار إليهم أمر الله تعالى المسلمين أن يعوضوا من ذهب ماله بهذا الوجه بإعطائه من الصداق الواجب رده إلى الكفار الذين هاجرت نسائهم منهم إلى المسلمين وذلك على وجه العقوبة، والشاهد هنا أن موجبات الولاء والبراء قد تترتب عليها تبعات مادية أو غير مادية تشق على المسلمين فلا يكون ذلك مانعاً من التزام أمر الله بهجر من يجب هجره وتولي من يجب توليه فإن الله هو الغني بذاته والكل مفتقرٌ إليه، ومن خشي العيلة جراء التزام أمر الله فإن الله تعالى متكفلٌ له برزقه وحاجته.
خامساً: سبب نزول الآية الثانية عشرة:(4/252)
تقدم معنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا امتحن المهاجرة إليه فأقرت بالشرط بايعها، وجاءت أحاديث أخرى تبين مضمون هذه البيعة وأنه ما ورد في هذه الآية من سورة الممتحنة، فعن أم عطية رضي الله عنها قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا: "أن لا يشركن بالله شيئاً" [29] ونهانا عن النياحة.."الحديث [30]، وكانت هذه الآية تعرف بآية بيعة النساء، وكان صلوات الله وسلامه عليه يعظ النساء ويأخذ عليهن هذه البيعة ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم فكأني أنظر إليه حين يُجلِّس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساءَ مع بلال فقال: "يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " حتى فرغ من الآية كلها ثم قال حين فرغ: "أنتن على ذلك" وقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، لا يدري الحسن [31] من هي، قال: "فتصدقن" وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال" [32].
هذا ما تيسر عرضه من أسباب ومناسبات نزول آي سورة الممتحنة، ولسوف نرى فيما يلي من مفردات البحث أهمية تدبر هذه الآيات في سياق الفهم التطبيقي الذي تنزلت فيه، وآمل أن ييسر الله تعالى عرض ذلك وبيانه فيما بقي من البحث.
[11] صحيح مسلم - كتاب الإمارة - حديث 1864
[12] صحيح مسلم - كتاب الإمارة - حديث 1863
[13] مناهل العرفان - 107/1
[14] صحيح البخاري - كتاب المغازي - حديث 4274
[15] سورة الممتحنة - 8
[16] سورة الممتحنة - 8
[17] صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب صلة الوالد المشرك - حديث 5978 وما بين معقوفتين من كلامي
[18] صحيح مسلم - كتاب الزكاة - حديث 1004
[19] الجامع لأحكام القرآن - 54/18، ونسب الإمام القرطبي الخبر إلى الماوردي وإلى أبو داود الطيالسي في مسنده
[20] سورة الممتحنة - 10
[21] سورة الممتحنة - 10
[22] صحيح البخاري - كتاب الشروط - باب ما يجوز من الشروط في الإسلام - حديث 2711
[23] صحيح البخاري - كتاب الشروط - حديث 2731
[24] صحيح البخاري كتاب الشروط - حديث 2713
[25] الجامع لأحكام القرآن - 56-57/18
[26] سورة الممتحنة - 10
[27] سورة الممتحنة - 11
[28] صحيح البخاري - كتاب الشروط - حديث 2733
[29] سورة الممتحنة - 12
[30] صحيح البخاري - كتاب التفسير - حديث 4892
[31] الحسن بن مسلم راوي الحديث
[32] صحيح البخاري - كتاب التفسير - حديث 4895
==============
وجوب تميُّز وتمحيص أفراد المجتمع المسلم
[الكاتب: وسيم فتح الله]
يمكننا القول أن مهمة الآيات السابقة من السورة تتمثل في تمايز الجماعتين المسلمة والكافرة ورسم حدود العلاقات بينهما، ولكن هل يكفي لقوة الصف المسلم أن يتميز عما هو في الخارج من جماعات أخرى، أم لا بد من تمحيص وتمييز أفراد الصف المسلم للتثبت من تحققهم بالحد الأدنى اللازم لثبوت الولاية الإيمانية لهم؟ لقد قدمت لنا هذه السورة نموذجين من نماذج هذا التمييز لأفراد المجتمع المسلم نعرضهما فيما يلي:
أولاً: الامتحان والاختبار:
إن التمحيص والامتحان أمرٌ ملازمٌ للتكليف، ولقد تقرر هذا المبدأ في هذه السورة المباركة من خلال آية الامتحان؛ فالتكليف بالهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً وإلى دار الإسلام تبعاً لا بد له من ممحِّص يكشف مدى التجريد في نية المهاجر، وهذا ما تجده جلياً في قوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمناتٍ فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حِلٌ لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعِصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم" [93]، قال الإمام القرطبي رحمه الله: "لما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبيَّن أحكام مهاجرة النساء" [94]، والحقيقة إن هذه الآية فيها الكثير من الدلالات المهمة المتعلقة بمسألة الولاء والبراء حري بنا أن نقف عندها، ولن أخوض كثيراً في التفاصيل الفقهية المتعلقة بالنكاح لأن هذا مبسوط في موضعه ومظانه من كتب التفسير والفقه.
لقد تقدم معنا في مبحث أسباب النزول أن الله تعالى أنزل الآية آمراً النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بامتحان المؤمنات الهاجرات وأن امتحانهن كان بآية البيعة على قول أمنا عائشة رضي الله عنها - ولا معارضة في ذلك لباقي الأقوال - وإن التدبر في هذه الآية يُلجئ المرء إلى تساؤل مهم وهو: لماذا كان الامتحان مختصاً بالنساء دون الرجال؟(4/253)
نقل الحافظ ابن حجر عن الإمام الطبري وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المرأة من المشركين كانت إذا غضبت على زوجها قالت: والله لأهاجرن إلى محمد، فنزلت (فامتحنوهن) [95]، ذلك أن الرجال كانوا إذا هاجروا ترتب على هجرتهم زمرة من التكاليف كالجهاد والنصرة التي تعتبر بحد ذاتها ممحصاً وامتحاناً، فلما كانت النساء لا يترتب عليهن شيء من ذلك كان لا بد من تمحيص آخر يوزاي تمحيص الرجال بالجهاد والنصرة [96]، ولهذا شاهد من السنة النبوية فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يارسول الله على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة" [97] والشاهد أن الشريعة جعلت على النساء تكاليف معينة موازية لتكاليف أخرى فرضت على الرجال لا تناسب النساء، فكان الامتحان هنا بهذه الآية إما باستحلاف النساء أو بأخذ البيعة عليهن كما تقدم معنا في معرض الحديث عن سبب نزول الآية. وهذا الامتحان امتحانٌ بأمرٍ ظاهر ينعقد به عقد الإيمان المجمل للمهاجرة الجديدة فتستحق به ما يستحقه كل مسلم من موالاة ونصرة وأخوة، ويؤخذ من هذا أن كل من ظهرت منه علامات الإسلام والإيمان الظاهرة فقد وجبت له الولاية الإيمانية العامة والنصرة الإيمانية العامة لمجرد كونه مسلماً.
ولما كان إيمان المؤمنة وهجرتها يترتب عليه فسخ نكاحها من زوجها الكافر الذي هجرته، كان من تمام التشريع الالتفات إلى الأنكحة المستصحبة في المجتمع المسلم الجديد وتطهيرها مما لا يليق بمقام التبرؤ من الكفر كل الكفر، فجاء الأمر بفك عصمة المسلمين لزوجاتهم الكافرات كما ذكره المفسرون، وهنا مسألة لطيفة جداً لعلها من الحِكم الخفية وراء الأمر بامتحان المؤمنات المهاجرات، فهذه المؤمنة المهاجرة لو لم يؤمر بامتحانها لما شعر بها المسلمون ولربما عزَّ عليها أن تعرض نفسها للزواج لما في ذلك من شبهة ابتغاء عرض الدنيا وهي التي هاجرت للتو من دار الكفر لدار الإسلام ابتغاء ما عند الله عز وجل ناهيك عن عزة نفسها التي لا تريد خدشها تارة بترك زوجها الأول وتارة أخرى بالبحث عن زوج جديد، فكان في الأمر بامتحان هؤلاء النسوة نوع تنبيه للمسلمين على أن هذه المهاجرة الجديدة بحاجة إلى من يحصنها ويعصمها بالزواج منها وهذا يكاد يكون صريحاً في قوله تعالى: "ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن" [98]، وهذا الشرط بإعطاء المهر والصداق فيه إشارة إلى عدم استغلال وضعهن فيبخسهن مهورهن، فإذا كان الأمر كذلك من محاولة التعريض بنكاح هؤلاء النسوة كان من المناسب جداً أن يأتي الأمر بفك عصمة الزوجات الكافرات تكميلاً للبراء من الكفر من جهة، وإبراءً لذمم المسلمين المشغولة بهؤلاء الزوجات لتتسع للزوجات الجدد، إنها عملية تطهير للمجتمع المسلم من الصنف الكافر ليحل محله الصنف المؤمن، لا سيما في بيوت وأسر المسلمين التي ستتحول إلى مصانع الرجال المؤمنين، ثم جاءت الأوامر والتوجيهات بتصفية النواحي المادية المتعلقة بفسخ الأنكحة القديمة وإنشاء هذه الأنكحة الجديدة حتى لا تقف الأمور المادية عقبة أمام سيل التطهير هذا، فكان الحل الحاسم والأمر الجازم في قوله تعالى: "واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم. وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون" [99]، وكأن الآية لا تدع مجالاً لمعتذر عن فسخ نكاح أو إنشاء آخر بحجة خشية فوات المال ونحوه، ولما كان الأمر للمسلمين برد مهور المهاجرات إلى أزواجهن السابقين من المشركين ولم يكن لهم ما يضمن رد المشركين لمهور المشركات اللائي فك المسلمون عصمتهن أراحت الآية هؤلاء بأن جعلت لهم تعويضاً مادياً من خزينة الدولة المسلمة مما أفاءه الله تعالى على بيت مال المسلمين من الأموال، فالمسألة أكبر من مهر امرأة وفوات زوج، ولعل المتدبر يجد المناسبة بين هذا كله وبين الأمر بتقوى الله تعالى جليةً واضحة.
ثانياً: البيعة:(4/254)
إن الامتحان السابق المتعلق بالهجرة إلىالنبي صلى الله عليه وسلم حادثة معينة انقضى زمانها وانقضى حكمها الخاص المتعلق بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة كما هو نص الحديث عنه صلوات الله وسلامه عليه: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" [100]، ولكن الحاجة إلى تمحيص الأفراد وتحقيق جملة من المظاهر العملية التي يتميز بها من له حق الولاية والنصرة عن غيره أمرٌ قائمٌ ما قامت للمسلمين جماعة، وهنا يبرز دور الآية التالية من السورة حيث قال تعالى: "يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم" [101]، حيث قررت هذه الآية المنهج العملي الذي يجب على المسلم أو المهاجر الجديد أن يلتزم به، لا أقول المهاجر من مكة إلى المدينة بل أقول المهاجر من الكفر إلى الإسلام ومن الفسق إلى الطاعة والانقياد، إنها الهجرة التي لا تنقطع والتي نبه عليها المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في قوله: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" [102]، فالسورة تنتقل من خصوصيات الواقعة إلى عموميات المبدأ بأسلوبٍ بديع حيث إنه من السهل الوقوف والجمود على خصوصيات واقعة معينة ومحاولة التملص من الالتزام بها، ولكن أي حجة تبقى لمن قررت له السورة هذا المنهج القرآني الفريد في الهجرة إلى الله تعالى على سنن رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وبكلام آخر فإن مسألة الولاء والبراء التي تقرر أنها تدور حول معقدٍ واحدٍ وحيد هو الدين لا بد لها من أمارات وعلامات تمكِّن آحاد المتعاقدين من التعرف على بعضهم البعض، وهنا يبرز دور بنود هذه البيعة الفريدة في تحقيق هذه الأمارات، ولا يستشكل أحدٌ تعدد بنود البيعة وبالتالي تعدد علامات الانتماء، إذا أن مدار المسألة على وجود حد أدنى هو الإيمان المجمل الذي يستحق معه أصل الموالاة الإيمانية وهذا مقرر في مواضع أخرى من السورة كما أنه مقرر بالبند الأول من البيعة: "ألا يشركن بالله شيئاً"، ثم إن الإيمان ليتفاضل زيادةً ونقصاناً بحسب الالتزام ببنود البيعة الأخرى، فكلما التزم المسلم ببنود البيعة كلما زاد حظه من الموالاة الإيمانية، ومهما أخل ببند من البنود مع بقاء أصل الإيمان لديه استحق من الولاء والبراء بحسب ذلك كما نبهنا عليه عند الكلام على تبعض الولاء والبراء، وإن تحرير هذه المسألة اليوم من أهم ما يعين على التعامل مع المسلم الآخر الذي قلما يسلم اليوم من زلة أو كبوة في وقت نحن أحوج ما نكون إلى التماسك والترابط والنصرة والموالاة.
[93] سورة الممتحنة - 10
[94] الجامع لأحكام القرآن - 55/18
[95] فتح الباري- 629/9
[96] راجع غير مأمور: أضواء البيان - 327/5
[97] سنن ابن ماجة - كتاب المناسك -حديث 2892
[98] سورة الممتحنة - 10
[99] سورة الممتحنة - 10-11
[100] صحيح مسلم - كتاب الإمارة - حديث 1864
[101] سورة الممتحنة - 12
[102] صحيح البخاري - كتاب الإيمان - حديث 9
==============
صورٌ من سماحة الإسلام
أحمد بن محمد الشرقاوي
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك بجامعة الأزهر
وكلية التربية للبنات بالقصيم
بسم الله الرحمن الرحيم
من الجوانب المضيئة في حضارتنا الإسلامية ومن الصفحات المشرقة في سجل تاريخنا الإسلامي الزاخر بالمآثر والمفاخر والتي نعتز بها : جانب التسامح مع غير المسلمين والإحسان إليهم : هذا الجانب الذي يشهد بأن الإسلام دين الرحمة والإحسان والعدالة والإنصاف .
هذه المبادئ السامية والشمائل الكريمة التي كانت عاملا من عوامل انتصار الإسلام .
* ومن أعظم صور هذا التسامح دعوته إلى الإيمان بجميع الأنبياء دون تفريق بين نبي ونبي فكلهم جاءوا بدعوة واحدة ورسالة واحدة وهدف واحد .
قال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِل إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285} }
وحول هذا المعنى يقول صلى الله عليه وسلم (أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي).1.
* ودعا الإسلام إلى التعاون بين الناس جميعا ، فوجه الدعوة إلى المسلمين الخاصة وإلى سائر الناس عامة قال تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2}}(4/255)
* كما أرشد الإسلام إلى أن الاختلاف بين أهل الأديان لا يمنع من حسن التعامل معهم وتبادل المنافع المادية بينهم قال تعالى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {5} .
* وهذا نبينا e يتعامل مع أهل الكتاب : فعَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَىَ مِنْ يَهُودِيّ طَعاماً إِلىَ أَجلٍ، وَرَهَنَهُ درْعاً لَهُ مِنْ حَدِيدٍ.2
* وشرع الإسلام الجهاد لنشر الحرية وترسيخ العدالة وتحرير الناس من قيود الطغيان ، ، وانتشالهم من ظلمات الجهل وغياهب الضلال ؛ فشرع الجهاد قال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } 3 .
* شرع الجهاد رحمة بالضعفاء ونصرة للمظلومين وعدالة للمغلوبين وهداية للحائرين وإذا كنا قد سمعنا أوشاهدنا جرائم أعداء الإسلام في حق الشعوب المسلمة قديما وحديثا فإننا نجد في المقابل صورا رائعة من سماحة المسلمين حين ملكوا وقادوا :
ملكنا فكان العفو منا شجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح
فلا عجبا هذا التفاوت بيننا فكل إناء بما فيه ينضح
صور من سماحة الإسلام وإحسانه في حالة الحرب
* نهى الإسلام عن قتل الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة وأهل الصوامع والبيع الذين لا اعتداء من ناحيتهم ولا خطر من بقائهم فكان رسولنا e إذا أرسل جيشا أو سرية يوصيهم بالإحسان والتسامح والرحمة بالنساء والضعفاء .
ففي الصحيح عن بريدة رضي الله عنه قال كان رسول اللّه e إذا أمّرَ أميراً على جيشٍ أو سريةٍ، أوصاه في خاصّتِه بتقوى اللّه تعالى ومَنْ معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا باسْمِ اللّه في سَبِيلِ اللَّهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللّه، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيداً .. " الحديث 4
وهكذا كان الخلفاء الراشدون y من بعده e فهذا أبو بكرt وقد وبعث أوصى جيش أسامة فقال: (يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نحلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا فاذكروا اسم اللّه عليها) الخ ما ذكره رضي الله عنه 5 .
* أمر الإسلام بالوفاء بالعهود التي أخذها المؤمنون على أنفسهم أو على غيرهم وعدم الإخلال بها قال تعالى { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {91}سورة النحل }وقال سبحانه {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً {34}سورة الإسراء}.
فالوفاء بالعهود من سمات المؤمنين الصادقين قال تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177}} .
من هنا فيحرم قتل الذمي بغير حق 6
دعا الإسلام إلى الجنوح للسلام إذا طلبه الكفار قال تعالى في سورة الأنفال {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {61}} ، والمقصود بالسلم هنا السلام العادل المنصف الذي يحفظ للمسلمين عزتهم وكرامتهم ويضمن لهم حقوقهم ، فهو سلام من منطق القوة سلام العزة والكرامة ، وليس سلام الضعفاء الأذلاء المقهورين فالإسلام لايرضى لأتباعه إلا القوة والعزة والأمن والكرامة ؛ لذلك فلا عبرة بالسلام المزعوم المبني على ضعف واستسلام وأكاذيب وأوهام وقبول للمساومات وتقديم للتنازلات قال تعالى {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139}} 7 وقال جل وعلا { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ {35} 8
صور من تسامح الرسول e
* لما قدم الرسول e المدينة غرس فيها بذور التسامح بين المسلمين وغيرهم فأقام معاهدة مع اليهود تنص على السماحة والعفو والتعاون علىالخير والمصلحة المشتركة وحافظ الرسول e على هذا الميثاق - ميثاق التعايش السلمي - لكن اليهود سران ما نقضوه .(4/256)
* ولما جاء وفد نصارى نجران أنزلهم الرسول e في المسجد ولما حان وقت صلاتهم تركهم يصلون في المسجد فكانوا يصلون في جانب منه ، ولما حاوروا الرسول e حاورهم بسعة صدر ورحابة فكر وجادلهم بالتي هي أحسن ومع أنه أقام الحجة عليهم إلا ،ه لم يكرههم على الدخول في الإسلام بل ترك لهم الحرية في الاختيار ، وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران . 9
* ولقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي كثيرا بأهل الذمة والمستأمنين وسائر المعاهدين ويدعو إلى مراعاة حقوقهم وإنصافهم والإحسان إليهم وينهى عن إيذائهم :
* وروى أبو داود في السنن عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن آبائهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه (أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه) يوم القيامة".10
* عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما). 11
وإذا أجار أحد من المسلمين مشركا في دار الإسلام فيجب معاونته على ذلك ويحرم خفر ذمته ففي الصحيحين عن أبي مرة مولى أم هانىء بنت أبي طالب أنه سمع أم هانىء بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمت عليه، فقال: (من هذه). فقلت: أنا أم هانىء بنت أبي طالب، فقال: (مرحبا بأم هانىء). فلما فرغ من غسله. قام فصلى ثماني ركعات، ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي، أنه قاتل رجلا قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء). قالت أم هانىء: وذاك ضحى.12
* وروى أبو داود في السنن عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبِيهِ عن جَدّهِ قال قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدّ مُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرّيهمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ " . 13
* ومن المواقف الدالة على سماحته صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين هذا الموقف مع يهودي يدعى زيد بن سعنة أراد أن يختبر حلمه صلى الله عليه وسلم :
قال زيد لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما قال فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله فذكر قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه وسلم مالا في ثمرة قال فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه وهو في جنازة مع أصحابه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت يا محمد ألا تقضيني حقي فوالله ما علمتكم بني عبدالمطلب لمطل قال فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم قال يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل ما أرى فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لصربت بسيفي رأسك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم ثم قال أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزد عشرين صاعا من تمر فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه وشهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي عام تبوك رحمه الله 14
* ومن مواقف السماحة والعفو في حياته صلى الله عليه وسلم حينما هم أعرابي بقتله حين رآه نائما تحت ظل شجرة وقد علق سيفه عليه فعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه غزا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قبل نجد فلما قفل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قفل معهم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت سمرة فعلق بها سيفه، ونمنا نومة فإذا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا قال: من يمنعك مني؟ قلت: اللَّه ثلاثا ، ولم يعاقبه وجلس. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(4/257)
وفي رواية قال جابر: كنا مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجاء رجل من المشركين وسيف رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم معلق بالشجرة فاخترطه فقال: تخافني؟ قال : لا فقال: فمن يمنعك مني؟ قال اللَّه ، فسقط السيف من يده فأخذ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم السيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه؟ قال: لا ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس. 15
* ومن النماذج الدالة على سماحة الصحابة رضي الله عنهم :
* ما رواه الإمام الترمذي في السنن عن مُجاهدٍ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرو ذُبحتْ لهُ شاةٌ في أهلهِ فلمَّا جاءَ قال أهديتُمْ لجارنَا اليهوديِّ؟ أهديتُمْ لجارنا اليهوديِّ؟ سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم يقول: (ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنَّهُ سيورِّثُهُ) . 16
* وحين مر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشيخ من أهل الذمة يقف على الأبواب يسأل الناس قال : ما أنصفناك أن كنا أخذنا المال في شبيبتك وضيعناك في شيبك ثم أجرى عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه 17
* وحين اشتكت إليه امرأة قبطية من عمرو بن العاص الذي ضم بيتها إلى المسجد أرسل إليه عمرو وسأله عن ذلك فقال إن المسجد ضاق بالمسلمين ولم أجد بدا من ضم البيوت المحيطة بالمسجد وعرضت على هذه المرأة ثمنا باهظا فأبت أن تأخذه فادخرته لها في بيت المال وانتزعت ملكيتها مراعاة للمصلحة العامة لكن الفاروق عمر أمره بأن يهدم هذا الجزء الذي للمسجد ويعيد بناءه كما كان لصاحبته . 18
* وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يصالح أهل الحيرة ويكتب في كتاب الصالح " وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين " . 19
* ومن الصفحات المضيئة في تاريخنا الإسلامي ما ورد أن الصحابة y لما دخلوا حمص وفرضوا على أهلها الجزية فجاءهم أمر من أبي عبيدة بن الجراح بمغادرة حمص للانضمام إلى جيش المسلمين حيث مواجهة الروم في اليرموك أعادوا إلى أهل حمص ما أخذوه ؛ وقالوا إنا أخذناه في مقابل الدفاع عنكم أم وقد خرجنا فقد أصبحنا غير قادرين على حمايتكم فلزم رد ما أخذناه منكم فعجب لذلك أهل حمص أشد العجب وتمنوا لهم النصر على عدوهم .
* وإن المقارن بين سماحة المسلمين حين يكتب لهم النصر والتمكين وبين ما سجله التاريخ من وحشية في الحروب الصليبية وخلال فترات الكشوف الجغرافية والاستعمار الذي حل بكثير من بلاد الإسلام حقبة من الزمن يتجلى له الفارق بين دين الحق دين التسامح والعفو وبين أتباع الأديان المحرفة . 20
شهادت منصفة
لقد شهد العديد من الساسة والمؤرخين والمفكرين ورجال الدين من غير المسلمين شهادات منصفة صادقة وفيما نذكر بعضا منها :
* يقول الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا: "إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم ، الأمر الذي فقدته المسيحية ، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة ، والدين والعلم ، والعقل والمادة" 21
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه : "لا إكراه في الدين ، هذا ما أمر به القرآن الكريم ، فلم يفرض العرب على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام ، فبدون أي إجبار على انتحال الدين الجديد اختفى معتنقو المسيحية اختفاء الجليد، إذ تشرق الشمس عليه بدفئها ! وكما تميل الزهرة إلى النور ابتغاء المزيد من الحياة ، هكذا انعطف الناس حتى من بقي على دينه ، إلى السادة الفاتحين" 22
* ويقول غوستاف لوبون في " مجلة التمدن الإسلامي" : : " إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وبين روح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى وإنهم مع حملهم السيف فقد تركوا الناس أحرارا في تمسكهم بدينهم " .
* "كل ما جاء في الإسلام يرمي إلى الصلاح والإصلاح ، والصلاح أنشودة المؤمن ، وهو الذي أدعو إليه المسيحيين" .
* ويقول المستشرق بول دي ركلا : "يكفي الإسلام فخراً أنه لا يقر مطلقاً قاعدة (لا سلام خارج الكنيسة) التي يتبجح بها كثير من الناس ، والإسلام هو الدين الوحيد الذي أوجد بتعاليمه السامية عقبات كثيرة تجاه ميل الشعوب إلى الفسق والفجور" .
* يقول المستشرق بارتلمي سانت هيلر :
" إن دعوة التوحيد التي حمل لواءها الإسلام ، خلصت البشرية من وثنية القرون الأولى"
* ويقول العلامة الكونت هنري دي كاستري : "درست تاريخ النصارى في بلاد الإسلام ، فخرجت بحقيقة مشرقة هي أن معاملة المسلمين للنصارى تدل على لطف في المعاشرة ، وهذا إحساس لم يُؤثر عن غير المسلمين .. فلا نعرف في الإسلام مجامع دينية ، ولا أحباراً يحترفون السير وراء الجيوش الغازية لإكراه الشعوب على الإيمان".(4/258)
* ويبين الشاعر غوته ملامح هذا التسامح في كتابه (أخلاق المسلمين) فيقول: "للحق أقول : إن تسامح المسلم ليس من ضعف ، ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه ، وتمسكه بعقيدته" .
* ويقول المستشرق لين بول : "في الوقت الذي كان التعصب الديني قد بلغ مداه جاء الإسلام ليهتف (لكم دينكم ولي دين) ، وكانت هذه المفاجأة للمجتمع البشري الذي لم يكن يعرف حرية التدين ، وربما لم يعرفها حتى الآن " .
* ويقول الفيلسوف جورج برناردشو : "الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها ، ولا نجد في الأديان حسناته ! ولقد كان الإسلام موضع تقديري السامي دائماً ، لأنه الدين الوحيد الذي له ملكة هضم أطوار الحياة المختلفة ، والذي يملك القدرة على جذب القلوب عبر العصور ، وقد برهن الإسلام من ساعاته الأولى على أنه دين الأجناس جميعاً ، إذ ضم سلمان الفارسي وبلالاً الحبشي وصهيباً الرومي فانصهر الجميع في بوتقة واحدة " .
* ويقول توماس أرنولد في كتابه الدعوة الإسلامية : لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة ، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح " . 23
* ويقول شاعر فرنسا (لامارتين) : "الإسلام هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يفي بمطالب البدن والروح معاً ، دون أن يُعرِّض المسلم لأن يعيش في تأنيب الضمير … وهو الدين الوحيد الذي تخلو عباداته من الصور ، وهو أعلى ما وهبه الخالق لبني البشر " 24
=============
مقاطعة بضائع الكفار نظرة شرعية
هاني بن عبد الله بن محمد بن جبير
القاضي بالمحكمة الكبرى بجدة .
الحمد لله وحده ، وبعد :
فقد ( فوجئ العالم الإسلامي في هذا العصر بتفوق عدوه عليه في ميادين شتى ، ولو أن هذا التفوق كان في مجال السيف والرمح والكر والفر ، فلربما كنا نستطيع أن ندفع عن أنفسنا شره ونحول دون انتصاره علينا ، بل قد نهزمه فنسترد ما ضاع منا . ولكنه كان ولا يزال تفوقاً غير متكافئ ؛ فالعدو على اختلاف توجهاته يملك من وسائل القوة ما يضمن له التحكم والقهر ، وبسط النفوذ وإملاء الإرادة في الوقت الذي أصبحنا فيه عالة عليه في كل شيء ، مما يجعلنا نصنّف أنفسنا قبل أن يصنفنا غيرنا بأننا متخلفون . ونتيجة لذلك فنحن ( عالم التبعيّة ) الواقع تحت التأثيرات الخارجية وقانون التوازن الدولي . إن الصدمات العنيفة التي كان من المفروض أن تولِّد فينا ردود أفعال مناسبة لم تتوقف هزاتها وتحدياتها ، ولقد بقينا مدة طويلة دون أن تكون مواجهاتنا لها في المستوى المطلوب ) [1] .
ويبقى الأفراد الغيورون يلتفتون صوب كل اتجاه بحثاً عن سبيل مواجهة أو طريق نجاة أو وسيلة إنقاذ إيماناً منهم بأنه لا بد من أن يستنفد المرء كل طاقته ولا يدّخر منها شيئاً لتبرأ ذمته ويستحق وعد الله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } ( البقرة : 214 ) .
ولما كان الاقتصاد في هذا الزمن ذا تأثير كبير وفعال على مواقف الدول واتجاهاتها ؛ فقد بدأت الدعوة إلى ( مقاطعة ) البضائع والمنتجات التي تصدرها الدول التي تحارب المسلمين أو تقف معها ؛ لتكون وسيلة ضغط عليها لتوقف ( أو تخفف ) من موقفها المعادي للمسلمين .
وكان لهذا النداء تجاوباً كبيراً من الشعوب المسلمة التي لا حول لها ولا قوّة ، ولا تعرف كيف تعمل ، ولا كيف تنتصر .
حتى قال بعضهم إن ( سلاح المقاطعة ) هو السلاح الوحيد المؤثر في سجل المواجهة مع إسرائيل في وقتنا الحاضر [2] .
وفي الحقيقة إن المتابع لمجريات الأحداث يلمس لهذه المقاطعة آثاراً كبيرة تدفع بعض الشركات إلى التبرُّؤ من دعم الدولة اليهودية ، أو إلى تعهدها بدفع تبرعات لجهات فلسطينية ، إلى غير ذلك .
وقد انتشرت في الساحة الإعلامية عدة فتاوى تقول : إن « كل من اشترى البضائع الإسرائيلية والأمريكية ، من المسلمين فقد ارتكب حراماً ، واقترف إثماً مبيناً ، وباء بالوزر عند الله والخزي عند الناس » [3] .
وحقيقة أن الغيرة الإسلامية تشتعل في النفس إذا رأت ما يحل بالمسلمين وما يدبر لهم على أيدي أعداء الله .
إلا أن موقف الموقِّع عن رب العالمين وهو يتلو قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } ( النحل : 116 ) .
موقفٌ لا تؤثر فيه العواطف ولا يغلبه الحماس عن تأمل نصوص الوحيين ، وإعمال قواعد الشرع وأدلته .(4/259)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : « كما أن الله نهى نبيّه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر فكذلك في آخره ؛ فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم . وكثير من الناس إذا رأى المنكر ، أو تغير كثير من أحوال الإسلام : جزع وكلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام ، وأن يؤمن بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأن العاقبة للتقوى ، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه ، فليصبر إن وعد الله حق ، ويستغفر لذنبه ، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار » [4] .
وفي هذه الورقات القليلات نظرات شرعية عاجلة لموضوع ( المقاطعة ) ، حاولت فيها الوصول لحكم شرعي فقهي فيها .
* أولاً : تعريف المقاطعة الاقتصادية :
المقاطعة مفاعلة من القطع . يقال : قطعه يقطعه قطعاً .
والقطع : إبانة بعض أجزاء الجرم من بعضٍ فصلاً [5] .
والقطع والقطيعة : الهجران ضد الوصل [6] .
والبضاعة : السلعة ، وأصلها القطعة من المال الذي يتجر فيه ، وقيل جزء من أجزاء المال تبعثه للتجارة [7] .
والسلعة : ما تُجر به والمتاع ، وجمعها : سِلَع [8] .
قال في المنجد الأبجدي : ( المقاطعة : عدم التعامل مع شخصٍ أو شركة أو مؤسسة أو دولة ، ومنه مقاطعة بلد لمنتجات وحاصلات بلدٍ آخر ) [9] .
وقال في المعجم الوسيط : ( المقاطعة : الامتناع عن معاملة الآخرين اقتصادياً أو اجتماعياً وفق نظام جماعي مرسوم ) [10] .
وشاع استعمال المقاطعة في الامتناع عن شراء منتجات من يحارب المسلمين أو يعينهم دون الامتناع عن البيع ؛ وذلك لأن أهل الإسلام صاروا مستهلكين ، وقل الإنتاج فيهم .
* ثانياً : قواعد ومقدمات :
وهي سبع أسردها تباعاً ..
الأولى : جواز معاملة الكفار .
الأصل أنه يجوز معاملة الكفار بالبيع والشراء سواء كانوا أهل ذمّة أو عهد أو حرب [11] إذا وقع العقد على ما يحل ، ولا يكون ذلك من موالاتهم [12] .
عن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبيعاً أم عطيّة ؟ أو قال : أم هبة ؟ قال : لا ، بل بيع . فاشترى منه شاةً [13] .
وقد بوّب البخاري على هذا الحديث في صحيحه : باب البيع والشراء مع المشركين وأهل الحرب .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي بأن يكاتب ، والمكاتبة أن يشتري العبد نفسه من سيده ، وكان سيده يهودياً [14] .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن درعه مرهونة عند رجل من يهود على ثلاثين صاعاً من شعير أخذها رزقاً لعياله [15] .
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل [16] .
وسواء في ذلك أن يسافر المسلم لبلد الكفار وديار الحرب أو يجيء الكافر لبلاد الإسلام ليبيع أو يشتري .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « وإذا سافر الرَّجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر - رضي الله عنه - في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام ، وهي حينذاك دار حرب ، وغير ذلك من الأحاديث » [17] .
عن الحسن قال : كتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - : أن تجار المسلمين إذا دخلوا دار الحرب أخذوا منهم العُشر . قال فكتب إليه عمر : خذ منهم إذا دخلوا إلينا مثل ذلك : العشر [18] .
قال الحافظ ابن حجر : « تجوز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم على المتعامَل فيه ، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم » [19] .
هذا هو الأصل العام في معاملة الكفار .
يستثنى من هذا الأصل مسائل ؛ منها :
أنه لا يجوز أن يبيع المسلم للكفار ما يستعينون به على قتال المسلمين . لقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان } ( المائدة :
2 ) .
قال ابن بطال : « معاملة الكفار جائزة ، إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين » [20] .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن معاملة التتار ، فأجاب : ( يجوز فيها ما يجوز في معاملة أمثالهم ، ويحرم فيها ما يحرم في معاملة أمثالهم ... فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات كبيع الخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالاً محرماً فهذا لا يجوز .. في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لعن في الخمر عشرة : لعن الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وبائعها ، ومبتاعها ، وساقيها ، وشاربها ، وآكل ثمنها » [21] . فقد لعن العاصر وهو إنما يعصر عنباً يصير عصيراً ، والعصير حلال : يمكن أن يتخذ خلاً ودبساً وغير ذلك ) [22] .
وسواء كان ذلك وقت الحرب بين المسلمين والكفار أو وقت الموادعة والهدنة بينهم .(4/260)
قال السرخسي : ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم إلا الكراع [23] والسلاح والحديد ؛ لأنهم أهل حرب ، وإن كانوا موادعين ؛ ألا ترى أنهم بعد مضي المدة يعودون حرباً للمسلمين ، ولا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات ما خلا الكراع والسلاح ؛ فإنهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين فيمنعون من حمله إليهم ، وكذلك الحديد ؛ فإنه أصل السلاح . قال الله تعالى : { وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } ( الحديد : 25 ) [24] .
وهذه المسألة من معمولات سد الذرائع المفضية إلى المفاسد ، ومن أمثلة قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد .
الثانية : وسائل التعامل مع الكفار .
شراء بضائع الكفار يتخذ في هذا العصر صوراً متعددة ، وله وسائل لا بد من معرفتها ليتم الحكم عليها من خلالها . ولعله يمكن حصرها في الصور الآتية :
1 - الشراء المباشر من الكافر الذي يبيع أو يصنع أو ينتج السلعة ، وهذا آكد ما يشمله حديثنا .
2 - الشراء من خلال وسيط ( سمسار ) ؛ حيث يكون لديه علم بعدد من المصانع والشركات المنتجة ، فيقوم بالتنسيق والتقريب بين المشتري وبين المنتج أو المصنع ، ويتولى كتابة وثيقة البيع بين الطرفين ، وكل ذلك مقابل نسبة يستلمها الوسيط من الشركة أو المصنع المصدّر [25] .
وهنا تكون الأموال مدفوعة للبائع الأصلي فهو كالشراء المباشر في الاستفادة من الشراء والتضرر بالمقاطعة .
3 - الشراء من ( وكيل بالعمولة ) إذ يستورد البضائع باسمه ولحسابه هو ، وتجري معاملاته باسمه أو بعنوان شركة ما ، ثم ينقل الحقوق والالتزامات إلى موكله تنفيذاً لعقد الوكالة المبرم بينهما مقابل أجرة تسمى : ( عمولة ) [26] .
والفرق بينه وبين الذي قبله أن هذا يستورد البضائع ويبقيها لديه معروضة ليبيعها باسمه هو ، ويتم التعاقد معه أو مع شركته ، ثم بعد ذلك يسلم للمنتج أو المصنع قيمة المبيع ويطالبه بالالتزامات . أما الأول فإنه وسيط فقط يربط بين الطرفين ، ثم تنتهي مهمته . وفي هذه الحالة تكون الأموال أيضاً مدفوعة للبائع الأصلي ؛ فهو كالشراء المباشر في الاستفادة من الشراء والتضرر بالمقاطعة ، إلا أن المقاطعة تضر بهذا الوكيل أيضاً لتحمله تخزين وعرض البضائع .
4 - شراء بضائع أصلها من صنع الكفار ، وجرى تصنيعها داخل بلاد المسلمين على يد شركة مسلمة تأخذ امتياز تصنيعها من الشركة الأصلية مقابل مبلغ مالي يدفعه صاحب امتياز التصنيع للشركة الأصلية بشكل دوريّ . وهنا يستفيد أولاً من البيع : الشركة المسلمة وتتضرر هي أولاً من المقاطعة . أما الكافر فيكون ضرره غير مباشر من خلال ما قد يعرض لصاحب امتياز التصنيع من الاستغناء عن حق الامتياز المذكور فيتوقف عن مواصلة دفع ما يقابله .
5 - الشراء من مسلم اشترى بضائع صنعها الكفار أو أنتجوها ؛ فهنا المتضرر من المقاطعة أولاً المسلم الذي اشترى البضاعة . مع أن المقاطعة تضر الكافر إذا امتنع التاجر المسلم من شراء منتجاته مرة أخرى لعدم رواجها .
الثالثة : أنواع بضائع الكفار .
البضائع عموماً سواء باعها كفار أو مسلمون ، إما أن تكون ضرورية أو حاجيّة أو تحسينية [27] .
ولا شك أن بينها فرقاً كبيراً ؛ فالشرع جاء بالتفريق بين الضروري وغيره ، وأباح المحرم عند الاضطرار قال تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } ( الأنعام : 119 ) .
وقعّد أهل العلم قاعدة : « لا محرم مع اضطرار » [28] . مستندين لنصوص متوافرة من أدلة الشرع تقررها . ومعلوم أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة إذا كانت عامّة [29] .
وعليه فإننا لا بد أن نفرّق بين بضاعة ضروريّة لا غنى عنها كالدقيق مثلاً ، أو حاجيّة عامة كبعض المراكب وبين التحسينيات من أنواع الألبسة والكماليات ونحوها .
ومن شواهد ذلك في موضوعنا ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّه كان يأخذ من النبط من القِطْنيّة ( وهي الحبوب التي تطبخ ) العُشْر ، ومن الحنطة والزيت نصف العشر ؛ ليكثر الحَمْل إلى المدينة [30] . فقد خفف عمر رضي الله عنه ما يأخذه منهم للمصلحة في ذلك ؛ فإن في الحنطة معاش الناس .
ومن هذا نقول : إنّه يخفف في أمور الضرورات والحاجيات العامة ويراعى فيها ما لا يراعى في غيرها .
قال الشاطبي : « الأمور الضرورية إذا اكتنفها من خارج أمور لا تُرضى شرعاً فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج » [31] .
الرابعة : سد الذرائع .
سد الذرائع من الأدلة المستعملة عند أهل العلم . والمراد بها منع الجائز لئلا يتوصّل به إلى الممنوع [32] .
ونتيجة إعمالها : تحريم أمرٍ مباح لما يفضي إليه من مفسدة .
وأداء الوسيلة إلى المفسدة : إما أن يكون قطعياً أو ظنيًّا أو نادراً .
فإن كان قطعياً : فقد اتفق العلماء على سدّه والمنع منه سواء سُمّي سَدَّ ذريعة أو لا [33] .
وإن كان نادراً فقد اتفق العلماء أيضاً على عدم المنع منه ، وأنّه على أصل المشروعيّة .
وأما إن كان ظنياً فقد اختلف أهل العلم فيه هل يمنع أو لا ؟ [34] .(4/261)
وقد أطال العلامة ابن القيم في الاستدلال على صحة قاعدة سد الذرائع ، واستشهد عليها بتسعة وتسعين دليلاً [35] .
ولعل الصحيح في هذا القسم الأخير أنه يُنظر فيه إلى المصلحة والمفسدة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالباً فإن الشرع يحرمها مطلقاً . وكذلك إذا كانت تفضي وقد لا تُفضي ، لكن الطبع متقاضٍ لإفضائها . وأما إن كانت إنما تفضي أحياناً ؛ فإن لم يكم فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل وإلا حرمها أيضاً » [36] . وسيأتي لهذا مزيد بيان .
والمقصود أن الشرع راعى الوسائل والطرق التي يسلك منها إلى الشيء وتتوقف الأحكام عليها ؛ فطرق الحرام والمكروهات تابعة لها .
وإذا نهى الشرع عن شيء فنهيه يستلزم النهي عن كل ما يفضي إليه ويوصل إليه [37] .
ولذا فقد نبه أهل العلم على أنه يجب على المفتي والمجتهد أن لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل من مصلحة أو مفسدة تنشأ عنه . فلا يأذن بفعل ولو كان فيه جلب مصلحة إلا أن ينظر في مآله لئلا يكون استجلاب المصلحة فيه مؤدياً إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها [38] .
قال ابن كثير : « الشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله ؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب » [39] .
الخامسة : قاعدة المصالح والمفاسد .
لا شك « أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وأنها ترجح خير الخيرين وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما » [40] .
ونظرنا في المصالح والمفاسد ينحصر في ملحظين :
الأول : أن الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ، فإنه يُنْهى عنه ؛ وذلك لأن الشريعة مبنيّة على الاحتياط والأخذ بالحزم ، والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدة ؛ ولذا سدّت ذرائع مفضية إلى الإضرار والفساد في شواهد كثيرة من الكتاب والسنة [41] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة يُنْهى عنه كما نُهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك ، وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوّع في غير ذلك من الأوقات .
ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب ؛ فسوّغها كثير منهم في هذه الأوقات ، وهو أظهر قولي العلماء ؛ لأن النهي إذا كان لسدّ الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها ، فتفوت مصلحتها ، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة بخلاف ما لا سبب له ؛ فإنّه يمكن فعله في غير هذا الوقت ، فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة ، وفيه مفسدة توجب النهي عنه » [42] .
وفي المقابل فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به ، وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال . فهذه صور جائزة لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة [43] .
الثاني : أن المصالح والمفاسد يكفي فيها الظن الغالب ؛ وذلك أن المصالح والمفاسد لا يعرف مقدارها إلا بالتقريب ؛ أما تحديدها بدقة فغير ممكن غالباً .
قال العز بن عبد السلام : « أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها وتحديدها ، وإنما تُعرف تقريباً لعزّة الوقوف على تحديدها » [44] . ولذا يقوم الظن الغالب فيها مقام العلم .
قال الشاطبي : « وإذا كان الضرر والمفسدة تلحق ظنًّا ، فهل يجري الظن مجرى العلم .. أم لا .. ؟ اعتبار الظن هو الأرجح لأمور : أحدها : أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم ؛ فالظاهر جريانه هنا . والثاني : أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى : { وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } ( الأنعام : 108 ) . فإنهم قالوا : لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك .. والثالث : أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه » [45] .
السادسة : الإضرار الاقتصادي طريق من طرق الجهاد المشروع .
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم التضييق والضغط الاقتصادي بتلك السرايا والبعوث التي سيّرها لمهاجمة قوافل قريش التجارية ؛ فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص فقال : « اخرج يا سعد حتى تبلغ الخرّار ؛ فإن عيراً لقريش ستمر بك » [46] .
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه يعترض عيراً لقريش في غزوة بواط [47] . كما خرج لغزوة العشيرة لاعتراض قافلة لقريش في طريقها إلى الشام ، ولما عادت خرج يريدها [48] . وغزوة بدر إنما كان سببها طلبه عير أبي سفيان [49] .(4/262)
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم ، وقال : « هذه عير قريش فيها أموالهم ؛ فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها » فانتدب الناس [50] . إلى غير ذلك من شواهد كثيرة ، وكما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب فقد استعمله أبو بصير لما خرج إلى سيف البحر ولحق به أبو جندل بعد صلح الحديبية ، واجتمع إليهما عصابة ممن أسلم من قريش لا يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم [51] . بل وأبلغ من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أن تضيق عليهم معيشتهم .
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشاً كذبوه واستعصوا عليه ، فقال : « اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف » فأصابتهم سنة حصّت كل شيء حتى كانوا يأكلون الميتة ، وكان يقوم أحدهم فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجَهْد والجوع ، فأتاه أبو سفيان فقال : أيْ محمد ! إن قومك هلكوا ؛ فادع الله أن يكشف عنهم [52] .
السابعة : ارتباط المقاطعة بإذن ولي الأمر .
لا شك أن من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين في المعروف .
وأعمال الرعيّة منها ما يشترط لفعله إذن الإمام ، ومنها ما لا يشترط له إذنه .
والمقاطعة بشكلها المعاصر مما لا يظهر لي ارتباطه بإذن ولي الأمر ؛ بدليل حديث ثمامة الآتي نصّه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَلَ نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أُثال سيّد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال عندي خير : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت . فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال : ما عندك يا ثمامة ؟ فأعاد عليه مقالته ؛ حتى كان من الغد أعاد عليه مقالته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة . فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله . يا محمد ! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك ؛ فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ ، والله ما كان من دين أبغضَ إليَّ من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ؛ فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ فقال : لا ، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم » [53] . زاد ابن هشام : « فانصرف إلى بلاده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يُخَلّي إليهم حمل الطعام ففعل » [54] .
والشاهد من الحديث أن ثمامة منع الحمل إلى مكة وهو نوع من المقاطعة الاقتصادية لهم مع أنه لم يتقدمه إذن نبوي بذلك ، وإنما قاله حميّة لله ورسوله لما قالوا له : صبوت ، كما هو ظاهر الحديث .
* ثالثاً : حكم المقاطعة الاقتصادية :
لا شك أن التعامل التجاري والاقتصادي الحاصل في هذا الزمن يباين التعاملات التجارية في الأزمان السابقة ؛ فهو الآن أوسع وأشمل وأيسر ، ولا شك أن ارتباط الاقتصاد بالسياسة وتأثيره على التوجهات السياسية والنزاعات الحزبيّة صار أكبر وأقوى .
ولذا فإن بحث هذه المسألة بالتوسع في النظر فيها هو من خصائص هذا العصر .
والذي يظهر أن حكم المقاطعة يختلف باختلاف الأحوال ، وإليك التفصيل :
الأول : إذا أمر بها الإمام :
إذا أمر الإمام بمقاطعة سلعة معينة أو بضائع دولة من دول الكفر فإنه يجب على رعيته امتثال أمره ؛ قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ( النساء : 59 ) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اسمعوا وأطيعوا إن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة » [55] .
وليس للإمام أن يأمر بذلك إلا أن يرى في ذلك مصلحة عامّة لا تقابلها مفسدة أو ضرر أرجح منه ؛ وذلك أن الأصل في تصرّفات الولاة النافذة على الرعية الملزمة لها في حقوقها العامة والخاصَّة أن تبنى على مصلحة الجماعة ، وأن تهدف إلى خيرها . وتصرّف الولاة على خلاف هذه المصلحة غير جائز [56] .
ولذا قعَّد أهل العلم قاعدة : تصرّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة [57] .
ولعلَّ في قصة كعب بن مالك - رضي الله عنه - إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامه وصاحبيه [58] شاهداً لأمر الإمام بالمقاطعة .
الثاني : إذا لم يأمر بها الإمام :
إذا لم يأمر الإمام بالمقاطعة فلا يخلو الحال من أمرين :(4/263)
1 - أن يعلم المسلم أنَّ قيمة ما يشتريه يعين الكفار على قتل المسلمين أو إقامة الكفر . فهنا يحرم عليه أن يشتري منهم ؛ وذلك لأن الشراء منهم والحال ما ذكر مشمول بالنهي عن التعاون على الإثم والعدوان ، ومشمول بقاعدة سد الذرائع المفضية إلى الحرام . وإذا علم المسلم أن أهل العلم حرَّموا بيع العنب لمن يتخذه خمراً ، وبيع السلاح لأهل الحرب أو وقت الفتنة خشية استعماله لقتل المسلمين ، وحَرَّموا إقراض من يغلب على الظن أنه يصرف ماله في محرم [59] ؛ فكيف إذا كان عين الثمن الذي يشتري به يُقتل به مسلم أو يعان به على كفر ؟!
سئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيء يباع من ملكه للكنيسة هل يجوز لمسلم شراؤه فقال : لا يحل ذلك له لأنه تعظيم لشعائرهم وشرائعهم . وسئل في أرض لكنيسة يبيع الأسقف منها شيئاً في إصلاحها ؟ فقال : لا يجوز للمسلمين أن يشتروها من وجه العون على تعظيم الكنيسة [60] .
وسئل الإمام أحمد عن نصارى وقفوا ضيعة للبيعة أيستأجرها الرجل المسلم منهم ؟ قال : لا يأخذها بشيء لا يعينهم على ما هم فيه [61] .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن [62] : « الكافر الحربي لا يُمَكَّن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال ، ونحوه ، والدواب والرواحل ، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم ، ومنعهم من الانتفاع به » [63] .
وعلى كلٍ فالنهي عن التعاون عن الإثم والعدوان يشمل هذه الصورة وغيرها وهي آية محكمة .
هذا حكم ما لو علم ذلك يقيناً سواء باطلاع مباشر ، أو خبر موثوق به ، أو غير ذلك . وغلبة الظن تجري مجرى العلم كما سبق .
2 - أن لا يتيقن أن عين ما يشتري به منهم يستعان به على حرام من قتال المسلمين أو إقامة الكفر ؛ فهذا باق على الأصل العام وهو جواز البيع والشراء وسائر المعاملات .
فإن الأصل في البيوع الإباحة سواء منها ما كان مع المسلمين أو الكفار . كما سبق . وحيث لم يوجد ناقل عن هذا الأصل فلا يتغير الحكم ولكن يرتبط به الحالة الآتية :
3 - أن لا يتيقن أن عين ما يشتري به منهم يستعان به على حرام ؛ لكن في مقاطعتهم مصلحة ، ولعل هذه الحالة هي أكثر ما يكون الحديث عنه .
ولبيان حكم هذه الحالة فإني أحتاج لتقسيمها إلى قسمين :
أ - أن يتم الشراء من الكافر مباشرة أو من خلال سمسار أو وكيل بعمولة .
وإذا أردت الوصول للحكم الشرعي في هذا القسم فإني بحاجة لتقرير مسلَّمات شرعيّة توصلنا للنتيجة : فالأصل جواز التعامل مع الكفار ولو كانوا من أهل الحرب ، وأن وسائل الحرام حرام . ولا يحكم على فعلٍ حتى يُنْظر في مآله وعاقبته .
ولا يباح مما يفضي إلى مفسدة إلا ما كانت مصلحته أرجح . ولا يحرم مما يفضي إلى مصلحة إلا ما كانت مفسدته أرجح . ولا مانع من استعمال الإضرار المالي جهاداً لأعداء الله ولو لم يأذن به الإمام .
وعليه فإن كان في المقاطعة والحال ما ذكر مصلحة فإنه يُنْدب إليها على أنه يراعى مدى الحاجة للبضائع كما سبق .
ب - أن يتم الشراء من مسلم اشترى البضاعة أو صاحب امتياز . ولبيان الحكم فإني مع تذكيري بما سبق من مسلَّمات فإني أذكر بأن المنتج الكافر يأخذ مقابل منحه امتياز التصنيع ، وهو يأخذه سواء قلَّ البيع أو كثر ، فالمقاطعة إضرار به وبعمالته وبالمساهمين معه في رأس ماله ، وكذا الحال بالنسبة لمن اشترى بضاعة من الكافر وصارت من ماله فالمقاطعة إضرار به .
ولذا فإن القول بندب المقاطعة فيه ثِقَل لوجود المفسدة والضرر الكبيرين ، ولا يقال فيها إن المفسدة خاصة والمصلحة عامة ؛ وذلك لأن المسلم سيكون هو المتضرر ، ولأنَّ نفع المقاطعة مظنون وتضرر الشركة مقطوع به ، والمقطوع يقدم على المظنون .
وعلى كلٍّ فاعتراض المفسدة قد يمنع القول بندب المقاطعة في هذا القسم ، والله تعالى أعلم .
وأنبّه هنا إلى أن من قاطع البضائع والسلع المنتجة من دول الكفار بنيّة حسنة كتقديم البديل الإسلامي أو زيادة في بغض الكفار فإنه إن شاء الله ممدوح على فعله مثاب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « المباح بالنيّة الحسنة يكون خيراً ، وبالنيّة السّيئة يكون شراً ، ولا يكون فعل اختياري إلا بإرادة .. فإذا فعل شيئاً من المباحات فلا بد له من غاية ينتهي إليها قصده ، وكل مقصود إما أن يقصد لنفسه وإما أن يقصد لغيره فإن كان منتهى مقصوده ومراده عبادة الله وحده لا شريك له وهو إلهه الذي يعبده لا يعبد شيئاً سواه وهو أحب إليه من كل ما سواه ؛ فإن إرادته تنتهي إلى إرادته وجه الله ، فيثاب على مباحاته التي يقصد الاستعانة بها على الطاعة ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة [64] » [65] .
وبعد ! فإن جميع ما سبق إنما هو نظر فقهي مجرد يحتاج تنزيله على وقائعه إلى نظرين : فقهي يحقق المناط ، وواقعي يعرف الحال .(4/264)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « الواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين ؛ فلا يؤخذ رأيهم ، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا » [66] .
اللهم ألهمنا رشدنا ، وقنا شر أنفسنا ، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
________________________
(1) تضمين من (الثقة بالله أولاً) ، للدكتور عبد السلام الهراس ، ص 3 .
(2) تذكير النفس بحديث القدس (3 /514) .
(3) انظر : مجلة القدس ، العدد ، 24 ، ص 18 .
(4) مجموع الفتاوى ، (18/295) .
(5) لسان العرب ، (8 /276) ؛ القاموس المحيط ، ص 971 .
(6) لسان العرب ، (8/280) .
(7) لسان العرب ، (8/15) ؛ القاموس المحيط ، 942 .
(8) لسان العرب ، (8/160) : القاموس الفقهي ، 180 .
(9) المنجد الأبجدي ، 987 .
(10) المعجم الوسيط (2/746) ورمز لها بمحدثة ، والمراد أنها لفظ استعمله المحدثون في العصر الحديث ، وشاع في لغة الحياة العامة .
(11) أهل الذمة : هم الكفار الذين يقيمون في دار الإسلام إقامة دائمة بأمانٍ مؤبّد ، والعهد هو عقد بين المسلمين وأهل الحرب على ترك القتال مدة معلومة ، والمعاهدون هم أهل البلد المتعاقد معهم ، وأهل الحرب هم أهل البلاد التي غلب عليها أحكام الكفر ولم يجر بينهم وبين المسلمين عهد ، وأما المستأمِن فهو الحربي الذي يدخل دار الإسلام بأمانٍ مؤقت لأمرٍ يقتضيه ، انظر : الدر النقي ، لابن عبد الهادي (1/290) ؛ المبدع (3/313 ، 398) ؛ كشاف القناع (3/100) .
(12) انظر : الولاء والبراء في الإسلام ، محمد سعيد القحطاني ، 356 .
(13) صحيح البخاري ، 2216 .
(14) أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به في باب شراء المملوك من الحربي في كتاب البيوع ، وقد وصله أحمد في مسنده (5/443) ؛ وانظر : فتح الباري (4/480) ؛ ومجمع الزوائد (9 / 335) .
(15) أحمد في مسنده (5 / 137) ؛ الدارمي (2582) ؛ الترمذي (1214) ؛ النسائي (4651) ؛ ابن ماجه (2439) بإسناد على شرط البخاري ، إرواء الغليل (5/231) .
(16) صحيح البخاري (2068) ؛ صحيح مسلم (1603) .
(17) اقتضاء الصراط المستقيم (2/15) .
(18) سنن البيهقي كتاب الجزية ، باب ما يؤخذ من الذمي ومن الحربي إذا دخل بلاد الإسلام بأمان ، برقم 19283 .
(19) فتح الباري (9/280) .
(20) فتح الباري (4/410) .
(21) أحمد (2/71) ؛ البيهقي (8/287) ؛ الحاكم (4/144) ، وحسنه الألباني في إرواء الغليل ، 1529 .
(22) مجموع الفتاوى (29/275) .
(23) اسمٌ للخيل .
(24) المبسوط (10/88 ، 89) وانظر المقدمات لابن رشد (2/154) ، نهاية المحتاج (3/390) ، والمحلى لابن حزم (9/65) ؛ فتح القدير ، لابن كمال الهمام (5/461) .
(25) انظر : الوساطة التجارية في المعاملات المالية ، الدكتور الأطرم ، 484 .
(26) انظر : النظام التجاري بالمملكة السعودية ، المادة 18 ؛ معجم المصطلحات القانونية ، لخليل شيبوب ، مادة : كمسيون ، وكالة .
(27) الضروري هو ما يسبب فواته اختلال نظام الحياة ، والحاجي هو ما يسبب فواته الضيق والحرج على الناس ، وأما التحسيني فهو ما يسبب فواته خروج حياة الناس عن العادات الكريمة ، الموافقات ، للشاطبي (2/8 ، 11) .
(28) الأشباه والنظائر ، للسيوطي 93 ، وابن نجيم 85 .
(29) الأشباه والنظائر ، للسيوطي 97 ، وابن نجيم 91 .
(30) موطأ الإمام مالك ، كتاب الزكاة برقم 621 ؛ السنن الكبرى ، للبيهقي ، كتاب الجزية ، باب ما يؤخذ من الذمي إذا تجر في غير بلده ، برقم 19279 ؛ مصنف عبد الرزاق ، كتاب أهل الكتاب ، باب : في صدقة أهل الكتاب (6/99) ، وانظر في هذه المسألة : المغني (13/235) والقِطْنيّة بكسر القاف والتشديد واحدة القطاني كالعدس والحمص ونحوهما ، انظر : النهاية في غريب الحديث (4/85) .
(31) الموافقات (4/210) .
(32) الموافقات ، للشاطبي ، (3/257) .
(33) الموافقات (4/200) ، وانظر تفصيل ذلك في قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية ، لمصطفى مخدوم ، 370 فما بعدها .
(34) إحكام الفصول ، للباجي ، 690 ؛ شرح الكوكب المنير ، للفتوحي (4/434) .
(35) إعلام الموقعين (3/137 - 159) .
(36) الفتاوى الكبرى ، (3/257) .
(37) إعلام الموقعين ، (3/135) ؛ القواعد والأصول الجامعة ، لابن سعدي ، ص 14 .
(38) انظر : الموافقات (4/194) .
(39) تفسير القرآن العظيم (3/351) .
(40) تضمين من مجموع الفتاوى (20/48) .
(41) الموافقات (2/364) ، ومن الأمثلة التي ذكرها : النهي عن البناء على القبور ، وسفر المرأة بلا محرم ، والخلوة بالأجنبية ، وتحريم الزينة على المرأة في عدة الوفاة ، وميراث القاتل ، وغير ذلك .
(42) مجموع الفتاوى (1/164) .
(43) الفروق ، للقرافي ، (2/62) ، الفرق الثامن والخمسون .
(44) القواعد الصغرى ، ص 100 .
(45) الموافقات ، (2/ 360) .
(46) مغازي الواقدي ، (1/11) ؛ السيرة لابن هشام (2/287) ؛ طبقات ابن سعد (2/7) .
(47) السيرة لابن هشام ، (2/284) ؛ طبقات ابن سعد (2/908) .(4/265)
(48) السيرة لابن هشام ، (2/284) ؛ طبقات ابن سعد (2/9) .
(49) صحيح مسلم 1901 ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
(50) السيرة لابن هشام ، (2/284) وصرح فيه ابن إسحاق بالسماع ؛ والبيهقي في الدلائل (3/31) ؛ وذكره الحافظ في فتح الباري (6/334) وسكت عنه .
(51) صحيح البخاري ، 7231 .
(52) صحيح البخاري 4823 ؛ صحيح مسلم 2798 .
(53) صحيح البخاري ، 4372 ؛ صحيح مسلم ، 1764 .
(54) السيرة النبوية ، لابن هشام (2/381) معلقاً ، وذكره ابن القيم في زاد المعاد (3/277) .
(55) صحيح البخاري ، 7142 .
(56) المدخل الفقهي العام ، للزرقا (2/1050) .
(57) الأشباه والنظائر ، للسيوطي 134 ؛ وابن نجيم ، 124 .
(58) صحيح البخاري ، 4418 ؛ صحيح مسلم ، 2769 .
(59) نهاية التدريب نظم غاية التقريب ، 104 .
(60) بواسطة اقتضاء الصراط المستقيم (2/19) .
(61) اقتضاء الصراط المستقيم (2/10) .
(62) هو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعاً ، ولد عام 1225هـ سكن مصر وأخذ عن علمائها وعلماء الدعوة السلفية ، له عدة مؤلفات ، ممن تلقى عنه الشيخ حمد بن عتيق ، والشيخ سليمان بن سحمان ، توفي سنة 1292هـ .
(63) الدرر السنيّة (8/340) .
(64) صحيح البخاري 5351 ؛ صحيح مسلم 1002 .
(65) مجموع الفتاوى (7/43) .
(66) الاختيارات الفقهية 311 .
==============
إعداد القوة الواقع والمأمول
محمد بن شاكر الشريف
الحق له قوة ذاتية نابعة منه ومن تجافيه عن الباطل، ويستطيع دعاة الحق أن يصلوا به إلى عقول الناس، بما احتواه من الحجج والبراهين الدالة عليه، ولا يحتاج الحق في إقناع الناس به إلى قوة تجبرهم أو تكرههم على القبول به واختياره، فإن قوته فيه، ومتى ما احتاج الحق إلى الإكراه لتحقيق الاقتناع بأدلته وبراهينه لم يكن حقا، لذا جاء النص بنفي الإكراه في الدين وذلك في قوله تعالى :"لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [البقرة :256] فالإسلام دين حق عليه دلائل يقينية كل من اطلع عليها لا يملك غير التسليم بها والإذعان لها، فلا حاجة إذن إلى الإكراه عليه، قال ابن كثير رحمه الله تعالى :"أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه علي بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا" ، ولعل مجيء الآية بلفظ " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ "، ولم تكن بلفظ :لا إكراه على الدين، مما يوضح ذلك، ثم كان قوله تعالى :" قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" كالتعليل لما سبق.
ورغم أن الحق منصور من داخله بأدلته وبراهينه، فلا بد له من قوة خارجية، لا لكي يفرض بها نفسه على الناس، وإنما يحتاج إليها لأمرين :الأول :لكي تدافع عنه ضد عدوان المعتدين وصيال الصائلين الذين ختم الله تعالى على قلوبهم، وأصبح نهجهم العناد والمكابرة، والعدوان على المخالفين
الثاني :جهاد الطغاة الظالمين الذين يصدون الناس بما لديهم من سلطان وقوة عن الاستجابة للنداء الحق ويصرفونهم عن اتباعه، ويجبرونهم جبرا وقسرا على البقاء على دينهم الفاسد وعدم الإقبال على الدين الحق، ولأجل تلك الحقيقة شرع الله تعالى الجهاد.
لقد كانت مكة عند بداية الدعوة إلى الله تعالى دار كفر وكان الغالب على أهلها الكفر بالله تعالى، واستمر ذلك زمنا طويلا، لذلك لم يكن هناك من فائدة لإعداد العدة والقوة الحربية لأنها في ظل موازين القوى غير المتكافئة لن تستخدم، ويكون استخدامها في ذلك الوقت المبكر من عمر الدعوة مدعاة للقول بأن الإسلام جاء من أجل قتال الناس، ولو قدر له الانتصار لقالوا إنما انتشر بقوة السيف ودخله الناس مكرهين ولم يدخلوا مؤمنين.
ثم إن ذلك قد يؤدي إلى أمر خطير لو قدر لها أن تنهزم وهو استئصال الدعوة في مهدها ومنعها من النمو، كما أن شرع الجهاد في ذلك الوقت المبكر لن يساعد على تربية المسلمين الذين استجابوا لله والرسول ولدعوة الحق.
ومع أن الإعداد الحربي في ذلك الوقت غير ممكن وغير مراد، لكن كان يجري هناك إعداد أهم بكثير من الإعداد الحربي، بل لا يقوم الإعداد الحربي إلا عليه، فكان هناك إعداد أكثر أهمية يجري على أرض الواقع على بصيرة وجد واجتهاد مع الروية وعدم العجلة، وهو بناء المسلم من داخله :عقيدته وتصوراته وعبادته.(4/266)
وما إن انتقل المسلمون من دار الدعوة (مكة المكرمة) إلى دار الدولة (المدينة المنورة) حتى بدأت مرحلة جديدة من الإعداد وهو الإعداد الحربي، وجاء الأمر بذلك من الله تعالى رب الخلق جميعهم فقال :"وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" [الأنفال :60]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى :"أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال :وأعدوا لهم ما استطعتم، أي مهما أمكنكم من قوة ومن رباط الخيل" ، وقال الطبري في بيان أنواع القوة بعدما تحدث عن الرمي :"ومن القوة أيضا السيف والرمح والحربة، وكل ما كان معونة على قتال المشركين كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم" ، وقال الطيب بن عاشور:" والإعداد التهيئة والإحضار ودخل في ( ما استطعتم ) كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة، والخطاب لجماعة المسلمين وولاة الأمر منهم، لأن ما يراد من الجماعة إنما يقوم بتنفيذه ولاة الأمور الذين هم وكلاء الأمة على مصالحها، والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها...فاتخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية، واتخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوة في جيوش عصرنا، وبهذا الاعتبار يفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال :" ألا إن القوة الرمي" قالها ثلاثا، أي أكمل أفراد القوة آلة الرمي أي في ذلك العصر، وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي"
فقد صار بالإمكان الآن-بعد تحيز المسلمين إلى دار تأويهم- استعمال العدة الحربية والاستفادة منها، وأصبح وجودها والتدرب عليها في هذه الحالة ضرورة لا بد منها حيث تحقق أهداف المسلمين، بعكس الحالة الأولى التي كان من الممكن أن تشكل عبئا عليهم، وقد أطلقت الآية في بيان القوة التي ينبغي إعدادها من غير تقييد حتى يسمح إطلاقها بقبول ما يجد من آلات القوة مع تغير الأزمنة، وهذا الأمر يفرض على جماعة المسلمين الجد والاجتهاد والمثابرة في تحصيل القوة الممكنة في عصرهم التي من شأنها أن تردع الكفار المحاربين أعداء الله تعالى ورسله والمؤمنين.
وفي الأمر بإعداد ما يستطاع من القوة نهي عن الإهمال والتقاعس عن امتلاك أقصى ما يمكن امتلاكه من القوة الحقيقية ووسائلها لا القوة الصورية أو الاستعراضية، فالأمة الإسلامية أمة رسالية، مطلوب منها تبليغ رسالة الله إلى العالمين.
وقد بين نص الآية السبب الذي لأجله أمر المسلمون بإعداد ما يستطاع من القوة، وهو قوله تعالى :"تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ" فكان في إعداد القوة البالغة أمان للأمة من الأعداء المعروفين وغير المعروفين، حتى إنه ليخافها ويرهب جانبها من لا يعرفه المسلمون، مما يشكل رادعا لمن تسول له نفسه بمهاجمتهم أو التآمر عليهم، ويصير الإهمال في إعداد ما يستطاع من القوة مدعاة لأن يستخف بهم اعداؤهم ويتجرؤون عليهم.
هذا النص القرآني في وجوب إعداد القوة التي تخيف الأعداء بغرض تأمين الدعوة إلى الله تعالى في أرض الله، وتأمين دار الإسلام ضد عدوان المعتدين، يفتح باب التصنيع الحربي أمام المسلمين على مصراعيه، لأن إعداد المستطاع من القوة لا يتم إلا بذلك، ومن القواعد المشهورة عند أهل العلم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، من هنا يظهر وجوب إقامة المصانع الحربية التي تمد جيوش المسلمين بالآلة الحربية المناسبة لعصرهم في جميع المجالات الحربية :البرية والبحرية والجوية.
ويستتبع إقامة المصانع الحربية العناية بتدريس العلوم التقنية، التي تعد بمثابة اللبنة الأولى الازمة لإقامة تلك المصانع، وتشجيع البحث العلمي، ورصد الميزانيات المناسبة له، وليس يقبل عقلا أو شرعا أن ميزانية بعض أندية الألعاب البدنية، أو مؤسسات اللهو كالسينما ونحوها في بلد مسلم واحد، تفوق ميزانيات البحث العلمي في بلاد المسلمين مجتمعة.
وقد ظهرت عناية الشريعة بالتصنيع الحربي لما له من أهمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنةَ :صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به، وقال ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق" ، وقد تناول هذا الحديث أمور ثلاثة رامي السهم وهو يمثل الجيش وصانعه وهو يمثل الصناعات الحربية والممد به وهو يمثل التموين والإمداد الذي تحتاج إليه الجيوش.(4/267)
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية ائتلاف تلك العناصر الثلاثة وأشركهم جميعا في حصول الثواب، فلم يقصر ثواب الجهاد وأجره على المجاهد الفعلي، بل جعل القائم بالصناعة الحربية شريكا للمجاهد في دخول الجنة لما يترتب عليها من نشر الدين وحماية الحوزة، ولأن المجاهد بالفعل يحتاج في جهاده إلى الآلة الحربية المناسبة، وهذه لا يمكن الحصول عليها إلا بالتصنيع، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية الإمداد والتموين فقد يوجد المجاهد ويوجد السلاح، ولا يوجد من يوصل السلاح إلى المجاهد وقت الحاجة إليه، فلا بد من وجود من يمد بالسلاح ويوصله إلى من يجاهد به.
وقوله صلى الله عليه وسلم :صانعه يحتسب في صنعته الخير، يعني يطلب في صنعة السهم الثواب من الله تعالى، وهذا لا يعني أن لا يأخذ على ذلك أجرا، بل القصد أن يكون يريد بذلك العمل نصرة الدين والدفاع عن حوزة المسلمين.
وقد أشار القرآن إلى الصناعات الحربية في قوله تعالى :"... وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ..ٌالآية [الحديد :25]، قال ابن كثير :" فيه بأس شديد، يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان والنصال والدروع ونحوها" ، والحديد لا يصير سيوفا وحرابا ونصالا إلا بالتصنيع، وكذلك قال تعالى ممتنا بتعليم الصناعة الحربية لعبده داود عليه السلام :"وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ" [الأنبياء :80] قال القرطبي :"قوله تعالى :" وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ " [الأنبياء :80]، يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له، واللبوس عند العرب السلاح كله :درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا" . وقال تعالى :"وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ" [سبأ 10 ، 11 ] والسابغات جمع سابغة، وهي الدرع التي تغطي المقاتل غطاء وافيا، والدرع :القميص من حديد أو غيره.
كما دلت النصوص على العناية بالمركبات الحربية التي يستخدمها المجاهدون، أو التي تنقلهم إلى ميادين الجهاد، مما يبين أن صناعة المركبات الحربية سواء كانت دبابات برية أو سفن وغواصات بحرية أو طائرات جوية، ينبغي أن تلقى العناية أيضا فإن الجهاد بغيرها متعذر أو مستحيل في أيامنا.
ومن النصوص التي تحدثت عن المركبات الحربية قوله تعالى :" وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ" فالخيل هي المركبات الحربية في زمن نزول القرآن، وقد دلت السنة على العناية بالخيل ووردت فيها أحاديث كثيرة فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :"من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" ، أي من هيأ فرسا وأعده للجهاد في سبيل الله تعالى طاعة لله تعالى وابتغاء وجهه فإن ما يأكله هذا الفرس من الطعام وما يرويه من الماء وما يخرج منه من بول أو روث كان ذلك كله حسنات توضع في ميزان ذلك الشخص، وهذا يدل دلالة واضحة على أهمية العناية بالمركبات الحربية، وأخرج البخاري في صحيحه قال صلى الله عليه وسلم :"الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر :فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر ... "الحديث ، ومعنى الحديث أن من أعد خيله للجهاد في سبيل الله تعالى فإنه يؤجر على كل شيء يتعلق بها، فلو ربطها في حبل طويل وتركها ترعى فإن كل مسافة مشتها وهي في الحبل كي ترعى كانت له حسنات، ولو أنها قطعت ذلك الحبل فاستنت أي أفلتت ومرحت شرفا أو شرفين، والشرف ما ارتفع من الأرض كانت آثارها وما تلقيه من فضلات حسنات له، ولو مرت بنهر فشربت منه من غير إرادة له في ذلك كانت أيضا حسنات له، فكيف لو أراد؟، وهذا مما يدل على عناية الإسلام بكل ما يعين ويساعد على نشر الدعوة وحماية الحوزة، ومن ذلك بلا شك المركبات الحربية
وقد بلغت عناية المسلمين بالسلاح وإعداد القوة اللازمة لنشر الدعوة وحماية الحوزة أن جعل أهل العلم السهمين الواردين في قوله تعالى :وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...الآية" [الأنفال :41] "في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قال الأعمش عن إبراهيم :كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح، فقلت لإبراهيم :ما كان علي يقول فيه ؟ قال :كان أشدهم فيه، وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء رحمهم الله" .(4/268)
واستخدم المسلمون الصحابة فمن بعدهم الآلات الحربية في الفتوحات كالمنجنيق (وهي الآلة التي يقذف بها الحجارة وما أشبهها) والعرادات (جمع عرادة وهي أصغر من المنجنيق)، والدبابات (الدبابة : آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال فيدبون بها إلى الأسوار لينقبوها، ويطلق عليها أيضا الدراجات والضبور)، ولم يتقاعسوا عن استخدام الأسلحة التي وصل إليها التقدم العلمي في عصرهم
وقد اعتنى المسلمون إلى جانب ذلك بالصناعات البحرية لحاجتهم إلى السفن الحربية في نشر الدعوة والدفاع عن الديار، فأنشأ المسلمون بمصر في جزيرة الروضة دار الصناعة لبناية السفن لأول مرة وكان ذلك عام 54 هجرية ،وفي سنة أربع عشرة ومائة أنشأ المسلمون دار الصناعة لإنشاء المراكب البحرية في تونس ، وتوالى بعد ذلك إنشاؤها.
فإذا كانت النصوص الشرعية قد دلت على العناية بصناعة الأسلحة والمركبات الحربية، وعمل بذلك سلفنا الصالح، فإنه يكون من أكبر التقصير الذي تقع فيه الأمة اليوم أن تظل تعتمد في سلاحها الذي تحفظ به أمنها وتنشر به دعوة الله المكلفة بإيصالها للعالمين، على عدوها الذي لا يألوها خبالا كما قال تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" [آل عمران :118].
ولا شك أن اعتماد الأمة في سلاحها على الشراء فقط دون التصنيع له مفاسد كثيرة منها :المبالغ الضخمة التي تدفع في هذه الأسلحة التي تفوق بمراحل كثيرة قيمتها الفعلية، ومنها أن تلك الأسلحة لا يمكن أن تكون أسلحة متقدمة متطورة تغني في مواقع النزال مع أعداء الأمة، بل إن موردي السلاح من دول النصارى لا يعطون الأمة إلا الأسلحة التي لا تخل بميزان القوى بين الأمة وبين عدوها، بحيث تضمن تلك الدول للعدو أن يحقق التفوق الحربي على الدول العربية مجتمعة أثناء القتال، ومنه منع الإمداد بالسلاح أو الذخيرة وقت الحاجة إليه، فتقف الجيوش عاجزة عن التحرك، ويُفرض على الأمة حينئذ ما يشاؤون من الحلول الانهزامية، وأمامنا ما حدث في قضية البوسنة والهرسك، حيث منع عنهم السلاح وهم يتعرضون للقتل الشديد من الصرب، ومن مفاسد الاعتماد في التسليح على الغير أن يكون قرار الأمة مغلولا غير قادر على التحرر والاستقلالية، وهذا الوضع يؤدي إلى استخفاف كثير من الدول بالمسلمين.
إن من الأمور الغريبة التي يعسر إيجاد تسويغ مقبول لها أن تكون الأمة التي جعل الله الجهاد في سبيله لتبليغ رسالة رب العالمين إلى الناس كافة أحد فرائض دينها، ثم هي تهمل آلته وما يساعد عليه، رغم امتلاكها لكل ما تحتاج إليه مما يمكن أن يقيم صناعة حربية متطورة تزود الدول الإسلامية جميعها بما تحتاج إليه
لقد أدى هذا الوضع أن تنتقص بلاد المسلمين من أطرافها ويحتلها الكفار من اليهود والنصارى وهم مطمئنون إلى عدم قدرة هذه الدول في الدفاع عن نفسها، لأنها لا تملك سلاحها التي تدافع به عن نفسها.
لقد تطورت صناعة الأسلحة في أيامنا هذه وكذلك المركبات الحربية تطورا مذهلا، وقد بات الآن من الأمور الواضحة في فقه السياسة الشرعية وجوب القيام بالتصنيع الحربي في جميع المجالات، وجوبا لا يحتمل التأخير والمماطلة، وإذا كانت الأمة تعاني من تخلف كبير في هذا المجال فإنها يمكنها أن تتكامل في ذلك مع الدول الإسلامية المتقدمة في مجال التصنيع الحربي، وأن تبدأ من الآن، وتوجه الجهود، وتقيم مراكز الأبحاث، وترصد الأموال اللازمة، ومن سار على الدرب وصل ولو بعد حين.
إن من الأمور اللافتة للنظر والتي تبين الأهمية القصوى للتصنيع الحربي هو حرص الدول القوية في العالم على حرمان الدول الإسلامية من امتلاك الأسلحة القوية المتطورة ذات القوة التدميرية العالية، مع أن هذه الدول تمتلك هذه الأسلحة وتستخدمها في معاركها ضد أعدائها، وتهدد باستخدامها ضد من يحاول امتلاكها، ولم تتوقف مراكز أبحاثها عن النظر في هذه الأسلحة وتطويرها وابتكار أشكال جديدة منها، وهو ما يعني إصرار هذه الدول على التفرد بالقوة الحقيقية في العالم، واستخدام الأسلحة المتطورة ذات القوة التدميرية العالية ضد من يحاربونهم دون أن يخشوا من الرد بالمثل، وهو يكشف في جانب منه عن النظرة الاستعمارية أو الاستعلائية التي تملأ عقول النخب في هذه الدول، بإزاء الدول الضعيفة، والتي تريد أن تحولهم إلى مجرد ذيول لها واتباع، وبغياب القدرة الحقيقية على الردع بحرمان الدول من امتلاك الأسلحة المناظرة وفرض ذلك بالقوة، يتحول العالم إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف ويملي عليه شروطه، ولا يكون أمامه إلا أحد خيارين :أما القبول والرضوخ لما يطلب منه، وإما الدمار، وفي ذلك تهديد للسلام في العالم لأن من أمن العقوبة أساء الأدب.(4/269)
والرضوخ لهذا الوضع والقبول به والاستسلام له، معناه تحول أمتنا إلى أمة تابعة لا تملك الدفاع عن نفسها أو مقدساتها، ولو كانت أمتنا الإسلامية تصنع سلاحها الذي تحتاج إليها بيد أبنائها كما كانت في الماضي، لما تجرأ عبدة الصلبان على الاستخفاف والطعن في أفضل الناس وسيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .
إنه ليس هناك ما يُسوِّغ لأحد التقاعس أو الإهمال في إعداد العدة المناسبة لعصرها، وقد تبين لنا جميعا إنه لا يمكن الاعتماد أو الركون إلى ما يسمونه تطمينات أو وعود أو نحو ذلك، فالخطط معدة والانقضاض على بلادنا ليس إلا مسألة ظرف مناسب، فالبدار البدار، فإن الندم بعد وقوع المصاب لا يجدي، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
=============
الجزية في الإسلام
د. منقذ بن محمود السقار
تمهيد
استشكل البعض ما جاء في القرآن من دعوة لأخذ الجزية من أهل الكتاب، وذلك في قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (1) ، ورأوا - خطأً - في هذا الأمر القرآني صورة من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب التي دخلت في رعوية الأمة المسلمة.
ولا ريب أن القائل قد ذهل عن الكثير من التميز الذي كفل به الإسلام حقوق أهل الجزية، فقد ظنه كسائر ما أثر عن الحضارات السابقة واللاحقة له، فالإسلام في هذا الباب وغيره فريد عما شاع بين البشر من ظلم واضطهاد أهل الجزية، كما سيتبين لنا من خلال البحث العلمي المتجرد النزيه.
أولاً : الجزية في اللغة
الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي)، تقول العرب: "جزى ، يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه"، والجزية مشتق على وزن فِعلة من المجازاة، بمعنى "أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن"، وقال ابن المطرز: بل هي من الإجزاء "لأنها تجزئ عن الذمي". (2)
ثانياً : الجزية قبل الإسلام
لم يكن الإسلام بدعاً بين الأديان، كما لم يكن المسلمون كذلك بين الأمم حين أخذوا الجزية من الأمم التي دخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أشهر من علم ، فالتاريخ البشري أكبر شاهد على ذلك.
وقد نقل العهد الجديد شيوع هذه الصورة حين قال المسيح لسمعان: " ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب.قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار " (متى 17/24-25).
والأنبياء عليهم السلام حين غلبوا على بعض الممالك بأمر الله ونصرته أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة، بل واستعبدوا الأمم المغلوبة، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر.فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيداً تحت الجزية" (يشوع 16/10)، فجمع لهم بين العبودية والجزية.
والمسيحية لم تنقض شيئا من شرائع اليهودية، فقد جاء المسيح متمماً للناموس لا ناقضاً له (انظر متى 5/17)، بل وأمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها ، فقد قال لسمعان: " اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولا خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستارا، فخذه وأعطهم عني وعنك" (متى 17/24-27).
ولما سأله اليهود (حسب العهد الجديد) عن رأيه في أداء الجزية أقر بحق القياصرة في أخذها "فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين: يا معلّم نعلم أنك صادق، وتعلّم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا: ماذا تظن ، أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ .. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة.قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه" (متى 22/16-21).
ولم يجد المسيح غضاضة في مجالسة ومحبة العشارين الذين يقبضون الجزية ويسلمونها للرومان (انظر متى 11/19)، واصطفى منهم متى العشار ليكون أحد رسله الاثني عشر (انظر متى 9/9).
ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقاً مشروعاً، بل ويعطيه قداسة ويجعله أمراً دينياً، إذ يقول: "لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة... إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضا بسبب الضمير. فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رومية 13/1-7).
ثالثاً : الجزية في الإسلام(4/270)
لكن الإسلام كعادته لا يتوقف عند ممارسات البشر السابقة عليه، بل يترفع عن زللهم، ويضفي خصائصه الحضارية، فقد ارتفع الإسلام بالجزية ليجعلها، لا أتاوة يدفعها المغلوبون لغالبهم، بل لتكون عقداً مبرماً بين الأمة المسلمة والشعوب التي دخلت في رعويتها. عقد بين طرفين، ترعاه أوامر الله بالوفاء بالعهود واحترام العقود، ويوثقه وعيد النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخل به ، وتجلى ذلك بظهور مصطلح أهل الذمة، الذمة التي يحرم نقضها ويجب الوفاء بها ورعايتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الله بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم كما نصت الآية على ذلك { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (3) قال القرطبي: "قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين... وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني".(4)
وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)(5) أي ناهز الاحتلام.
ولم يكن المبلغ المدفوع للجزية كبيراً تعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً ، لم يتجاوز على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدينار الواحد في كل سنة، فيما لم يتجاوز الأربعة دنانير سنوياً زمن الدولة الأموية.
فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم دينارا، يقول معاذ: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة (هذه زكاة على المسلمين منهم)، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر(للجزية))(6)، والمعافري: الثياب.
وفي عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ضرب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهما؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.(7)
1- التحذير من ظلم أهل الذمة
يأمر الله في كتابه والنبي في حديثه بالإحسان لأهل الجزية وحسن معاملتهم، وتحرم الشريعة أشد التحريم ظلمهم والبغي عليهم، فقد حثّ القرآن على البر والقسط بأهل الكتاب المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }(8) ، والبر أعلى أنواع المعاملة ، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين ، وهو الذي وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بقوله : (( البر حسن الخلق ))(9) .
ويقول صلى الله عليه وسلم في التحذير من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم: (( من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)) (10)، ويقول: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً )). (11)
وحين أساء بعض المسلمين معاملة أهل الجزية كان موقف العلماء العارفين صارماً، فقد مرّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)). قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا. (12)
وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: { وهم صاغرون }، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.
وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: "أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً"، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: "فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا". (13)
2- بعض صيغ عقد الذمة في الدولة الإسلامية
وقدم الإسلام ضمانات فريدة لأهل الذمة، لم ولن تعرف لها البشرية مثيلاً، ففي مقابل دراهم معدودة يدفعها الرجال القادرون على القتال من أهل الذمة، فإنهم ينعمون بالعيش الآمن والحماية المطلقة لهم من قبل المسلمين علاوة على أمنهم على كنائسهم ودينهم .
وقد تجلى ذلك في وصايا الخلفاء لقادتهم ، كما أكدته صيغ الاتفاقات التي وقعها المسلمون مع دافعي الجزية، ونود أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى تأمل الضمانات التي يضمنها المسلمون وما يدفعه أهل الجزية في مقابلها.(4/271)
ونبدأ بما نقله المؤرخون عن معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجزية، ونستفتح بما أورده ابن سعد في طبقاته من كتاب النبي لربيعة الحضرمي، إذ يقول: " وكتب رسول الله e لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي وإخوته وأعمامه، أن لهم أموالهم ونخلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشِراجهم (السواقي) بحضرموت ، وكل مال لآل ذي مرحب ، وإن كل رهن بأرضهم يُحسب ثمره وسدره وقبضه من رهنه الذي هو فيه ، وأن كل ما كان في ثمارهم من خير فإنه لا يسأل أحد عنه ، وأن الله ورسوله براء منه ، وأن نَصْرَ آل ذي مرحب على جماعة المسلمين ، وأن أرضهم بريئة من الجور ، وأن أموالهم وأنفسهم وزافر حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس ، وأن الله جار على ذلك ، وكتب معاوية" (14)
وقوله: (( وأن نصر آل ذي مرحب على جماعة المسلمين )) فيه لفتة هامة، وهي أن المسلمين يقدمون حياتهم وأرواحهم ودماءهم فدىً لمن دخل في حماهم ، وأصبح في ذمتهم ، إنها ذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول القرافي: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم". (15)
كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب ذمة وعهد إلى أهل نجران النصارى، ينقله إلينا ابن سعد في طبقاته، فيقول: " وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته ، ولا راهب عن رهبانيته ، ولا كاهن عن كهانته ، ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين ، وكتب المغيرة". (16)
وانساح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطبقون ما تعلموه من نبيهم العظيم، ويلتزمون لأهل الجزية بمثل الإسلام وخصائصه الحضارية، وقد أورد المؤرخون عدداً مما ضمنوه لأهل الذمة، ومن ذلك العهدة العمرية التي كتبها عمر لأهل القدس، وفيها: "بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم .
ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم ، ولا يُسَكَّن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغ مأمنه ، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ...ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية ، شهد على ذلك خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان ، وكتب وحضر سنة خمس عشرة". (17) ، وبمثله كتب عمر لأهل اللد.(18)
وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها مثله، "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية". (19)
ويسجل عبادة بن الصامت هذه السمات الحضارية للجزية في الإسلام، وهو يعرض الموقف الإسلامي الواضح على المقوقس عظيم القبط ، فيقول: "إما أجبتم إلى الإسلام .. فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدت في الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم ، فإن أبيتم إلا الجزية، فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم ، نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ...". (20)
ونلحظ ثانية كيف يتقدم المسلم بنفسه لحماية أهل الجزية وأموالهم، ونرى فداءه لهم بماله ودمه "نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم" .
3- حرص المسلمين على الوفاء بعقد الذمة
وقد خشي الخلفاء أن يقصر المسلمون في حقوق أهل الذمة ، فتفقدوا أحوالهم، ومن ذلك ما رواه الطبري في تاريخه، في سياقه لحديث عمر إلى وفد جاءه من أرض الذمة " قال عمر للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟ فقالوا:ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة". (21)(4/272)
ولما جاءه مال الجباية سأل عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، ففي الأثر عنه رضي الله عنه "أنه أتي بمال كثير، أحسبه قال من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني ". (22)
ولما تدانى الأجل به رضي الله عنه لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة فقال: " أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، وأن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتلوا من ورائهم ، وألا يكلفوا فوق طاقتهم ". (23)
وكتب علي رضي الله عنه إلى عماله على الخراج: "إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا الله أن نأخذ منهم العفو ، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك". (24)
وأجلى الوليد بن يزيد نصارى قبرص مخافة أن يعينوا الروم فردهم يزيد بن الوليد الخليفة بعده، يقول إسماعيل بن عياش عن صنيع الوليد: فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص ، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً.(25)
ولما أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكى إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم.(26)
4- من أقوال الفقهاء المسلمين في حراسة وتقرير حقوق أهل الذمة
ونلحظ فيما سبق الإسلام لحراسة حقوق أهل الذمة في إقامة شعائر دينهم وكنائسهم ، جاء في قوانين الأحكام الشرعية : "المسألة الثانية: فيما يجب لهم علينا، وهو التزام إقرارهم في بلادنا إلا جزيرة العرب وهي الحجاز واليمن، وأن نكف عنهم، ونعصمهم بالضمان في أنفسهم وأموالهم، ولا نتعرض لكنائسهم ولا لخمورهم وخنازيرهم ما لم يظهروها". (27)
وينقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم، فيقول: "وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة)".(28)
وتصون الشريعة نفس الذمي وماله ، وتحكم له بالقصاص من قاتله ، فقد أُخذ رجل من المسلمين على عهد علي رضي الله عنه وقد قتل رجلاً من أهل الذمة، فحكم عليه بالقصاص، فجاء أخوه واختار الدية بدلا عن القود، فقال له علي: "لعلهم فرقوك أو فزّعوك أو هددوك؟" فقال: لا ، بل قد أخذت الدية، ولا أظن أخي يعود إلي بقتل هذا الرجل، فأطلق علي القاتل، وقال: "أنت أعلم، من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديّتنا". (29)
وصوناً لمال الذمي فإن الشريعة لا تفرق بينه وبين مال المسلم، وتحوطه بقطع اليد الممتدة إليه، ولو كانت يد مسلم، يقول المفسر القرطبيُّ: "الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقِق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه". (30)
قال الماورديّ: "ويلتزم ـ أي الإمام ـ لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين". (31)
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم". (32)
وتوالى تأكيد الفقهاء المسلمين على ذلك، يقول ابن النجار الحنبلي: "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة ومنع من يؤذيهم وفكُّ أسرهم ودفع من قصدهم بأذى". (33)
ولما أغار أمير التتار قطلوشاه على دمشق في أوائل القرن الثامن الهجري، وأسر من المسلمين والذميين من النصارى واليهود عدداً، ذهب إليه الإمام ابن تيمية ومعه جمع من العلماء، وطلبوا فك أسر الأسرى، فسمح له بالمسلمين، ولم يطلق الأسرى الذميين، فقال له شيخ الإسلام: "لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع لديك أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فإن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا" ، فأطلقهم الأمير التتري جميعاً. (34)
وينقل الإمام القرافي عن الإمام ابن حزم إجماعاً للمسلمين لا تجد له نظيراً عند أمة من الأمم، فيقول: "من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". (35)
5- صور ناصعة من معاملة المسلمين لأهل الذمة(4/273)
وحين عجز المسلمون عن أداء حقوق أهل الذمة وحمايتهم من عدوهم ردوا إليهم ما أخذوه من الجزية لفوات شرطها، وهو الحماية، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين ، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج ، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع ، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". (36)
وحين قام أهل الذمة بالمشاركة في الذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية رضي الله عنه مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه "أرمينية بين بيزنطة والإسلام" : "إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: ((أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلا من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينا أمراء ولا قادة ولا خيلا ولا قضاة... وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك)). (37)
ولا يتوقف حق أهل الذمة على دفع العدو عنهم، بل يتعداه إلى دفع كل أذى يزعجهم، ولو كان بالقول واللسان، يقول القرافي: "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام". (38)
وواصل المسلمون بهدي من دينهم عطاءهم الحضاري حين تحولوا من آخذين للجزية إلى باذلين للمال رعاية وضماناً للفقراء من أهل الذمة، فقد روى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس فقال: ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير.(39) وكان مما أمر به رضي الله عنه : "من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه". (40)
وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: "وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه". (41)
أما إذا امتنع الذمي عن دفع الجزية مع القدرة عليها فإنه يعاقب، من غير أن تنقض ذمته، يقول القرطبي: "وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء". (42)
لقد أدرك فقهاء الإسلام أهمية عقد الذمة وخطورة التفريط فيه، وأنه لا ينقض بمجرد الامتناع عن دفع الجزية، يقول الكاساني الحنفي: "وأما صفة العقد (أي عقد الذمة) فهو أنه لازم في حقنا، حتى لا يملك المسلمون نقضه بحال من الأحوال، وأما في حقهم (أي الذميين) فغير لازم". (43)
رابعاً : شهادة المؤرخين الغربيين
ولسائل أن يسأل : هل حقق المسلمون هذه المثُُل العظيمة ، هل وفوا ذمة نبيهم طوال تاريخهم المديد؟ وفي الإجابة عنه نسوق ثلاث شهادات لغربيين فاهوا بالحقيقة التي أثبتها تاريخنا العظيم.
يقول ولديورانت: "لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زيّ ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص باختلاف دخله، وتتراوح بين دينارين وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية..ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنان ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم..." (44)
يقول المؤرخ آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلامية": "كان أهل الذمة يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون، وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار". (45)(4/274)
ويقول المؤرخ سير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" موضحاً الغرض من فرض الجزية ومبيناً على مَن فُرضت: "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين - كما يردد بعض الباحثين - لوناً من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين".
وهكذا تبين بجلاء ووضوح براءة الإسلام بشهادة التاريخ والمنصفين من غير أهله، ثبتت براءته مما ألحقه به الزاعمون، وما فاهت فيه ألسنة الجائرين.
هذا والله أسأل أن يشرح صدورنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------
(1) سورة التوبة : 29 .
(2) الجامع لأحكام القرآن (8/114)، المغرب في ترتيب المعرب (1/143)، وانظر مختار الصحاح (1/44).
(3) سورة التوبة : (29) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (8/72).
(5) انظره في إرواء الغليل ح (1255).
(6) رواه الترمذي في سننه ح (623)، وأبو داود في سننه ح (1576)، والنسائي في سننه ح (2450)، وصححه الألباني في مواضع متفرقة ، منها صحيح الترمذي (509).
(7) مشكاة المصابيح ح (3970)، وصححه الألباني.
(8) الممتحنة ( 8 ).
(9) رواه مسلم برقم (2553) .
(10) رواه أبو داود في سننه ح (3052) في (3/170) ، وصححه الألباني ح (2626)، و نحوه في سنن النسائي ح (2749) في (8/25).
(11) رواه البخاري ح (2295) .
(12) رواه مسلم ح (2613)
(13) الجامع لأحكام القرآن (8/115) ، وتفسير الماوردي (2/351-352).
(14) طبقات ابن سعد (1/266) .
(15) الفروق (3/14-15)
(16) الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 266) .
(17) تاريخ الطبري (4 / 449) .
(18) انظر: تاريخ الطبري (4/ 449).
(19) فتوح البلدان للبلاذري (128) .
(20) فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (68) .
(21) تاريخ الطبري (2/503).
(22) المغني (9/290)، أحكام أهل الذمة (1/139).
(23) رواه البخاري برقم (1392) في (3/1356).
(24) الخراج (9).
(25) فتوح البلدان (156).
(26) فتوح البلدان (132).
(27) قوانين الأحكام الشرعية (176).
(28) اختلاف الفقهاء (233).
(29) مسند الشافعي (1/344).
(30) الجامع لأحكام القرآن (2/246).
(31) الأحكام السلطانية (143).
(32) انظر: مغني المحتاج (4/253).
(33) مطالب أولي النهى (2/602).
(34) مجموع الفتاوى (28/617-618).
(35) الفروق (3/14-15).
(36) الخراج (135) ، وانظره في: فتوح البلدان للبُلاذري ، وفتوح الشام للأذري.
(37) وانظر فتوح البلدان (210- 211).
(38) الفروق (3/14).
(39) الأموال (1/163).
(40) تاريخ مدينة دمشق (1/178).
(41) الأموال (1/170).
(42) الجامع لأحكام القرآن 8/73-74.
(43) بدائع الصنائع (7/112).
(44) قصة الحضارة (12/131).
(45) الحضارة الإسلامية (1/96).
=================
في ذكرى سقوط الخلافة...درس وعَبرة
أحمد محمد عمرو
ضَجَّتْ عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ *** وبَكتْ عليكِ ممالكٌ ونَواحِ
الهندُ والهةٌ ومصرُ حزينة ٌ *** تَبْكي عليكِ بمَدمَعٍ سَحّاحِ
والشّامُ تسْألُ والعِراقُ وفَارسٌ *** أَمَحَا من الأرضِ الخلافةَ ماحِ؟
بمثل تلك الأبيات خرجت حروف أبيات أحمد شوقي تبكي صرح الخلافة الذي انهدم.
في يوم لم تشهد الأمة بعد وفاة رسولها صلى الله عليه وسلم يومًا مثله.
ففي السابع والعشرين من شهر رجب لسنة 1342 هـ، الموافق للثالث من مارس لسنة 1924م, وقعت أكبر جريمة في حق المسلمين، حيث تمكنت الدول الأوروبية بقيادة بريطانيا بواسطة عميلها "مصطفى كمال أتاتوك" من إلغاء دولة الخلافة العثمانية الإسلامية، ولم تخرج الجيوش البريطانية المحتلة لمضيق البوسفور وإستانبول العاصمة إلا بعد أن اطمأنت من إسقاط دولة الخلافة، وإقامة الجُمهورية العلمانية على أنقاضها، وإخراج الخليفة من البلاد.
ـ وبسقوطها سقطت مفاهيم الدولة المبنية على المبادئ والقيم الرفيعة والأخلاقيات، وحلَّت محلها المفاهيم المبنية على المصالح والأهواء والماديات.
ـ سقطت دولة الخلافة وبسقوطها سقطت آخر دولة خلافة للمسلمين، لم يتبق للأمة الإسلامية منذ ذلك التاريخ دولة حقيقية تمثلهم، ولم يعودوا يحيون في جماعة إسلامية يقودها خليفة مبايع شرعًا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ـ سقطت دولة الخلافة وبسقوطها سقط ظل دار الإسلام من على الأرض، الذي كان يظل كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
مقدمة لابد منها(4/275)
الدولة العثمانية 699 ـ 1343 هـ. العثمانيون من شعب التركي، وأصلهم من بلاد التركستان، نزحوا أمام اكتساح جنكيز خان لدولة خوارزم الإسلامية، بزعامة سليمان الذي غرق أثناء عبوره نهر الفرات سنة 628 هـ فتزعم القبيلة ابنه أرطغرل الذي ساعد علاء الدين السلجوقي في حرب البيزنطيين فأقطعه وقبيلته قطعة من الأرض في محاذاة بلاد الروم غربي دولة سلاجقة الروم. وهذه الحادثة حادثة جليلة تدل على ما في أخلاقهم من الشهامة والبطولة. ويعتبر عثمان بن أرطغرل هو المؤسس الأول للدولة العثمانية، وبه سميت، عندما استقل بإمارته سنة 699 هـ وأخذت هذه الإمارة على عاتقها حماية العالم الإسلامي، وتولت قيادة الجهاد، وأصبحت المتنفس الوحيد للجهاد ،فجاءها كل راغب فيه.
وفي عام 923 هـ انتقلت الخلافة الشرعية لسليم الأول بعد تنازل المتوكل على الله آخر خليفة عباسي في القاهرة… وبهذه العاطفة الإسلامية المتأججة في نفوسهم ممتزجة بالروح العسكرية المتأصلة في كيانهم، حملوا راية الإسلام، وأقاموا أكبر دولة إسلامية عرفها التاريخ في قرونه المتأخرة… وبقيت الحارس الأمين للعالم الإسلامي أربعة قرون، وأطلقوا على دولتهم اسم (بلاد الإسلام) وعلى حاكمها اسم (سلطان) وكان أعز ألقابه إليه (الغازي) أي:المجاهد.
وحكموا بالعدل وعملوا بالشرع الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى لتكوين هذه الدولة… ووسعوا رقعة بلاد الإسلام شرقاً وغرباً واندحرت الأطماع الصليبية أمامهم وحقق الله على أيديهم هزيمة قادة الكفر والتآمر على بلاد المسلمين وارتجفت أوروبا خوفاً وفزعاً من بعض قادتهم أولئك الذين كانت الروح الإسلامية عندهم عالية . . وكانت روح الانضباط التي يتحلى بها الجندي عاملاً من عوامل انتصاراتهم وهي التي شجعت محمد الثاني على القيام بفتوحاته.
وكانت غيرتهم على الإسلام شديدة وكثر حماسهم له، لقد بدءوا حياتهم الإسلامية بروح طيبة وساعدتهم الحيوية التي لا تنضب؛ إذ إنهم شعب شاب جديد لم تفتنه مباهج الحياة المادية والثراء، ولم ينغمس في مفاسد الحضارات المضمحلة التي كانت سائدة في البلاد التي فتحوها، ولكنهم استفادوا منها فأخذوا ما أفادهم، وكانت عندهم القدرة على التحكم والفتح والانتصار وقد أتقنوا نظام الحكم وخاصة في عصر الفاتح، إذ كان هناك نظام وضع لاختيار المرشحين لتولي أمور الدولة بالانتقاء والاختيار والتدريب والثقافة، كما كانوا يشدد ون في اختيار من تؤهله صفاته العقلية والحسية ومواهبه الأخرى المناسبة لشغل الوظائف، وكان السلطان رأس الحكم ومركزه وقوته الدافعة وأداة توحيده وتسييره، وهو الذي يصدر الأوامر المهمة والتي لها صبغة دينية، وكان يحرص على كسب رضاء الله وعلى احترام الشرع الإسلامي المطهر.
فكان العثمانيون يحبون سلاطينهم مخلصين لهم متعلقين بهم فلم يفكروا لمدة سبعة قرون في تحويل السلطة من آل عثمان إلى غيرهم. ولكن الأمور لم تستمر على المنهج نفسه والأسلوب الذي اتبعوه منذ بزوغ نجمهم في صفحات التاريخ المضيء فقد بدأ الوهن والضعف يزحف إلى كيانهم.
لماذا الحديث عن هذه الذكرى
لم تكن ذكرى سقوط الخلافة في يوم من الأيام ذكرى دينية بالمعنى الشرعي، وإن كانت تتعلق بأعظم واجبات الدين ألا وهو وجوب إقامة الدولة الإسلامية لتطبيق الشرع، ولا هي ذكرى احتفالية يرجى من ورائها أن نتجرع كأس الألم والحسرة.
ولكنها ذكرى أردت من الحديث عنها.
أولاً: إشاعتها بين السواد الأعظم من المسلمين. وتعريف المسلمين بأهمية هذا الواجب الذي وصفه القلقشندي: بـ"حظيرة الإسلام، ومحيط دائرته، ومربع رعاياه، ومرتع سائمته، والتي بها يحفظ الدين ويُحمى، وبها تُصان بيضة الإسلام، وتسكن الدهماء، وتقام الحدود فتمنع المحارم عن الانتهاك، وتُحفظ الفروج فَتُصان الأنساب عن الاختلاط، وتُحصن الثغور فلا تطرق، ويُذاد عن الحُرَمِ فلا تُقرع".
تلك المعاني التي افتُقدت فعلاً هذه الأيام واختفت بسقوط دولة الخلافة.
ثانيًا: إثارة نوازع الوحدة بين الشعوب المسلمة مع اختلاف مشاربها وأقطارها، ومع اختلاف أحزابها وتجمعاتها.
ثالثًا: تحريك الغافلين من أجل العمل لهذا الدين، واستعادة مجده.
رابعًا: ربط الأجيال الجديدة بماضيها التليد، وأن الحديث عن مجد هذه الأمة لا يرتبط فقط بعصر الصحابة وما تبعه. بل لنا في العصر الحديث أيضًا ماض يفتخر به.
خامسًا: إثارة الغبار عن تاريخ نُسي أو نُسِّي، ودعوة لنشر هذا التاريخ وتدريسه للتلاميذ في المدارس، و طلبة العلم في المساجد، وهو تاريخ السلاطين العثمانيين الذين أقاموا دولة عاشت أكثر من ستة قرون، وامتدت رقعتها الجغرافية إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا، وكانت جيوشها أكثر جيوش العالم عددًا وأحسنها تدريبًا وتسليحًا وتنظيمًا، فقد عبرت جيوش هذه الدولة الفتية البحر من الأناضول إلى جنوبي شرق ووسط أوروبا، وفتحت بلاد اليونان، وبلغاريا، ورومانيا، ويوغسلافيا، والمجر، ورودس، وكريت، وقبرص، وألبانيا حتى بلغت مشارف فيينا ـ عاصمة النمسا ـ وجنوبي إيطاليا؛ فكانت أول دولة إسلامية تصل إلى هذا العمق في الأرض الأوروبية.(4/276)
سادسًا: توعية المسلمين بطبيعة المرحلة، ومحاولة تسليحهم بالثقافة الإسلامية، والفقه السياسي المتشبع بالنظرة الشرعية للأمور، لا ترهات الديمقراطية، والحرية...
سابعًا: الاستفادة من الماضي، واستهلام السنن الإلهية في النصر والتمكين، واستخلاص الدروس والعبر مما قد يفيد في استشراف المستقبل بالتخطيط المتزن، تحقيقًا لوعد الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
الدروس والعبر
1ـ إن التمكين في الأرض لأي طائفة كانت أو فئة إنما هو هبة من الله تعالى ونعمة، وضع الله له شروطًا ومقدمات لا يقوم إلا بها، فإذا استوفت أمة من الأمم الشروط والمقدمات، استحقت التمكين والغلبة والظهور، ويظل بقاؤها واستمرارها على هذا التمكين مرهونًا بهذه الأسباب ذاتها، فإذا فقدت شيئًا منها، أو أخلت بها فقدت عوامل البقاء، وانحدرت إلى هاوية الذل والهوان والضعف. وهذا مع حدث مع بني عثمان، فلما دب فيهم الضعف والهوان والبعد عن منهج الله وصار الظلم والبذخ عادة سلاطينهم نزع الله ما في أيديهم.
2ـ التخطيط والتدبير . فقد قابل المسلمون سقوط الخلافة بردات فعل عاطفية، في حين دبر الأعداء وخطط لإسقاطها عشرات السنين حتى تمكنوا منها.
3ـ تفسير الأمور و الأحداث التي تطال الأمة، تفسيرًا شرعيًا بعيدًا عن خزعبلات العلمانيين والمتشدقين؛ فالحروب والوقائع والأحداث التي تمر بالأمة، كلها صور من صور الصراع بين الحق والباطل، بين الإسلام والكفر، بين الهدى والضلال، وقراءة التاريخ تريك ذلك رأي العين.
4ـ أن قوة المسلمين في توحدهم وتماسكهم، ولذلك سعت الدول الأوروبية وحرصت على تفكيك وحدة المسلمين.
5 ـ أن الخلافة هي الإطار السياسي الشامل الذي يجمع كلمة المسلمين ويوحدهم ويضمن لهم القوة والتماسك ويعمل على إقامة الدنيا، وحراسة الدين.
6ـ الاهتمام بالتربية، والإعداد الإيماني قبل الخوض في مقارعة الباطل، ذلك أن الاهتمام بالجانب المادي وحده قد يؤدي إلى نصر سريع لكنه يحتاج بعد ذلك إلى نوع آخر من الإعداد يستطيع الوقوف أمام المغريات، ولا يتأتى هذا إلا بتربية عميقة.
7ـ صفاء المعتقد، والتصورات وفق مذهب أهل السنة والجماعة، والأخذ على يد المبتدعة والفرق الضال، فلقد اكتفى العثمانيون بالإسلام بمفهومه العام وغطوا الطرف عن الفرق الباطنية التي كان لها أكبر الأثر في سقوط الخلافة في النهاية.
8 ـ العزة والنصر والسؤدد كلها في الإسلام، وهذا من أعظم الدروس المستفادة من سقوط الخلافة.
فبعد أكثر من ثماني قرون قطعت تركيا صلتها بالعالم الإسلامي، وألغت الخلافة الإسلامية، واختارت لها دستورًا مدنيًا بدلاً من الدستور العثماني المستمدة أحكامه من الشريعة الإسلامية، وألغت وزارتي الأوقاف والمحاكم الشرعية، وحوّلت المدارس الدينية إلى مدنية، وأعلنت أنها دولة علمانية، وأغلقت كثيرًا من المساجد.، وصدر قانون يحكم بالإعدام على من يتآمر لعودة الخلافة.
وها هو "أتاتورك" ـ أول رئيس تركي ومن ألغيت على يده الخلافة ـ يجوب تركيا لابسًا القبعة الإفرنجية،وشرع قانونًا لنزع حجاب المرأة المسلمة، وكان نزع الحجاب يتم بالإرهاب والإهانة في الطرقات، فكانت الشرطة إذا رأت امرأة متحجبة تقوم بنزع حجابها فورًا وبالقوة.
وألغى التعامل باللغة العربية، وألغى العيدين، وجعل عطلة الأسبوع يوم الأحد، وعطلت الصلوات بمسجد أيا صوفيا، وأُسكت المؤذنون، وتحول المسجد إلى متحف وبيت أوثان، حتى الآيات التي كانت على جدرانه أمر بطمسها.
في سنة 1926م ألغى الزواج الشرعي، وجعله مدنياً فقط، وأصدر قانوناً يمنع تعدد الزوجات، واستبدل التقويم الهجري بالتقويم الميلادي.
ولكن رغم كل هذا ـ والذي يحلم كثير من علمانيينا بتحقيق نصفه ويعدونا بالتقدم إن سرنا على نهجهم ـ ها هي تركيا (العلمانية) ما زالت حتى يومنا هذا غير مرغوب فيها أوروبيًا،وترزح تحت نير الفقر والضعف ولم تلحق بركب التقدم، ففقدت الدولة مجدها القديم ولم تستطع تحقيق مجد جديد.
فحريًا بالمسلمين جميعًا على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم وأحزابهم، أن يقفوا عند هذه الذكرى، ويتأملوا فيها، لتصبح عودة الخلافة مطلبًا جماهيريًا، ولتكن الصحوة الإسلامية أول من يطالب بعودتها، ثم يشارك كل فرد ولو بنصيب قليل في هذا الفضل العظيم، لإبراء ذمته أمام الله.
بقلم: أحمد محمد عمرو
Ahmedamr2001@hotmail.com
===============
ففروا إلى الله
محمد بن شاكر الشريف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم
أما بعد :(4/277)
فإن قلوب العباد أوعية لما أودع فيها من العلوم، وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور، وهي مع ذلك تصدأ إذا أُهملت كما يصدأ الحديد، وتضطرب وتفور كما يفور المرجل إذا فتحت أبوابها للوساوس والشكوك والشهوات والشبهات، ويعلوها الران إ ذا تركت نهبا لإبليس وجنوده، حتى إنها لتصير من أثر ذلك معتمة لا تتمكن من الإبصار ومعرفة الحقائق حتى لو كانت في غاية الوضوح ، ويزداد الإعتام كلما بعد الناس عن ربهم حتى تصل إلى درجة الإغلاق التام ، قال الله تعالى :"كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله :كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" [المطففين : 14] قال الطبري :"فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختمُ من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص" ، وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين :على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه" .
ولا يتمكن العبد من النجاة من ذلك إلا بالفرار إلى الله تعالى والرجوع إلى ربه والإنابة إليه، والذل والخضوع والانكسار بين يديه، والاستغفار والتوبة، والاعتماد عليه تعالى في الأمور كلها، فهو ربه ومليكه، وخالقه ورازقه، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، قلبه بين يديه يقلبه كيف يشاء، وهذا هو الفرار إليه الذي طلبه الله منا بقوله تعالى :"ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" فهو سبحانه الملاذ والملجأ وهو المغيث، ولا ملجأ منه تعالى إلى إليه، بقول ابن جرير :"فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته"، والفرار لا يكون إلا إلى الله تعالى ولا يكون إلى أحد من خلقه، فإن الله تعالى هو رب العالمين وهو الفعال لما يريد، والخلق بأجمعهم لا يقدرون على شيء إلا ما شاءه الله تعالى :"وما تشاؤون إلا أن يشاء الله"، ومن فرَّ إلى غيره لم يمتنع منه، حتى يفر الإنسان من نفسه التي بين جنبيه إلى ربه خالقه ومولاه، فراحة الإنسان وأنسه وسعادته وأمنه واطمئنانه إنما تكون بالفرار مما سوى الله إلى الله تعالى.
وقد عبر القرآن عن الرجوع إلى الله تعالى بلفظ الفرار لبيان الحزم والجدية والفورية التي ينبغي أن يتعامل بها مثل هذا الأمر فهو ليس أمرا على التراخي، فشأن المخالفة والمشاققة لله ولرسوله أمر جلل مخوف حقه أن يُفَرَّ منه ويقلع عنه بأقصى ما يمكن، والتعبير بلفظ الفرار يدل على شدة القيود التي تكبل الإنسان أو على شدة المغريات التي تأسره حتى يحتاج إلى الفرار وإلا لم يستطع أن يخرج من دائرة تأثيرها، كما أن التعبير بالفرار ؛ يفصح عن سرعة الإهلاك والعذاب التي تنظر المتواني أو المتباطئ، فالأمر لا يحتمل الإبطاء في الرجوع إلى الله تعالى، فالفرار الفرار إليه يا عباد الله ، فإنه لا مهرب منه إلا إليه، والإنسان في غالب شأنه لا يفر إلا مما يخاف منه أشد الخوف ولا قدرة له على دفع ضره وأذاه، ولا يفر إلى شيء إلا إذا كان يجد عنده الأمن والطمأنينة فكان في هذا التعبير القرآني الموجز أصرح الدلالة على أن الشقاء والبؤس والتعاسة والخسارة الكاملة التي لا ربح بعدها، في البعد عن الله والفرار منه إلى غيره، كما أن الخير والفلاح والربح المضمون الذي لا تعقبه خسارة، في القرب إلى الله والفرار إليه
والفرار إلى الله كما يكون بالعمل بطاعته والتوبة إليه، يكون أيضا بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة أو المعصية إلى دار السنة أو الطاعة، ومن أعدائه إلى أوليائه، فهو متضمن للولاء والبراء والثبات على الدين، فالأول فرار بالقلب والثاني فرار بالجسد، والثالث فرار بالقلب والجسد معا، وكل نوع من الفرار مطلوب من المرء كلٍّ على حسب حاله(4/278)
والمسلم في حاجة دائمة إلى الفرار إلى الله تعالى والاستغفار والتوبة إليه في كل آن وحين، فبالفرار إلى الله سبحانه وتعالى والاستغفار والتوبة يستنزل الغيث، ويستجلب المال والولد، ويشتد الساعد وتزيد القوة التي يتمكن بها المرء من فعل ما يريد، قال الله تعالى :" {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً" [نوح :10-12ا]، وقال تعالى"وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ " [هود:3] وقال تعالى :" وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ" [هود :52].
والفرار إلى الله تعالى ليس عملا قلبيا أو وجدانيا فحسب، ثم ينغلق المرء بعدها على نفسه فلا يكون لذلك الفرار أثر في الواقع، ولكنَّ الفرار مبتداه من القلب ثم ينساح على الجوارح كلها فيغمرها فيه، حتى تكون تابعة له تعمل ما يأمرها به، ولا تمتنع منه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" وكما قال الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه :" القلب ملك وله جنود، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده" وجنود القلب هي أعضاء البدن، فإذا كان الفرار انغلاقا بالنفس عما حولها بحيث لا يؤثر فيها، فهو انسحاب من الحياة وهروب غير محمود، وهؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فروا إلى الله غيروا وجه الأرض حتى عمها التوحيد والعدل بعد أن غلب عليها الشرك والظلم.
ولا يكون الفرار انسحابا محمودا من الحياة إلا في آخر الزمان، عند غلبة الجهل وفساد الناس، حين لا يجدي العمل والدعوة، فيكون الفرار حينئذ حفاظا على الدين ورعاية له، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن" ، قال ابن حجر رحمه الله تعالى:"والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه"
وقد يقع في ذهن البعض أو الكثيرين أن الفرار إلى الله تعالى والاستغفار والتوبة لا تكون إلا من العاصي أو عند الوقوع في المعصية، وهذا وهم غير صحيح، بل العبد محتاج إلى ذلك ولو كان على غير معصية، بل يحتاج إليها مع الطاعة في كل تقلباتها :قبل الطاعة وفي أثناء الطاعة وبعد الانتهاء منها قال الله تعالى لعباده وهم في أثناء طاعة من أجل الطاعات، وهي فريضة الحج:" ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [البقرة :199] فأمرهم بالاستغفار وهم يؤدون النسك، كما أمرهم تعالى بالاستغفار بعدما أمرهم بكثير من الأعمال الصالحة والواجبات فقال تعالى :"فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [المزمل :20]، وقد نادى الله تعالى المؤمنين باسم الإيمان وأمرهم بالتوبة فقال :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [التحريم :8] وقال تعالى :" وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [النور :31]، وهذا رسولنا الكريم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول لأصحابه :" يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" ويقول :" والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" .(4/279)
لقد كان الفرار إلى الله تعالى هو مصدر القوة والعزة والمنعة التي كان يعشها المسلمون الأولون، وهو الذي كان سببا في انتصارهم وظهورهم على من ناوأهم ممن خالفهم وعاداهم حتى إن أحدهم ليسرع الفرار إلى الله ولو كان في ذلك موته، فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر للمسلمين محرضا لهم على القتال:"قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض قال عُمير بن الحُمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض! قال :نعم قال :بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال :لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، قال :فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال :لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال :فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل" ، وتقدم رضي الله عنه للقتال مسرعا وهو يرتجز ويقول :" ركضا إلى الله بغير زاد * إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد * وكل زاد عرضه النفاد غير التقى والبر والرشاد" والركض إلى الله تعالى هو الفرار إليه.
ثم تغير الحال وضعف المسلمون وصار كثير منهم يفرون إلى عدو الله وعدو المسلمين، مسارعة فيهم والتماسا للقوة والعزة منهم، حتى إن منهم من ينصر الكفار على المسلمين من أجل ذلك، وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن هذا المسلك فقال :"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة" وبين حقيقة من يسلك هذا السبيل فقال :" فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ" [المائدة :52]، وقال :" بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً" [النساء :139- 138]، فلا عز لنا ولا نصر ولا كرامة، إلا أن يكون الفرار إلى الله تعالى وحده لا شريك له، دون ما سواه من خلقه أجمعين، اللهم اجعلنا ممن يفرون إليك.
================
قصة نزع الحجاب
ـ لفتات من كتاب الشيخ بكر أبو زيد ( حراسة الفضيلة )
فهد بن سعد أبا حسين
تعيش هذه البلاد موجة من الهجمات الفكرية الخطيرة . أعدها أعداءها ومن تربى في أحضان أعدائها . تربى في أحضانهم الفكرية والعقدية .
حتى صارت الصحف والقنوات تنضح بكلمات هؤلاء في موجة من العفن المتسلط على أهل هذه البلاد ، كل ذلك سخر لحرب الإسلام على خطط محكمة والمسلمون أكثرهم غافلون.
يجدُّ أعداؤهم ويهزلون ، ويسهر خصومهم وينامون .
وكان من أخطر ما أفرزته علينا تلك الهجمات فتنة الاختلاط التي سرت في العالم الإسلامي .
لقد بدأت الدعوة لها بعد دخول الاستعمار الغربي الكافر على المسلمين وكانت أول شرارة قُدحت لضرب الأمة الإسلامية هي في سفور نسائهم عن وجوههن ، وذلك على أرض الكنانة في مصر .
حيث بُذِرت البذرة الأولى للدعوة إلى تحرير المرأة ، على يد رفاعة رافع الطهطاوي .
ثم تتابع على هذا العمل عدد من المفتونين المستغربين وقد تولى كبر هذه الفتنة داعية السفور قاسم أمين الهالك الذي ألف كتابه "تحرير المرأة" ووقف أمامه العلماء .
ثم ظهرت الحركة النسائية في القاهرة لتحرير المرأة برئاسة هدى شعراوي .
وهكذا تتابع دعاة الفساد ، وهرول معهم الكتاب الماجنون بمقالاتهم الفاسدة ، التي تدعو للسفور والفساد ، والهجوم على الفضائل والأخلاق ، من خلال وسائل شتى نشر صور النساء الفاضحة ، والدمجُ بين الرجل والمرأة في المناقشة والدعوة إلى المساواة بينهما ، وتسفيه قيام الرجل على المرأة .
يساند ذلك الهجوم الخطير أمران :
إسنادهم من الداخل .
وضعف مقاومة المصلحين لهم بالقلم واللسان ، والسكوت عن فحشهم ، وعدم نشر مقالاتهم ، أو تعويقها ، وإلصاق تُهم التطرف والرجعية بهم ، وإسناد الولايات إلى غير أهلها من المسلمين الأمناء الأقوياء.
هكذا صارت البداية المشؤومة للسفور في هذه الأمة .
ثم أخذت تدب في العالم الإسلامي في ظرف سنوات ، كالنار الموقدة في الهشيم .
حتى آل الأمر إلى وضع قوانين ملزمة بالسفور .
ففي تركيا أصدر الملحد أتاتورك قانوناً بنزع الحجاب وفي ألبانيا وتونس وغيرها صدرت القوانين بذلك .
وفي العراق تولى كبر هذه القضية ـ المناداة بنزع الحجاب ـ الزهاوي والرُّصافي ، نعوذ بالله من حالهما فسقط الحجاب في العراق.
وفي الجزائر قصة نزع الحجاب ... قصة تتقطع منها النفس حسرات ـ ذلك أنه سُخِّر خطيب جمعة بالنداء في خطبته إلى نزع الحجاب ، ففعل المبتلى ، وبعدها .(4/280)
قامت فتاة جزائرية فنادة بمكبر الصوت بخلع الحجاب ، فخلعت حجابها ورمت به ، وتبعها فتيات ـ منظمات لهذا الغرض ـ نزعن الحجاب ، فصفق المسخَّرون ومثله حصل في مدينة وهران ، ومثله حصل في عاصمة الجزائر الجزائر ، والصحافة وراء هذا إشاعة وتأييداً .
وفي المغرب الأقصى وفي الشام وما أدراك مالشام . إنه أعظم معقل للإسلام أمام اليهود فكيف لا تسلط عليه الأضواء ، وكيف يترك بلا طعنات مسمومة انتشر السفور والتبرج والإباحية على أيدي القومية تارة ، وعلى دعاة البعث تارة أخرى .
أما في الهند وباكستان فكانت حال النساء المؤمنين على خير حال من الحجاب ـ دَرْعُ الحشمة والحياء ـ وفي عام 1950 م بدأت حركة تحرير المرأة والمناداة بجناحيها : الحرية والمساواة ، وتُرجم كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" ثم من وراء ذلك الصحافة في الدعاية للتعليم المختلط ونزع الخمار ، حتى بلغت هذه القارة من الحال ما لا يُشكى إلا إلى الله تعالى منه .
وكان سعاة الفتنة ينادون بالنداء إلى تحرير المرأة وباسم الحرية والمساواة.
فباسم الحرية والمساواة :
• أخرجت المرأة من البيت تزاحم الرجل في مجالات حياته .
• وخُلع منها الحجاب وما يتبعه من فضائل العفة والحياء والطهر والنقاء .
• وغمسوها بأسفل دركات الخلاعة والمجون ، لإشباع رغباتهم الجنسية .
• ورفعوا عنها يدَ قيامِ الرجال عليها ؛ لتسويغ التجارة بعرضها دون رقيب عليها .
• ورفعوا حواجز منعَ الاختلاط والخلوة ، لتحطيم فضائلها على صخرة التحرر ، والحرية والمساواة.
• وتم القضاء على رسالتها الحياتية ، أمّا وزوجة ، ومربية أجيال ، وسكناً لراحة الأزواج، إلى جعلها سلعة رخيصة مهينة مبتذلة في كف كل لاقط من خائن وفاجر .
إلى آخر ما هنالك من البلاء المتناسل ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ }
واليوم تُعاد المطالب المنحرفة ؛ لضرب الفضيلة ، في آخر معقل للإسلام ، وجعلها مهاداً للجهر بفساد الأخلاق : إن البداية مدخل النهاية ، وإن أول عقبة يصطدم بها دعاة المرأة إلى الرذيلة ، هي الفضيلة الإسلامية : "الحجاب لنساء المؤمنين" فإذا أسفرن عن وجوههن ، حسرن عن أبدانهن وزينتهن التي أمر الله بحجبها وسترها عن الرجال الأجانب عنهن ، وآلت حال نساء المؤمنين إلى الانسلاخ من الفضائل إلى الرذائل ؛ من الانحلال والتهتك والإباحية ، كما هي سائدة في جل العالم الإسلامي ، نسأل الله صلاح أحوال المسلمين .
واليوم يمشي المستغربون الأجراء على الخطى نفسها ، فيبذلون جهودهم مهرولين ؛ لضرب فضيلة الحجاب في آخر معقل للإسلام ، حتى تصل الحال ـ سواء أرادوا أم لم يريدوا ـ إلى هذه الغايات الألحادية في وسط دار الإسلام الأولى والأخيرة ، وعاصمة المسلمين ، وحبيبة المؤمنين : "جزيرة العرب" التي حمى الله قلبها وقبلتها ، منذ أسلمت ، فنسأل الله جل وعلا أن يرد كيدهم في نحورهم .
============
آيةٌ فيها عشرون خُطبة
أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الإيمان - اليمن
إنّ كثيراً من الخطباء اليوم يعانون البحث طويلاً عن موضوع الخطبة هنا وهناك ولا يكاد يستقر أحدهم على موضوع بينما لو غاص الخطيب في كتاب الله لوجد كل مايشفي فؤاده فهو البحر الذي لا ينضب ولا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه فهذه اية واحدة من كتاب الله لو تأملها الخطيب والداعية وعاش في ضلالها وتدبر معانيها لضل يخطب منها سنة كاملة .
وهذه الاية هي قول الله جل وعلا
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ))المائدة54
1- يا ايها الذين امنوا:
عناصر الموضوع
ماهية الايمان -اركان الايمان -مظاهر ضعف الايمان - اسباب تقوية الايمان - صفات المؤمنين في القران
2 -من يرتد :
عناصر الموضوع
اساب الردة - حكم الشرع في الردة - مظاهر الردة
من يحبهم الله
3- إن الله يحب المتقين :
عناصر الموضوع
ماهية التقوى -صفات المتقين -ثمرات التقوى -طرق الوصول الى التقوى
4-إن الله يحب المحسنين :
ماهية الاحسان -صفات المحسنين - مجالات الاحسان (الاحسان الى الجار -الوالدين - اولي القربى الاحسان في القول - الاحسان في العمل -الاحسان في المعاملة )- ثمرات الاحسان
5-أن الله يحب الذين يقاتلوا في سبيله صفاً:
عناصر الموضوع
أهمية الوحدة - أضرار الفرقة -الاعتصام بالله
6- إن الله يحب التوابين :
عناصر الموضوع
ماهية التوبة - شروط التوبة - ثمرات التوبة - نماذج التائبين
7-الصابرين :
عناصر الموضوع
ماهية الصبر - انواع الصبر- ثمرات الصبر -نماذج الصابرين
8-إن الله يحب المتوكلين :
عناصر الموضوع
ماهية التوكل - ثمرات التوكل - نماذج المتوكلين
9-إن الله يحب المقسطين :
عناصر الموضوع(4/281)
أهمية العدل - مجالات العدل ( بين الاولاد- بين الزوجات -في الحكم -في القول ...........الخ)-نماذج العادلين
10-قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله :
عناصر الموضوع
طاعة النبي صلى الله علبه وسلم - ثمرات اتباع النبي صلى الله علبه وسلم في الدنيا والاخرة -الاقتداء بالنبي صلى الله علبه وسلم أباً وجاراً وزوجاً وقائداً ...الخ
11-ويحب المتطهرين:-
عناصر الموضوع
الطهارة في الاسلام -طهارة الجسد -طهارة القلب - طهارة المال -طهارة المجتمع
12- وجبت محبتي للمتحابين فيّ :-
عناصر الموضوع
أهمية الحب في الله - ثمرات الحب في الله -الاخوة في الله
13-الذلة على المؤمنين :-
عناصر الموضوع
النبي الرحيم -التواضع للمؤمنين وإزالة مايؤذيهم- إنظارمعسرهم وتفريج كربتهم -الرفق بهم -حب لهم ما يحب لنفسه -القيام بحقوقهم -عدم ترويعهم -عدم هجرهم -نصرتهم ...الخ
14-العزة على الكافرين :-
عناصر الموضوع
مظاهر الشده عليهم في دار الحرب - مظاهر الشدة عليهم في دار الاسلام
15-الجهاد في سبيل الله :-
عناصر الموضوع
فضل الجهاد في سبيل الله -انواع الجهاد في سبيل الله باللسان , جهاد النفس ,الجهاد بالمال ,الجهاد التعليمي ....الخ
من يبغضهم الله
16- والله لا يحب الظالمين :-
عناصر الموضوع
الضلم وخطره -انواع الظلم .. الشرك - الحكم بغير ما أنزل الله -التكذيب بايات الله ....الخ - جزاء الظالمين
17-والله لا يحب كل كفار أثيم :-
عناصر الموضوع
ماهية الكفر - جزاء الكافرين - اشياء تؤدي الى الكفر
18-إن الله لا يحب المعتدين :-
عناصر الموضوع
صور الاعتداء -على المال ,على الاعراض ,تحريم ما أحل الله , تجاوز الحد بالمشروع الى غير حده جزاء المعتدين
19-إنه لا يحب المسرفين :-
عناصر الموضوع
معنى الاسراف -صور الإسراف -جزاء المسرفين في الدنيا والاخرة
20-إن الله لا يحب كل مختالٍ فخور :-
عناصر الموضوع
ماهية الاختيال والفخر - صور الخيلاء - حكم الشرع في الفخر والخيلاء
21-إن الله لا يحب الخائنين :-
عناصر الموضوع
معنى الخيانة - أمثلة للخيانة - جزاء الخائنين في الدنيا والاخرة
22-والله لا يحب المفسدين :-
عناصر الموضوع
من أنواع الفساد الصد عن سبيل الله ,محاربة المسلمين بالسلب او النهب أو القتل ,عدم تطبيق اوامر الله ,الغيبة -جزاء المفسدين في الدنيا والاخرة
23-إن الله لا يحب الفرحين :-
عناصر الموضوع
الفرح المذموم والفرح المحمود - قصة قارون -
مراجع الخطيب للبحث في هذه المواضيع :-
تفسير القرطبي -تفسير إبن كثير -في ظلال القران -جند الله ثقافة واخلاقا- كتب الحديث الصحاح -إحياء علوم الدين -صلاح الامة في علو الهمة -جامع العلوم والحكم
أمير بن محمد المدري
إمام وخطيب مسجد الايمان -اليمن
Almadari_1@hotmail.com
==============
أمتي لا تحزني إن الله معنا!
د. عوض بن محمد القرني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإن الأحداث الجارية أصابت كثيراً من الناس باليأس والقنوط والهلع والجزع، فأحببت أن أسهم قدر الإمكان في مواجهة هذا الطوفان، وقد كان مما علمناه من كتاب الله أن من سنن الله تعالى في خلقه بقاء الصراع بين الحق والباطل والخير والشر، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وليعلي بالتمحيص درجات أهل الإيمان ، وليرفع بالابتلاء درجات بعضهم فوق بعض ولتتم مقتضيات حكمته تعالى في إيقاظ الهمم بالنوازل ،وتحريك العزائم بالمحن وإحياء الحمية الإيمانية بالمحن.
ومن ذلك ما نراه اليوم من حشود وأعمال وتحركات من أمريكا ابتداءً بما سمي (الحرب على الإرهاب) وانتهاءً بما نراه من حرب على العراق وفي المقابل ما نراه من تخاذل ووهن من الشعوب والجيوش والحكومات،وكل ذلك ينبئ بأحداث، ضخام وتحولات كبيرة ، تنطوي على أمور قد تكرهها النفوس وأحداث تضيق بها القلوب؛ سيكون مآلها الأخير -بإذن الله - النصر والعز للمسلمين، والتمكين لعباد الله الصالحين ،و تطاير الزبد ،وذهاب الغثاء ، وانقشاع أسباب الذلة والهوان.
وقد ضرب الله لنا أمثالا بالأمم والأنبياء قبلنا ، ومن أكثر القصص في القرآن قصص بني إسرائيل ، وذلك لوجود بعض أوجه الشبه بينهم وبين هذه الأمة ، وقد عاشوا سنين عديدة تحت الذل والهوان، والتسلط الفرعوني بعد أن نسوا ما ذكروا به، وتعلقوا بالدنيا وأَنِسُوا بها وركنوا إلى الشهوات وحب الحياة، ثم اشتد عليهم العسف والأذى قبيل ميلاد موسى عليه السلام ،ولما بلغ أشده وأُكرم بالنبوة زاد عليهم الأذى والظلم ، حتى قالوا (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:129)(4/282)
و مكثوا على هذا الحال من الاضطهاد سنين عديدة وفيهم أهل الإيمان بالله: موسى وهارون ومن استجاب لهما، ونبي الله يعدهم بالنصر والاستخلاف في الأرض وهلاك العدو،وبعد هذه السنين الطوال أمروا بالخروج وركوب البحر ، فخرجوا من الذلة والهوان (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف: 137).
وفي هذا دليل على أن نصر الله تعالى آت، وزمانه مقبل، ولكنه لا يحسب بحساب أعمارنا القصيرة، ولا يقاس وفق قياسات زمنية قريبة (خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ( الأنبياء:37).
وعلى ضوء ما ذكر؛ وفي ظل الأحداث الراهنة من الحرب الأمريكية الظالمة ضد العراق، وما قد يؤدي إليه من ضربات مضادة تطال الدول المجاورة وخاصة التي أعلنت وقوفها العلني مع الوجود العسكري لأمريكا ، مثل الكويت والبحرين وقطر ودولة اليهود،وإن كان هذا الاحتمال ضعيفاً ، وقد يستتبع ذلك تداعيات عسكرية في فلسطين والأردن،وربما غيرها، هذا فيما يتعلق بالجانب العسكري.
أما ما يتعلق بالتحرك الفكري والاجتماعي فسوف تواصل أمريكا سعيها في الضغط لتغيير المناهج ،وتقليص النفوذ الديني والعلوم الشرعية ،والمؤسسات الخيرية ، والتغيير الاجتماعي من خلال المرأة أولا، والسعي لتغيير الاتجاه العام للمجتمعات من خلال تغيير سياسات التعليم والإعلام وبعض نظم الحكم،ومن خلال التمكين للمنافقين من العلمانيين وأضرابهم والشهوانيين وأشياعهم، والذين بدأوا بالتحرك والظهور والمطالبة.
ولذا فإن الواجب في هذه الأحوال الاستمساك بالعروة الوثقى، والاسترشاد بالهدى المبين من كتاب الله، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والوثوق بوعد الله واليقين بنصر الله وأن الله سبحانه لن يسلط على هذه الأمة من يستبيح بيضتها،وأنها أمة مرحومة، كما أخبر الصادق المصدوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ولذا ينبغي أن تكون هذه الأحداث مهما كانت مؤلمة موئل تفاؤل ورجاء؛ لا مصدر يأس وخوف. وأسباب ذلك كثيرة ومنها:-
1 - صدق وعدالة ما نحن عليه من دين، وأحقية وخيرية ما نطالب به من قضايا، فالثبات على الموقف العادل، والمبدأ الصادق نصر بذاته. و المسلم يقاتل عن دينه وعرضه من هاجم بلاده ظلماً وعدواناً، والعالم كله يشهد أن أمريكا سارعت إلى العدوان على المسلمين، وأعلنت ما كانت تداريه تحت ستائر السياسة وهذا يبشر بانتقام الله من الظالم ولو بعد حين (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59) ، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل:52) ، (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) (النمل:85) ، (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) (الزمر:51) ، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:42) .
2 - البغي والاستكبار والغرور والاستعلاء التي اتصفت بها أمريكا: مستكبرة بقوتها وكثرتها وعددها وعتادها، متناسيةً قدرة الله عليها،وذلك مقدمات الخذلان لها بل الدمار مثلما أخبر الله تعالى عن من قبلهم فقال سبحانه: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت:15)
3 - ما في هذه الأحداث من كشف للمرتابين المنافقين ومرضى القلوب وعبدة الهوى والدنيا والوظيفة والجاه عند الخلق: و في هذا الكشف خير عظيم، كما حدث يوم أحد ويوم الأحزاب. قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:179) و يبقى بعد ذلك معالجة السماعين لهم والمتأثرين بهم .
4 - ما نراه من حصول الوعي والعبرة للمسلمين ؛أفرادا، وشعوبا، ودولا؛ بما في هذه الأزمات من دروس وعبر، ورفض المشاركة مستقبلا مع العدو أو التحفظ في المشاركة هذه المرة، وهذه خطوة جيدة في الطريق الصحيح، ودليل على أن إنكار الظلم ورد المنكر يثمر ولو بعد حين، وأن الشعوب بيدها الشيء الكثير مهما كان ضعفها وألا نيأس من الحكومات مهما بدر منها.(4/283)
5 - وضوح السبيل والمفاصلة العقدية: وذلك من خلال استمساك جملة كبيرة من العامة بمبدأ الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين وإدراكهم لبعض مآرب الكفار وبعض مخططات العدو الماكر، وهو ما كان مشوشاً في أزمات سابقة (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال:42)
6 - انكشاف أمريكا، وظهور زيف شعاراتها عن العدالة الحرية والإنسانية والحضارة وحق الشعوب في تقرير المصير... الخ حتى في تعاملها مع مواطنيها من المسلمين -فكان الأمر كما قال الله تعالى: ( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(آل عمران: من الآية118)- وإمكانية مخاطبة الحكومات وإشعارها - بحسب الوسائل المتاحة – بأن ما تريده أمريكا استبدال الواقع بجميع أبعاده، بما في ذلك البعد السياسي بواقع آخر يكون أكثر انسجاماً مع المشاريع الصهيونية في المنطقة، وأكثر أماناً لمستقبل إسرائيل.
7 – ما يتوقع من تخفيف ضغط العولمة – ولو إلى حين – وهذه فرصة للتأني والنظر البصير، والاستعداد لمواجهتها بخطط متعقلة وبرامج محكمة. وقد يؤدي ذلك إلى تركيز الاهتمام على التعامل بين البلدان الإسلامية فتكون خطوة ثم تعقبها خطوات بإذن الله.
8 – التقليل من أسباب الفساد الفكري والسلوكي، ومن أهمها: السياحة في الدول الغربية، فالمعاملة غير الإنسانية للمسافرين والمقيمين المسلمين والتي مورست فعلا ،وإن أصابت بعض الصالحين فسينفع الله بها كثيراً من الطالحين الذين ينفقون سنوياً عشرات البلايين في أماكن اللهو وأوكار الفساد ومباءات الفجور هناك، ثم يعودون لبلادهم بكل شر وبلاء.
9 – إحياء جملة طيبة من المعالم الشرعية المنسية مثل: قضية الجهاد والولاء والبراء، وفقه السياسة الشرعية كأحكام "دار الكفر" و "دار الإسلام" والراية ، والملاحم مع أهل الكتاب والإقامة في بلاد الكفر، والهدنة والعهد، وأحكام عصمة النفس والمال، وكذلك الأحكام المتعلقة بالتحالف أو الاستعانة بالمسلمين على المشركين،و التعددية وتداول السلطة والرقابة على الولاة، وما أشبه ذلك مما سيكون مادة خصبة للاجتهاد والتفقّه ووزن الأمور بميزان الشرع الحكيم.
10 – ظهور فتاوى شرعية مؤصلة – جماعية وفردية – في جملة من بلاد المسلمين، في القضايا الراهنة واهتمام بعض الغربيين بهذه الفتاوى، واطلاع كثير من المسلمين عليها، مما يقوّي مرجعية أهل العلم والإيمان في أمور الأمة فيسهم في إحياء أصالة الأمة ووحدتها.
11 – الإقبال الكبير على الإسلام في أمريكا وأوروبا، وقد وردت الأخبار والأدلة على ذلك حتى أصبح في حكم المتواتر، ويتوقع أن يتزايد هذا الأمر بعد الحرب ،وهذا في ذاته نصر عظيم وآية بينة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وغيظ لليهود والنصارى وللمنافقين من أبناء المسلمين .
12 – تقوية الربط بين الأحداث وبين القضية الكبرى للمسلمين (قضية فلسطين)، واقتناع كثير من الناس داخل أمريكا - فضلاً عن خارجها - بضرورة التعامل العادل معها، مما يعضد الانتفاضة المباركة ويسند جهاد المسلمين لليهود، ويزيد قضية فلسطين رسوخا ويزيل كثيرا من الغبش العلماني والشهواني عن مساراتها.
13 – يمكن للعاملين للإسلام -خلال هذه الأحداث وبعدها- القيام بترسيخ مبادئ الدعوة إلى الإصلاح الشامل لحال الأمة ليطابق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويسترشد بهدي الخلفاء الراشدين وعصور العزة والتمكين، وذلك بواسطة برامج ودراسات تُنشر للأمة ويخاطب بها الحكام والعلماء والقادة والعامة وستفتح الأحداث بابا واسعا لتطوير وسائل الدعوة لمواكبة المواجهة العالمية الشاملة بين الكفر والإيمان،فبالإضافة إلى الشريط أو النشرة أو الكتيب مثلاً يضاف القنوات الفضائية المتعددة اللغات والصحافة المتطورة، ومراكز الدراسات المتخصصة... والمؤسسات التعليمية والخيرية المُحْكمة التخطيط.
14- يجب على العاملين للإسلام -حكوماتٍ وجماعات وأفراد- أن يدركوا قيمة هذه الفرصة العظيمة (من خلال ما ذكر سابقا وغيره)وأن يجعلوا هذه الأحداث منطلقاً للمرحلة الإصلاحية التالية على مستوى الشعوب(دعوة، وجهادا، وتربية، وتزكية): وهي مرحلة الجهاد الكبير بالقرآن كما قال تعالى {وجاهدهم به جهاداً كبيراً}
15 – قد تنجلي الأحداث وتكون الاحتمالات التي بعدها كثيرة ومختلفة :فقد يحاول الغزاة فرض أساليب جديدة للحياة في المنطقة تحت مسمى الديمقراطية والمشاركة السياسية، أو السعي لتمزيق المنطقة وتفتيتها، أو إبقاء شكل الدول وتبديل مضمونها إلى الأسواء، أو الإلزام بقيام مؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات والإعلام الحر، وهذا يقتضي الإعداد لهذه المرحلة بكافة احتمالاتها والتي ستكون – في الغالب – مختلفة عما هو موجود الآن، وتكاتف الجهود، والحفاظ على وحدة الأمة .(4/284)
16 – هذه فرصة كبيرة لتحريك الأمة كلها لمواجهة أعدائها المتكالبين عليها من كل مكان، وترك الاستهانة بأي قوة في هذه الأمة لفرد أو جماعة وبأي جهد من أي مسلم، ونبذ فكرة حصر الاهتمام بالدين على فئة معينة يسمون بـ "الملتزمين" فالأمة كلها مطالبة بنصرة الدين والدفاع عن المقدسات والأرض والعرض والمصالح العامة. وكل مسلم لا يخلو من خير. والإيمان شُعَب منها الظاهر ومنها الباطن، ورب ذي مظهر إيماني وقلبه خاوٍِ أو غافل، ورب ذي مظهر لا يدل على ما في قلبه من خير وما في عقله من حكمة ورشد. وهذا لا يعني إهمال تربية الأمة على استكمال شُعَب الدين ظاهراً وباطناً، بل المراد إجادة تحريك الأمة وتجييش طاقاتها لنصرة الدين وتحريك الإيمان في قلوب المسلمين هو من أسباب النصر والقوة، ومن دواعي تزكية الصالح، وتوبة العاصي ويقظة الغافل. وهذا جيش النبي صلى الله عليه وسلم خير الجيوش لم يكن كله من السابقين الأولين بل كان فيه الأعراب الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وفيه مَن خَلَط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وفيه المُرجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وفيه من قاتل حمية عن أحساب قومه، فضلاً عن المنافقين المعلومين وغير المعلومين، وإنما العبرة بالمنهج والراية والنفوذ التي لم تكن إلا بيد النبي صلى الله عليه وسلم ثم بيد أهل السابقة والثقة والاستقامة من بعده.
ولو لم نبدأ إلا بتحريك الإيمان والغيرة في قلوب مرتادي المساجد ، وكذلك الجيران والأقرباء والعشيرة وزملاء المهنة وإن تلبسوا بشيء من المعاصي الظاهرة،لكان لذلك أعظم الآثار،وأينع الثمار بإذن الله.
والمراد أن يُعلَم أن حالة المواجهة الشاملة بين الأمة وأعدائها تقتضي اعتبار مصلحة الدين والمصالح العامة قبل كل شيء، فالمجاهد الفاسق – بأي نوع من أنواع الجهاد والنصرة – خير من الصالح القاعد في هذه الحالة.
17– تتيح هذه الأحداث الفرصة الجيدة لتوعية الأمة بمفهوم نصرة الدين وتولي المؤمنين، التي هي فرض عين على كل مسلم، وأن ذلك يشمل ما لا يدخل تحت الحصر من الوسائل، ولا يقتصر على القتال وحده، فالجهاد بالمال نصرة، وكذلك الإعلام وبالرأي والمشورة وبنشر العلم، وبالعمل الخيري، وبنشر حقائق الإيمان ولاسيما عقيدة الولاء والبراء، وبالقنوت والدعاء، وبالسعي الجاد لجعل المجتمعات الأقرب إلى التمسك والمحافظة قلاعاً ونماذج يمكن أن يفيء إليها بقية الناس، وبجعل منارات العلم والشرع مرجعيات للاستشارة والفتوى،وتفويت الفرصة على العلمانيين والشهوانيين.
18– الفرصة الآن متاحة بشكل جيد لتحويل وحدة الرأي والتعاطف إلى توحّد عملي ومنهجي لكل العاملين للإسلام في كل مكان، يقوم على الثوابت والقطعيات في الاعتقاد والعمل، ويدرس الفروع والاجتهادات بأسلوب الحوار البناء. فاجتماع كلمة الأمة أصل عظيم لا يجوز التفريط فيه بسبب تنوع الاجتهاد واختلاف الوسائل. وما يجمع المسلمين أكثر وأقوى مما يفرقهم. والشرط الوحيد لهذا هو أن يكون المصدر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته، وما كان عليه الأئمة المتبعون في عصور عز الإسلام فمن أعظم أسباب ما أصابنا من بلاء التفرق والاختلاف.
19 – أصبحت إمكانية مطالبة الحكومات بفتح باب الحوار مع الشعوب، وتفهم هموم الشباب ومشكلاته، واستيعاب حماسته فيما يخدم الإسلام حقيقة أكثر من ذي قبل لشعور الجميع بالخطر مع التأكيد على أن هؤلاء الشباب في الأصل طاقة ذات حدين إن لم تستصلح وتهذب أصبحت وبالاً وبلاءً، وهم إذا رأوا الصدق من أحد وثقوا فيه وقبلوا توجيهه، وإذا ارتابوا في أحد أعرضوا عنه وحذّروا منه، فلابد في التعامل معهم من حكمة وأناة وصبر. ولابد من الكف عن الأعمال والإعلام والمواقف المسيئة للدين ولهم، وترك ما يستفزهم من المنكرات، وأن تلغي من تعاملها الحل الأمني الذي ثبت أنه لا يؤدي إلا إلى ردّات فعل أعنف والدخول في نفق مظلم لا نهاية له.
20– الوقت الآن مناسب لتذكير الناس عامة وخاصة: أن أمة تعيش حالة الحرب الشاملة يجب أن تكون أبعد الناس عن اللهو والترف. وأن تصرف جهودها وطاقتها للتقرب إلى الله ورجاء ما عنده، وأن تحرص على التأسي بالأنبياء الكرام والسلف الصالح في الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، فهي في رباط دائم وثغور متوالية، ولا قوة لها إلا بالله، ويجب أن يصحب أعمالها كلها إخلاص لله تعالى وصدق في التوجه إليه وتوكل عليه ويقين في نصره، وعلى أهل العلم والدعوة أن يكونوا قدوة للناس في هذا كله وأن يضعوه في أولويات برامجهم الدعوية، فإن الله سبحانه وتعالى لم يعلق وعده بالنصر والنجاة والإعلاء والعزة لمن اتصف بالإسلام بل خص به أهل الإيمان كما في قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}. وقوله: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}. وقوله: {ونجينا الذي آمنوا وكانوا يتقون}. وقوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}. وقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.(4/285)
ومن هنا يمكننا - بإذن الله - إذا لم نمنع وقوع الأحداث أن نقوم بتقليل مفاسدها وسلبياتها وأن نوظفها قدر الإمكان لمصلحتنا، وهذا هو حال المؤمن -صاحب القلب الحي والعقل المستبصر- غير يائسٍ ولا متشائم قال تعالى: ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا أغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) آل عمران 146-148.
==============
الاستدلال بتعامل الرسول _صلى الله عليه وسلم_ مع اليهود على التطبيع
د. سعد بن مطر العتيبي
السؤال :
هل يصح الاستدلال بتعامل الرسول _صلى الله عليه وسلم_ مع اليهود وعقده الصلح معهم على جواز التطبيع مع اليهود في هذا العصر ( ما يسمى دولة إسرائيل ) والتبادل التجاري معهم، وهل هذا من جنس الصلح المذكور في كتب الفقه؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه .. أما بعد ..
فإنَّ الاستدلال بتعامل النبي _صلى الله عليه وسلم_ مع يهود، على جواز التطبيع، لا يصح ؛ لأوجه عديدة :
منها: أنَّ يهود في العهد النبوي لم يكونوا محتلين لبلاد المسلمين؛ وإنَّما معاهدون، سواء كان ذلك بصلح مؤقت ينتهي بانتهاء وقته، أو صلح مطلق ينتهي متى أراد المسلمون إنهاءه بشرط إعلام المصالحين بذلك ، وإمَّا أنهم صاروا رعايا من رعايا الدولة الإسلامية بدخولهم في عقد الذمّة ؛ كما في صلح أهل نجران ، وقصة خيبر، فمنها ما فتح عنوة بالقوة العسكرية ومنها ما فتح صلحا ، وعلِّق فيه بقاؤهم في خيبر بحاجة المسلمين . قال ابن عبدالبرّ : " أجمع العلماء من أهل الفقه والأثر وجماعة أهل السير على أن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحاً " (التمهيد ، لابن عبد البر :645) . وقال أبو العباس ابن تيمية عن أهل خيبر وفتحها : " فإنَّها فتحت سنة سبع قبل نزول آية الجزية ؛ وأقرّهم فلاحين وهادنهم هدنة مطلقة قال فيها : (( نقركم ما أقركم الله )) " (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح :1/216-217 ) ؛ ولهذا أمر _صلى الله عليه وسلم_ عند موته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ؛ وأنفذ ذلك عمر رضي الله عنه في خلافته " (أحكام أهل الذمة ، لابن القيم :2/478) .
فاليهود الذين تعامل معهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ لم يكونوا محاربين ولا محتلين ، بل كانوا مسالمين خاضعين للشروط الإسلامية بالعهد ، وقد قال الله _عز وجل_ : "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "[الممتحنة8] ؛ ثم هم في حالة ضعف ، لا يقدرون على نشر ما يريدون من ثقافة وفكر ، بعكس واقع اليهود اليوم فهم محاربون غير مسالمين كما نرى ويرى العالم ، وهم يفرضون رؤاهم الفكرية والثقافية وقناعاتهم الباطلة ليسلم لهم بها الآخرون رغماً عنهم ! وقد قال الله _عز وجل_ : "إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "[الممتحنة9] .
ومنها : ما أشرت إليه في سؤالك بقولك : هل هذا من جنس الصلح المذكور في كتب الفقه ؟ وجوابه : أنَّك ذكرت في سؤالك مصطلحين مختلفين ، وهما ( الصلح ) و ( التطبيع ) ، وببيان مدلول كل منهما يظهر الفرق بينهما في الحكم .(4/286)
فمصطلح ( الصلح ) في كتب الفقه ، يطلق على معاهدة الكفار بما في ذلك عقد الذمَّة الذي يدخل به غير المسلم في رعاية الدولة الإسلامية على الدوام ، والغالب استعمال لفظ الصلح رديفاً لمصطلح ( الهدنة ) عند علماء الإسلام ، والهدنة هي : المعاقدة بين إمام المسلمين أو من ينيبه ، وبين أهل الحرب ، على المسالمة ، مدة معلومة أو مطلقة ، ولو لم يدخل أحد منهم تحت حكم دار الإسلام . فهي تعني المسالمة المؤقتة عند جميع الفقهاء ، وتشمل المسالمة المطلقة غير المؤبدة على رأي عدد من المحققين من أهل العلم ، وهو الذي تسنده الأدلة الشرعية . ومرادهم بالمطلقة : التي لا يُصرّح عند الاتفاق عليها على مدّة محدّدة بل تبقى دون مدّة ، ويكون العقد فيها جائزاً ، أي أنَّ لكل من الطرفين أن يعلن انسحابه منها بعد إشعار الطرف الآخر بمدة كافية لأخذ الحذر منه ، فهي مطلقة لا مؤبّدة (ينظر : العقود ، لابن تيمية : 219 ؛ ومجموع فتاوى شيخ الإسلام :29/140 ؛ وأحكام أهل الذمة ، لابن القيم :2/476 وما بعدها). بخلاف المؤقتة فالعقد فيها واجب ، بمعنى أنّه لا يجوز لأحد الطرفين أن ينقضها قبل انتهاء المدة ، ولو فعل ذلك أهل الكفر ، فإن تصرفهم هذا يُعد نقضاً للعهد ، ومن ثم ينتهي تمتعهم بآثار عقد الهدنة ، و يتحولون من معاهدين إلى محاربين كما كانوا قبل الهدنة . فالهدنة والصلح عند الفقهاء في كتاب الجهاد شيء واحد ، ولذلك يُعَرِّفون أحدهما بالآخر ، فليس هناك صلح دائم إلا مع الذميين الذين هم في الحقيقة من رعايا دولة الإسلام .
أمَّا الصلح في القانون الدولي وفي اللغة السياسية الدارجة ، فالمراد به السلام الدائم ! فالقانونيون الدوليون يرون أن الهدنة مدة تسبق الصلح مهما طالت ومدتها ، كما هي الحال بين شطري كوريا ، فهما متهادنان منذ تقسيمها . وأمَّا الصلح عندهم فهو تسوية نهائية أي : إيقاف القتال بصفة نهائية دائمة ( ينظر على سبيل المثال : القانون بين الأمم ، لجيرهارد فان غلان : 3/72) .
وهذا النوع يعدّ من المعاهدات المحرّمة بالإجماع ، وشدّد العلماء في إنكاره ؛ لأنَّه يؤدي إلى إبطال ما علمت شرعيته بالضرورة ، وهو جهاد العدو ؛ بل غلّظ بعض الفقهاء في إنكاره ، حتى حكى بعضهم ردة من قال بمشروعيته !
ومع ذلك شذّ بعض فقهاء العصر - من الفضلاء - فأجازوا الصلح المؤبّد ، بتأويلات مردودة بالأدلة الشرعية الواضحة ؛ وقد ردّ قولهم عدد من العلماء ، وكشفوا ضعف هذا الرأي المردود بالإجماع ، ولله الحمد .
فالصلح الدائم ، لا يجوز مع غير المحتل بالإجماع ، فكيف يجوز مع المحتل ؟! ولهذا اتفق فقهاء العصر الأجلاء على تحريم الصلح الدائم مع الكيان الصهيوني اليهودي ، حتى من شذّ في القول بالصلح الدائم حرّم الصلح مع اليهود ! ( ينظر : موسوعة الأسئلة الفلسطينية ، إصدار مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية :220- 269 ، ففيها العديد من الفتاوى الجماعية والفردية ) .
وأمَّا التطبيع فيراد به : الصلح الدائم الذي يتم بمقتضاه الدخول في جملة من الاتفاقات متنوعة الجوانب بما في ذلك الجانب الثقافي والاقتصادي والأمني وغيرها ، حتى غيرت مناهج التعليم في بعض بلاد المسلمين وحذفت نصوص قرآنية منها رضوخا لمتطلبات التطبيع ! فهو في التكييف الفقهي الشرعي صلح مؤبّد مضاف إليه جملة من الشروط التي يحرم قبولها في شريعة الإسلام .. فلا يقول بجواز التطبيع - ديانة - من عرف حقيقته من علماء الإسلام . ولاسيما أنَّ الكيان اليهودي لا يقبل بأقل من بقائه على الدوام في قلب العالم الإسلامي بزعم أنَّ الأرض لهم ! وهذا هو نشيدهم الوطني :
" طالما في القلب تكمن .. نفس يهودية تتوق .. وللأمام نحو الشرق .. عين تنظر إلى صهيون .. أملنا لم يضع بعد .. حلم عمره ألفا سنة .. أن نكون أمّة حرّة على أرضنا .. أرض صهيون والقدس .. " ( الموسوعة الإنجليزية ) .
وآثار التطبيع على الحكومات التي ارتضته ظاهر في انتهاك سيادتها ، والعبث بخيراتها ، ولذلك رفضته الشعوب المسلمة ، وكونت لأجل ذلك لجانا وجمعيات كثيرة .
ومن المؤسف أنَّنا نرى التطبيع الإعلامي في إعلام العرب والمسلمين يسابق التطبيع السياسي ، ومن ذلك : كثرة ترداد الأسماء والمصطلحات العبرية ، مثل : (حاجز إيريز ) بدل معبر بيت حانون ؛ و( حائط المبكى ) بدل حائط البراق ؛ و( إيلات ) بدل أم الرشراش ، و( أشكيلون ) بدل عسقلان ، و( تل أبيب ) بدل تل الربيع .. و ( الأراضي الفلسطينية ) بدل فلسطين ، وفيه الإقرار بأنَّ ما تبقى حق ليهود ! و (إسرائيل) للإشارة للكيان اليهودي الصهيوني المحتل أو للأراضي المحتلة عام 1948م ، والإيحاء بأنَّ هذا الجزء المحتل صار حقاً ليهود ، لا يجوز حتى التفاوض عليه ، بخلاف الأراضي المحتلة عام 1967م فلا زالت تستحق أن يُتفاوض عليها ! ( ينظر للمزيد : مصطلحات يهودية احذروها من إصدارات مركز بيت المقدس )(4/287)
ومما ينبغي التنبه له أنَّ بعض الناس قد غلط على شيخنا العلامة / عبد العزيز بن باز - رحمه الله - حين نسبوا إليه جواز الصلح مع اليهود بالمفهوم العرفي الدولي - الصلح المؤبّد - مع أنَّه - رحمه الله - قد أوضح ما عناه وبيّنه بقوله : " الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكا أبديا ، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة ، أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة . وهكذا يجب قتالهم عند القدرة حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ... "( مجلة البحوث الإسلامية : العدد (48) ص : 130-132 ) .
فالصلح مع العدو على أساس تثبيت الاعتداء باطل شرعا ، بخلاف الصلح على أساس رد ما اعتدى عليه العدو إلى المسلمين .
والخلاصة : أنَّ الاستدلال بتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود ، على مشروعية التطبيع مع الكيان الصهيوني ، استدلال لا يستقيم بلْه أن يصح ؛ لأنَّ اليهود في فلسطين ، محتلون محاربون كما يشاهد العالم ، لا يرقبون في صغير ولا كبير إلاً ولا ذمّة ، بخلاف من كان يتعامل معهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، فقد كانوا معاهدين خاضعين لحكم الإسلام أو موفين بعهدهم مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ حينها . والله تعالى أعلم .
نسأل الله _عز وجل_ أن يعيد للأمّة عزتها ومكانتها ، وينصرها على أعدائها ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
================
إشهار البندقية في حكم مشاركة النساء في الجندية
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .
فقد شرع اللهُ لأمةِ الإسلامِ كلّ أسبابِ العزّة والمنعة ، والسؤود والمجد ، وخوّل لها كلّ الحق في الدفاع عن نفسها والإبقاء على كيانها ، فكان الجهاد في سبيل الله درة التشريعات الربانية ، وتاج التوجيهات القرآنية, وفخر السنة المحمدية ..
ففي الجهاد ، يحفظ الدين ، وتُحمى الحوزة ، ويُعصم الدم ، ويصان العرض وتفتخر الأمة ، ويرتفع الرأس ، وتبتهج النفس ، ويطمأن القلب ، وتطرب الروح !!
وفي الجهاد تعلو الهمة ، ويتحقق المجد ، وتسودُ الكرامة ، وتدوم العزة ، ويسمو الشرف !!
وفي الجهاد يخاف العدو ، ويخنس الظالم ، ويخنع الجائر ، ويُهربُ الصائل ، وينكسر المتجبر !
ومنذ أزمنة بعيدة وإلى اليوم غابت راية الجهاد ، وخرس صهيل الخيول ، وانطفأ لهيب المعارك ، وتراجعت هيبة الأمة ، وانحسرت مساحة أرضها ، وتسلط عليها عدوها ، وطمع فيها أضعف الخلق وأجنسهم .
فاستبيحت دماؤها ، وهُتكت أعراضها ، ونهبت خيراتها ، وسلبت أموالها ، وتراجع كيانها ، وأهينت كرامتها ، ومرّغ كبرياؤها وذهب عزها ...
ولذا كان فرض الإسلام للجهاد غاية في الحكمة ، وقمة في العدالة ورأساً في الكمال !
ومن هنا أوجب الإسلام الإعداد للجهاد بقوة ، والتحضير له بصدق وعزيمة ، وانتدب الأمة لأخذ الأهبة, والمبادرة لساحات الوغي ، وميادين الشرف ، وأبواب الجنة!!
بيد أن الإسلام راعي طبيعةَ المرأة الجسمانية والعاطفية ، فوضع عنها الجهاد ابتداءً ، لما يتطلبه من الكرّ والفرّ ، والقوة والجلد ، ولما يترتب عليه من الأسر والسبي ونحوه ، ممّا تعجز عن تحمل تبعاته النساء الضعيفات .
إلا أنّ ثمة أقلاماً جريئة ، وطرحاً غريباً ظلّ يتوالي تباعاً منادياً بلزوم فتح المجال رحباً ، أمام مشاركة المرأة في الجندية ، وإشراكها في المهام القتالية العسكرية مع ما يترتب على هذا الصنيع من التكشف والتبرج ، والتهتك والاختلاط بين الذكور والإناث ، وما يتبعه من المفاسد والعار ، وانحدار الأخلاق والقيم .
ومن عجب أنّ هؤلاء ينادون بهذا الطرح الأرعن في وقت تعطل الجهاد نفسه ، وغياب عن واقع الأمة وحياتها ، بل في وقت بقي الملايين من الشباب الأقوياء عاطلين عن العمل متململين في فراغ قتال !!
فإن كان الطرح جاداً ، والنية صالحة فلم لا يُطالب بتعبئة هؤلاء الشباب وإعدادهم ، للانخراط في صفوف الجندية وجيوش الإسلام ؟!
وفي الأوراق التالية أبحث - بإذن الله - بعض أحكام الجهاد في ضوء الكتاب والسُنّة ، مستنيراً بأقوال فحول الإسلام ، ومعرجاً في نهاية المطاف على حكم مشاركة المرأة في الجندية والله المسؤول أن يجعل العمل خالصاً والسعي مقبولاً والحق ظاهراً وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
المبحث الأول : تعريف الجهاد لغة واصطلاحاً :
المطلب الأول : تعريفه لغةً :
قال ابنُ منظور في اللسان ( جهد : 3/ 133) : ( الجَهْدُ والجُهْدُ : الطاقة ، تقولُ : اجْهَد جَهْدَك ، وقيل : الجَهْدُ : المشقة والجُهْدُ : الطاقة ، وجاهد العدو مُجاهَدة وجهاداً : قاتله وجاهد في سبيل الله ...
والجهاد : محاربةٌ الأعداء ، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل ..
والجِهَادُ : المُبالغةُ واستفراغُ الوسع في الحرب أو اللسان ، أو ما أطاق من شيء .(4/288)
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 6/ 3) : والجهادُ بكسر الجيم ، أصله لغة : المشقة ، يقال : جهدت جهاداً ، بلغت المشقة .
المطلب الثاني : الجِهَادُ في اصطلاح العلماء :
قال الكساني في بدائع الصنائع ( 7/98) : ( الجِهَادُ في عُرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك )
وقال في إعانة الطالبين ( 4/ 180) : ( والِجهَادُ أي : القتال في سبيل الله ، مأخوذ من المجاهدة وهي المقاتلة في سبيل الله) .
وقال العدوي في حاشيته ( 2/3) : ( الجهادُ في سبيل الله ، المبالغة في إتعاب النفس في ذات الله وإعلاء كلمته التي جعلها الله طريقاً إلى الجنة ).
وفي مواهب الجليل (3/347) : ( قال ابن عرفة : قتالُ مسلم كافراً غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله أو حضوره له أو دخول أرضه )
وقال ابن عبد السلام : ( هو اتعاب النفس في مقاتلة العدو)
وقال الحافظ في تعريف الجهاد شرعاً في الفتح (6/3) : ( وشرعاً بذل الجهد في قتال الكفار... ) .
المبحث الثاني : فضل الجهاد وشرفه :
قال ابن قدامة ( المغني 9/164) :
قال الخرقي : ( مسألة : قال أبو عبد الله - أي الإمام أحمد - لا أعلم شيئاً من الأعمال بعد الفرائض أفضل من الجهاد ) روى هذه المسألة عن أحمد جماعة من أصحابه.
قال الأثرم : قال أحمد : لا نعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من السبيل - أي الجهاد - وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله ، وذكر له أسر العدو فجعل يبكي ويقول : ما من أعمال البر أفضل منه . وقال عنه غيره ليس يعدل لقاء العدو شيء ، ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال .
والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حرميهم فأي عمل أفضل منه ؟ الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مُهج أنفسهم )
قلت : وقد عقد البخاري - رحمه الله - كتاباً أسماه : كتاب الجهاد والسير ثم قال : باب أفضل الجهاد والسير وقول الله تعالى : ( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ... إلى قوله : ( وبشر المؤمنين ) ثم ساق جملة من الأحاديث في فضل الجهاد منها :
1/ عن ابن مسعود - رضي الله عنه- سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال :(الصلاة على وقتها) قلت:ثم أي؟ قال: ( بر الوالدين ) قلت: ثم أي ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله ) فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني . [ البخاري 2630] [ مسلم ] .
2/ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : دلني على عمل يعدل الجهاد . قال : ( لا أجده ) قال : ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر ، وتصوم ولا تفطر ؟ ) قال : ومن يستطيع ذلك ؟ .
قال أبو هريرة : إنّ فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات . [ البخاري : 2633] .
3/ عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قيل : يا رسول الله ، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله . قالوا : ثم من ؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره ) [ البخاري : 2634] [ مسلم : 1888] .
قلت : والأحاديث في فضل الجهاد لا يمكن حصرها كثرة وصحة ، أخرجها الشيخان وبقية الأئمة وهي مشهورة معلومة :
قال ابن عبد البر في التمهيد ( 17/440) : ( وفي الجهاد من الفضائل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يكاد يحصى ) .
وقال ( 18/ 340 ) : ( فضلُ الجهاد ، وفضلُ القتل في سبيل الله وفضل الشهادة لا يحيط به كتاب فكيف أن يجمع في باب والله الموفق للصواب ) .
وقال المناوي في الفيض ( 1/165) : ( فَضْلُ الجهادِ يكاد يكون بديهياً ؛ إذ لا تنتظم العبادات والعادات إلا به ) .
المبحث الثالث : حكمُ الجهادِ :
قال الشوكاني في نيل الأوطار ( 7/209 ) : ( قال السُهيلي : والتحقيق أنّ حنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بقلبه ) .
وقال الجصاص في أحكام القرآن ( 4/311) : ( وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة إلا أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم كان الباقون في سعة من تركه ) .
وقال ابنُ النّحاس في مشَارع الأشواق ( 1/98 ) : ( اعلم أنّ جهاد الكفار في بلادهم فرض كفاية باتفاق العلماء ) .
ومعنى فرض الكفاية : أنّه إذا قام به من فيه كفاية ، سقط الحرج والإثم عن الباقين ، فإن تركه الجميع أثموا ، وهل يعمهم الإثم ؟ وجهان : أصحهما : يأثم كل من لا عذر له ، والثاني يأثمون أجمعين ) .
قلت : ولا منافاة بين ما قاله السهيلي من كون جنس الجهاد فرض عين ، وما قاله سائر العلماء من كونه فرض كفاية ، ذلك أنّ قول السهيلي يعني به القتال وإنكار المنكر بحسب الطاقة باليد أو اللسان أو القلب .
وكلام العلماء يعنون به قتال الكفار خاصة .
وفيما يلي أحكام الجهاد وخلاف العلماء فيها :(4/289)
اختلف أهل العلم – رحمهم الله – في أحكام الجهاد ، هل هو فرضُ عين أم فرض كفاية ، أم تطوع مشروع ، فزعم بعضهم أنه فرض عين في كل حال ,وقال آخرون: هو فرض عين في أحوال مخصوصة إلى غير ذلك مما سيأتي بسطه في الأوراق التالية :
القول الأول : الجهاد فرض عين في كلّ حال .
ذهب سعيد بن المسيب – رحمه الله – إلى القول بأنّ الجهاد فرض على كل مسلم في عينه أبداً ، حكاه الماوردي ونقله عنه القرطبي في الجامع (3/38) .
وقال ابن النحاس في مشارع الأشواق (1/98) : ( وحُكى عن ابن المسيب ، وابن شبرمة أنه فرض عين ) .
قلت : وأمّا الجصاص في الأحكام (4/311) فقد قال : ( حكي عن ابن شبرمة والثوري في آخرين أنّ الجهاد تطوع وليس بفرض ) فلعله قول آخر لابن شبرمة .
القول الثاني : الجهادُ فرضُ عين في بعض الأحوال :
خصّ كثير من أهل العلم فرضية الجهاد على الأعيان في أحوال ثلاثة وفيما يلي ملخصها :
أولها : إذا هجم العدو على بلاد المسلمين :
قال الجصاص في الأحكام (4/312) : " معلوم في اعتقاد جميع المسلمين ، أنّه إذا خاف أهل الثغور من العدو ، ولم تكن فيهم مقاومة لهم فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم إنّ الفريضة على كآفة الأمة أن ينفر إليهم من يكفّ عاديتهم عن المسلمين ، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم" .
وقال القرطبي ( الجامع : 8/151) : ( لو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ، ويخزي العدو ولا خلاف في هذا ) .
قال ابن عبد البر المالكي في الكافي ( 1/205) : ( الجهاد ينقسم أيضاً قسمين : أحدهما: فرض عام متعين على كل أحد ممّن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم ، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفاقاً وثقالاً وشباباً وشيوخاً ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقل أو مكثر ، وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا قلوا أو كثروا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة ).
وقال العدوي في حاشيته ( 2/4 ) : ( العدو إذا فجأ مدينة قوم مثلاً فيتعين على كل أحد ، وإن لم يكن من أهل الجهاد كالمرأة والعبد ) .
وقال الشيرازي في المهذب (2/ 229) : ( وإن أحاط العدو بهم تعين فرض الجهاد ) .
وقال البغوي إذا دخل الكفار دار الإسلام فالجهاد فرض عين على من قرب, وفرض كفاية على من بعد)
وقال ابن قدامة في المغني ( 9/163) معدداً الحالات التي يتعين فيها القتال: ( الثاني : إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم ) .
وقال ابن تيمية في الفتاوى ( 28/ 80) : ( فيكون فرضاً على الأعيان مثل أن يقصد العدو بلداً ) .
2- ثانيها : إذا استنفر الإمام :
والحالة الثانية التي يتعين فيها الجهاد هي عند استنفار الإمام فإنه يلزم حينئذ كلّ من شَمله الاستنفار النهوض إلى الجهاد بعينه ولا يجوز له أن يتخلف سواء كان النفير عاماً أم خاصاً بمعنى أنّ الإمام لو استنفر جماعة من الناس للجهاد دون غيرهم تعين عليهم .
الأدلة :
1/ قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض .... قليل ) .
2/ قوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس رضي الله عنه :
" لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " [ البخاري : 2825] [ مسلم : 1353] .
قال الحصّاصُ : ( لو استنفرهم الإمام مع كفاية مَنْ في وجه العدو من أهل الثغور ، وجيوش المسلمين ، لأنّه يريد أن يغزو أهل الحرب ويطأ ديارهم فعلى من استنفر من المسلمين أن ينفروا ) بواسطة هيكل 2/885
قال الدسُوقي في حاشيته (2/ 175) : ( إنّ كلّ من عينه الإمام للجهاد فإنه يتعين عليه ولو كان صبياً مطيقاً للقتال أو امرأة أو عبداً أو ولداً أو مديناً ، ويخرجون ولو منعهم الولي والزوج والسيد وربُّ الدين ) .
وقال العدوي في حاشيته ( 2/4) : ( الإمام إذا طلب منه أن يذهب إلى جهة للقتال فيها فإنه يتعين عليه أن يوافقه على ما أمر به ) .
وقال القرطبي في الجامع (8/142) : ( إنّ الإمام إذا عين قوماً وندبهم إلى الجهاد لم يكن لهم أن يتثاقلوا عن التعيين ويصير بتعيينه فرضاً على من عيّنه لا لمكان الجهاد ولكن لطاعة الإمام والله أعلم ) .
وقال ابن حجر : في الفتح ( 6/ 39) : ( وجوب تعين الخروج في الغزو على من عيّنه الإمام )
قلت : وقد بوّب البخاري باباً سمّاه ( وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية )
وقال ابن قدامة في ( المغني ) ( 9/163) : ( إذا استنفر الإمامُ قوماً لزمهم النفير معه لقول الله تعالى : ( يا آيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم ... إلى الأرض ... ) .
وقال ابن تيمية في الفتاوى ( 28/ 80) : ( فيكون فرضاً على الأعيان مثل أن يقصد العدو بلداً أو مثل أن يستنفر الإمام أحداً . )
ثالثها : عند حضور الصف.(4/290)
ويكون الجهاد فرض عين أخيراً عند حضور القتال حتى لو لم يكن من أهل الفرض العيني فلو قُدِّر أنّ رجلاً لا يلزمه الجهاد العيني لبعد بلده عن بلد مسلم هاجمه العدو ، وكان في البلد المُهاجم ما يكفي من الجند لدحر العدو وهزيمته فتطوع للجهاد معهم فلما حضر الصف بدا له ألا يجاهد حُرم عليه الرجوع وترك الجهاد .
الأدلة :
1/ قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار .. )) .
2/ قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون )) .
قال ابن سعدي : (( أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالشجاعة الإيمانية والقوة في أمره والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان ونهاهم عن الفرار إذا التقى الزحفان )) .
قلت : ( والآية التي استدل بها ابن سعدي – رحمه الله – على تحريم الفرار محلّ خلاف بين العلماء .) .
قال الطبري : - رحمه الله – في تفسيره ( 9/ 201) : ( واختلف أهل العلم في حكم قول الله عز وجل ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة) .. هل هو خاص في أهل بدر أم هو في المؤمنين جميعاً ؟
فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة ؛ لأنّه لم يكن أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه وينهزموا عنه فأما اليوم فلهم الانهزام ) .
قلت : والثبات للعدو حال الزحف واجب ما دام العدو مثل أو مثلى المسلمين عدداً فإن زادوا عن ذلك جاز للمسلمين الفرار أو الانحياز إلى فئة مؤمنة ؛ لأنّ الله تعالى حدّ المصابرة بالضعفين تخفيفاً على الأمة فقال : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ...) .
قال الجصاص في الأحكام ( 4/ 250) : ( فإنهم مأجورون بالثبات لهم إذا كان العدو مثلهم فإن كانوا ثلاثة أضعافهم فجائز الانحياز إلى فئة من المسلمين يقاتلون معهم ) .
وقال الشافعي في الأم (4/ 169) : ( فإذا غزا المسلمون أو غُزوا فتهيأوا للقتال فلقوا ضعفهم من العدو حُرم عليهم أن يولوا عنهم إلا متحرفين إلى فئة ) :
قلت : وتقييد الإمام الشافعي- رحمه الله- الملاقاة بالضعف في قوله : ( فلقوا ضِعْفَهم ) بناءً على آية المصابرة في سورة الأنفال حيث يقول الله تعالى : (الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) [ الأنفال : 66: كما تقدم بيانه .
قال الجلال السيوطي في ( الجلالين ص 385) ( خبر بمعنى الأمر : أي لتقاتلوا مثليكم ، وتثبتوا لهم ) .
قال صاحب المهذب ( 2/232) : ( وإذا التقى الزحفان ، ولم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ، ولم يخافوا الهلاك تعين عليهم فرض الجهاد ) .
وقال صاحب المغني ( 9/163) ( إذا التقى الزحفان ، وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف ، وتعين عليه المقام ) .
3- القول الثالث :
ذهب أكثر العلماء إلى أنّ الجهاد فرضُ كفاية في أصله إلا في أحوال خاصة – تقدم ذكرها -.
وقال ابن النحاس في المشارع ( 1/98) : ( اعلم أنّ جهاد الكفار في بلادهم فرض كفاية باتفاق العلماء ... وحكى عن ابن المسيب وابن شبرمة أنه فرض عين ) .
وقال الجصاص في الأحكام ( 4/ 311) : ( الجهاد فرض على الكفاية ومتى قام به بعضهم سقط عن الباقين ) .
وقال الكاساني في ( البدائع : 7/97) : ( فإن لم يكن النفير عاماً فهو فرض كفاية ومعناه أن يفترض على جميع من هو من أهل الجهاد لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين ) .
وقال الدردير في الشرح الكبير ( 2/174 ) : ( الجهاد فرض كفاية ) .
وقال في مواهب الجليل ( 3/346) : ( الجهاد في أهم جهة كلّ سنة وإن خاف محارباً كزيارة الكعبة فرض كفاية ) .
قال ابن عطية في المحرر الوجيز ( 2/217) : ( واستمر الإجماع على أنّ الجهاد على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية ، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين ) .
وقال الشيرازي في المهذب ( 2/227) : ( والجهاد فرض ، والدليل عليه قوله تعالى : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) وقوله تعالى : ( وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم )، وهو فرض على الكفاية ، إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين .. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى لحيان وقال :" ليخرج من كل رجلين رجل" ثم قال للقاعدين :" أيكم خَلَفَ الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج"
ولأنه لو جُعل فرضاً على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش فيؤدي ذلك إلى خراب الأرض وهلال الخلق .
وقال ابن قدامة : في الكافي (4/251) : ( وهو فرض لقوله تعالى : ( كتب عليكم القتال ) [ البقرة : 216] .
وقوله : ( انفروا خفافاً وثقالاً ) [ التوبة : 41] .(4/291)
وقال : ( إلا تنفروا يعذبكم الله عذاباً أليماً ) [ التوبة : 39] وهو من فروض الكفايات إذا قام به من به كفاية سقط عن الباقين لقوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله .. إلى قوله : ( وكلا وعد الله الحسنى ) : [ النساء : 95] .
ولو كان فرضاً على الجميع ما وعد تاركه الحسنى وقال تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) [ التوبة : 122] ولأنه لو فرض على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش والعلم فيؤدي إلى خراب الأرض وهلاك الخلق ) .. .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ( 28/ 80) : ( الجهاد فرض على الكفاية ) .
الأدلة :
1- قوله تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كلّ فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) [ التوبة : 122].
وهذه الآية الشريفة دالة بصراحة يأنه لا يلزم النفير العام لمجاهدة الكفار ، وإنّما يكفي البعض للنفير ، وتظل فرقة لطلب العلم والفقه وتعليم الناس .
2/ قوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً ) .
والشاهد من الآية أنّ الله تعالى وعد كلاً من المجاهدين والقاعدين الحسنى وهذا يدل على عدم فرضية الجهاد على الأعيان وإلا لما وعد المتخلفين عنه بذلك .
الأدلة من السُنّة :
1- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ويؤمر عليها بعض أصحابه ، ويقيم هو وغيره بلا نفير .
2/ وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى لحيان ، وقال :" ليخرج من كلّ رجلين رجل" ثم قال للقاعدين:" أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج" ) .[ مسلم : 1896] .
والشاهد من الحديث واضح - بحمد الله - فالنبي صلى الله عليه وسلم انتدب للخروج إلى الجهاد بعض أصحابه ووعد القاعدين بنصف أجور الخارجين ، ولو كان الخروج متعيناً على الجميع لما أجروا على تخلفهم .
رابعاً : الجهاد تطوع وليس فرضاً :
قال الجصاص في الأحكام (4/ 311) : ( حكى عن ابن شُبرمة والثوري في آخرين أنّ الجهاد تطوع وليس بفرض ، وقالوا :( كتب عليكم القتال) ليس على الوجوب بل على الندب كقوله تعالى : ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين ) .
وقد روى عن ابن عمر نحو ذلك وإن كان مختلفاً في صحة الرواية عنه .. وروى عن عطاء وعمر بن دينار نحوه .. )
قلت : وقد نَقَلَ القُرطبيُ في الجامع (3/38 )عن المهدوي وغيره عن الثوري أنّه قال : الجهاد تطوع .
ثم نقل كلام ابن عطية – معلقاً على عبارة الثوري – قال : وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل ، وقد قيم بالجهاد ، فقيل له ذلك: تطوع الثانية .
شروط الجهاد في المذاهب الأربعة :
(1) الأحناف :
قال الكاساني في بدائع الصنائع ( 7/98) : ( فصل : وأما بيان من يفترض عليه فنقول : إنه لا يفترض إلا على القادر عليه فمن لا قدرة له ، لا جهاد عليه .. فلا يفترض على الأعمى والأعرج والزمن والمقعد والشيخ الهرم والمريض والضعيف الذي لا يجد ما ينفق . ولا جهاد على الصبي والمرأة لأنّ بنيتها لا تحتمل الحرب عادة ) .
(2) المالكية :
قال في مختصر خليل ( 1/101) : ( الجهادُ فَرْضُ كفاية ولو مع والٍ جاء على كلّ حرّ ذكر مكلف قادر ) .
(3) الشافعية :
قال الشربيني في الإقناع ( 2/ 556) : ( وشرائط وجوب الجهاد حينئذ سبع خصال : الأولى : الإسلام ، والثانية : البلوغ ، والثالثة : العقل ، والرابعة : الحرية ، والخامسة : الذكورة ، فلا جهاد على امرأة لضعفها ، والسادسة : الصحة .. والسابعة : الطاقة على القتال بالبدن والمال .
(4) الحنابلة :
قال ابن قدامة : المغني (9/163) : ( ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والحرية ، والذكورية ، والسلامة من الضرر ، ووجود النفقة ) .
خلاصة القول في شروط الجهاد :
وبعد أن استعرضت أقوال أئمة المذاهب في شروط الجهاد يمكن تلخيص ما ذكروه – رحمهم الله – في الشروط التالية :
1/ الإسلامُ : وهو شرط لوجوب سائر الفروع ، ولأنّ الكافر غير مأمون في الجهاد .(4/292)
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلمّا كان بحرة " الوبرة " أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لاتبعك وأصيب معك, قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تؤمن بالله ورسوله ؟" قال : لا ، قال:" فارجع فلن استعين بمشرك" قالت : ثم مضى حتى إذا كنا " بالشجرة" أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال :" فارجع فلن أستعين بمشرك" قال ثم رجع فأدركه "بالبيداء" فقال له : كما قال أول مرة" تؤمن بالله ورسوله" قال: نعم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانطلق ) [ مسلم : 1817 ] .
قلت : والحديثُ صريحٌ في منع غير المسلم من الجهاد مع المسلمين فالرجل عرض نفسه مراراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معروف بشجاعته ونجدته وجرأته ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرحون بمقدمه ومع ذلك أبى النبي صلى الله عليه وسلم الاستعانة به .
2/ البلوغ :
والبلوغ كذلك شرط من شروط وجوب الجهاد ، لما يتطلب من قوة البدن ، وصلابة البنية ولما في الحديث الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال : عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزي ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ) [ مسلم : 1867 ].
3 / العقل :
قال ابن قدامة ( المغني : 9/ 163 ) : ( والمجنون لا يتأتى منه الجهاد ) وقال الشنقيطي في الأضواء ( 8/ 174) : ( فمن المتفق عليه ما أخرج من عموم خطاب التكليف كالصغير والنائم ، والمجنون ، لحديث" رفع القلم عن ثلاثة" .
قلت : والحديث رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة ،عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الغلام حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ) [ ابن حبان : 142] [ الحاكم : 8169] [ ابن خزيمة : 1003 ] .
4 / الحرية :
ويشترط كذلك لوجوب الجهاد الحرية لأنّ منفعة العبد لسيده فلا يجاهد إلا بإذنه ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع العبيد على الإسلام دون الجهاد .
5 / الذكورة :
وهو شرط في وجوب الجهاد للحديث الصحيح أنّ عائشة رضي الله عنها قالت :( قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل على النساء جهاد ؟ فقال : جهاد لا قتال فيه ، الحج والعمرة ) .
وللإجماع على أنّ النساء لا يلزمهن الجهاد وسيأتي ذكر من نقل الإجماع من أهل العلم – إن شاء الله –
ولأنهن ضعيفات الأبدان ، عاجزات عن مقاتلة الرجال بلا شك .
6 / القدرة :
والقدرة يراد بها : قدرة البدن على القتال والكرّ والفر ، وقدرة المال بأن يكون معه ما يكفيه للانتقال إلى ساحة القتال ويكفيه من التجهز للجهاد .
وقد ذكر الله البكاءين الذين عجزوا عن مؤنة الجهاد فرفع عنهم الحرج فقال سبحانه : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع ألا يجدوا ما ينفقون ) .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه إنّي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين نستحمله فقال : ( والله ، لا أحملكم وما عندي ما أحملكم , وأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فسأل عنّا فقال أين النفر الأشعريون فأمر لنا بخمس ذود غرّ الذرى فلما انطلقنا قلنا : : ما صنعنا؟! ، لا يبارك لنا!! فرجعنا إليه فقلنا: إنا سألناك ، أن تحملنا فحلفت أن لا تحملنا أفنسيت؟؟ ، قال : لست أنا حملتكم ، ولكن الله حملكم . إنّي والله ، إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها . [ البخاري : 2964 ] [ مسلم : 1649] .
وجه الدلالة : أنّ الأشعريين لمّا لم يجدوا رواحل تحملهم جلسوا ولم يخرجوا للجهاد ، وعذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلما بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإبل خرجوا بعد ذلك .
حُكْمُ جهاد النساء في المذاهب الأربعة :
الأحناف :
قال الكاساني في البدائع : ( 7/98) : ( و لا جهادَ على الصبي والمرأة لأنّ بنيتهما لا تحتملُ الحربَ عادة ) .
المالكية :
قال الدسوقي في حاشيته : ( 2/175) : ( ولا يلزم الصبي والأنثى وهذا إذا لم يُعيَّنا أو عُيِّنا غير مطيقين وإلا لزمهما ) .
وقال العدوي في حاشيته ( 2/4 ) : ( وهو فرضُ كفاية على الحرِّ الذكر المحقق العاقل البالغ القادر لا على أضدادهم ) .
قوله : ( لا على أضدادهم ) ، أي: لا جهاد على العبد والأثنى والمجنون والصغير والعاجز .
الشافعية :
قال الشافعي في الأم : ( 4/162 ) : ( فلما فرض الله تعالى الجهاد دلّ في كتابه ، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يفرض الخروج إلى الجهاد على مملوك أو أنثى بالغ ولا حر لا يبلغ .. وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( حرّض المؤمنين على القتال ) فدلّ على أنّه أراد بذلك الذكور دون الإناث ؛ لأنّ الإناث : المؤمنات .(4/293)
وقال عز وجل : ( وما كان المؤمنون ليفروا كافة ) وقال : ( كُتب عليكم القتال ) وكلّ هذا يدل على أنّه أراد به الذكور دون الإناث ) .
قال في المهذب : ( ولا يجب الجهاد على المرأة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد ؟ فقال جهادكن : الحج ، أو حسبكن الحج ، ولأنّ الجهاد هو القتال وهن لا يقاتلن ) . [ المهذب مع المجموع 19/ 270] .
قال ابن حجر في الفتح ( 6/ 76 ) : ( وقال ابن بطال : دلّ حديث عائشة على أنّ الجهاد غير واجب على النساء ... وإنما لم يكن عليهن واجباً لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال ) .
وقال ابن النحاس في مشارع الأشواق ( 1/ 99 ) : ( ولا يجب الجهاد على صبي ومجنون وامرأة ، ومن به مرض يمنع من القتال ) . ..
الحنابلة :
قال ابن قدامة في ( الكافي : 4/253) وهو يعدد شروط الحج : والرابع : الذكورية ، فلا يجب على المرأة لما روى عن عائشة أنها قالت : قلت : يا رسول الله ، هل على النساء جهاد ؟ قال جهاد لا قتال فيه ، الحج والعمرة ، ولأنّ الجهاد ، القتال والمرأة ليست من أهله لضعفها وخورها ) .
وكذا قال في المغني ( 9/ 162) : ( وأما الذكورية فشرط .. ثم ساق نحو كلامه هذا .
قلت : وقد نفل الإجماع غير واحد على أنّه ليس بفرض في أصله على جنس النساء.
قال ابن المُناصف ( ص 107 ) : ( واتفقوا كذلك أنّ المرأة ومن لم يبلغ ، والمريض الذي لا يستطيع القتال لا جهادَ فرضاً عليه : )
وقال ابن النحاس في المشارع ( 1/99) : ( ولا يجب الجهاد على صبي ومجنون وامرأة .. وما أظن فيه خلافاً ) .
متى يتعين الجهاد على المرأة ؟
قلت : وإذا تعين القتال في الأحوال الثلاثة التي ذكرها أهلُ العلم ، تعين القتال على المرأة المسلمة دفاعاً عن دنيها وعرضها كما نصّ عليه العلماء .
قال ابن النحاس في مشارع الأشواق ( 1/102) : ( ولو علمت المرأة أنها لو استسلمت امتدت الأيدي إليها لزمها الدفع ، وإن كانت تُقتل ؛ لأنّ من أكره على الزنا لا تحل له المطاوعة لدفع القتل ) .
وقال الدرديرُ في الشرح ( 2/ 174 ) : ( وتعين الجهاد بفجيء العدو على قوم ، وإن توجه الدفع على امرأة ورقيق وتعين على من بقربهم إن عجزوا عن كف العدو بأنفسهم وتعين أيضاً بتعيين الإمام شخصاً ولو امرأة وعبداً ).
هل يجوز إشراكُ المرأة في الجندية ؟
أثار عدد من الكُتّاب قضية إشراك المرأة في قطاع الجندية اعتماداً على كونها كانت تخرج للجهاد والغزو كما ثبت ذلك في أحاديث صحيحة وفيما يلي بعضاً من أقوالهم وعرضاً لبعض شبههم .
يقول محمود شيت خطاب ([1]) : ( ولا يقتصر التجنيد على الرجال البالغين بل يشمل النساء البالغات أيضاً ، فقد استصحب الرسولُ النساء في غزواته بل كان يصحب أزواجه بالاقتراع ، ولا يعترض أحد على اشتراك النساء في الحرب على عهد الخلفاء الراشدين والأمويين فلما جاء العباسيون ظهر بعض الفقهاء الجامدين فأضافوا إلى شروط الخدمة العسكرية شرطاً خامساً وهو الذكورة فحرموا الجيش من عنصر فعال يزيد عدده ومعنوياته ) .
وقال د/ محمد خير هيكل في ( الجهاد والقتال 12/ 123) ( لا يمنعُ من فتح باب الجيش النظامي لعناصر نسائية إذا دعت المصلحة إلى ذلك حسب تقدير صاحب السلطة في هذا الشأن ما دام الجهاد في الأصل ليس ممنوعاً عن المرأة وما الجيش النظامي في دوافعه إلا أداة للقيام بالجهاد على الوجه الأفضل فإذا أجزنا للمرأة الجهاد فهذا يعني أنّ الدخول في الأداة التي تمكنها من القيام بالجهاد وهي الجيش النظامي يكون جائزاً بطبيعة الحال ) .
وممّا استندوا عليه في هذه المسألة ما ثبت في أحاديث صحيحة أنّ النساء كن يخرجن للغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك :
ما ثبت في صحيح البخاري :
من حديث الرُبيّع بنت معوِّذ قالت : ( كُنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقى ونداوى الجرحى ، ونرد القتلى إلى المدينة ) . [ البخاري : 2726] .
وفي صحيح مسلم :
عن أم عطية الأنصارية قالت :( غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى) . [ مسلم : 1812] .
في مصنف عبد الرزاق ( 9672) قال عبد الرزاق عن معمر عن إبراهيم وسئل عن جهاد النساء ؟ فقال : كُنَّ يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيداوين الجرحى ، ويسقين المقاتلة ، ولم أسمع معه بامرأة قُتلت ، وقد قاتلن نساء قريش يوم اليرموك حين رهقهم جموع الروم حتى خالطوا عسكر المسلمين فضرب النساء يومئذ بالسيوف في خلافة عمر رضي الله عنه .
الجواب :(4/294)
لا ريب أنّ خروج النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم كان تطوعاً منهن – رضي الله عنهن – بحضرة محارمهن وكُنِّ يتولين مهاماً مساندة من مدواة الجرحى وسقاية العطشى ونحو ذلك وأما قيامهن بمهام قتالية فكان ذلك عند حاجتهن للدفاع عن أنفسهن ولذا استغرب النبي صلى الله عليه وسلم حمل أم سُليم للخنجر يوم أحد ، فعن أنس أنّ أم سُليم ( اتخذت يوم حُنين خنجراً فكان معها فرآها أبو طلحة فقال : يا رسول الله ، هذه أم سُليم معها خنجر ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الخنجر ؟ قالت : اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرتُ به بطنه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ... الحديث [ مسلم : 1809 ] .
وحتى زوجها أبو طلحة ، لم يكن على علم بحملها الخنجر إلا بعد أن رآه بيدها . وأين هذا من أوضاع الجندية اليوم حيث اللباس العسكري المتبرج واختلاط المرأة بالجنود والضباط والقادة العسكريين بلا محرم وغير ذلك من المفاسد .
فضلاً عن توقف حركة الجهاد على مستوى الدول منذ قرون ودخول معظم الدول العربية والإسلامية في أحلاف ومعاهدات دولية تمنعها من ابتداء القتال بل حتى استردادها لحقوقها المغتصبة عسكرياً بات ميؤوساً منه لدى القادة العسكرين خصوصاً مع قيامهم بتطبيع العلاقات مع اليهود فضلاً عن غيرهم !!
وعلى كلّ حال فإذا رفعت رايات الجهاد ن وانطلقت جحافل المجاهدين فينظر في إشراك النساء في الجهاد من قبل أهل العلم الراسخين !!
قال العلامة ابن باز - رحمه الله – ( وقد يتعلق بعض دعاة الاختلاط ببعض ظواهر النصوص الشرعية التي لا يدرك مغزاها ومرماها إلا من نوّر الله قلبه ، وتفقه في دين الله وضمّ الأدلة الشرعية بعضها إلى بعض ، وكانت في تصوره وحدة لا يتجزأ بعضها عن بعض ومن ذلك خروج بعض النساء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات . .
والجواب عن ذلك : أنّ خروجهن كان مع محارمهن لمصالح كثيرة, لا يترتب عليه ما يُخشى عليهن منه من الفساد ؛ لإيمانهن وتقواهن وإشراف محارمهن عليهن, وعنايتهن بالحجاب بعد نزول آيته, بخلاف حال الكثير من نساء العصر ...
أما ما يُدعى في هذا العصر من إدخالها كجندي يحمل السلاح ويقاتل كالرجال فهو لا يتعدى أن يكون وسيلة لإفساد وتذويب أخلاق الجيوش باسم الترفيه عن الجنود؛ لأنّ طبيعة الرجل إذا التقت مع طبيعة المرأة كان منهما عند الخلوة ما يكون بين كلّ رجل وامرأة من الميل والأنس والاستراحة إلى الحديث والكلام ، وبعض الشيء يجر إلى بعض, وإغلاق باب الفتنة أحكم وأحزم ، وأبعد عن الندامة في المستقبل ) [ مجلة البحوث : 6 ص 297] .
وقال العلامة أحمد شاكر[2] في عمدة التفسير ( 3/ 157) في تعليقه على حديث أم سلمة رضي الله عنها – قالت : (يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث ، فأنزل الله : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض .. .) قال – رحمه الله - : ( وهذا الحديث يردُّ على الكذابين المفترين – في عصرنا – الذين يحرصون على أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين ، فيخرجون المرأة عن خدرها وعن صونها وسترها الذي أمر الله به ، فيدخلونها في نظام الجند ، عارية الأذرع والأفخاذ بارزة المقدمة والمؤخرة ، متهتكة فاجرة ، يرمون بذلك في الحقيقة إلى الترفيه الملعون عن الجنود الشبان المحرومين من النساء في الجندية ، تشبهاً بفجور اليهود والإفرنج ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة) .
قلت : ومن جهة ثانية فإنّ عدم قسم النبي صلى الله عليه وسلم للنساء من الغنيمة يدل على عدم مجاهدتهن بالفعل فإنه كان عليه السلام يرضخ لهن ولا يقسم ويدل على ذلك جواب ابن عباس لنجدة .
ففي صحيح مسلم عن يزيد بن هُرمز أنّ نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال ، فقال ابن عباس لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه ، كتب إليه نجدة أما بعد ، فأخبرني, هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهن بسهم ؟ ...
فكتب إليه ابن عباس ، كتبت تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء ؟ ، وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويُحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن ... [ مسلم : 1812] .
قال ابن عبد البر في التمهيد (1/ 232) : ( واختلف الفقهاء في الإسهام للنساء من الغنيمة إذا غزون, فقال ابن وهب: سألت مالكاً عن النساء هل يجزين من المغانم في الغزو ؟ قال : ما علمت ذلك .
وقد أجاز قوم من أصحابنا أن يَرْضَخ للنساء ما أمكن على يراه الإمام .
وقال الثوري وأبو حنيفة والليث والشافعي وأصحابهم لا يسهم لامرأة ، ويرضخ لها ، وقال الأزواعي يُسهم للنساء ! .
وزعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء بخيبر ، قال الأوزاعي ؛ وأخذ بذلك المسلمون عندنا .
قال أبو عمرو : أحسن شيء في هذا الباب ما كتب به ابن عباس إلى نجدة الخارجي .. ) .
مفاسد التحاق المرأة بالجندية .
1- نشأةُ العلاقات المُحرّمة :(4/295)
إنّ التحاق المرأة بالجندية ، هو بوابة مثالية ، وأرض خصبة لنشأة العلاقات المُحرّمة بين الذكور والإناث كنتيجة حتمية للاختلاط السافر بين الجنسين وما يتبعه من الصداقات والتعارف البغيض المخزي .
2- التعجيل بشيوع الفاحشة في المجتمع :
إنّ الاختلاط هو أقصر الطرق نحو شيوع الفاحشة في المجتمع بيد أنّ الاختلاط في قطاع الجندية هو الأسرع والأقصر والأمثل لشيوع الفاحشة في المجتمع قاطبة ، فطبيعة اللباس العسكري, وكثرة التمارين ، وخشونة التدريبات هي الطابع العام للعمل العسكري وهو أنسب بيئة لإبراز الرجال فتوة عضلاتهم ، وقوة أجسامهم ، وصلابة أعوادهم . كما أنه فرصة النساء لكشف محاسنهن ، وعرض مفاتنهن وكلا التصرفات من الجنسين أسرع إثارة للغرائز وأشوق داع لعقد صفقات الفاحشة والعار.
3- إذابة أخلاق الجند :
أنّ الجند الذين يصبحون ويمسون مختلطين بالحسناوات المتبرجات ، لا يمكن أن يبقى لهم خُلق يُفخر به أو رجولة يعتز بها ، فالخلاعة السائدة ، والتخنث المشين الذي يعصف بأرجاء ساحة التدريبات أو حُجر المكاتب كفيل بإذابة أخلاق الجند وإغراقهم في الشهوات !
ومن ثم تتحول مراصد الثغور إلى أوكار الفجور ، وتعود ثكنات الجنود ، مراتع للسفود عياذاً بالله .
4- الهزيمة العسكرية :
إنّ جنداً غارقين في شهواتهم ، وعقد الصفقات المشبوهة مع الفتيات والنساء المجندات لا يمكن أن يصمدوا في مواجهات حربية أو ينتصروا في مهمات قتالية فالحروب لا تعرف الميوعة ، ولا تأبه بالخلاعة ، فما هي إلا حمم ملتهبة ، وصواريخ مدمرة ، وقذائف ساحقة ، ودماء متفجرة ، وأشلاء متمزقة ، وهل هزم فرنسا إبّان الحرب العالمية إلا خلاعتها وفجورها ؟!
5- ضياع البيت وتصدع الأسرة :
إنّ خروج المرأة من بيتها لأي عمل كان كفيل بتفويت العديد من المصالح المنزلية والواجبات الأسرية ، والالتزامات الحيوية والأدبية تجاه زوجها وأولادها !!
فكيف إذا كان خروجها للجندية التي لا تتلائم مع طبيعتها الجسدية وقدراتها البدنية حيث سيقضي على البقية االباقية من قواها االطبعية ، وأي شيء سيبقى بعد ذلك لبيتها ؟!
الخاتمة :
وبعد هذا البحث الموجز ، في أهم مسائل الجهاد ، يتبين مشروعية جهاد النساء في حال هجوم العدو الصائل على بلاد المسلمين ليدافعن عن أنفسهن وأعراضهن بل إنّه ليتعين عليهن في هذه الحالة ؛ لأنّ مفسدة غزو العدو واستيلائه على حمى المسلمين , وخطره على الأديان والأعراض لا توازيه مفسدة أخرى ..
وأما مشاركة النساء في الجندية والجيوش ونحوها فغير جائز سيما في الأعصار الحاضرة لتوقف عجلة الجهاد أصلاً ، ولفساد أخلاق الرجال والنساء في هذا الزمان إلا من رحم الله ، ولافتقاد النساء للمحارم الذين يدفعون عنهن السوء والخطر .
فضلاً عن الاختلاط الفاحش واللباس الفاتن لتلك الجيوش وأولئك الجنود والله المستعان !
وختاما الله أسأل إن يحفظ ديننا وأمننا ويكبت عدونا ويرد كيده في نحره ويجعل تدبيره تدميرا لقوته, واستئصالا لشأفته إنه عزيز حكيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
----------------------
[1] - الرسول القائد لمحمود شيت خطاب ص 30 بواسطة محمد خير هيكل 2/996.
[2] - أحمد ( 6/ 322) [ الترمذي 3002] .
===============
جمع المغنم في حكم سفر المرأة بلا محرم
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
مقدمة :
الحمد لله وأصلي وأسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد :
فمن الأمور التي كثرت الحاجة بلّ مست الضرورة لبحثها ، موضوع المحرم في السفر ن وذلك لتقدم وسهولة وسائل المواصلات وكثرة الأسفار ووفرة المطارات والمحطات والحافلات وقد لمسنا تساهل الكثيرين رجالاً ونساءً في مسألة المحرم في السفر فآلياً النساء غاديات رائحات من مطار لآخر ومن طائرة لأخرى بلا محارمهن بدعوى قرب المسافات وانتفاء الخلوات ولذا رأيت إفراد هذه المسألة ببحث شمولي مؤصل طلباً للفائدة وتعميمها وإبراءً للذمة ونصحاً للأمة والله الموفق.
تعريفُ السّفر لغةً :
قال الرازي : في مختار الصحاح ( سفر ) : السّفَرَ : قطعُ المسافة والجمع أسفار .. وسفر : خرج إلى السفر وبابه : جلس ، فهو سافر ، وقوم سَفْر : كصَاحب ، وصَحْب ، وسُفّار كراكب وركاب .. والسافرة : المسافرون .
وقال ابن منظور في اللسان ( سفر ) :
وقال الأزهري : وسُمّي المسافر مسافراً لكشفه قناع الكُنّ عن وجهه ن ومنازل الحضر عن مكانه ، ومنزل الخفض عن نفسه ن وبروزه إلى الأرض الفضاء .
وسُمّى السفر سفراً ؛ لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم ، فيظهر ما كان خافياً منها " .
وقال الفيومي في المصباح ( ص 16 ) : السَفَرُ بفتحتين وهو قطع المسافة يقال ذلك : إذا خرج للارتحال أو لقصد موضع فوق مسافة العَدْوَى ؛ لأنّ العرب لا يسمون مسافة العدوى سفراً وقال بعض المصنفين : أقل السفر يوم ...
وجمع الاسم : أسفار ، وقوم سَافِرَة ، وسُفَّار .
تعريفُ السفر اصطلاحاً ، وحدّه الشرعي :(4/296)
قال ابن العربي المالكي : ( ولم يذكر حدُّ السفر الذي يقع به القصر ، لا في القرآن ولا في السُنّة ، وإنما كان كذلك لأنّها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين خاطبهم الله تعالى بالقرآن . القرطبي ص 345)
وقال شيخ الإسلام في الفتاوى ( 24 / 31 ) : " حدُّ السفر الذي علّق الشارع به الفطر والقصر ، وهذا ممّا اضطرب الناس فيه قيل : ثلاثة أيام ، وقيل يومين قاصدين ، وقيل : أقل من ذلك حتى قيل : ميل !
والذين حددوا ذلك بالمسافة : منهم من قال ثمانية وأربعون ميلاً ، وقيل : ستة وأربعون ، وقيل : خمسة وأربعون . وقيل أربعون ، وهذه أقوال عن مالك .
وقال أبو محمد المقدسي : لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهاً ، وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتاً بنص ولا إجماع ولا قياس وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير ، ويجعلون ذلك حداً للسفر الطويل ، ومنهم من لا يُسمى سفراً إلا ما بلغ هذا الحد ، وما دون ذلك لا يسميه سفراً ...
إلى أن قال :
" كل اسم ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف ، فما كان سفراً في عرف الناس فهو السفر الذي علّق به الشارع الحكيم ، وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة فإنّ هذه المسافة بريد ، وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسُنّة .
والبريد هو نصف يوم يسير الإبل والأقدام .. "
تعريفُ المَحْرَم لغة واصطلاحاً :
تعريفه لغة :
قال في مختار الصحاح ( 1/ 56 ) : المَحْرَمُ : الحَرَاْمُ ويقال : هو ذو مَحْرَم منها : إذا لم يحل له نكاحها :
تعريفه اصطلاحاً :
وقال ابنُ الأثير : " ذو المَحْرم : من لا يحل له نكاحها من الأقارب وكالأب والابن والأخ والعم ومن يجري مجراهم " [ النهاية : 1/377]
وقال ابنُ قُدامة : " المَحرمُ : زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كأبيها وابنها وأخيها من نسب أو رضاع " [ المغني : 2/32 ]
وقال الحافظ : محرمُ المرأة : من حُرم عليه نكاحها على التأبيد إلا أمّ الموطوءة بشبهة ، والمُلاعنة ، فإنهما حرامان على التأبيد ، ولا محرمية هناك ، وكذا أمهات المؤمنين ، وأخرجهن بعضهم بقوله في التعريف بسبب مباح ، لا لحرمتها ، وخرج بقيد التأبيد أخت المرأة وعمتها وخالتها وبنتها إذا عقد مع الأم ولم يدخل بها "
[ الفتح : 9/ 332]
وقال ابن باز : " المَحْرَمُ : هو الرجل الذي تَحْرُمُ عليه المرأة بنسب كأبيها وأخيها أو بسبب مباح كالزوج وأبي الزوج وابن الزوج ، والابن من الرضاع والأخ من الرضاع ونحوهم ) [ الفتاوى : 8/ 336] [ مجلة الدعوة عدد 1497 .
حكم سفر المرأة بلا محرم :
نقل بعضُهم أنه لا خلاف بين أهل العلم في تحريم سفر المرأة بلا محرم إلا أنهم اختلفوا في سفرها للحج إذا أمنت الطريق ووجدت الرفقة من النساء المأمونات .
قال القاضي عياض : " اتفق العلماء على أنّه ليس لها أن تخرج غير الحج والعمرة ، إلا العجزة من دار الحرب فاتفقوا أنّ عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها محرم " ( الفتح الرباني ص 170) .
وقال البغوي فيما نقله عن ابن حجر في فتحه ( 4/76) : " لم يختلفوا في أنّه ليس للمرأة السفر في غير الفرض إلا مع زوج أو محرم إلا كافرة أسلمت في دار الحرب أو أسيرة تخلصت "
وقد عدّ ابنُ حجر الهيثمي سفر المرأة وحدها بطريق تخاف فيه على بُضعها من الكبائر فقال :
" الكبيرةُ المائة : سفرُ المرأة وحدها بطريق تخاف فيه على بضعها .. ثم قال : تنبيه : عدُّ هذا بالقيد الذي ذكرته ظاهر لعظيم المفسدة التي تترتب على ذلك غالباً ، وهي استيلاء الفجرة وفسوقهم بها فهو وسيلة إلى الزنا ، وللوسائل حكم المقاصد ، وأما الحُرمة فلا تتقيد بذلك ، بل يحرم عليها السفر مع غير المحرم وإن قصر السفر ، وكان أمناً ، ولو لطاعة كنفل الحج أو العمرة ولو مع النساء من التنعيم ، وعلى هذا يحمل عدهم ذلك من الصغائر " [ الزواجر 1/ 150]
وقال الشيخ بكر أبو زيد في الحراسة ص 85 : " ومن الأحكام : تحريم سفر المرأة بلا محرم ، والأحاديث فيه متواترة معلومة "
قلت : ورغم ما نقله القاضي عياض والبغوي من الإجماع على تحريم سفر المرأة بلا محرم إلا إن المسألة لا تخلو من خلاف هذا ملخصه :
القول الأول :
ذهب أبو حنيفة وأحمد والشافعي وجماهير أصحابه إلى تحريم السفر بلا محرم في كل سفر مباح أو حج تطوع أو نحوهما إلا أنّ أبا حنيفة يشترط المحرم في السفر الطويل لا القصير وهو ما كان مسيرة ثلاثة أيام إلا أنّه قيده بالحاجة .
وعن أبي حنيفة وأبي يوسف كراهية خروجها وحدها مسيرة يوم واحد قال ابن عابدين : وينبغي أن يكون الفتوى عليه لفساد الزمان ويؤيده حديث الصحيحين : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها ))
وفي لفظ مسلم (( مسيرة ليلة )) وفي لفظ " يوم " ينظر الحاشية ( 2/ 465)
قلت : وحجةُ الحنفية في التفريق بين السفر الطويل والقصير ذكرها الحافظ في الفتح ( 4/ 75 ) : " وحجتُهم أنّ المنع المقيد بالثلاث متحقق ، وما عداه مشكوك فيه ، فيؤخذ بالمتيقن ..(4/297)
ثم أجاب الحافظ عن هذه الحجة فقال : " ونوقض بأنّ الرواية المطلقة شاكلة لكل سفر فينبغي الأخذ بها وطرح ما عداها فإنّه مشكوك فيه ، ومن قواعد الحنفية تقديم الخبر العام على الخاص وترك حمل المطلق على المقيد ، وقد خالفوا ذلك هنا "
وقال النووي في المجموع ( 8/ 341 ) : " قالوا – أي الشافعية – فإن كان الحج تطوعاً ، لم يجز أن تخرج فيه إلا مع محرم ، وكذا السفر المباح ، كسفر الزيارة والتجارة ، لا يجوز خروجها في شيء من ذلك إلا مع محرم أو زوج ..
قال الشيخ أبو حامد – في تعليقه – لا يجوز لها الخروج في حج التطوع إلا مع محرم ، نصّ عليه الشافعي في كتاب العدد من الأم ، فقال لا يجوز الخروج في حج التطوع إلا مع محرم ..
قلت : وقد قرر النووي – رحمه الله - أنّ الصحيح من مذهب الشافعية أنّه لا يجوز للمرأة السفر لغير الحج الواجب إلا بمحرم ، ينظر : المجموع ( 8/ 343 ).
ونقل عن الحافظ في الفتح ( 4/ 75 ) : " وقال النووي : كل ما يُسمّى سفراً فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم "
أدلةُ تحريم سَفَرِ المرأةِ بلا مَحْرَم :
دلّت الأحاديثُ الكثيرة الصحيحةُ الصريحةُ على تحريم سفر المرأة بلا محرم ، صيانة لها من الأخطار ، وحفظاً لها من الأضرار ورغبة في سلامتها ، ورعايتها سيما في هذه الأزمان المتأخرة التي كثرت فيها الشرور ، وعمّت خلالها نوائب الدهور والعصور .
ومن هذه الأدلة :
1/ عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً ، إلا ومعها أبوها ، أو ابنها ، أو زوجها ، أو أخوها ، أو ذو محرم منها )) [ مسلم : 1339 ] .
2/ عن أبي هريرة رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر ميسرة يوم إلا مع ذي محرم )) [ البخاري : ] [ مسلم : 1339] .
3/ عن قَزَعة مولى زياد قال : سمعت أبا سعيد – وقد غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتى عشرة غزوة قال : (( أربع سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال يحدثهن عن النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبتني وآنقنني : أن لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم ، ولا صوم يومين : الفطر والأضحى ، ولا صلاة بعد صلاتين بعد العصر حتى تغرب الشمس ، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ، ومسجدي ، ومسجد الأقصى )) [ البخاري : 1864 ] [ مسلم : 827 ] .
عن ابن عمر رضي الله عنهما : " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ))[ البخاري : 1036 ] [ مسلم : 1338 ].
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو محرمة منها )) . [ مسلم : 1339 ] .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم )) ، فقال رجل : يا رسول الله إنّي أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا ، وامرأة تريد الحج فقال : " اخرج معها )) [ البخاري : 1862] [ مسلم : 1341]
ولفظ مسلم : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول : (( لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم )) فقام رجل فقال يا رسول الله إنّ امرأتي خرجت حاجّة ، وإنّي اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال : (( انطلق فحج مع امرأتك )) .
قال الحافظ في الفتح ( 4/ 75 ) : " وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات .. وقال ابن المنير : وقع الاختلاف في مواطن بحسب السائلين "
أقوال المبيحين لها في الخروج بلا محرم بشروط :
قال النووي في المجموع (8/ 341) : " قال الماوردي : ومن أصحابنا – أي الشافعية – من جوّز خروجها مع نساء ثقات كسفرها للحج الواجب ، قال : وهذا خلاف نص الشافعي :
قال أبو حامد : ومن أصحابنا –أي الشافعية – من قال : لها الخروج بغير محرم ،في أي سفر كان واجباً أو غيره ..وهكذا ذكر المسألة البندنيجي وآخرون .
وقال بعض أصحابنا ، يجوز بغير نساء ولا امرأة إذا كان الطريق آمناً ، وبهذا قال الحسن البصري وداود "
وقال مالك : لا يجوز بامرأة ثقة ، وإنما يجوز بمحرم ، أو نسوة ثقات .
الترجيح :
لا ريب أنّ الراجح في هذه المسألة هو القول الأول لصراحة الأدلة وصحتها ووفرتها وليس فيها تفريق بين سفر وسفر ولم تتوقف على أغراض السفر أو دوافعه .
وليس مع أصحاب هذا القول أي دليل يُعتَدُّ به وليس ثمة إلا اجتهادات لا تُسلّم لقائليها ، وناهيك عن مصادمتها لأدلة ونصوص صريحة في محلّ النزاع .
الخلاف في سفر الحج الواجب :
اختلف أهل العلم في مسألة سفر المرأة للحج بلا محرم باعتبار الحج فريضة ، وركناً عظيماً من أركان الإسلام وهذا عرض لأقوالهم :
1/ القول الأول :
ذهب الأحناف والحنابلة في المشهور عن أحمد ومن وافقهم إلى تحريم السفر بلا محرم لعموم الأدلة المانعة للمرأة من السفر بدونه .(4/298)
قال الجصاص الحنفي في ( أحكام القرآن 2/ 309) تعليقاً على حديث ابن عباس الآنف ذكره : " وهذا يدل على أنّ قوله : لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم قد انتظم المرأة إذا أرادت الحج من ثلاثة أوجه : أحدها : أنّ السائل عقل منه ذلك ، ولذلك سأله عن امرأته وهي تريد الحج ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه فدّل على أنّ مراده صلى الله عليه وسلم عام في الحج وغيره من الأسفار .
والثاني : قوله : حج مع امرأتك وفي ذلك إخباره منه بإرادة سفر الحج في قوله : لا تسافر إلا ومعها ذو محرم .
والثالث : أمره إيّاه بترك الغزو للحج مع امرأته ، ولو جاز لها الحج بغير محرم ، أو زوج لما أمره بترك الغزو ، وهو فرض للتطوع وفي هذا دليل أيضاً على أنّ حج المرأة كان فرضاً ولم يكن تطوعاً ، لأنّه لو كان تطوعاً لما أمره بترك الغزو الذي هو فرض لتطوع المرأة ، ومن وجه أخر وهو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن حج المرأة أفرض هو أم نفل وفي ذلك دليل على تساوي حكمهما في امتناع خروجها بغير محرم فثبت بذلك أنّ وجود المحرم للمرأة من شرائط الاستطاعة "
وقال ابن قدامة في ( المغني 5/ 30) : " فمن لا محرم لها لا تكون كالرجل فلا يجب عليها الحج ، وقد نصّ عليه أحمد فقال أبو داود قلت لأحمد : امرأة مُوسرة ، لم يكن لها محرم ، هل يجب عليها الحج ؟ قال : لا .. "
أدلة القول الأول :
استدل المانعون من سفر المرأة إلى الحج بلا محرم سوء كان فريضة أو تطوعاً بعموم الأدلة المانعة من السفر بلا محرم وقد تقدم ذكر طرف منها ، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين سفر الحج وغيره ، ولأنّ المحذور في سفر المرأة بلا محرم موجود في كل أسفارها وإن كان للحج .
ويضاف لأدلة العموم ما رواه الدارقطني بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما ( 2/ 223) " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل ، فقال : يا رسول الله ، إنّ امرأتي خرجت حاجة ، وإنّي اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال : انطلق فحجّ مع امرأتك )) ([1]) .
قلت : وهو نصٌّ في اشتراط المحرم في سفر الحج ، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه أنّ يحلق بامرأته رغم أنّه قد اكتتب في غزوة جهادية في سبيل الله ولو لا وجود المحرم لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتخلي عن ذروة سنام الإسلام – وهو الجهاد – لأمر ليس بواجب !
القول الثاني :
أجاز بعض أهل العلم للمرأة الحج بلا محرم لكنّ بعض عباراتهم تدل على تقييد وليس بإطلاق .
قال مالك في ( الموطأ 1/ 425 ) : " الصَرُورَة [2] من النساء التي لم تحج قط أنها إن لم يكن لها ذو محرم يخرج معها أو كان لها فلم يستطع أن يخرج معها أنها لا تترك فريضة الله عليها في الحج ، لتخرج في جماعة النساء "
وقال الشافعي في ( الأم 2/117) : " وإن كان فيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنّ السبيل الزاد والراحلة وكانت المرأة تجدهما وكانت مع ثقة من النساء في طريق مأهولة آمنة فهي ممن عليه الحج عندي – والله أعلم – وإن لم يكن معها ذو محرم لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستثن فيما يوجب الحج إلا الزاد والراحلة وإن لم تكن معها حرة مسلمة ثقة من النساء فصاعداً لم تخرج مع رجال لا امرأة معهم ولا محرم لها منهم .
وقد بلغنا عن عائشة وابن عمر وابن الزبير مثل قولنا في أن تسافر المرأة للحج وإن لم يكن معها محرم "
وقال النووي في شرحه على مسلم (9/98) : " جواز حج المرأة بلا محرم إذا أمنت على نفسها وهو مذهبنا "
وهذا القول بعدم وجوب المحرم في الحج رواية عن أحمد – رحمه الله – قال صاحب المغني (5/30) " وعنه رواية ثالثة أنّ المحرم ليس بشرط في الحج الواجب .
قال الأثرم : سمعت أحمد يُسأل : هل يكون الرجل محرماً لأمّ امرأته ، يخرجها إلى الحج ؟
فقال : أما في حجة الفريضة فأرجوا ، لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كلّ من أمنته وأما في غيرها فلا "
أدلة القول الثاني :
استدل المبيحون لسفر المرأة للحج الواجب بلا محرم بأدلة وهي :
1/ روى الدارقطني بإسناده ( سند الدارقطني 2/215) عن جابر وبن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس وعائشة –رضي الله عنهم – أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة .
ووجه الدلالة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط المحرم .
2/ روى الترمذي ( 4084) : عن ابن عمر رضي الله عنهما : " ... فقام رجل آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله ؟ قال الزاد والراحلة "
ووجه الدلالة كسابقه .
3/ روى الإمام أحمد عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " قال رجل يا رسول الله ما السبيل ؟ قال : " الزاد والراحلة " ووجه الدلالة كسابقه .
4/ روى البخاري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه : " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤمّ البيت لا جوار معها ، لا تخاف إلا الله " ووجه الدلالة : خروج الظعينة بلا محرم .(4/299)
5/ قالوا : ولأنّه سفر واجب ، فلم يُشترط له المحرم كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار .
الترجيح والمناقشة :
وبالنظر في أدلة الفريقين ، يتضح بجلاء رجحان القول الأول لصحة وصراحة وعموم الأدلة التي استدلوا بها فضلاً عما رواه الشيخان من حديث ابن عباس فإنه نصٌّ في سفر الحج وكذا ما رواه الدارقطني عنه .
وأما الإجابة عن أدلة الفريق الثاني فأقول مستعيناً بالله :
1/ أما الدليل الأول والثاني والثالث [3]
فليس له أدنى إشارة إلى جواز حجّ المرأة بلا محرم وإنما هو لبيان السبيل فحسب مع استلزام الشروط الأخرى لأنّ حكم المسألة الشرعية ، يؤخذ عن طريق جمع الأدلة كلها وتأملها .
قال ابن قدامة ( 5/ 32) : " ويحتمل أنّه أراد أنّ الزاد والرحلة يوجب الحج مع كمال بقية الشروط ن ولذلك اشترطوا تخلية الطريق ، وإمكان المسير ، وقضاء الدين ، ونفقة العيال ، واشترط مالك إمكان الثبوت على الراحلة وهي غير مذكورة في الحديث واشترط كل واحد منهم في محلّ النزاع شروطاً من عند نفسه لا من كتاب ولا من سُنّة فما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاشتراط "
وقال ابن المنذر : " تركوا القول بظاهر الحديث ، واشترط كل واحد منهم شروطاً ، لا لحجة معه عليه " ( المغني 5/ 31 ) .
وأما الجواب عن الدليل الرابع :
فيقال : هو وصف الحال ، لا يترتب عليه حكم الإباحة ، أو الإقرار ومثله أحاديث كثيرة تصف الحال منها :
1/ حديث أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات من جبل من ذهب يقتتل الناس عليه ، فيقتل من كل فئة تسعة وتسعون ، ويقول كل رجل منهم ، لعلّي أكون أنا الذي أنجو)) [ مسلم : 2894] .
2/ حديث أبي هريرة أيضاً – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قطحان يسوق الناس بعصاه " [ البخاري : 3329 ] [ مسلم : ....]
3/ حديث أبي هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده ، لا تذهب الدنيا حتى يمرّ الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول : يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر ن وليس به الدّين إلا البلاء " [ البخاري : 6698 ] و[ مسلم : 157] .
قلت : فهل يقول أحد بجواز الاقتتال على ذهب الفرات أو إقرار القطحاني على سوق الناس بعصاه أو مشروعية التمرغ على القبر وتمنى الموت بإطلاق .
وجواب آخر : وعلى فرض أنّ حديث الظعينة دال على مشروعية سفر المرأة بلا محرم ، فإنّ ذلك إشارة إلى استتاب الأمن وشيوعه ، وإنتشار الطمأنينة في أرجاء الجزيرة فلا يُخشى من قَطع طريق ، أو بطش ظالم وحينئذ إذا سادت تلك الأحوال فأمنت النساء ، وأطمأن الناس فلا مانع من سفرها بلا محرم والله أعلم .
وأما الجواب خامساً عن قولهم بأنّ سفرها للحج الواجب قياساً على تخلصها من أيدي الكفار .
فسبق القول أنّ أحاديث النبي – وهو أعلم – لم تفرق بين سفر واجب ومستحب أو بين الحج وغيره كما تقدم .
وأما سفر المرأة لوحدها من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين فسفر ضرورة ، وبقاؤها في بلاد الكفار أبلغ خطراً من سفرها إلى بلاد المسلمين .
قال ابن قدامة في المغني ( 5/32 ) " وأمّا الأسيرةُ إذا تخلّصت من أيدي الكفار فإنّ سفرها ضرورة لا يُقاس عليه حالة الاختيار ، ولذلك تخرج فيه وحدها ، ولأنّها تدفع ضرراً متيقناً بتحمل الضرر المتوهم فلا يلزم ذلك من غير ضرر أصلاً "
سفر المرأة بوسيلة نقل جماعية :
غير غائب عن البال ما استحدث في هذا العصر من وسائل النقل الجماعية من طائرات وقطارات وحافلات حيث تنتفي الخلوة ، وتنتظم الرحلات في مواعيد مجدولة ، ومسارات جوية أو برية محدودة فهل يتغير الحكم وفقاً لتغيير الوسيلة ؟
بالنظر إلى أقاويل وفتاوى علماء العصر في حكم السفر في هذه الوسائل العصرية نجدهم قد اختلفوا عل قولين :
1/ القول الأول :
وهو قول كثير من أهل العلم : أنّ سفر المرأة بلا محرم حرام سواء كانت وسيلة السفر هي الطائرة أو القطار أو الحافلة أو السيارة أو غيرها لعموم الأدلة الشرعية القاضية بتحريم سفرها بلا محرم .
ومن هؤلاء العلماء العلامة : عبد العزيز بن باز ، والعلامة محمد بن صالح العثيمين والشيخ صالح الفوزان وغيرهم وهذا فتاواهم أسوقها كما هي :
1/ فتوى العلامة عبد العزيز بن باز
س : الأخت التي رمزت لاسمها بأم محمد صالح من المدينة المنورة تقول في سؤالها : امرأة مطلقة تبلغ من العمر أربعين سنة ليس لها محرم حيث أنها تعيش وحدها في المدينة المنورة ، لأن أبناءها وأكبرهم 16 سنة يعيشون مع أبيهم في مدينة أخرى ، هذه المرأة ذهبت في رمضان المبارك إلى مكة المكرمة للعمرة في حافلة النقل الجماعي الذي يوجد فيه مكان مخصص للنساء ، وقد أوصلها النقل الجماعي أمام الحرم ، وبعد انتهائها من العمرة استقلت حافلة أخرى تابعة للنقل الجماعي إلى الموقف الرئيسي خارج مكة المكرمة ، ومن هنا سافرت إلى المدينة في حافلات النقل الجماعي ، فهل هي آثمة بسفرها وهي في هذا السن وهذه الظروف ؟(4/300)
ج : إذا كان الواقع هو ما ذكرته السائلة فالسفر المذكور محرم ، وعلى المرأة المذكورة التوبة إلى الله من ذلك، وذلك بالندم على ما وقع منها ، والعزم الصادق على أن لا تعود لذك ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " متفق عليه ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : وقد قال الله سبحانه : (( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (سورة الحشر :7) .
والله الموفق .
وهذه فتاوى العلامة ابن عثيمين :
سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
هل يجوز للمرأة أن تسافر بالطائرة مع وجود الأمن بدون محرم ؟
الجواب : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " قال ذلك . وهو يخطب على المنبر في أيام الحج ، فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجّة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم انطلق فحجّ مع امرأتك ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع الغزو ويحج مع امرأته ، ولم يقل النبي له هل امرأتك آمنة على نفسها ؟ أو هل معها نساء ، أو هل مع جيرانها فدل ذلك على عموم النهي عن سفر المرأة بلا محرم ، ولأن الخطر حاصل حتى في الطائرة ن ولنمش جميعاً في تتبع ذلك .فهذا الرجل الذي أراد أن تسافر امرأته بالطائرة ، متى يرجع من شييعها إنه يرجع عند انتظارها ركوب الطائرة ، وستبقى في هذه الصالة بدون محرم ، ولنفرض أن الرجل معها حتى أدخلها الطائرة ، وأقلعت الطائرة ، أفلا يمكن أن ترجع الطائرة أثناء الطريق ؟ هذا وارد ويحصل أنّ الطائرة قد ترجع لخلل فني ، أو للأحوال الجوية ، ولنفرض أنها استمرت في سيرها ووصلت إلى المدينة التي ستهبط فيها ، ولكن المطار صار مشغولاً أو صارت أجواء المطار غير صالحة للهبوط ، ثم انتقلت الطائرة إلى مكان أخر ، فهذا محتمل ، ولنفرض أن الطائرة قامت في الوقت المقرر وهبطت في المطار المقرر ، ولكن المحرم الذي كان ينتظرها لم يحضر بسبب طارئ حدث له ، ولنفرض أن هذا الاحتمال انتفى وجاء المحرم في الوقت المقرر ، يتبقى عندنا من الخطر مَن الذي يكون إلى جنب هذه المرأة في الطائرة ؟ لن تكون امرأة على حال ، فقد يكون إلى جوارها رجل ، وهذا الرجل قد يكون من أخوَن عباد الله يضحك إليها ، ويتحدث إليها ويمزح معها ، ويأخذ رقم تليفونها ويعطيها رقم هاتفه أليس هذا ممكناً ؟ من الذي يسلم من هذه الأخطار ؟
ولهذا تجد الحكمة العظيمة في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن سفر المرأة بلا محرم بدون تفصيل وبدون تقييد لكن قد نقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب ولم يعلم عن هذه الطائرات فلنحمل كلامه على السفر على الجمال لا على الطائرات ، فلا تسافر المرأة على البعير إلا مع ذي محرم ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعلم عن الطائرة التي تقطع المسافة ما بين الطائف إلى الرياض في ساعة وربع بينما كان يقطع في شهر كامل ؟ فالجواب على هذا : أنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم فإن رب الرسول سبحانه وتعالى يعلم ، والله عز وجل يقول : (( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ )) (سورة النحل :89) .
فأنا أحذر إخوتي من هذه الظاهرة الخطيرة ، وهي التساهل في سفر المرأة بلا محرم كما أحذرهم أيضاً من خلوة السائق بالمرأة في السيارة ولو في البلد ؛ لأن الأمر خطير ، كما أحذرهم أيضاً من خلوة قريب الزوج بالمرأة في البيت ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم قال : " إياكم والدخول على النساء " قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرأيت الحمو ؟ قال : " الحمو الموت " أي احذر منه أشد الحذر ، والغريب أب بعض العلماء – عفا الله عنا وعنهم – قال معنى قوله : " الحمو الموت " أي أن الحمو لا بد من دخوله على امرأة قريبه كما أن الموت لا بد منه ([4]) .
وهذه فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
السفر بالطائرة بدون محرم
السؤال الثالث من الفتوى رقم ( 9950) .
س 3 : هل يجوز للمرأة أن تسافر لوحدها في الطائرة بدون محرم ؟
ج3- لا تسافر المرأة إلا مع محرم لها أو زوج ، سوء طالت المسافة أو قصرت .
وبالله التوفيق ، وصلى الله علي نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
عضو نائب الرئيس ، الرئيس
عبد بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الأول من الفتوى رقم (9355)
س 1 : هل يجوز سفر الزوجة بمفردها بالطائرة لمدة ثلاث ساعات بدون محرم ؟ مع العلم بأن الزوج يعمل ببلد لا يوجد به طبيبات من النساء للولادة ، والغرض الرئيسي من السفر هو الوضع على يد طبيبات من النساء في بلد أهل الزوجة .
ج1 : في مثل هذه الحالة يسافر معها زوجها أو أحد محارمها .
وبالله التوفيق ، وصلى الله علي نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
عضو نائب الرئيس ، الرئيس
عبد بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبدالله بن باز
الفتوى رقم (11702)(4/301)
س : أرجو أن تبينوا لي حكم سفر امرأتي بالطائرة من الظهران إلى الطائف وهي برفقة أختها المتزوجة من أخي ، ومعهم أخي وأبناؤها الصغار ، مع العلم أنه ليس باستطاعتي السفر معها لإيصالها والعودة ، حيث إن مادياتي لا تسمح لي بذلك ، وسوف يكون في استقبالهم في الطائف والدهم ووالدتهم – مدة السفر ساعتان - .
ج – لا يجوز سفر المرأة في الطائرة ولا في غيرها إلا مع محرم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم )) متفق على صحته ، وزوج أختها لا يعتبر محرماً لها ، وكذلك أختا ليست محرماً لها . وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو عضو عضو الرئيس
بكر أبو زيد عبد العزيز آل الشيخ صالح الفوازان عبد الله غديان عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الفتوى رقم ( 2642)
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من عميد شؤون الطلاب بجامعة الرياض ، عن طريق الدكتور محيي الدين خليل ، رئيس قسم الثقافة الإسلامية ، إلى سماحة الرئيس العام ، والمحال إلى اللجنة برقم (2554/ 2/د ) وتاريخ 7/8/99 هـ ، ونصه :
إن طالبات الجامعة من خارج مدينة الرياض ، يقمن بوحدة أم المؤمنين السكنية ، وتسافر الطالبات إلى بلادهن في الإجازات الرسمية أو في نهاية الأسبوع ، وغالبيتهن يتوجهن إلى جدة أو الظهران بالطائرة ، وتشترط العمادة أن يرافق كل طالبة محرم ، ولكن هذا لا يتيسر لجميعهن وفي كل الأحوال ، وقد تكون الطالبة راغبة في السفر تحت ظروف اضطرارية ، ويشكو البعض من هذا الإجراء ، ويرون أن الشرع في مثل حالتنا هذه يبيح السفر بدون محرم ، إذ أنه لا يتجاوز ساعات محدودة ، مستندين إلى : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرمة منها )) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم " وعن أبي هريرة أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (( لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة غلا ومعها رجل ذو محرم منها )) .
لذا نأمل إفادتنا عما إذا كان يجوز شرعاً السماح للطالبة بالسفر إلى جدة أو الظهران بالطائرة دون محرم .
إن الشريعة الإسلامية مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد ، ومن مقاصدها الضرورية المحافظة على الأنساب والأعراض ، وقد ثبت في الكتاب والسنة ما يدل دلالة واضحة على سد الذرائع التي تفضي على اختلاط الأنساب ، وانتهاك الأعراض ؛ كتحريم خلوة المرأة بأجنبي ، وتحريم إبدائها زينتها لغير زوجها ومحارمها ، ومن في حكمهم ممن ذكرهم الله تعالى في سورة النور ، كالأمر بغض البصر ، وتحريم النظرة الخائنة ، ومن الذرائع القريبة التي قد تفضي إلى الفاحشة ، واختلاط الأنساب ، وهتك الأعراض – سفر المرأة دون من فيه صيانة لها في اعتبار الشرع ، من زوجها أو أحد محارمها ، فكان حراماً ؛ لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم)) [5] رواه أحمد والبخاري ومسلم ، ولما ثبت عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تسافر المرأة بريداً إلا ومعها محرم يحرم عليها )) [6] رواه أبو داود والحاكم .
ولما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخطب : (( لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم )) فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجّة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال : (( انطلق فحج مع امرأتك )) روه أحمد والبخاري ومسلم .
وورد في بعض الروايات التقييد بيوم ، وفي بعضها التقييد بليلة ، وفي بعضها التقييد بثلاث أميال ، وفي بعضها بيومين ، والتحديد بذلك ليس بمراد ، وإنما هو تعبير عن أمر واقع ، فلا يعمل بمفهومه ، ثم هو مفهوم عدد معارض بمنطوق حديث ابن عباس رضي الله عنهما وما في معناه ، فلا يعتبر ، وإنما يعتبر ما ثبت من الإطلاق في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو واضح في أن المرأة منهية عن كل ما يسمى سفراً إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها ، سواء كان قليلاً أم كثيراً ، وسواء كانت شابة أم عجوزاً ، وسوء كان السفر براً أو بحراً أو جواً ، ومن خالف في ذلك فخص النهي بالشابة أو قيده بما ذكر من التحديد في بعض الأحاديث أو بما إذا كانت الطريق غير مأمونة أو اكتفى بالرفقة الثقاة المأمونة ، فقوله مردود بعموم حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنه منطوق فيقدم على مفهوم العدد في الأحاديث الأخرى .
وعلى هذا يكون سفر النساء بالطائرات بلا زوج أو محرم منهياً عنه ، سوء كن طالبات أو غير طالبات ، لكونه سفراً فيصدق عليه عموم النهي في الحديث .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .(4/302)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
عضو عضو نائب الرئيس الرئيس
عبد الله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن بازٍ
الفتوى رقم ( 3063 )
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
وأما القول الثاني :
فقد أجار بعض أهل العلم سفر المرأة بلا محرم إذا كانت الوسيلة مأمونة كالطائرة ، أو مع عدد من النساء الثقات .
ومن العلماء الذين أفتوا بجواز سفر المرأة بالطائرة بلا محرم فضيلة العلامة عبد الله بن جبرين – حفظه الله – وهذا نصُّ سؤال وُجِّهَ لفضيلته وجوابه عنه .
السؤال : س 46
ما حكم سفر المرأة وحدها في الطائرة لعذر بحيث يوصلها المحرم إلى المطار ويستقبلها محرم في المطار الآخر ؟
الجواب : لا بأس عند المشقة على المحرم كالزوج أو الأب إذا اضطرت المرأة إلى السفر ولم يتيسر للمحرم صحبتها فلا مانع من ذلك بشرط أن يوصلها المحرم الأول إلى المطار فلا يفارقها حتى تركب في الطائرة ويتصل بالبلاد التي توجهت إليها ويتأكد من محارمها هناك أنهم سوف يستقبلونها في المطار ويخبرهم بالوقت الذي تَقْدُمُ فيه ورقم الرحلة ، وذلك لعدم الخلوة المنهي عنها ولعدم المحذور من سفرها وحدها الذي تكون عرضة للضياع أو لاعتراض أهل الفساد ، وأيضاً فالمدة قليلة إنما هي ساعة أو بضع ساعات ، وهذه المدة قد لا تسمى سفراً أصلاً ؛ لأن السفر هو الذي يسفر عن أخلاق الرجال ، فلا ينطبق على المدة القصيرة ولأن الضرورات لها أحكامها ، والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الراجح من القولين :
ولا ريب أن القول بتحريم سفر المرأة بلا محرم ، وإن كانت وسيلة السفر جماعية أو سريعة كالطائرات والقطارات والحافلات هو الصواب الذي تسانده الأدلة ، وتبرأ به الذمة ، وتتحقق به السلامة .
وأما ما ذهب إليه بعض أهل العلم من إباحة السفر بلا محرم فهو خلاف الأدلة الصريحة ، والحجج الظاهرة ، ويترتب عليه مفاسد محققة ، سيما في هذا الزمن الذي كثر فيه الفساق وانخرقت فيه الأخلاق !
ولا تخلو وسيلة نقل جماعية من شباب ورجال ، يتربصون بالنساء شراً ، ويسعون جاهدين للإيقاع بهن عبر النظرات والابتسامات والتحرشات ومن ركب الطائرات واستقل القطارات والحافلات رأى وسمع ما يندى له الجبين حياء من تهتك النساء وتميع الشباب وتخنث الرجال في المطارات والمحطات ووسائل النقل العصرية !!
وأي مصلحة في إباحة سفر المرأة بلا محرم إذا تعرضت لمخاطر جسيمة ، وعواقب وخيمة في نفسها وعرضها وشرفها وسمعتها ؟!
مفاسدُ سفر المرأة بلا محرم :
لا ريب أنّ خروج المرأة من بيتها بحدّ ذاته ولداخل بلدها فيه من المحاذير الشيء الكثير ولذا أمر الله تعالى المؤمنات بالقرار داخل البيوت وعدم الخروج لغير حاجة فقال تعالى : (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى )) (سورة الأحزاب) .
فكيف إذا كان خروجها سفراً قاصداً ، وبلداً بعيداً ؟ فلا شك أنّ الأمر يشتد خطورة ، ويزداد حرجاً ، سيما مع عدم مرافقة المحرم !
وقد أثبتت الأيام ، وبرهنت الأحداث على عظم المفاسد المترتبة على سفر النساء بلا محارم ، سيما في هذه الأزمان المتأخرة ، حيث كثرت الفتن ، وعمّت المحن ، ومهما كانت وسيلة السفر فمن تلك المفاسد :
1- تعرض المرأة للابتزاز من قبل ضعاف الإيمان ، وسفهاء الأحلام ، وفساق الآفاق !
فالمرأة متى رؤيت وحيدة شجعت هؤلاء على النيل من كرامتها بعبارة نابية أو كلمة فاحشة أو مراودة صارخة ، وهذا أمر لا ينكره أحد .
2- افتتان الرجال بالمرأة المنفردة سفراً بلا محرم مهما كانوا على دين وخلق إذ ربّما زيّن لهم الشيطان إسداء خدمة للمرأة المسافرة ، أو النظر إليها خلسة لأمنهم من غيرة المحرم أو ظنهم السوء بالمرأة لجرأتها على السفر بلا محرم .
3- تعطيل عشرات الأدلة الشرعية القاضية بلزوم المحرم بالسفر ، وتفريغها من مقاصدها السامية ، وأهدافها النبيلة ، فضلاً عن إذكاء العداوات بين النساء ومحارمهن حين يُهّمش دور المحرم ، ويُجرّد عن وظيفته الشرعية .
هذا والله الموفق ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه .
----------------------------------------
[1] - مسلم (2391) .وأصله في البخاري ( 1863) .
[2] - قال الزرقاني في شرحه على الموطأ (2/533) : ( الصرورة من النساء التي لم تحج قط ) تفسير للصرورة لصرها النفقة وإمساكها ، ويُسمّى من لم يتزوج صرورة أيضاً لأنّه صرّ الماء في ظهره وتبتل على مذهب الرهبانية .
[3] - تنبيه : رواية الترمذي في سندها : إبراهيم بن يزيد الخُوزي ، أبو إسماعيل المكي وهو متروك الحديث وقال الترمذي عن هذا الحديث : لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد وقد تكلم بعض أهل العلم في إبراهيم من قبل حفظه ينظر سنن الترمذي مع التحفة ( 8/348) .
2- وأما رواية أحمد فهي عن الحسن البصري مرسلة ، ومراسيل الحسن من أضعف المراسيل : ينظر :
[4] - دروس وقتاوى الحرم المكي ، للشيخ ابن عثيمين 3/225.(4/303)
[5]- أحمد 2/ 13 ، 19، 142، - 143، 143، والبخاري 2/35 ، ومسلم 2/975، برقم ( 1338) ، وأبو داود 2/348 برقم ( 1727) ، وابن أبي شيبة 4/5 وابن خزيمة 4/133 برقم (2521) والطحاوي في ( شرح المعاني ) 2/113، وابن حبان 6/434، 440، 441برقم ( 2720، 2729، 2730) ، والبيهقي 3//138، 5/227، كلهم من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
[6] - أبو داود 2/347 برقم ( 1724) ، والحاكم 1/442 ، وابن حبان 6/ 439برقم ( 2727) ، وابن خزيمة 4/136برقم ( 2526) ، والبيهقي 3/139.
================
لكم الله أيها المجاهدون!(1)
للمجاهدين في سبيل الله منزلة رفيعة في القرآن والسنة، والسيرة النبوية الشريفة... ولدى المؤمنين الصادقين، لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله، قاصدين رفع راية الإسلام في الأرض، والدفاع عن ضرورات الحياة: وهي الدين والنفس والنسل والعرض والعقل والمال، وعن أرض المسلمين التي هي دار الإسلام ومأواه.
المجاهدون الذين يهجرون الأهل والمال والمسكن... ويخاطرون بأنفسهم، في ساحات الوغى، ويرابطون في ثغور دولتهم، متعرضين لشدائد المرابطة التي لا راحة فيها للأبدان، يسهرون والناس نائمون، ويخافون والناس آمنون، يشوي جلودهم حر الصيف وقيظه، ويقطع أجسادهم برد الشتاء وزمهريره...
3 تشييع الغزاة عند خروجهم للجهاد في سبيل الله:
فقد كان من تكريم المجاهدين في سبيل الله، أن حض صلى الله عليه وسلم على توديعهم عند خروجهم ورغب فيه.
ففي ترتيب المسند: (باب تشييع الغازي، واستقباله، ووصية الإمام له) عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(لأن أشيع مجاهداً في سبيل الله، فأكفه [قال في الحاشية: (بكسر الكاف أي أخدمه وأعينه في حوائجه)] على راحلة غدوة أو روحة أحب إلي من الدنيا وما فيها)
[ الحديث رواه أحمد ز انظر ترتيب مسند الإمام أحمد، المسمّى (بالفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني) لأحمد عبد الرحمن البنا والد الإمام حسن البنا (الساعاتي (14/51) وقال في الحاشية: (تخريجه: جه، ك، وفي إسناده ابن لهيعة وشيخه زبان بن فايد، وكلاهما فيه كلام. ورواه ابن ماجه وغيره ].
والغرض من ذلك تشجيعهم بذكر فضل الجهاد والمجاهدين وإظهار إكرامهم لحفز هممهم وهمم المقيمين على الاستعداد لقتال العدو عاجلاً أم آجلاً [انظر سيرة ابن هشام (4/8،9) وكذلك زاد المعاد (2/173)].
وطبق ذلك خلفائه من بعده:
كما في الموطأ عن مالك عن يحيى بن سعيد أنّ أبا بكر الصديق بعث جيوشاً إلى الشام، فخرج يمشي مع زيد بن أبي سفيان، وكان أمير ربع في تلك الأرباع، فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: (ما أنت بنازل وما أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله …) [الموطأ (2/448) رقم 10].
استقبال المجاهدين والترحيب بهم
وكان المجاهدون كذلك ينالون التكريم عند رجوعهم... فيستقبلون استقبالا حافلا، وترحيبا حارا.
وهو حق من حق المجاهدين في سبيل الله على من بقي من المسلمين في البلد، أن يستقبلوهم ويرحبوا بهم، ويشعروهم بالاحترام والتقدير، لما نالوه من مشقة في سبيل الله تعالى وما واجهوا من التعب والمشقة في الحروب، من الجوع والعطش ومفارقة المضاجع والظلال.
ولكونهم أدوا الفرض وأسقطوه عن غيرهم، وهكذا كان السلف يعملون وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بوب لذلك البخاري رحمه الله فقال: "باب استقبال الغزاة" وأورد فيه حديثين: أحدهما حديث السائب بن زيد رضي الله عنه، قال: (ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع) [صحيح البخاري رقم: 3083، فتح الباري (6/191)].
وبينت رواية الترمذي لنفس الحديث أن ذلك كان عند قدومه من غزوة تبوك، وفيه توضيح أكثر للمتلقين (الناس) وهو يدل على كثرتهم وهذا نصه: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع، قال السائب: فخرجت مع الناس وأنا غلام) [الترمذي رقم الحديث: 2772، تحفة الأحوذي (5/281)].
وقال ابن القيم رحمه الله: فلمادنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء والصبيان والولدان يقلن:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وبعض الرواة يَهِمُ في هذا، ويقول: إنما كان عند مقدمه المدينة من مكة، وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام... [زاد المعاد (3/12)].
هكذا كان السلف الصالح يعاملون المجاهدين في سبيل الله، يودعونهم عند سفرهم داعين لهم بالنصر والشهادة، ويكرمونهم عند قدومهم بالاستقبال والترحيب، لأن المقياس عندهم هو سبيل الله.(4/304)
وكانوا إذا فرت طائفة من الجيش الإسلامي وتركته ورجعت إلى المدينة، بسبب ما رأت تلك الطائفة من كثرة العدو وغلبة ضعفها البشري عن التحمل والثبات، كانوا يستقبلون تلك الطائفة بالتأنيب ويَحثُون التراب عليهم، ويعيرونهم بقولهم لهم: يا فُرَّار فررتم في سبيل الله [السيرة النبوية لابن هشام (2/18) والبداية والنهاية لابن كثير (4/248)].
فهل بقي هذا المقياس للتكريم أو التأنيب عند المسلمين؟
لقد انعكست الأمور وانقلبت الموازين واختلت المقاييس وأصبح الخونة الجبناء الذين يبيعون الدين والأرض والشعوب للأعداء الكافرين، هم موضع التكريم وإذا خضع أحدهم لعدو المسلمين فركع له واستسلم وتآمر على شعبه ودينه وأرضه، ثم رجع إلي ذلك الشعب، رأيت غوغاء الناس وهم يركضون لاستقبال الزعيم والتصفيق له كأنهم قطعان من الحيوان، يهتفون بحياته ويثنون على خطواته، ويلقبونه بألقاب الفاتحين الأبطال، وقليل هم الذين يدركون الخيانة ويعرفون الخونة، فتراهم ينظرون إلى تلك الجموع الضائعة متعجبين مشفقين، يدعون لها بالهداية والإنابة إلى الله.
وهؤلاء القليل مغلبون على أمرهم لا حول لهم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، محاصرون من كل جانب لا يملكون أن يوصلوا إلى تلك الجموع الضائعة الخاسرة كلمة الحق عن طريق أقل وسيلة للإعلام، وإذا تجرءوا فقالوا كلمة حق بأي وسيلة اتهموا بالشذوذ والتآمر على مصالح الشعب والخروج عن الصف، وقيل فيهم ما قال أعداء الله من قبل في ذوي الصلاح والهدى والدعوة إلى الله بأنهم خارجون على النظام مفسدون، يريدون القضاء على مكاسب الشعب التي حققها له القادة الأبطال: {قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبان بطريقتكم المُثْلى} [طه:63].
وبمقدار ما تُسلط أجهزة الإعلام على أولئك الصالحين لتصفهم بكل أوصاف الذم حتى يظهروا أمام الجموع الضائعة بمظهر الشذاذ المفسدين الذين يجب نبذهم وعدم الإصغاء إلى آرائهم، بمقدار ذلك أو أكثر تكيل تلك الأجهزة المديح والثناء للأبطال المتآمرين حتى يصبحوا هم الملائكة الأبرار، الذين لا يريدون إلا الحق ولا يسلكون إلا سبيل الهداية والرشد، فيرتسم في أذهان الغوغاء أن هؤلاء الضالين المفسدين هم الهداة المهتدون، وأن أولئك المجاهدين الأبرار، هم أهل الغواية والضلال.
وقد سبق هؤلاء الذين يقلبون الحقائق، فيظهرون الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، سبقهم إخوانهم الذين سجل التاريخ عليهم كل تصرفاتهم، فلحقتهم لعائن الله في الأرض وتنتظرهم نقمته في الآخرة.
{وقال فرعون ذروني أقتلْ موسى ولْيَدْعُ ربَّه، إني أخاف أن يبدِّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} [غافر: 26].
قال فرعون {ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرَّشاد} [غافر: 29]
ومن العجائب المحزنة أن نرى الاحتفاء والتكريم لرفسة كرة قدم ناجحة في ملعب تحضره الآلاف المؤلفة من المشجعين الذين تطرب قلوبهم فرحا، وترقص أبدانهم تعبيرا عن الرضا، رافعين أعلام النصر الكروي... ثم تراهم بعد ذلك يملئون شوارع المدن وميادينها، مزعجين الناس بأبواق السيارات، وصياح الحناجر، وتصفيق الأيدي.. احتفاء بتلك الرفسة المنصورة!
ويتبع ذلك تكريم اللاعبين على أعلى المستويات في الدول العربية، وكأنهم قد أهدوا إلى أمتهم مفتاح بيت المقدس والمسجد الأقصى بعد انتصارهم على اليهود المحتلين!
وجميعهم المكرِمُون والمكرَمون يشاهدون دماء المظلومين المسفوحة، وديارهم المهدمة، وشبابهم المعصوب العينين الذي تركله أقدام اليهود، والنساء المستغيثات السائلات: (وينكم يا عرب؟)
وفي نفس الوقت... ترى أجهزة الأمن في بعض البلدان العربية تطارد المطالبين بمناصرة المظلومين في الأرض المباركة على عدوهم اليهودي المعتدي... تطاردهم أجهزة الأمن أمام المساجد في أيام الجمع، وفي حرم الجامعات... يطاردونهم بالهراوات... والغاز المسيل للدموع... وخراطيم المياه الساخنة... بل وبضباط الكلاب البوليسية ذات الرتب العليا التي تنهش لحوم الغيورين ... يضربون مشايخ العلم ورجال الفكر وزعماء الأحزاب ويهينون كرامتهم، لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر... يطلبون نصر المظلوم وردع المعتدي...!
وتختار أجهزة الأمن تلك من تحترمهم الشعوب، ويستجيبون لندائهم، فيستضيفونهم إلى المعتقلات والسجون، ويسلطون عليهم من دربوهم على التحقيق الظالم الذي تهان فيه كرامات الرجال، ويحقر فيه عظماء الأمة...
وهكذا تجد التكريم والتعظيم للراقصات والمغنيات والممثلات اللاتي تتألق أسماؤهن وأشباههن من الرجال، ويلقبون بالألقاب الرفيعة: النجوم، الرواد العظماء، المبتكرون... وتفتح لهم أبواب الظهور، حتى يصبحوا أئمة الشعوب وقادتها في تحطيم الأخلاق والمعنويات والقضاء على الرجولة الشرف، وهكذا.
والسبب في ذلك أن المقياس عند عامة الناس انقلب من سبيل الله إلى سبيل الشيطان، فكان السلف يكرم أهل سبيل الله لأنه المقياس عندهم، وأصبح المنتسبون إلى الإسلام الآن يكرمون أهل سبيل الشيطان لأنه المقياس عندهم!
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل(4/305)
لكم الله أيها المجاهدون!(2)
الحلقة الأولى
لقد قام المجاهدون في أفغانستان بفريضة الجهاد في سبيل الله، تلبية لأمر الله تعالى به، ومناصرة لإخوانهم الأفغان الذين اعتدى عليهم الملحدون في الاتحاد السوفييتي، وأثبتوا للعالم أن الفئة المؤمنة قادرة على دفع العدو عن بيضة المسلمين ودينهم ونفوسهم ونسلهم وعرضهم وعقولهم وأموالهم... مهما كانت كثرة هذا العدو، ومهما عظمت عدته.
لأن الفئة المؤمنة المجاهدة تتفوق على عدوها بقوة الإيمان بالله والتوكل عليه والثقة في نصره، وتنفذ أمر الله لها بالصبر والمصابرة، وتعلم أنها لا تخسر المعركة على أي حال، فهي فائزة بإحدى الحسنيين: بالنصر أو الشهادة، وتعلم أن الجهاد في سبيل الله لرفع رايته في الأرض، هو سنة أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين الذين لا تطيب نفس المؤمن إلا بالوقوف في صفهم... والسير في قافلتهم الممتدة على مدى الأمكنة الأزمان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها:
((ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)) [النساء69]
وقد اهتبل أعداء الله الصليبيون –وعلى رأسهم الدولة الأمريكية - تلك العاطفة الجياشة في نفوس شباب الأمة، وشجاعتهم النادرة، وحبهم للشهادة والموت في سبيل الله أشد من حب أعدائهم للحياة، ففتحوا لهم كوة صغيرة يلجون منها، لدحر المد الشيوعي الذي أخافهم وهدد مصالحهم في المحيط الهندي، وبحر العرب، وخليج النفط العربي، وهدد مصالحهم في المنطقة كلها... وبخاصة استقرار الدولة اليهودية الصهيونية... وسيطرتها على الأمة الإسلامية.
اغتنمت أمريكا تلك الفرصة، ودفعت –كعادتها-دول المنطقة لتأييد رجال الجهاد من الأفغان ومن جميع الشعوب الإسلامية، فأمدوهم بالمال والسلاح، والإغاثة الغذائية والطبية، والتعليمية، ويسروا للمجاهدين من خارج أفغانستان سبل الوصول إلى أفغانستان، وبخاصة المواصلات...
واستنفروا علماء الإسلام ليحثوا الشباب على الجهاد في سبيل الله... وصدرت الفتاوى حينئذ بأن الجهاد فرض عين على كل مسلم قادر، فتنادى المسلمون علماء وعامة، شبانا وشيبا...رجالا ونساء، بل ومراهقين: حي على الجهاد...
وهيئت لهم وسائل الإعداد والتدريب... وانطلقوا في الجبال والوهاد بعزم هو أقوى من صواريخ الأعداء، يتحدون قوة لا قبل لهم بها لولا تثبيت الله لهم بقوة إيمانهم وعلمهم أنهم على حق، وأن عدوهم على الباطل...
وكانت معسكراتهم تذكر بجيوش الفتوحات الإسلامية في القرن الإسلامي الأول: قرآن تُؤَبِّ مع تاليه جبال الأرض وتتجاوب معه كواكب الفضاء... وذكر دائم يرتفع إلى السماء....وتهجد يقوي العزائم و يثبت القلوب عند اللقاء... وتدريب متواصل تتبعه في ميادين القتال مقارعة الأعداء....ونال الشهادة من المجاهدين من اصطفاهم فاتخذهم شهداء...
ونصر سبحانه وتعالى عباده المؤمنين على أعدائهم المعتدين نصرا عظيما، وأذاقهم بعد ظاهر العز ذلا جسيما، فخرجوا يجرون أذيال الهزيمة جرا... وأعقبهم بعد القوة والغنى ضعفا وفقرا.
ومزقهم الله بعد الاتحاد تمزيقا، وفرق دولتهم التي طغت وتجبرت تفريقا، ولم تزل تتجرع كأس الغرور والعدوان، وتكتوي من نفخ كيرها المحرق لهيب النيران، وتستنشق من دخانه الأسود ما أصابها بأخبث أورام السرطان.
وفتح أعداء الإسلام جبهات أخرى للقضاء على المسلمين، في البوسنة والهرسك، وفي الشيشان، وفي كوسوفا... فهب شباب الجهاد مرة أخرى لنصرة إخوانهم في تلك البلدان، وأبلوا بلاء حسنا، وبدا واضحا لأعدائهم أن لهم شأنا في الوقوف ضد ظلم المسلمين في كل مكان.
وعندما رجع كثير من المجاهدين إلى بلدانهم، استقبلتهم أجهزة أمنها استقبال المجرمين، وحاصروهم حصار الأجانب المعتدين، وأغلظوا عليهم في التحقيق والتعذيب، وعاملوهم بإهانات التي لم يكونوا يظنون أن إخوانا لهم في أوطانهم قد سقطوا في حمأتها.
كما انقضت عليهم وسائل الإعلام انقضاض الوحوش على طرائدها، فأطلقت عليهم من الألقاب المنفرة الظالمة ما شاءت، مثل "الأصوليين، المتشددين، الإرهابيين"
كان ذلك جزاءهم، بدلا من الترحيب بهم، وتهنئتهم بالنصر، وتعزيتهم في زملائهم الذين لقوا ربهم، وإشعارهم بالمحبة والعطف، ووضعهم في مكانهم اللائق بهم، في المواقع العسكرية، والاستفادة من خبراتهم، وإعدادهم لليوم المحتوم مع العدو اليهودي الذي لا يصلح لمواجهته إلا أمثالهم.
ومن حَسُنَ حظُّه منهم فأطلق سراحه من زنازين الاعتقال وغياهب السجون، لقي سوء حظه في إخافته بالمراقبة الدائمة، والاستدعاء المتواصل إلى الجلادين الذين ورَّثت تحقيقاتهم الظالمة لكثير منهم أمراضا نفسية وحالات مزعجة من الإحباط، ولم يقتصر الأذى على المجاهدين، بل نال أسرهم من الأذى المعنوي الشيء الكثير.(4/306)
وتواطأ غالب حكومات الشعوب الإسلامية، على التضييق على أولئك المجاهدين ومطاردتهم في كل مكان ولم يجدوا لهم مأوى يلجئون إليه ويعيشون فيه، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وشعروا أن وراء تلك المعاملة حملة أمريكية غربية ظالمة، فأثار ذلك حفيظتهم، ولم يحتملوا الضيم المسلط عليهم.
فانطلق بعضهم – ممن لم يطيقوا الصبر على تلك الحملات ضدهم - يشفون غيظ صدورهم من الإدارة الأمريكية بالتفجيرات لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في داخل البلاد وخارجها
ولجأ بعضهم إلى أفغانستان البلد الذي لم يجدوا لهم مأوى في الأرض غيره، وتطورت الأمور حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من حادث الحادي عشر من سبتمبر 2001م الذي لم تظهر أسراره الحقيقية إلى يومنا هذا.
وهنا سنحت الفرصة للإدارة الأمريكية الصليبية، والشرذمة اليهودية الصهيونية، لتنفيذ مخططاتهم القديمة لضرب الإسلام في كل مكان، والقضاء على أي قوة قد يملكها المسلمون يستطيعون بها الدفاع عن أنفسهم من العدوان على بلدانهم... وحشدت أمريكا حلفاءها في الغرب والشرق، وأعلنت الحرب على ما سمته بالإرهاب في كل أقطار الأرض، وأن من لم يكن معها فهو عليها يعني أنه إرهابي أو متعاون مع الإرهاب...
وبدأت بأضعف دولة إسلامية وأفقرها وأشدها بؤسا، وهي الإمارة الإسلامية في أفغانستان، التي قالت – رغم ضعفها – لأمريكا: "لا" وأصرت على تطبيق الإسلام – بحسب فهمها له – وتعاون مع أمريكا طلاب الدولارات والمناصب الممنوحة بالقوة العسكرية...
وأمطرت أمريكا الشعب المسكين بوابل الرصاص والصواريخ والقنابل الحديثة وجميع الأسلحة الفتاكة ذات الدمار الشامل -التي هي من أهم أهداف حربها- من الجو والبر والبحر، دون أن يواجهوا المجاهدين على الأرض، واستطاعوا أن يأسروا عددا منهم عن طريق من باعوا أنفسهم وبلدهم وكرامتهم للدولة المستعمرة الجديدة.
فتنة وخذلان:
وقد رأى العالم كله تلك المناظر البشعة التي ظهر عليها الأسرى في معتقلات "غوانتنامو الكوبية" حيث حرم طغاة الصليب الأسرى المسلمين من النعم الضرورية منحهم الله إياها: نعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة التنفس... سدوا آذانهم، وغطوا أبصارهم، وكمموا أفواههم وأنوفهم، إضافة إلى تكبيلهم بالقيود والأغلال الثقيلة للأيدي والأرجل.
ومع تلك الحال ترى الواحد من الأسرى إذا أريد نقله من مكان إلى آخر يحيط به أربعة من الجنود المدججين بالسلاح، من الأمام ومن الخلف، وعن اليمين واليسار، أليس فعلهم هذا يدل على الرعب الذي أنزله الله في قلوبهم من رجال الجهاد؟
هذا ما أذن طغاة الظلم بإظهاره أمام العالم، فما الذي يعاملون به أولئك الأسرى في الخفاء؟!
فأين منظمات حقوق الإنسان؟
لقد رفع بعض الناس أفرادا وجماعات أصواتهم متسائلين عن مواقف منظمات حقوق الإنسان من هذا العمل المشين؟ فظهرت نداءات من هنا ومن هناك فترة قصيرة ثم اختفت أصوات حقوق الإنسان في الوقت الذي يعبث الأمريكان فيه بكل حق من حقوق الإنسان!
وإنا لنعلم علم اليقين أن منظمات الرفق بالحيوان، لو رأت من يؤذي قردا من القرود، أو كلبا من الكلاب، في أي بلد من البلدان، بأقل من إيذاء الإنسان المسلم في "غوانتنامو" لأقامت الدنيا ولم تقعدها حتى يعتذر من آذى القرد أو الكلب!
وأين الدول التي لها أسرى في "غوانتنامو"؟
لقد احتجت أستراليا وبريطانيا على أمريكا في أخذ عدد قليل من رعاياها إلى ذلك المعتقل الظالم وطالبتا بتسليمهم إليهما ليحاكموهم في بلدانهم...
أما حكومات الشعوب الإسلامية فيبدو أن غالبها قد سرها ما حصل لأبنائها من ظلم وإهانات أمام الملأ، وارتاحت نفوسهم وبردت قلوبهم أن يأتي ظلم أولئك من قبل غيرهم، ولهذا لم نسمع نداء استنكار من دول أولئك الرعايا، لما تزاوله الدولة الصليبية الظالمة من فتنة وأذى لا تقره أديان ولا قوانين.
ولو أن شخصا واحدا من أي دولة من دول الغرب، أو من الدولة اليهودية المحتلة، فجر بعض قصور الملوك والرؤساء في أي بلد إسلامي، اعتقل في تلك الدولة مجرد اعتقال، لسلطت على الدولة التي اعتقلته جميع وسائل الإعلام الغربية تدعو إلى الرفق بالمعتقل... ولرأينا الوفود السياسية والدبلوماسية، والاستخباراتية، والطبية ولإعلامية، والمنظمات الإنسانية، تبحث عن المعتقل، وتلح على مقابلته ومعرفة حالته... وتطالب بالرفق به، لأنه مواطن غال عند دولته والدول الحليفة لدولته..
بل إن دول الغرب كلها تقف صفا واحدا ضد أي دولة تعلن تطبيق الحكم الشرعي الإسلامي على أي مجرم من الغربيين، وتتهم الدولة التي تعلن ذلك بالعنصرية والرجعية وتتهم الإسلام بالوحشية.
فهل دم المجرم الغربي أغلى من دم المسلم الذي يحرم من حقوق الأسرى بل يحرم من حقوق المجرمين التي أقرتها لهم الأديان السماوية والقوانين الدولية، كما يحصل من الدولة الصليبية التي تدعي أنها راعية حقوق الإنسان؟
وهل الدول النصرانية واليهودية أولى برعاية حقوق رعاياها من حكومات الشعوب الإسلامية؟(4/307)
ولقد شغلتنا الهجمة اليهودية الشرسة الأخيرة عما يعانيه إخواننا الأسرى في "غوانتنامو" ولم تعد وسائل الإعلام تذكر عنهم شيئا، ولا ندري ما ذا يجري لهم من أذى وتعذيب وإهانات، من أجهزة التحقيق الصليبية في تلك البقعة المعزولة....
وما ذا عسى أن نفعل لهم سوى الدعاء أن يفرج الله كربهم، وينزل بأسه بمن يتولى كبر ظلمهم وعقابهم، بدون محاكمات عادلة؟
ليس عندنا ما نفعله لهم إلا أن نقول: لكم الله أيها المجاهدون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
لكم الله أيها المجاهدون!(3)
الحلقة الثانية
تضمنت الحلقة الأولى من هذه السلسلة منزلة المجاهدين عند الله، وعند سلفنا الصالح، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما آل إليه الأمر لدى المسلمين في العصور المتأخرة، وبخاصة في هذا العصر الذي انقلبت فيه الموازين، وانعكست القيم.
وتضمنت الحلقة الثانية ما ناله المجاهدون من شباب الأمة الإسلامية في هذا العصر، من رفع راية الإسلام وإعادة الروح الجهادية إلى المسلمين، وكيف هزم رجال الجهاد ثاني قوتين عظميين في العالم، وهي دولة الاتحاد السوفييتي، التي خرج جيشها يجر أذيال الهزيمة، وما أعقب ذلك من تمزيق الله وحدة تلك الدولة وما نزل بها من ضعف وهوان.
وكيف عاملت الدولة الصليبية أولئك المجاهدين الذين استفادت من جهادهم القضاء على قوة عدوها اللدود "الاتحاد السوفييتي" ثم قلبت لهم ظهر المجن، وحشدت لحربهم دول العالم بما فيه دولهم، لمحاربتهم واعتقالهم، ومحاكماتهم محاكمات عسكرية ظالمة... فنالوا على جهادهم ما ناله سنمار، الذي رثى له الشاعر في قوله:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ،،،،،،،،،،،،، وحسن فعل كما يجزى سنمار
وتتضمن هذه الحلقة موقف حكومات الشعوب الإسلامية، والسلطة الفلسطينية، من شباب الحركة الجهادية في الأرض المباركة "فلسطين" الذين نذروا أنفسهم لدفع العدو اليهودي الذي احتل أرضهم، ودنس مقدساتهم ومقدسات الأمة الإسلامية، وعلى رأسها المسجد الأقصى الذي أحرقه اليهود سنة 1969م ومنعوا -ولا زالوا يمنعون- كثيرا من أهله من الصلاة فيه، ويقومون بالحفر تحته بحجة البحث عن هيكلهم المزعوم، وهدفهم من ذلك هدمه بطريقة خداع وخبث.
وشردوا أهلها من مدنهم وقراهم وبلادهم، وعاملوا من بقي منهم معاملة تتنزه عنها وحوش الغاب، واستمروا على ذلك خمسين عاما يعيش فيها أهل البلاد الأصليين عيشة ذل وهوان، وزعماء الشعوب الإسلامية ومنها الزعماء العرب يتفرجون على حالهم تفرج من لا يعبأ بشيء.
وظن اليهود والدول الصليبية المعاصرة التي غرست الدولة اليهودية في قلب العالم الإسلامي، كما ظن كثير من زعماء العرب والمسلمين، أن أبناء فلسطين قد استسلموا للأمر الواقع، وخنعوا للدولة اليهودية المحتلة، وبخاصة الجيل الذي ولد وترعرع في ظل الغطرسة اليهودية الظالمة، ولا سيما بعد هزيمة 1967م التي سيطر فيها اليهود على كافة الأرض الفلسطينية من البحر إلى النهر، بل وسيطرت على أراض أخرى من أراضي الدول المجاورة.
ولكن ظن الجميع خاب، عندما خرج صبية صغار من أبناء الأرض المباركة، في عام 1987م يحملون سلاحين عظيمين:
السلاح الأول: سلاح الإيمان والاعتزاز بالله والتوكل عليه، وخوفه وحده دون سواه، وتفقهه في مضامين سور الجهاد في سبيل الله، كآل عمران، و الأنفال والتوبة، والأحزاب، والحشر.. وذلك أقوى سلاح وأمضاه.
السلاح الثاني: هو الحجر الذي تحول في أيديهم من مادة جامدة، إلى صواعق ارتعدت لها فرائص العدو المدجج بتلك الأسلحة الفتاكة، الذي لم يكن يدور بخاطره أن يخيفه طفل بحجر، وهو لم يكن يعبأ بجيوش 22 دولة عربية ما يقارب خمسين سنة.
فكان ذلك أمرا عجبا أذهل اليهود والدول الصليبية التي تمدهم بالمال والسلاح والسياسة والاقتصاد والدبلوماسية، وتهدد من يفكر في أن يحرك ساكنا ضد الدولة اليهودية المحتلة، بالويل و الثبور، بل أذهل العالم كله بما فيه زعماء الشعوب العربية والإسلامية.
وتساءل الجميع: ما هذا؟ أهو حقيقة ستستمر؟ أم هي عواطف صبيان تقطعها رصاصات يهودية تسيل دم عدد منهم؟
وما درى أولئك جميعا عن ذلك السلاح المعنوي العظيم، الذي يحول المتنعم المترف إلى خشن صلب متقشف، والجبان الرعديد إلى شجاع صنديد، وذا لخمول الكسلان إلى نشاط بركان.
وكانت نتيجة تلك الحركة الجهادية المباركة، أن تحركت اليهودية الصهيونية، والصليبية العالمية، والعلمانية العربية... للبحث عن وسائل وآلات تمكنهم من القضاء على هذا المارد الذي استيقظ بعد نوم عميق، وتنبه بعد غفلة طويلة، في ظل دولة يهودية ظالمة، أخافت آباءه وأجداده بالتشريد والاعتقال والسجن والتقتيل، وأغرته بالشهوات والملهيات.
فلم يجدوا لهم مخرجا من ذلك إلا تقريب من كانوا يعتبرونهم أعداء ألداء، وهم قادة منظمة التحرير الفلسطينية، فحشدوا قادة العالم –ومنهم زعماء المسلمين من العرب وغيرهم- في مدريد، ثم حصلت الخلوة السرية غير الشرعية في أوسلو.(4/308)
وتم في تلك الخلوة ما سمي باتفاقية (أوسلو) التي اشترط فيها اليهود على ما سمي فيما بعد بـ"السلطة الفلسطينية" القضاء على الحركة الجهادية، وعلى رأسها منظمة حماس والجهاد الإسلامي....
وكان هدف اليهود والأمريكان والدول الغربية، إيقاد نار الحرب بين المجاهدين الفلسطينيين والسلطة، لاعتقادهم بأن السلطة ستنفذ الشروط التي أمليت عليها، وأن المجاهدين سيصوبون سلاحهم ضد السلطة حتى يتفانى الفلسطينيون فيما بينهم، وسيمكن ذلك اليهود من الراحة والاطمئنان.
ونفذت السلطة كثيرا من شروطه اليهود، فزجت بالمجاهدين في السجون والمعتقلات، وعاملتهم معاملة وحشية في التحقيق وآذتهم أشد أذى، فكانوا بين نارين: نار العدو السافر، ونار القريب الغادر، وهذه النار أشد وأنكى من تلك:
وظلم ذوي القربى أشد مظاظة ،،،،،،،،،،،،،،،،، على المرء من وقع الحسام المهند
ولكن رجال الجهاد صبروا على أذى إخوانهم في الأرض والعروبة والإسلام! واعتبروا صبرهم عليهم نوعا من أنواع الجهاد، ليفوتوا على العدوين اليهودي والصليبي هدفهما الماكر، واستمروا في توجيه الضربات الاستشهادية للعدو اليهودي، في عمق استيطانه من القدس إلى تل أبيب وحيفا... فزلزلوا الأرض تحت أقدامه... وأنزلوا في نفوسهم رعبا لا قبل لهم بالصبر عليه...
وعندئذ تواطأت على استئصال المجاهدين والقضاء عليهم، الإدارة الأمريكية بقيادة ساستها، ودبلوماسييها واستخباراتها، بترتيب وتأييد من غالب زعماء الدول العربية وغيرهم... فعقد مؤتمر القمة لمحاربة الإرهابيين (يعني المجاهدين) في شرم الشيخ بزعامة الرئيس الأمريكي "كلنتون"
ومن نصوص الاتفاق:
(((الأمن
يعمل الطرفان وفقاً للاتفاقيات السابقة على ضمان علاج فوري ناجع وفعال في كل حدث بما ينطوي على تهديد بالإرهاب أو ممارسة العنف أو التحريض عليه سواء نفذ من قبل فلسطينيين أو إسرائيليين، لذا يتعاون الطرفان ويتبادلان المعلومات وينسقان المواقف ويردان بقوة وبشجاعة على الأحداث التي تقع أو يتوقع حدوثها. وأكدت الاتفاقية على التزام الطرف الفلسطيني بتنفيذ كل تعهداته في المجال الأمني وخاصة فيما يتعلق بـ:
- قضية جمع السلاح غير القانوني وتقديم تقرير عن ذلك.
- تقديم قائمة بأسماء الشرطة الفلسطينية للطرف الإسرائيلي.
- إلقاء القبض على المشتبه فيهم وتقديم تقرير بذلك للطرف الإسرائيلي في موعد أقصاه 13/9/1999.)))
http://www.aljazeera.net/in-depth/documents/2001/1/1-13-3.htm
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2000/12/12-27-4.htm
وقامت السلطة الفلسطينية بغالب ما طلب منها من إلقاء القبض على المجاهدين من حماس والجهاد الإسلامي، وأودعتهم في السجون والمعتقلات، وضيقت الخناق على من بقي منهم في منازلهم، حتى الشيخ المعاق أحمد يس حكمت عليه بالإقامة الجبرية في منزله، ومنعت جماعته وجيرانه من زيارته، وأحاطت الشرطة بمنزله.
وتعاون عملاء اليهود معهم تعاونا قضى على كثبر من رجال الجهاد، ومنهم أحمد عياش والشقاقي... وغيرهم... بل إن السلطة الفلسطينية أطلقت نيران أسلحتها على المجاهدين من حماس وأعوانهم في يوم جمعة بعد خروجهم من الصلاة، إرضاء للأمريكان واليهود، ووفاء بما التزمت به.
ولا نريد الاستطراد في هذا الأمر، فهو معروف للقاصي والداني، ويكفي أن نعلم أن بعض أعضاء السلطة الفلسطينية أطلق على المجاهدين الاستشهاديين مصطلح الصليبيين واليهود "إرهابيين" بل إن ياسر عرفات نفسه أطلق عليهم ذلك، محاولا إثبات صدقه في وعده لوكالة الاستخبارات الأمريكية التي تتولى رئاسة الاجتماعات الأمنية بين السلطة و اليهود.
وما الغضب الأمريكي واليهودي على السلطة الفلسطينية الحالية، إلا لأنها لم تستأصل الجهاد والمجاهدين، اللذين يوصفان لدى الأطراف الثلاثة بالإرهاب والإرهاب
الحلقة الثالثة
ومعلوم أن اليهود لم يفوا بشيء مما اتفقوا عليه مع السلطة، وإنما كانوا يضغطون عليها ضغطا مباشرا، أو عن طريق وسطاء من الأمريكان والأوربيين وبعض زعماء العرب، حتى تتنازل السلطة عن كثير من مطالبها، وكلما تنازل ياسر عرفات عن شيء من حقوق الشعب الفلسطيني، وافقه على ذلك زعماء العرب، بحجة أن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق، فإذا رأت السلطة موقفا فيه مصلحة –وهمية-فهم لها فيه تبع.
وكلما اشتد ضغط اليهود والأمريكان على السلطة، اشتد ضغطها على المجاهدين، فلم يمر وقت من الأوقات دون إنذار وتهديد أو اعتقال وسجن.
ولولا أن المجاهدين وطنوا أنفسهم على تحمل أذى السلطة وملاحقتها لهم، وجعلوا تحملهم ذلك نوعا من جهادهم، لحققوا لليهود هدفهم، وهو التناحر والاقتتال بينهم وبين السلطة الفلسطينية، وهو الذي سيريح اليهود من هجمات المجاهدين، ويشغل الشعب الفلسطيني بأكمله عن مخططات اليهود الاستيطانية، وطمس الهوية الفلسطينية في جميع الأراضي المغتصبة بما فيها القدس والمسجد الأقصى.(4/309)
ولقد كنا نتوقع أن ما ناله المجاهدون من أذى الطرفين: اليهود والسلطة، ستناله السلطة من اليهود، لارجما منا بالغيب، وإنما لما نعلمه يقينا من مكر اليهود وكيدهم قديما وحديثا، وما نعلمه من سنن الله أن الظالم ينال جزاء ظلمه في الدنيا والآخرة...
وقد أرسلت رسالة لكثير من المواقع العربية موضوع عنوانه: "ألا إني أكلت بوم أكل الثور الأبيض" مرات... ووجهت للقراء سؤالا: من المقصود بذلك؟ فأجاب أحد القراء: أظن أن المقصود به ياسر عرفات. فعقبت عليه بقولي: "فقط"؟
واليوم وقد أكل اليهود السلطة الفلسطينية-بل الشعب الفلسطيني عامة- في وسط محيط مليار ونصف المليار من المسلمين، وفي وسط 300 مليون من العرب، نتوقع أن تأكل الدولة اليهودية الصهيونية، والدولة الصليبية الأمريكية... ثيرانا أخرى، إن لم يتدارك المسلمون والعرب وضعنا السيئ الذي نعيشه. ويبدو أن الثور القادم هو العراق... ثم (....؟)
ومع هذا كله فإن القرائن تدل على تواطؤ ماكر خبيث بين الأمريكان واليهود، وبعض الزعماء العرب، والسلطة الفلسطينية على ضرب الحركة الجهادية في فلسطين.
ولست أدري في المرحلة القادمة هل يستطيع المجاهدون الصبر على ظلم السلطة الفلسطينية وتواطؤها مع اليهود وبعض زعماء العرب عليهم، أو أن هدف اليهود والأمريكان –وهو تفاني الفلسطينيين فيما بينهم-سيتحقق، لأن للصبر حدودا، وصبر المظلوم على استمرار ظلمه- وهو صاحب حق- من أصعب الأمور على نفسه.
إن القرائن اليوم تدل على أن السلطة الفلسطينية ستنفذ شروطا قاسية يفرضها عليهم اليهود والأمريكان والدول الأوربية، وكثير من زعماء العرب، وأهم تلك الشروط القضاء على الحركة الجهادية في الأرض المباركة...
وسيكون وضع هذه الحركة وضعا صعبا جدا، لأن التعاون عليهم سيكون قطريا وإقليميا ودوليا، بحجة محاربة الإرهاب التي تتزعمها الدولة الصليبية أمريكا، بتشجيع قديم ومتواصل من الدولة اليهودية.
وإننا لننذر السلطة الفلسطينية من عواقب وخيمة ستجلبها على الشعب الفلسطيني، إذا هي نفذت مطالب اليهود والأمريكان ضد رجال الجهاد، وإذا كان الشعب الفلسطيني قد وقف وقفة رجل واحد ضد الهجمة اليهودية على المدن الفلسطينية وحصار زعيمهم، فإن الفتنة القادمة قد تكون شديدة قاسية، لأن مجازر اليهود بزعامة شارون قد نالت كل بيت، بل كل أسرة، وسوف لا ينسى الشعب هذه المجازر البشعة، ولا يغفرها لمن يتنازل لليهود عن حقوقه.
كما أنا كذلك ننصح وننذر زعماء الشعوب الإسلامية، وبخاصة الزعماء العرب، من الاستسلام الذليل لليهود، فإن ذلك سيجر على المنطقة كلها دمارا لا يعلم آثاره إلا الله لأن العدو اليهودي لا يشبع من التنازلات العربية، بل كلما قدم له تنازل طمع في غيره...
ومعلومة هي جغرافية دولته التي يريد الوصول إليها، من النيل إلى الفرات... وهو جاد وليس بهازل... وإظهار اليهود الرغبة في السلم، ما هو إلا وسيلة من وسائلهم الماكرة، ولا يثق في عهود اليهود ومواثيقهم إلا مغفل جاهل بطبيعتهم وتاريخهم، أو عميل خائن يريد أن يحقق لهم أهدافهم...
وإن من أهم واجبات علماء المسلمين ومفكريهم وكتابهم وأدبائهم، وساستهم وإعلامييهم، وأعيانهم وأهل الحل والعقد في كل البلدان الإسلامية، أن يقفوا وقفة رجل واحد، كل في موقعه، ضد العدوان الأمريكي الصليبي اليهودي الصهيوني، وضد كل من يقف في صفهم – من زعماء العرب والمسلمين- ضد الحركة الجهادية في فلسطين، للأمور الآتية:
الأمر الأول: ا، اليهود احتلوا الأرض الإسلامية المباركة، وأخرجوا أهلها من ديارهم أنزلوا بهم من الظلم ما لا يخفى على أحد بدون حق، ويجب على الجميع محاربتهم حتى يجلوا عن أرض الإسلام، وببقائهم فيها وعدم إخراجهم منه يأثم الجميع.
الأمر الثاني: أن الخطر اليهودي يهدد المنطقة العربية والإسلامية كلها، وقد غرس الصليبيون الجد الدولة اليهودية في قلب الأمة الإسلامية، من أجل السيطرة على أهم مناطق المسلمين في الكرة الأرضية، من حيث القداسة، والجغرافيا الأرضية والجوية والبحرية والاقتصادية، والعسكرية...
الأمر الثالث: أن من أهم أهداف أمريكا وحلفائها الغربيين، والدولة اليهودية، تغيير جغرافية المنطقة السياسية، تغييرا جذريا، بالمزيد من انقسام دولها، وبالمزيد من إيجاد النزاع والشقاق بين حكامها وشعوبها، لما في ذلك من ضعفها، وتقوية أعدائها من اليهود وأعوانهم.
فقوة العدو اليهودي والصليبي وغيرهما من عباد الأوثان، وتفوقهم على المسلمين – ومنهم العرب – إنما هي في ذلك النزاع والتصدع اللذين أصبحا سمة بارزة من سمات هذه الأمة، التي تملك من عوامل الوحدة وجمع الكلمة، ما لا تملكها أمم الأرض كلها.(4/310)
الأمر الرابع: أنه لا يوجد بديل للجهاد في سبيل الله يمكن أن يقي المسلمين من استعباد أعدائهم لهم، والعدوان على ضرورات حياتهم، فالقوة الشاملة: الإيمانية، والعبادية، والتشريعية، والأخلاقية، والاجتماعية، والتعليمية، والإعلامية، والاتصالية، والاقتصادية، والتجارية، والزراعية، والعسكرية، هي التي تحفظ للمسلمين هيبتهم، وتجعلهم قادة في الأرض، ومتبوعين لا تابعين، وتلك هي معاني الجهاد في سبيل الله.
ولقد جرب المسلمون هذا السبيل في قرونهم المفضلة هذا السبيل، فوجدوا أنفسهم أعز أهل الأرض، وأغناهم، وأشدهم بأسا، وأنفعهم للعالم، من المسلمين وغيرهم.
وجربنا نحن في عصورنا المنحطة، كل مبدأ وكل تشريع، وكل وسيلة وكل سبب غير مبدأ شرع الله، وكل وسيلة غير وسيلة الجهاد –بمعناه الشامل - وسببه، فلم نزدد إلا انحطاطا وعبودية لغير الله الخالق.
الأمر الخامس: أن الواجب على المسلمين، أن يتناصروا فيما بينهم، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان، ولا يجوز لهم خذلان بعضهم بعضا، وإسلام بعضهم بعضا لعدوهم، وهل يوجد على ظهر الأرض من هو أحق بالمناصرة، من المجاهدين في سبيل الله، الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم، ويؤثرون الموت على الحياة، و التعب على الراحة، من أجل نصرة الإسلام والذب عن حوزة المسلمين، والدفع عن أرضهم وعرضهم.
وهل يوجد بر يجب التعاون عليه، أعظم من التعاون على الجهاد في سبيل الله الذي أصبح اليوم فرض عين على جميع المسلمين، حتى يطردوا عدوهم من أرضهم؟
وهل يوجد إثم وعدوان يحرم على المسلمين التعاون عليهما، أعظم من التعاون على حرب الجهاد والمجاهدين في سبيل الله؟
لكم الله أيها المجاهدون!
أيها المجاهدون في سبيل الله، لقد اخترتم أصعب الطرق لنصر دين الله، وطلب العزة للمسلمين، والدفع عن ضرورات حياتهم، والوقوف ضد العدو الذي احتل أرضهم وديارهم، لدحره عن عدوانه، ورد كيده في نحره، ألا وهو طريق الجهاد في سبيل الله، ولكنه الطريق الوحيد الذي لا يوجد في الأرض سواه لتحرير الأرض، ونصر المظلوم، ورفع راية الإسلام، وشرع الله وسجلات التاريخ، وتجارب الأزمنة كلها براهين على ما أقول، وإن زعم الرعاديد والجبناء غير ذلك.
وإن ما نعانيه اليوم من جراء ترك هذا السبيل، من ذل وهوان واستعباد لأعظم من أي دليل وبرهان يزهق دعوى الذين فقدوا عزة الإسلام وكرامة المجاهدين، فاستسلموا للعدو بحجة طلب السلم الذي جنحوا له، ورفضه العدو، والأصل ألا يجنح المسلم لسلم الهوان الذي يكون فيه العدو عاليا على المسلمين، وإنما يجنح المسلمون للسلم الذي يجنح له العدو ويستسلم صاغرا غير عال ولا مستكبر في الأرض، والمسلمون أقوياء منتصرون، لا ضعاف مهزومون. فخالفوا شرع الله ونهيه اللذين سطرهما في كتابه: فقال:
" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون(60) وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم(61) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين(62)" الأنفال.
" وقال: " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم" سورة محمد (35)
وإن الخسائر التي تلحق المجاهدين، من جراحات وعذابات، وسفك دماء وفقد أرواح، وهدم بيوت، وجوع وعطش، وخوف وبرد وحر ومرض، بسبب جهادهم في سبيل الله، لهي أهون وأيسر من الخسائر التي تلحق المسلمين بترك الجهاد في سبيل الله.
فاستمروا أيها المجاهدون في جهادكم، واصبروا وصابروا، فأنتم حماة الأمة وحافظو دينها، وأنتم رفيق الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
جاهدوا والله معكم، وإن خذلكم أهل الأرض جميعا، جاهدوا أعداء الله من اليهود والصليبيين، وأبشروا بإحدى الحسنيين: النصر المؤزر، أو الشهادة المبتغاة، ولينتظر عدوكم إحدى الطامتين: إنزال الله عقابه وعذابه بنصركم عليه وإذلاله، أو عقابه المباشر في الدنيا والآخرة: ((قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون)) [التوبة: 52]
وإن إخوانكم المسلمين الذين لا يخافون إلا الله مثلكم في كل أنحاء الأرض، ليتحرقون شوقا إلى الوقوف في صفكم، مناصرة لكم، ورفعا لراية الإسلام دينهم ودينكم، ولكن الأنظمة التي تخاف غير الله أشد من خوف الله هي التي تحول بينهم وبين ما يشتهون...
ولعل يوم النصر والفرقان الذي يجمعهم بكم، ويجعل الذين يصدونهم عن نصرتكم ويخذلونكم، يطلبون منهم ومنكم النجدة على العدو المتربص بهم وبكم، لعل هذا اليوم آت قريب... فليس من أمل بعد الله في قهر العدو ودحره، ونصر الإسلام والمسلمين، وغسل العار عنهم إلا أنتم أيها المجاهدون... ومهما علا العدو وتجبر وبلغ من القوة المادية ذروتها، فإن نهايته الهزيمة والمحق، فما ارتفع شيء من هذه الدنيا إلا وضعه الله، كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
كتبه(4/311)
د . عبد الله قادري الأهدل
===============
(الإصلاحيون) والخطاب الدعوي المنقوص
محمد جلال القصاص
في ثلث الليل الثَّاني هبّوا من مضاجعهم يتسللون على أطراف أصابعهم كالقِطى ـ كما يصف أحدهم ـ وهناك في آخر ( مِنى) عند العقبة وفي إحدى الشعب تجمع وفد يثرب ليبايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيعة العقبة الثانية، وينطق الأخيار: خذ لربك ودينك ما شئت يا رسول الله !
فيجيب الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافوا لومة لائم، وأن تنصروني إذا قدمت عليكم فتمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأنفسكم وأولادكم.
قالوا: وما لنا يا رسول الله إن فعلنا ؟
قال: ولكم الجنة .
قد كان - صلى الله عليه وسلم- موقنا أن الله سيتم هذا الأمر حتى لا يخاف الراكب إلا الله والذئب على غنمه، وأن الفُرس لن تأخذ إلا نطحة أو نطحتان وبعدها يرث المسلمون ديارهم وأموالهم، وأن عقر دار الإسلام بلاد الشام، ومع ذلك لم يشأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن تنعقد البيعة على أمر دنيوي، بل أراد للنفوس أن تنصرف إلى ما عند الله .
وفي مكة حيث الضعف والانكسار وقلة العدد وانعدام العتاد، وقد تجمعت العرب على كلمة الكفر، وصموا عن الحق آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا على الضلال وإضلال الناس إصراراً، وأنفقوا الأموال كي لا تكون كلمة الله هي العليا كانت الدعوة لا تتكلم عن شيء أكثر مما تتكلم عن اليوم الأخر ابتداء من القبر وما فيه ويوم الحساب وما فيه والجنة والنار ، حتى أصبحت سمة بارزة للقرآن المكي .
بلغة العقلاء المفكرين ... الإصلاحيين : كان الحال يستدعي مرونة في الطرح بإظهار شيء مما تخفيه تلال الأيام ويستيقن منه الرسول -عليه الصلاة والسلام- من نصر وفتح وغنيمة ، حتى يكثر العدد وتكون قوة تواجه هذه القوى ، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث ، وأصرت الدعوة على أن تبدأ من اليوم الآخر ترغيباً وترهيباً.
تحاول أن تجعل القلوب معلقة بما عند ربها ترجوا رحمته وتخشى عقابه. ويكون كل سعيها دفعا للعقاب وطلبا للثواب فتكون الدنيا بجملتها مطية للآخرة .
ورسول الله _صلى الله عليه وسلم_ هو أيضاً تربى على هذا المعني، فقد كان يتنزل عليه " وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [ يونس: 46] " وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ " [يونس: 40]
وهكذا استقامت النفوس تبذل قصارى جهدها في أمر الدنيا ترجوا به ما عند الله فكان حالهم كما وصف ربهم " تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا " فهذا وصف للظاهر" ركعاً سجداً" ووصف للباطن "يبتغون فضلاً من الله ورضوانا" ، والسياق يوحي بأن هذه هي هيئتهم الملازمة لهم التي يراهم الرائي عليها حيثما يراهم، كما يقول صاحب الظلال ـ رحمه الله ــ .
هذا حال من ابتدؤوا، وإنا نجد في كتاب ربنا أننا ملزمون بالسير على دربهم واقتفاء آثارهم، " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ". وما لنا أن لا نقتفي آثارهم ونسير على دربهم وهم أنجح جيل في التاريخ ولم يأت مثله في حياة الناس ؟
وهكذا استقامت النفوس تبذل قصارى جهدها في أمر الدنيا ترجوا به ما عند الله فكان حالهم كما وصف ربهم " تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا "
أقول: ومن يتدبر آيات الأحكام في كتاب الله يجد أن هناك إصرار من النص القرآني على وضع صورة الآخرة عند كل أمر ونهي ضمن السياق بواحدة من دلالات اللفظ ، المباشرة منها أو غير المباشر ( دلالة الإشارة أو التضمن أو الاقتضاء أو مفهوم المخالفة .. الخ ) ، فمثلا يقول الله -تعالى-: " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ... "
فتدبر كيف يأتي الأمر بعدم تطفيف الكيل حين الشراء وبخسه حين البيع ؟
ولا أريد أن أعكر صفو النص بكلماتي .
ومثله " فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور "
فهنا أمر بالسعي على الرزق، وتذكير بأن هناك نشور ووقوف بين يدي الله -عز وجل- فيسأل المرء عن كسبه من أين وإلى أين ؟
بل واقرأ عن الآيات التي تتحدث عن الطلاق في سورة البقرة تجد أنها تختم باسم أو اسمين من أسماء الله -عز وجل- " ... فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " " ... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " " ... وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " " ... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " " .... إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "
وهذا لا شك استحضار للثواب والعقاب .(4/312)
وإذا كان هذا أسلوب القرآن العظيم في عرض قضايا الشريعة ، وهو ما تربى عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- فلم يغيب الطرح الأخروي عن المشاريع الفكرية التي تنتجها أقلام (الإصلاحيين) وخاصة حين يتكلمون إلى الكافرين أو العلمانيين ؟...لم هذا الخطاب الدعوي المنقوص ؟
لم لا نخاطبهم :آمنوا بربكم الذي خلقكم ورزقكم وأحياكم ويميتكم ثم يحاسبكم ؟
لم لا نناديهم: أسلموا قبل أن تكونوا من جثي جهنم التي وصفها كذا وكذا ؟
أسلموا كي لا تحرموا جنة فيها وفيها ...؟
ويدور الحوار حول دلائل صدق الخبر ومطلب المخبر .
أسذاجة ؟
لا وربي .فهكذا نشأت خير أمّة أخرجت للناس ودونكم السيرة .
==============
هل ستكسب أمريكا هذه الحرب
د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي
والجواب بدون تردد: لا. لن تكسبها ولو جعلت العشر السنين عشرين بل قرنين. إن أمريكا يمكن أن تكسب حرباً عسكرية خاطفة أو طويلة. أما أن تكسب حرباً شاملة فلا. ومن هنا من ثغرة الشمول ينتقض بناؤها على أم رأسها. والسبب توضحه جلياً التجارب الكثيرة من الأمة الإسلامية في كل صراع تلوح فيه شعارات الدين، فلا شيء يستفز المسلمين أكثر من مس العدو جانب الدين أو المقدسات، وقد نمى الوعي الإسلامي بحيث أصبح استخدام الأجواء مساساً بالمقدسات فكيف والإدارة الأمريكية تستفز المسلمين بشعار كشعار "الحرب الصليبية" أو "تجفيف المنابع" وتظن أنها تمتص المشاعر الجياشة بأعمال من قبيل زيارة مركز أو إلقاء غذاء مع الصواريخ المتساقطة!!
إن شعوب العالم الإسلامي خاصة - وشعوب العالم عامة - تستريب من كل خطوة أمريكية وإن جاءت في الاتجاه الصحيح، فكيف وهي تسبح عكس التيار؟ فحين لوّحت بالاعتراف بدولة فلسطينية لم يأبه لها أحد، وحين ألمحت إلى تغييرات في الأنظمة العربية لصالح الديمقراطية وحرية الشعوب لم يصغِ لها أحد. أما حين تتحدث عن الحركات الجهادية في العالم باعتبارها إرهابية فإن المسلمين يتوقعون منها كل شر.
إن المواجهة بين أمريكا والعالم الإسلامي ستكون عنيفة للغاية ومدمرة، وسوف تحدث شروخاً هائلة في الوضع القائم ما لم تتراجع أمريكا عن خطتها الغاشمة وعدوانها المستمر، وهو ما لا يظن بها - على الأقل في المرحلة الراهنة - ومن هنا نرجو أن يكون هذا استدراجاً لها من الله مع كونه ابتلاءً وامتحاناً للمسلمين.
إن الله تعالى قد عَلِمَ حاجة هذه الأمة إلى اليقين والإيمان فجاء بهذا الحادث ليكون آية من عنده على ((أن القوة لله جميعاً)) وأنه تعالى قادر على أن يفعل بكل عدو للإسلام ما فعل ببني النضير الذين ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب}
إن هذا الحادث أكبر من كونه هجوماً مباغتاً على قوة عظمى زلزلَ أركانها وأفقدها صوابها، إنه قلبٌ لكل المعادلات ونسفٌ لكل الحسابات التي بنى عليها الغرب الصليبي حضارته وسيطرته وأسباب قوته منذ 500 سنة واكثر أي منذ أن أخرج المسلمين من الأندلس وشرع في كشوفاته الاستعمارية الأولى.
فكل تلك المعادلات والحسابات والأسباب تقوم على التفوق العسكري والحضاري على الخصم في كل ميدان، وهو التفوق الذي بلغ ذروته في المرحلة الأخيرة، حيث لم يعد في إمكان العالم الإسلامي التفكير في مقاومة هذا العدو، الذي تأهل بالتقنية المتطورة ليصنع أشد الأسلحة فتكاً ودماراً، وتوحّد ليصبح معسكراً واحداً من حدود روسيا مع اليابان شرقاً إلى أقصى الجزر التابعة لأمريكا غرباً، وقد استنفد آلاف البلايين ليملك قوى جهنمية ومواقع استراتيجية وثروات طبيعية لا يقبل أن ينافسه أحد في شيء منها.
هذا والعالم الإسلامي يعيش عقدة النقص والتخلف فأنىَّ له بجيوش كهذه الجيوش وقوى وموارد كتلك القوى والموارد وهو فقير متخلف في أهم أسباب القوة المادية وهو "التقنية" وأنى له أن ينافس في شيء ما من الميادين والعدو متربص به يحصي أنفاسه ويمتص دمه.
إنها حال مؤلمة لا تبعث إلا على الإحباط واليأس وربما أنتجت شكاً في وعد الله وسوء ظن به بل تكذيباً لما جاء في كتابه - عياذاً بالله - ولكن هذا الحادث جاء ليقول للمسلمين والعالم بوضوح:-
إن القلعة الحصينة التي بناها الغرب في قرون يمكن اختراقها بالحمام الزاجل! وإن الجيوش الغفيرة يمكن هزيمتها بمئات من طالبي الجنة! وأن التقنية مهما تطورت لا يمكن أن تقاوم الروح المعنوية للمؤمنين.
جاء وأمريكا تعمل على قدم وساق لبناء منظومة صواريخ للردع الاستراتيجي، وأقمارها الصناعية ترصد ما فوق الأرض بل ما تحتها من الكنوز، ولكن روحها خاوية من الإيمان بالله مشبعة بالكبر والغطرسة فاستطاعت ثلة قليلة العدد من أبناء العالم المتخلّف أن تدوس أنفها في التراب على مرأى ومسمع من العالم المذهول المصعوق.
سبحان الله! أيّ آية في هذا وأيّ عبرة للمؤمنين؟(4/313)
لو عقلت أمريكا هذه الآية لسارعت بطلب المغفرة من المسلمين وبادرت بالتكفير عن جرائمها الكبرى ومواقفها المشينة معهم، ولكنَّها - لحكمة عظيمة قدرها الله - ركبت رأسها وشرعت في عدوان من شأنه أن يجعل الملايين في العالم الإسلامي تتحول من حياة المتعة الرخيصة إلى طلب الشهادة على نحو ما فعلت تلك الثلة أو أكثر وربما بوسائل أخطر.
لقد انقلبت كل الخطط والمعايير والمعادلات والحسابات!!
وأصبحت الترسانة الهائلة من الأسلحة - التقليدي منها والنووي و... و... مما لا نعلم - أشبه بأكوام السيارات القديمة أو "الخردة". لقد تم تحييدها في هذا النوع الجديد من الحرب الذي لا يعدو أن يكون مبارزة بين قوى خارقة غير مرئية يملك المسلمون منها ما لانهاية له وبين القوى المادية التي يكتظ بها الغرب ولكنها هامدة خاوية لا روح فيها، فهي كالعملاق الضخم الذي يمكن لفيروسات قاتلة أن تنخركبده وهو يستعرض قوته في مصارعة إنسان أنهكه المرض وأجهده الجوع!
(1) أما نحن فلا أطيل بذكر قلة إفادتنا من الأحداث فهي لا تحتاج لدليل، وسبقت الإشارات إلى ذلك هنا ولكن التذكير بسنة الله واجب، والتدارك ممكن، والمؤمن مأمور بأن يدفع القدر بالقدر لا أن يعجز ويتواكل، والفرصة أمامنا كبيرة جداً لاستثمار الحديث في تقويم المسيرة واستكمال عدة النصر والتمكين.
فليسأل كل منا نفسه ماذا عملت؟ وليحرض إخوانه على العمل فهذا خير من الجدل والتلاوم، وها هي ذي إشارات نرجو أن تفيد في هذا الشأن:-
أولاً: يجب أن يكون هذا العدوان مصدر تفاؤل ورجاء لا يأس وخوف. وأسباب ذلك كثيرة سبقت الإشارة إلى بعضها، ومنها:-
أ - عدالة القضية: فالثبات على الموقف العادل نصر بذاته. والجندي المسلم يقاتل عن دينه وأهله من هاجم بلاده ظلماً وعدواناً، والعالم كله يشهد أن أمريكا تسرعت في الاتهام، وبادرت إلى العدوان قبل تقديم الأدلة. وقد صرح بذلك كثير من حلفائها. بل من عقلائها المنصفين. وهذا يبشر بانتقام الله من الظالم ولو بعد حين {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً}.
ب - البغي والغرور اللذان اتصف بها العدو: مستكبراً بقوته، متناسياً قدرة الله عليه، مثلما أخبر الله تعالى عن عاد الأولى: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة؟ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة}.
د - كشف المنافقين ومرضى القلوب وعبدة الدرهم والدينار والوظيفة والجاه عند الخلق: وهذا خير عظيم، كما حدث يوم أحد ويوم الأحزاب. وما بقي إلا معالجة السماعين لهم من العوام، قال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب}.
هـ - اتعاظ كثير من الدول المجاورة بما جرى في الأزمات السابقة، ورفضها أو تحفظها في المشاركة هذه المرة: وهذه خطوة جيدة في الطريق الصحيح، ودليل على أن إنكار المنكر يثمر ولو بعد حين، وأن الشعوب بيدها الشيء الكثير.
و - وضوح السبيل ونمو الوعي: وذلك من خلال إجماع العامة على الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين وإدراكهم لمخططات العدو الماكر، وهو ما كان مشوشاً في أزمات سابقة {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة} وقد أدرك العدو ذلك فأخذ زعماؤه يعتذرون وهم كارهون عن فلتات ألسنتهم بما يضمرون.
ز - افتضاح العدو وظهور زيف شعاراته عن الحرية والإنسانية والحضارة وحق الشعوب في تقرير المصير... الخ حتى في تعامله مع مواطنيه من المسلمين. فالآن {قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر}.
ح - إيقاف زحف العولمة - ولو إلى حين - وهذه فرصة لالتقاط النفَس والاستعداد لمواجهتها بخطط مدروسة وبرامج محكمة. وقد يؤدي ذلك إلى تركيز الاهتمام على التعامل بين الدول الإسلامية فتكون خطوة ثم تعقبها خطوات بإذن الله.
ط - تجفيف منابع الفساد ومن أهمها السياحة في الدول الغربية، فالمعاملة غير الإنسانية للمسافرين والمقيمين وإن أصابت بعض الصالحين سينفع الله بها كثيراً من الطالحين الذين ينفقون سنوياً عشرات البلايين في أوكار الفساد ومباءات الفجور هناك. فالسعوديون وحدهم أنفقوا سنة 1420 هـ ما بلغ مائة وعشرين ألف مليون ريال!!
ي - إحياء بعض المعالم الشرعية المندرسة مثل فقه "دار الكفر" و "دار الإسلام" والراية والملاحم مع أهل الكتاب والإقامة في بلاد الكفر، والهدنة والعهد، وأحكام عصمة النفس والمال، وكذلك الأحكام المتعلقة بالتحالف أو الاستعانة بالمسلمين على المشركين، وما أشبه ذلك مما سيكون مادة خصبة للاجتهاد والتفقّه ووزن الأمور بميزان الشرع المطهر. ك - ظهور فتاوى محررة - جماعية وفردية - في أكثر بلاد المسلمين واهتمام الغرب بهذه الفتاوى وإقبال الناس عليها، مما يؤصل مرجعية أهل العلم في أمور الأمة.(4/314)
ل – الإقبال غير المتوقع على الإسلام في أمريكا، وقد سمعنا وقرأنا الكثير من الشواهد على ذلك حتى أصبح في حكم المتواتر، وهذا في ذاته نصر عظيم وآية بينة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وغيظ للمنافقين المخذولين الذين شمتوا بالمسلمين العاملين في حقل الدعوة هناك بل اسْتَعْدَوا عليهم الكفار.
م – نجاح فكرة الربط بين الحادث وبين القضية الكبرى للمسلمين: قضية فلسطين، واقتناع كثير من الناس داخل أمريكا - فضلاً عن خارجها - بضرورة التعامل العادل معها، مما يعضد الانتفاضة المباركة ويسند جهاد المسلمين لليهود.
ثانياً: يجب على العاملين للإسلام أن يدركوا قيمة هذه الفرصة العظيمة وأن يجعلوا هذه الأحداث منطلقاً للمرحلة الدعوية التالية: وهي مرحلة الجهاد الكبير بالقرآن كما قال تعالى {وجاهدهم به جهاداً كبيراً} ومن أسباب ذلك:-
أ – الدعوة الصريحة القوية إلى الإصلاح الشامل لحال الأمة ليطابق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وعصور العزة والتمكين، وذلك بواسطة برامج ودراسات محكمة تُنشر للأمة ويخاطب بها الحكام والعلماء والقادة والعامة.
ب – تجييش الأمة كلها لمواجهة أعدائها المتكالبين من كل مكان مع تنوع وسائلهم وطوائفهم.وترك الاستهانة بأي قوة في هذه الأمة لفرد أو جماعة وبأي جهد من أي مسلم، ونبذ التقسيمات التي حصر بها بعض طلبة العلم الاهتمام بالدين على فئة معينة سموها "الملتزمين" فالأمة كلها مطالبة بنصرة الدين. وكل مسلم لا يخلو من خير. والإيمان شُعَب منها الظاهر ومنها الباطن، ورب ذي مظهر إيماني وقلبه خاوٍِ أو غافل، ورب ذي مظهر لا يدل على ما في قلبه من خير وما في عقله من حكمة ورشد. وهذا لا يعني إهمال تربية الأمة على استكمال شُعَب الدين ظاهراً وباطناً، بل إن استنفار الأمة كلها لنصرة الدين وتحريك الإيمان في قلوبها هو من أسباب توبة العاصي ويقظة الغافل، وتزكية الصالح.
وهذا جيش النبي صلى الله عليه وسلم خير الجيوش لم يكن من السابقين الأولين محضاً بل كان فيه الأعراب الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وفيه مَن خَلَط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وفيه المُرجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وفيه من قاتل حمية عن أحساب قومه فضلاً عن المنافقين المعلومين وغير المعلومين، وإنما العبرة بالمنهج والراية والنفوذ التي لم تكن إلا بيد النبي صلى الله عليه وسلم ثم بيد أهل السابقة والثقة والاستقامة من بعده.
ولو لم نبدأ إلا باستنفار مرتادي المساجد لرأينا الثمار الكبيرة، وكذلك الأقرباء والعشيرة وزملاء المهنة وإن تلبسوا بشيء من المعاصي الظاهرة.
والمقصود أن نعلم أن حالة المواجهة الشاملة تقتضي اعتبار مصلحة الدين قبل كل شيء، فالمجاهد الفاسق – بأي نوع من أنواع الجهاد والنصرة – خير من الصالح القاعد في هذه الحالة.
ج – توعية الأمة بمفهوم نصرة الدين وتولي المؤمنين، التي هي فرض عين على كل مسلم، وأن ذلك يشمل ما لا يدخل تحت الحصر من الوسائل، ولا يقتصر على القتال وحده، فالجهاد بالمال نصرة، وكذلك الإعلام وبالرأي والمشورة وبنشر العلم، وبالعمل الخيري، وبنشر حقائق الإيمان ولاسيما عقيدة الولاء والبراء، وبالقنوت والدعاء، وبالسعي الجاد لجعل المجتمعات الأقرب إلى التمسك كمجتمعات دول جزيرة العرب قلاعاً تفيء إليها بقية الأمة، ومنارات للعلم وملاذات للأمن، فكل دعوة أو جهاد أو إغاثة تحتاج إلى من تفيء إليه، وتتحيز لجواره، والأخذ من علمه والإفادة من رأيه ومعونته، ولو استنفدنا طاقة هذه المجتمعات في حدثٍ ما لحلّت الخسارة بالجميع.
ولو تفهم كثير من المتحمسين هذه الحقائق لما حصرت نفوسهم بين المشاركة في الجهاد في جبهاته المعروفة أو اعتبار أنفسهم عاطلين قاعدين.
وأنت تعجب حين ترى كثيرين يسألون الشيوخ عن الجهاد: فإن قيل فرض عين سافروا إلى مواقعه. وإن قيل غير ذلك بقوا عاطلين بين اليأس والكسل، لا تَفَقّه في الدين، ولا تعليم، ولا دعوة، ولا جمع مال، ولا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر، وهذه مأساة في واقعنا التربوي.
د – تطوير وسائل الدعوة لمواكبة المواجهة العالمية الشاملة بين الكفر والإيمان،فلم يعد الوقت وقت الشريط أو النشرة أو الكتيب. بل القنوات الفضائية المتعددة اللغات والصحافة المتطورة، ومراكز الدراسات المتخصصة... والمؤسسات التعليمية والخيرية المُحْكمة التخطيط.
هـ - تحويل وحدة الرأي والتعاطف إلى توحّد عملي ومنهجي لكل العاملين للإسلام في كل مكان، يقوم على الثوابت والقطعيات في الاعتقاد والعمل، ويدرس الفروع والاجتهادات بأسلوب الحوار البناء. فاجتماع كلمة الأمة أصل عظيم لا يجوز التفريط فيه بسبب تنوع الاجتهاد واختلاف الوسائل. وما يجمع المسلمين أكثر وأقوى مما يفرقهم. والشرط الوحيد لهذا هو أن يكون المصدر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته، وما كان عليه الأئمة المتبوعون في عصور عز الإسلام. أما المتَأخرون فتُحاكم آراؤهم ومواقفهم إلى ذلك دون بخس لحقهم أو إهمال لاجتهادهم.(4/315)
و – التيقظ الكامل لخطط العدو الماكرة وأهدافه المريبة، ومنها ما بدا من أفواه المسؤولين الأمريكان عن ضرورة تجفيف المنابع، وهي سياسة معمول بها من قبل، انتهجها أتاتورك وعبد الناصر ولا يزال ينتهجها معظم الأنظمة، والنظام التونسي مثالها العربي الواضح. والمقصود بها محو البقية الباقية من معالم الدين وشعائره على النحو الذي يطالب به المنافقون: مثل بعض الكتاب المارقين في صحف سعودية دولية. وأهم ما يرون تجفيفه من المنابع: مناهج التعليم، وخطب الجمعة، ووسائل الإعلام، ومدارس القرآن، وأول ما طالبوا بمحوه عقيدة الولاء والبراء، والأحكام التي تميز بين الكافر والمؤمن، والآيات والأحاديث المتعلقة بذم اليهود والنصارى، وكذلك أحكام الجهاد والترغيب فيه، وأحكام التشبه بالمشركين والسفر إلى بلادهم.
ز – مخاطبة الحكومات في البلاد الإسلامية وإشعارها - كل بلد بحسب أحواله ووسائل الاحتجاج المتاحة فيه – بأن ما تريده أمريكا من مراصد استخباراتية ومراكز للمعلومات عن الصحوة الإسلامية ورقابة على خطب الجمعة وغيرها – بل وللاغتيالات كما صرح أكثر من مسؤول أمريكي – مرفوض جملة وهو من القضايا التي تمس مباشرة عقيدة الولاء والبراء وحق السيادة للدولة، وكل دولة توافق عليه ولاسيما تلك المجاورة للعدو الصهيوني فهي خائنة لله وللرسول ولقضايا الأمة، وموالية للكفار على المسلمين ويجب على بقية الدول فضحها، وعدم إمدادها بأي شيء أو التعاون معها بهذا الشأن، وينبغي التنبيه إلى أن وجود مثل هذه المراصد أو المراكز هو مما يدفع شباب الجهاد لمهاجمة السفارات والمصالح الأمريكية، أما لو حدث اغتيال أحد المجاهدين من طريقها فسوف يؤدي إلى انتقام لا تحصر أبعاده.
ح – مطالبة الحكومات الإسلامية – كل بلد بحسب أحواله أيضاً – بفتح باب الحوار وتفهم هموم الشباب ومشكلاته واستيعاب حماسته فيما يخدم الإسلام حقيقة. فهولاء الشباب في الأصل طاقة ذات حدين إن لم تستصلح وتهذب أصبحت وبالاً وبلاءً، وهم إذا رأوا الصدق من أحد وثقوا فيه وقبلوا توجيهه، وإذا ارتابوا في أحد أعرضوا عنه وحذّروا منه، فلابد في التعامل معهم من حكمة وأناة وصبر. ولابد للحكومات من الكف عن الدعاية المسيئة للدين ولهم، وترك ما يستفزهم من المنكرات، وغض النظر عما يبدر منهم من مخالفات توقياً لما هو أكبر منها، وأن تلغي من تعاملها الحل الأمني الذي ثبت أنه لا يؤدي إلا إلى ردّات فعل أعنف والدخول في نفق مظلم لا نهاية له.
وعليها أن توضح لأمريكا وغيرها أن الصحوة شبّت عن الطوق وتجاوزت حدود السيطرة حيث وصلت إلى المطربين ولاعبي الكرة والممثلين ومروجي المخدرات وغيرهم، وأن الإسلام - ممثلاً في الطائفة المنصورة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم – قادم لا محالة وهو كما قال بعض المعلقين الغربيين على الحادث (( إن العفريت قد خرج من القمقم )) والحقيقة أن القمقم لم يعد له وجود وأن العفريت يمكن أن يكون ملاكاً في رقته ورحمته إذا لم يستفزه أحد.
وإجمالاً إن لم تغير الحكومات من سياساتها تجاه شباب الصحوة - بنفس القدر الذي تطالب به أمريكا بتغيير سياستها تجاه الانتفاضة - وإن لم تعتبر بهذه الأحداث وتداعياتها المتلاحقة فسوف تدفع ثمناً غالياً قد تضطرها أمريكا نفسها لدفعه.
ط – ضرورة فتح باب الحوار بين المسلمين والغرب، ولا نعني به الحوار الرسمي السياسي ولا المؤتمرات المشبوهة مع البابا وأمثاله، بل الحوار العقدي والفكري والحضاري بين المؤمنين بأن رسالة الإسلام هي وحدها الحق، ودين الله الذي لا يقبل غيره، وأن خير ما يقدمه المسلمون للشعوب والحضارات هو هدايتهم للإيمان، ودعوتهم إلى الله، وبين الباحثين الجادين عن الحق والحقيقة في الغرب – وهم كثير – ولا مانع أن يشمل حوار المسلمين الجهات السياسية أو المؤثرة في صنع القرار هناك إقامة للحجة ولعلهم يتذكرون أو يخشون، ويجب اتخاذ الوسائل المحكمة لهذا مثل مراكز الدراسات المتخصصة والإصدارات العلمية الموثّقة والندوات التي يمثل المسلمين فيها أهلُ الرأي والعلم والخبرة بأحوال الغرب.
ي – إن أمة تعيش حالة الحرب الشاملة يجب أن تكون أبعد الناس عن اللهو والترف. وأن تصرف جهودها وطاقتها للتقرب إلى الله ورجاء ما عنده، وأن تحرص على التأسي بالأنبياء الكرام والسلف الصالح في الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، فهي في رباط دائم وثغور متوالية، ولا قوة لها إلا بالله، ويجب أن يصحب أعمالها كلها إخلاص لله تعالى وصدق في التوجه إليه وتوكل عليه ويقين في نصره، وعلى أهل العلم والدعوة أن يكونوا قدوة للناس في هذا كله وأن يضعوه في أولويات برامجهم الدعوية، فإن الله سبحانه وتعالى لم يعلق وعده بالنصر والنجاة والإعلاء والعزة لمن اتصف بالإسلام بل خص به أهل الإيمان كما في قوله تعالى:
{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}.
وقوله: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}.
وقوله: {ونجينا الذي آمنوا وكانوا يتقون}.
وقوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.(4/316)
وقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
وختاماً أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفعني وإخواني المسلمين بما نسمع وما نقول وأن يقر أعيننا بنصرة دينه وإعلاء كلمته وأن يجعلنا هداة مهتدين والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
============
الإسلام والغرب شقاق أم وفاق
إعداد : نصر بن محمد الصنقري
المقدمة :
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } أما بعد:
تردد في الآونة الأخيرة مصطلح (صدِام الحضارات) وأخذ هذا المصطلح يطفو على سطح الوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية والمطبوعة وكأن العالم قاب قوسين أو أدنى من حرب كونية ثالثة سوف تأتي على السلالة البشرية بأكملها وراح البعض يرّوج لفكرة أن الدين سيكون شرارة هذه الحرب..
وما أن طغى مصطلح (صدِام الحضارات) على السطح، حتى ظهر مصطلح آخر وهو بمثابة الند أو الضد للمصطلح الأول وهو مصطلح (حوار الحضارات) ويرى أصحاب هذا المصطلح أو التيار أن الحضارات لا تتصارع ولا تتصادم وإنما تتكامل وتتبلور بحيث تعتمد كل حضارة على ما عند الحضارات الأخرى من علوم ومعارف وثقافات وعقائد، ويرى أصحاب هذا التيار أيضاً أن الأديان لا يمكن أن تكون بذاتها وسيلة للصدِام والمجابهة بل هي بذاتها وسيلة لتقارب الإنسان من أخيه الإنسان. وكما أن الدين وسيلة للتفاهم فإن الحضارة أيضاً هي خير وسيلة للتعبير عن احتياجات ورغبات الإنسان في العيش الهانئ دون اللجوء إلى لغة العنف مع الآخر.
غير أن الشاعر يقول :
أرى خلال الرماد وميض نار وأخشى أن يكون لهم ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام
ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في ( الإسلام والغرب ) : من الموضوعات التي طرحت نفسها وبحدة خاصة بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، موضوع علاقة الغرب بالعالم الإسلامي. ففي الغرب يسألون لماذا يكرهنا المسلمون؟!.
وفي محاولة الإجابة عن هذا السؤال يقولون : "إن المسلمين يحقدون على الغرب بسبب الاستقرار السياسي والتقدم التكنولوجي والاقتصادي اللذين يتمتع بهما، وإنهم وقعوا أسرى الماضي بدلاً من بذل الجهد اللازم ليلحقوا بركب الحداثة والتقدم، ولذا أخفقوا في تحديث مجتمعاتهم، الأمر الذي يزيد من عدائهم للغرب."
وفي المقابل يحاول بعض المسلمين تفسير العداء الغربي بالقول إن اللوبي الصهيوني -وأحيانا اليهودية العالمية- هي التي تحرض الغرب ضدنا. وهناك من يرى أن الغرب لا يزال صليبياً يحاول تحطيم الإسلام وإذلال المسلمين وربما تنصيرهم. ......................................الجزيرة 4/11/2004.
ثم يقول : وقد يكون هناك شيء من الصحة في كل هذه العناصر، ولكنها قاصرة عن تفسير ظاهرة في شمول وعمق التوتر المتصاعد في العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي.
فكان أن انقسمت الناس فهناك الغرب وأمريكا وبعض القوى المحلية عندنا تدعونا إلى الالتحاق بالركب الحضاري الغربي والاندماج في الحضارة الغربية والتخلي عن ديننا وحضارتنا وقيمنا أو على الأقل قصر علاقتنا به على العبادة الفردية والضمير وهؤلاء يقولون إنه قد ثبت أن الحضارة الغربية حضارة عظيمة ويجب أن تسود العالم ، أو يقولون إنه لا أمل ولا فرصة للمواجهة ومن الأفضل أن ننصاع لها ، وهؤلاء بالطبع منافقون ومخادعون فلا الحضارة الغربية حضارة عظيمة ، ولا هي حضارة ذات أخلاق ، ولا هي قدر مقدور لا يمكن الفكاك منه ، هؤلاء بالتحديد يدعوننا إلى الاستمرار في أداء دور الضحية والذبيحة خاصة بعد أن شحذ الجزار سكينه وأصيب الآكلون بنهم شديد ، وفضلاً عن أننا سنكون مجالا للنهب فإنهم يطلبون منا أن نتخلى عن قيمنا وذاتيتنا ومبادئ ديننا وحضارتنا وهذا بالطبع مرفوض .
واتجاه آخر يقول بأن الحضارات تتفاعل مع بعضها البعض أو تتزاوج وإن الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية أي أنها استفادت من كل الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة الإنسانية كلها.(4/317)
ومن هنا ألينا على أنفسنا صبر غور هذا التوتر ووضعه في حجمه الطبيعي ، وبيان ما إذا كانت العلاقة مع الغرب هي علاقة الحوار أم علاقة الحرب والدمار ، ويمكن القول إن ثمة عناصر يمكن أن تؤدي إلى توتر العلاقة بين الإسلام والغرب، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تشكل أساساً للتفاهم والتعاون.
ولكن قبل الوصل إلى هذه النتيجة لابد من استعراض الصراع الغربي مع الإسلام ، ولا بد كذلك من توضيح بعض معايير الغرب في نظرته إلى العالم الإسلامي السياسي والديني ، وإلى الفرد المسلم والجماعة المسلمة ، كما لابد أن نبين الأخطاء التي يقع فيها الكثير من المسلمين فيعطوا بذلك الفرصة للغرب ليشنع على الإسلام والمسلمين ، سواء كان ذلك حقاً أو مكراً ودهاءً.
غير أنه يجب التأكيد في الوقت نفسه على أن حرية التعبير وحرية الإعلام شيء، والإساءة والتحريض على الآخر ومعتقداته الدينية وقيمه الروحية شيء آخر...... هذا ونسأل الله تعالى السداد والتوفيق ............
وكتبه /نصر بن محمد الصنقري .......مرسى مطروح .
التمهيد :
إن الإسلام هو الرسالة الخاتمة للرسالات السابقة يدعو إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له وبملائكته وبرسله وبكتبه المنزلة وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، عاجله وآجله ، ويدعو إلى القيم الخلقية النبيلة التي دعت إليها الأديان، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ "(1).
من هذا المنطلق نرى أن الإسلام منهج "منهج حياة" حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها. منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة (الوجود)، ويحدد مكان (الإنسان) في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني.. ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر. كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه. والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته. والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته. والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته.. ..............................من كتاب المستقبل لهذا الدين لسيد قطب.
وهذا الدين من الوضوح في هذا المعنى - ومن العمق والقوة كذلك - بحيث يبدو أن ليس هنالك أمل في نجاح أية محاولة لتصويره في صورة العقيدة الوجدانية المنعزلة عن واقع الحياة البشرية، والتي لا علاقة لها بتنظيمات الحياة الواقعية، وتشكيلاتها وأجهزتها العملية. أو العقيدة التي تعد الناس فردوس الآخرة إذا هم أدوا شعائرها وعباداتها، دون أن يحققوا - في واقع مجتمعهم- أنظمتها وشرائعها وأوضاعها المتميزة المتفردة الخاصة ! فهذا الدين ليس هكذا. ولم يكن هكذا. ولا يمكن أن يكون هكذا.. ربما استطاعت أية نحلة في الأرض تزعم لنفسها أنها (دين) ويزعم لها أهلها أنها (دين) أن تكون كذلك! أما (هذا الدين) فلا. ثم لا. ثم لا..
إن هذا الدين أضخم حقيقة، وأصلب عوداً، وأعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود الغربية والتغريبية ، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج أكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة.. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. والى منهجه القويم للحياة.
إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك تنبعث من القلوب الحائرة. وترتفع من الحناجر المتعبة.. تهتف بمنقذ، وتتلفت على (مخلِّص). وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه. وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على هذا الدين!
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه كلهم أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك أن تستغني طويلاً عنه....المستقبل لهذا الدين بتصرف وبعض الزيادات .
لقد وقف الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل عام 1864 في جامعة أدنبره العريقة في الدراسات الصليبية وبالرغم من أنه هاجم القرآن إلا أنه عندما جاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال 'لقد أصبح من العار على أي فرد متمدين أن يستمع أو يصدق ما يقال من أن محمداً كان دجالا وكذابا. فكيف بالله عليكم يستطيع الكذاب أن يبني أمة عظيمة تمتد جذورها في هذه المساحة الشاسعة؟. وكيف بالله عليكم للكذاب أن يأتي بكتاب يستطيع أن يسيطر على نفوس وعقول وقلوب معظم سكان الأرض؟'.
ومن هنا اختاره الله لنا اسماً ورسماً ، ومظهراً وجوهراً ، وقلباً وقالباً.(4/318)
أولاً : يقول تعالى في حق الدين الإسلامي ، وموقف الغرب منه : {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة،
ويقول تبارك وتعالى :{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ } (19) سورة آل عمران ،
ويقول عز من قال : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } (85) سورة آل عمران ،
ويقول أيضاً : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146) سورة البقرة، ويقول عز جاهه : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (20) سورة الأنعام
ينقل الشيخ سفر الحوالي في كتابه كشف الغمة عن علماء الأمة خطط الغرب للسيطرة على منطقة الخليج وحقول النفط ، ومن ضمن ما نقل أيضاً حرص الغرب على حرب الإسلام واعتباره الخطر الأكبر عليهم في العالم الثالث ، وأنقل من كلامه بعض المقتطفات التي نقلها ذات الطابع الهجومي يقول في صـ 32 ـ " والواقع إن جوهر القضية في هذه التحالفات قديمها وحديثها واحد وهو أن مصلحة الغرب تقتضي تناسي خلافاته الداخلية والتوحد لمقاومة الخطر الخارجي الذي يَعُدُ الإسلام رأس الحربة فيه ، فقد تحالفت أوروبا المتناحرة ضد الدولة العثمانية فيما سُمي (الحلف المقدس) كما ظلت تركيا -رغم إنها دولة أوروبية من جهة الموقع- خارج الاتفاقيات الدولية الأوروبية إلى عهد قريب لسبب واحد هو أنها مسلمة ، و سُئل الرئيس التركي عن سبب عدم قبول تركيا عضواً في الوحدة الأوروبية رغم أنها عضو في حلف الناتو - فأجاب بأن السبب هو أن الغرب لا يزال ينظر إلى تركيا باعتبارها دولة إسلامية !!.
ونقل الشيخ أيضاً صـ 37ـ " وفي الوقت نفسه جرى الإعلان أيضاً عن وظيفة جديدة للمخابرات الأمريكية في ظل الوفاق (وهي قديمة في الواقع) فقد أذاعت هيئة الإذاعة البريطانية في برنامج (عالم الظهيرة) ما نصه تقريباً:" إن الجهد الرئيسي للمخابرات الأمريكية الذي كان منصباً لمراقبة إمبراطورية الشر -يعني الاتحاد السوفيتي- سيتجه أساساً لمراقبة الجماعات الأصولية في العالم الإسلامي ووضع العقبات والعراقيل أمامها ".
وأذاعت تعليقاً لصحيفة الفايننشال تايمز قالت فيه:إذا كانت أمريكا تشجع الاتجاهات الديمقراطية في شرق أوروبا ودول العالم الثالث فإنه يجب عليها ألا تشجع تلك الاتجاهات في العالم الإسلامي لأنها بذلك تدفع –دون أن تدري- بالأصوليين إلى تسلم زمام السلطة في ذلك العالم!!!
والواقع أن مثار الذهول ليس مجرد التهديد بالتدخل فقد تدخلت فرنسا فعلاً في دول كثيرة منها (زائير ووسط أفريقيا وساحل العاج وتشاد والجابون) ولكنه في الجراءة على إعلان بعض مخططات الغرب السرية وإشهار الحرب الصليبية الذي يزيد الصحوة الإسلامية ـ بإذن الله ـ اشتعالاً ويرسخ قدمها .
وأنقل هنا مقالات لبعض ساسة الغرب ورجال الدين فيها وهي تدل على أن الغرب بجميع اتجاهاته يعد العدة لحرب صليبية تجهز على الإسلام بزعمهم ، وفكرة الحرب الصليبية أو كما يسمونها الحرب بين قوى ( الخير والشر ) أو بين قوى ( الظلام والنور ) أو بين ( العدالة والظلم ) كل هذه الأسماء التي يستخدمها الأمريكيون وقادة دول التحالف ضد الإسلام لم تكن عبارات جديدة بل هي عبارات أصولية قديمة بالنسبة لهم مستقاة من كتبهم ومن نبوئتهم الخرافية و متأصلة في الفكر الغربي المتطرف ، والمعركة التي يقودها الآن هم الإنجيليون العسكريون ، أو المتطرفون البروتوستانت .
يقول خفير سولانا أمين عام حلف شمال الأطلسي سابقاً في اجتماع للحلف عام 1412هـ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي " بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط العدو الأحمر يجب على دول حلف شمال الأطلسي ودول أوربا جميعاً أن تتناسى خلافاتها فيما بينها وترفع أنظارها من على أقدامها لتنظر إلى الأمام لتبصر عدواً متربصاً بها يجب أن تتحد لمواجهته وهو الأصولية الإسلامية " .
ويقول جلادستون رئيس وزارء بريطانيا سابقاً موصياً بإبعاد الناس عن دينهم تمهيداً للحرب الصليبية " ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق " .
ويقول ألبر مشادور " من يدري ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين يهبطون إليها من السماء لغزو العالم مرة ثانية ، وفي الوقت المناسب " .
ويقول القس لورانس براون داعياً إلى تفريق الأمة " إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له ، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير(4/319)
ويقول أرنولد توينبي " إن الوحدة الإسلامية نائمة لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ " .
ويقول المستشرق الأمريكي وك سميث الخبير بشئون باكستان " إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي ، وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد ، وبالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها " .
ثانياً : يقول تعالى في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (56) سورة الفرقان ، ويقول تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (45) سورة الأحزاب، ويقول عز وجل : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (28) سورة سبأ
ثالثاً : وقال تعالى في حق المتبعين لهذا الدين : {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78) سورة الحج
رابعاً :عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّt ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ : " أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ ومِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا ، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقَالَ : (إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ) ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا ، فَقُلْتُ : رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً ، قَالَ : اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ ، قَالَ : وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ : مُقْسِطٌ ، مُتَصَدِّقٌ ، مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ ، قَالَ : وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ : الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ ، تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ "........................................أخرجه مسلم في صحيحه وأغلب أهل السنن.(4/320)
خامساً : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : حِينَ قَرَأَهُ الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّأْمِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأْمِ فَانْطُلِقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ ، وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ، فَقَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، قَالَ : أَبُو سُفْيَانَ ، فَقُلْتُ : أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا ، قَالَ : مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ، فَقُلْتُ : هُوَ ابْنُ عَمِّي وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي ، فَقَالَ : قَيْصَرُ أَدْنُوهُ وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي ، ثُمَّ قَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لِأَصْحَابِهِ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ ، ثُمَّ قَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ ، قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ ، قَالَ : فَهَلْ ، قَالَ : هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ ، قُلْتُ : لَا ، فَقَالَ : كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا ، قَالَ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ، قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، قُلْتُ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، قَالَ : فَيَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ ، قُلْتُ : بَلْ يَزِيدُونَ ، قَالَ : فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ، قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ يَغْدِرُ ، قُلْتُ : لَا وَنَحْنُ الْآنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ نَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ لَا أَخَافُ أَنْ تُؤْثَرَ عَنِّي غَيْرُهَا ، قَالَ : فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ أَوْ قَاتَلَكُمْ ، قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ كَانَتْ حَرْبُهُ وَحَرْبُكُمْ ، قُلْتُ : كَانَتْ دُوَلًا وَسِجَالًا يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى ، قَالَ : فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ ، قَالَ : يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْعَفَافِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، فَقَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ حِينَ ، قُلْتُ : ذَلِكَ لَهُ قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ ، عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ ، هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ، قَالَ : هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ ، قُلْتُ : رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا ، قَالَ : فَزَعَمْتَ أَنْ لَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ ،(4/321)
قُلْتُ : يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ ، أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدِرُونَ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا وَيُدَالُ عَلَيْكُمُ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ ، وَسَأَلْتُكَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْعَفَافِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، قَالَ : وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ وَإِنْ يَكُ مَا ، قُلْتَ : حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُرِئَ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ، أَسْلِمْ ، تَسْلَمْ ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ وَ ?يَأَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ ، وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ فَلَا أَدْرِي مَاذَا قَالُوا وَأُمِرَ بِنَا ، فَأُخْرِجْنَا فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ ، قُلْتُ لَهُمْ : لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُهُ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلًا مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الْإِسْلَامَ ، وَأَنَا كَارِهٌ " ............................أخرجه البخاري وأهل السنن .
ولا حاجة بنا إلى الإطالة أكثر من هذا-في البحث المجمل- عن طبيعة (الدين) وشموله لنظام الحياة الواقعية. فانه لا معنى للدين أصلاً إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية؛ بتصوراته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، وشرائعه الخاصة، وتوجيهاته الخاصة، فهذه الحياة الإنسانية لابد أن يقوم نظامها الأساسي على قاعدة التصور الاعتقادي، الذي يفسر حقيقة الوجود، وعلاقته بخالقه ، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني، ونوع الارتباطات التي تحقق هذه الغاية. سواء الارتباطات بين الإنسان وربه. أو الارتباطات بين الإنسان والكون من حوله. أو الارتباطات بين الإنسان وسائر الأحياء. أو الارتباطات بين بني الإنسان. كما يرتضيها الله لعباده.
جذور الصراع بين الشرق والغرب (2)
إن الدراسة المنصفة والمحايدة في موضوع الإسلام والغرب هي وحدها التي تبرز صورة الإسلام الحقيقية أمام الغرب وهي وحدها التي تدفع المسلمين إلى مزيد من التواصل مع الغرب.
وليس مطلوبا من العالم الإسلامي أو من الغرب أن ينسيا وقائع التاريخ في علاقة المسلمين بالغرب، ولكن المطلوب أن تكون عبرة هذا التاريخ ماثلة أمامنا.
بدأت المواجهة بين الشرق والغرب منذ فجر التأريخ الإنساني المدون، الذي تتنازعه اليوم أراضي الرافدين وشواطئ البحر المتوسط حيث دارت أكثر حوادث التأريخ لهباً وعنفواناً.
شهد الشرق قيام سلسلة متتابعة من الحضارات تعود إلى نحو ستين قرناً قبل الميلاد من عيلام وسومر في العراق إلى مصر إلى غيبلا في الشام إلى الوثبة الفارسية في طيفون، لم تخل من مناوشات بين الشرق والغرب، ولكن لم تسجل مواجهة حقيقية بين الشرق والغرب حتى القرن الرابع قبل الميلاد.(4/322)
بدأت المواجهة بين الشرق والغرب مع خروج الإسكندر الأكبر من معاقل الرومان التقليدية في البلقان صوب الشرق، حيث قدر الله للجواد الذي يركبه أن يجتاز مضيق الدردنيل ويتحرك صوب سحر الشرق الآسر، وهناك يمضي من أفق إلى أفق فيجتاح آسيا الصغرى وبلاد الشام ثم السهول الإيرانية، فيحطم أمجاد الفرس ويمزق دولة ساسان، ثم يوغل في الشرق فيروي خيله من نهر جيحون ويجتاز بلاد ما وراء النهر، حيث يبلغ سحراً آخر يحمله إلى القارة الهندية فيدك ما واجهه من الممالك، ويبلغ في النهاية إمبراطورية الصين حيث لم يعد ثمة بعدها شئ يمكن أن يباهي بإسقاطه.
وحين عاد الإسكندر إلى أثينا ليبتهج بنصره شاباً غضاً، أدرك أنه ليس إلا دورة واحدة من دورات الحياة، وأن تبدل المقادير ماض إلى غاية لا يمكن أن تتوقف عنده طموحات الإسكندر.
لم يطل المشهد حتى انبعثت شعوب آسيا الراقدة تضرب في جيوش الاسكندر كل وجه، وتحيل ليهبهم إلى رماد، حيث يمزقون إلى بطالسة وسلوقيين، وتبرز مشاهد متعاقبة من الأكاسرة الجبارين، تطرق أبواب أوروبا من الأناضول في هبة الشرق العارمة، في صد أطماع الغرب.
بعد أقل من قرن يضرب مانيبعل بسياطه الموجعة في قلب الحواضر الأوربية، ويسجل غضب الجنوب على الشمال، وتثأر قرطاجة للإسكندرية ويشتعل المتوسط بنار الكراهية من جديد
في غمرة هذا الصراع كان هناك مشروع آخر يتم إعداده في روما الإيطالية التي تتدلى في قلب البحر المتوسط في إرادة جادة للمواجهة، تحت عنوان الإمبراطورية الرومانية والتي ستصبح المقدسة فيما بعد وتنطلق الأطماع الرومانية من جديد فتلتهب البلاد المتشاطئة في البحر المتوسط، في القرن الأول قبل الميلاد، ويمضي المشروع الروماني إلى أم الدنيا مصر، ثم يرسم ملامح وجود جديد على طول شواطئ المتوسط ليصبح بحيرة رومية، ثم يجتاح بلاد الشام ويصل إلى مواجهة مباشرة مع الحضارة الساسانية الفارسية، حيث سيبدأ صراع ساخن سيستمر سبعة قرون.
ومع وصول الفتح الإسلامي إلى بلاد الشام في القرن السابع الهجري كان الشرق يستعيد عافيته ليقوم بالمواجهة مع الغرب وعندما رحل القيصر من أرض الشام كان يعلم تماماً أنه يرحل رحيلاً لا عودة عنه، وأن فصلاً جديداً من تأريخ العالم يكتبه هذا الفتح الإسلامي الطامح، الذي باكر إلى محاولة دك أسوار القسطنطينية مؤكداً على روح المواجهة.
تمضي القرون خمسة تبوء محاولات الغرب البائسة في اختراق آسيا بالفشل وتتحطم أوهامه عند مضيق الدردنبل، حيث يقوم الرباط على ثغور كيليكية بلجم الأوضاع الأوربية في الشرق الإسلامي، حتى تنفجر أوروبا بالأوهام الصليبية عندما يمضي بطرس الناسك في القرن الحادي عشر برسالة أوران الثاني ليحشد أوروبا في جحافل الحملات المسعورة لأطماع الفرنجة تحت عنوان الحروب الصليبية، وتنشأ مواجهة أخرى بين الشرق والغرب استمرت مائتي عام ركز فيها الغرب راياته على أمارات كثيرة في الشرق من الرها إلى دمياط، ولكن الشرق انتفض مرة أخرى وما بين صلاح الدين والملك الكامل والظاهر بيبرس وصلت الرسالة إلى أرض الأناضول ليترجمها محمد الفاتح بفتح القسطنطينية عام 1453م، حيث ستبدأ جولة أخرى من الصراع ستكون هذه المرة في عمق الأرض الأوربية، وسيسمعها الغرب بوضوح على أسوار فيينا في قلب القارة الأوربية.
بعد أقل من قرنين استأنفت أوروبا تاريخ الصراع عندما تفجرت الثورة الملاحية من الجزيرة الأيبيرية وجرفت في طريقها الأندلس لتمتد شريطاً ساحلياً يطوق العالم الإسلامي من طنجة إلى جزر سيلان عبر رأس الرجاء الصالح ومن ثم إلى أرخبيل ، ويتبعها وصول فرنسا إلى سواحل مصر أيام نابليون الذي افتتح الحقبة الاستعمارية الجديدة في الشرق العربي.
أثر الحضارة الإسلامية على حركة الحياة الأوربية:
يقول الدكتور عبود:"لم تكن الحروب الصليبية ـ كما نعلم ـ أول احتكاك بين الإسلام والغرب، بل كان هناك هذا الاحتكاك منذ السنين الأولى من تاريخ الإسلام، عن طريق الفتوحات الإسلامية عبر الشام وعبر الشمال الأفريقي، ثم الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط.
وما من شك في أن الحضارة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي على وجه الخصوص، قد أفادت من الحضارة اليونانية عبر جهود الترجمة التي قام بها العلماء العرب والمسلمون لكثير من المعارف التي كانت سائدة آنذاك عدا المعارف التي تتعلق بالعقائد الوثنية اليونانية، ثم كان الهضم والتمثل والإضافة والإبداع ذو الخصوصية الإسلامية الذي شارك فيه العلماء المسلمون من الأجناس المختلفة المكونة للحضارة الإسلامية.
وكان على أوربا أن تتلقى العلوم والمعارف على أيدي علماء الإسلام بعد أن كانت تغط في سباتها العميق في مرحلة ما سموه بالعصور الوسطى وكان ذلك عن طريق التماس والتفاعل العميق في كل من الأندلس وصقلية، وعبر الحروب الصليبية.(4/323)
لقد أسس المسلمون في الأندلس حضارة عريقة شملت مظاهر الحياة كافة من علوم وصناعات وفنون ومظاهر سلوك، بحيث أصبحت الأندلس من الحواضر الإسلامية المرموقة، وكانت قبلة للزوار من طلبة العلم والعلماء على السواء، سواء من المشرق الإسلامي، أو الغرب الأوربي. وكان الاتصال بين المسلمين والأوربيين سهلا ، وكان اللقاء والتلاقح قائمين حيث كان الإقبال شديداً على تعلم اللغة العربية وتعلم أنماط العلم والثقافة، وتقليد المسلمين في مظاهر حياتهم الحضارية.
وكانت الترجمة من العربية إلى اللاتينية واحداً من مظاهر هذا التفاعل، وكان اقتناء الكتب، وإنشاء الجامعات على غرار الجامعات العربية مظهراً آخر من مظاهر هذا التقليد والاقتباس.
هذا في مراحل السلم، أما في المرحلة التي استطاعت الإمارات الأوربية المجاورة للأندلس أن تتهيأ للهجوم على الحواضر الإسلامية الأندلسية، فكانت تستولي على مكتباتها وتجتهد في ترجمتها خاصة تلك التي تتوفر على علوم الهندسة والطب والفلك وغيرها، حدث هذا حين استولى الفونس السادس سنة 1085م على قرطبة، ثم تبعتها طليطلة وساليرنو وغيرها.
أما صقلية التي فتحها الأغالبة القادمون من تونس عام 827م، وتمكنوا ـ بعد ذلك ـ من تهديد روما مرتين، مما اضطر البابا حنا الثامن أن يدفع الجزية لمدة سنتين.
في هذه الجزيرة أقيمت حضارة راقية تضاهي الحضارة التي قامت في الأندلس. وكان انتقال الحضارة الإسلامية منها إلى أوربا سريعاً ومؤثراً، وقد وصفت صقلية بأنها جنة أهل العلم آنذاك، وقد بدت آثار الحضارة الإسلامية فيها. ويمكن أخذ (فردريك الثاني) حاكمها الذي أغرم بالعلوم الإسلامية والثقافة الإسلامية مثالاً لهذا"أ.هـ د. شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية بين التغريب والتأصيل
أما اللقاء الإسلامي الأوربي عبر الحروب الصليبية، فقد كان عظيم الأثر في حركة الحياة العلمية والفكرية في أوربا. فقد عاد الأوربيون بعد هزيمتهم في المشرق الإسلامي، وهم أكثر معرفة وخبرة بطبيعة الحياة في العالم الإسلامي، فلم يعودوا يؤمنون بما كان يروجه القساوسة والرهبان عن هذه الحياة وعن طبيعة التفكير لدى المسلمين، بل عادوا وهم يحملون معلومات ناضجة، وتجارب غنية عن الإنسان المسلم وإنجازاته العلمية، وعن الأرض وطبيعتها، بل وعن مواطن القوة والضعف في الديار الإسلامية عامة.
ويمكن القول بأن (الحروب الصليبية انتهت بانتصار المسلمين عسكرياً، إلا أن المسيحيين استطاعوا أن ينتصروا علمياً من خلال الذخائر العلمية التي حصلوا عليها في فترة حربهم مع المسلمين) ..لقد حدث في أوربا بعد الحروب الصليبية ثورات كبرى في مجال العلم، بل والدين.
ففي مجال العلم كان ظهور المنهج العلمي التجريبي الذي نما وازدهر على أيدي المسلمين، بعد أن استنقذوه من أيدي تلاميذ أرسطو الذين رسخوا المنهج الاستنباطي لسنين طويلة، فكان ظهور روجرز بيكون، 1214 ـ 1294م الذي كان على صلة تامة بالعلوم العربية ومنهجها، ثم تلاه فرنسيس بيكون وغاليلو وغيرهم، حيث كانت جهودهم امتداداً لجهود الرازي وجابر بن حيان وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم من العلماء المسلمين.
وعلى المستوى الديني كان ظهور توما الإكويني 1255 ـ 1274م، الذي أصلح كثيراً من مظاهر التفكير اللاهوتي المسيحي بما تعلمه من مناهج المسلمين وطرق تفكيرهم في العلوم والعقائد، ثم تلاه مارتن لوثر الألماني بثورته الدينية العارمة التي اقتبست الكثير من طريقة المسلمين في علاقتهم بربهم وعلمائهم الروحانيين خاصة.
إن الأمر الذي يكاد يجمع عليه الباحثون عدا بعض المستشرقين والمفكرين الأوربيين المتعصبين هو أن أوربا أفادت من علاقاتها بالإسلام وأهله في مواطن اللقاء كلها، وإن النهضة الأوربية لم تحدث في القرن السادس عشر كما هو شائع، بل بدأت قبل هذا منذ القرن العاشر بفعل الشروع بحركة الترجمة والنقل عن العربية عبر الأندلس وصقلية، كما أشرنا.
ويقول الكاتب الأسباني " أبانيز " في كتابه: (ظلال الكنيسة) عن غزو العرب لأسبانيا:(لم تكن غزوة فتح وتدويخ بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة. ولم يتخل أبناء الحضارة زمنا عن فضيلة حرية الضمير وهى الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب. فقبلوا في المدن التي فيها الأشعار بمهارة لا تفوقها مهارة العرب أنفسهم).
ولقد كان التأثير الإسلامي شاملاً في العلم والفنون والآداب والعادات، ويحضرني هنا قول للروائي الفرنسي (استاندال) في كتابه (في الحب): ((لقد كنا برابرة ... لقد اقتبسنا أنبل عاداتنا عن طريق الحروب الصليبية والغرب في أسبانيا)).(4/324)
على أنه من الضروري التأكيد على أن الأوربيين أخذوا من المسلمين الوسائل، ولم يأخذوا الغايات والأهداف، وكان لهم طريق ومنهج آخر في التعامل مع العلوم الإسلامية، بل إنهم حين دالت دولة الإسلام، وقويت شوكتهم أعادوا الحروب الصليبية ثانية، ولكن بأساليب جديدة وأحقاد جديدة، وعاد الصراع كما هو، وعاد الشرق شرقاً، والغرب غرباً، كما هما منذ قديم الزمان، ولكن الهجمة الأوربية في هذه المرحلة كانت قاسية وتدميرية.............. د. شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية بين التغريب والتأصيل.
عصر الاستعمار والاستكبار :
لعل أفضل تسمية لهذا العصر الذي يطلق عليه عصر النهضة أو العصر الحديث أن يسمى بعصر الاستعمار والاستكبار ، لأن أ برز ظاهرة فيه هي ظاهرة الاستحواذ على خيرات الشعوب واستعبادها.
ويهمنا أن نشير هنا إلى الخطط التي وضعتها أوربا المسيحية لمواجهة الإسلام بعد فشلها في الحروب الصليبية. لقد أدرك المهزومون عسكرياً أن لا جدوى من قتال المسلمين ومواجهتهم مواجهة مباشرة في سوح القتال، وأنه لابد من سبل أخرى لاختراقهم وإضعافهم والانتصار عليهم. وهذا هو فحوى وصية (لويس التاسع) قائد الحلمة الصليبية السابعة (وهي الأخيرة) إثر عودته إلى فرنسا بعد وقوعه أسيراً في درنية المنصورة بمصر.
وكان لابد من تغيير المنهج والأداء في التعامل مع الإسلام ومعتنقيه، بعد هذا التعرف على مواطن قوته التي تكمن في عقيدته وشريعته.
وهكذا كان، فقد اتجهت أوربا اتجاهين متوازيين يعضد أحدهما الآخر:
الأول: تقوية أوربا عسكرياً واقتصادياً وعلمياً.
والثاني: اختراق العالم الإسلامي وتطويقه ودراسته دراسة قائمة على العلم والمكر والدهاء.
عوامل التقدم الأوربي ومعاييره
أما كيف قويت أوربا واغتنت فتلك قضية تحتاج إلى بسط في القول وتفصيل، نجمله بالقول بأن أوربا بعد التحدي الإسلامي الذي واجهها واستعصى عليها وكسر شوكتها، خاصة بعد التقدم الإسلامي من جهة الشرق على يد الأتراك، وبقيادة محمد الفاتح، الذي تم على يديه فتح القسطنطينية عام 1453م، أعتى وأمنع حصن للصليبية، وكاد يواصل تقدمه إلى قلب أوربا وغربها، بعد هذا الهجوم الإسلامي أفاقت أوربا من هول الصدمة ورجعت إلى ذاتها واستندت بتراثها وعجلت من تكثيف جهودها على إخراج المسلمين من الأندلس، وقد تم لها هذا بالاستيلاء على المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى، وكان آخرها سقوط غرناطة عام 1492م. وقد تزامن مع هذا الجهد العسكري جهد مكثف من لدن الأسبان والبرتغاليين لاختراق طرق التجار التي كانت بيد المسلمين، وقد توجت هذه الجهود بالوصول إلى الأمريكتين على يد كريستوفر كولومبس عام 1492م، وهو نفس العام الذي استولى فيه الأسبان والبرتغاليون على غرناطة آخر حصن للمسلمين في الأندلس.
وتشير بعض المصادر إلى أن هذا الاكتشاف تم بالاستعانة ببعض البحارة المسلمين وبالمعلومات الجغرافية التي توصل إليها المسلمون. فمن المعلوم أن الشريف الإدريسي صنف كتابه الهام (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) تحت رعاية الملك رجار الثاني في صقلية. وكان قد أشار فيه إلى كروية الأرض وإلى معلومات فلكية وجغرافية وظفت في عصر النهضة العلمية والكشوفات الجغرافية فيما بعد.
وعلى المستوى الداخلي الأوربي فقد ساعد التحرر السياسي والديني من قيود الكنيسة التي كانت متحالفة مع الملوك والإقطاع على التطور والنمو في التجارة والزراعة والصناعة ومجالات الابتكار العلمي كافة. وقد رفعت المصادرة والتأمين والضرائب الباهظة على النشاط التجاري والصناعي والزراعي، وأسست الشركات المساهمة وتم التنظيم الدقيق للعمل، وساهمت الدولة في تعضيد النشاط الفكري والعلمي فكان ما كان بعد هذا من الثورة الصناعية والانتقال من الخشب إلى الحديد ثم إلى الكهرباء ... وكان أن التحم العلم والثروة والسياسة في وحدة وتعاون، بعد أن كان كل منهما يسير في سياق مستقل.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري :" ويمكن القول إن الحداثة الغربية تشكل الإطار الذي يدور داخله الإنسان الغربي، وهي تقدم رؤية مادية ترى العالم باعتباره مادة. وقد عرَّفت هذه الرؤية الهدف من وجود الإنسان في الكون بأنه تعظيم المنفعة واللذة، وعرَّفت التقدم بأنه تصاعد معدلات الإنتاج والاستهلاك، مما ولد شراهة استهلاكية عند الإنسان الغربي ليس لها نظير في التاريخ.
وهذه الحداثة المادية لا تعني مجرد استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا، بل هي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلة عن القيم أو(كما يقولون بالإنجليزي value-free)
وفي عالم متجرد من القيمة تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم نسبية، وعندئذ يصعب الحكم على أي شيء، ويصبح من المستحيل التمييز بين الخير والشر وبين العدل والظلم، بل بين الجوهري والعرضي، وأخيراً بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والمادة.
وفي غياب قيم مطلقة يمكن الاحتكام إليها، تظهر آلية مادية واحدة ووحيدة لحل النزاعات والخلافات -التي هي من صميم الوجود الإنساني- ألا وهي القوة والإرادة.(4/325)
وفي هذا الإطار تمركز الغرب حول ذاته، وجعل من نفسه مرجعية نهائية ومعياراً يحكم به على كل الظواهر والحضارات، ونظر إلى العالم لا باعتباره كيانات مستقلة لكل منها طموحاته المشروعة وأهدافه المختلفة، وإنما باعتباره مادة استعمالية من حقه أن يوظفها لحسابه باعتباره الأقوى. وهذا هو جوهر الرؤية الاستهلاكية الإمبريالية."...........................الإسلام والغرب .
على أن أهم مصدر من مصادر الغنى الأوربي في هذه المرحلة هو النهب الاستعماري في القرن الخامس عشر على يد البرتغاليين والأسبان الذين ذهبوا للبحث عن الذهب في أفريقيا الغربية ثم انتقلوا منها إلى الهند، ثم تبعهم الهولنديون الذين نهبوا خيرات الدول الواقعة جنوب شرق آسيا مثل ماليزيا والفلبين وأندونوسيا، وجاء بعدهم الفرنسيون وما كان منهم من نهب في الفيتنام، وما كان منها من استحواذ على خيرات أفريقيا الشمالية والوسطى، فكان العنب من الجزائر والمنغنيز من المغرب وموريتانيا، والنفط من الغابون .. وأخيراً ورثت بريطانيا هذه الدول الاستعمارية وكانت أكبر دولة أوربية تستأثر بثروات الأمم وتستجلبها إلى بلادها، ولعل نهبها لدولة كبيرة مثل الهند خير دليل على حجم الأموال والثروات والطاقات التي أفادتها من هذه البلاد. وكان ما كان بعد هذا من نمو الصناعة الأوربية بفضل نمو رأس المال وتكديسه في أوربا، فكان السعي الحثيث ـ بعد هذا ـ إلى السيطرة على الأسواق خارج أوربا، فكان التنافس مرة أخرى على تصريف السلع والمنتجات في بلدان العالم الفقير في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وكان هذا الاستئثار والنهب والتدمير ذا وجهين:
وجه استجلاب المواد الأولية للصناعة من البلاد المستعمرة، ووجه تصدير هذه المواد بعد تصنيعها إلى هذه البلدان نفسها ..
لقد كانت مرحلة عتو واستكبار وشراهة أوربية على خيرات الشعوب واستعبادها. فما من دولة أو منطقة من مناطق العالم غير الأوربي إلا ولونت بلون الدولة الأوربية التي تستعمرها مثل أسبانيا، هولندا، بلجيكا، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، بل وروسيا القيصرية التي استطاعت أن تقضم المنطقة تلو المنطقة من الدولة العثمانية وإيران، وتدخل في التنافس على اقتسام العالم الإسلامي وتمزيقه ونهب خيراته، وتدمير حضارته، واستغلال إنسانه.
استوت أوربا كلها غربها وشرقها في هذا الهدف الاستعماري التدميري وتعاونت جميعها في تبادل الخبرات وتطوير وسائل التدمير والنهب والإضعاف.
لقد تكدست الثروات في أوربا، وساهمت في تعجيل وتبرة التقدم العلمي، ومدت الآلة العسكرية بمزيد من التطور، وساهمت في الإنفاق على الأساطيل التي صارت تجوب شرق العالم وغربه، ومن ثم إنفاق الأموال الطائلة على كل ما من شأنه إضعاف المسلمين، ووضعت خططاً شاملة لهذا التدمير والاستغلال والإضعاف. وكان أن أفادوا من تجاربهم السابقة الفاشلة.
فقد تعلموا أن الحرب والعداء المباشر ونفي الدين الإسلامي غير مجد، فلابد من تحسين صورة المحارب الأوربي والجيوش الأوربية الغازية للعالم الإسلامي على أن هدف الأوربيين هو التحضير وتحرير الشعوب من الجهل، أو من ((الاستعمار التركي)) كما صورته الدراسات الأوربية.
وقد تعلموا كذلك أنهم كانوا إبان الحروب الصليبية قد أقبلوا على بلاد لم يدرسوها جيداً، فلابد أن توضع الدراسات الشاملة المعمقة المتشعبة لديار الإسلام في هذه المرحلة من أجل الاختراق ومن ثم الاستيلاء، ولم ينسوا في هذا المجال أن يلتفتوا إلى مسألة التعاون مع الأقليات غير الإسلامية واستغلالها في خلق بؤر وجيوب مناصرة لهم داخل الجسم الإسلامي.
تعلموا هذا كله، واستغلوه أحسن استغلال، وكان الانسجام والتنسيق التام بين الأهداف والوسائل، فكان الاستشراق. وكان ثمة فرق بين ترجمة العلوم الإسلامية إلى اللاتينية أثناء الحروب الصليبية وبعدها، وبين دراسة العالم الإسلامي والتعرف على تراثه وخصائصه وطرق تفكيره وكنوزه ومواطن قوته وضعفه في هذه المرحلة.
فقد كانت الأولى من أجل إثراء الثقافة الأوربية ورفع مستواها إلى الدرجة التي أتاحت لها فعلاً تلك الخطوات الموفقة التي هدتها إلى حركة النهضة. أما المرحلة الاستعمارية فقد كان فيها هذا الانفتاح على عالم الإسلام ودراسته من أجل تعديل حضاري وسياسي في المنطقة الإسلامية نفسها بما يخدم أوربا ذاتها فكان لهذا الاستشراق أهداف متعددة، منها الدينية من أجل تشويه الإسلام والوقوف في وجه امتداده إلى أوربا، ومنها الاقتصادية لتسهيل اكتشاف ممرات البحار الإسلامية، والصحاري الشاسعة في البلاد الإسلامية، وإمداد يد العون للجيوش الاستعمارية، وكانت وسيلتهم في ذلك الرحّالة والمغامرين، فضلاً عن الأهداف السياسية الطامحة إلى وضع مخطط جديد للمنطقة بحيث تلحق كلياً بأوربا، وتصبح جزءاً من منظومتها الحضارية، بعد عمل الوسائل اللازمة لتفريغ العقل الإسلامي من موروثاته وخصائصه كلها.(4/326)
وكان قبل البدء بالهجوم العسكري والانقضاض على الجسم الإسلامي لابد من رسم خارطة لهذا الجسم. وكانت البداية جيشاً من نمط آخر، جيشاً من الرهبان والقناصل والمتطوعين ممن عرفوا شيئاً من العربية في أوربا، ساحوا في طول العالم الإسلامي وعرضه، يجمعون المخطوطات العربية وغير العربية في بلاد الإسلام شراءً وسرقة، شأنهم في ذلك شأن من سرقوا الآثار الثمينة في أهرامات مصر وغيرها من آثار المدن التاريخية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه من طنجا إلى جاكرتا، ثم يتبرعون بهذه الكنوز إلى الملوك أو الكنائس أو المؤسسات التي وظفتهم لهذا العمل الذي سيخدم الاستعمار العسكري ويمهد له.
ثم عضد هذا جيش آخر من المبشرين الذين توزعوا ما بين أفريقيا وآسيا بحماس منقطع النظير، إذ عاشوا في بيئات صحراوية أو استوائية صعبة، يحملهم على هذه التضحيات الأهداف الدينية المسيحية التي نذروا أنفسهم من أجلها. وكان هذا الجيش من المبشرين ينجح في أحيان كثيرة في تنصير الناس من غير المسلمين في أفريقيا وآسيا، وفي أحيان قليلة بين أوساط المسلمين وبين الأطفال والمعوزين والمرضى، لأنهم وجدوا في العلاج الطبي مدخلاً إلى قلوب الناس، إذ كان منهم الطبيب أو ممن له طرف من العلم الطبي. وكانت لديهم إمكانات مادية ضخمة توفرها لهم الكنائس ووزارات ما وراء البحار، وكانوا يستثمرون هذه الإمكانات لتنصير الناس الفقراء خاصة.
وكان هذا التبشير يتقدم ويكسب مواقع جديدة في دار الإسلام فكان يقوم عمله باستمرار بتوجيه من مراكز القرار في أوربا، وقد عقدت عدة مؤتمرات لدراسة ثمار التبشير في العالم الإسلامي، منها المؤتمر الذي ترأسه (زويمر) في القاهرة عام 1956. وقد استوحى أول شاتليه من هذا المؤتمر تعبير (الغارة على العالم الإسلامي) بكل ما تعنيه الغارة من استعداد للغزو بأسلحته ومعداته.
يقول د/ محمد السيد الجليند :ولقد اختلفت مواقف المستشرقين من الفكر الإسلامي وقضاياه تبعا لاختلاف أديانهم أو مذاهبهم الفكرية والسياسية، لأننا نجد بين صفوف المستشرقين اليهودي الحاقد على الإسلام وأهله، والمسيحي الراهب المبشر بدينه، والشيوعي الملحد الذي لا دين له، ولابد أن تختلف مواقف هؤلاء جميعا تبعا لانتمائهم الفكري والعقائدي، ولكن على سبيل العموم كان أسوأ هؤلاء جميعا هم المستشرقون اليهود، فمنهم من يتهم الإسلام بأنه دين فرضه محمد وأتباعه بقوة السيف والحروب.
وفيهم من ينكر نبوة محمد ويرى أن ما جاء به من تعاليم قرآنية أخذها عن أحبار اليهود وكهنة النصارى.
ومن المستشرقين من يتهم إله المسلمين بأنه متعال جبار ؛ بينما إله النصارى عطوف ودود متواضع ظهر للناس في صورة واحد منهم وهو عيسى بن مريم، ولا يكاد يخلو كتاب استشراقي يتصل بالإسلام ونبيه إلا وهو يقطر سما وحقدا على الإسلام والمسلمين، ويفصح بعض المستشرقين عن هذا الحقد المعلن في تعليق صريح له، على الحملات الصليبية فيقول: وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما تضمنه من قوانين الأخلاق الساذجة............. الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب
ولقد تعاون التبشير والاستشراق معاً في اختراق العالم الإسلامي، وعملا على تشويه الإسلام في الذهنية الأوربية، وإضعاف تأثيره بين أبنائه، كما استطاعا أن يكونا سلاحين ماضيين بيد الاستعمار مهد له القيام بمهمته العسكرية والسياسية والثقافية أحسن تمهيد، بل إنهما صنعا جيوباً دينية وفكرية موالية للاستعمار ساهمت في توطيد أركان حكمه فيما بعد.(4/327)
يقول محمد السيد الجليند: يعتبر الاستشراق من أهم الوسائل التي مهدت للاستعمار العسكري وغزو الشرق ثقافيا وعسكريا، والاستعمار الحديث يعتمد على المستشرقين بصورة فعالة في دراسة نفسية الشعوب، وعاداتها، وتقاليدها، وأفضل الرسائل للسيطرة عليها بأقل قدر ممكن من التكاليف، والذي يتابع أحداث القرن التاسع عشر والقرن العشرين (وهما أكثر القرون في النشاط الاستعماري) يعلم مدى الصلة القوية بين الاستعمار و الاستشراق، ومن هنا فإننا نجد في كثير من سفارات الدول الاستعمارية مستشرقين عاملين بها، ويقع على عاتق هؤلاء المستشرقين مهمة الاتصال بالعقول المفكرة في البلاد التي يريدون السيطرة عليها ثقافيا أو عسكريا وكذلك الاتصال بكبار العاملين في المناصب القيادية في مجالات الثقافة والإعلام والتعليم العام والجامعي ، ولا تنقصهم الوسائل المناسبة في محاولة احتواء هذه الشخصيات عن طريق الصداقة أو المشاركة في أعمال ثقافية أو تقديم الخبرة لهم، أو.. أو.. إلخ، وعن طريق هذه الشخصيات يستطيعون تنفيذ خططهم في غزو البلاد فكريا ثم عسكريا إذا اقتضى الأمر، وقد استطاع الاستعمار الحديث أن يغزو معظم البلاد الإسلامية فكريا وثقافيا عن هذا الطريق، كما استطاع أن ينفذ خططه في السيطرة على عقول كثير من المفكرين في بلادهم ليكونوا هم الأداة لتنفيذ برامج الاستعمار في هذه البلاد. وبلغ الأمر في ذلك مبلغا خطيرا، حتى إن كثيرا من المشتغلين بالثقافة جعلوا أنفسهم بمثابة وكلاء عن المستشرقين في توزيع أفكارهم والدعوة إلى تبنى آرائهم في الفكر الإسلامي وقضاياه، فهذا مندوب عن ماركس والشيوعية، وذاك مندوب عن الوضعية والوضعيين، وثالثهم مندوب الوجودية والوجوديين، وأخر يدعو إلى القول بتأنيس الإله أو تأليه الإنسان.... إلخ وامتلأت المؤسسات الثقافية في- مصر والشام وشمال أفريقيا بوكلاء معتمدين لتوزيع الفكر الاستشراقي على المؤسسات العربية، وشحذ الوجدان العربي بمفاهيمهم تحت مقولات مضللة كالتنوير والتقدمية و النهضوية..إلخ.
......................................... الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب
صور ة العالم الإسلامي في الفكر الغربي
وكيف تعامل معها الغرب؟!
بناءً على هذا الجهد المسبق الدؤوب الذي كان أبطاله من الرحالة والمكتشفين والتجار والمغامرين والمبشرين والمستشرقين، تكونت الصورة كاملة في الذهن الأوربي عن (الآخر)، وبدأ الهجوم والانقضاض على ديار الإسلام مشرقها ومغربها، ولم يكن هذا الهجوم من دولة واحدة، ولا في وقت واحد، بل من دول أوربية عدة، وفي أوقات متعددة. انطلقت أوربا الفتية تطوق دار الإسلام من شواطئ المغرب إلى شواطئ الهند وجاوة وسومطرة. كان ذاك ابتداءً من يوم تهاوت قلاع الإسلام في الأندلس فكان الأسبان والبرتغاليون مزهوين بروح الانتصار قد انطلقوا إلى شواطئ الأمريكتين، وإلى شواطئ أفريقيا الغربية والجنوبية ثم إلى جنوب شرقي آسيا، وكانوا يقتلون يدمرون الحواضر والمدن السياحية بمدافعهم ونيرانهم، ثم تجرأوا وأخذوا يتابعون المسلمين الفارين من مذابحهم في الأندلس، فاحتلوا كثيراً من الموانئ المغربية، ثم توجهوا صوب الموانئ الجزائرية، فاحتلوا تلمسان ووهران، حتى وصلوا إلى طرابلس الغرب، ونكلوا بأهلها أشد التنكيل، ثم لم يلبثوا أن تخلوا عنها لفرسان القديس يوحنا.
وكان الهولنديون يتسابقون والبرتغاليين كفرسي رهان في خوض بحار المسلمين، فقد أعقبوا البرتغاليين في احتلال الخليج، ثم نافسهم في السيطرة على جزر الفلبين وأندونيسيا وماليزيا وجنوب الهند، وكانت لهم شركاتهم التجارية مثل شركة الهند الشرقية التي كانت سابقة لمثيلتها الإنجليزية التي مهدت لاحتلال الهند، درة تاج المستعمرات البريطانية بعدئذ.
وكانت الغلبة النهائية لبريطانيا في الخليج في أواخر القرن السادس عشر بعد طرد الهولنديين منه، ثم دخلت فرنسا وألمانيا وغيرهما من الدول الأوربية بقوة في احتلال المناطق الإسلامية في آسيا وأفريقيا المنطقة تلو المنطقة، وكان هذا قبل الحرب العالمية الأولى والسيطرة الكاملة على العالم الإسلامي.
وقصة هذا الغزو العسكري طويلة ودامية، ونريد أن نشير فقط إلى بعض المواقع لنرصد الخطوط العامة لهذا التسابق الأوربي الشره لتدمير العالم الإسلامي. فبعد السيطرة البرتغالية والهولندية والبريطانية على بحار جنوب شرق آسيا واستثمار بلاد التوابل والعجائب، دخلت فرنسا بقوة لتحتل مصر بقيادة نابليون فيما سمي بالحملة الفرنسية عام 1798. وكثيراً ما يؤرخ لهذه الحملة على أنها فاتحة تنوير ونهضة لبلاد العرب، في حين إنها ـ كما يلاحظ كاتب عربي كبير مثل محمود محمد شاكر ـ جاءت لوأد النهضة التي كانت تتحفز على يد العلماء الكبار مثل الجبرتي والبغدادي والزبيدي، فكان أن نقلت كنوز القاهرة من المخطوطات خلال ثلاثة أعوام من الاحتلال إلى باريس.(4/328)
ثم تلا ذلك حملتها على الجزائر عام 1830، وما رافقها من مجازر ومذابح استمرت حتى عام 1847 عام استسلام بطل المقاومة الأمير عبد القادر الجزائري، وليظل الاحتلال مائة عام كاملة من المظالم والدمار للحرث والنسل والدين والحضارة، وكان عام 1882 حيث احتلت فرنسا بقوتها وجبروتها تونس، وأكملت أطباقها على الشمال الأفريقي عام 1916 حين فرضت الحماية على المغرب، ثم واصلت امتدادها في أفريقيا عبر الصحراء الكبرى لتحتل السنغال والنيجر ومالي وتشاد والكاميرون وغيرها، وكان ذلك بفضل قوتها العسكرية التي كونتها من النهب الاستعماري للعالم الإسلامي، وبفضل جيش الرحالة والمبشرين وموظفي وزارة ما وراء البحار.
وفي طرف آخر من العالم الإسلامي كانت بريطانيا تكون إمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس من الهند فأفغانستان ثم إيران والخليج، حتى إذا ما أعلنت الحرب العالمية الأولى كانت حصة الأسد لها من أملاك الدولة العثمانية، فكان أن احتلت العراق وفلسطين والجزيرة العربية. ومن المعلوم أن مصر وقعت بأيديهم منذ عام 1882م.
ولقد عبر عن هذا الحقد الصليبي على الإسلام قائدهم الجنرال اللنبي حين احتل القدس ووقف على قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً: ((اليوم انتهت الحروب الصليبية)).
ولقد أشرنا من قبل أنه ما من دولة أوربية إلا كانت تتمنى أن يكون لها نصيب من أشلاء العالم الإسلامي، فهذه إيطاليا بعد امتلاكها للحبشة تنظر يمنة ويسرة لتبتلع أقرب أرض إسلامية لها، ألا وهي ليبيا، وكان لها أن احتلتها عام 1911، وكان احتلالاً لم يعرف إلا الحرائق والتدمير والتهجير والإبادة، بحدودهم إلى ذلك حقد ربما فاق أحقاد الصليبيين الآخرين. هاك نشيدهم الذي كان يردده جندهم آنذاك، وهو من نظم شاعرهم العنصري رانزيو:
يا أماه ..
أتمي صلاتك، ولا تبكي، بل اضحكي وتأملي
ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني
وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً
لأبذل دمي لسحق الأمة الملعونة
ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان
وسأقاتل بكل قوتي لأمحو القرآن!!.
وهكذا تناوشوا قلب العالم الإسلامي وأطرافه، وعقدوا المؤتمرات الدولية لاقتسام الحصص، وكان المسلمون في هذه المؤتمرات كالأيتام على مائدة اللئام، فكان مؤتمر سايكس بيكو عام 1916 بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت الشعارات التي تفتقت عنها العبقرية الأوربية في المكر والدهاء والخبث، مثل شعار الحماية والوصاية وتقرير المصير، وكانت كلها حبراً على ورق، وكانت من قبيل ذر الرماد في عيون الأمم المغلوبة التي لا تستطيع تقرير مصيرها إلا إذا قرر السيد القوي تقرير هذا المصير، وقد قرر العبودية للأمم المغلوبة، حتى ولو دخلت دين النصرانية نفسه!! فهذه أفريقيا دخلت بعض دولها في النصرانية ودخل بعض الفقراء منها في هذا الدين، فهل وجدوا العزة والغنى والتقدم؟! أم أن الاستغلال والاقتصاد هو الدين الأول لأوربا قبل أي دين؟!!.
ولعل المرء يتصور أن الأوربيين نظروا إلى الشعوب المستضعفة التي وقعت في شراك احتلالهم، وخاصة أمة الإسلام على أنها شعوب قاصرة، لم تبلغ سن الرشد بعد، وهي ـ بهذا ـ بحاجة إلى حماية عم أو ولي حميم، وكان هذا العم أو الولي، أوربا بكنيستها واستعمارها ورؤسائها المكرة!!.
ولو رجعت إلى الفترة التي تم فيها ذلك الانتداب والحماية والوصاية، ونظرت إلى حنان ذلك الولي ومسؤوليته إزاء الطفل القاصر، كيف كان التدجين له على أن يكتسب لساناً جديداً وعادات غير عاداته، وديناً غير دينه، وكيف كانت عمليات التفسخ والمسخ والإلحاق بحضارة الوصي، ودينه. وكيف كان العمل قائماً على قدم وساق، ولكن بشكل غير مكشوف في بعض الأحيان، من أجل أن يكون العالم الإسلامي كله تابعاً للمركز الأوربي سياسياً واقتصادياً وحضارياً ..
وارجع ثانية إلى فترة الحماية والوصاية آنذاك وتأمل كيف كانت تدار الحكومة، أبالملك أو الرئيس، أم بالمستشار الإنجليزي الذي يحرك الملك والرئيس، كما تحرك اليد دمى (الأراجوز) في لعبة خيال الظل أو لعب الأطفال؟!!.
وكانت الوسائل الاستعمارية التي نادى بها الاستشراق في العالم الإسلامي تهدف كلها إلى إضعاف الروح الإسلامية بين الشعوب، وتعمل على بث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد ليسهل بعد ذلك السيطرة عليها، كما روج المستشرقون كذلك لبعض القضايا التي كان لها أخطر النتائج في ازدياد عوامل الفرقة بين صفوف المسلمين، فمن ذلك مثلا:
العمل على إحلال العاميات محل اللغة الفصحى في مصر وغيرها بدعوى أن الفصحى ليست قادرة على مسايرة الكشوف العلمية المتطورة، وكان أول من نادى بها في مصر المستشرق الألماني (ولهلم سبيتا) وكان يعمل مديرا لدار الكتب المصرية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ووضع كتابه (قواعد اللغة العربية العامية في مصر) سنة 1880 م مجد فيه اللغة القبطية في مصر، ودعا دول العالم العربي إلى الأخذ بالعاميات بدلا من الفصحى، ولا يخفى ما في هذه الدعوى من الخطر على الإسلام ولغة القرآن.
ثم تابع نفس القضية (اللورد دوفرين) في تقرير وضعه سنة 1882 م(4/329)
أعلن فيه أن العامية هي سبيل النهوض والتقدم في مصر، وجاء بعده المستشرق الألماني (كارل فولرس) مدير دار الكتب المصرية بعد " ولهلم" فوضع كتابه (اللهجة العامية الحديثة) دعا فيه إلى هجر الفصحى وحث العرب على استخدام الحروف اللاتينية بدلا من العربية، ثم تتبع القضية في مصر سلامة موسى النصراني في مطلع هذا القرن، ومازلنا نسمع صداها إلى الآن ونقرأ ذلك في كتابات بعض المشتغلين بالشئون الثقافية و التربوية.................................. الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب
ومهما يكن فقد وقع العالم الإسلامي في كماشة الصليبية الجديدة، وحكم حكماً عسكرياً مباشراً أحياناً وحكماً غير مباشر على أيدي أناس أمناء على مصالح الاستعمار في أحيان أخرى، إلى أن جاءت المرحلة التي أخذت شعوب العالم تنتقض على هذا الكابوس الاستعماري لتتحرر منه فكان للعقل الأوربي الذي قطع شوطاً بعيداً في ميادين العلم أن يوظف أدوات للعلم خارج المعامل والمختبرات حيث ميدان السياسة والعلاقات بين الأمم، فكانت له لعب وأساليب جديدة في التعامل مع الثورات ومع الشعوب المطالبة بالاستقلال، فصار يأخذ باليسار ما يعطيه باليمين بحيث أفرغ بعض الاستقلالات من محتواها، وعاد الاستعمار من جديد ولكن بأثواب جديدة، وبقيت الأغلال ترسف من جديد بالرقاب، ولكنها ربما تكون أغلالاً من ذهب!! كي يُمنّي العبد أو الأسير نفسه بما يرى، وأنى له ذلك التمني!!.
على أنه من الضروري الإشارة إلى ردود الفعل من لدن إنسان المنطقة المسلم على وجه الخصوص، متمثلاً بقادته وعلمائه والمثقفين الأحرار منه. فلم تكن جيوش الاستعمار لتجد أرضاً خالية دون شعوب أو حضارات، بل ودت أمة كانت ـ في الحقبة السابقة من الزمن ـ معلمة للعالم ومنه أوربا نفسها، وكانت صاحبة حضارة تميزت بعقيدة ربانية وعلم نافع وتعامل مع الشعوب رحيم رؤوف، ولكن عوادي الزمن ـ ولأسباب كثيرة ـ جعلتها تضعف وتتخلى عن وظيفتها القيادية. ولكنها لم تستكن لجحافل الغزاة بل كانت تقاوم على قلة من السلاح وعدم تكافؤ في القوة. فكانت تقاوم الروس كما تقاوم الإنجليز والفرنسيين على السواء فكان أبطال المقاومة من أمثال الشيخ شامل في المناطق الإسلامية التي احتلها الروس، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وعبد القادر الجزائري في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا، وأحمد عرابي في مصر، ومحمد تقي الشيرازي، قائد ثورة العشرين في العراق، بالإضافة إلى أبطال المقاومة الآخرين في إيران، وفي الشام، وفي السودان.
ومثلما كان الأمر على مستوى المقاومة العسكرية، كانت هناك المقاومة الثقافية التي حاولت أن تحافظ على أصالة الأمة وحضارتها، وكان لهذا الميدان رجاله من العلماء والساسة والأدباء، ولكن كفة المحتل بما لديه من قوة وإغراء وسيطرة على مقاليد الحكم جعل الميزان يميل لصالح كفة المتغربين والراضين بـ (نعمة) الاحتلال، والداعين إلى الأخذ بحضارته، خيرها وشرها، حلوها ومرها، كما جاء على لسان واحد من دعاة التغريب.
.................................................. الثقافة الإسلامية
ما مستقبل العلاقة مع الغرب؟!
وهل سينتهي الغرب يوماً عن ظلمه؟!
كيف سيكون مشهد العلاقة بين الشرق والغرب، هل ستستمر الحدود الدموية التي رسمتها الأطماع التاريخية بين شطري العالم، أم سينصت الإنسان لصوت العقل ويدرك أن عصر الحروب المعمد بالدم ينبغي أن ينتهي ويحل محله عصر الحوار والتفاهم؟!.
من المؤسف أن فلاسفة الموت يجدون في الأخبار كل يوم ما يذكي نظريتهم عن صدام الحضارات، حيث يؤكدون أن الإسلام والحوار سخافة لا وجود لها في التأريخ وعلى الإنسان أن يمضي في خياره المجنون إلى المواجهة بالدم.
كانت فكرة "صراع الحضارات" التي أطلقها المستشرق اليهودي برنارد لويس، وقام بتأصيلها والترويج لها عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنجتون ابتداء من عام 1993م، جاهزة لتسويغ وتبرير المواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي، ذلك أن هنتنجتون بعد أن ميز بين سبع حضارات في العالم (الغربية، الأمريكية اللاتينية الأرثوذوكسية، الإسلامية، الكونفوشيوسية، الهندوسية، اليابانية، ورشح الأفريقية كحضارة ثامنة محتملة)- فإنه دعا إلى الاحتشاد في مواجهة الحضارة الإسلامية بوجه أخص، في الأغلب بسبب أنها أكثر استعصاء على الاحتواء من أي حضارة أخرى على وجه الأرض، من ثم فإن رسالته التي تعبر عن رأي مدرسة كاملة هي التأكيد على أن الصراع ليس محله المصالح فحسب ولكنه أصبح بعد انتهاء الحرب الباردة صراع ثقافات وأديان.
وكان كتاب "البرابرة والحضارة في العلاقات الدولية"، لمؤلفه مارك سالز حلقة في هذا الاتجاه، إذ قسم العالم إلى متحضرين يمثلون النموذج واجب الاحتذاء، وهؤلاء هم الغربيون أساساً، وبرابرة متخلفين يقفون على الشاطئ الآخر المواجه لهم، وهم مصدر العنف والفوضى في العالم (وهم المسلمون بالطبع ) .
هل تعلم الإنسان من الماضي أن منطق الصدام الحضاري معناه استمرار الحياة في الجنون، عبر جدلية البناء والتدمير العابثة الخائنة؟!!!.(4/330)
وأن لغة القوة مهما كانت صارخة وقاهرة هي منطق مترنح في النهاية وأن دورة التأريخ لن تتوقف، وتلك الأيام نداولها بين الناس والعاقبة للمتقين.
إننا لا نبالغ إذا قلنا أنه ما من شيء في الإسلام إلا وتعرض للتجريح من الله سبحانه وتعالى إلى شخص النبي عليه الصلاة والسلام إلى القرآن الكريم، الذي جرى التشكيك في مصدره وصياغته، فضلاً عن التنديد بقيمه ومعانيه " خصوصاً الجهاد" وذلك بالإضافة إلى الهجوم الحاد على الشريعة، وتسفيه تعاليمها ومقاصدها.
وإذا كان ذلك حظ الإسلام كدين، فإن حظوظ المسلمين لم يكن أفضل، حيث تعرضوا لحملة شرسة استهدفت اغتيالهم معنوياً،والتي نجحت إلى حد كبير في تنفير الغربيين من الإسلام والمسلمين، الأمر الذي أدى إلى تكرار وقوع حوادث الاعتداء عليهم وعلى بيوتهم على نحو لافت للنظر، رصدته المؤسسات الإسلامية المعنية وفضحته.
قرأت وصفاً لتلك الأجواء في مقالة نشرتها مجلة "المنار الجديد" للدكتور محمدي حامد الأحمدي رئيس مجلس أمناء التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية قال فيه أن الإعلام الأمريكي صار يربط بسخرية لافتة بين مفردات مثل قرآن وباكستان وأفغانستان، وجهاد وعرب وإسلام وشرق أوسط وفلسطين وطالبان، في خلطة من مجموعة من العبارات المكروهة والمستبعدة، التي أصبحت تكرر بطريقة تثير القرف لدى السامع وتعرض غالباً مرتبطة بصورة لنساء أفغانيات يضربن رجلاً في الشارع، أو بصورة زانية يقام عليها الحد في ملعب في كابل، أو قصة الحكم بإعدام زانية أخرى في نيجيريا، أو بالمباني المهدمة في نيويورك، أو دماء يهودية في الشارع أو مطعم يهودي أو سيارة مفجرة، ولا يتردد كبير المذيعين في "سي ان . ان" لاري كينج أن يقول أن حربنا هذه مع سكان الكهوف، وغالباً تقدم في سياق يتجاوز أفغانستان ليشمل العرب والمسلمين في العالم أجمع.
إذن فصورة الإسلام والمسلمين في الوجدان الغربي سلبية بوجه عام منذ الحروب الصليبية (كما سبق أن و بينا )، التي بلغت جهود التنفير من الإسلام ذروتها، وكان ذلك التنفير جزءاً من حملة التعبئة المضادة التي استهدفت استنفار شعوب أوروبا وتحريضها للانضمام إلى الجيوش التي اتجهت نحو القدس لتخليص مهد المسيح من أيدي المسلمين"البرابرة" و"الأشرار".
فالبابا أوربان الثاني الذي فجر الحروب الصليبية قال في مجمع كلير مونت في سنة 1095: ' إن إرادة الرب تحتم على المسيحيين تخليص بيت المقدس من أيدي إمبراطورية الشيطان '. وعندها خر الكهنة الحاضرون راكعين تحت قدمي البابا !
والبارون دي كارافو يقول: ' أعتقد أن علينا أن نعمل جاهدين على تمزيق العالم الإسلامي وتحطيم وحدته الروحية مستخدمين من أجل هذه الغاية الانقسامات السياسية والعرقية .. دعونا نمزق الإسلام بل نستخدم من أجل ذلك الفرق المنشقة والطرق الصوفية .. وذلك لكي نضعف الإسلام ، لنجعله عاجزًا إلى الأبد عن صحوة كبرى ' ...............................................................مروان بحيري – الدراسات الاستعمارية في الإحياء الإسلامي في القرن 19 .
ويقول يوجين روستو اليهودي:' إن الحوار بين المسيحية والإسلام كان صراعًا محتدمًا على الدوام ، ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب أي خضعت الحضارة الإسلامية للحضارة الغربية والتراث الإسلامي للتراث المسيحي وتركت هذه آثارها البعيدة في المجتمعات الإسلامية' ...........................نقلا عن عبد الوراث سعيد ' أمتنا والنظام العالمي الجديد ' ..
ويقول مورو بيرجر في كتابه ' العالم العربي ': ' لقد ثبت تاريخيًا أن قوة العرب تعني قوة الإسلام فليدمروا بتدميرهم الإسلام ' .........................................................................................جلال العالم – قادة الغرب يقولون – المختار الإسلامي .
ويضيف مورو بيرجر: ' إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتجًا عن وجود البترول بغزارة عند العرب ، بل بسبب الإسلام ، ويجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب ، لأن قوة العرب تتصاحب دائمًا مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره' ....................................................................محمد محمد الدهان – قوى الشر المتحالفة – دار الوفاء .
ويقول ج . سيمون: ' إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السمر وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية 'د . عمر فروخ التبشير والاستعمار
ويقول سالازار دكتاتور البرتغال السابق: ' إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم ' ! ولما سأله أحد الصحفيين: ولكن المسلمين مشغولون بخلافاتهم عنا .. أجابه: ' أخشى أن يخرج من بينهم من يوجه خلافهم إلينا ] جلال العالم مصدر سابق.(4/331)
ويقول ريتشارد هرير دكمجيان: ' إن قلة فقط خارج نطاق العالم الإسلامي كانت قادرة على توقع انبعًاث إسلامي في البيئة المعًاصرة وإن ضعف البصيرة في مجال التصور الذي أحدثته المادية الغربية والماركسية قد أعمى بقوة كل العلماء ورجال الدين الذين مالوا إلى استبعًاد قوة الإسلام أو التقليل من شأنها ' ريتشارد هرير دكمجيان – الأصولية في العالم العربي – ترجمة عبد الوارث سعيد – دار الوفاء .
ويحذر المفكر الألماني باول شمتز قائلاً : ' سيعيد التاريخ نفسه مبتدئا من الشرق ، عودا على بدء من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية الإسلامية في الصدر الأول للإسلام وستظهر هذه القوة التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته العسكرية ، وستثبت هذه القوة وجودها ، إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها والاستفادة منها وستقلب موازين القوى لأنها قائمة على أسس لا تتوافر في غيرها من تيارات القوى العالمية ' .....................................................................باول شمنز – نقلا عن عبد الوارث سعيد – أمتنا والنظام العالمي الجديد .
ويقول المفكر الإنجليزي هيلد بيلوك: ' لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين وتتماسك أطرافها تماسكًا قويًا ، وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب بل ستكون أيضًا خطرًًًا على أعدائه '.
هذه الخلفية تركت بصماتها على ثقافة المواطن الغربي، وانعكست على مناهج التعليم ومختلف المراجع الثقافية وساعدت على تشكيل إدراك غربي لا يكن وداً للإسلام والمسلمين. ومن ثم كان ذلك الإدراك مستعداً لاستقبال البث الإعلامي الذي كان أغلبه معادياً للاثنين، سواء بسبب التأثير الصهيوني أو بتأثير من بعض العناصر المتعصبة التي تعاملت باستعلاء وازدراء مع العرب والمسلمين.
يقول الكاتبان جراهام فوللر، وأيان ليسر : لم يكن وصول الجيوش المسيحية من أوروبا إلى الأراضي المقدسة في فلسطين لخوض حرب صليبية سوى بداية لحملة أوروبية عامة طويلة المدى لاستعادة الأراضي الخاضعة لسيطرة المسلمين في أسبانيا وصقلية والمشرق. واستطاعت الجيوش الصليبية على مدى مئة عام أن تستولي على كل الأراضي المطلة على شرق المتوسط تقريبًا ابتداء من الحدود التركية إلى الحدود المصرية. وبحلول عام 1187م استطاعت الجيوش الإسلامية التي جاء رد فعلها بطيئًا أن تقضي في نهاية المطاف على المملكة المسيحية في بيت المقدس وأن تستعيد المنطقة للسيطرة الإسلامية.
ولكن الحروب الصليبية أصبحت منذ ذلك الحين حدثًا له آثاره الوجدانية العميقة عند المسلمين ولم يعد يشمل فقط الغزو المادي للجيوش الغربية وإنما يمثل أيضًا قيام دول مسيحية فوق الأراضي الإسلامية أيضًا وباتت هذه الأحداث بمثابة المقدمات الأولى للاستعمار والإمبريالية الغربية في العصر الحديث وارتبط بها أيضًا تأسيس دولة يهودية في فلسطين عام 1948.
وكذلك فإنه لا تزال كلمة أندلس تستثير في عقول المسلمين عظمة وأمجاد الماضي مثلما تثير مشاعر الحزن العميق إزاء ضياع مجد هو أعظم أمجاد الإسلام إشراقا في العصر الوسيط خصوصا أن المجتمعات الإسلامية الكبيرة التي أجبرت أن تحيا في ظل حكم مسيحي، عاشت حياة من المعاناة هي على النقيض تماما من الحياة التي عاشها المسيحيون على امتداد القرون في ظل الحكم الإسلامي. ........من كتاب [الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة] الصادر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بواشنطن وقام بترجمته مركز الأهرام للترجمة والنشر
الصحوة الإسلامية المباركة
تقول هانتر: " فوجئ الغرب بهذه الظاهرة العارمة ظاهرة الصحوة الإسلامية، وراح يحللها بوسائله وتصوراته ليكتشف نقاط القوة والضعف فيها ومن ثم يعمل على مواجهتها " إذن من المهم أن تحدد الأسباب الأساسية للظاهرة الإسلامية وأبعادها المعادية للغرب وان تقوم في شكل صحيح وان يتم تبني السياسات الملائمة للتعامل معه...... مستقبل الإسلام والغرب لشيرين هانتر ص 99.
إن الصحوة الإسلامية في الأساس جاءت لترد على (التخلف، والتمزق، والعلمانية)، ولتحقق العودة إلى الإسلام بكل مقتضياته. فالإسلام دين التقدم، يدعو إلى العلم بشتى، أنواعه، ويطلب من الأمة الإسلامية أن تحقق كل عناصر القوة، وان تبذل أقصى جهدها لتكون خير الأمم، ولتكون في الطليعة الحضارية للناس والتخلف حالة غير طبيعية مطلقاً.
والإسلام دين الوحدة الإسلامية، والتخطيط الإسلامي للوحدة واضح تماماً، فالقانون واحد، والقائد واحد، والعواطف واحدة والشعارات والعبادات واحدة، وثروات الأمة هي ملك كل الأمة وقد جعلت لها قواماً وقياماً، وحقوق المسلمين جميعاً متكافئة لا بل قد يشترك كل المسلمين في بعض أنواع الملكية، والتكافل والتوازن في مستوى المعيشة شاملان لكل المسلمين، والمسلمون جميعاً مسؤولون عن مجموع الأمة وحدودها مسؤولية مشتركة.(4/332)
أما الحالة الراهنة، والتبريرات التي تساق لها فهي كلها استثناءات يجب أن يعمل الجميع على حذفها في النهاية والعودة إلى واقع الإسلام. ولا نجد عالماً أو حتى مجرد مطلع على حقيقة الإسلام يجادل في هذه الحقيقة الواضحة.
والإسلام دين الحياة فلا يمكن أن ينسجم مع العلمنة بأي تعريف جاءت، وأية صفة اتخذت ايجابية أم سلبية أما الاستناد إلى التجارب القائمة فهو مجرد خداع لأنها تجارب مفروضة على العالم الإسلامي ومتنافية مع حقيقة الإسلام..................................... جزء من مقال للدكتور عبد الله التركي.
وفي ظل هذا الدين الخاتم يمكن أن يلتقي البشر جميعاً على عبادة الله وحده، واتباع القيم الخلقية النبيلة في التعامل فيما بينهم، بما يحقق العدل ويحفظ مصالح الناس.
إن الصحوة الإسلامية إذن تدعو للتفوق الإسلامي الحضاري فلا ينبغي أن يثير ذلك حفيظة الآخرين إن كانوا يملكون الروح الرياضية الحضارية، وأنى لهذه الروح أن تسود.
أما عن عوامل هذه الصحوة فإننا نتصور هذه العوامل كما يلي:
أولاً: طاقات الإسلام الذاتية التي لا تفتأ تمد المسلمين بدوافع التغيير، وتشدد على الحفاظ على الهوية الحضارية بعد أن أعطتها معالمها الشاملة ، بل وتدفع دائما على الحفاظ على التفوق أو استعادته إذا فقد.
ثانياً: اشتداد الحملة الأوربية على العالم الإسلامي بحيث استباح الغرب كل الثروات، واستعمر معظم البلاد، واعتدى على الهوية الثقافية، بل راح يهاجم المكونات العقائدية والأخلاقية، وينشر الرذائل، ويمزق النسيج الاجتماعي من خلال عملائه الحقيقيين أو الثقافيين، ويزرع الكيان الصهيوني الغاصب في قلب العالم الإسلامي. ولا ريب أن حملة من هذا القبيل سوف تواجه برد فعلٍ قوي من أمة يبقى الإسلام فيها حياً ، رغم عمليات القضاء عليه.
ولعل الغرب شعر بهذه الحقيقة حين حاول التنفيس والاستعاضة عن ذلك بإعطاء الاستقلال الصوري لبعض المناطق الإسلامية. ولكن هذا العمل بنفسه وفر فرصةً لنمو الصحوة الإسلامية بشكل واسع و طرح الإحساس الإسلامي بالإسلام الشمولي في الستينات واتساعه بشكل مرعب للغرب في السبعينات والثمانيات.
ثالثاً: فشل كل الحلول والأطروحات البديلة للمقاومة والتغيير، لأنها كانت تحمل في داخلها عناصر فشلها. لقد فشلت الأطروحة القومية الضيقة رغم التطبيل والتزمير، ورغم نزولها المبكر إلى الساحة وتحقيقها الكثير من الأهداف الغربية ومسحها الكثير من السمات الإسلامية في تركيا وغيرها. ذلك لأنها لا تنسجم مع الطبيعة الإسلامية التي تتجاوز القوميات.
كما فشلت الاشتراكية لأنها اعتمدت على أسس الحادية رغم تمتعها ببعض الشعارات المنسجمة مع بعض التعاليم الإسلامية كالعدالة الاجتماعية والدفاع عن المحرومين ومعاداة الاستعمار.
وفشل الشكل التركيبي (الاشتراكي القومي) أيضا لأنه أيضا تركيب وهمي لا ينسجم مع الحس الإسلامي ولا يعبر عن أية إضافة معرفية.
رابعاً: ظهور شخصيات دعوية كبرى كان لها الأثر المتفاوت في إيجاد هذه الصحوة أو مقدماتها أو ترشيدها أو إعطائها طاقات حماسية وفكرية أو منحها الثقة بنفسها والأمل الواعد بمستقبلها الحتمي، إضافة للوعود الإلهية الحتمية بانتصار المؤمنين، والمستضعفين، وحلول العدل الشامل.
خامساً: ويجب أن لا ننسى دور التطورات والحوادث الكبرى في إذكاء هذه الصحوة من قبيل:
1. تنامي مستوى وسائل الاتصال ، والحركة المعلوماتية ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة
2. .ارتفاع مستوى التعليم الإسلامي.
3. تطور أساليب الدعوة إلى الإسلام.
4. توفر بعض أجواء الحرية في العالم الإسلامي.
5. اشتداد حركة مقارعة الاستعمار.
6. قيام المؤسسات الدولية الإنسانية المدافعة عن حقوق الإنسان والداعية لتنظيم العلاقات الدولية على أسس إنسانية.
7. حدوث بعض الحوادث المروعة كإحراق المسجد الأقصى أو هزيمة عام 67.
8. انتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفيتي.
9. انهيار الاتحاد السوفيتي وتحرر الدول الإسلامية.
وغير ذلك من التطورات التي ساهمت في اتساع الصحوة الإسلامية ونشر مفاهيمها ودعوتها في رفض التخلف والتمزق والعلمنة، والعودة إلى الحل الإسلامي الذي لا بديل له.
ومن الجدير بالإشارة هنا أن الغرب لم يأل جهداً في إجهاض الصحوة، ومقابلتها ، وإلهائها واتهامها بشتى التهم من قبيل (التخلف والرجعية، والتطرف والأصولية، والعنف والإرهاب،) ولم يعدم من قدم له الذرائع من المسلمين ممن عرض فكراً رجعياً، أو سلك مسلكاً متطرفاً، أو عمل عملاً إرهابيا،. ولكن الواضح تماماً أن هؤلاء لا يمثلون الاتجاه الإسلامي العام فضلاً عن أن يكون سلوكهم ممثلاً للصحوة الإسلامية أو معبراً عن روح الإسلام وتعاليمه).
ولذا نلمح في الأفق السمات التالية:
أولاً: اتساع حركة الصحوة الإسلامية وتجذرها بحيث لا تنفع معها أساليب الحذف أو التحريف.(4/333)
وإذا أردنا أن نستدل لهذا التوقع ، وتجاوزنا المسألة العقدية التي نؤمن بها دون أي شك، فانا نشير إلى مظاهر الصحوة التي تعم العالم الإسلامي من ارتفاع مستوى الأمل لدى جماهيرنا الإسلامية، وانتشار التقاليد الإسلامية كالحجاب وأنماط التعاون والعبادات انتشارا واسعاً، واتساع حركة المطالبة بتطبيق الشريعة في كل الحياة ، وتشكل المنظمات الإسلامية ودخولها إلى الساحة السياسية والاجتماعية بكل قوة، وانهزام الفكرة العلمانية مرحلة بعد مرحلة ، وزوال الأمل بغير الإسلام على الساحة الفلسطينية وأمثالها من ساحات المقاومة ، واتجاه النخبة والجماهير نحو ثقافة الوحدة والتقريب، والسعي الحثيث على كل المستويات لنبذ التخلف، وغير ذلك.
ثانياً: اتجاه الدول الإسلامية نحو التعاون الأكبر، والعمل على وضع آليات جديدة لتفعيل المؤسسات الشمولية وإحساسها جميعاً بالخطر المشترك.
ولا نريد أن نكون متفائلين أكثر من اللزوم ولكننا ندرك هذه الرغبة لدى القسم الأكبر، ونرجو أن تتحقق خصوصاً وأن المسألة لم تعد بيد الحكومات وحدها فالعصر عصر الجماهير.
ثالثاً: ارتفاع مستوى أهمية العالم الإسلامي في مختلف المجالات. صحيح أنه أحيانا لا يدرك هذه الأهمية ولكنها حقيقة قائمة لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها فلدى هذه الأمة.: الكم البشري الهائل، والقدرات الإستراتيجية الفريدة والمواقع الجغرافية المتحكمة، والعقول العلمية المتقدمة، وفوق كل ذلك لديها الطاقة الحرارية والحضارية الإسلامية التي لا تنضب
الحضارة المادية إلى زوال
العقل الغربي بعد الذي بلغه من شأو وعلو قي (الجوانب المادية)، يكتسب ثقة في النفس مبالغاً فيها، ثم وهو يرى تخلف المسلمين وتدهور أوضاعهم ـ في الجوانب المادية طبعاً ـ ، أقتنع بأنه الأرقى والأرفع والأكمل، وأن حضارته هي "نهاية التأريخ" ولا تقبل منافسة من أي أحد ، و بسبب ذلك فإن العقل الغربي وهو في مكانته العملية تلك أصبح رافضاً لفكرة الندية مع الحضارات الأخرى، ثم أنه لم يعد قادراً على استساغة فكرة أن مجتمعاً آخر –متخلفاً مثلنا – يمكن أن يكون عصياً على الاحتواء أو رافضاً للنموذج الغربي، وهذه مشكلة لم يستطع كثيرون من الغربيين استيعابها حتى الآن.
ويلخص الأستاذ منير شفيق في كتابه: ' الإسلام في معركة الحضارة ' نقاط الضعف في الحضارة الغربية كالتالي:
1 – التطور العام غير المتوازن بالنسبة إلى مختلف المجالات ، فقد تكثف في المجالات المادية واختل على مستوى العلاقات الإنسانية والأخلاقية مما يؤدي في النهاية إلى الإسراع بسقوطها لأن حالها يصبح كحال الذي يقف على قدم واحدة ، فمهما بلغت قدمه من القوة إلا أنها ضعيفة حين يتعرض الجسد كله إلى هزة قوية .
2 – اتسعت الهوة بين أصحاب تلك الحضارة والغالبية العظمى من شعوب العالم مما دفع بها إلى مواجهة قوى لا قبل لها بها ، فالأقلية الظالمة مهما قويت وتمكنت تظل ضعيفة أمام قوة الأغلبية المظلومة صاحبة الحق ، فالتضاد مع حقوق غالبية الشعوب ومصالحها يؤدي إلى انهيار تلك الحضارة مهما طال الزمن .
3 – التآكل الداخلي يشكل سمة أساسية مميزة لمجتمعات الحضارة الإفرنجية سواء أكان ذلك على مستوى المجتمع منفردًا أم على مستوى صراع تلك المجتمعات فيما بينها ، إن الصراع على امتلاك القوة والسيطرة والتنازع لامتلاك الثروة يؤديان بالإسراع بعملية التآكل الداخلي .
4 – إن إطلاق الغرائز والنزعات البهيمية وانتشار الفساد والانحلال قد يصل في تلك الحضارة إلى ضعف داخلي شديد يجعلها غير قادرة حتى على الإفادة من قوتها المادية ، مما قد يكرر صورة الجندي الروماني الذي ربط بالسلاسل لكي لا يفر في معركة اليرموك ، على الرغم من الكثرة العددية للرومان في تلك المعركة ، وقوة دروعهم ، وطول رماحهم ومضاء سيوفهم و رفاهة خيولهم .
ثم يستطرد قائلاً : وقد يقول قائل إن الحضارة الغربية يمكن أن تعالج نقاط ضعفها أو تتخلص منها وبالتالي تجدد نفسها ، وهذا القول يعكس جهل أصحابه بطبيعة وجوهر الحضارة الغربية وطبيعة وجوهر نقاط الضعف فيها ، لأن نقاط الضعف هنا هي من صميم وجوهر الحضارة الغربية وليس عارضًا عليها ولا ناشئا من عوامل جانبية أو إهمال من القواد أو غيرها أنها تنبع من داخلها ومن صميمها بطريقة تلقائية وحتمية بحيث انه من المستحيل عليها معًالجتها أو التخلص منها ، وإذا حاول أهل الحضارة الغربية التخلص من تلك العيوب فإنهم سيتخلصون من الحضارة الغربية ذاتها .(4/334)
فمثلاً إن السعي لتحقيق أقصى درجات القوة العنيفة المادية من أجل السيطرة على العالم ونهب ثرواته بلا حدود يجعل تلك الحضارة تدوس على كل القيم والمعايير التي تتعارض مع هذا السعي ، أو بتعبير آخر إن ذلك السعي يسخر كل شيء من أجله ، وهذا في حد ذاته يسمح بالتفوق في مجالات محدودة ، وهذه نقطة قوة أساسية في الحضارة الغربية ، وهي أيضًا سبب انهيارها المتوقع في مجالات أخرى ، المجالات الأخلاقية والنفسية والإنسانية واندلاع أشد الصراعات الداخلية والخارجية مما يشكل بدوره نقطة الضعف المركزية في هذه الحضارة ، إن نقطتي القوة والضعف المتولدتين عن تلك السمة الأساسية في الحضارة الغربية سيصلان في نهاية المطاف إلى تدميرها إن لم يعرضا مستقبل الإنسانية كلها إلى خطر قريب من شبه الإبادة الجماعية '
ومثل آخر: إنه إذا حاول نظام حكم عنصري التخلص من عنصريته ، فإنه في الحقيقة يتخلص من نفسه ، لأن العنصرية هنا هي التي شيدت بناءه وهي التي تسمح له بالاستمرار ، فلولا النهب والاسترقاق والفصل العنصري لما كان هذا النظام العنصري قد نشأ ولما كان حقق لنفسه هذا الرخاء ولما استطاع أن يستمر لحظة بعد التخلص من العنصرية
وبناء على ذلك يرى أصحاب رأي الصدام الحتمي أن المواجهة ستكون مواجهة شاملة ..
إذن فالمعركة برأيهم حتمية ، ولا سبيل هناك إلا المواجهة ، أو الموت ، وحتى المواجهة مع الهزيمة ربما تعطينا الفرصة في الصمود والحفاظ على البذور صالحة تحت التربة لتعود من جديد لتثمر في مرحلة أخرى ، ولكن الانصياع والخضوع لا يعني فقط خسائر هائلة في الحاضر بل يعني تدمير المستقبل ، لأنها تطال البذور الكامنة تحت التربة .
يقول الأستاذ محمد مورو : واتجاه آخر يقول بأن الحضارات تتفاعل مع بعضها البعض أو تتزاوج وإن الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية أي أنها استفادت من كل الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة الإنسانية كلها ، وهذا الرأي خطير وبراق ولكنه خطأ ، ولكي نعرف انه خطأ ينبغي علينا أن نفرق بين أمرين أحدهما التفاعل والتزاوج والآخر التعاون فالتفاعل والتزاوج لا يتم إلا بين حضارات أو إبداعات حضارية من عًائلة واحدة مثل الحضارة الرومانية واليونانية والإغريقية والجرمانية والسكسونية وهكذا .. وهذا التفاعل والتزاوج لا يتم بين حضارات من عًائلات مختلفة ، أي مختلفة نوعًا وكميًا ، فلا يمكن مثلاً الحديث عن تمازج وتزاوج حضاري بين حضارة تقوم على الوثنية كالحضارة الغربية وأخرى تقوم على التوحيد كالحضارة الإسلامية ، والأمر هنا أشبه بعمليات التطعيم التي تتم في النباتات ، فلابد لكي تنجح عملية التطعيم هذه أن تكون بين أنواع معينة من النباتات تنتمي إلى عًائلة واحدة ، أو عائلات متقاربة ، ولكن هذا التطعيم يفشل تمامًا إذا ما تم بين شجرتين لا تنتميان إلى عائلة أو عًائلات نباتية متقاربة .
ثم يخلص إلى نتيجة مفادها : إن إمكانية التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية أمر مستحيل ، لأن أي دراسة متعمقة للأساسيات التي قامت عليها كل من عائلة الحضارة الإسلامية وعًائلة الحضارة الأوروبية لا تترك مجالا للشك في أن لكل منهما طريقًا مختلفًا وسياقًا خاصًا ، لهذا يهدف الحديث عن التواصل الحضاري أو التفاعل الحضاري أو التزاوج الحضاري إلى الإلحاق والتبعية الحضارية باعتباره جزءًا أساسيًا في عملية الإلحاق الاقتصادي والثقافي والسياسي والسيطرة العسكرية .
ثم يستطرد قائلاً : والداعون إلى التزاوج والتفاعل الحضاريين مع الحضارة الغربية ينسون الظروف المشبوهة التي ظهرت فيها مثل هذه الدعوة ، فهذا الموضوع لم يطرق بعيدًا عن غايات ذات علاقة بالصراع الدائر بين القوى الاستعمارية والشعوب المقهورة والمستضعفة ، فعندما طرحوا منظورًا أوروبيًا لهذا الموضوع كانوا في أغلبهم يرمون إلى سيادة الحضارة الأوروبية على العالم بكل ما تحمل من فلسفات وقيم ومعايير ومفاهيم ، وذلك من خلال الترويج للحضارة الأوروبية وضرب الحضارات الأخرى ، أو طمسها ، أو الإنقاص من قدرها أو خلطها بما يلغيها ، وهو أمر يؤدي بالشعوب إلى فقدان هويتها ومقومات شخصيتها الأساسية ، وإلى ضرب عوامل وجودها المادي والثقافي المستقل ، فتصبح مكشوفة أمام طغيان المستعمرين ثم تتحول إلى تابع ذليل تلتقط الفتات ، وتقف على العتبات ، دون السماح لها بالدخول إلى صدر البيت ...................... الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟!(4/335)
فالمعركة هنا معركة حضارية شاملة ، أي سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وثقافية ، والغرب يستخدم معنا كل الوسائل السياسية والعسكرية ، والاقتصادية والاجتماعية ، والثقافية أيضًا ، وما دام الغرب يشن علينا حربًا شاملة فلا بد من مواجهته بحرب شاملة ، تواجه بالكفاح وحتى إذا سلمنا بصحة مقدمة هؤلاء وهي أن الغرب وأمريكا أقوياء بدرجة لا يمكن مواجهتها ، فإن النتيجة التي توصلوا إليها خطأ ، لأن معنى مثل هذه القوة الهائلة للغرب وأمريكا أن الخضوع لهم سيؤدي إلى النهاية والموت والاندثار ، وأن الخضوع لن ينقذنا ولن يحقن دمائنا ، بل إن الخضوع سيتسبب في خسائر أكثر من المواجهة حتى ولو كانت غير متكافئة ، على الأقل فالمواجهة سوف تقلل الخسائر وسوف تسمح للبذور الكامنة تحت التربة بالبقاء ، بعيدًا عن يد الغرب فتعود لتثمر في فرصة أخرى مستقبلية .
وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارة الغربية تحمل في داخلها الكثير من نقاط الضعف ( كما سبق ووضحنا ) التي ينبغي الصمود واستثمارها أو الصمود وانتظار أن تؤدي تلك المواقع الضعيفة في جسد الحضارة الغربية إلى انفجار داخلي ، فالإنسان في الحضارة الأوروبية مثلاً يفتقد التوازن بين حاجاته المختلفة ويفتقد التوازن في علاقاته مع الجماعة ، وهذا يؤدي إلى انتشار الأمراض النفسية والجريمة والانحراف والشذوذ الجنسي وزيادة استهلاك الخمور والمخدرات إلى حدود أصبحت تهدد حياة مئات الملايين من سكان أوروبا وأمريكا وهو ما يمكن أن يؤدي على المدى المتوسط أو الطويل إلى انهيار الحضارة الغربية من داخلها ، أضف إلى ذلك أن الرغبة في تحقيق أقصى قدر من النهب وبالتالي عدم التورع عن استعمال أقصى قدر من العنف ومع تزايد قوة الأسلحة الفتاكة يجعل العجلة العسكرية تدور بلا توقف مما يجعلها في النهاية قابلة للانفجار من داخلها أو بالتصادم مع بعضها البعض وإذا كانت الحرب العالمية الثانية التي نشأت بسبب التنافس على الربح بين دول كلها تنتمي إلى الحضارة الغربية قد أدت إلى قتل 62 مليون إنسان معظمهم من الأوروبيين فكم يا ترى سوف يقتل في المعركة المسلحة والحرب الشعبية ، وعلينا أن نواجه بالوسائل السياسية ونواجهه برفض الخضوع لوسائل النهب التي يمارسها ومن خلال بناء نمط اقتصادي مستقل وغير تابع ويعتمد على قوانا الذاتية ويقطع تمامًا خيوط التبعية مع الغرب ، ونواجهه أيضًا بتصفية كل مراكز الثقافة المغتربة وكل أشكال الاختراق الثقافي ، ونواجهه بثورة ثقافية شاملة تعتمد على تأكيد قيمنا الحضارية ، ونواجهه بالوحدة ، ورفض التجزئة التي فرضها علينا ، ونواجهه بتعبئة شعبية شاملة ، ونواجهه بحرب حضارية شاملة في مواجهة حرب حضارية شاملة .
ويجب أن ننتبه هنا إلى نقطة خطيرة ، وهي أن أخطر هذه المواجهات هي على الجانب الثقافي ، لأن الاختراق الثقافي يدمر حياتنا من الداخل ويقلل قدرتنا على المواجهة ويضرب فينا قيمنا الإيجابية مثل الجهاد والوحدة والرفض وبالتالي يجعلنا عاجزين عن المواجهة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية ، ولابد أن ننتبه إلى انه ما دامت الحرب حضارية وشاملة فليس من المعقول مثلاً أن نستخدم قيمًا ووسائل واستراتيجيات مستمدة من الغرب لمحاربته بها ومهما كانت براقة فإنها لن تجدي في مواجهته ، فكيف أواجهه على أرضيته الثقافية والحضارية ؟ ، لابد أن أواجهه بأساليب وتكتيكات وقيم ووسائل واستراتيجيًات مستمدة من ذاتنا حتى تظل قادرة على الاستمرار . ................... الإسلام والعالم المعاصر ص 130 . أنور الجندي .
وقد فاقمها ( أي المواجهة) أن المجتمعات الإسلامية بطبيعة تكوينها يتعذر قولبتها في النموذج الغربي، ببساطة لأن لها منظومة قيم مغايرة، وبنيان فكري ونظر إلى الكون والحياة، مختلف عن الغرب تماما ،هذا الاستعصاء على الاحتواء لا يزال يثير حفيظة كثير من الغربيين، الذين عجزوا أو رفضوا أن يعترفوا بخصوصية القيم الإسلامية، التي لا تقبل التفاعل وترفض الذوبان والانسحاق.
يقول الدكتور / شاكر النابلسي : ولكي ندرك الفرق بين أيديولوجية الإسلام وأيديولوجية الغرب وسبب الصراع المحتمل بينهما، ولا سيما في القرن الحادي والعشرين، دعونا نعقد مقارنة سريعة بينهما:
1. يقول الإسلام بأن الإنسان مخلوق، ويقول الغرب بأن الإنسان خالق.
2- يقول الإسلام بأن الله هو سيد الكون المُطاع، ويقول الغرب، بأن الإنسان هو سيد الكون المُطاع.
3- يقول الإسلام بأن الله هو سيد الإنسان، ويقول الغرب بأن الإنسان سيد نفسه.
4- يربط الإسلام وجود الإنسان والعالم بسبب خارجي هو الله، في حين ينظر الفكر العلماني في الغرب إلى الإنسان والعالم لذاتهما، في معزل عن أي سبب خارجي.
5- يُقرُّ الإنسان في الإسلام أن الغيب لله كعلم تفرد به ولم يطلع عليه أحداً - إلا من شاء - ، بينما يُلغي الغرب ما يُسمّى بالغيبيات والعلم بالغيب.
6- يعتبر الإسلام مجتمعاً مثالياً أخلاقياً روحياً ، بينما يعتبر الغرب مجتمعاً مادياً أخلاقياً مختلفاً.(4/336)
7- يمتثل الإسلام للشريعة و لا يحكم العقل في الشريعة ولكنه يعمل في إطارها، في حين يمتثل الغرب للعقل تماماً ويحكمه في كل شيء ويرد ما لا يقره العقل.
فهل من أجل هذه الفروقات في العقائد يمكن للصدام أن يتم بين الإسلام والغرب؟
ولِمَ لا وقد كادت الحرب العالمية الثالثة أن تقع بين الغرب والاتحاد السوفياتي نتيجة لاختلاف العقائد. ............بشيء من التصرف والزيادات من مقال له.
وبعد انهيار سور برلين وسقوط الشيوعية راح الغرب يبحث عن "عدو" وتضافرت ظروف متعددة رشحت الإسلام كي يشغل ذلك الموقع بديلاً عن الشيوعية ويبدو أن هذه الفكرة راقت للأغلبية الأوربية والنخبة في الولايات المتحدة وغيرها .
فبعد غياب الاتحاد السوفيتي وتفرد الولايات المتحدة بصدارة "العالم الأول" فإن دعاة تمدد الإمبراطورية الأمريكية في فضاء الساحة التي خلت انتعشوا، الأمر الذي دعاهم إلى بلورة مشروعهم في كتابات عدة بينها المذكرة الشهيرة التي قدمت إلى الرئيس السابق بيل كلينتون في عام 1997م حول القرن الأمريكي الجديد.
يقول لورانس براون: ' لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة ، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبررًا لهذا الخوف ، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي والخطر الأصفر وبالخطر البلشفي إلا أن هذا التخويف كله لم نجده كما تخيلناه ، أننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا ، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا اللدود ، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا ، أما الشعوب الصفر 'الصين ، اليابان ' فإنها ليست خطيرة لهذه الدرجة ، ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع ، وفي حيويته ، أنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي ' ..................د . مصطفى الخالدي.. د . عمر فروخ – التبشير والاستعمار.
وأحداث 11 سبتمبر وفرت لفريق الأصوليين المتعصبين والمتصهينين في الإدارة الأمريكية حجة قوية لاعتبار العالم الإسلامي عدواً يجب قهره وتطويعه، حتى لا يظل مصدراً يهدد الأمن القومي الأمريكي ولأن هذا العالم يكره الأمريكيين – كما ادعوا- فقد يخرج من بين أبنائه يوماً ما في المستقبل من يكرر ما جرى في 11 سبتمبر.
والخلاصة
نقول : إنه بالرغم من كل ذلك، فإن الدين في الدول الغربية لا يلعب إلا دوراً ثانوياً وهامشياً للغاية. وبالتالي فليس للدول الأوربية في الجملة حساسيات عقدية ولا ثارات ضد الإسلام بالمعنى الدقيق رغم اختلاف الايدولوجيات السالفة ، هذا إذا استثنينا مجتمع المتدينين المتعصبين في الولايات المتحدة وغيرها ، وإذ كان الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن اسم الإسلام أصبح مخيفاً لكثيرين الآن في الغرب ، وهذا الخوف نابع من انطباعات زمنية وليس من تأثيرات عقدية (بما يحمل اللفظ من معنى) !! .
ولكن هذه الخلفيات يمكن أن تسوغ لنا أن نقول أن الغرب بالمفهوم الذي تحدثنا عنه ليس ضد الإسلام كعقيدة ودين، ولكنه متمسك بإضعاف الإسلام وتقليص دوره في المجتمع.
لكننا إذا نظرنا إلى المشهدين من زاوية المقاصد والمآلات فلا مفر من أن نعترف بأن عملية الإضعاف هي في حقيقة الأمر نوع من إماتة الإسلام وتضييق الخناق عليه إلى حد خنقه في نهاية المطاف ، وقد يجوز ذلك أن نقول أن العبرة ليست بالنوايا ولكنها بالنتائج، فالإماتة في النتيجة لا تختلف كثيراً عن القتل، إذ في الحالتين تشل حركة الإسلام ويفقد "روحه" حتى وإن استغرقت عملية الإماتة وقتاً أطول.........من مقال للأستاذ فهمي هويدي .
وبالرغم من ذلك نقول : إن إطلاق العداء للغرب خطأ كبير. فليس الغرب باطلاً كله ولا ظالماً كله ، وإنما ينبغي أن يتحرى المؤمن العدل في أحكامه والضبط في مشاعره.
ولا أدل على ذلك مما استطعنا جمعه من كاتبة غربية مثل (شرين هانتر) في كتابها (مستقبل الإسلام والغرب) ، والذي كانت فيه تحاول الإنصاف حتى أنها اعترفت بأمور كثيرة هي في حقيقتها مرة عند الغربيين منها على سبيل المثال :
أ – تقرير حقيقة أن الإسلام لا يمكن أن يهزم من خلال انتصارات عسكرية وأمثالها كما هزمت النازية والاشتراكية وأمثالهما.
ب – إن الايدولوجيا لا يمكن أن تفصل عن الحياة الاجتماعية ذلك لان المسألة الاجتماعية يجب أن تقام – ولو بشكل لا شعوري – على المسألة الفلسفية والاعادت بلا هدف ولا مبررات.
ج – إن الغرب لا يأبه بالقيم التي يدعيها كالديمقراطية وحقوق الإنسان إذا لم تخدم مصالحه.
د – إن العلمانية لا تجتمع مع النظام الديني حتى ولو كان مستمداً من المسيحية أو اليهودية.
هـ – إن الذين ينظرون إلى رؤى الإسلام بسطحية هم سطحيين .
و – السخرية من هنتنگتن (3) عندما يقول إن الإسلام لا يعرف المساواة
ز – التفريق بين إيمان الإسلام بحقوق الإنسان وعمل المسلمين.
ح – الاعتراف بان العلمانية فرضت فرضاً على العالم الإسلامي.
ط – إن الغرب قد ينطلق من مواقف أخلاقية منحطة كالحسد والحقد وأمثال ذلك.(4/337)
ولا شك أن هنالك أسباباً عديدة تدعو غالبية المسلمين للشعور بحالة من النفور من السياسات والمواقف الغربية والتي اتسمت بماضٍ استغلالي استعماري وحاضر لا يقيم العلاقات على العدالة والإنصاف ، وهنالك شعور يسود في أوساط المسلمين أن هنالك تحيزاً ثقافياً ودينياً يسود أوساطاً واسعة في الشعوب الغربية ضد الإسلام. وأن موقف الإعلام الغربي الذي يأخذ صورة العالمية اليوم مناهض مناؤي للإسلام، ثم إن هنالك رموزاً حية لانحياز الغرب إلى جانب المعتدين على بعض شعوب الأمة المسلمة ومظاهرته لأولئك بالسلاح وبالمواقف السياسية ، وأبلغ الأمثال على ذلك هو الموالاة المطلقة لغالب دول الغرب لإسرائيل.
فكل هذه أسباب لا تفرش الطريق إلى محبة وتواصل مع الغرب. بيد أن الحكمة تشير أن الطريق الأوفق لا يتمثل في تسعير العداوة والبغضاء للشعوب والحكومات الغربية، بل بذل الجهود لإزالة التحيزات الثقافية ومناهضة الحملات الإعلامية والعمل على إحداث تغييرات في سياسات الحكومات الغربية وكل هذا بالإمكان من خلال العمل المثابر الدؤوب.
بيد أن إزالة نزعة العداء للغرب والتي تتفجر الآن في أعمال ترويعية لا تفرق بين المدني والعسكري، وبين الغافل والظالم لن يتم من جانب واحد. فالغرب الذي يجتهد اليوم في البحث عن أنجع السبل لمناهضة الإرهاب يتوجب عليه أن يدرك أن أقصر الطرق لمناهضة الأعمال الإرهابية هو التعامل بعدالة ونزاهة مع الشعوب الإسلامية.
فذلك هو السبيل لنيل ثقة أهل التوسط والاعتدال والذين هم الضمانة الأولى لكبح نزعات التطرف والغلو.
ولكن السياسة الأمريكية اليوم ماضية في منطقها الاستعلائي، وتكاد تقاريرها المتغطرسة أن تقول شيئاً واحداً لقد انتصر الغرب على الشرق، وتفوقت المادة على الروح، وأن عصر المادية الأمريكية هو نهاية التأريخ.
إن مسؤولية الاتصال والتواصل السليم بين العالم الإسلامي والغرب مسؤولية مشتركة، ولسنا في مجال تحديد التقصير أو الخطأ من أحد الأطراف، ولكن واقع العلاقة الآن يفرض علينا أن ندعو إلى بناء هذه العلاقة على أساس سليم ووفق منهج علمي يليق بتاريخ هذه العلاقة، وبالكثير من جوانبها المهمة، وبأثرها في تحقيق السلام والخير للبشر جميعاً، فهي علاقة، بين مئات الملايين من البشر.
والحقيقة أن القيم الإسلامية إنما ترفض الجانب المعادي للإنسانية في الغرب كالتحلل الجنسي، واستغلال الشعوب، ورفض الحياة الخلقية والكيل بمكيالين والعمل على محو الثقافات الأخرى، والاستعمار بشتى ألوانه، وأمثال ذلك وفيما عدا ذلك فان هناك نقاط التقاء كثيرة ونقاط تقبل الحوار.
يقول الدكتور المسيري : "فعداء الغرب للإسلام ليس عداء في المطلق، وإنما هو عداء للإسلام المقاوم، ولأي شكل من أشكال المقاومة تتصدى لمحاولة الغرب تحويل العالم إلى مادة استعمالية". ..............الإسلام والغرب.
ومع هذا تظل إمكانية الحوار والتفاهم قائمة، وإن كان ثمة عائق أساسي وهو أن الرؤية الغربية الإمبريالية الداروينية غير عقلانية. فمن يجعل القوة معياراً واحداً ووحيداً ولا يقبل الاحتكام إلى منظومة قيمية خارجة، إنسان غير عقلاني، لأن العقلانية تفترض وجود معايير إنسانية وأخلاقية مطلقة خارج الإنسان يمكن الاحتكام إليها. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نتحاور في غياب معايير أخلاقية وإنسانية يمكن الاحتكام إليها والإهابة بها؟
وأرى ـ والله أعلم ـ أن هناك ثلاثة مستويات للحوار:
ا- الحوار بين الأنداد: وهو حوار بين طرفين يعترف كل منهما بإنسانية الآخر وبحقوقه وسيادته. والهدف من الحوار هنا هو تسوية بعض الخلافات التفصيلية الجزئية التي لا تنصرف إلى الكليات أو المنطلقات.
2. الحوار النقدي: إذا كان أحد الأطراف لا يعترف بإنسانية الآخر وحقوقه وسيادته، فمن واجب الطرف الثاني أن يوجه النقد للطرف الأول ويبين له خلل موقفه، ويدعم نقده بالحجج والبراهين، كما يحدث مثلاً حينما نحاور الدول الأوروبية التي نختلف معها في بعض الأمور المبدئية، والتي تقبل الحوار ولا تلجأ إلى العنف.
3. الحوار المسلح: إن استمر الطرف الأول في إنكار إنسانية الطرف الثاني وحقوقه وسيادته، وحوَّل إنكاره هذا إلى فعل ظالم باطش كأن يستولي على أرض الطرف الثاني أو يعتدي عليه، فإن من واجب الطرف المعتدى عليه أن يصده ويقاوم ظلمه وبطشه بأن يرسل للظالم رسائل نقدية مسلحة ليؤكد إنسانيته وسيادته ويحصل على حقوقه المغتصبة.
وهذا ما يحدث في فلسطين المحتلة ، فالإسرائيليون ينكرون وجود الفلسطينيين، فيقوم الفلسطينيون بإرسال رسائل مسلحة لهم تأخذ شكل انتفاضات شبه سلمية (مثل انتفاضة 1987) وانتفاضات مسلحة (مثل انتفاضة الأقصى)، وهي رسائل تؤكد للإسرائيليين أن الشعب الفلسطيني -صاحب الأرض- موجود وحي ويقاوم لاستعادة أرضه.(4/338)
ولابد أن يتم الحوار على جميع المستويات، فالحوار الودي بمفرده مع من يؤمن بالقوة معياراً يتيماً لا يجدي فتيلاً، والحوار المسلح بمفرده يدخلنا في طريق مسدود. وهذا ما فعله الفيتناميون، فكانوا يجلسون على مائدة المفاوضات ويقومون بحملات إعلامية يتوجهون بها إلى أنصار السلام في العالم بما في ذلك الولايات المتحدة، ويوجهون النقد إلى المؤسسة العسكرية الأميركية التي بطشت بالشعب الفيتنامي دون وجه حق، ويقاتلون -في الوقت ذاته- في ميدان الحرب بعزم وإصرار، وبذلك تم تحويل المكاسب الميدانية إلى مكاسب سياسية
وبالمثل، يمكن أن يأخذ الحوار مع الغرب أشكالاً كثيرة، فلا يكفي السعي لتجميل صورتنا وتوضيح مشروعية موقفنا، إذ لابد من توجيه رسائل نقدية إلى الغرب (من خلال حملات إعلامية وحوارات مكثفة) تبين له أن دعمه لإسرائيل وهجومه على العالم العربي لا يمكن أن يظل أمراً مجانياً.
ويجب تحويل الحوار النقدي إلى حوار مسلح إذا استلزم الأمر من خلال عمليات المقاطعة والتهديد بسحب الاستثمارات وكل أشكال المقاومة المتاحة. أي يجب أن يدرك الآخر المعتدي أن هناك ثمناً لابد أن يدفع، وهم يفهمون تماماً مسألة الثمن هذه، فكما قال رئيس الوزراء البريطاني غلادستون "لا يوجد لدينا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون بل لنا مصالح دائمة". ..................................من مقال الإسلام والغرب نشر بتاريخ 4/11/2004.
وعلى هذا الأساس فإن الإسلام يقرر :
* أن الناس جميعاً شركاء في مهمة الاستخلاف الرباني للإنسان في عمارة الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: من الآية30).
* وأن الناس جميعاً مؤهلون خلقه (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ), ومهيئون فطرة لأداء هذه المهمة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } (البقرة: من الآية31))..{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:50)
*
* وأن الناس مكلفون بالتعاون لتحقيق عمارة آمنة للأرض {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: من الآية2).
* وأنهم مدعوون للتكامل والتعارف، من أجل إنجاز شامل وعادل لمهمة الاستخلاف الرباني {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} (الحجرات:13) .
* وأن الناس شركاء في الانتفاع العام بنتائج سيرهم وكدحهم لعمارة الأرض , وبكلمة أخرى هم شركاء في الانتفاع بثمرات العطاء الحضاري والتكنولوجي والصناعي والزراعي والحيواني {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية:13) {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك: من الآية15) .
* ولكن ذلك كله وفق قواعد ومعايير احترام حق التمليك , والتزام ضوابط ومعايير نظم وآليات الانتفاع المتبادل العادل.
اعتماد الحوار الجاد بين الحضارات كأساس للتعارف من أجل :-
1. أن يتعلم الناس كيف يتعامل كل منهم مع الآخر وكيف يجل الجميع كرامة الإنسان .
2. أن تكشف القيم المشتركة وتراعى الخصوصيات الثقافية في سبيل تحقيق تعايش آمن .
3. العمل لمنع العدوان والاضطهاد والظلم بين الناس .
4. التأكيد على أن الأسرة المؤسسة على التزاوج الشرعي بين الرجل والمرأة هي الوحدة الأساس في بناء المجتمعات الآمنة .
5. التأكيد على أن الأسرة وحدة أساسية من مؤسسات المجتمع المدني وأنها المصدر الأكفأ لأجيال مسؤولة ومنتجة .
6. العمل معاً على إقامة العدل الرباني بين جميع الناس على اختلاف أقوامهم وأجناسهم ومعتقداتهم وألوانهم .
7. العمل على إزالة خلل التوازن بين حقوق الإنسان وواجباته لإنهاء حالة الخلل والاضطراب في مسيرة الحضارة البشرية .
8. العمل على مساعدة الفقراء لتحرير أنفسهم من الظروف القاسية التي تتنافي مع كرامة الإنسان ووشائج الأخوة الإنسانية .
9. العمل على إنهاء ظاهرة التعامل بالمعايير المزدوجة إقليمياً ودولياً .
10. العمل على إزالة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية لاستفحال ظاهرة العنف والإرهاب في العالم .
11. التأكيد على ضرورة السير معاً بسلام ووئام على أساس من إرادة الله تعالي وطاعته لحماية المجتمعات البشرية من الكوارث والفقر والجهل . ووقف ظاهرة التدهور الأخلاقي والتفسخ الأسرى ووضع حد لمروجي منهجية الحروب وتكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل , وإلا سيكون الناس عرضة لمزيدٍ من الهلاك والدمار(4/339)
ونحن - المسلمين - إذا نقول بذلك كله لا ننطلق من فراغ، بل نستند على أساس صلب ومرجعية عظيمة رسم معالمها وأبان سبل نهجها كتاب الله العظيم وسنة رسوله المبعوث رحمة للعالمين سيدنا وإمامنا الهادي البشير نبينا ورسولنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه عبر ثلاثة مواثيق متلازمة ومتكاملة هي الفريدة في نوعها وسبقها على مدار التاريخ البشري كله وهي:
أولاً : ميثاق الموطنة أو (العقد الاجتماعي الوطني) الذي تضمنته الوثيقة المشهورة في كتب السيرة (بصحيفة المدنية ) والتي تعتبر بحق أول ميثاق للمواطنة في التاريخ البشري يقنن ويؤصل لعهود ومواثيق المواطنة المشتركة ، في إطار التنوع الديني والثقافي ، مما تضمنته تلك الصحيفة من قيم ومبادئ :
1. أن المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية أمة واحدة من دون الناس .
2. وأن الحرية الدينية مكفولة لكل مواطن .
3. وأنهم جميعاً مسؤولون عن رد العدوان وحفظ سيادة الأوطان .
4. وأن عليهم النصح والبر ، فيما ليس فيه إثم .
5. وإن الجار كالنفس ، غير مضار في أمنه وكرامته.
فهذه القواعد السالفة الذكر ، وغيرها مما جاء بها القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وتكون بتكاملها المنطلق الأساس لعقد المواطنة في نظام الإسلام وشرعته ، الذي يؤكد أن المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والعرقية ، وهم أمة واحدة تتساوي مصالحهم ، وتتكامل حقوقهم وواجباتهم ، وأن أمنهم واحد ، ومصيرهم واحد ، من غير تمايز ولا تفاضل بينهم إلا بالعمل الصالح ، ميثاق المواطنة (العقد الاجتماعي الوطني ) في الإسلام يقوم على ما يلي :-
أ. دين الدولة : الإسلام (دين الأكثرية ) القرآن والسنة النبوية المطهرة هما المصدر الأساس والوحيد لمطلقات وثوابت الشريعة الإسلامية ، والإسلام هو أساس الهوية الثقافية والحضارية للمجتمع .
ب. عقد الإيمان : وهو للجميع وذلك بإنفاذ شريعته سبحانه وتعالي في تحقيق مصالح المواطنين، وإقامة العدل بينهم وصون كرامتهم ، وتوفير أسباب رزقهم وأمنهم واستقرارهم.
ت. عقد الأداء : وهو عقد بين الحاكم والمحكومين من المسلمين ، يلتزم الجميع بموجبه بإنفاذ ما اتفقت عليه إرادة الأمة ، من قيم ومبادئ ونظم وأعراف وتقاليد مثل : الدستور وغيره في إطار عقد الإيمان وما تضمنه من ثوابت ومنطلقات ، والعمل معاً على تحقيق مصالح الناس وصون البلاد وأمنها واستقرارها وسيادتها .
وهذا يعني ويؤكد بوضوح ما يلي :-
1. أن الله تعالى : على أساس من ( عقد الإيمان ) هو المصدر الوحيد لثوابت ومنطلقات التشريع في المجتمع المسلم ( مجتمع الأكثرية).
2. أن الحاكم على أساس من ( عقد الإيمان )،والتزاماً بعقد (الأداء) : مسؤول أمام الله تعالي ، و مسؤول أمام الشعب عن التزام وتطبيق شريعة الإسلام والتزام وإنفاذ ما اتفقت عليه إرادة الأمة من مواثيق ونظم (الدستور وغيره )، والعمل بأمانة وإخلاص على إقامة العدل بين الناس جميعاً .
3. أن الشعب على أساس من (عقد الإيمان) والتزاماً بما ينص عليه (عقد الأداء )ويتناقص مع مواثيق عقد الإيمان وعقد الأداء ومطالب كذلك بتحمل مسؤولياته في إعانة الحاكم [ولي الأمر] وبذل النصح والمشورة له بما يعينه على أداء مهامه ومسؤولياته وواجباته ,وفق عقد الإيمان وعقد الأداء ,وبما يحقق مصالح المواطنين وأمن البلاد وسيادتها وارتقاءها . والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا : وماذا عن موقع المواطن غير المسلم في ميثاق المواطنة (العقد الاجتماعي الوطني ) في الإسلام ؟.
ونجيب فنقول : وحيث أن المظنة بأهل الإيمان بالله تعالى أياً كانت طبيعة اعتقادهم أنهم من حيث الأصل والمبدأ يحرصون على تحقيق إرادة الله تعالى ومرضاته ، وعلى أساس من هذا الظن الحسن أعتقد أن العقد الاجتماعي في الإسلام يتسع بكل موضوعية وجدية للمواطنين غير المسلمين في ضوء التوضيح التالي:
أولاً : أحسب أن عقد الإيمان يتسع لهم ، باعتبار أن ثوابت الشرائع الربانية التي جاء بها الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام متكاملة ، ولا تصادم ولا تناقض بينها من حيث الأصل، وقد أكدت جميعها على إقامة العدل ، وكرامة الإنسان وحريته ، وعلى الحب والتسامح في مرضاة الله ، والتعايش الآمن بين الناس ، وعلى سلامة البيئة وعدم إفسادها، وحثت على استثمار ما في السموات والأرض لصالح كرامة الإنسان وصون حياته، والشريعة الإسلامية تؤكد على ذلك كله
وثانياً : فعقد الإيمان هو الضامن والحارس الوجداني لتحقيق هذه القيم الربانية وغيرها من أجل صون كرامة الناس جميعاً.
ويتسع ( ثالثاً ) لفعاليتهم وممارسة حقوقهم وأداء واجباتهم ، باعتبار أن كل مواطن من حيث الأصل والمبدأ يحرص على:
1. حرية اعتقاده وممارسة عبادته .
2. احترام خصوصياته وحقه بالاحتكام إلى قيمه الدينية فيما يتعلق بشؤونه الشخصية.
3. تأمين مصالحه الدنيوية دون الإضرار بمصالح غيره ، ومن دون انتقاص أو تميز.
4. تحقيق طموحاته وآماله الشخصية والوطنية في سياق المصالح العامة للمواطنين.
5. العيش بكفاية وأمن واستقرار.(4/340)
6. المشاركة في خدمة بلده ، والمحافظة على أمنه واستقراره وسيادته.
وباعتقادي أن ذلك كله وغيره مضمون ومكفول في العقد الاجتماعي في الإسلام ، ولمزيد في التوضيح نقول أن الإسلام كما هو معلوم عقيدة وشريعة.
والعقيدة : وهي التي تمثل الخصوصية الدينية للمسلم ..فقد حسم الإسلام أمر الآخرين معها بقول الله تعالى :( لكم دينكم ولي دين) ، أي أن المواطن غير المسلم في المجتمع غير المسلم له حرية الاعتقاد وله حرية ممارسة العبادة.
أما الشريعة : فهي تتكون بصورة رئيسة من شقين اثنين:
1. قواعد وأحكام ومبادئ تتعلق بالأحوال الشخصية .
2. قواعد ومبادئ ونظم وضوابط تتعلق بالحياة العامة للناس.
فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ، فقد حسم الإسلام أمر المواطنين غير المسلمين بشأنها ، بأن أعطاهم حق التحاكم في ذلك إلى شرائعهم الخاصة إن رغبوا .
أما ما يخص الجزء من الشريعة الإسلامية المتعلق بالحياة العامة ، ونظم ومبادئ تصريف مصالحها ، فأن المواطنين غير المسلمين ، فهم جميعا سواء دون تمييز ، تحكمهم جميعاً مواثيق الأمة ولوائحها الدستورية ، وعلى أساس مما سلف ، لا أرى أن هناك أدنى إشكالية للمواطنين غير المسلمين مع الشريعة الإسلامية وميثاق المواطنة ( العقد الاجتماعي الوطني).
ثانياً: الميثاق العالمي أو ( العقد الاجتماعي العالمي ) ، الذي تضمنته الوثيقة المعروفة والمشهورة في كتب السيرة ( بخطبة حجة الوداع ) ، التي أصلت وأسست لأول ميثاق عالمي ، يرسم القواعد والمبادئ الجامعة لسياسة دولة الإسلام الراشدة في مستواها العالمي ، ويقنن للمعايير والضوابط المنصفة للتعايش البشري الآمن ، في إطار التنوع القومي والعرقي واللوني والجنسي والديني ، وكان من أبرز ما جاء بخطبة الوداع أو الميثاق العالمي ( العقد الاجتماعي العالمي) َقَوله صلى الله عليه وسلم : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ رَبكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَباكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلَّا بالتَّقْوَى ، أَبلَّغْتُ ؟ " ، قَالُوا : بلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ"...........................أخرجه الإمام أحمد في المسند.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَاب اللَّهِ ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ ، قَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ : اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" ..........................................................................................................البخاري .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَنَّهُ قَالَ : " يَا عِبَادِي : إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ، فَلَا تَظَالَمُوا" .........................................................................................................مسلم
1. أيها الناس إن ربكم واحد.. تأكيداً على وحدة مصدرية الإيمان.
2. إن أباكم واحد .. تأكيداً على وحدة الأسرة البشرية .
3. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام .. تأكيداً على قدسية حياة الإنسان وممتلكاته .
4. أيها الناس إن الله قد قضى لا ربا .. تأكيداً على الأمن الاقتصادي.
5. أيها الناس إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ..تأكيداً على احترام الوقت وقدسية الأمن والسلام وسلامة البيئة.
6. أيها الناس استوصوا بالنساء خيراً فلكم عليهن حقاً ولهن عليكم حقاً. تأكيداً على أهمية دور المرأة شريكة متكاملة الشراكة مع الرجل في تحمل مسؤوليات الحياة.
7. أيها الناس إن الله قد حرم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرماً فلا تظالموا تأكيداً على أن العدل أساس كل فضيلة وأنه الحارس الأضمن لأمن العباد والبلاد.(4/341)
إن هذه الأعمدة السبعة ، التي تضمنها الميثاق العالمي لخطبة الوداع ، وما يتفرع عنها من قيم ومبادئ ، وما يتسق معها مما تزخر به توجيهات القرآن الكريم ، ومما تفصل فيه وترفده أقوال وأفعال السنة المطهرة ، وما استنه الخلفاء الراشدون المهديون من بعد ، لهي بجملتها تكون الأسس الراسخة ، والمعالم الجلية للميثاق العالمي الإسلامي أو ( العقد الاجتماعي العالمي ) للنهوض بشرف مهمة الاستخلاف في الأرض ، والاضطلاع بمسؤوليات أمانة عمارتها ، وإقامة العدل في ربوعها ، والميثاق العالمي الإسلامي أو ( العقد الاجتماعي العالمي الإسلامي) يشكل الأساس القيمي والمعيار الأخلاقي ، لتصريف شؤون الناس وإدارة مصالحهم المشتركة وتحقيق التعايش العادل والآمن بينهم وفق أسس ومنطلقات الميثاق العالمي للمصالح البشرية ، الذي رسم قواعده وحدد منطلقاته ربهم وخلقهم جل شأنه اللطيف الخبير بما ينفعهم ويصلح شأنهم.
ثالثاً: الميثاق العالمي للمصالح البشرية .. ويقوم على قواعد ومنطلقات عامة منها:
1. أن الناس جميعاً شركاء في مهمة الاستخلاف في الأرض .
2. أن عمارة الأرض وإقامة العدل بين الناس غايتان أساسيتان لأمانة الاستخلاف الرباني
3. أن الناس شركاء في ثروات الكون ، على أساس من احترام حق التملك وصون مشروعية حق الانتفاع.
4. أن حياة الإنسان وكرامته ، أمران مقدسان لا يجوز انتهاكهما بغير حق.
5. أن الرجل والمرأة شريكان تتكامل مسؤولياتهما من أجل عمارة الأرض وإقامة العدل.
6. أن الأرض والبيئة ، هما سكن البشرية المشترك ينبغي المحافظة على سلامتهما وعدم إفسادهما.
7. أن الحقوق والواجبات أمور متكاملة ومتلازمة ، لتبقي العلاقة متوازنة ومنضبطة ، بين مسؤوليات الإنتاج وأخلاقيات ومسؤوليات الاستهلاك.
8. أن الأمن الإقليمي والأمن الدولي ، أمران متلازمان ومتكاملان لا يجوز بحال انتهاك أحدهما لحساب الآخر.
9. أن التدافع الحضاري والتعاون البشري ، أمران واجبان لدرء المفاسد والمخاطر، وجلب المصالح والمنافع المشتركة بين الناس .
10. أن التعارف والتواصل الثقافي والمعرفي بين الناس ، أمر إيجابي لتنمية العلاقات وتطوير المصالح المشتركة بينهم.
11. أن التنوع الديني والثقافي ينبغي أن يكون حافزاً على التنافس في عمل الخير، لا مادة للصدام والنزاع.
12. أن السلم والتعايش العادل والآمن هو أصل العلاقة بين الناس والمجتمعات.
إن هذه المواثيق الثلاثة تكون في تكاملها الأساس لمنظومة الإسلام من أجل عالمية عادلة وعولمة راشدة آمنة .. والإسلام وهو يطرح هذه المواثيق الثلاثة بشأن التعامل بين الناس في الحياة الدنيا .. إنما هو تأكيد على رسالة الإسلام هي رسالة الحياة للناس دون تمييز العولمة والتعاون الدولي مشاركة أم استقلال حامد الرفاعى
إذن والشيء الوحيد الممكن في العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ولو من الناحية النظرية هو التعاون على أساس استقلال كل منهما وعلى أساس انفراد كل منهما بخصائصها الذاتية المتميزة دون أن تحاول السيطرة أو ظلم أو نهب الأخرى ، والإسلام بالطبع يرحب بالتعاون ويدعو إليه في إطار الاحترام المتبادل والعلاقات المتكافئة ، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية التخلي عن النهب والظلم والعنصرية والعنف من أجل هذا التعاون ؟.
يمكن التعاون في الاستفادة من العلوم الطبيعة ونقلها دون ربط ذلك بغايات وأهداف استخداماتها أي في الشق العلمي دون الشق القيمي ، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية ذلك وهي التي تغتال العلم ، وتحرم نقل العلم وتحاكم من يفعل ذلك ، بل وتضرب أي نهضة علمية في أي مكان خارج دائرتها الحضارية ؟ !
نؤكد مرة أخرى أن الإسلام يحض على التعاون ، ويحرص عليه ، ولكن التعاون ليس الاندماج والتزاوج والإلحاق ، التعاون يقوم على استقلال حضاري كامل فالحضارة الغربية عندما نقلت العلوم الطبيعية من الحضارة الإسلامية أخذتها دون شقها القيمي أخذتها وهضمتها ووجهتها وفقًا لمعًاييرها الحضارية ، وجهتها للتدمير والتلويث والإفساد وتحقيق أكبر قدر من آليات النهب ، أما نحن فمن المفروض أن نأخذ العلوم الطبيعية من الغرب دون شقها القيمي فنهضمها وتصبح جزءًا من شخصيتنا الحضارية المستقلة فنوجهها طبقا لمعًاييرنا وقيمنا الحضارية في إسعاد الإنسان وتحقيق الرفاهية لكل البشر وليس لنا وحدنا .
هل هناك فرصة للتعاون مع الغرب ؟
يقول الأستاذ محمد مورو :قلنا أنه لا يمكن ولا نقبل لا الإلحاق الحضاري مع الغرب ولا التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية لانتمائهما إلى عًائلتي حضارتين مختلفتين ولأن هذا في النهاية يعني التحول إلى تابع ذليل يظل خاضعًا للنهب والسيطرة . وقلنا إن العلاقة الصحيحة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية هو التعاون على أساس الاستقلال الحضاري الكامل والشخصية الحضارية المستقلة ، ولكن هل هناك فرصة للتعاون ؟ .. هل يقبل الغرب هذا التعاون ؟ .. هل تاريخنا معه يسمح بذلك ؟ .. هل تركيب الحضارة الغربية تسمح بذلك ؟ ..(4/342)
إن تركيبة الحضارة الغربية تقوم على النهب والقهر والعنصرية . ورخاء ورفاهية أهل الحضارة الغربية جاء من نهب ثروات الشعوب الأخرى واسترقاق أهلها، ولكي تستمر هذه الرفاهية لابد أن يستمر النهب والقهر، فهل أهل الحضارة الغربية مستعدون للتوقف عن النهب والقهر والعنصرية ؟ هل هم مستعدون للتخلي عن رفاهيتهم القائمة على ثروات الآخرين من أجل التعاون معنا أو مع غيرنا ؟
أعتقد أن ذلك صعب ، بل يبدو مستحيلا ، وبالتالي فإمكانية التعاون بشروطها الصحيحة صعبة أيضًا ، بل وتبدو مستحيلة وحتى إذا حدثت المعجزة وتخلى أهل الشمال عن القهر والعنف والعنصرية فماذا يبقى من الحضارة الغربية ؟ أنهم يسقطونها تمامًا ، أنهم يفقدونها سماتها الأساسية ، أي يقبلون الاندماج في نمط حضاري آخر وفي حالة دخولهم في النمط الحضاري الإسلامي مثلاً ، فإننا لن نعاملهم معاملة التابع ، بل معاملة الإسلام التي تقول أنهم أصبحوا مثلنا تمامًا لهم ما لنا وعليهم ما علينا .
وإذا كانت تركيبة الحضارة الغربية لا تسمح بالتعاون إلا بانتفاء خصائص الحضارة الغربية ذاتها ، وبالتالي فالتعاون هنا صعب ويكاد يكون مستحيلا ً، ورأي أهل الحضارة الغربية فينا وموقفهم منا لا يسمح بقيام مثل هذا التعاون ، فهم ينظرون إلينا نظرة صليبية عنصرية حاقدة لا تقبل بأقل من تدمير حضارتنا تمامًا وفي قول لا يخلو من الدلالة يقول المعلق السوفييتي فاسييليف:
' إن أمريكا الآن تنظر إلى العالم الإسلامي بوصفه إمبراطورية الشر الجديدة التي حلت محل الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان إمبراطورية الشر القديمة والتي تركزت كل الجهود الأمريكية خلال أكثر من أربعين عامًا للقضاء عليها ' .
وهذا المعلق السوفييتي المشهور فاسييليف استخدم في الحقيقة نفس المصطلح المستخدم دائمًا من قبل الأوروبيين والأمريكيين تجاهنا ، وما بين الحقد على الإسلام، وكراهيته، والدعوة إلى تدميره والقضاء عليه أو التخويف منه ومن خطره التي تسود الروح الفكرية الأوروبية على اختلاف مدارسها هل هناك فرصة للتعاون بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ؟ .. الإجابة: هذا صعب بالطبع.
إذن فبرغم أننا لا نرفض التعاون مع الحضارة الأوروبية في إطار الاستقلال الحضاري لكل منا ، إلا أنه لا التركيبة الحضارية الغربية تسمح بذلك ولا رأي قادتها فينا وأهدافهم تجاهنا تسمح بذلك ، ولا تداعيات التاريخ القدم والحديث تسمح بذلك ، وبالتالي لكي نعيش لا نخضع ونذوب وننتهي لابد من المواجهة ...............................الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟!
معوقات الحوار
مما تقدم يمكن إجمال أهم معوقات الحوار الديني و الحضاري في ثلاث نقاط:
1- معوقات تاريخية سياسية نتجت عن صراعات وحروب بين طرفي الحوار: الإسلام والغرب، لم تنته حتى عهد قريب، مثل الحروب الصليبية ، وحرب ما سمي بالتطهير العرقي في جمهورية البوسنة والهرسك ، وأخيراً العراق وأفغانستان والصومال على اعتبار أن أثيوبيا ما هي إلا ذنب للغرب في قارة أفريقيا وتحارب المحاكم الإسلامية بالوكالة .
وكذلك موقف الغرب غير المنصف من القضية الفلسطينية، لقد أصبح المسلمون بذلك لا يواجهون عقدة التغلب على الماضي فقط، بل أيضا معضلة التغلب على الحاضر الماثل أمام العيان، والذي لا يبشر- إذا ما استمر- بمستقبل يبعث على التفاؤل.
2- معوقات تأويليه عند بعض المسلمين والغربيين المسيحيين، تتمثل في عدم اعتراف أحد أطراف الحوار بسماوية الدين الآخر.
فبينما يعترف الإسلام بسماوية مصدر كل من اليهودية والمسيحية، بل ويجعل الإيمان بصدق رسالتي موسى وعيسى (عليهما السلام) ركنا هاما من أركان العقيدة الإسلامية، لا نجد ما يقابل ذلك من اليهود والمسيحيين، إذا ما استثنينا من ذلك الإشارة غير المباشرة التي تضمنها قرار المجمع الكنسي الثاني الصادر عام 3/1964.
3- معوقات فردية تتعلق بمدى أحقية الشخص المشارك في الحوار في الحديث باسم دينه واعتبار نفسه ممثلا للقاعدة العريضة لهذا الدين أو ذاك، والتشكيك في هذه الأحقية يأتى من الداخل كما يأتى من الخارج.
أعتقد أن كلتا النقطتين الأولى والثانية واضحتان ولا تحتاجان إلي تفصيل قد يخرج هذا البحث عن إطاره المحدد له في هذا الموضع. أما النقطة الثالثة فتستحق، في نظرى التوقف عندها بعض الوقت، لأنها تمثل عائقا خفيا لا يظهر في كثير من الأحيان، بينما هي سبب أساسي في تأخر ظهور نتائج إيجابية للندوات والمؤتمرات والأبحاث التي جندت لخدمة وإثمار الحوار الدينى والحضاري. وتتمثل هذه الصعوبة في أن كثيراً ممن يؤيدون ويشاركون بفاعلية في أنشطة الحوار الديني يواجهون غالباً هجوماً على الجبهتين الداخلية والخارجية. ففي الداخل يتهمهم غير المؤيدين للحوار، ممن لا يرون فيه سوى مضيعة للوقت بلا جدوى بالتفريط وتقديم التنازلات الكثيرة للطرف الآخر طلباً للشهرة والمجد الشخصي على حساب الدين، وأنهم لا يمثلون القاعدة العريضة للمسلمين من وجهة نظرهم.(4/343)
أما في الخارج فيتهمهم الطرف الآخر للحوار بالتزمت، والرجعية، وعدم المرونة لمجرد أنهم ليسوا على استعداد للتفريط في هويتهم الإسلامية، أو التنازل عن أى مبدأ من المبادئ الأساسية لعقيدتهم. فهم بذلك مفرطون في التحرر في نظر بعض إخوانهم من جانب، ومفرطون في المحافظة أو التزمت في نظر بعض محاوريهم من جانب آخر. بل إنني أكاد أدعى أن الغرب يريد التحاور فقط مع أشخاص تتوافر فيهم شروط يحددها هو، وينيب عمن يريد ذلك أنه حينئذ سيتحاور مع نفسه، وليس مع الغير ، وهو المطلوب.
وقبل الانتقال إلى الحديث عما يمكن أن يقرب بين وجهات نظر طرفي الحوار أود طرح بعض الأسئلة التي تتضمن ذكر أهم المعوقات وتشير في ذات الوقت، بطريق غير مباشر، إلى كيفية التغلب عليها انتصاراً لقضية الحوار الديني والحضاري:
1- هل حضارة العصر الحديث حضارة إنسانية بالفعل ، وبالتالى تستحق منا نحن ـ المسلمين ـ السعى إليها بكل الوسائل المتاحة، والتضحية من أجلها ببعض مبادئنا؟
2- هل يخلو الإسلام حقا من كل مقومات التقدم بالدرجة التي تجعله نقيضا لها؟
3- كيف نفسر عدم تغير التصور الخاطيء عن الإسلام في الغرب على الرغم من وجود كم هائل من المؤتمرات والأبحاث المتخصصة، إضافة إلى الاحتكاك المباشر اليومى مع المسلمين في الغرب؟
4- هل يبرر وجود عقدة ذنب في الغرب تجاه جماعة دينية معينة التأييد المطلق لهذه الجماعة بغير حق ضد جماعة دينية أخرى وان كانت الأخيرة على الحق؟
5- لماذا يسقط الغرب نتائج تجاربه السلبية مع الكنيسة في العصور الوسطى على الإسلام دون اعتبار لأي فارق بينهما؟ النماذج السلبية الموجودة حاليا في بعض البلاد الإسلامية لا تبرر ذلك.
6-هل من العدل إرجاع كل مظاهر العنف الموجودة في بعض البلاد الإسلامية إلى أسباب داخلية فقط دون أدنى تأثير أو توجيه من الخارج؟
7- لماذا يتهم الإسلام مباشرة بالعنف كلما اتهم متطرف مسلم في عمل إرهابي، حتى قبل أن يثبت عليه الاتهام، بينما لا نجد من يتهم اليهودية أو المسيحية بالعنف قط، رغم الأعمال الهمجية أللإنسانية التي ارتكبها، ولا يزال يرتكبها إلى اليوم يهود ومسيحيون وهندوس وبوذيون ضد المسلمين؟
8- لماذا يصر الغرب والمغتربون في بلادنا على اعتبار المبدأ الإسلامي بربط الدين بالدولة تخلفاً، وبالتالي كل من ينادى بفصلهما تقدمياً؟.
9- هل يسعى الغرب حقا إلى تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان في كل دول العالم على السواء؟
10-هل تستطيع الأنظمة الديكتاتورية الموجودة في بعض الدول الإسلامية أن تظل في الحكم دون دعم من الغرب؟
هذه هى بعض الأسئلة التي يمكننا من خلالها أن نضع أيدينا على بعض أسباب الإحساس بعدم الثقة لدى كثير من المفكرين الإسلاميين تجاه الغرب، وتجاه كل من ينتسب إلى أيديولوجية من الشرقيين.
إضافة إلى ذلك فقد تدفع هذه الأسئلة كل منا إلى مزيد من النقد الذاتي البناء الذي يُعد السبيل الوحيد للوصول إلى تحاور موضوعي، يمكن أن يثمر تعاوناً إيجابياً يعود على الجميع بالخير والسلام.
ومشكلتنا ـ في الواقع ـ ليست مع الإنسان الغربي، وإنما مع الحكومات والإدارات الغربية، ومشكلتنا مع الغرب بصفته الاستعمارية الاستكبارية؛ لا بصفته الإنسانية.
إننا نعرف أنّ للغرب مصالح في بلادنا بما نملك من ثروات، ولنا مصالح عند الغرب فيما يملك من الإمكانات، ونحن نؤمن بتبادل المصالح وتكافؤ المصالح، ولكن لا نؤمن أن تسقط مصالحنا تحت تأثير مصالحه، وهذه هي المشكلة.
وعندما يحترمنا الغرب فإننا لا بد أن نحترمه، ولكنه إذا لم يحترمنا فمن الصعب أن نشعر بأي احترام تجاهه، وإذا أطلق علينا صواريخه وقنابله فلن نقدّم للغرب عندها باقة ورد.
منطلقات تدعم الحوار مع الغرب
يقول تعالي : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِ نْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)
ويقول تعالى : {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46)(4/344)
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنْ ذِي مِخْبرٍ t، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ ، فَتَسْلَمُونَ ، وَتَغْنَمُونَ ، ثُمَّ تَنْزِلُونَ بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَقُومُ رَجُلٌ مِنْ الرُّومِ ، فَيَرْفَعُ الصَّلِيبَ ، وَيَقُولُ : أَلَا غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَقُومُ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَكُونُ الْمَلَاحِمُ ، فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْكُمْ ، فَيَأْتُونَكُمْ فِي ثَمَانِينَ غَايَةً ( أي الراية أو اللواء ) ، مَعَ كُلِّ غَايَةٍ عَشْرَةُ آلَافٍ"..... .........................................أخرجه الإمام أحمد .
في المقابل للنقاط التي أوجزت فيها معوقات الحوار توجد منطلقات إسلامية كثيرة وإيجابية إلى أبعد الحدود يمكنها- إذا أحسنا توظيفها- أن تمهد الطريق لحوار ديني حضاري بناء بين العالم الإسلامي والغرب بمفهومه الواسع الذي يشمل كل الدول غير الإسلامية، ويتطلب ذلك منا أولاً أن نجعل من تراكمات الماضي المؤسف، ومن وقائع الحاضر المؤلم دافعاً قوياً يدعم الإيمان بضرورة الالتقاء على كلمة سواء، والثقة بأن العنف لم ولن يحسم الصراع لصالح أحد الأطراف، فضلاً عن أن يقرب بين نقاط الخلافات العقدية والمنطلقات الثقافية، فيصبح الحوار الديني الحضاري على رأس قائمة أولوياتنا.
إن الشعور بالمرارة الذي تكنه الشعوب الإسلامية عامة تجاه الغرب أشد مما يكنه الغرب تجاه المسلمين. فقد ساءت آراء المسلمين عن الغرب وعن الشعوب الغربية بصورة كبيرة على مدار العام الماضي. ويحمل المسلمون الغرب مسئولية توتر العلاقات بين الجانبين. ومع ذلك فإن هناك أيضًا بعض المؤشرات الإيجابية, من بينها حقيقة انخفاض معدلات دعم 'الإرهاب' في معظم البلدان الإسلامية.
وفي نفس الوقت على الرغم من عمق الانقسامات في العلاقات بين الشعوب الغربية والإسلامية, كشف الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة Pew Global Attitudes أن نظرة كل طرف للآخر ليست جميعها سلبية. على سبيل المثال, في أعقاب الأحداث الصاخبة التي حدثت العام الماضي, لازالت الأغلبية العظمى في فرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة تحتفظ عامة بآراء إيجابية عن المسلمين, على الرغم من أن دولة إسبانيا شهدت العام الماضي هبوطًا حادًا في نظرة شعبها الإيجابية تجاه المسلمين حيث انخفضت إلى 29% بعد أن كانت 46%, وكان معدل الهبوط أكثر اعتدالاً في بريطانيا العظمى, حيث انخفض من 73% إلى 63%(4).
وبشكل عام, تعد آراء الألمان والأسبان تجاه المسلمين والعرب أكثر سلبية من نظرة الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين للمسلمين. فهناك 36% فقط من الألمان, و29% من الأسبان ممن لهم آراء إيجابية عن المسلمين, في مقابل [ 39%, و33%, على التوالي ] ممن لديهم انطباعات إيجابية عن العرب. في حين أن الأغلبية في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لديهم انطباعات إيجابية عن المسلمين, ونفس النسب تقريبًا لديها انطباعات جيدة عن العرب(5).
وتتمثل أهم دعائم إنجاح الحوار الحضارى فى القناعة المبنية على الواقع في وجود نقاط التقاء مشتركة بين الإسلام والمسيحية، والعزم الصادق على استثمارها إلى أقصى حد ممكن بهدف الوصول إلى فهم صحيح، واحترام متبادل وتعاون بناء مخلص بين جميع أطراف الحوار.
يضاف إلى ذلك ما يمكن استخلاصه من خلال البحث في المعوقات التي أوجزتها في ثلاث نقاط وأعدت صياغتها في عشرة أسئلة، سبق ذكرها قبل قليل وفضلاً عن المبدأ الإسلامي المتضمن بعض آيات الذكر الحكيم والذي يأمرنا فيها ربنا عز وجل بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وألا نجادل غيرنا إلا بالتي هي أحسن. والمقصود بالدعوة فى معنى النص القرآني يرادف المعنى المقصود بالحوار الديني الذي نسعى جميعا إلى تدعيمه.
يقول تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل
وعَنْ ذِي مِخْبرٍ t، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ ، فَتَسْلَمُونَ ، وَتَغْنَمُونَ" .................................................................أخرجه الإمام أحمد.
و أوجز في النقاط التالية أهم المنطلقات الإسلامية المدعمة ، في نظري ، للحوار الديني الحضاري:(4/345)
1- يؤمن المسلم بصدق نبوة الأنبياء الذين تلقوا الوحي الإلهي ، مثل إبراهيم وموسى وعيسى، ثم خاتمهم محمد (عليهم الصلاة والسلام)، وكذلك بصدق أصول رسالاتهم السماوية يقول تعالى : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:136)
2- يلبي الإسلام جميع جوانب الحياة الإنسانية، المادية والعقلية والروحية بدرجات متوازنة كما قدم للإنسان منهجا حياتيا متكاملا يقوم على الربط التام بين الإيمان والقول والعمل، ولا يعترف بما يهمل فيه أحد هذه الأركان يقول تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)}الصف.
3-- يعد الإسلام كل عمل نافع في الدنيا لا ينتج عنه أي ضرر لفاعله أو لغيره من البشر جزءاً من عبادة الله. ولا يسأل إنسان إلا عما يفعل، وإذا ما أخطأ دون قصد، أو بقصد، ثم تاب عن ذلك توبة نصوحاً، فرحمة الله وسعت كل شيء يقول تعالى : {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} سورة الأنعام ، ويقول أيضاً : {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(54) } سورة الأنعام .
4- يقدم الإسلام للإنسان نظاماً اجتماعياً متكاملاً، يضم في تناسق تام المصلحة العامة والمصلحة الخاصة،الدينية والدنيوية، ويرفض رفضاً باتاً الفصل بين الدنيا والدين، وبالتالى فلا يقبل المنهج الغربي العصراني (العلماني). ويستمد الإسلام هذا المنهج في عصر النبوة، حيث كان رسولنا الكريم نبيا وحاكماً لأول دولة إسلامية أسسها في المدينة المنورة ، وكتب لها دستورها الذي تضمن تنظيماً دقيقاً لكل ما احتاجته من مؤسسات وقوانين عُرفت في كتب السيرة بصحيفة المدينة .
5-الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل قادر، ولم يحاربه كما يدعي البعض، ويكفي أن أول خمس آيات أنزلت منه تأمر بالقراءة وطلب العلم، قال تعال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}العلق . ويذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك في تكريم العلماء فيقول رسولنا الكريم: " إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ "أخرجه ابن ماجه والترمذي. فلا وجه إذاً لمقارنة الإسلام بالكنيسة فى هذا الصدد كما يفعل دعاة العصرنة (العلمنة) من الغربيين أو المستغربين الشرقيين.
6- تتفق الحقائق العلمية الثابتة التي توصل إليها العلم في العصر الحديث مع تفسير النصوص القرآنية الواردة فى تلك المجالات قبل أربعة عشر قرناً، ويفسر لنا سبب التقدم العلمي الهائل الذي تميزت به الحضارة الإسلامية في عصر قوتها الأولى.
7- أثبت الإسلام قدرته على التعامل مع كل المستجدات والمتغيرات الاجتماعية التي تطرأ على الحياة بفعل تغير الزمان والمكان بواسطة منهجه الفقهى المرن والمتعدد الوسائل (الأدلة الشرعية)، حيث يحتل العقل السليم الموضع اللائق به وبصفته مناط التكليف فى الإسلام، ويأتي في المرتبة التالية بعد القرآن والسنة لكونه أساس الاجتهاد والطريق الرئيسي للإجماع والقياس وسائر الأدلة الأخرى مثل " المصالح المرسلة وسد الذرائع، ومعرفة مقاصد الشريعة ..............وغير ذلك مما يعرفه دارسو أصول الفقه الإسلامى .
8- الحرية السياسية المتمثلة فى حرية التعبير عن الرأي والمشاركة في الحكم مكفولة فى الإسلام، ومنصوص عليها فى القرآن الكريم، ومطبقة فى السنة النبوية، وسنة الخلفاء الراشدين ،يقول تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران ، وقد أرسى الإسلام بذلك القواعد الأولى لنظام " ديمقراطي" تتعدد فيه المؤسسات والاختصاصات، يأتي على قمتها مجلس الشورى أو مجلس " أهل الحل والعقد " حسب التعبير الإسلامي.(4/346)
9- كان الإسلام ولا يزال منفتحاً على الثقافات الأخرى، وكان على المسلمين التعامل والتفاعل باستمرار مع عناصر ثقافية غربية وجدها في البلاد التي فتحها، وأخذوا منها ما رأوا فيه فائدة، وتركوا غير ذلك دون خوف على هويتهم الإسلامية، وعملاً بقول رسولنا الكريم " الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا "أخرجه الترمذي في العلم ، وابن ماجة في الزهد .
10- يوجد في الإسلام جهاز مناعة ذاتية يبدأ العمل عندما يتخطى التأثير الخارجي حدود الإيجابية وينقلب إلى تغريب ثقافي يهدد استقلال الهوية الإسلامية، ولا يتوقف جهاز المناعة الذاتية عن العمل حتى يعيد التأثير الغريب إلى ما دون حد الخطر، ولقد عرف النبي $ هذا الخطر قبل حدوثه فأخبرنا قائلاً: " إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا " أخرجه أبو داوود.
تضمنت هذه النقاط العشر أهم العناصر الإيجابية في التصور الإسلامي والتي تصلح لأن تكون منطلقات قوية لتفاعل وتلاقح إيجابيين بين الإسلام والغرب في العصر الحاضر مثلما كان في عصر قوة الحضارة الإسلامية التي امتدت إلى ما يقرب من ثمانية قرون.
وفي المقابل هناك بعض الملحوظات على موقف الغرب أدت ولا تزال تؤدي- في نظري - إلى تأخر حدوث الوفاق والثقة والتعاون الجاد المثمر بين الإسلام والغرب، وأوجز هذه الملحوظات فيما يلي:
1- يبدو أن كثيراً من الباحثين والسياسيين والإعلاميين فى الغرب لم يعوا بعد أن كثيراً من الباحثين المسلمين أصبحوا يتقنون قراءة ما بين السطور وما تتضمنه بعض العبارات من مغالطات مغلفة بغلاف يظهرها في مظهر الحقائق الثابتة، وأن هؤلاء المسلمين قادرون على الرد المنهجى، والدليل على ذلك استمرار كثير منهم في تكرار ذات المغالطات الموروثة عن العصور الوسطى، والتي ثبت خطؤها عند كثير من الباحثين الجادين، أيضا في الغرب(6). فلا بد من مراجعة جادة لهذا الموقف غير المنصف الذى لا يشجع على الحوار.
2- لعل الغرب لم يدرك بعد أن مرحلة الانبهار اللامحدود التي سادت لفترة طويلة بين المسلمين قد انتهت إلى الأبد، وحل محلها الرغبة الملحة في المساواة التامة، والاحترام المتبادل بين الطرفين.
3- للمسلمين وجهة نظر خاصة في تقييم التقدم العلمي الحديث حسب المفهوم الغربي، فيرى المسلمون أن التقدم العلمي الحديث قد اندفع في الاتجاه المادي مهملاً الجانب الروحي في الإنسان، كما أن الغرب قد اقتطع لنفسه النصيب الأعظم من ثمار هذا التقدم، ولم يترك لغيره سوى الفتات الذي يجعلهم دائماً مرتبطين اضطراراً بالغرب.
4- إن الربط المتعسف بين التقدم العلمي وعصرنه (علمنة) الحياة العامة يكشف عن محورية فكرية غربية يريد الغرب فرضها على الغير دون اعتبار لاختلاف المنطلقات والتصورات الدينية والثقافية للغير، إن البحث الموضوعي في التاريخ الإسلامي يثبت بالقطع التلازم بين القوة السياسية وقوة تغلغل العقيدة وهيمنتها على الحياة العامة في العالم الإسلامى.
وفى المقابل فقد بدأ تصدع أركان الدولة الإسلامية مع بداية انحراف نظام الحكم عن هذا المنهج وخضوعه للأهواء والرؤى الشخصية والاندفاع في فصل الأمور العامة في مجال السياسة والاقتصاد والتشريع عن الدين، وقصره على الأمور الفردية الخاصة.
5- مما يؤسف له حقاً أن نجد الغرب يحتفي بكل من يتجنى ويتطاول على الإسلام بغير الحق، ويضفي عليه ما لا يستحق من ألقاب التكريم، فهو مفكر حر شجاع، وثائر على مظاهر التخلف المرتبط بالدين، وتنهال عليه الجوائز التقديرية من أكبر المؤسسات الأدبية، ويفسح له مجال التدريس في الجامعات الأوربية رغم ارتفاع نسبة البطالة بين الأكاديميين من الأوروبيين وما يستتبع ذلك من وسائل الحماية باهظة التكاليف ......إلخ.
لقد أصبح التطاول علي الإسلام أسرع وأقصر الطرق إلى الشهرة وكسب العيش في الغرب، رغم أن هؤلاء الذين أصبحوا فجأة من كبار المفكرين الأحرار والمناضلين المغاوير، كانوا قبيل هذا التطاول ضمن المغمورين من متوسطي الكفاءة العلمية.
6- لقد أثبتت التطورات السياسية في العقود الأخيرة أن حماس الغرب لتطبيق الديمقراطية وحقوق الإنسان له حدود جغرافية وثقافية، فعلى سبيل المثال، عندما شرعت حكومة طالبان الجديدة في أفغانستان في تطبيق تعليمات متشددة على السيدات قامت منظمات حقوق الإنسان والمنظمات النسائية بالمظاهرات المنددة لتلك الإجراءات، والتي طالبت فيها الحكومة الأفغانية بالرجوع عن تلك القرارات (الظالمة).
بينما كان رد فعل هذه المنظمات في غاية التواضع عندما كانت الاعتداءات الصربية والكرواتية الهمجية تحصد الآلاف من النساء والأطفال والرجال العزل من المسلمين فى البوسنة والهرسك على بعد بضعة أميال، وعلى مسمع ومرأى من العالم الغربى المتحضر- نصير حقوق الإنسان- وكذا ما حدث أخيراً في أبي غريب وكثير من مدن العراق ،كل ذلك وعلى مدى سنوات طويلة سيبقى في ذاكرة الأجيال القادمة من المسلمين.(4/347)
7- إن تخوف الغرب من نظام حكم إسلامى قد يجد مبرراً له في النماذج السلبية الموجودة في بعض الدول الإسلامية، إلا أن النظرة الموضوعية لنظام الحكم الإسلامي الصحيح سوف تقوض كل أساس لهذا التخوف ويكفي لذلك أن تعاد قراءة التاريخ الإسلامي من جديد بموضوعية وتجرد صادق، خاصة تاريخ الحكم أثناء الخلافة الراشدة.
8-إن أكثر ما يقلق المسلمين في الآونة الأخيرة هو تركيز الإعلام الغربي بكل وسائله على إظهار الإسلام فى صورة العدو الجديد الذى يهدد الحضارة الغربية الحديثة، إتباعاً لمخطط عدائي صريح موجه ضد المسلمين، ترعاه جهات مخضرمة في العداء للإسلام، وعلى رأسها مؤسسات صهيونية ذات نفوذ مالي وسياسي وإعلامي في الغرب. والإسلام بريء من هذا الاتهام الباطل ذي الأهداف المعروفة لكل مطلع في هذا المجال.
نقاط تلاق بين الإسلام والغرب:
رغم ما ذكر من نقاط اختلاف، ونقاط نقد، وتحفظات من جانب المسلمين على موقف الغرب من الإسلام في الماضي والحاضر، إلا أنني أجد نقاط التقاء أساسية وعديدة، لا تساعد فقط على إنجاح الحوار بين الإسلام والغرب بل يمكن أن تكون إكمالاً وتحدياً بناء للحضارة الغربية الحديثة، أوجز هذه النقاط فيما يلي:
1- أولاً وقبل كل شيء لم يكن الإسلام يوماً ما عدواً للحضارة الغربية، القديمة أو الحديثة، فضلاً عن قناعة المسلمين بوجود وضرورة وجود علاقات ثنائية متبادلة فى شتى المجالات، خاصة الثقافية والحضارية بين الإسلام و الغرب.
2- كل من الإسلام والحضارة الغربية يشجع البحث العلمي، ويؤمن بضرورة تطوير حياة الإنسان إلى الأفضل، إلا أن الإسلام يفرض ضوابط خلقية واجتماعية للبحث العلمي من شأنها أن تبقي على العلم خادماً للإنسان كي لا ينقلب عليه فيدمره، إلى جانب ضرورة الحفاظ على التوازن الطبيعي بين الإنسان والبيئة بكل عناصرها الطبيعية.
3- كل من الإسلام والغرب يحترم ويحمي الملكية الفردية، ويسعى إلى تحقيق أفضل استثمار للطاقات والموارد الطبيعية ويشترط الإسلام ألا يأتي ذلك على حساب فئة من البشر أو عنصر من عناصر الطبيعة، لذلك حرم الربا وأحل البيع، كما حرم الإسراف في استنزاف الموارد الطبيعية.
4- كل من الإسلام والغرب يؤيد ويحمي التعددية في الحكم، وحرية التعبير عن الرأي، الإسلام لا يعتبر المساس بالشعور الديني أو الأخلاقي للآخرين جزءاً من حرية الفكر أو التعبير عن الرأي فحسب، بل هو تعدٍ على حقوق الآخرين، يستحق فاعله العقاب العادل، وللإسلام تصور خاص عن التعددية، يتمثل في مجلس للشورى يضم ممثلين عن كل جماعات الأمة، يسمون أهل الحل والعقد، وقد اختلفت آراء الفقهاء فى مدى إلزامية رأي هذا المجلس، فمنهم من رأى أنه ملزم للحاكم، ومنهم من ذهب إلى أنه غير ملزم، والراجح أنه ملزم........................الأحكام السلطانية للماوردي ص 5-7.
5- استحدث الإسلام مؤسسة اجتماعية جديدة تعمل بالتعاون مع المؤسسات القانونية والأمنية المعروفة، على حفظ النظام فى الأماكن العامة والأسواق، تسمى " هيئة الحسبة" ومن أهم أهدافها درء الأسباب التي تؤدى- إذا أهملت- إلى وقوع المخالفات القانونية في الأماكن العامة مثل مخالفات الآداب، ومحاولات الغش بشتى أنواعه التجارية والإدارية، وما شابه ذلك من أمور قد تخفي على الجهات التقليدية المسئولة.
6- يحرص الإسلام- مثل الغرب - على ضرورة احترام وتطبيق حقوق الإنسان، ويؤكد الإسلام على ضرورة أن يشمل ذلك كل البشر بقدر متساو، وأن يراعى ذلك في حالات الحرب أو السلم، كما يشهد بذلك كثير من الآيات القرآنية، وأحاديث الرسول الكريم ووصايا الخلفاء الراشدين. يقول تعالى : {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (190) سورة البقرة ، ويقول عز من قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (87) سورة المائدة ، ويقول أيضاً : {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (61) سورة الأنفال .(4/348)
7- المحافظة على سلامة البيئة واجب شرعي على كل مسلم لأنه مستخلف من الله في الأرض لأعمارها، وسوف يحاسب الإنسان على كل ما جناه في حق البيئة التي خلقها الله وسخرها لخدمة الإنسان، فالمحافظة عليها واستثمارها بما ينميها ويزيدها قوة هو من واجب شكر النعمة، وفي القرآن الكريم آيات عديدة تؤكد هذا الواجب الشرعي ، يقول تعالى : {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (60) سورة البقرة. وقد روي عن الرسول الكريم $ أنه قال: " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
8- يحرم الإسلام كل أنواع الظلم الاجتماعي، ويؤكد المساواة التامة بين البشر من حيث أصولهم، على اختلاف ألوانها وألسنتهم وأجناسهم ومستوياتهم الاجتماعية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات ، كما أنه وإن لم يحرم الرق بنص شرعي صريح، إلا أنه حبب في عتقهم، وجعله من كفارات الكبائر ، يقول تعالى : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) } سورة البلد .
9- يتضمن مبدأ المساواة التامة بين البشر من حيث أصولهم تصوراً خاصا لما يسمى " قضية المساواة بين المرأة والرجل" فمما لاشك فيه أن وضع المرأة في كثير من البلاد الإسلامية،الذي يرجع إلى عادات وتقاليد جاهلية يرفضها الإسلام، يحتاج إلى مراجعة موضوعية عادلة تعطي المرأة حقها الشرعي الذي قسمه الله لها، متفقاً مع طبيعتها التي تختلف بلا شك في بعض الجوانب عن طبيعة الرجل، إلا أن هذا الاختلاف، كما أنه لا يبرر بأية حال سلب حقوقها الطبيعية والشرعية، لا يعفيها من القيام بواجباتها التى تتفق مع طبيعتها وفطرتها التي فطرها الله عليها، مثل واجب الأمومة الذي لا يدانيه في الأهمية أي وجب آخر لرجل أو امرأة، ويؤكد ذلك عديد من آيات الذكر الحكيم ، يقول تعالى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} (228) سورة البقرة، ويقول تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء ، وكثير من الأحاديث الشريفة ، قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ ". أخرجه الترمذي وغيره .
وصدق الشاعر حين قال :
"الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق "
ومن حيث المبدأ، لم يحرم الإسلام على المرأة ممارسة أي عمل شريف لا يجبرها على تعدى حدود الشرع الخلقية، من حيث الملبس أو الاختلاط المشبوه مع الرجال غير المحارم.
وأفضل الأعمال بالنسبة للمرأة وأبعدها عن الشبهات، خارج المنزل، هي الأعمال التي تخص النساء والأطفال خاصة في مجال الطب والتمريض والتربية، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك تحريم عملها في غير هذه المجالات طالما روعيت الضوابط الخلقية الشرعية المتفق عليها.
10- يدعو الإسلام (مثل المسيحية) إلى التسامح ويرفض كل أساليب الإكراه في الدين أو التعصب العرقي أو غير ذلك. قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (256) سورة البقرة.
11- يدعو الإسلام، كما تدعو المسيحية، إلى التواد، والتراحم، والتكافل بين كل أفراد المجتمع فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير tماٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".أخرجه مسلم.(4/349)
ويضمن ذلك في الإسلام نظام دقيق لتوزيع الحقوقى والواجبات داخل دوائر اجتماعية تبدأ من الأسرة، ثم الأقارب، ثم الجيران، ثم البلدة، ثم تتسع إلى أن تشمل كل أفراد المجتمع، بل والأمة الإسلامية كلها بمن يعيش فيها من غير المسلمين.
ويشرف على تطبيق ذلك مؤسسات بعضها رسمي مثل وزارة الأوقاف، وبعضها خاص تمول عن طريق ما يأتيها من أموال الزكاة والصدقات بكل أنواعها،قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (60) سورة التوبة.
12- يتضمن التصور الإسلامي كلاً من الجانب التشريعي للحياة، الذي اهتمت به أيضا اليهودية،والجانب الروحاني الذى ركزت عليه المسيحية، يتجلى ذلك في إجازته للعقاب على الخطأ من جانب، وحثه على مقابلة الإساءة بالعفو عند المقدرة، بل ومقابلة السيئة بالحسنة، بمعنى أن تحسن لمن أساء إليك، وقد ورد هذا المعنى في كثير من آيات الذكر الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة ، يقول تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت. وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، أَوْ أَيْنَمَا كُنْتَ " ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : " أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا " ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : " خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ "..أخرجه أحمد والطبراني .
13- إن الحرية الإنسانية الحقيقية لا تتحقق في أجل معانيها إلا إذا أفرد الإنسان ربه بالعبودية الخالصة، لأنه بذلك لا يكون عبدا لأي إنسان، أو لأي مخلوق آخر فى الطبيعة ، يقول تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة ، و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟!. قَالَ :أ"َنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" متفق عليه . فهذه الطبيعة مسخرة للإنسان طالما هو يحسن استثمارها، وإعمارها كما أمره خالقه(7).
وبعد... أرجو أن أكون قد وفقت إلى إيجاز أهم النقاط التي تتعلق بموضوع هذا البحث المتواضع الذى حاولت فيه التعريف بأهم نقاط الاختلاف، ونقاط التلاقى بين الإسلام والغرب وكذلك المنطلقات الإسلامية التى تصلح لأن تكون كلمة سواء، وقاعدة مشتركة يبنى عليها حوار بناء يحفظ لكل طرف حقه فى الاحتفاظ باستقلاليته وهويته الدينية والحضارية، دون المساس بحق الآخر فى الاستقلال الدينى والحضاري.
فعندما كانت السيادة الإسلامية في أوج قوتها، خاصة في العصور الوسطى المسيحية، أغفلت التطورات الجذرية التي طرأت في الجانب الآخر وهو الغرب.
وقد حدث الشيء نفسه للدولة المغولية، ومن بعدها الدولة العثمانية، ولم تختلف الحال عن ذلك بالنسبة للدول الأوربية الاستعمارية في العصر الحديث وفى كل تلك الحالات كان الانحطاط الحضاري النتيجة المنطقية لغرور القوة والعظمة، ولم تتعلم اللاحقة من السابقة فذاقت كلها ذات المصير، وإنْ كان ذلك بنسب متفاوتة، فهل نتعلم نحن اليوم مسلمون وغير مسلمين من دروس التاريخ؟!!!.
إنني على ثقة تامة أن كلاً من المجتمعين الإسلامي والغربي يمكن أن يكمل أحدهما الأخر ويصلا يداً بيد إلى حياة أكثر أمناً وسلاماً وعدلاً ورخاءً.
فعند أبي داوود سَألَ جُبَيْرٌ بنُ نُفَيرٍ ذا مُخبرٍ الحبَشي t عَنِ الْهُدْنَةِ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ثُمَّ تَرْجِعُونَ ".....أخرجه أبو داوود في سننه وصححه الألباني(4/350)
إذاً الهدنة ( المصالحة الآمنة ) ممكنة من حيث الاستقراء الذي طرحناه عبر هذه الأطروحة ، وهي قادمة لا محالة من الناحية الشرعية حيث أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، ونحن نؤمن بما قاله صلى الله عليه وسلم إيماناً راسخاً ، ونستشهد على ذلك بما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عدي بن حاتم رضي الله عنه ، فعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ t قَالَ : بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ ، فَقَالَ : "يَا عَدِيُّ ، هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ "؟. قُلْتُ : لَمْ أَرَهَا ، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا . قَالَ : "فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ" . قُلْتُ : فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ ؟. "وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى " .قُلْتُ :كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟. قَالَ : "كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ ، فَلَيَقُولَنَّ لَهُ : أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ ؟. فَيَقُولُ : بَلَى . فَيَقُولُ : أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا ، وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ ؟. فَيَقُولُ: بَلَى . فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ " . قَالَ عَدِيٌّ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". قَالَ عَدِيٌّ : فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ ، وَكُنْتُ فِيمَنْ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ. أخرجه البخاري في صحيحه .
بقي أخي القارئ الكريم أن تعرف أن عدي بن حاتم t يوم أن جرت معه هذه الحادثة كان نصرانياً !!!!.
ولكن ما الكيفية المناسبة لهذا الحوار ؟
أولا: بساطة المعنى ووضوح الفكر
يستند الحوار المثمر مع غير المسلمين على البساطة فى اللفظ، والوضوح فى المعنى، واليسر فى الدين، ولهذا لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس. وأحيا الأخلاق، ورفع من شأن الفضيلة فى زمن قياسي كما فعل محمد بن عبد اللهr، من خلال نشاط تبين من خلاله أن فهم الدعوة الإسلامية لا يحتاج إلى مقدرة عقلية وملكات ذهنية كبيرة، وإنما يرجع ذلك إلى طبيعة هذا الدين الذى يخاطب فطرة الإنسان، ويتعامل مع ظروفه، ويلبي رغباته، ويعالج قضاياه، ويرد على تساؤلاته، ويربط في تناسق وانسجام، بين ما يتضمنه من حقائق وواقع الحياة، فمشكلات الناس وقضاياهم، يجدها الإنسان معروضة بصورة مبسطة، سهلة الفهم والاستيعاب فى القرآن الكريم، وفى سنة الرسول r.
ثانيا: حوار يستند إلي منطق العقل ويقوم على الحجة البالغة
لقد كتب الله فى سننه أن يكون منطق العقل تاج هذه الحياة الإنسانية يستطيع اكتناه غاية ما تستطيعه الإنسانية من أسرار الكون، كما كتب الله فى لوح هذا الوجود أن يقوم نبي الإسلام داعياً إلى الحق بمنطق العقل هو ومن اتبعه.
وقد جعل الإسلام العقل حكماً في كل شيء، فمن ربى على التسليم بغير عقل، والعمل بغير فقه، فهو قاصر الإيمان، حتى لو كان عمله صالحاً، فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم، فيعمل الخير لأنه يعرف أنه خير ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته.
والحوار يجب أن يحترم العقل الإنساني ، ويقدر الفكر البشري ويضع الحجج العقلية والأساليب المنطقية على رأس طرق التفاهم والنقاش والجدل المفيد.(4/351)
وما أكثر الآيات القرآنية التي تطلب من الإنسان أن يفكر ويتدبر، ويطلق عقله ليستنبط به، ثم يعتبر من خلال النظر إلى ما حوله من ظواهر طبيعية وحقائق علمية، يؤكد ذلك ما قاله الله تعالى: { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32) سورة الأعراف ، وقال : {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (174) سورة الأعراف ، وقال : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (24) سورة يونس، وقال : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (28) سورة الروم.
وتشير كافة الأدلة والبراهين على أن الإسلام دين يقوم على المنطق، ويستند إلى البرهان في مخاطبة الناس جميعا المسلمين منهم وغير المسلمين، وقد أمر الله بالمحافظة على العقل لعظم شأنه وضرورة الحاجة إليه، لأن فقده يعنى فقد شخصية الإنسان، ولأن الإخلال به يؤدي إلى التخبط والضلال، فحرم كل ما يؤثر عليه من المسكر والمفتر، ووضع عقوبة قاسية لمن ينتهك حرمته.
والحوار مع غير المسلمين يجب أن يستبعد أسلوب الأهاجة والإثارة ، لأن هذا الأسلوب وإن حقق بعض أغراضه لدى جماهير المسلمين، إلا أنه لا يصلح لمخاطبة غير المسلمين، ولعله من غير المنطقي مخاطبة غير المسلمين بالحجج القرآنية والنهج النبوى، والسبيل الوحيد للحوار معهم هو الأدلة العقلية، والأمثلة الحياتية، والحجج المنطقية
ثالثا: الحوار بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن
الحوار بالكلمة الطيبة يأتى فى مقدمة طرق التفاهم مع غير المسلمين،لأن هذه الكلمة هى التى تحمل للناس البشرى، وتأخذ بأيديهم إلى طريق الحق والصواب، ولا تسيء إلى أحد، ولا تعنف أحداً، وهى الكلمة الرقيقة التي تلمس القلوب فترق لها، وتخالط النفوس فتهش لها وتفرح بها، وهى البلسم الشافي يداوى الجروح، ويخفف الآلام، ويشفي النفوس.
وإمعانا في التسامح والرفق والرحمة والصبر حث الإسلام على التحلي بحسن الخلق، وسماحة النفس، ولين القول، والإعراض عن اللغو فى الحديث، وعدم التجاوز فى القول، وقد نهج محمد بن عبد الله rهذا النهج، مجسداً كل معانيه، سواء مع المسلمين أو غير المسلمين ملتزماً في ذلك بأوامر الله جل وعلا الذى حثه على اللين والرقة فى معاملته للجميع.
رابعا: التدرج المرحلي في الحوار.
التدرج هو واحد من أبرز المناهج المناسبة للحوار بين المسلمين وغيرهم،لاسيما أصحاب الديانات السماوية الأخرى نظرا لوجود مساحة مشتركة من التفاهم بين الإسلام والعقائد الأخرى، وهنا يجب أن يبدأ الحوار بالعوامل المتفق عليها، ويتدرج بعد ذلك حتى يصل إلى القضايا الخلافية، يجب أن تعتمد عليها وسائل الإعلام فى مخاطبة غير المسلمين.
ولعل رعاية الإسلام للتدرج هى التى جعلته يبقى على نظام الرق الذى كان سائدا فى العالم كله عند ظهور الإسلام، ولو تم إلغاؤه مرة واحدة لأدى ذلك إلى زلزلة فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة فى تضييق روافده ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حل، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج (20).
وبعد... وفى ضوء هذه الحقائق فإننا نستطيع أن نجمل هذه الركائز التى يقوم عليها المنهج الإسلامي في الحوار مع غير المسلمين وذلك فى النقاط التالية:
1- أن الحوار مع غير المسلمين ضرورة حياتية لتحقيق التفاهم والتعاون والتقارب بين المسلمين وغيرهم.
2- نتحمل كمسلمين أهمية كبيرة في توضيح القيم الإسلامية البناءة لأصحاب الديانات والعقائد الأخرى وتصحيح الصورة الذهنية التي تروج لها الوسائل المغرضة لتشويه هذه الصورة وإحداث الفتنة بين المسلمين وغيرهم.
3- يؤكد الحوار على تأكيد المبادئ النبيلة التى يحث عليها الإسلام لتحقيق العدل والتكافل والتضامن والخير للناس جميعاً.
===============
أعياد الميلاد.. ( مناسك، وشعائر ) ولكل أمة منسك
((... كلما كثرت المخالفة بينك وبين أصحاب الجحيم، كنت أبعد عن أعمال أهل الجحيم، وكنت أبعد عن عذاب الجحيم.. ))
قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال:
( ما هذان اليومان؟، قالوا:
كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله:
إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر) رواه أبو داود من حديث أنس في باب صلاة العيدين
---------
( مخالفة واجبة ومستحبة)...
التشبه بالكفار في الجملة منهي عنه، ومخالفتهم في هديهم أمر مشروع، إما على سبيل الوجوب أو الاستحباب..
فمثال الوجوب قوله: ( خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى) مسلم في الطهارة
ومثال الاستحباب قوله: ( خالفوا اليهود فإنهم لايصلون في نعالهم ولاخفافهم) أبو داود في الصلاة
فمخالفة الكفار وأهل الكتاب مقصودة لذاتها، والتشبه بهم محرم، سواء قصد المتشبه مشابهتهم أو لم يقصد..
يدل على هذا أن النبي نهاهم عن التشبه بالكفار في أمور كان المسلمون يفعلونها بغير قصد التشبه بهم كتطويل الشارب، وإنما كانت تفعل إلفا وعادة، لكنه نهاهم عن ذلك أيضا، ليمنع أي توافق بين المسلمين والمشركين ولو في الظاهر..
وفي ذلك حكمة لاتخفى...(4/352)
فالموافقة في الظاهر تتعدى إلى الموافقة في الباطن..
------------------
( هدينا مخالف لهديهم)...
إن المخالفة تنقسم إلى قسمين:
مخالفة في أصل العمل، ومخالفة في صفتها..
- أما أصل العمل فمثل الأعياد.. فهذا ليس مشروعا لنا بحال أن نحتفل بأعيادهم..
- وأما الصفة، فإن من العبادات ماهو مشروع لنا ولهم مثل صيام عاشورا والصلاة والدفن، وهذا القسم وإن اتفقنا نحن وهم في أصل العبادة إلا أن الشرع أمرنا بمخالفتهم في صفتها، فأمرنا بصوم تاسوعاء أو اليوم الحادي عشر، وبتعجيل الفطر وتأخير السحور مخالفة لهم، والصلاة في النعال في بعض الأحيان، لأنهم لايفعلون ذلك، وسن لنا توجيه قبورنا إلى الكعبة، تمييزا لها عن مقابر الكافرين، وأن تكون لحدا لقوله: ( اللحد والشق لأهل الكتاب) رواه أحمد 4/362،363،
إن كل قواعد الشرع تؤكد ضرورة تعمد المسلمين مخالفة الكافرين في كل شيء تميزوا به في عاداتهم الخاصة، وفي عباداتهم الخاصة المخالفة آكد وأوجب، قال رسول الله:
(هدينا مخالف لهديهم) البيهقي باب الدفع من المزدلفة
طبعا لايدخل في هذا تقليدهم فيما فيه منفعة للبشرية، مما كان لهم سبق في تحقيقه كالعلوم والطب ونحوها، وإنما المقصود تقليدهم فيما تميزوا به في عوائدهم وعقائدهم التي لاتعود بالنفع على المقلد في دنياه، وتضره في أخراه، وتزيل العداوة بينه وبينهم، وتزرع المودة والولاء..
-----------
( الإبدال من الشيء يقضي بترك المبدل منه)...
إذا عرفنا هذا الأصل في مشابهتهم فنقول:
موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين:
الطريق الأول: تحريم الشرع التشبه بأهل الكتاب..
قال رسول الله: ( من تشبه بقوم فهو منهم) أبوداود في اللباس في لبس الشهرة
وقال: (خالفوا المشركين)..
وقد قلنا إن الشرع يحرم موافقتهم فيما كان من عوائدهم، فكيف إذا كان من عباداتهم؟..
فالأمر أشد حرمة..
والطريق الثاني: ورود النصوص الخاصة في التأكيد على النهي عن موافقة الكافرين في أعيادهم..
فمن ذلك قوله تعالى: {والذين لايشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما} فعن مجاهد والربيع بن أنس وغيرهم من السلف: " هو أعياد المشركين" تفسير ابن كثير..
ومن الأدلة على النهي عن موافقة الكافرين في أعيادهم حديث أنس السابق:
( قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)..
فإن هذين العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله ولاتركهم يلعبون فيهما، وأخبرهم بأن الله قد أبدلهم خيرا منهما، وهذا يعني صراحة عدم جواز الجمع بين عيد الإسلام وأعياد الكفار، إذ الإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، مثل حديث المقبور يقال له:
( أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به خيرا منه مقعدا في الجنة) البخاري الجنائز
فهذا قد أبدل مقعدا في الجنة بدلا من مقعد في النار، وكذا أبدل المسلمون بعيدين هما الفطر والأضحى بدلا من أعياد الجاهلية والكفار..
ومما يدل على هذا أن ذلك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام، فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله ولا عهد الخلفاء، ولو لم يكن النهى عنه جازما لبقوا عليهما، فالعادات الراسخة مثل العيد الذي فيه فرح النفوس واللعب والأكل لاتزول بسهولة، وقد يعجز الحكماء والرؤساء عن نقل الناس عنها، لقوة تعلق القلوب بها، فلولا أنهم فهموا من النبي النهي عنها لكانت باقية، ولو على وجه ضعيف، فعلم من ذلك أن المانع والنهي شديد..
-------------
( العيد ... )
هذا والمحذور في أعياد أهل الكتاب أشد من المحذور في أعياد الجاهلية، لأن الأمة حذرت من مشابهة واليهود والنصارى، وأخبرت أن طائفة منها ستتبع أثرهم، بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلا آخر الدهر، وجاء في الحديث أن رجلا أتى رسول الله فقال:
( إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال النبي: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟، قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟، قالوا: لا، قال: أوف بنذرك) أبو داود في الأيمان والنذور
فإذا كان الذبح لله وهو من أجل العبادات بمكان عيدهم منهيا عنه، فكيف بالموافقة في نفس العيد بتعظيمه والاحتفاء به؟..
والعيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك، والعيد يجمع أمورا:
- منها: اليوم العائد، كيوم الفطر والأضحى والجمعة..
- ومنها: الاجتماع فيه..
- ومنها: أعمال تتبع ذلك، من العادات والعبادات، كصلاة العيد واللعب في ذلك اليوم، قال ابن عباس: (شهدت العيد مع رسول الله) أي الصلاة والاجتماع..
- وقد يختص العيد بمكان بعينه أو يكون مطلقا، كقوله: ( لا تتخذوا قبري عيدا)..
وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا، فالعيد يكون للزمن الذي يعظم على الدوام، ويكون للمكان المعظم على الدوام كذلك، وما يكون في الزمان والمكان من العبادات كالصلاة والذبح والذكر ونحوها، والعادات كاللعب والأكل ونحوها، وتعظيم أي زمان أو مكان لم يعظمه الشارع فهو بدعة محرمة، والنبي لما سأل:
(هل كان فيها وثن أو عيد)(4/353)
إنما كان المقصود في الماضي لا في وقت السؤال، فإن القصة كانت في حجة الوداع، وحينذاك لم يكن قد بقي للمشركين عيد، ثم مع ذلك حرمه، مع أن المكان لم يعد فيه وثن ولا عيد، سدا للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم أو إحيائها، فكيف بالمكان والزمان الذي لايزال يعظم من قبل أهل الكتاب ويتخذ عيدا؟..
فتعظيم المسلمين لها واتخاذها عيدا أعظم إثما لا ريب..
فإمام المتقين كان يمنع أمته منعا باتا قويا عن أعياد الكفار، ويسعى في دروسها، وطمسها بكل سبيل، بل ويسعى في تلقين أمته مخالفة أهل الكتاب في كثير من المباحات وصفات الطاعات، لئلا يكون ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم، ولتكون المخالفة في ذلك حاجزا ومانعا عن سائر أمورهم..
فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أصحاب الجحيم، كنت أبعد عن أعمال أهل الجحيم، وكنت أبعد عن عذاب الجحيم، فليس بعد حرصه على أمته ونصحة لهم غاية، وكل ذلك من فضل الله عليه وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لايعلمون...
------------------
( هذا عيدنا...)..
قالت عائشة رضي الله عنها:
( دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قال: وليستا بمغنيتين، فقال أبوبكر أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله؟، وذلك يوم عيد، فقال: رسول الله: ( يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا) مسلم،
فقوله: (وهذا عيدنا) يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، كما قال تعالى:
{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}..
فإذا كان لليهود عيد وللنصارى عيد كانوا مختصين به فلا يجوز أن نشركهم فيه، كما لانشركهم في قبلتهم وشرعتهم، وكذلك لاندعهم يشركوننا في عيدنا، فإن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله عنها:
{ لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه}..
كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج..
فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر..
بل الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر، وكذلك قوله: (وهذا عيدنا) يقتضي حصر عيدنا في هذا فليس لنا عيد سواه..
وإذنه عليه الصلاة والسلام للصغيرتين بالغناء المباح الذي ليس فيه خنا ولامعازف، وإذنه باللعب للحبشة يدل على أن اللعب في أعياد المسلمين جائز، وأنه لايرخص في اللعب في أعياد الكفار، إذ لو ساغ ذلك لما قال:
(دعهما، فإن لكل قوم عيدا، وإن هذا عيدنا)..
وعليه فلا يجوز أن نفعل في أعياد أهل الكتاب ما نفعله في عيد المسلمين..
وقد كان أرض العرب فيها من يهود ونصارى حتى أجلاهم عمر بن الخطاب في خلافته عملا بوصية رسول الله بأن لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، وكانت لهم أعياد يتخذونها، ثم إن المسلمين ما كانوا يشركونهم في شيء من ذلك أبدا، ولايغيرون لهم عادة في أعياد الكافرين، وذلك لأنهم فهموا من دينهم منع ذلك، فالمقتضي قائم فلولا قوة المانع الشرعي لوجد الفعل..
وقد شرط عمر ـ واتفق الصحابة على ذلك ـ على أهل الذمة بعدم إظهار أعيادهم في دار الإسلام، وقال: "إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين في يوم عيدهم في كنائسهم"، عبدالرزاق في المصنف باب الصلاة في البيعة
وعنه قال: " اجتنبوا أعداء الله في عيدهم"، السنن الكبرى للبيهقي
وعن عبدالله بن عمر ومثله عن عبدالله بن عمرو: " من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك يحشر معهم يوم القيامة"، البيهقي..
فعمر ينهى عن الاجتماع بهم في عيدهم، فكيف بمن يعمل عيدهم؟..
ومعنى كونه يحشر معهم إما أنه يموت كافرا مثلهم وهذا الأقرب، ولا أقل من أنها كبيرة من الكبائر..
-------------
( السر في المنع)........
- إن السر في المنع من الموافقة للكفار في أعيادهم أن المشابهة تفضي إلى الكفر أو المعصية، وليس فيها أدنى مصلحة، فالموافقة توجب السرور والرضى بماهم عليه من الباطل، وهم يفعلون في أعيادهم المحرم والكفر والمباح، والموافق لهم في ذلك لايميز بين ذلك..
- ثم إن الموافقة تفضي إلى أن لايتميز المسلم عن الكافر، فإذا كان المسلم يفعل كما يفعل الكافر في دينه فأي ميزة تبقى له..
- ثم هذه الموافقة تفضي إلى المودة، والإنسان المتخذ أعياد الكفار عيدا له هو محب لهم لاريب أو على الأقل لايبغض دينهم، ولو كان مبغضا لهم حقيقة كما أمر الله لما وافقهم في شيء من ذلك..
إن الإنسان إذا عادى آخر لأجل دنيا، ترفع عن تقليده في أي شيء يختص به، فكيف بمن كان معاديا لله ولرسوله؟..
هذا أولى بالمعاداة والمخالفة لا الموافقة..
- والإنسان إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف همته ونهمته إلى المشروع، فإنه يعظم محبته له ويتم به دينه وإسلامه، ولذا تجد الذي يعتني بأعياد الكفار ويوافقهم فيها تقل رغبته في أعياد المسلمين، جاء في الأثر:
( ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها) رواه أحمد(4/354)
فإذا كان الله تعالى قد أبدلنا يومين خيرا من سواهما من الأعياد، فإن استبدال هذا الخير بما سواهما شر، وضم سواهما إليهما كذلك شر، والقلوب تتشوق إلى العيد وتسر به، فإذا وجدت غذائها في غيره فترت عن عيد الله وزال ما كان فيها من المحبة والتعظيم، فينقص أجرها وتخسر خسرانا مبينا..
قال تعالى: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ }.
(اقتضاء الصراط المستقيم 1/426ـ490)
أبو سارة
==============
اذا سب الكفار الرسول صلى الله عليه وسلم فانتظروا النصر المأمول
* أولا لقد أعلى الله شأن نبيه صلى الله عليه وسلم دينا ودنيا:
* فقال تعالى:" مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(40) الأحزاب.
* وقال تعالى:" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29) الفتح.
* قال تعالى:" آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285) البقرة.
* قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(56) الأحزاب.
* وقال تعالى:" إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(68) آل عمران.
* قال تعالى:" يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45) الأحزاب.
* قال تعالى:" لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128) التوبة.
* قال تعالى:" يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(64) الأنفال.
* قال تعالى:" النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ......... (6) الأحزاب.
* وكرمه أعلى التكريم وأرفعه صلى الله عليه وسلم :
* فقال تعالى:" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1) الإسراء.
* قال تعالى:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1) الكهف.
* قال تعالى:" تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1) الفرقان.
* قال تعالى:" هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(9) الحديد.
* وأمر باتباعه وطاعته والأيمان به صلى الله عليه وسلم:
* فقال تعالى:" فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(158) الأعراف.
* قال تعالى:" وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(92) المائدة.
* قال تعالى:" قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ(54) النور.
* قال تعالى:" وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(7) الحشر.
* قال تعالى:" لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21) الأحزاب.(4/355)
* وأمر المؤمنين بعظيم الأدب معه صلى الله عليه وسلم:
* فقال تعالى:" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(2) الحجرات.
* قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(3) الحجرات.
* قال تعالى:" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ......... (53) الأحزاب.
* قال تعالى:" وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا(53) الأحزاب.
* وحذر تحذيرا شديدا من إيذائه ولو بأقل القليل:
* فقال تعالى:" وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(61) التوبة.
* قال تعالى:" وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(115) النساء.
* قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ(32) محمد.
* ولكن السنة الكونية أن هناك أعداء له صلى الله عليه وسلم :
* قال تعالى:" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112) الأنعام.
* قال تعالى:" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا(31) الفرقان.
** ثانيا: حكم السب ومناطه:
* قال ابن تيمية فى الصارم المسلول ج: 3 ص: 978...وما بعدها:
* قال القاضي عياض جميع من سب النبي او عابه او الحق به نقصا في نفسه او نسبه او دينه او خصلة من خصاله او عرض به او شبهه بشئ على طريق السب له والازراء عليه او البغض منه والعيب له فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب يقتل ولا نستثن فصلا من فصول هذا الباب عن هذا المقصد ولا نمتر فيه تصريحا كان او تلويحا وكذلك من لعنه او تمنى مضرة له أو دعا عليه او نسب اليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم او عيبه في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزورا او عيره بشئ مما يجري من البلاء والمحنة عليه او غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه قال هذا كله اجماع من العلماء وائمة الفتوى من لدن اصحابه وهلم جرا.
* وقال ابن القاسم عن مالك من سب النبي قتل ولم يستتب قال ابن القاسم او شتمه او عابه او تنقصه فانه يقتل كالزنديق وقد فرض الله توقيره وبره , وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه من سب رسول الله او شتمه او عابه او تنقصه قتل مسلما كان او كافرا ولا يستتاب , وروى ابن وهب عن مالك من قال ان رداء النبي ويروى إزاره وسخ واراد به عيبه قتل , وذكر بعض المالكية اجماع العلماء على ان من دعا على نبي من الانبياء بالويل او بشيء من المكروه انه يقتل بلا استتابة.
* وذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة افتى في كل قضية بعضهم منها رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي اذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية فقال تريدون تعرفون صفته هي صفة هذا المار في خلقته ولحيته , ومنها رجل قال النبي كان اسود , ومنها رجل قيل له لا وحق رسول الله فقال فعل الله برسول الله كذا قيل له ما تقول يا عدوا الله فقال اشد من كلامه الاول ثم قال انما اردت برسول الله العقرب قالوا لا يقبل لأن إدعاءه للتأويل في لفظ صراح لا يقبل لانه امتهان وهو غير معزر لرسول الله ولا موقر له فوجبت اباحة دمه , ومنها من قال ان سألت او جهلت فقد سأل النبي وجهل , ومنها متفقه كان يستخف بالنبي ويسميه في اثناء مناظرته اليتيم ويزعم ان زهده لم يكن قصدا ولو قدر على الطيبات لأكلها واشباه هذا.(4/356)
* قال عياض فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا وتنقصا يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم ومتاخرهم وان اختلفوا في حكم قتله.
* وكذلك قال ابو حنيفة واصحابه فيمن تنقصه او برئ منه او كذبه انه مرتد وكذلك قال أصحاب الشافعي كل من تعرض لرسول الله بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح فان الاستهانة بالنبي كفر وهل يتحتم فيه قتله او يسقط بالتوبة على الوجهين.
* وقد نص الشافعي على هذا المعنى.
فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على ان التنقص به كفر مبيح للدم -------- ولا فرق في ذلك بين ان يقصد عيبه والازراء به او لا يقصد عيبه لكن المقصود شيء اخر حصل السب تبعا له او لا يقصد شيئا من ذلك بل يهزل ويمزح او يفعل غير ذلك فهذا كله يشترك في هذا الحكم اذا كان القول نفسه سبا فان الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن ان تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار ابعد مما بين المشرق والمغرب ومن قال ما هو سب وتنقص له فقد اذى الله ورسوله وهو ماخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه اذى وان لم يقصد اذاهم الم تسمع الى الذين قالوا "انما كنا نخوض ونلعب" فقال الله تعالى :"ابالله واياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم" وهذا مثل من يغضب فيذكر له حديث عن النبي او حكم من حكمه او يدعى لما سنه فيلعن ويقبح ونحو ذلك وقد قال تعالى:" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" فأقسم سبحانه بنفسه انهم لايؤمنون حتى يحكموه ثم لايجدون في نفوسهم حرجا من حكمه فمن شاجر غيره في أمره وحرج لذكر رسول الله حتى افحش في منطقة فهو كافر بنص التنزيل ولا يعذر بان مقصوده رد الخصم فان الرجل لايؤمن حتى يكون الله ورسوله احب اليه ممن سواهما وحتى يكون الرسول احب اليه من ولده ووالده والناس اجمعين.أ.هـ
** ثالثا: سب الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الضرر فى الدين :
* قال ابن تيمية فى الصارم المسلول ج: 2 ص: 38
ان المعاهد له ان يظهر في داره ما شاء من امر دينه الذي لا يؤذينا والذمي ليس له ان يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل وان لم يؤذنا فحاله اشد.............
ان الذمي اذا سب الرسول او سب الله او عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا لأنه لاخلاف بين المسلمين وانه يعاقب على ذلك ويؤدب عليه.............
* وقال فى الصارم المسلول ج: 2 ص: 46
ولا ريب ان من اظهر سب الرسول من اهل الذمة وشتمه فانه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم اكثر مما لو سفك دماء بعضهم واخذ اموالهم فان هذا يثيرالغضب لله والحمية له ولرسوله وهذا القدر لايهيج في قلب المؤمن غيظا اعظم منه بل المؤمن المسدد لايغضب هذا الغضب الا لله ..........
* وفى الصارم المسلول ج: 2 ص: 453
اما سب الرسول والطعن في الدين ونحو ذلك فهو مما يضر المسلمين ضررا يفوق ضرر قتل النفس واخذ المال من بعض الوجوه فانه لا ابلغ في اسفال كلمة الله واذلال كتاب الله واهانة كتاب الله من ان يظهر الكافر المعاهد السب والشتم لمن جاء بالكتاب..(وهو الرسول).....
* الصارم المسلول ج: 2 ص: 462
ان اظهار سب الرسول طعن في دين المسلمين واضرار بهم ومجرد التكلم بدينهم ليس فيه اضرار بالمسلمين فصار اظهار سب الرسول بمنزلة المحاربة.............
* الصارم المسلول ج: 3 ص: 940
ان ظهور الطعن في الدين من سب الرسول ونحوه فسادا عريض وراء مجرد الكفر فلا يكون حصول الاسلام ما حيا لذلك الفساد............
* وفى مجموع الفتاوى ج: 14 ص: 120
وكذلك تكذيب الرسول بالقلب و بغضه و حسده و الاستكبار عن متابعته أعظم إثما من أعمال ظاهرة خالية عن هذا كالقتل و الزنا و الشرب و السرقة و ما كان كفرا من الأعمال الظاهرة كالسجود للأوثان و سب الرسول و نحو ذلك فانما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن و إلا فلو قدر أنه سجد قدام وثن و لم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك............
** رابعا: عقوبة السب الربانية:
* قال ابن تيمية فى الصارم المسلول ج: 3 ص: 983...وما بعدها.
فعبد الله بن سعد بن ابي سرح افترى على النبي انه كان يتمم له الوحي ويكتب له ما يريد فيوافقه عليه وانه يصرفه حيث شاء ويغير ما امره به من الوحي فيقره على ذلك وزعم انه سينزل مثل ما انزل الله اذ كان قد اوحي اليه في زعمه كما اوحي الى رسول الله وهذا الطعن على رسول الله وعلى كتابه والافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به والردة في الدين وهو من انواع السب , وكذلك لما افترى عليه كاتب اخر مثل هذه الفرية قصمه الله وعاقبه عقوبة خارجه عن العادة ليتبين لكل احد افتراؤه اذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبا بان يقول القائل كاتبه اعلم الناس بباطنه وبحقيقة امره وقد اخبر عنه بما اخبر فمن نصر الله لرسوله ان اظهر فيه اية يبين بها انه مفتر....(4/357)
فروى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن انس قال كان رجلا نصرانيا فاسلم وقرا البقرة وال عمران وكان يكتب للنبي فعاد نصرانيا فكان يقول لا يدري محمد الا ما كتبت له فاماته الله فدفنوه فاصبح وقد لفظته الارض فقالوا هذا فعل محمد واصحابه نبشوا عن صاحبنا فالقوة فحفروا له واعمقوا في الارض ما استطاعوا فاصبح وقد لفظته الارض فعلموا انه ليس من الناس فالقوه...
ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن انس قال كان منا رجل من بني النجار قد قرا البقرة وال عمران وكان يكتب للنبي فالنطلق هاربا حتى لحق باهل الكتاب قال فعرفوه قالوا هذا قد كان يكتب لمحمد فاعجبوا به فما لبث ان قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فاصبحت الارض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فاصبحت الارض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فاصبحت الارض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا فهذا الملعون الذي افترى على النبي انه ما كان يدري الا ما كتب له قصمه الله وفضحه بان اخرجه من القبر بعد ان دفن مرارا وهذا امر خارج عن العادة يدل كل احد على ان هذا عقوبة لما قاله وانه كان كاذبا اذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا وان هذا الجرم اعظم من مجرد الارتداد اذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا وان الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه ومظهر لدينه ولكذب الكاذب اذا لم يمكن الناس ان يقيموا عليه الحد ونظير هذا ما حدثناه اعداد من المسلمين العدول اهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الاصفر في زماننا قالوا كنا نحن نحصر الحصن او المدينة الشهر او اكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى اذا تعرض اهله لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحة وتسير ولم يكد يتاخر الا يوما او يومين او نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا حتى ان كنا لنتباشر بتعجيل الفتح اذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوا فيه... وهكذا حدثني بعض اصحابنا الثقات ان المسلمين من اهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك ومن سنة الله ان يعذب اعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بايدي عباده المؤمنين.أ.هـ ....هذا وصلى الله عليه وسلم.
*الجمعة, 03 ذو الحجة, 1422هـ,,,,[ 15 / 02 / 2002 م 03:47:19 ص]...
وكتبه الفقير إلى عفو ربه تعالى…
د/ السيد العربى بن كمال
===============
الرد على فتوى ( أبو رائد المالكي )حول الحكم بغير ما أنزل الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } آل عمران:102.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } النساء:1.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } الأحزاب:71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد :
فقد كتب أحدهم يدعى أبو رائد المالكي رسالة موجهة إلى بعض طلبة العلم على حد قوله ، هذه الرسالة تتكلم عن مسألة الحكم بغير ما أنزل الله على منهج شيخه العنبري .
وكان من المفترض عند من يدعي السلفية ويدعي اتباع أهل العلم أن تكون هذه المسألة قد حسمت عنده خاصة بعد فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والتي تناولت الرد على عدد من الكتب الضالة التي نحا فيها أصحابها مذاهب أهل الإرجاء والتجهم والتي لا يخلو منها كتاب إلا وقد تناول مسألة الحكم بغير ما أنزل الله وقرر فيها ما قرره هذا الكاتب ، من أن الحكم بغير ما أنزل الله بجميع صوره يعد معصية دون الكفر حتى في التشريع العام من التحليل والتحريم وغير ذلك !
فكانت فتوى اللجنة وفقها الله الحاسمة في كتاب الحكم بغير ما أنزل الله لصاحبة خالد العنبري والتي أفتت بتحريم طباعته ووجوب توبة صاحبه وذكرت أن من أسباب الفتوى :
- (( دعواه إجماع أهل السنة على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام إلا بالاستحلال القلبي كسائر المعاصي التي دون الكفر " وهذا محض افتراء على أهل السنة والجماعة " منشأه الجهل أو سوء القصد نسأل الله العافية )) ا.هـ(4/358)
- ثم يخرج علينا هذا الدعي بعد ذلك وفي تجاهل تام لكلام اللجنة وفقها الله في العنبري ! ليقرر لنا أن المخالف في هذه المسألة يعد من الخوارج المارقين بل وكذلك يبدع ويضلل ولا كرامة !!!
- فنال بهذه الأوصاف الجارحة ثلة من أهل العلم من السلف والخلف ممن يتعبد المرء بالدفاع عنهم والذب عن دينهم وأعراضهم …. ولذا فلا يلومني القارئ الكريم مما قد يشعر به من شدة في القول على صاحب هذه الرسالة العوجاء فقد عرف السبب والله المستعان
…..علما بأن رسالة المدعو أبو رائد المالكي هذا لم يأت فيها بشيء جديد ، فقد بناها على أصول شيخه العنبري ، في التحريف وتحميل كلام أهل العلم ما لم يحتمل والتصرف في النصوص الشرعية ومقالات أهل العلم على وجه يفهم منه غير المراد أصلا ليخلص إلى ما خلص إليه شيخه في أن الحكم بغير ما أنزل الله بجميع صوره هو كفر دون كفر وعليه يتهم مخالفه أنه من الخوارج المارقين !!!
وكان يكفيني ويكفي كل من يرد عليه أن يبرز له فتوى اللجنة الدائمة في كتاب شيخه العنبري والتي ألقمته حجرا رمي على أثره في مزبلة التاريخ مع خلوف المرجئة و أفراخ الجهمية !!!.
ولنرى بعد ذلك توجيهه لكلام اللجنة الدائمة وفي أي قسم من أقسامه المبتدعة وضعها!
ولكن الرجل وضع رسالته في صورة نصيحة لطلاب العلم مما قد يجعل البعض ينخدع بتدليسه وكلامه ،لذا كان مما أراه نصحا لله ورسوله ولعامة المسلمين أن أكتب هذا الرد ..
-وأنا بإذن الله أعلق على ما أراه قد أمعن فيه تدليسا وتلبيسا محتسبا عند الله هذا ومتوكلا عليه وهو حسبي ونعم الوكيل .
قال المدعو أبو رائد :
( فآية الحكم بغير ما أنزل الله لا يخفاكم أن المقصود بالكفر فيها الكفر الأصغر كما ذهب إلى ذلك ابن عباس وطاوس ومجاهد وأحمد وجمع من السلف وليس لهم مخالف في ذلك ..)
ثم نقل كلام شيخ الإسلام رحمه الله مبتورا بترا كالحا ومحرفا تحريفا زائفا والذي يقول فيه
: ( قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (3/268) في تفسير قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (المائدة 44): " أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله ) أ.هـ
ثم زعم أن الإجماع منعقد على ذلك فقال :
( قال ابن عبد البر كما في التمهيد (5/74) في صدد الكلام على الكبائر" وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) و ( الظالمون ) و ( الفاسقون ) نزلت في أهل الكتاب . قال حذيفة و ابن عباس : وهي عامة فينا ، قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ) ا.هـ كلامه
أقول :
في هذه الأسطر من التلبيس والتدليس ما لا يخفى على ذي معرفة بأقوال السلف وكلام أهل العلم !
فقد زعم أن السلف رحمهم الله على قول واحد في كون الكفر في قوله تعالى:
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) كفرا أصغرا وكفرا دون كفر !!!
بل زعم إجماع الأمة على ذلك وهذا لا شك أنه من التدليس والتلبيس الذي تعلمه من شيخه العنبري !
فإن الخلاف في هذه الآية ثابت ومقرر ولا يخفى على عامي قد قرأ تفسير الآية فضلا عن طالب علم فضلا عمن يدعي التحقيق والتأصيل مما ينبئ عن مدى تدليس هذا الرجل وتلاعبه ! ولكي يظهر هذا نرجع إلى تفسير الآية لنرى شهادة واضحة مسجلة على هذا الدعي بأنه كذاب !!! …
1- يقول الإمام بن كثير رحمه الله ج: 2 ص: 61
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فيه قولان سيأتي بيانهما "
ثم قال رحمه الله :
ا-وقال ابن جرير أيضا حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبر عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال من السحت قال فقالا وفي الحكم قال ذاك الكفر ثم تلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وقال السدي ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون يقول ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين
ب-وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال من جحد ما أنزل الله فقد كفر ومن أقربه فهو ظالم فاسق..."
( ج: 2 ص: 62)
- فتأمل قول الإمام ابن كثير رحمه الله فيه قولان ونقله لكلام بعض السلف في ذلك ليبين للمنصف مدى مجازفة هذا الدعي وتهوره.
2- وقال بن الجوزي رحمه الله في زاد المسير ج: 2 ص: 366(4/359)
( فأما قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وقوله تعالى بعدها فأولئك هم الظالمون فأولئك هم الفاسقون فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال أحدها أنها نزلت في اليهود خاصة رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس وبه قال قتادة والثاني أنها نزلت في المسلمين روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى والثالث أنها عامة في اليهود وفي هذه الأمة قاله ابن مسعود والحسن والنخعي والسدي والرابع أنها نزلت في اليهود والنصارى قاله أبو مجلز والخامس أن الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى قاله الشعبي
وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان :
أحدهما : أنه الكفر بالله تعالى .
والثاني : أنه الكفر بذلك الحكم وليس بكفر ينقل عن الملة. ) ا.هـ
3- وقال شيخ الإسلام رحمه الله : مجموع الفتاوى ج: 3 ص: 267
( والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء وفي مثل هذا
نزل قوله على " أحد القولين " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله ) ا.هـ
وهذا النقل قد ذكره هذا الدعي ممعنا فيه تدليسا وتلبيسا فحذف قول شيخ الإسلام :
" على أحد القولين " لأنه يبطل زعمه أن السلف على قول واحد في هذه الآية والذي بنى عليه افتراءة على أهل السنة ووصفهم بأنهم خوارج !
4- وقال بن القيم رحمه الله : مدارج السالكين ج: 1 ص: 336
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " المائده 44
1- قال ابن عباس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وكذلك قال طاووس وقال عطاء هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق
2- ومنهم من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا له وهو قول عكرمة وهو تأويل مرجوح فإن نفس جحوده كفر سواء حكم أو لم يحكم
3- ومنهم من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله قال ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام وهذا تأويل عبد العزيز الكناني وهو أيضا بعيد إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه
4- ومنهم من تأولها على الحكم بمخالفة النص تعمدا من غير جهل به ولا خطأ في التأويل حكاه البغوي عن العلماء عموما
5- ومنهم من تأولها على أهل الكتاب وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما وهو بعيد وهو خلاف ظاهر اللفظ فلا يصار إليه
6- ومنهم من جعله كفرا ينقل عن الملة .
والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم…" ) ا.هـ
فهذه أقوال أهل العلم يقررون فيها الخلاف في الآية بين السلف رحمهم الله ومن بعدهم فكيف يتأتى لهذا الدعي أن يزعم الإجماع على ذلك فضلا أن يتهم مخالفه بأنه على مذهب الخوارج .
- مع العلم أنه ليس المقصود من نقلي للخلاف بين السلف هو تحقيق القول في هذه المسالة - فهذا ليس مجاله - بل المقصود مجرد سردها ليقف القارئ على مدى تزييف كاتب الرسالة لكلام أهل العلم وتدليسه على القارئ .
- إلا أن هذا لا يمنع أن أشير إشارة بسيطة إلى حقيقة الخلاف الحادث وفي أي صورة اختلفوا فأقول والله الموفق :
- إن أكثر الخلاف المنقول عن السلف رحمهم الله في تفسير آية الحكم هو عن صورة معينة من صور الحكم والتي جاء بها لفظ الآية الكريمة حيث قال سبحانه
- ( ومن لم يحكم بما أنزل الله .. ) الآية فقوله تعالى " ومن لم يحكم" يعني ( ترك الحكم ) وهذه هي الصورة التي عليها أكثر كلام السلف وخلافهم حول كفر فاعلها هل يكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله ؟ أو أن مجرد الترك معصية لا يكفر إلا باستحلالها أو جحود حكم الله فيها ؟ هذا هو أصل الخلاف الحاصل بين السلف وعلى مدى تاريخ الحكم الإسلامي والخلافة الإسلامية ..
- وترك الحكم بما أنزل الله يختلف عن الحكم " بغير" ما أنزل الله والتي حكي الإجماع على كفر فاعلها !!!
-… وهذا المعنى لخصه الإمام أبو السعود رحمه الله في تفسيره حيث قال في سياق تفسير آية الحكم :
1- (( ….حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى فكيف وقد انضم إليه الحكم بخلافه لا سيما مع مباشرة ما نهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا )) ا .هـ
2- وقال ابن كثير رحمه الله :
" وقال السدي ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون يقول ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين"
- ونقل ابن القيم رحمه الله الخلاف في الآية حيث قال:
3-( ومنهم من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله قال ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام وهذا تأويل عبد العزيز الكناني وهو أيضا بعيد إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه ) ا .هـ
فهذا وغيره يؤكد المعنى الذي أشرت إليه والله أعلم
______________(4/360)
*** - قد يقول قائل أنت بنقلك الخلاف في الآية تبطل قولك أيضا لأنك تزعم الإجماع كذلك على كفر من يحكم بغير ما أنزل الله " فنقلك هذا يبطل كلا القولين …!!!
فالجواب عن هذا:
هو أننا نقرر أن هناك صور متعددة للحكم بغير ما أنزل الله ونقرر أن لكل صورة حكم مختلف عن الأخرى فمنها ما هو معصية وكبيرة دون الكفر ومنها ما هو كفر أكبر بالإجماع فكان الخلاف موجه من قبّلنا كما أسلفت فيما سبق ، ولكن الأمر بخلاف ذلك عند الطرف الأخر فهو ملتزم بأن جميع صور الحكم معصية وكبيرة دون الكفر ويزعم الإجماع على ذلك فكان نقل الخلاف المتقدم مبطلا لقوله بلا شك . والله أعلم
فإن قيل وماذا عن إجماع الإمام ابن عبد البر رحمه الله ؟
- فالجواب : أن الإجماع الذي نقله الإمام ابن عبد البر هو على ظاهره من دون تحريف ولا تأويل ، فالجور في الحكم صورة من صور الحكم بغير ما أنزل الله تختلف عن صورة تشريع الأحكام المخالفة لشرع الله والحكم بها …..
- بل إن هذا الإجماع من أظهر الأدلة عليهم لو فقهوا ! كما سيأتي
- فالإجماع منعقد على أن الجور في الحكم من الكبائر وهذا لا خلاف فيه فنحن نقرره ونؤكده , لكن اختلافا في أن الجور في الحكم يتضمن جميع صور الحكم بما فيها التشريع العام فهذا باطل لا شك فيه ….
فالجور صورة من صور الحكم محتواها الجور والظلم في ترك تطبيق الأحكام الشرعية ويكون هذا مع التزام أصل التشريع والحكم به وهذا الجور لا يتضمن بحال صورة تغيير الأحكام .
- كما أن الإجماع منعقد كذلك على أن تبديل الشريعة ، وتحكيم غيرها ،وترك التحاكم إليها كفر أكبر مخرج من الملة .
- قال ابن كثير رحمه الله في كلامه عن الياسق :
- " فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين …" [ البداية والنهاية 13 / 119 ]
- فهذا إجماع صريح وواضح لا مجال لتحريفه ولا تأويله وما يفعله هذا الدعي وغيره في هذا الإجماع من تحريف وتلاعب مما ينبغي أن يستتاب منه لأنه تلاعب بأدلة الشرع وتحريف لها بل يخشى على صاحبه والعياذ بالله !!!
ويؤكد هذا الإجماع إجماع آخر نقله ابن عبد البر رحمه الله أيضا عن إمام السنة إسحاق بن راهويه رحمه الله قال فيه :
( وقد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا أنزله الله أو قتل نبيا من أنبياء الله وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر ) ا.هـ( التمهيد لابن عبد البر ج: 4 ص: 226 )
فهذا إجماع آخر يعضد إجماع ابن كثير رحمه الله ويبطل كذلك فرية الإجماع الذي أرادوا أن يلبسوا به على الناس من أنه عام في كل صور الحكم …
- وليس معنى الدفع هنا الجحود أو الاستحلال لقوله رحمه الله " مقر بما أنزل الله" فمعنى أنه مقر بما أنزل الله أنه إن كان حكم الله بالوجوب فإقراره ينافي جحده وإن كان حكم الله بالحرمة فإقراره يعني عدم استحلاله فيبقى معنى الدفع وهو " الرد والامتناع عن القبول "
يقول الجصاص رحمه الله في قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ...... الآية } :
( في هذه الآية دلالة على أن من يرد شيئاً من أوامر الله أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم أنه خارج عن دائرة الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة " ترك القبول والامتناع عن التسليم" )أ.هـ
………………………………………………………
ولكي يبطل هذا التعميم الجائر والذي لم يفرق بين صور الحكم بغير ما أنزل الله
أقول والله الموفق :
إن من القرائن المؤكدة على كون الجور في الحكم لا يتضمن بحال تغيير وتبديل الشرائع هو ما جاء عن أهل العلم في تقرير أصل من أصول أهل السنة والجماعة وهو عدم الخروج على أئمة الجور والصبر عليهم ،وهذا الأصل مقرر ومعروف عند أهل العلم وطلابه …………
1- جاء في مسائل الإمام أحمد في العقيدة ج: 1 ص: 72
( والصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عدل أو جور ولا نخرج على الأمراء بالسيف وإن "جاروا " )
وقال أيضا رحمه الله ج: 1 ص: 123
2-( وأن الغزو مع الأئمة واجب وإن " جاروا" )
3- قال الإمام الطحاوي رحمه الله :
( ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من) طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة.) الطحاوية
4- قال ابن عبد البر رحمه الله :
" وقد جاء عن إبن عباس وهو أحد الذين روى عنهم تكفير تارك الصلاة أنه قال في حكم الحاكم الجائر كفر دون كفر ……. ( التمهيد لابن عبد البر ج: 4 ص: 237)
5- وقال الإمام النووي رحمه الله : ( شرح النووي على صحيح مسلم ج: 12 ص: 229)
( ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين ..)
…………………………….(4/361)
فهذا تقرير السلف رحمهم الله مدعم بإجماع الأمة على حرمة الخروج على أئمة الجور ولو كانوا فسقة ظالمين ...هذا وجه
- كما أن أنه ومع هذا فقد أوجب العلماء الخروج عليهم في بعض الحالات مما يعني بالضرورة خروج هذه الحالات من معنى الجور المقصود في كلامهم الأول .
1- قال النووي رحمه الله :
( وأما قوله أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا ففيه معنى ما سبق أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام ) ا.هـ
( شرح النووي على صحيح مسلم ج: 12 ص: 244 )
- فقول النووي رحمه الله : " ما لم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام " واضح في عدم اشتمال الفسق والظلم والجور على هذا التغيير !
ولا شك أن تغيير الأحكام الشرعية والتزام غيرها هو قطعا من تغيير قواعد الإسلام .
2-وقال بن كثير رحمه الله بعد كلامه في سياق حديثه عن التتار وأنهم بدلوا الأحكام بالياسق :
( فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير ) فتأمل قوله رحمه الله " يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه " تجد فيه فائدتين :
ا-بيان لعلة تكفير التتار وأنه تبديل حكم الله بالياسق وترك وتحكيمه والإعراض عنه .
ب-بيان لموجب القتال الذي ذكره رحمه الله فإنه يؤكد ما قرنناه سابقا من عدم اشتمال الجور في الحكم على تبديل الأحكام والإعراض عنها، حيث أن الجور في الحكم ليس مسوغا للقتال والخروج على الحكام ، بينما هذا تبديل الشرائع والخروج عن أحكامها موجب له !!!.
3-قال شيخ الإسلام رحمه الله :
( كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين ، وإن تكلمت بالشهادتين. فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا … وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة …) [ مجموع الفتاوى 28 / 510 ]
- فقوله رحمه الله واضح في وجوب الخروج والقتال عند الامتناع عن الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
4-وقال النووي رحمه الله :
" قال القاضي عياض أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنغقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل قال وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها ..قال: وكذلك عند جمهورهم البدعة قال وقال بعض البصريين تنعقد له وتستدام له لأنه متأول ، قال القاضي فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب أمام عادل أن أمكنهم ذلك فإن لم يقع ذلك الا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه ......" ا.هـ
5- وقال أيضا :
( "وحجة الجمهور أن قيامهم للحجاج ليس بمجرد الفسق بل لما غير من الشرع، وظاهر من الكفر" ) ا .هـ ( شرح النووي على صحيح مسلم ج: 12 ص: 229 )
فمما سبق من كلام أهل العلم من الإجماع على " وجوب " الخروج على الحاكم إذا طرأ عليه الكفر وتغيير للشرع أو تغيير لقواعد الإسلام ، أو الامتناع عن الحكم بحكم الكتاب والسنة –وإن كان كل هذا متلازما – يتبين أن الإجماع الأول على حرمة الخروج على الحاكم الجائر لم يكن هذا الجور متضمنا بالضرورة هذه الصور التي ذكرت ،كما أنه لا يشمل كذلك ترك إقامة الصلاة والدعاء إليها . والله أعلم
فهذا وجه قوي يدل على التفريق بين صور الحكم ،وأن كلام السلف رحمهم الله إنما كان في حكام الجور الذين لم يتضمن جورهم هذه الأفعال والتي أوجب أهل العلم الخروج عليهم وقتالهم إذا فعلوها ، وسيأتي إن شاء الله من كلام أهل العلم الصريح في هذا التفريق .
قال المدعو أبو رائد :
( فإذا فعله مستحلاً له خرج بذلك من الملة والعياذ بالله وصور الاستحلال ظلمات بعضها فوق بعض فأدناها أن يرى جواز الحكم بغير ما أنزل الله . يدل على ذلك سبب نزول الآية فقد جاء عند مسلم (كتاب الحدود) ما يبين حال من نزلت فيهم الذين قالوا " ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) : فعن البراء بن عازب قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم .. الحديث .) ا.هـ
زعم أبو رائد أن المناط المكفر في الآية هو المستنبط من قول اليهود " نعم " كما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه
وأن قولهم ( نعم ) ردا على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أن حكم الزاني في التوراة هو ما فعلوه هذا هو ( الجحود لحكم الله ) وهو أيضا ( نسبة الحكم إلى الله)… وهذا هو الكفر على حد زعمه ..
فأقول:(4/362)
إن تحقيق المناط على فرض تزاحم الأوصاف التي يتعلق بها الحكم أمر لابد منه لأي محقق يريد معرفة مراد الله سبحانه وتعالى من كلامه ، فلو رجعنا لأسباب النزول والسياق الخاص بآية الحكم لوقفنا على معنى مطرد يحدد بدقة الوصف المناسب الذي تعلق به حكم الكفر في هذه الآية ألا وهو ( الاصطلاح على حكم مخالف لحكم الله )
ففي حديث البراء ابن عازب رضي الله عنه نجد أن اليهود اصطلحوا على تبديل حكم الله في الزنى من الرجم إلى الجلد والتحميم .
فأولا:
الكفر في الآية لم يعلق بالجحود وإنما هو معلق بترك الحكم بما أنزل الله فتعليق الحكم بمناطه المذكور أولى والعدول عنه بلا دليل شرعي باطل ! .
وثانيا :
سياق الآيات من أوله إلى آخره لم يشر ولو مرة واحدة إلى الجحود وإنما الكلام كله في تحريف الحكم والرضى بالحكم والتولى عن الحكم والتحكيم …..كما هو مبين من السياق كما سيأتي :.
- فالسياق يبدأ من قوله تعالى : "فلا يحزنك الذين يسارعون في الكفر "
قال بن كثير رحمه الله:
" نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر الخارجين عن طاعة الله ورسوله المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل…"
وقال سبحانه " يحرفون الكلم من بعد مواضعه "
قال ابن كثير :
أي يتأولونه على غير تأويله ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
قال تعالى " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا"
قال ابن كثير :
( قيل نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد فإن حكم بالدية فاقبلوه وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم تعالوا حتى نتحاكم إليه فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك….) ا.هـ
قال تعالى : وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين "
يقول ابن كثير :
( وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لامحالة ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ولهذا قالوا إن أوتيتم هذا أي الجلد والتحميم فخذوه أي اقبلوه وإن لم تؤتوه فاحذروا أي من قبوله واتباعه…) ا.هـ
إلى قوله تعالى :
( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )
- قال البيضاوي في تفسيره ج: 2 ص: 328
( ولا تشتروا بآياتي ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها ثمنا قليلا هو الرشوة والجاه ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينا به منكرا له فأولئك هم الكافرون لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره ولذلك وصفهم بقوله الكافرون و الظالمون و الفاسقون فكفرهم لإنكاره وظلمهم بالحكم على خلافه وفسقهم بالخروج عنه ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالها بخطابهم والظالمون في اليهود والفاسقون في النصارى ) ا.هـ
وقال ابن كثير ج: 2 ص: 61
( قال تعالى منكرا عليهم آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم الذي يزعمون أنهم مأمورن بالتمسك به أبدا ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم فقال وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا أي لا يخرجون عن حكمها ولايبدلونها ولا يحرفونها) ا.هـ
وجاء في عون المعبود ج: 9 ص: 356(4/363)
((… قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون فقال جماعة من المفسرين إن الآيات الثلاث نزلت في الكفار ومن غير حكم الله من اليهود لأن المسلم وإن ارتكب كبيرا لا يقال إنه كافر وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) في الكفار كلها أخرجه مسلم
وعن ابن عباس قال ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون إلى قوله الفاسقون هذه الآيات الثلاث في اليهود خاصة قريظة والنضير )) أخرجه أبو داود …." ا.هـ
- فتأمل قوله نزلت في الكفار ومن غير حكم الله من اليهود ثم قوله بعد ذلك ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب ، ! تعلم أن المناط المستنبط من حديث البراء رضي الله عنه هم تغيير الشرع لا جحد الحكم …..!!!
ثالثا :
ومما يؤكد أن هذا هو المناط المعني هو السبب الثاني لنزول هذه الآيات والذي تأكد فيه المناط المكفر مرة ثانية بصورة واضحة لا أشكال فيها …
" قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، و كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتله العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتله الذليلة ) من العزيزة ) فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك ، حتى قدم النبي المدينة ، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله ، و يومئذ لم يظهر و لم يوطئهما عليه وهو في الصلح ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : و هل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ، و نسبهما واحد ، و بلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟! إنا إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، و فرقا منكم ، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله بينهم 0 ثم ذكرت العزيزة فقالت : و الله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، و لقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا ، و قهرا لهم ، فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه ، إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، و إن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه 0 فدسوا إلى رسول الله ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله ، فلما جاء رسول الله أخبر الله رسوله بأمرهم كله و ما أرادوا ، فأنزل الله عز و جل : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا : آمنا ) إلى قوله : ( و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) ، ثم قال : فيهما و الله نزلت ، و إياهما عنى الله عز و جل….." السلسلة الصحيحة 2552
ففي هذا الحديث تكرر نفس المناط وهو تغير الحكم والاصطلاح على حكم غيره يرد إليه التنازع مما يوضح بجلاء أن المناط الذي تعلق به الكفر هو تبديلهم لحكم الله سبحانه وتعالى في القصاص والدية وهذا يؤكد المعنى الذي استنبطناه من سبب النزول الأخر في قصة الزانيين من اليهود كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه .
رابعا :
نحن إذا ما قررنا أن المناط المكفر في آية الحكم هو التبديل أو التشريع المتضمن للتحليل والتحريم من دون الله وهذا التبديل ثابت بنص كتاب الله ولا يجرأ المخالف على إنكاره لكنه يعلق الحكم بغيره أو يضيف إليه ما يجعله راجعا إلى الجحود والاستحلال !
فنقول إن هذا المناط الذي أشرنا إليه قد تقرر أنه كفر أكبر في غير ما آية من كتاب الله فلنترك آية الحكم قليلا ونذهب إلى آية أخرى من كتاب الله لنرى كلام أهل العلم حولها :
- قال تعالى : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ..) الآية
1- تفسير البيضاوي ج: 3 ص: 145
( النسي بحذفها والنسء والنساء وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره زيادة في الكفر لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم...) ا.هـ
2- تفسير القرطبي ج: 8 ص: 139
( قوله تعالى زيادة في الكفر بيان لما فعلته العرب من جمعها من أنواع الكفر فإنها أنكرت وجود الباري تعالى فقالت وما الرحمن في أصح الوجوه وأنكرت البعث فقالت من يحيي العظام وهي رميم وأنكرت بعثة الرسول فقالوا ابشرا منا واحدا نتبعه وزعمت أن التحليل والتحريم إليها فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرم الله ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون قوله تعالى يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ) ا.هـ
3- تفسير ابن كثير ج: 2 ص: 357(4/364)
( هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة وتحليلهم ماحرم الله وتحريمهم ما أحل الله فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامية والحمية مااستطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم فكانوا قد حدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر فيحلون الشهر الحرام ويحرمون الشهر الحلال ليواطئوا عدة ماحرم الله الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم وهو عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان لقد علمت معد بأن قومي كرام الناس إن لهم كراما ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما فأي الناس لم ندرك بوتر وأي الناس لم نسلك لجاما وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله إنما النسئ زيادة في الكفر قال النسئ أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام وكان يكنى أبا ثمامة فينادى ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولايعاب ألا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس فيحرم صفرا عاما ويحرم المحرم عاما فذلك قول الله إنما النسئ زيادة في الكفر يقول يتركون المحرم عاما وعاما يحرمونه ) ا.هـ
4- تفسير الطبري ج: 10 ص: 129
( لقول في تأويل قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين يقول تعالى ذكره ما النسيء إلا زيادة في الكفر والنسيء مصدر من قول القائل نسأت في أيامك ونسأ الله في أجلك أي زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك حتى تبقى فيها حيا وكل زيادة حدثت في شيء فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه نسيء ولذلك قيل للبن إذا كثر بالماء نسيء وقيل للمرأة الحبلى نسوء ونسئت المرأة لزيادة الولد فيها وقيل نسأت الناقة وأنسأتها إذا زجرتها ليزداد سيرها وقد يحتمل أن النسيء فعيل صرف إليه من مفعول كما قيل لعين وقتيل بمعنى ملعون ومقتول ويكون معناه إنما الشهر المؤخر زيادة في الكفر وكأن القول الأول أشبه بمعنى الكلام وهو أن يكون معناه إنما التأخير الذي يؤخره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة وتصييرهم الحرام منهن حلالا والحلال منهن حراما زيادة في كفرهم وجحودهم أحكام الله وآياته وقد كان بعض القراء يقرأ ذلك إنما النسي بترك الهمز وترك مده يضل به الذين كفروا واختلف القراء في قراءة ذلك فقرأته عامة الكوفيين يضل به الذين كفروا بمعنى يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه الذين كفروا ..) ا.هـ
5- تفسير أبي السعود ج: 4 ص: 64
( زيادة في الكفر لأنه تحليل ما حرمه الله وتحريم ما حلله فهو كفر آخر مضمون إلى كفرهم يضل به الذين كفروا ضلالا على ضلالهم القديم وقرئ على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفعل لله سبحانه أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعنى على القراءة الأولى أيضا وقيل المضلون حينئذ رؤساؤهم والموصول عبارة عن أتباعهم وقرئ يضل بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل ونضل بنون العظمة يحلونه أي الشهر المؤخر عاما من الأعوام ويحرمون مكانه شهرا آخر مما ليس بحرام ويحرمونه أي يحافظون على حرمته كما كانت والتعبير عن ذك بالتحريم باعتبار إحلالهم له في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء عاما آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم قال الكلبي أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالصدر من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مرد لما قضيت وأنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا يغيرون فيه فيقول إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال حلال عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا وقيل هو جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية كان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم يقوم في العام القابل فيقول إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه وقيل هو رجل من كنانة يقال له القلمس قال قائلهم ومنا ناسئ الشهر القلمس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أول من سن النسيء عمر بن لحي ابن قمعة بن خندف والجملتان تفسير للضلال أو حال من الموصول والعامل عامله ليواطئوا أي ليوافقوا عدة ما حرم الله من الأشهر الأربعة واللام متعلقة بالفعل الثاني أو بما يدل عليه بمجموع الفعلين فيحلوا ما حرم الله بخصوصه من الأشهر المعينة زين لهم سوء أعمالهم ) ا.هـ
6- فتح القدير ج: 2 ص: 359
( وسمى الله سبحانه النسيء زيادة في الكفر لأنه نوع من أنواع كفرهم ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر قوله يضل به الذين كفروا) ا.هـ
7- زاد المسير ج: 3 ص: 435(4/365)
( فأعلم الله عز وجل أن ذلك زيادة في كفرهم لأنهم أحلوا الحرام وحرموا الحلال ليواطؤوا أي ليوافقوا عدة ما حرم الله فلا يخرجون من تحريم أربعة ويقولون هذه بمنزلة الأربعة الحرم ولا يبالون بتحليل الحرام وتحريم الحلال وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم..) ا.هـ
8- ابن حزم في ( الفصل 3/245) :
- قوله تعالى {إنما النسيءُ زيادةٌ في الكفرِ} [التوبة: 37]:
( …..أن الزيادة في الشيء لا تكون ألبته إلاّ منه لا من غيره، فصح أن النسيء كفر، وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله . )ا.هـ
فهذه أقوال المفسرين وغيرهم في هذه الآية مقررين بوضوح أن التحليل والتحريم من دون الله نوع من أنواع الكفر مضافا إلى كفر أهل الجاهلية الذي كانوا عليه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .
- وأخيرا في هذه النقطة :
قد يكون هناك إشكالا عندما نرى بعض أهل العلم يصف ما كان عليه اليهود من تبديل للشرائع بأنه جحود أو استخفاف واستهانة وبالتالي يتمسك المخالف بنص لفظ العالم معرضا عن التحقيق في أسباب النزول وباحثا عن لفظة أو ألفاظ يقتنصها من الأيات تناسب قول هذا العالم كما فعل أبو رائد هنا …
فأقول والله الموفق :
إن هذا التبديل في حد ذاته والذي حصل من اليهود يستلزم جملة من الأوصاف يصدق إطلاقها على المبدل ولعل هذا يحل إشكالات كثيرة لو تأملها المخالف :
منها : 1- أن المبدل لشرع الله بغيره من الشرائع والقوانين هو في ذاته ممتنع عن التزام حكم الله .
1- ومنها أنه مستهين بحكم الله ومستخف به .
2- ومنها أنه جاحدا له ومنكرا له .
3- ومنها أنه متولي عن حكم الله
4- ومنها أنه معرض عنه.
5- ومنها انه مفضل لحكم غيره على حكم الله .
6- ومنها أنه يعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله
7- ومنها أنه سوغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم…
والدليل على ذلك :
1- تفسير أبي السعود ج: 3 ص: 42
ومن لم يحكم بما أنزل الله كائنا من كان دون المخاطبين خاصة فانهم مندرجون فيه اندراجا أوليا أي من لم يحكم بذلك ( مستهينا به) ( منكرا له ) كما ( يقتضيه ) ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاء بينا فاؤلئك إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها هم الكافرون لاستهانتهم به وهم إما ضمير الفصل أو مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر لأولئك وقد مر تفصيله في مطلع سورة البقرة والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها ابلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به اشد تحذير حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى فكيف وقد انضم إليه الحكم بخلافه لا سيما مع مباشرة ما نهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا .
2- تفسير البيضاوي ج: 2 ص: 328:
(فلا تخشوا الناس واخشون نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير ولا تشتروا بآياتي ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها ثمنا قليلا هو الرشوة والجاه ومن لم يحكم بما أنزل الله ( مستهينا به منكرا له) فأولئك هم الكافرون ( لاستهانتهم ) به ( وتمردهم ) ( بأن حكموا بغيره ….) ا.هـ
3- تفسير النسفي ج: 1 ص: 284:
( ومن لم يحكم بما أنزل الله ( مستهينا ) به فأولئك هم الكافرون ) ا.هـ
وقال أيضا : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون بالامتناع عن ذلك….) ا.هـ
4- تفسير الواحدي ( الوجيز ) ج: 1 ص: 321
( 45 46 استحفظوا استرعوا أي بما كلفوا حفظه من كتاب الله وقيل العمل بما فيه وذلك حفظه من كتاب الله وكانوا عليه شهداء أنه من عند الله ثم خاطب اليهود فقال فلا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد ص والرجم واخشون في كتمان ذلك ولا تشتروا بآياتي بأحكامي وفرائضي ثمنا قليلا يريد متاع الدنيا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون نزلت في من( غير حكم الله من اليهود ) وليس في أهل الإسلام منها ومن اللتين بعدها شيء) ا .هـ
5- وقال أيضا رحمه الله : ( الوسيط ) ج/1 صـ 190
( فقال جماعة إن الآيات في الكفار ومن غير حكم الله من اليهود وليس في أهل الإسلام منها شيء لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال له كافر وهذا قول قتادة والضحاك وأبي صالح ورواية البراء ابن عازب عن النبي ..) ا.هـ
7- وقال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن :
( فمن فعل مثل ما فعلوا ( أي اليهود ) واقترح حكماً يخالف به حكم الله وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره ) ا.هـ
8- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
( … ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولا للتكذيب بالإيجاب ومتناولاً( للامتناع عن الإقرار والالتزام )… )) ا.هـ
9- قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين : [ مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين 2 / 143 ](4/366)
" من لم يحكم بما أنزل الله ( استخفافا به) أو ( احتقارا له) أو ( اعتقادا أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق) فهو كافر كفرا مخرجا عن الملة ، ومن هؤلاء من يصنعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية ، لتكون منهاجا يسير عليه الناس ، فإنهم لم يصنعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق ، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه "
-وقال رحمه الله : " وفي ظني أنه لا يمكن لأحدٍ أن يطبق قانوناً مخالفاً للشرع يحكم فيه في عباد الله إلا وهو( يستحله) ( ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي) ، فهو كافر ، هذا هو الظاهر وإلا فما حمله على ذلك؟…"
10- وقال الشيخ صالح الفوزان :
( لأن من نحَّى الشريعة الإسلامية وجعل القانون الوضعي بديلاً عنها فهذا دليل على أنه يرى أن القانون( أحسن من الشريعة ) وهذا كفر أكبر مخرج من الملة ) التوحيد للصف الثالث الثانوي .
وغالب هذه الأوصاف إنما تعرف بالضرورة العقلية والشرعية ،وهي أوصاف لازمة لمن بدل شرع الله سبحانه وتعالى ، فلا غرابة إذن في استعمال بعض علماء السلف رضوان الله عليهم بعض هذه الأوصاف كالجحد والاستهانة وغيرها فهي من لوازم تبديل الشرع بالضرورة كما سبق عن أهل العلم
- واستعمال العلماء للفظ الجحد على حالين :
الأول :
حول ترك الحكم بما أنزل الله في قضية أو بعض القضايا مع التزام الشرائع
(التزام تحكيم ورد ) وأنه لا يكفر بمجرد الترك لأن ذلك معصية فلا كفر في هذه الصورة إلا بالجحد أو الاستحلال وهذا سبق النقل فيه عن أهل العلم والتدليل عليه .
الثاني :
حول تبديل الحكم الشرعي بغيره وهذا إنما يصفه بعض العلماء بالجحد لأن التبديل يستلزمه وهو داخل في معناه لأنه يشمل كتمان حكم الله وليس العكس ( فكل مبدل جاحد ومستحل وليس كل جاحد أو مستحل مبدل ) ولأن الجحد هو أبرز معالم التبديل فهو يبدل حكما لله يعتقد أن الله أوجب العمل به . والله أعلم
قال أبو رائد :
( والاختلاف في هذه المسألة الخطيرة سلمك الله يمكن تقسيمه إلى أربعة أقسام كما سيأتي ……………
فالقسم الأول من أقسام الخلاف في هذه المسألة الخطيرة ): هل قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " يراد به الكفر الأصغر أم الأكبر .
والصحيح وهو الذي عليه اتفاق السلف ، أن المراد بالكفر هنا الأصغر وأن الحكم بغير ما أنزل الله كباقي الكبائر لا يخرج به صاحبه من الملة إلا إذا كان جاحداً أو مستحلاً ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج فالخلاف في هذا القسم خلاف بين أهل السنة والخوارج وليس بين أهل السنة كما يزعم البعض فالمخالف في هذا القسم يضلل ويبدع ولا كرامة …) ا.هـ
أقول:
قد مر بك أخي القارئ كثير من النقولات عن أهل العلم ما يدحض هذه الافتراء والمجازفة ! وبان لك أن أقل ما يقال في الآية أن الخلاف متحقق فيها سلفا وخلفا وبينا أن الإجماعات المنقولة في المسألة لا تتعارض مع بعضها البعض بل هي تسير في نسق واحد يعجز أهل الإرجاء وأفراخ الجهمية عن توجيهها على أصولهم فتكلفوا تحريفها والتلاعب بها والله المستعان .
قال المدعو أبو رائد :
(القسم الثاني ) هل هناك فرق من جهة الحكم بين القضية المعينة والتشريع العام ، ولاحظ أنني قلت فرق من جهة الحكم وإلا فإنه لا شك أن هنالك فرقاً ، لكن ليس كل فرق معتبر .
فقد ذهبت طائفة إلى أن القول السابق الذي قال به أهل السنة ومنهم ابن عباس إنما يقال في الواقعة المعينة وأما التشريع العام فهو كفر أكبر بذاته وهذا أيضاً قول الخوارج ، لكن خوارج العصر وأما أهل السنة فلا يفرقون هذا التفريق ..) ا.هـ
أقول :
- هذا والله من الكذب والافتراء على أهل السنة وإلا فقد نص أهل العلم من السلف والخلف على هذا التفريق بين صور الحكم بين تشريع الأحكام المتضمنة لتحليل الحرام وتحريم الحلال وبين صورة ترك الحكم بما أنزل الله مجردا أو ما يسمونه القضية المعينة والتشريع العام .
واليك بعض أقوالهم في ذلك :
1- قال أبو السعود في تفسيره وفي سياق تفسير آية الحكم :
"….حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى فكيف وقد انضم إليه الحكم بخلافه لا سيما مع مباشرة ما نهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا " ا .هـ
2- ونقل ابن كثير وغيره قول السدي رحمه الله :
" وقال السدي ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون يقول ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين"
3- وسبق النقل عن ابن القيم رحمه الله في قوله :
" ومنهم من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله قال ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام وهذا تأويل عبد العزيز الكناني…"
- وقال أيضا :
( ومنهم من تأولها على الحكم بمخالفة النص تعمدا من غير جهل به ولا خطأ في التأويل حكاه البغوي عن العلماء عموما.)(4/367)
وكلام هؤلاء الأئمة في ذكرهم للخلاف في الآية هو في حد ذاته دليل على اختلاف صور الحكم .
4- وقال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى ج: 35 ص: 388
" فإن الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار وهذا إذا حكم فى قضية معينة لشخص وأما إذا حكم حكما عاما فى دين المسلمين فجعل الحق باطلا والباطل حقا والسنة بدعة والبدعة سنة والمعروف منكرا والمنكر معروفا ونهى عما أمر الله به ورسوله وأمر بما نهى الله عنه ورسوله فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين مالك يوم الدين"
5- وقال رحمه الله أيضا : منهاج السنة النبوية ج: 5 ص: 131
" وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما سورة النساء فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة …….. والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر…"
6- وقال ابن القيم رحمه الله : الصلاة وحكم تاركها ج: 1 ص: 79
" وإذا حكم بغير ما أنزل الله أو فعل ما سماه رسول الله كفرا وهو " ملتزم للإسلام وشرائعه " فقد قام به كفر وإسلام "
وهذا القول منه جاء بعد أن قرر تفصيل الصحابة رضوان الله عليهم وذلك بقوله في
صـ 74 حيث قال :
" وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم اعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما …….إلى قوله رحمه الله …. والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك وفسوق دون فسوق وظلم دون ظلم قال سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكفرون ه سورة المائدة الآية 44 ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه عبدالرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن ابيه قال سئل ابن عباس عن قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون 5 سورة المائدة الآية 44 قال هو بهم كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته كتبه ورسله وقال في رواية أخرى عنه كفر لا ينقل عن الملة…" ا.هـ
- فتبين أن التفصيل المذكور عن الصحابة إنما كان عن هذه الصورة التي ذكرها وقيدها بقوله " وهو ملتزم للإسلام وشرائعه " وهو ما قررناه
وممن فرق من المعاصرين للقانون الوضعي جملة من كبار أهل العلم :
7-على رأسهم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وذلك في فتواها في كتاب العنبري حيث قالت منكرة عليه :
…(( دعواه إجماع أهل السنة على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام إلا بالاستحلال القلبي كسائر المعاصي التي دون الكفر " وهذا محض افتراء على أهل السنة والجماعة " منشأه الجهل أو سوء القصد نسأل الله العافية )) ا.هـ
ففي التخصيص لهذه الصورة من صور الحكم بغير ما أنزل الله دلالة واضحة على التفريق بين صور الحكم من حيث كون بعضها كفرا مخرجا من الملة وبعضها معصية دون الكفر فتأمل .
ولقد وقع على هذه الفتوى جملة من كبار أهل العلم فهل يرعوي هذا الدعي ؟
أم أن هؤلاء من الخوارج المارقين على حد زعمه ؟!!
8- قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعليقا على أثر ابن عباس و أبي مجلز رحمهما الله ورضي عنهما :
" وإذن فلم يكن سؤالهم عما أحتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فهذا الفعل إعراض عن حكم الله سبحانه وتعالى وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه ."
9- وقال الشيخ محمد ابن ابراهيم رحمه الله :
(وأما الذي قيل فيه كفر دون كفر إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاده أنه عاص وأن حكم الله هو الحق فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها : أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل ) أ. هـ فتاوى محمد بن إبراهيم 12/280 ، 6 ، 189 .
10- وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
(وهناك فرق بين المسائل التي تعتبر تشريعاً عاماً والمسألة المعنية التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله ....) الفتاوى للشيخ (6/158)
- ويقول رحمه الله عن الصورة التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفر دون كفر :
"أن تبقي أحكام الله عز وجل علي ما هي عليه، وتكون السلطة لها ويكون الحكم منوطاً بها ولكن يأتي حاكم من الحكام فيحكم بغير ما تقتضيه هذه الأحكام أي يحكم بغير ما أنزل الله …"
(كتاب فقه العبادات ص60،61)(4/368)
فتأمل هذه القيود التي جعلها الشيخ رحمه الله في هذه الصورة تجد أن جميعها تصب في عبارة ابن القيم رحمه الله في قوله : ( ملتزم للإسلام وشرائعه )
11- ويقول الشيخ صالح بن فوزان الفوزان معلقاً على كلام الشيخ محمد بن إبراهيم
" ففرق رحمه الله بين الحكم الجزئي الذي لا يتكرر وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام أو أغلبها وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقاً…" كتاب التوحيد
12- وقال الشيخ صالح آل الشيخ وفقه الله :
( إن تحكيم القوانين كفر أكبر بالله لأنه استبدال شريعة مكان شريعة ، يأتون بشريعة فرنسا أو شريعة أوروبا أو شريعة إنكلترا أو شريعة أمريكا هذا استبدال ، فإذا كان الحكم به غالبا صار تحكيمها ، يعني صار الحكم لأكثر أمور الشريعة بهذه الأحكام والقوانين القانونية ، صار استبدالا فمتى يكون كفرا ؟ إذا صار استبدالا …"
- فهذه وغيرها عن أهل العلم كثير لم ننقلها …. فهل عمي هذا الدعي عن أقوالهم ؟
وهل يتحمل تبعة افتراءه وكذبه واضلاله لغيره ؟ وعند الله تجتمع الخصوم ….
قال المدعو أبو رائد :
( فنقول رداً على أصل تلك الشبهة : لا شك أن الحكم بما أنزل الله له تعلق بأقسام التوحيد الثلاثة ، فكون أن الله هو الحاكم وله الحكم فهذا يدل على توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية وكون أن العبد مأمور بالتحاكم إلى شريعة الله فهذا يدل على توحيد العبادة وهو توحيد الألوهية لكن الذي ينبغي التنبيه عليه أن الشرك هنا في توحيد الربوبية بمعنى إعطاء حق التشريع - أي تشريع - لغير الله ليس بالضرورة أن يكون صاحبه مشركاً شركاً أكبر لأمرين:
الأول )
ليس كل تشريع يخالف أحكام الشريعة ، فإذا كان المقصود بالتشريع ما يتعبد به بحيث يكون فيه تحليلاً للحرام وتحريماً للحلال ، فهذا لا يكون إلا لله فمن أعطى هذا الحق لغير الله فقد أشرك مع الله ، وشركه هذا متعلق بالربوبية والأسماء والصفات وهو من الأكبر بالإجماع . أما من شرع قانوناً - كبعض قوانين المرور مثلاً - تدعو إليه المصلحة فهل يقال أنه قد شارك الله في صفة وفعل اختص الله به وهل يقال لمن قبل مثل هذا القانون وعمل به أنه قد أعطى مخلوقاً حق التشريع من دون الله ، ولا يقال هنا أن هذا ليس فيه مخالفة لحكم الله كما قرر الكاتب لأننا سنقول أن الخلاف حول التشريع ذاته وليس حول كونه مخالفاً أم موافقاً ولكن نقول تنزلاً مع الخصم ما الدليل على أنه إذا كان مخالفاً فإنه كفر و إذا لم يكن مخالفاً فإنه ليس كفر ، لن يستطيع المخالف أن يجد دليلاً على ذلك إلا وفيه القيد السابق، إذاً المسألة فيها تقييد لابد من التنبه له فرجع الأمر حينئذ إلى الجحود والاستحلال كما جاء في كلام من عاصروا مثل هذه الوقائع من أئمة العصر . ) ا .هـ
أقول :
تعلق الحكم بأقسام التوحيد الثلاثة ليس كما قرر هذا الدعي !
وليس المجال مجال بسط وتحرير ولكن نذكر باختصار ما يبين زيف أقواله وبطلانها :
أولا :
فإن تعلق الحكم بتوحيد الأسماء والصفات هو بإثبات ما أثبته الله سبحانه وتعالي لنفسه من صفات ومنها صفة الحَكم كما جاء في الحديث
" إن الله هو الحكم واليه الحكم " ويكون الكفر بتكذيب ذلك أو رده ….
ثانيا :
أما تعلق الحكم بتوحيد الربوبية فهو كما هو معلوم توحيد الله بأفعاله هو سبحانه وتعالى بأن نعتقد أن الله متفرد بالخلق والملك والتدبير ومنها التشريع والأمر قال تعالى ( ألا له الخلق والأمر ) والأمر هنا تشمل الكوني والشرعي ! ولذا ذم الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ، قال تعالى " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " وفسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الربوبية بأنهم أحلوا وحرموا وشرعوا الأحكام كما في حديث عدي رضي الله عنه .
فالتحليل والتحريم عمل من أعمال الربوبية بنص كتاب الله فمن يحلل ويحرم فقد نصب نفسه ربا فضلا أن يدعي هذا الحق لنفسه أو لغيره وهذا لا يشك في كفره وطغيانه إلا من طمس الله بصيرته نسأل الله العافية
قال الإمام الشنقيطي رحمه الله
(... ولما كان التشريع وجميع الأحكام ، شرعية كانت أو كونية قدرية ، من خصائص الربوبية كما دلت عليه الآيات المذكورة كان كل من اتبع تشريعا غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربا ، وأشركه مع الله [ أضواء البيان 7 / 162 ]
فالتوحيد في هذا يكون بالاعتقاد والإقرار له بأعماله سبحانه بلا شريك فكيف إذا أقر ليس بالشريك فحسب بل بالعمل كله لغير الله فأين التوحيد إذن يا أهل التوحيد ؟!!!
ثالثا :
أما تعلق الحكم بتوحيد الألوهية فيكون بأن يفرد الله سبحانه وتعالى بالحكم والتشريع
فيحلل ما أحله الله ويحرم ما حرمه الله - تحكيما وتحاكما - قال تعالى ( إن الحكم إلا لله ) وقال : (ولا يشرك في حكمه أحدا ) وقال سبحانه: ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وإفراده سبحانه وتعالى بالحكم بمعنى قبوله والانقياد له،(4/369)
- وهذا يتمثل في تحكيمه وحده إن كان المكلف حاكما ، قال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ..) فنفى أصل الإيمان عن عدم التحكيم يدل على أن هذا التحكيم من أصله .
- أو التحاكم إليه وحده إن كان المكلف محكوما ، قال تعالى: : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به )
فجعل إيمان من يريد التحاكم مزعوم وجعله من المؤمنين بالطاغوت فدل على أن التحاكم إلى شرع الرسول صلى الله عليه وسلم من أصل الإيمان .
فإن فعل كل من الحاكم والمحكوم ذلك فقد أفردا الله بالحكم والتشريع والطاعة …
وما يقابل هذا أمران :
الأول : هو الشرك في الطاعة
والثاني: هو التولي عنها،
فالشرك في الطاعة هو قبول الأحكام من غير الله ، والتولي عنها هو الإعراض عن حكمه وكلاهما كفر وشرك.
ومما سبق يتبين لهذا الدعي خطورة قوله :
" أن الشرك هنا في توحيد الربوبية بمعنى إعطاء حق التشريع - أي تشريع - لغير الله ليس بالضرورة أن يكون صاحبه مشركاً شركاً أكبر "
وما ذكره من أسباب لا يدخل إلا على خفافيش البصائر ! فليس كلامنا عمن شرع أحكاما لا تخالف شرع الله إن كان ممن أذن الله له بذلك من أولياء الأمور المسلمين القائمين بشرع الله . فهذا تهويش فارغ وتلبيس مكشوف !
وليس كلامنا عمن شرع أحكام المرور أو غيرها من القوانين الإدارية التي تستمد من مقاصد الشريعة فكل هذا غثاء يريد به صاحبه أن يطمس الحق الواضح فيمن يدعي حق التشريع المطلق الذي هو أخص خصائص الربوبية لنفسه أو لغيره فإذا كان من يدعي لنفسه حق الربوبية وأخص خصائص الألوهية بوصف كتاب الله شركه شرك أصغر فمتى يكون شركه أكبر …؟
- قال الإمام الشنقيطي رحمه الله :
( مسألة
اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة، صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، التي سنوضحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع.
سبحان الله وتعالى عن ذلك. فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون، فليتبع تشريعهم وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية.
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّ
سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه………
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور،……….
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل….) ا.هـ أضواء البيان تفسير سورة الشورى .
أما قوله :
ولا يقال هنا أن هذا ليس فيه مخالفة لحكم الله كما قرر الكاتب لأننا سنقول أن الخلاف حول التشريع ذاته وليس حول كونه مخالفاً أم موافقاً ولكن نقول تنزلاً مع الخصم ما الدليل على أنه إذا كان مخالفاً فإنه كفر و إذا لم يكن مخالفاً فإنه ليس كفر.
أقول:
بل الخلاف حول كليهما …!
فمن ادعى لنفسه حق التشريع فهو كافر وإن لم يشرع لأن الإقرار لله بهذا الحق هو من الإيمان بربوبية الله سبحانه وتعالى فكيف إذا أقر بهذا الحق لغيره ..؟؟؟
وكذلك لو شرع حكما مخالفا لأحكام الله فهو كافر مشرك ولو لم يدعي لنفسه حق التشريع من دون الله .
فكوننا نقرر أن هذا الحكم موافقا أو مخالفا ليس لأي أحد !! بل هو فقط لمن أفرد الله بالتشريع وأقر له بالحكم فهنا نقول مخالف أو موافق ………….
أما من يدعي لنفسه أو لغيره حق التشريع فلا ينظر كما سبق في مخالفته أو موافقته كمن يدعي لنفسه حق العبادة لا ننظر أعبد أم لا !
بل هو بمجرد ادعاءه يكفر ولو لم يعبد أصلا.
- قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله:
(نرى في بعض بلاد المسلمين - ولو كان في زماننا هذا ما بعض- قوانين ضربت عليها، ونقلت عن أوربة الوثنية الملحدة، وهي قوانين تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه، وذلك أمر واضح بديهي، لا يخالف فيه إلا من يغالط نفسه، ويجهل دينه أو يعاديه من حيث لا يشعر، وهي في كثير من أحكامها أيضا توافق التشريع الإسلامي، أو لا تنافيه على الأقل.
وإن العمل بها في بلاد المسلمين غير جائز، حتى فيما وافق التشريع الإسلامي، لأن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوربة أو لمبادئها وقواعدها وجعلها هي الأصل الذي رجع إليه، فهو آثم مرتد بهذا سواء أوضع حكماً موافقاً للإسلام أم مخالفا..)
كلمة حق صـ 97.
قال المدعو أبو رائد :(4/370)
" القسم الثالث من أقسام الخلاف في هذه المسألة ) وهو خلاف بين أهل السنة من المعاصرين فقد قرر المخالفون في هذا القسم أن مذهب أهل السنة أن الحاكم بغير ما أنزل لا يخرج من الملة بفعله هذا ، إلا أن يكون جاحداً أو مستحلاً وهذا هو الحق لكن قالوا إن تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً قرينة على الاستحلال القلبي ."
أقول:
إن هذا القسم المزعوم لا وجود له ( فيما أعلم )
وأتحدى هذا الدعي أن يأتي عن عالم من علماء الأمة المعتبرين قد قرر أن تبديل الشرائع والحكم بغير ما أنزل الله معصية دون الكفر ثم قرر أن هذا قرينة على الاستحلال وبهذا يكون الكفر عنده .! أريد كلام صريح يقرر فيه ما ذكرته ليناسب هذا التأصيل المفترى !!!
- فإن هذا كذب مفضوح وافتراء مكشوف بل تجني على العلماء واتهامهم بمذهب الخوارج بمجرد الفهم السقيم لبعض كلامهم كما سيأتي …نسأل الله العافية
وانظر إلى تبجحه في تفنيد أدلتهم على حد زعمه في تعليقه على حديث الرجل الذي تزوج امرأة أبيه… فلم يدع فرصة لمن ذكرهم حتى في الاستدلال بهذا الحديث فقد فنده بزعمه ! فلم يبق لهم ببلاهته إلا مذهب الخوارج في التكفير بالمعاصي .
- وغاية ما عند هذا المتعالم هو فهمه السقيم لبعض كلام أهل العلم كالشيخ الفوزان وابن عثيمين رحمه الله وغيرهما يقرران فيه أن تبديل الشرائع يلزم منه تفضيل واستحلال هذه الأحكام على أحكام الشريعة .
- ونسي هذا المتعالم أن كلا الشيخين قد قرر في غير ما موضع خطأ من يشترط الاستحلال في تكفير الحكام المبدلين للشرائع أو المشرعين لها !!!
- هذا أولا……….( وانظر رد الشيخ الفوزان على العنبري )
- ثانيا: لكلا الشيخين تقريرات في كفر المبدلين للشرائع واستدلالات على كونها كفر أكبر مخرج من الملة بذاتها سيأتي ذكرها إن شاء الله .
- ثالثا : قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانونا مخالفا للشرع يحكم فيه في عباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد انه خير من القانون الشرعي ، فهو كافر ، هذا هو الظاهر وإلا فما الذي حمله على ذلك ؟ "
أقول :
هذا من باب ذكر اللازم للعمل فقوله هذا قد سبقه كلام حرص هذا الدعي على بتره ليلبس على الناس قال رحمه الله قبل هذا النقل مباشرة :
( … لكنا قد نخالفه في مسألة أنه لا يحكم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حلَّ ذلك، هذه المسألة تحتاج إلى نظر ، لأنا نقول : من حكم بحكم الله وهو يعتقد أن حكم غير الله أولى فهو كافر –وإن حكم بحكم الله- وكفره كفر عقيدة، لكن كلامنا عن العمل…)
ففي هذا الكلام قرر رحمه الله أنه قد خالف الشيخ الألباني رحمه الله
( وبالتالي ابن باز ) في اشتراطه الاستحلال في تكفير الحكام المبدلين والمشرعين لأنه كما ذكر رحمه الله الكلام على - العمل المجرد- إذ أن الاعتقاد كفر بذاته سواء عمل أم لم يعمل ،وهذا يعني أن الكفر هنا بالعمل دون اشتراط الاستحلال لأن ذات الاستحلال والاعتقاد كفر سواء حكم بالشرع أو لم يحكم !!!
- ولكن على فرض اشتراط الاستحلال فهو متحقق في ذات التبديل لشرع الله لأنه لازم له …هذا هو المقصود ، وهذا كقول القائل إن دعاء غير الله يلزم منه اعتقاد النفع والضر في هذا المدعو ، فهنا لم نعلق الكفر على هذا الاعتقاد رغم أن هذا العمل قرينة عليه ولازم له لأن دعاء غير الله كفر بذاته كما أن نفس الاعتقاد كفر كذلك سواء دعا أو لم يدعوا .
- وهذا تفصيل كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أضعه كاملا لكل ذي عينين حتى يكون حجة على هذا المفتري ..والله حسييبه.
كتاب فقه العبادات صـ60،61 .
س30 : ما هي صفة الحكم بغير ما أنزل الله ؟
الجواب : الحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول :
أن يُبطل حكم الله ليحل محله حكم أخر طاغوتي ، بحيث يلغي الحكم بالشريعة بين الناس ، ويجعل بدله حكم آخر من وضع البشر كالذين يُنحون الأحكام الشرعية في المعاملة بين الناس ، ويحلون محلها القوانين الوضعية ، فهذا لاشك أنه استبدال بشريعة الله سبحانه وتعالى غيرها ، وهو كفر مخرج من الملة ؛ لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق ، حيث شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله ، بل ما خالف حكم الله عز وجل ، وجعله الحكم الفاصل بين الخلق ، وقد سمى الله تعالى ذلك شركاً في قوله تعالى : {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } .
القسم الثاني :
أن تبقى أحكام الله عز و جل على ما هي عليه وتكون السلطة لها ، ويكون الحكم منوطاً بها ، ولكن يأتي حاكم من الحكام فيحكم بغير ما تقتضيه هذه الأحكام ، أي يحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا له ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن يحكم بما يخالف شريعة الله معتقداً أن ذلك أفضل من حكم الله وأنفع لعباد الله ، أو معتقداً أنه مماثل لحكم الله عز وجل ، أو يعتقد أنه يجوز له الحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا كفر . يخرج به الحاكم من المله، لأنه لم يرض بحكم الله عز وجل ،ولم يجعل الله حكماً بين عباده .(4/371)
الحال الثانية : أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباده ، لكنه خرج عنه ، وهو يشعر بأنه عاص لله عز وجل إنما يريد الجور والظلم للمحكوم عليه ، لما بينه وبينه من عداوة ، فهو يحكم بغير ما أنزل الله لا كراهة لحكم الله ولا استبدال به ، ولا اعتقاد بأنه أي الحكم الذي حكم به أفضل من حكم الله أو مساو له أو أنه يجوز الحكم به ، لكن من أجل الإضرار بالمحكوم عليه حكم بغير ما أنزل الله ،ففي هذه الحال لا نقول إن هذا الحاكم كافر ، بل تقول إنه ظالم معتد جائر .
الحال الثالثة : أن يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباد الله ، وأنه بحكمه هذا عاص لله عز وجل ، لكنه حكم لهوى في نفسه ، لمصلحة تعود له أو للمحكوم له ، فهذا فسق وخروج عن طاعة الله عز وجل ، وعلى هذه الأحوال الثلاث يتنزل قول الله تعالى في ثلاث آيات :{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وهذا يتنزل على الحالة الأولى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } يتنزل على الحالة الثانية { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } يتنزل على الحالة الثالثة .
وهذه المسألة من أخطر ما يكون في عصرنا هذا ، فإن من الناس من أولع وأعجب بأنظمة غير المسلمين ، حتى شُغف بها ، وربما قدمها على حكم الله ورسوله ، ولم يعلم أن حكم الله ورسوله ماض إلى يوم القيامة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق عامة إلى يوم القيامة ، والذي بعثه سبحانه وتعالى عالم بأحوال العباد إلى يوم القيامة ، فلا يمكن أن يشرع لعباده إلا ما هو نافع لهم في أمور دينهم ودنياهم إلى يوم القيامة ، فمن زعم أو وهم أن غير حكم الله تعالى في عصرنا أنفع لعباد الله من الأحكام التي ظهر شرعها في عهد النبي r فقد ضل ضلالاً مبيناً ، فعليه أن يتوب إلى الله ، ويرجع إلى رشده وأن يفكر في أمره ا.هـ .
فتأمل قوله رحمه الله عن القسم الأول :
" وهو كفر مخرج من الملة ؛ لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق ، حيث شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله " يظهر لك كذب هذا المتعالم وافتراءه على أهل العلم !
قال المدعو أبو رائد :
( …لكن فيما يبدو لي أن الإشكال في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم القوانين طرأ عند بعض طلبة العلم بسبب أنه قد جاء في كلام بعض العلماء ما يفيد أن مجرد تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً يعد قرينة على الاستحلال القلبي) ا.هـ
أقول:
" اثبت العرش ثم انقش "
لم تأت بقول أحد من أهل العلم قد قرر هذا التخريف الذي تنسبه إليهم، فضلا أن تجعله قسم من الأقسام !!!
والسؤال الآن من العلماء قد صرح بهذا ؟ ثم بعد ذلك تقرر أصل الإشكال .!!!
***
أما شبهة النجاشي والتي يسميها " قاصمة الظهر" كما سماها شيخه في الضلال العنبري !
فهي شبهة متهافتة لا ترقي أن تكون دليلا فضلا أن يعارض بها هذا الجاهل إجماع الأمة على كفر المبدل لشرائع الإسلام .
وأنا أضع بإذن الله أصولا تجتث هذه الشبهة من أساسها فأقول والله الموفق :
أولا :
من المعلوم لدى كل طالب علم أن الأدلة الشرعية التي يتدين بها هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وغير ذلك مما هو معلوم ومقرر في مظانه….. ،
ومعلوم أيضا أن كلام أهل العلم مهما بلغوا من الرتبة والمنزلة في العلم والفضل لا يرقي أن يكون دليلا شرعيا بذاته ! فكلامهم رحمهم الله يستدل له لا به ! وهذا مما ينبغي أن يكون معلوما خاصة عند الاحتجاج والمعارضة ….
فقول هذا الدعي عن النجاشي رحمه الله :
( كان يحكم بغير ما أنزل الله لكنه كان له عذر ) لم يثبت بدليل شرعي حتى يحتج به !!!
فمن البديهي عندما يتخذ مثل هذا الكلام دليل " معارضة " يستدل به على كون الحكم بغير ما أنزل الله كفر دون كفر ، أن نسأل عن ثبوته في الشرع قبل أن نناقشه كدليل !!!
وهذا مما لم يأت به هذا الدعي ولا شيخه العنبري ، ولذا لا ينبغي أن تعارض أدلة الكتاب والسنة فضلا عن إجماع الأمة بمثل هذا الكلام الذي كما قلت مهما كانت منزلة قائله في العلم والفضل فلا يرقى كلامه ليكون دليلا شرعيا يحتج به فضلا أن يبطل أو يعارض الأدلة الأخرى .
هذا رد إجمالي على هذه الشبهة المتهافتة .
ثانيا :
إن غاية ما عند هؤلاء هو قول شيخ الإسلام رحمه الله أن النجاشي رحمه الله ورضي عنه كان يحكم بغير ما أنزل الله فلماذا لم يرضي هؤلاء بكلام شيخ الإسلام رحمه الله في كون النجاشي كان معذورا ؟!!!
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر…"
فهنا يقرر رحمه الله أن من لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر….
ثم قال رحمه الله عن النجاشي رحمه الله :(4/372)
"… وكذلك الكفار من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر وعلم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزل عليه واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره ولم يمكنه الهجرة إلى دار الإسلام ولا التزام جميع شرائع الإسلام لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام فهذا مؤمن من أهل الجنة …."
- فتأمل قوله رحمه الله :" ولم يمكنه الهجرة إلى دار الإسلام ولا التزام جميع شرائع الإسلام لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه"
- ففي الأولى قرر كفر من لم يلتزم حكم الله وهذا دليل يفر منه المخالف ويحرفه عن معناه … وفي الثانية قرر أن النجاشي قد فعل هذا وأنه معذور لكونه لم يتمكن من هذا لأنه عاجز … فهذا تقرير شيخ الإسلام رحمه الله فلم لم يرتضي هؤلاء كلامه رحمه الله ؟؟؟
- ولكن هؤلاء يقولون وهل العجز عذر شرعي يرتقي أن يكون إكراها شرعيا معتبرا ؟
أقول:
هذا هو كلام شيخ الإسلام رحمه الله فهو الذي قرر كفر من لم يلتزم حكم الله ورسوله …
وهو ( لا غيره ) الذي وصف النجاشي رحمه الله أنه لم يلتزم حكم الله وأنه كان لا يحكم بحكم القرآن ، وهو الذي قرر أنه معذور بالعجز وعدم القدرة فنحن وأنتم ندور في فلك كلام شيخ الإسلام رحمه الله
فنحن نقبله ونحمله على أصول الشريعة وأن هذا العجز وصل بالنجاشي رحمه الله إلى درجة العذر الشرعي الذي يمنع من إلحاق الكفر به لكونه في ديار الكفر وممنوعا من إظهار دينة أو ترك بلده والهجرة إلى ديار الإسلام !!!
- أما أنتم فإما أن تقبلوه وتحملوه على القواعد الصحيحة وإما أن تردوه وفي كلا الحالتين يسقط استدلالكم به .
ثالثا :
فإن قال هؤلاء فلملم تعذروا حكامنا بالعجز كما عذرتم النجاشي رحمه الله ؟
أقول :
إن القياس الصحيح مبني على تساوي كل من الأصل والفرع في علة الحكم فإذا ذكرنا فوارق عديدة بين الأصل والفرع تمنع تساوي كليهما في علة الحكم ، بطل بالضرورة هذا القياس فمن هذه الفوارق :
1- النجاشي مسلم في دار الكفر ومعلوم أنه يجوز للمسلم في دار الكفر والحرب ما لا يجوز في دار الإسلام من كتمان دينه وإظهاره الكفر خاصة إذا خشي الهلاك ولو يتمكن من الهجرة إلى ديار الإسلام ، وهذا الوجه يغفل عنه أهل الإرجاء رغم أنه وحده يكفي لرد هذه الشبهة المتهافتة !
2- النجاشي رحمه الله مع أنه ملك إلا أن سلطانه مستمد من رعيته ومن حوله ، ورعيته وشعبه كلهم كفار! ومعلوم أن قوة السلطان مستمدة من التفاف شعبه حوله وهم لا يجتمعون حوله إلا على ما يحقق مصلحة دينهم ودنياهم ومن هنا يظهر سبب ضعف النجاشي في إلزام قومه بدين الإسلام وشرائعه ولذا شبهه شيخ الإسلام رحمه الله بمؤمن آل فرعون كما سيأتي .
3- النجاشي رحمه الله لم يكن يستطيع أن يظهر إسلامه.
4- النجاشي لم يتمكن من الهجرة ولا إظهار دينه ولا شرائع الإسلام فضلا أن يلزم بها غيره .
5- النجاشي مسلم يكتم إيمانه وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك .
6- عجز النجاشي رحمه الله راجع لعدم بلوغه العلم أو لعدم القدرة على التزامه .
- والدليل على كل ما سبق من كلام شيخ الإسلام رحمه الله :
منهاج السنة النبوية ج: 5 ص: 111
( فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسا ما تعجز عنه خلافا للجهمية المجبرة ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطىء والناسي خلافا للقدرية والمعتزلة وهذا فصل الخطاب في هذا الباب فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومناظر ومفت وغير ذلك إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله البتة خلافا للجهمية المجبرة وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه خلافا للقدرية والمعتزلة في قولهم كل من استفرغ وسعه علم الحق فإن هذا باطل كما تقدم بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب وكذلك الكفار من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر وعلم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزل عليه واتقى الله ما استطاع كما فعل - النجاشي - وغيره ولم يمكنه الهجرة إلى دار الإسلام(4/373)
ولا التزام جميع شرائع الإسلام لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام فهذا مؤمن من أهل الجنة كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون وكما كانت امرأة فرعون بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر فإنهم كانوا كفارا ولم يكن يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه قال تعالى عن مؤمن آل فرعون ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا سورة غافر 34 وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام بل إنما دخل معه نفر منهم ولهذا لما مات لم يكن هناك من يصلي عليه فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفا وصلى عليه وأخبرهم بموته يوم مات وقال إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت بل قد روى أنه لم يكن يصلي الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤدي الزكاة الشرعية لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم وفي الديات بالعدل والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن فإن قومه لا يقرونه على ذلك وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل وقيل إنه سم على ذلك
فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا مع شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب قال تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب سورة آل عمران 199 وهذه الآية قد طائفة من السلف إنها نزلت في النجاشي ويروى هذا عن جابر وابن عباس وأنس ومنهم من قال فيه وفي أصحابه كما قال الحسن وقتادة وهذا مراد الصحابة لكن هو المطاع فإن لفظ الآية لفظ الجمع لم يرد بها واحد وعن عطاء قال نزلت في أربعين من أهل نجران وثلاثين من أهل الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ) ا.هـ
وقال رحمه الله في : ( منهاج السنة النبوية ج: 5 ص: 115) :
( ولم يذكر هؤلاء من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مثل عبد الله بن سلام وغيره ممن كان يهوديا وسلمان الفارسي وغيره ممن كان نصرانيا لأن هؤلاء صاروا من المؤمنين فلا يقال فيهم وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم سورة آل عمران 199 ولا يقول أحد إن اليهود والنصارى بعد إسلامهم وهجرتهم ودخولهم في جملة المسلمين المهاجرين المجاهدين يقال إنهم من أهل الكتاب كما لا يقال عن الصحابة الذين كانوا مشركين وإن من المشركين لمن يؤمن بالله ورسوله فإنهم بعد الإيمان ما بقوا يسمون مشركين فدل على أن هؤلاء قوم من أهل الكتاب أي من جملتهم وقد آمنوا بالرسول كما قال تعالى في المقتول خطأ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة سورة النساء 92 فهو من العدو ولكن هو كان قد آمن وما أمكنه الهجرة وإظهار الإيمان والتزام شرائعه فسماه مؤمنا لأنه فعل من الإيمان ما يقدر عليه ) ا.هـ
- منهاج السنة النبوية ج: 5 ص: 122
( وبالجملة لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها بل الوجوب بحسب الإمكان وكذلك ما لم يعلم حكمه فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقى مدة لم يصل لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء الزكاة وغير ذلك ولو لم يعلم تحريم الخمر فشربها لم يحد باتفاق المسلمين .) ا.هـ
الجواب الصحيح ج: 2 ص: 202(4/374)
( وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الأخرى في آل عمران نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالنبي لكنه لم تمكنه الهجرة إلى النبي ولا العمل بشرائع الإسلام لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام وقد قيل أن النبي إنما صلى عليه لما مات لأجل هذا فإنه لم يكن هناك من يظهر الصلاة عليه في جماعة كثيرة ظاهرة كما يصلي المسلمون على جنائزهم ولهذا جعل من أهل الكتاب مع كونه آمن بالنبي بمنزلة من يؤمن بالنبي في بلاد الحرب ولا يتمكن من الهجرة إلى دار الإسلام ولا يمكنه العمل بشرائع الإسلام الظاهرة بل يعمل ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما قال تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فقد يكون الرجل في الظاهر من الكفار وهو في الباطن مؤمن كما كان مؤمن آل فرعون
قال تعالى وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ……..) فقد أخبر سبحانه أنه حاق بآل فرعون سوء العذاب وأخبر أنه كان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه وأنه خاطبهم بالخطاب الذي ذكره فهو من آل فرعون باعتبار النسب والجنس والظاهر وليس هو من آل فرعون الذين يدخلون أشد العذاب وكذلك أمرأة فرعون ليست من آل فرعون هؤلاء قال الله تعالى وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين وامرأة الرجل من آله بدليل قوله إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا أمرأته قدرنا إنها لمن الغابرين وهكذا أهل الكتاب فيهم من هو في الظاهر منهم وهو في الباطن يؤمن بالله ورسوله محمد يعمل بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه علما وعملا و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو عاجز عن الهجرة إلى دار الإسلام كعجز النجاشي) ا . هـ
- فهل في حكام زماننا ممن يشرعون الأحكام المخالفة لشرع الله أي من هذه الأشياء المذكورة فإذا كان الأمر بهذا التفاوت بين الأصل والفرع فيبطل القياس وعليه تبطل هذه الشبهة .
رابعا :
من المعلوم بالضرورة مما سبق أن النجاشي رحمه الله كان في ديار الكفر والحرب وكان يكتم إيمانه ويتظاهر بالنصرانية ولذلك لم يعرف إسلامه حتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل أنكر بعض الصحابة كون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليه .
ولا شك أن إظهار المسلم دين غير دين الإسلام والتظاهر به في دار الإسلام اختيارا هو كفر أكبر مخرج من الملة ما لم يكن هناك مانع !!!
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
( ولهذا ذكروا في سبب نزول هذه الآية: أنه لما مات النجاشي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قائل: تصلي على هذا العلج النصراني وهو في أرضه؟ فنزلت هذه الآية، هذا منقول عن جابر وأنس بن مالك وابن عباس، وهم من الصحابة الذين باشروا الصلاة على النجاشي، وهذا بخلاف ابن سلام وسلمان الفارسي؛ فإنه إذا صلى على واحد من هؤلاء لم ينكر ذلك أحد. وهذا مما يبين أن المظهرين للإسلام فيهم منافق لا يصلى عليه، كما نزل في حق ابن أبي وأمثاله. وأن من هو في أرض الكفر يكون مؤمناً يصلى عليه كالنجاشي..) ا.هـ(مجموع الفتاوى ج19/129)
وكفر هذا كما هو معلوم أعظم واظهر من كفر من لم يحكم بغير ما أنزل الله ….
ولما علمنا بالضرورة أن الرسول قد أقره على ذلك وشهد له بالإسلام علمنا بالضرورة
أنه معذور في ذلك وغيره .
فإذا كان هذا العذر ثابت في هذا الكفر المبين فثبوته في غيره من باب أولى وما يقال في هذا يقال في مسألة الحكم التي تفرد بذكرها شيخ الإسلام رحمه الله
وإن لم يظهر وجه كونه عذر ( فرضا !) فليس هذا مبررا أن يكون ما فعله ليس بكفر … والله أعلم
ولعلي إن شاء الله أفردها ببحث مطول في غير هذا الموضع والله المستعان
_______
وأخيرا فهذا طرف من كلام العلماء في هذه المسألة المهمة :
1- قال ابن حزم الأندلسي :
" لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن هذا منسوخ ، وأن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام " [ الإحكام في أصول الأحكام 5 / 162 ]
2- وقال رحمه الله :
" إحداث الأحكام لا يخلو من أحد أربعة أوجه : إما إسقاط فرض لازم كإسقاط بعض الصلاة أو بعض الصيام أو بعض الزكاة أو بعض الحج أو بعض حد الزنى أو حد القذف أو إسقاط جميع ذلك وإما زيادة في شيء منها أو إحداث فرض جديد وإما إحلال محرم كتحليل لحم الخنزير والخمر والميتة وإما تحريم محلل كتحريم لحم الكبش وما أشبه ذلك وأي هذه الوجوه كان فالقائل به مشرك لاحق باليهود والنصارى " [ الإحكام 6 / 264 ] .
3- وقال رحمه الله تعالى :
- في تفسير قوله تعالى {إنما النسيءُ زيادةٌ في الكفرِ} [التوبة: 37]:
( …..أن الزيادة في الشيء لا تكون ألبته إلاّ منه لا من غيره، فصح أن النسيء كفر، وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله . )ا.هـ ( الفصل 3/245)
4- قال الشاطبي -رحمه الله- في الاعتصام (2/544):(4/375)
(إن كل بدعة وإن قلت فهي تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير قل أو كثر كفر، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر، …) ا.هـ
5- : قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام ، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب ، كما قال تعالى { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا "
[ مجموع الفتاوى 28 / 524 ].
6- وقال رحمه الله :" ومن بدل شرع الأنبياء وابتدع شرعا ، فشرعه باطل لا يجوز اتباعه ، كما قال تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } ، ولهذا كفر اليهود والنصارى لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ " [ مجموع الفتاوى 35 / 365 ]
7-وقال :
" مثل أن يقال : نسخ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر ، فهذا الكلام ونحوه حق لاشيء على قائله " [ مجموع الفتاوى 35 / 200 ]
8-وقال :
" ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى " [ مجموع الفتاوى 8 / 106 ]
9-وقال :
" كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة مع شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه ، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ، وملتزمين بعض شرائعه ، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة ، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما ، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام ، عملا بالكتاب والسنة ... فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات ، أو الصيام ، أو الحج ، أو عن التزام تحريم الدماء ، والأموال ، والخمر ، والزنا ، والميسر ، أو عن نكاح ذوات المحارم ، أو عن التزام جهاد الكفار ، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب ، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها التي يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء " [ مجموع الفتاوى 28 / 502 ]
10- وقال :" كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين ، وإن تكلمت بالشهادتين. فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا ، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة ، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق ، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش ، أو الزنا ، أو الميسر ، أو الخمر ، أو غير ذلك من محرمات الشريعة ، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة ، وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى إن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وكذلك إن اظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها " [ مجموع الفتاوى 28 / 510 ]
11- : قال ابن القيم رحمه الله :
" وقد جاء القرآن ، وصح الإجماع بأن دين الإسلام نسخ كل دين كان قبله ، وأن من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ، ولم يتبع القرآن ، فإنه كافر ، وقد أبطل الله كل شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل ، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام ، فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام ، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام " [ أحكام أهل الذمة 1 / 259 ]
12- : قال ابن كثير رحمه الله في كلامه عن الياسق :" وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ، قال تعالى { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ، وقال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } [ البداية والنهاية 13 / 119 ](4/376)
13- وقال في تفسير قوله تعالى { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } :" ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكز خان الذي وضع لهم الياسق ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير "
14- : سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله عما يحكم به أهل السوالف من البوادي وغيرهم من عادات الآباء والأجداد ، هل يطلق عليهم بذلك الكفر بعد التعريف؟ فأجاب :" من تحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد التعريف فهو كافر ، قال تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقال تعالى { أفغير دين الله يبغون } الآية ، وقال تعالى { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } الآية ، وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } الآية ، والآيات في هذا المعنى كثيرة " [الدرر السنية في الأجوبة النجدية 8 / 241 ]
15- : الشيخ حمد بن عتيق النجدي في رسالته بيان النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك ذكر ضمن نواقض الإسلام : الأمر الرابع عشر : التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذكر الشيخ حمد فتوى ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى { أفحكم الجاهلية يبغون } ، ثم قال : ومثل هؤلاء ما وقع فيه عامة البوادي ومن شابههم من تحكيم عادات آبائهم وما وضعه أوائلهم من الموضوعات الملعونة التي يسمونها شرع الرفاقة ، يقدمونها على كتاب الله وسنة رسوله ، ومن فعل ذلك فإنه كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله)
16- : ذكر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته تحكيم القوانين :
" إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين علي قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين ، في الحكم به بين العالمين ، والرد إليه عند تنازع المتنازعين ، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
17- وقال الشنقيطي رحمه الله :
" ويفهم من هذه الآيات كقوله { ولا يشرك في حكمه أحدا } أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله ، وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم ، وهذا الإشراك في الطاعة ، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى { ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } .... ولذا سمي الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم .... } الآية .... وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور : أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم …"
18- : قال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي :" فالحكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية إلحاد وكفر وفساد وظلم للعباد ، فلا يسود الأمن ولا تحفظ الحقوق الشرعية إلا بالعمل بشريعة الإسلام كلها عقيدة وعبادة وأحكاما وأخلاقا وسلوكا ونظاما ، فالحكم بغير ما أنزل الله هو حكم بعمل مخلوق لمخلوق مثله ، هو حكم بأحكام طاغوتية ... ولا فرق بين الأحوال الشخصية والعامة والخاصة فمن فرق بينها في الحكم فهو ملحد زنديق كافر بالله العظيم ". [ السلسبيل في معرفة الدليل 2 / 384 ] .(4/377)
19- : قال الشيخ صالح الفوزان في كتابه الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد ( 1 / 72 ) :" فمن احتكم إلى غير شرع الله من سائر الأنظمة والقوانين البشرية فقد اتخذ واضعي تلك القوانين والحاكمين بها شركاء لله في تشريعه قال تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } ... " .
20-وقال أيضا (1 / 74 ) بعد نقله لكلام ابن كثير حول الياسق :
" ومثل القانون الذي ذكره عن التتار وحكم بكفر من جعله بديلا عن الشريعة الإسلامية مثله القوانين الوضعية التي جعلت اليوم في كثير من الدول هي مصادر الأحكام وألغيت من أجلها الشريعة الإسلامية إلا فيما يسمونه بالأحوال الشخصية .." ا.هـ
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه : أبو عبدالرحمن الباشا
===============
منهج التعامل مع أهل البدعة في وقت الفتنة
د. وسيم فتح الله
إن العلم بأصول التعامل مع أهل الافتراق عن منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرورةٌ يفرضها وجود هذه الفرق ويحتمها ما يترتب على أسماء الدين وأحكامه من حقوق وواجبات شرعية يأثم المرء بتعطيلها فضلاً عما يصيبه من ضنك العيش بالتفريط فيها، ولئن كان الحال كذلك في أوقات الأمن والاستقرار فإنه في حال الفتنة والمحنة آكد، ويدرك هذه الأهمية من أدرك معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا"(صحيح مسلم) وإنما ذلك لعِظم الفتن، وتأمل أمراً لطيفاً في هذا الحديث وهو شك الراوي في قوله (أو) وكأن معنى الحديث قد أذهله بالفعل لما فيه من عظيم الخطر، فتأمل.
إن قضية التعامل مع أهل البدع تفرض نفسها اليوم في واقعٍ من الفتنة التي يمكن تصويرها من خلال سياقين مؤلمين تعيشهما أمتنا الإسلامية؛ فأما السياق الأول فهو استباحة بيضة بلاد الإسلام استباحةً علنيةً لا لَبس فيها وضابط ذلك وجود الكافر الحربي في ديار الإسلام وجوداً علنياً سافراً، وأما الثاني فهو استشعار بلدٍ أو مجتمعٍ مسلم تربُص الكافر الحربي به للانقضاض عليه واستباحة أراضيه وأمواله ودمائه وأعراضه، والمصيبة المشتركة بين السياقين في واقعنا المعاصر تتمثل في غياب الإمامة الشرعية الصحيحة عن الساحة السياسية للأمة، تلك الإمامة التي يناط بها عادةً المرابطة على ثغر الأمة العقدي من جهة وحماية كيان الأمة السياسي من جهة أخرى، مما يفرز تساؤلات عديدة حول الأولويات والحاجات المفتقر إليها لتحقيق أمن العقيدة ووحدة الصف السياسي للأمة حيث إن نفس هذا الكيان الحسي للمجتمع أو البلد أصبح مهدداً بالخطر في هذين السياقين. وأعتقد أن خارطة الأمة الإسلامية من الوضوح بمكان من جهة تحقق هذه السياقات على أرض الواقع بحيث إني سأعمم القول قدر المستطاع ليُتمكن تنزيله على ما يستجد من وقائع مماثلة وحتى لا نحصر تنزيل أصول وقواعد هذا المنهج في جزئيات ميدانية قابلة للتبدل فيقع الوهم واللبس.
إذا عُلم هذا فلا بد لنا قبل الخوض في غمار هذا الموضوع الخطير من أن نقرر جملةً من الثوابت المتعلقة بالموضوع وإن بدا بعضها بدهياً، فالغرض هنا تقريرها حتى نتحاكم إليها فيما يفرضه الواقع من متغيرات وجزئيات متبدلة فتكون عوناً لنا على الاستنارة حيث تدلهم الخطوب، فربِّ يسِّر وأعن:
القاعدة الأولى: إن الافتراق أمر ثابت في هذه الأمة لا يجدي جحوده ولا يقلل من خطره إنكاره: والدليل على ذلك قوله تعالى في القرآن الكريم:" ومن يشاقق الرسولَ من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونُصلِه جهنم وساءت مصيراً"(النساء- 115)، فهذا أصلٌ في الافتراق المنهجي العلمي، وقوله تعالى :"والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير"(الأنفال 72)، فهذا أصل في وقوع المفارقة الحسية ابتداءً، وقوله تعالى :" فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله"(الحجرات-9)، فهذا أصل في وقوع المفارقة بعد وجود الاجتماع فهو افتراق طارئ، فاتفق لنا ثلاث صور من المفارقة هي : المفارقة المنهجية وضابطها الاجتماع المنهجي على أصلٍ بدعي مخالف لمنهج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والمفارقة الحسية الأصلية بترك اللحوق بالجماعة ابتداءً وضابطها التخلف عن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام مع القدرة عليها، والمفارقة الحسية الطارئة وضابطها البغي على إمام مستقر بتأويل أو شبهة، وقد يجتمع الافتراق المنهجي والحسي فتصبح للفرقة المجتمعة على أصل بدعيٍ أو أكثر شوكة تهدد الأمنين العلمي والسياسي لجماعة المسلمين. وكل هذه الصور موجودة اليوم على مدى الخارطة الإسلامية نسأل الله السلامة والعافية.
القاعدة الثانية: خطر الافتراق علميٌ منهجي أو عمليٌ سياسي وقد يجتمعان:(4/378)
وإن أهمية التمييز بين أنواع الافترق المذكورة آنفاً تتمثل في معرفة مناط الخطر من هذا الافتراق أهو الأمن العقدي العلمي الذي يُخشى أن يفتتن الناس به في دينهم أم هو الأمن الحسي الجماعي الذي يُخشى أن يتخطف به الناس من أمنهم واستقرارهم. فهذا الافتراق ليس مسألة جماعة من الناس اختارت لنفسها رأياً أو طريقاً خاصاً يحتمل السكوت عنه تحت تأثير وَهم حرية الرأي والتعبير، وإنما هو خطر حقيقي يضر بأمن المسلمين علمياً وعملياً؛ فأما الضرر العلمي العقدي فهو ما يدخل على قلوب المسلمين من شبهات تشكك في العقيدة وتنكت النكت السوداء في القلب، ولقد نبه القرآن الكريم إلى خطورة هذا المسلك حين مارسه طائفة من أعداء الدين الأصليين حين كانت الدعوة في مهدها، تأمل معي قوله تعالى:" وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون"(آل عمران - 72)، وهكذا أهل الافتراق البدعي يوهمون الانتساب إلى منهج الحق والسير على الصراط المستقيم ويحشدون في التدليل على ذلك حشود متشابه القرآن والسنة الموضوعة إن أعياهم تأويل الصحيحة، فإذا هم يضللون ويلبسون على الناس دينهم لعل الناس يرجعون عن جادة الحق ويتبعون سُبُل أهل الأهواء، واعلم أن الغالب في منهج أهل الفرقة والهوى هو لَبس الحق بالباطل كما كان منهج الأمة الغضبية والضلالية أعني اليهود والنصارى حيث قال تعالى:" يا أهل الكتاب لم تَلبِسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"(آل عمران 71)، وأما الضرر العملي فحسبك عليه منبهاً قوله تعالى :" والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللهَ ورسولَه من قبل وليحلِفُنَّ إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون"(التوبة - 107)، وتأمل حولك اليوم لترى كم من مساجد الضرار وكم من هيئات الضرار وكم من فتاوى الضرار يطلع علينا بها عُبَّاد الأهواء من المنظرين لجماعات الافتراق والتفريق الذين قطَّعوا الأمة إرباً إرباً تحت شتى رايات البدع والضلال، فتأمل. وإذا عجبت فالعجب لا ينقضي ممن يكيل التهم لأهل الحق ويتهمهم ببذر بذور الفتنة والشقاق حين ينبهون أهل الأهواء من غفلتهم أو يفضحونهم حين يصرون على ما هم سادرون فيه، ويتجاهل عمداً أو سهواً الإنكار على المتسبب في وقوع الفرقة أصلاً فمثل هؤلاء كمثل من ينكر على من صاح على القاتل ولا ينكر على القاتل نفسه، فتأمل. وأما اجتماع الخطرين فيحدث حينما تكون لأهل الافتراق المنهجي شوكة تعكر على جماعة المسلمين صفو دينهم وأمنهم، ولعل الطامة الكبرى تكون حين يلجأ بعض أهل الفرقة والهوى اليوم إلى التماس الشوكة من أعداء الإسلام المتربصين كجحافل الصليب المستأسدة فيرتمون في أحضانها طلباً للشوكة والمنعة ويتجاهلون استحالتهم أدوات طعن في جسد هذه الأمة التي تزعمون الانتساب إليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
القاعدة الثالثة: أتباع منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمتحنون الناس:
قال الله تعالى :" يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيَّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا"(النساء -94)،وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تُخفروا الله في ذمته"(صحيح البخاري)، قال الحافظ ابن حجر في شرحه :" وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر , فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور الحال باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال : لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم والله أعلم"(مجموع الفتاوى4/331)
فالحاصل أن أتباع منهج الصحابة يأخذون بظواهر الناس التي قررها الشرع ولا ينقبون عما في قلوبهم ولا يمتحنون الناس بسؤالهم ماذا تقول في كذا وماذا تعتقد في كذا، وإنما هذا التفتيش والامتحان مسلك أهل البدع لأنهم محتاجون إلى هذا القمع حيث أعوزهم الدليل الشرعي والحجة العقلية، وهذا كله حيث بقيت هذه البدع مستورة في قلوب حامليها فلا ينقب عنها، أما إذا أظهر أهل البدعة بدعتهم فذاك مقامٌ آخر من حيث الإنكار الشرعي بضوابطه المعروفة.
القاعدة الرابعة: توعد أهل الافتراق والبدع بالنار لا يستلزم كفرهم :(4/379)
وهذا مما ضل فيه كثير من الخلق حيث نظروا إلى ظاهر قوله صلوات الله وسلامه عليه في حديث افتراق أمته :" كلها في النار إلا واحدة" فهالهم أن تكفر – بزعمهم - اثنتان وسبعون فرقة من أمته صلى الله عليه وسلم ولا تنجو من الكفر إلا فرقة واحدة، والحق أن ذكر النار في الحديث من باب الوعيد، والوعيد كما أنه يصح لأهل الكفر يصح لعصاة الموحدين وأصحاب الكبائر من أهل القبلة، فإذا عُلم هذا فليعلم كل مسلم أن أهل النجاة هم أتباع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فهم وتطبيق الكتاب والسنة، وكل من عداهم قد سلكوا من الضلال مسلكاً قد يقف بهم عند حدود المخالفة والفسق فيكون وعيدهم بالنار من جنس وعيد عصاة الموحدين من أصحاب الكبائر، وقد يفضي بهم مسلك الضلال إلى مهالك الكفر فيكون وعيدهم بالنار من جنس ما وعد الله تعالى به الكفار والمشركين والمنافقين، وبهذا التفريق والتمييز يندفع الإشكال المتوهم من أن أتباع منهج السنة والجماعة يكفرون غيرهم من المنتسبين إلى القبلة، ولهذا فإن من أهل الفرق والأهواء من يشبه حاله حال شارب الخمر أو مرتكب الزنا فيُنظر إليه بعين الشفقة بغية استنقاذه مما هو فيه، وهؤلاء أيضاً على مراتب بل قد تجد في بعضهم من الحب والحمية للدين ما لا تجده عند غيره من أصحاب الانتساب الصحيح للمنهج مع قصور في الهمة أو الحمية للدين، ولعلك تجد أوضح مثال ٍ على ذلك أن الإمامين الجليلين البخاري ومسلم قد خرَّجا في صحيحيهما لبعض من رُمي بشيء من البدعة لا يكفر بها أعيانهم وما ذلك إلا لما تحققوا فيهم من الصدق والأمانة في الدين بحيث إنه أهون على أحدهم أن يشق نصفين من أن يكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مقابل هؤلاء يجب الحذر من الزمرة الثانية من أهل البدع والأهواء الذي هوت بهم ضلالاتهم في أودية الكفر السحيقة وأرادوا أن يُردوا معهم فئام من أمة التوحيد، وهؤلاء على الجملة هم المنظِّرين والمقعِّدين لهذه الضلالات وهم رؤوسها وكبراؤها وكُتَّابها ودعاتها، وإلى أمثالهم يتوجه جهاد البيان وقد يرى الإمام إعمال السيف في رقاب بعض منهم كما أمر بذلك المعصوم صلى الله عليه وسلم في بعض رؤوس الكفر ممن طعنوا في الإسلام وفي النبي صلى الله عليه وسلم فكان قتلهم لأجل هذا الطعن والفتنة التي أحدثوها لا لمجرد الكفر الذي تلبسوا به، فتأمل.
القاعدة الخامسة: مكافحة أهل الأهواء والبدعة والفرقة علمية وعملية :
وهذا مهم جداً ويدور مع طبيعة الافتراق الحاصل كما بينا في القاعدة الأولى، فحيث كانت الفُرقة علمية منهجية كانت مجاهدتها بالحجة والبيان، وحيث كانت الفُرقة عملية حسية كانت منازلتها بالشوكة والسنان، ولا يستلزم القتال والقتل في الأخيرة تكفيراً ولا خروجاً عن الملة وإن كان يحتمله بحسب حال الأصل البدعي المفارَق عليه؛ ولعل بعض الأمثلة التاريخية توضح هذا الأمر ؛ فمكافحة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للخوارج انطوت على شق علمي حيث بعث إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ليناظرهم ويخاصمهم بالحجة وكانت أقوى حججه عليهم أنهم ليس لهم سلف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذهبوا إليه من تكفير أهل الكبائر، وشق عملي تمثل في مقاتلة من أصر منهم على استباحة دماء المسلمين ببدعتهم هذه فكان قتاله إياهم من جنس قتال أبي بكر الصديق للمرتدين كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الخوارج :" لئن أنا أدركتهم لأقتلنَّهم قتل عاد"(صحيح البخاري)، ثم تأمل في قتال أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمتنعين عن الزكاة فمنهم من امتنع جحوداً بها فكان قتالهم لردتهم، ومنهم من أقر بها ولكنه تأول عدم استحقاقها لغير الرسول صلى الله عليه وسلم فقاتلهم لامتناعهم لا لكفرهم وهو ما يُعرف في فقه السياسة الشرعية بقتال الطوائف الممتنعة، فتأمل هذه الفروق الدقيقة وهذه التنوعات المسلكية في مكافحة البدعة والفرقة. وهنا أمر تجدر الإشارة إليه وهو أن هذا التنوع المسلكي في مكافحة البدع والأهواء يعني أن أهل الحق لا يعدمون في وقت من الأوقات طريقاً لمكافحة البدعة وقمعها إن بالسنان تحت راية إمام وشوكة فبها ونعمت، وإن باللسان وقفةً حنبليةً ينصر الله بها الدين فبها ونعمت، والحاصل أنه ليس لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم أن يضعوا السلاح في وجه البدعة والأهواء ما تعاقب الليل والنهار، فتأمل.
إذا عُلم ما تقدم فإن منهج التعامل مع أهل الفرق والأهواء الذي تقدمت بعض معالمه إنما ينطبق في أكمل صوره على حالة الاستقرار السياسي العقدي للأمة بحيث يكون للأمة إمام تقوم به شوكة الدين ويعلو به عَلَمُ السنة، أما والحال كما ذكرنا من سياقات ضاعت فيها الإمامة الشرعية واستباحت بيضةَ الدين فيها جحافلُ الحربيين الكفرة في جزء من بلاد الإسلام وتربصت جحافل أخرى بما تبقى منها، فكيف يكون مسلك مكافحة البدعة والفرقة، وأين أولوية قتال أهل الافتراق حفاظاً على أمن الأمة السياسي من قتال جحافل الكفر التي تتهدد الكيان السياسي للأمة برمته؟(4/380)
إن الإجابة على هذه التساؤلات تقوم على أساس التمييز بين ما يختص بالثوابت العقدية الراسخة القائمة على التوقيف المطلق وبين ما يتعلق بفقه السياسة الشرعية القائم على أساس موزانة المفاسد والمصالح درءاً وجلباً على الترتيب. والأصل فيما سنعرض له من معالم هذا المنهج يقوم على التفريق بين مقام النهي في قوله تعالى :" فلا تطع المكذبين. ودوا لو تُدهن فيدهنون"(القلم – 8-9)، وبين مقام الرخصة في قوله تعالى :" إلا أن تتقوا منهم تقاة"(آل عمران -28)، إنه التفريق بين مقام المداهنة المنهي عنها شرعاً ومقام التألف والمداراة المرخص به شرعاً ، وفيما يلي تقرير بعض معالم منهج التعامل هذا :
أولاً: لا مداهنة في مسائل الاعتقاد:
إذ أن الغاية من كل ما نجاهد لأجله هو الحفاظ على هذا المعتقد، وكل ما نسعى إلى تحقيقه من الاجتماع الحسي السياسي وإقامة قلعة الإسلام وأمة الإسلام إنما هو من جنس الوسائل، وإنه لمن السفه بمكان أن نفرط في شيء من المقصد وهو مجموع مفردات العقيدة بحجة المحافظة على وسائل حمايتها، تأمل معي حديث حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ولَيُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها. فقال له صلة (وهو راوي الحديث) : ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة، فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال : يا صلة، تنجيهم من النار ثلاثاً"(ابن ماجة – كتاب الفتن وصححه الألباني رحمه الله)، والشاهد هنا أن كلمة التوحيد هذه هي مناط النجاة ولو انفرط عقد الجماعة ولو ضاعت معالم الأمة بحيث لم يبق منها إلا أطياف من البشر متناثرين هنا وهناك، ولن تجد نصاً في الكتاب ولا السنة يشير إلى مجرد اجتماع الناس في صورة أمة أو جماعة أو دولة يحقق لهم النجاة بمنأى عن العقيدة، ولهذا يجب أن يستقر في أذهاننا أن مفردات العقيدة ثوابت راسخة لا يصح أن تكون مجال مداهنة أو تنازل مهما كانت الحجة والمبرر كالتذرع بالمحافظة على الجماعة وعدم تشرذم الأمة ونحو ذلك مما يسمى المصلحة الوطنية والوحدة الوطنية، واعلم أنه مهما أمكن الموزانة بين تحقيق الاجتماع الحسي والسلامة في المعتقد فقد وجب ذلك، وأنه مهما ألجأ الواقع إلى التفريط بأحدهما دون الآخر فلا مندوحة عن تفويت كل ما عدا ثوابت العقيدة في سبيل الحفاظ عليها، وتأمل معي كلام الله تعالى حكايةً عن إنكار موسى عليه السلام واقعَ الشرك الذي تلبَّس به بنو إسرائيل :" قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا. ألا تتبعنِ أفعصيت أمري. قال يا ابن أمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرَّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي"(طه 92-94) فها هو نبي الله هارون عليه السلام يرجح كفة الاجتماع ويحاول قدر الإمكان استيعاب بدعة الشرك التي جاء بها السامري، ولربما عذر موسى عليه السلام لأخيه هارون عليه السلام اجتهاده ولكنه لم يقره عليه البتة حيث انصرف للتو يطهر هذه الجماعة من رجز الشرك ولوثة العقيدة ، تأمل :" قال فما خطبك يا سامري. قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضةً من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي. قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعداً لن تُخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنَّه ثم لننسفنه في اليم نسفاً. إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً"(طه 95-98)، فلم يراعي موسى عليه السلام أمام تهديد أمن العقيدة أي شيء آخر فالسامري صاحب فكرة وأتباع يُخشى بمجابهته انفراط عقد الجماعة ولكن إذا تعين ذلك لحفظ العقيدة فلا ضير، والعجل له عُبّاده ومريديه (وما أكثر عجول اليوم) وربما أدى تحريقه إلى انفراط عقد الجماعة ولكن لا ضير، صلوات الله وسلامه على كليم الله ما أشد غضبه للحق وفي الحق وبالحق، ألا فليعلم كل مسلم أن لو استلزم الأمر التضحية بكل سامري وخسارة كل عابد عجل في مقابل تحقيق أمن العقيدة ألا فليكن، ألا ولبئس الجماعة التي تحتضن شاكلة السامري وأتباعه بل أي معنى يبقى للجماعة إذا كان مدار تأليف القلوب الإقرار بالشرك بالله أو السكوت عليه على أقل تقدير...
ثانياً: المداراة مشروعة لدفع الضرر ودرء المفسدة فتقدر بقدرها:(4/381)
وهذا من أبجديات فقه السياسة الشرعية، ولتعلم أن الضابط في مشروعية المداراة غياب شوكة أهل الحق، وأن الضابط في حد المداراة ومداه ما يندفع به الأذى والضرر عن جماعة المسلمين فحسب، فتنبه لهذا فإنه دقيق جداً، وبالغفلة عنه ينجرف البعض في تيارات المداهنة والتمييع والملاطفة ليصبح حاله حال من غصَّ فكاد يختنق فشرعت له شربة خمر متعينة لتذهب غصته فإذا به يسترسل في زجاجة الخمر سادراً متمتعاً! والحاصل أنه لا يجوز أن يتحول الإذن بالمداراة المرتبط بالضرورة الملجئة إلى مجال تنازل عن شيء من الثوابت العقدية التي إنما فارق أهل البدعة أهلَ السنة بتركها، ففرق بين أن تداري وتتألف قلوب فرقة ضالة لها شوكة يُخشى أن يتضرر منها جماعة المسلمين وبين أن نلغي هذه الأسس العقدية التي افترقنا عليها ونعلن للناس أنه اختلاف بسيط لا يفسد للود قضية وأن التقارب والتقريب بين الفريقين مشروع بل مطلوب بحجة وحدة الصف، وحسبك مثالاً واضحاً اليوم ما تزل به أقدام العديد من حملة العلم المنتسبين إلى السنة من الإعلان بمشروعية ومندوبية – بل ربما وجوب - التقريب مع أهل الرفض ولا أعني بأهل الرفض عوامهم بل منظريهم وعلماءهم وسادتهم ممن يعلمون حقيقة الفساد العقدي الذي يُضلون الخلق به. وقريب من هذا المجال من يتمادى مع منظري وكبراء العلمانية بحجة وحدة الصف الوطني ثم يتخذ من مشروعية المداراة ذريعة لذلك، وغفل هؤلاء أو ما دروا أن هذه المداراة ما شُرعت إلا حيث تعينت طريقاً للحفاظ على سلامة أهل السنة باعتبارهم حملة منهج الحق لا باعتبار ذواتهم وأشخاصهم، فمهما أفضت المداراة إلى تمييع منهج الحق أو تضييع شيء من ثوابته لم تعد مشروعةً البتة، وهذا كله يعود إلى الأصل القرآني فيما أبيح للضرورة حيث قال تعالى:" فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه"(البقرة – 173)، فمن تجاوز المدارة إلى المداهنة فقد بغى واعتدى وخرج عن حد الإباحة قولاً واحداً. ثم اعلم رحمك الله أن مبدأ المداراة يقوم في الجملة على ترك الاستعداء وترك الإعلان بالعداوة والبغض في الله لما كان يفضي إليه من منكر أعظم هو الضرر المترتب على ذلك، وهذا يحتاج منك أن تستحضر مراتب إنكار المنكر وتدرك أنه مهما أفضت مرتبة إلى حصول منكر أعظم من الذي تنكره صير إلى مرتبة الإنكار الأدنى حتى تقف عند الإنكار القلبي وهو متعين، ففي حين يشرع قتال الإمام للطوائف الممتنعة والباغية والمفارقة للجماعة في حال الأمن والاستقرار والشوكة فإنه لا يشرع في حال انفراط عقد الجماعة أو انشغاله بما هو أولى من قتال كافرٍ أصلي محارب وصائل ونحوه، وفي حين يشرع استحلال أعراض أهل البدع والفرقة بالتشهير بهم في زمن الأمن وظهور السنة تحذيراً للناس منهم فإن الإعلان بذلك في زمن الفتنة والهرج قد يفضي إلى إراقة الدماء وسفكها فوجب التلطف في هذا الإنكار اللساني أو النزول إلى رتبة إنكار القلب بحسب الأحوال وهكذا، وهذا النزول متعلق بفضح أعيانهم لا مناهجهم إن كان هؤلاء الأعيان ممن لهم شوكة يُخشى ضررها على أهل الإسلام، فتأمل هذا كله فإنه دقيق جداً.
فالحاصل أن مبدأ المداراة يقوم في الجملة على ترك الاستعداء وترك الإعلان بالعداوة والبغض في الله لأعيانهم وذوي الشوكة منهم لا لمناهجهم وأصولهم التي لا تنقطع مجاهدتها بالبيان الأولى بالأولى، ولا يقوم أبداً على الاستخذاء والاسترضاء لرؤوس البدعة ودعاتها، إن المداراة في حقيقتها أقرب إلى التحييد المؤقت لهذه الفئة حتى يُتفرغ لمن هو أعظم خطراً منها، وإن مشروعية المداراة والتألف مع هؤلاء يجب أن تقتصر على هذا التحييد ولا تتجاوزه إلى شيء من العلاقة الإيجابية اللهم إلا ما دخل في جنس التعاون على البر والتقوى والمعروف مما لا شرط له كدفع صائل ونصرة مظلوم ونحو ذلك مما تتطلبه طبيعة المرحلة، وهذا وفق قاعدة " للمسلمين نفعه وعليه وزره".
ثالثاً: مداراة وتألُّف أهل البدع والافتراق ليست تقريراً لهم على بدعتهم وضلالاتهم:(4/382)
إن استحضار هذا الأصل يقي من الانجراف وراء أوهام التقريب التي قد تكون أوقات الفتنة مروجةً لها، ولذا نؤكد على ما سبق في الأصل السابق وهو أن مداراة هؤلاء لا يُقصد منها سوى دفع الضرر الأكبر عن المسلمين وعنهم ولا يراد بها تقريرهم على بدعتهم البتة؛ أما دفع ضررهم عن المسلمين فواضح ويتمثل في عدم انشغال المسلمين بقتال أو سجال مع من بغى أو امتنع من هؤلاء وكان قتاله جائزاً تحت راية الإمام لامتناعه عن أداء بعض فرائض الإسلام أو إنكاره ما لا يجوز إنكاره من أصول الإسلام كما هو مقرر في السياسة الشرعية، وإنما امتنع قتالهم لغياب الإمام ولوجود من هو أولى بانشغال المسلمين بقتاله من كافرٍ أصلي محارب أو صائل أو نحوه، وأما دفع الضرر عنهم فمن جهة قطع الذريعة لالتحاقهم بمعسكر أهل الكفر الحسي أو المعنوي، فإن ذلك ينتقل بهم من حال أهل البدعة والشبهة والتأويل بما لا يزول معه مسمى الإسلام بالضرورة إلى وصف الكفر والردة والعياذ بالله إذا ما انحازوا إلى معسكر الكفر بتواطؤ أو تعاون أو مظاهرة أو تأييد أو حتى تنظير وتقعيد وتلك والله هي المهلكة، والحاصل أن حال أهل الحق مع أهل البدعة كحال الطبيب من المريض يترفق به ويؤلفه حتى يتناول ويتقبل ما يصلح له من علاج لمرض قلبه وليس من دور الطبيب في شيء العمل على تنفير المريض من العلاج بالكلية وإنما يأخذه بالتدرج واللين وربما يرجئ بعض العلاجات إلى حين يكون المريض أكثر تقبلاً لها، والحاصل أن شدة الإنكار على أهل البدعة في وقت الفتنة وانكشاف المسلمين قد يزين لهم اللحوق بمعسكر الكفر بأي شكل من أشكال اللحوق وهذا مفضٍ إلى الضرر عليهم بانتقالهم إلى الكفر المحقق وإلى الضرر بالمسلمين فمن جهة ما يفتُّون به في عضد المسلمين حيث يكشفون للعدو عوراتهم ويخذلونهم في أحرج الحالات والأوقات ويتجسسوا لصالح العدو ونحوه.
فالتألف والمداراة دفع لأعظم الضررين بالنسبة لكل من أهل الحق وأهل البدعة وإرجاء للتعامل الحاسم مع أهل البدعة إلى حين انطفاء نار الفتنة وعودة الشوكة لأهل الحق فينفوا عن أهل الشبهات شبهاتهم ويبينوا لأهل التأويل الفاسد فساد تأويلهم ويقاتلوا من امتنع بعد قيام الحجة عليهم قتال البغاة تحت إمرة الإمام بلا هرج ولا فتنة زائدة.
رابعاً: إن مداراة أهل البدعة زمن الفتنة لا يعطل جهادهم بالبيان :
وهذا الأصل مفرع على معرفة أن جهاد أهل البدعة يشرع بالقرآن كما يشرع أحياناً بالقوة والسلطان، ولقد تقدم أن زمن الفتنة زمن مداراة وتألف فلا يشرع معه مقارعة بالسيف ولا مجابهة بالقوة عموماً، ولكن لما كان زمن الفتنة أدعى لانحسار السنة وافتتان الناس بباطل التأويلات وزيف البدع والضلالات كان الواجب في المرابطة على ثغور السنة بالعلم والبيان والمحاجة العلمية بالدليل أفضل ما يلتئم به جرح الجماعة وأيسر ما تجمع به قلوب المسلمين، فيجب على أهل العلم وحملته أن يجتهدوا ويشمروا في بيان معالم الحق والكلام في كل ما يشكل على الناس من أصول دينهم لا سيما ما له علاقة بطبيعة الفتنة الحاصلة كأن يدهمهم العدو أو يشغر الزمان عن إمام ونحو ذلك. وهنا نكتة مهمة وهي أنه لما قررنا ضرورة عدم استعداء رموز البدعة تحييداً لضررهم المتوقع كان من الضروري أن يراعى عند تحذير الناس من فتنهم العقدية أن يتم هذا البيان بشكل مجرد عن أسماء الأشخاص والجماعات ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، والنكتة في ذلك أن واقع الفتنة مظنة شبهة لوجود مصالح شخصية عند من يقوم بالإنكار كما يحلو للشيطان أن يزين لمن يحاول غوايتهم، فمهما تجرد إنكار المنكر عن الطعن في الأفراد والجماعات كان أدعى لخزي الشيطان وقبول الناس لدعوة الحق، ومهما انصب جهد إنكار البدعة على أعيان المتلبسين فيها تحقق لإبليس مراده من تلبيس الأمر على الناس، ولعل المثال يوضح المقال؛ فأنت قد تبذل جهداً خالصاً لله تعالى في سبيل بيان ضلال رؤوس الرفض ممن يطعنون في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يكفرونهم ولكنك ما أن تشير إلى القوم حتى تنبري إليك ألسنة الناس تتهمك بالحقد على هؤلاء وتفريق الصف في وقت نحن أحوج فيه إلى توحيده وهي شبهة قوية تشوش على عقل من تلبَّس فيها فلا يعود ينتبه إلى الباطل الذي تنكره ولا إلى الحق الذي تدعو إليه، ولكنك إن صرفت الجهد إلى توعية الناس تجاه خطورة سب الصحابة والطعن فيهم وما يترتب على ذلك من مفاسد ومآلات وسلكت في هذه التوعية مسلكاً مجرداً لا تشوش في على السامع باسم الفرقة أو الجماعة الفلانية لترسخَ الأمر في ذهن السامع ولما أعيته الحيلة في كشف حقيقة هؤلاء عندما يكتشف تلبسهم بهذه البدعة والضلالة، ولئن دعت الحاجة إلى التحذير من أعيان بعض رؤوس الضلالة فلتكن نسبة الضلالة إلى أشخاصهم ما أمكن بدلاً من التشهير بفرقة أو جماعة بأكملها حتى نفوت على إبليس فرصة التدليس على الناس بشبهة أنك تفرق جماعة المسلمين وتفت في عضهم، ومدار كل ما تقدم على ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه :"حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله"(البخاري – كتاب العلم)(4/383)
خامساً: مراعاة الترتيب الشرعي وسياق الحال في مكافحة البدعة:
فمن البدعة ما هو مكفر ومنها ما هو مفسق، ومن البدعة ما هو أقرب إلى الواقع العملي ومنها ما هو أقرب إلى التأصيل العلمي النظري، ولا يصح في الأذهان الانشغال بما هو أقل ضرراً عما هو أشد ضرراً ولا الانشغال بما هو نازلةٌ واقعة بما هو نظري تأصيلي يحتمل التأخير،فلا يصح مثلاً الانشغال في الإنكار على أصحاب بدعة مفسقة مع احتمال استعدائهم في وقت الفتنة فينشغل بهم عن الإنكار على أصحاب بدعة مكفرة هم أولى بالإنكار من جهة وأقل فواتاً لمصلحة المسلمين إذا ما أعلنوا باستعدائهم من جهة أخرى، وهذا الذي نقوله مأخوذ من أصول الشرع الدالة على وجوب الانشغال بالأهم كما صح في حديث بعث معاذ رضي الله عنه إلى أهل الكتاب حيث أمره صلى الله عليه وسلم بدعوتهم إلى التوحيد ثم إلى الصلاة ثم إلى الزكاة كما هو معروف. فعلى سبيل المثال نجد اليوم إحياءً لمفهوم الإرجاء من زاوية خفية قاتلة هي زاوية تعطيل الولاء والبراء والتدليس على الناس بمفهوم التسامح الديني المغلوط؛ إذ أن ترويج مفهوم الإرجاء يقدم قاعدة وأرضاً خصبة لبذر بذور تولي الكفار وخذلان المؤمنين طالما أن إيمان أهل الإرجاء لا يختل بذلك، فمن المهم حينما ننكر على بدعة الإرجاء اليوم ألا ننحصر في سياقاتها التاريخية وأعيان رجالاتها الذين أفضوا إلى ما قدموا ولكن نبرز خطورة بدعة الإرجاء من خلال ثمرات الحنظل المرة المتمخضة في واقعنا اليوم فنبين للناس كيف أن دعوى سلامة الإيمان وتحققه مع اجتماع النواقض العملية للإيمان دعوى هدامة قد جرَّت على المسلمين الويل والثبور فوطأت بلادهم بل وفرشهم أقدام العدو الكافر بتعاون خياني حقير من هؤلاء الذين لم يروا بأساً في مد يد العون إلى كافر محارب ولا في خذلان مسلم مقهور وأخذوا يخدرون حس المسلم الذي آلمه ذلك كله بجرعات من الإيمان الإرجائي الذي لا يضر معه معصية ولا كفر عملي طالما أن القلب يعرف لا إله إلا الله – بزعمهم - واللسان يتمتم بها دون وعي ولا أثر عملي في حياة قائلها، وقل مثل هذا في أصحاب بدعة العلمانية والاعتزال والرفض والخروج، نعم إن لهذه البدع جذوراً تاريخية يهم العالم والباحث معرفتها ودراستها ولكننا نتحدث عن نشر علم السنة بين أبناء المجتمع عوامه ومتعلميه وعلمائه فينبغي الربط بالواقع ما أمكن وتأصيل الجزئيات ما أمكن وتخصيص النواحي العلمية التخصصية بأهل العلم المتخصصين ما أمكن، فالناس لا يهمها كثيراً أن تعرف الجعد بن درهم ولا واصل بن عطاء ولا القاضي عبد الجبار، ولكن يهمها أن تعرف رموز العلمانية وزنمات الاستعمار وأذناب الاستشراق وزنادقة العصر وتعرف أن الذين يقتحمون بيوتهم وينتهكون أعراضهم من الكفار المحاربين قد جاؤوا بعون من هؤلاء على اختلاف وتفاوت في مقدار العون بين منظِّر وناعق بوق لأفكار الهدم والتضليل وبين ماد يد العون العملية بفكر ووشاية وردء وتوجيه، وبين مشاركة حسية عملية عسكرية في مد يد العدوان الأثيم على حرمات المسلمين مع التستر بشتى أنواع التبرير والتضليل المنتسب إلى العلم والإسلام وفتاوى التدجين، فتأمل.
سادساً: تحرير مناط استحلال السيف في رقاب المنتسبين للبدعة إن اضطر إليه:
مهما قلنا عن ضرورة استفراغ الوسع في جهاد أهل البدعة بالبيان فإن سياق الفتنة قد يفرز واقعاً يتمحض فيه ضرر بعض المنتسبين إلى البدعة وخطرهم العظيم على أهل الإسلام بحيث يكون السكوت عنهم واحتمالهم في جسد المسلمين الواحد أشبه بالصبر على عضو مسموم في الجسد أخذ يبث ذيفاناته وخبثه في باقي الجسد ويوشك أن يأتي عليه، وفي هذه الحالات المتعينة قد لا يكون أمام الجماعة المسلمة بدٌ من توجيه السنان وتسليط السيف حيث لم تنجع المداواة بالحجة والقرآن والسنة، وهنا ينبغي التنبه إلى أمور منها ضرورة عدم التوسع في هذا المسلك اتقاء الفتنة، ومنها ضرورة تحرير مناط استباحة دماء هؤلاء وبيان ذلك بما لا يوهم أن سبب استباحة دمه مجرد انتسابه للبدعة، وليس الأمر بسبب الخجل أو الخوف من الحكم الشرعي وإنما الخوف من التعميم في الحكم والتوسع فيه بدون مبرر شرعي، ولنتذكر أننا نتحدث عن واقع الفتنة لا عن واقع الاستقرار وظهور الشوكة فتلك حالة أخرى يتسنى فيها للإمام المسلم أو موكله أن يقيم الحجة ويحكم بالحكم الشرعي القضائي في هؤلاء إن متأولين تائبين أو أهل أهواء مصرين أو زنادقة أو مرتدين، فعلى سبيل المثال إذا ظهر في واقع الفتنة أن بعض المنتسبين إلى البدعة يستحلون تقديم الردء والمظاهرة للكافر المحارب على المسلمين وقرر أهل العلم والخبرة أن إراحة المسلمين من هؤلاء متعينة فيجب أن يكون العذر الشرعي في استباحة دماء هؤلاء هذه المظاهرة والخيانة لله ولرسوله لا مجرد انتسابهم للبدعة، وهذا مهم جداً لتقليل الهرج والفوضى في زمن الفتنة وحتى لا يتهاون الناس في دماء معصومة، فتنبه لهذا كله فإنه دقيق، ولقد قدمنا في مقال سابق أننا في زمن الفتنة نجتهد في حقن دم من له شبهة إسلام ولا نجتهد في إراقة دم من له شبهة كفر، فتأمل.(4/384)
سابعاً: قاعدة جليلة في رد التنازع إلى الله ورسوله:
ولقد تركنا المسك للختام حيث إنه مهما أعيت المنافحَ عن السنة الحيلةُ في رد الخصوم وبيان تهافت الضلالات فإن له ملاذاً آمناً لا يخذله البتة ألا وهو قوله تعالى:" ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً"(النساء 59)، ومعلوم أن هذا التحاكم إنما ينضبط بمنهج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كما تقدم في قوله تعالى:" ومن يشاقق الرسولَ من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونُصلِه جهنم وساءت مصيراً"(النساء- 115)، قال الإمام أحمد رحمه الله: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم"(أصول السنة)، ولهذا فإنك مهما وجدت صاحب فرقة وهوى يزعم الانتساب إلى الكتاب والسنة فإنك لن تجده ينتسب إلى منهج الصحابة البتة بل إن علامة أهل الفرقة ترك منهج الصحابة وأمامك تاريخ الفرق وأهل الأهواء تأمله وراجعه لتوقن أن أحداً منهم لا ينتسب إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ناهيك عن أن ينتسب إليهم بأصلهم البدعي المفارق، فمهما لب!
َّس عليك هؤلاء بتأويل آية متشابهة أو حمل حديث على غير وجه الحق فخاصمهم بسنن الصحابة رضوان الله عليهم فإن كان لهم فيهم سلف وإلا، فهم صدر هذه الأمة ؛ إجماعهم حجة لازمة واختلافهم رحمة واسعة، ولن تجد الحق خارجاً عن محموع أقوالهم البتة، فتأمل.
وبعد، فإن هذا الموضوع من المواضيع الدقيقة والحرجة ولست أدعي أبداً أنني وفيتها حقها بل أقول إن كل ما قدمت أعلاه محاولة لوضع بعض المعالم العامة لمنهج التعامل مع فتنة أهل الأهواء في زمن الفتنة وخفوت نور السنة بين الناس، وأقرر هاهنا أن ما كان مما عرضت صواباً فتوفيق من الله تعالى وحده، وأن ما كان منه خلاف الحق فالله ورسوله منه بريئان وأنا عنه راجع وعليه غير مُصِر، ولقد حاولت قدر الإمكان أن أقرر عموميات ومجملات بغية إمكان إسقاطها على أكبر شريحة من الواقع، ولا شك أن حيثيات كل جزئية من الواقع قد تتعلق بها من الملابسات ما يحتاج مزيد نظر وتأمل واجتهاد وتدقيق، وأذكر نفسي وإخواني في كل مكان سواء المرابطين على الثغور أم المنشغلين في التنظير والتوجيه لعموم الأمة بضرورة التشاور والتريث وعدم استعجال الأمور، ولنتذكر نحن أهل السنة والجماعة عظم المسؤولية الملقاة على عاتقنا، إذ لا فرق بيننا وبين من يمتحن الناس إن نحن امتحنا الناس، ولا فرق بيننا وبين من يكفِّر لأدنى مخالفة إن نحن كفَّرنا مثلهم، وليعلم ضرورة الالتزام الدقيق بأسماء وأحكام الشرع وما يترتب عليها من آثار، فمهما وسعك اسم المسلم فلا تَسِم الخصم بالفسق، ومهما وسع اسم الفاسق فلا تسم بالبدعة، ومهما وسع اسم المبتدع فلا تسم الخصم بالزندقة، ومهما وسعك اسم الزندقة فلا تسم خصمك بالكفر، وليعلم أن هذه الأسماء وضعت من أجل الحكم القضائي في الدنيا فيجب الاقتصار على ما ينبني عليه عمل منها، أما الحكم الدياني في الآخرة فليس إلا الإيمان أو الكفر ومرد علمه إلى الله تعالى وحده، فلا نتوسع ولا نسترسل في تنزيل أسماء وأحكام لا ينبني عليها عمل في زمن الفتنة كمن ينشغل بإقامة شهود الزنا مع انعدام الإمام الذي يقيم حده، ولست أقصد بهذا تعطيل الأحكام وإنما أقصد الحذر من التوسع في إطلاق الاسماء جزافاً دون مرجعية وسلطة تقيم وتلزم بما يترتب على هذه الأسماء من آثار، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
==============
موافقة الكفار في أعيادهم
عبد الوهاب الناصر الطريري
السؤال
ما الأدلة على تحريم المشاركة في أعياد الميلاد ورأس السنة، ونحوها من المناسبات وما وجه دلالتها ؟
الجواب
من أوسع من تكلم في هذه المسألة وبسطها شيخ الإسلام (ابن تيمية) في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ، وقد حشد لذلك الأدلة العامة والخاصة، وجمع النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف وإجماع الأمة، والأدلة من الاعتبار والنظر مما لا يحيط به إلا من آتاه الله بسطة في العلم والفقه، ودقة النظر، وحسن الاستدلال، وهو ما جمعه شيخ الإسلام - رحمه الله -.
وأصل كلامه مبسوط واسع مفصل، فاختصرته في هذه الصفحات اختصاراً مع المحافظة على عبارته -ما أمكن- وهي صفحات تغري بالرجوع إلى أصلها ولا تغني عنه، يتضح من خلالها حكم هذه المسألة مزيلة كل لبس، كاشفة كل التباس .
قال رحمه الله :
موافقة الكفار في أعيادهم لا تجوز من طريقين: الدليل العام، والأدلة الخاصة:(4/385)
أما الدليل العام: أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس من ديننا، ولا عادة سلفنا، فيكون فيه مفسدة موافقتهم، وفي تركه مصلحة مخالفتهم، لما في مخالفتهم من المصلحة لنا، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (من تشبه بقوم فهو منهم) فإن موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقا، وكذلك قوله (خالفوا المشركين)، وأعيادهم من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم، الباطل.
وأما الأدلة الخاصة في نفس أعياد الكفار، فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار دالة على تحريم موافقة الكفار في أعيادهم.
أما الكتاب فقوله - تعالى -: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما) قال محمد بن سيرين (لا يشهدون الزور) هو الشعانين - وهو من أعياد النصارى - وعن الربيع بن أنس قال: هو أعياد المشركين، وجاء عن غيرهم من السلف نحو ذلك.
وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها، الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل، الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده.
وأما السنة: الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان، قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما، يوم الأضحى، ويوم الفطر) فوجه الدلالة أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه .
الحديث الثاني: ما رواه أبو داود عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد "، قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم، قالوا: لا، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " (وبوانه اسم مكان قريب ينبع شمال مكة).
وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه فكيف الموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم؟
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية - على أي وجه كان - وأعياد الكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد .
وإذا كان الشارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان؛ خشية أن يتدنس المسلم بشيء من أمر الكفار الذين قد أيس الشيطان أن يقيم أمرهم في جزيرة العرب، فالخشية من تدنسه بأوصاف الكتابيين الباقين أشد، والنهي عنه أوكد، كيف وقد تقدم الخبر الصادق بسلوك طائفة من هذه الأمة سبيلهم ؟
الدليل الثالث من السنة: أن هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها، ومعلوم أنه لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محا الله ذلك، فلم يبق شيء من هذه الأعياد، ومعلوم أنه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد؛ لأن المقتضى لها قائم من جهة الطبيعة التي تحب ما يصنع في الأعياد، خصوصاً أعياد الباطل من اللعب واللذات، ومن جهة العادة التي ألفت ما يعود من العيد، فإن العادة طبيعة ثانية وإذا كان المقتضى قائماً قوياً فلولا المانع القوي لما درست تلك الأعياد، وهذا يوجب العلم اليقيني بأن إمام المتقين - صلى الله عليه وسلم - كان يمنع أمته منعاً قوياً عن أعياد الكفار، ويسعى في دروسها وطمسها بكل سبيل، بل قد بالغ - صلى الله عليه وسلم -في أمر أمته بمخالفة أهل الكتاب في كثير من المباحات وصفات الطاعات؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم؛ ولتكون المخالفة في ذلك حاجزاً ومانعاً من سائر أمورهم؛ فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أهل الجحيم كان أبعد لك عن أعمال أهل الجحيم، فليس بعد حرصه على أمته ونصحه لهم - بأبي هو وأمي - غاية وكل ذلك من فضل الله عليه وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون .
والوجه الرابع من السنة: ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، قالت وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم عيد - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) وهذا الحديث بدل على المنع من وجوه : أحدها قوله (إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، كما أنه - سبحانه - لما قال:" ولكل وجهة هو موليها " وقال:" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم، فإذا كان لليهود عيد وللنصارى عيد كانوا مختصين به فلا نشركهم فيه، كما لا نشركهم في قبلتهم وشرعتهم.(4/386)
الوجه الثاني: قوله:" وهذا عيدنا " فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا فليس لنا عيد سواه.
الوجه الثالث: أنه رخص في لعب الجواري بالدف وتغنيهن؛ معللاً بأن لكل قوم عيداً وأن هذا عيدنا، وذلك يقتضي أن الرخصة معللة بكونه عيد المسلمين، وأنها لا تتعدى إلى أعياد الكفار؛ ولأنه لا يرخص في اللعب في أعياد الكفار كما يرخص فيه في أعياد المسلمين، إذ لو كان ما يفعل في عيدنا من ذلك اللعب يسوغ مثله في أعياد الكفار أيضاً، لما (قال فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا)، وهذا فيه دلالة على النهي عن التشبه بهم في اللعب ونحوه.
الدليل الرابع من السنة: أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى حتى أجلاهم عمر - رضي الله عنه - في خلافته، وكان في اليمن يهود كثير والنصارى بنجران وغيرها، والفرس بالبحرين، ومن المعلوم أن هؤلاء كانت لهم أعياد يتخذونها، ومن المعلوم أيضا أن المقتضي لما يفعل في العيد من الأكل والشرب واللباس والزينة واللعب والراحة ونحو ذلك قائم في النفوس كلها - إذا لم يوجد مانع - خصوصا نفوس الصبيان والنساء وأكثر الفارغين من الناس، ثم من كان له خبرة بالسير علم يقينا أن المسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كانوا يشركونهم في شيء من أمرهم، ولا يغيرون لهم عادة في أعياد الكافرين، بل ذلك اليوم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر المسلمين يوم من الأيام لا يختصونه بشيء أصلا، فلولا أن المسلمين كان من دينهم الذي تلقوه عن نبيهم المنع من ذلك والكف عنه، لوجد من بعضهم فعل بعض ذلك.
الدليل الخامس من السنة: ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد " متفق عليه .
وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة عيداً في غير موضع، ونهى عن إفراده بالصوم؛ لما فيه من معنى العيد، وفي هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا، كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى، فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت، أو عيد يوم الأحد خالفنا هذا الحديث، وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي، إذ لا فرق بل إذا كان هذا في عيد يعرف بالحساب العربي فكيف بأعياد الكافرين العجمية؟ التي لا تعرف إلا بالحساب الرومي القبطي أو الفارسي أو العبري ونحو ذلك.
وأما الدليل من الإجماع والآثار فمن وجوه.
أحدها: ما قدمت التنبيه عليه من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين ثم لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من أعيادهم، فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهياً من ذلك وإلا لوقع ذلك كثيراً؛ فعلم وجود المانع، والمانع هنا هو الدين، فعلم أن دين الإسلام هو المانع.
الموقف الثاني: أنه في شروط عمر - رضي الله عنه - التي اتفق عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم، أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وسموا الشعانين والباعوث – وهي من أعياد النصارى -، فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟ أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهرا لها؟ وعلى التقديرين فالمسلم ممنوع من المعصية ومن شعائر المعصية ولو لم يكن في فعل المسلم لها من الشر إلا تجرئة الكافر على إظهارها؛ لقوة قلبه بالمسلم، فكيف بالمسلم إذا فعلها؟ فكيف وفيها من الشر ما سنبنيه على بعضه؟ - إن شاء الله تعالى -.
الموقف الثالث: قال عمر – رضي الله عنه - :" لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم " وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال:" من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت - وهو كذلك - حشر معهم يوم القيامة ".
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه– " اجتنبوا أعداء الله في عيدهم " فهذا عمر - رضي الله عنه -نهى عن لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم أو بفعل ما هو من مقتضيات دينهم؟ أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟ أو ليس بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟ وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم، فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك، ثم قوله: (اجتنبوا أعداء الله في عيدهم) أليس نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه؟ فكيف بمن عمل عيدهم؟ وأما عبد الله بن عمرو فصرح أنه من بنى ببلادهم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم؟ وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار.
وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه:(4/387)
أحدها: أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله – سبحانه -:" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " وقال:" لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه " كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه، وأما مبدؤها فأقل أحواله أن تكون معصية، وإلى هذا الاختصاص أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا) .
الوجه الثاني من الاعتبار: أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله؛ لأنه إما محدث مبتدع وإما منسوخ، وأما ما يتبع ذلك من التوسع في العادات من الطعام واللباس واللعب والراحة، فهو تابع لذلك العيد الديني، كما أن ذلك تابع له في دين الإسلام، فموافقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين في ذلك من أقبح المنكرات.
الوجه الثالث من الاعتبار: أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله، حتى يصير عادة للناس بل عيدا حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر، كما قد سوله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام فيما يفعلونه في آخر صوم النصارى من الهدايا والأفراح والنفقات وكسوة الأولاد وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين، بل البلاد المصاقبة للنصارى التي قل علم أهلها وإيمانهم قد صار ذلك أغلب عندهم وأبهى في نفوسهم من عيد الله ورسوله
الوجه الرابع من الاعتبار: أن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم، كانتفاعهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج ولهذا جاءت بها كل شريعة كما قال – تعالى -:" لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه " وقال:" ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه، وهو الكمال المذكور في قوله - تعالى- اليوم أكملت لكم دينكم.
ولا يخفى ما جعل الله في القلوب من التشوق إلى العيد والسرور به والاهتمام بأمره إنفاقا واجتماعا وراحة ولذة وسرورا، وكل ذلك يوجب تعظيمه لتعلق الأغراض به، فلهذا جاءت الشريعة في العيد بإعلان ذكر الله فيه، حتى جعل فيه من التكبير في صلاته وخطبته وغير ذلك مما ليس في سائر الصلوات، فأقامت فيه - من تعظيم الله وتنزيل الرحمة خصوصا - العيد الأكبر ما فيه صلاح الخلق كما دل على ذلك قوله –تعالى-: "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم" فصار ما وسع على النفوس فيه من العادات الطبيعية عونا على انتفاعها بما خص به من العبادات الشرعية فإذا أعطيت النفوس في غير ذلك اليوم حظها أو بعض الذي يكون في عيد الله فترت عن الرغبة في عيد الله وزال ما كان له عندها من المحبة والتعظيم، فنقص بسبب ذلك تأثير العمل الصالح فيه، فخسرت خسرانا مبينا .
الوجه الخامس من الاعتبار: أن مما يفعلونه في عيدهم منه ما هو كفر ومنه ما هو حرام ومنه ما هو مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة، ثم التمييز بين هذا وهذا يظهر غالبا وقد يخفى على كثير من العامة، فالمشابهة فيما لم يظهر تحريمه للعالم يوقع العامي في أن يشابههم فيما هو حرام، وهذا هو الواقع فجنس الموافقة تلبس على العامة دينهم حتى لا يميزوا بين المعروف والمنكر .
الوجه السادس من الاعتبار: أن الله –تعالى- جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر، إلا بالعين فقط .
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام.
والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا وإن بعد المكان والزمان فهذا أيضا أمر محسوس، فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به ودار التحريم عليه، فنقول مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله لو تفطن له، وكل ما كان سببا إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه كما دلت عليه الأصول المقررة.(4/388)
الوجه السابع من الاعتبار: أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة؛ فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، قال الله -تعالى-: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ".
المصدر : موقع الإسلام اليوم
===============
مراحل الجهاد في سبيل الله .. المرحلة المدنية ( 56 -64)
الفرع الثاني : المرحلة المدنية
يتضح من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية أنها كلها كانت جهاد تربية وتزكية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على إخلاص العبادة لله وحده والطاعة الكاملة لأوامر الله سبحانه وتعالى، وترك كل أوضار الجاهلية وعاداتها، والدعوة إلى وحدانية الله تعالى وتسفيه أحلام المشركين والصمود أمام الأذى والمحنة، والتضحية في سبيل الله تعالى بالنفس والمال والأهل والولد، والانضباط الكامل تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتحقق في أصحابه الركنان الأساسيان في دعوة الرُسل عليهم الصلاة والسلام، وهما التقوى والطاعة، إذ ما من نبي إلا دعا قومه إلى تحقيقهما: (فاتقوا الله وأطيعون) [الشعراء: 108]، فكوَّن بذلك صلى الله عليه وسلم القاعدة الصلبة التي أرسيت عليها دولة الإسلام العظيمة في كل أقطار الدنيا بعد ذلك.
وبعد أن أبلى المؤمنون في مكة بلاءً حسناً، وضُيِّق عليهم الخناق، وعلم الله تعالى أنهم ثبتوا على دينه الحق ثبوت الجبال الرواسي؛ قيض الله لهم نواة كتيبة الأنصار في السنة الحادية عشرة من البعثة المحمدية، إذ كان رسول الله صلى الله علليه وسلم يعرض نفسه على الناس في المواسم ليقبلوا دعوته ويحموه ليبلِّغ رسالة ربه، فوجد رهطاً من الخزرج فطلب منهم أن يجلسوا إليه ليسمعوا منه، فشرح لهم الإسلام ودعاهم إليه فأجابوه وقالوا له: (إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه في هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك) [السيرة النبوية (1/429)، الطبعة الثانية-الحلبية].
ودعوا قومهم بعد رجوعهم فأجابهم كثير منهم، حتى فشا فيهم الإسلام، فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي العام المقبل وفد اثنا عشر رجلاً من الأنصار، فلقيهم الرسول صلى الله عليه وسلم عند العقبة فبايعوه، قال عبادة بن الصامت: (فبايعناه على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف). وقال لهم: (فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عزّ وجلّ، إن شاء عذّب وإن شاء غفر) [السيرة النبوية (1/433)].
وبعث صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير يقرؤهم القرآن ويصلي بهم، ويظهر من هذه البيعة تعميق معاني المرحلة المكية في نفوس المسلمين، وهي الإخلاص لله وحده، وتزكية النفوس وصقلها من الأخلاق السيئة التي اعتادها المشركون.
وفي العام المقبل وفدت كتيبة الله من أنصاره إلى مكة في موسم الحج، فواعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم عند العقبة من أوسط أيام التشريق ليلاً، حيث تسللوا إليه بعد مضي ثلث الليل حتى اجتمعوا عند العقبة، وكان عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله ورغَّب في الإسلام، ثم قال: (أُبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم) فبايعوه على ذلك، ودار بينهم حوار واستيثاق، وكان مما قاله أبو الهيثم بن التيِّهان: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها -يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (بل الدم بالدم، والهدم بالهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم) [نفس المصدر (1/442)] وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُخرِجوا منهم اثني عشر نقيباً، ففعلوا، وكان تسعة منهم من الخزرج وثلاثة من الأوس، وكانت شروط هذه البَيْعة تختلف عن شروط بيعة العقبة الأولى، وهي كما قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عُسرنا ويُسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنّا لا نخاف في الله لومة لائم) [السيرة النبوية (1/454)].(4/389)
ويظهر في هذه البيعة العظيمة معانٍ جديدة تعتبر منطلقاً للمرحلة المدنية الجديدة:
1 ) فالرسول صلى الله عليه وسلم بايعهم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، ومعنى هذا أنه تارك مكة ومهاجر إلى المدينة، وقد فهم ذلك الأنصار: (فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟).
2 ) كانت البيعة - أيضاً - على السمع والطاعة، في العسر واليسر والمنشط والمكره، والإيثار على أنفسهم، وعدم منازعة الأمر أهله، وقول الحق أينما كانوا، وألا يخافوا في الله لومة لائم.
3 ) كان فيها أيضاً توحيد الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، ومقاطعة أعداء الله: (إن بيننا وبين الرجال حبلاً وإنا لقاطعوها).
هذه المعاني مشبعة بالروح الجهادية والتحفز لبذل النفوس والأموال في سبيل نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنها كذلك.
وظهرت فيها الدقة في التنظيم حيث جعل على كل طائفة منهم نقيباً يسمعون له ويطيعون، وجعل الموعد بينه وبينهم في ساعة غفلة عن أعين المشركين، تمكن فيها صلى الله عليه وسلم من تحقيق هدفه دون مضايقة أو أذى له أو لأنصاره المبايعين.
كما كان ترتيب لقائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم دليلاً على الانضباط وكتم السر مع كثرة عددهم وإحاطة المشركين بهم.
ظهرت آثار ذلك كله عندما علمت قريش فأُسقط في أيديها وقد فات الأوان: (فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى إذا أصبحنا غَدَت علينا جلّة من قريش فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينهم منكم، فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان منا هذا الشيء وما عملناه، وقد صدقوا لم يعملوه، قال: وبعضنا ينظر إلى بعض) [السيرة النبوية (1/440-448)].
( 57 )
تابع للمرحلة المدنية
فكان إسلام الأنصار ومبايعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم على حمايته ومقاطعة أعدائه منطلقاً لإقامة أول مجتمع إسلامي متميز على وجه الأرض بعد البعثة النبوية.
وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة من مكة إلى المدينة، فخرجوا جماعات وأفراداً، تاركين أشرف بقعة على وجه الأرض، بها ديارهم وأموالهم وأهلوهم، طمعاً فيما عند الله تعالى من إعزاز دينه وإعلاء كلمته وإذلال أعدائه ورضاه عن أوليائه المؤمنين.
واستقبلهم إخوانهم الأنصار فآواهم ووفوا ببيعة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والتحمت الكتيبتان: كتيبة المهاجرين وكتيبة الأنصار، وأخذ دين الله ينتشر في أهل المدينة حتى أصبح ذكر الله وتوحيده والإقرار برسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يتردد في كل بيت وفي كل مكان، وبلغ الأنصار القمة في الإيثار وتحقيق الأخوة الإسلامية.
وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة إلا أن أذن الله له في الهجرة، وفي أثناء مدة انتظاره صلى الله عليه وسلم اشتد خوف مشركي قرشي من قاعدة تجمُّع المسلمين الجديدة، وأخذوا يتشاورون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من رأى حبسه حتى يموت، ومنهم من رأى إخراجه من البلاد ونفيه، واستقر أمرهم بعد ذلك على قتله، كما قال تعالى لنبيه -بعد ذلك مذكِّراً له وللمسلمين بنعمته تعالى عليهم حيث أنجاه من مؤامراتهم-: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك، أو يقتلوك، أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) [الأنفال: 30].
وخطَّط رسول الله صلى الله عليه وسلم لهجرته التي رافقه فيها أبو بكر الذي كان يتلهَّف للَّحاق بإخوانه المهاجرين، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن له بالهجرة ليكون معه في أحرج المواقف المكية وآخرها، وهي الهجرة، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بالنوم على سريره ليلة الهجرة، وخرج هو وأبو بكر رضي الله عنه، فاختفيا في الغار (غار ثور) ثلاثة أيام والمشركون يبحثون عنهما، وقد خصَّصوا مكافآت ثمينة لمن يقبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفيقه.
ولكن الله كان معهما، ومن كان الله معه فلا غالب له: (إلا تنصروه فقد نصره الله، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه:: لا تَحزنْ إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيَّده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم) [التوبة: 40].
وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبله جند الله من المهاجرين والأنصار، وأحاطوا به إحاطة الهالة بالقمر، يأمرهم فيستبقون لتنفيذ أمره، وينهاهم فيجتنبون ما نهاهم عنه.
وبدأ صلى الله عليه وسلم يُرسي دعائم الدولة الجديدة التي لا يدري الناس في الجزيرة العربية، فَضْلاً عن بلاد فارس والروم وغيرهما من ممالك الدنيا، ما كانوا يدرون ماذا يكمن وراء تلك الدولة الناشئة من عواصف قصف لمعاقلهم وحصونهم، وسيوف حتف لرقاب طغاتهم وجبابرتهم، وأنوار هداية لشعوبهم.
( 58 )
تكوين نواة الأمة الإسلامية وأسسه
الأساس الأول: بناء المسجد(4/390)
وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في تأسيس دولة الإسلام فبدأ ببناء مسجده الشريف في عاصمة الإسلام الأولى، شارك في بنائه بنفسه مع أصحابه، وفي مشاركة القائد أصحابه حافز لهم على العمل الجاد، كيف والذي يعمل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلقّى الوحي من ربه كل يوم، والسفير بينه وبين ربه جبريل عليه السلام؟ لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يردّدون في سرور واعتزاز ونشاط:
لئن قعدنا والنبي يعملُ
======== لذاك منّا العمل المضلِّلُ
وكان المسجد – في مظهره – في غاية التواضع، فأعمدته من جذوع النخل، وسقفه من سَعَفه وجريده، وفرشه من الرمل والحصباء.
ولكنه كان مثابة لجبريل ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بالوحي، وكان محلاً لرفع كلمة التوحيد التي كان ينادي بها بلال خمس مرات في اليوم والليلة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم فيه أصحابه في الصلاة، ويقرئهم القرآن، ويعلمهم أحكام دينهم التي بدأت تتنزل من السماء ليطهرهم الله ويزكيهم، فيعود كل واحد منهم إلى منزله كل يوم بعلم جديد يتلقاه مباشرة من في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من عمله فيعلمه أهله وجيرانه، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقاه من جبريل، وجبريل يتلقاه من ربه.
وكان المسجد مكاناً لاجتماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمُدارسة القرآن الكريم والسنة النبوية وتطبيقهما.
كما كان مقراً للفتوى والسؤال عمّا يُشْكِل على الصحابة رضي الله عنهم، وكان منطلقاً لبعث الدعاة إلى الله، وساحة للتدريب على الفروسية، ومؤتمراً لمدارسة أمور الحرب والحراسة وبث السرايا وعقد الألوية للغزاة المجاهدين في سبيل الله.
وكان مأوى لمن لا منزل له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينامون فيه ويتناولون طعامهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض فيه الأموال من المتصدقين بها على المحتاجين، وأموال الغنيمة والفيء، ويقسمها على الناس فيه.
هكذا كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجمعاً لكل أجهزة الدولة الإسلامية الجديدة، وكل ما يفعل فيه كان يعتبر عبادة يقصد بها وجه الله. الصلاة، والتعليم، والنوم، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أما أنا فأنام وأقوم، وأرجو في نومتي ما أرجو في قَوْمَتي) [مسلم (3/1456)] هذا مع صغره وتواضعه في مواد البناء، حيث كان إذا نزل المطر تقاطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيه على الماء والطين. ولكنهم كانوا يتزكون فيه بالقرآن والسنة فتمتلئ قلوبهم إيماناً، ويحملون دعوة الله إلى خلقه بالتبليغ والموعظة أو بالسيف والحربة.
فأين مساجد المسلمين اليوم من ذلك المسجد؟ إن مساجد المسلمين التي أصبحوا يتباهون بتشييدها بأغلى مواد البناء، وبنقوشها وزخرفتها وفرشها وقناديل ضيائها ومراوحها ومكيفات هوائها؛ وشبابهم بل وبعض كهولهم لا يدخلها كثير منهم.
بل إنك لتجد في بعض بلدان المسلمين صفوفاً من البشر مصطفين في مساحة قد تصل ميلاً أو أكثر ينتظرون دخول دور السينما أو المسرح والمرقص، في الوقت الذي يقول فيه المؤذن حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، وتجد كثيراً من الشباب في الملاعب الرياضية يتبارون كالحُمُر في أوقات الصلاة دون حياء أو خجل، وحولهم عشرات الآلاف بل مئاتها من المتفرجين تضرب لهم الطبول وهم يرقصون ويصفقون يتمايلون هاهنا وهاهنا كأنهم سكارى.
أين المسلمون اليوم في مساجدهم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مسجده ذاك؟ إن المصلين في المساجد اليوم – في الأغلب الأعم – ذو أرواح خاوية، وقلوب قاسية، ومعاملات خائبة.
قال محمد الغزالي: (وتم محمد في حدود البساطة: فراشه الرمال، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدوا وتروح.
هذا البناء المتواضع الساذج هو الذي ربّى ملائكة البشر ومؤدبي الجبابرة، وملوك الدار الآخرة، في هذا المسجد أذن الرحمن لنبي يؤم بالقرآن خيرة من آمن به، يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل. إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكن الناس لمّا أعياهم بناء النفوس على الخلائق الجليلة استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة تضم مصلِّين أقزاماً، أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام) [فقه السيرة ص: 190].
وبهذا تعلم أن المسجد النبوي كان مجمع الدولة الإسلامية الأول.
( للكاتب رسالة بعنوان دور المسجد في التربية، وقد طبعت أكثر من مرة )
( 59 )
الأساس الثاني: لتكوين الأمة: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار(4/391)
كانت الأنانية طاغية على العرب في جاهليتهم: القبيلة تترفع عن القبيلة، والبطن يفخر على مثيله، والأسرة تتكبّر على الأسرة، والفرد يتعالى على الفرد، وكان من حصاد هذه الأنانية ظلم القوي للضعيف واستئثاره عليه في كل شيء، ممّا سبَّب الإحن والعداوات والغارات والحروب الدائمة لأتفه الأسباب.
والأمة التي تصاب بالأنانية وما يتبعها أمة تافهة مهيضة الجناح خائرة القوى، تكون دائماً محلاً لمطامع الآخرين واستعبادهم لها.
فلما جاء الإسلام أحدث انقلاباً في نفوس المسلمين هو استسلام المسلم لربّه وطاعته لقيادته، وفي وحي الله وسنة رسوله ما يكفي لتواضع المؤمن وذلّته لله تعالى وحبه لإخوانه وإيثاره إياهم على نفسه.
وكان هذا المعنى ثابتاً في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي جعل أبا بكر رضي الله عنه يبذل ماله في شراء المسلمين الذين كانوا عبيداً لبعض المشركين الذين عذّبوهم وحاولوا صدّهم عن دينهم، ومن أولئك المسلمين بلال رضي الله عنه، وهو كذلك الذي جعل النفر الذي كانوا أول من لقيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم من الخزرج، يقولون بعد أن استجابوا لدعوته: (إنّا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك … فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك) [السيرة النبوية 429]، بل هو الذي جعل الأنصار يتسابقون إلى إيواء المهاجرين حتى كانوا يقترعون على المهاجرين.
ولكن مع ثبات هذا المعنى في نفوسهم أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعقمه بجعله بيعة وعقداً بين المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهلهم في سبيل الله، والأنصار الذين آوَوْهم ونصروهم، فآخى صلى الله عليه وسلم بينهم اثنين اثنين، أي كان يجعل رجلاً من المهاجرين أخاً لآخر من الأنصار، وهو إخاء خاص غير الإخاء العام. الإخاء العام: كل مؤمن أخ لكل مؤمن، والإخاء الخاص: فلان أخ فلان، وفَرْقٌ بين الأمرين، فالإخاء العام لا يثمر ما يثمره الإخاء الخاص من الحب العميق.
والتواضع والإيثار إذ قام على القواعد الشرعية فإنه يجعل الأخ يؤثر أخاه فيما لا يطرأ على الخيال، فضلاً عن التفكير فيه، فضلاً عن العزم عليه وتنفيذه.
وإليك الدليل: في صحيح البخاري: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن ربيعة، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فإني أقسّم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمِّها لي أطلقها، فإذا انقضت عدّتها فتزوجها. قال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلُّه على سوق بني قينقاع، فلما انقلب إلا ومعه فضل من أقطٍ وسمن، ثم تابع الغدوَّ، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهيم؟) قال: تزوجت [البخاري رقم 3780].
ولهذا امتن الله على المؤمنين بهذا الإخاء العظيم فقال: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفى حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) [آل عمران: 103]
ومن المهاجرين والأنصار كوَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم القاعدة الصلبة التي قامت عليها دولة الإسلام في الجزيرة ثم في شرق الدنيا وغربها، وهم الذين قال الله فيهم: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين آوَوا ونصروا أُولئك بعضهم أولياء بعض) [الأنفال: 72].
وقال: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون، والذين تبوَّءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كانوا بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) [الحشر: 8-9].
وقال تعالى فيهم: (محمد رسول الله، والذين آمنوا أشدّاء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركَّعاً سجَّداً، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب الزُرَّاع ليغيظَ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) [الفتح: 29].
ومن هنا يعلم أنه لا بدّ للدعوة الإسلامية – حتى تنطلق في الأرض – من قاعدة حصينة تنطلق منها، وهي ما تسمَّى في اصطلاح الفقهاء: (دار الإسلام) ومن قائد قدوة يتصف بكل الأخلاق الفاضلة المبنية على الإيمان العميق، ومن جنود تسود بينهم الأُخوة والمحبة ويتحقق فيهم الاقتداء بقيادتهم، وهذا ما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة، فتوطَّدت بذلك الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية، وأمنت التصدّع والخلل الذي يستطيع أعداء الله التسلل منهما إلى صفوف المسلمين لصدعها وتفريقها.
( 60 )
الأساس الثالث: وضع ميثاق ينظم الأمة وتحمي وحدتها(4/392)
أصبح المسلمون في المدينة هم أهل الحل والعقد، وهم الأجدر بقيادة الناس في المدينة وما حولها، لأنهم أهل الحق الرباني الذي كُلِّفوا تطبيقه في أنفسهم ودعوة الناس إليه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم أصبحوا يملكون أزمّة الأمور في البلاد بنظام وطاعة تحت قيادة واحدة، بخلاف غيرهم من اليهود والمشركين، فقد كانوا يعيشون في فوضى وتطاحن فيما بينهم، وكذلك اليهود لم يكن في استطاعتهم جمع كلمة الناس، بل إنهم كانوا يؤججون بينهم نار الحرب ويبثون بينهم الضغائن، وكان همهم ابتزاز الأموال والسيطرة على الناس عن طريق نشر تلك الفوضى وذلك الحقد.
وكان المشركون من قريش يتربّصون بالمسلمين للقضاء عليهم قبل أن تتوطد دعائم قوتهم وإحكام سيطرتهم على قاعدتهم الجديدة، ولازالت الجزيرة العربية تدين بالشرك وعبادة الأوثان، وينظر سكانها إلى قريش نظر إكبار وإجلال، ويرون في الاقتداء بهم ما يؤهلهم للتقدم والظهور.
ولازال في المدينة نفسها مشركون، بل ظهر عنصر خبيث ماكر وهم المنافقون الذين أظهروا الإسلام خشية من أن تفوتهم بعض المصالح المادية، وهمم في واقع الأمر شر من المشركين.
كما كان بالمدينة يهود الذين كانوا يتوقعون أن يكون الرسول الجديد منهم، فلما بعث من غيرهم امتلأت قلوبهم غيظاً وحقداً، خاصة بعد أن سبقهم إلى الإيمان به الأُميون من أهل يثرب: الأوس والخزرج، الذين كان يهود يهدِّدونهم بأن نبياً سيبعث، فيتبعونه – أي اليهود – ويقتلونهم قتل عادٍ وإرم [تفسير ابن كثير (1/124)]، كما قال تعالى عنهم: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مُصدِّق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) [البقرة: 89].
وهكذا كان الشرك مطبقاً على الجزيرة العربية، وكانت قريش تتربص بالمسلمين الدوائر مع وجود المشركين والمنافقين واليهود في المدينة، وفي كل ذلك خطر على المسلمين القليلي العَدَد والعُدَد، ولا يستبعد اتصال قريش بمشركي المدينة ومنافقيها ويهودها أو العكس للتآمر على المسلمين والقضاء عليهم.
لذلك كان لابد من الإسراع إلى وضع ميثاق توضِّح فيه معالم وحدة الأمة الإسلامية، وصلة غيرها من مشركين ويهود بها، على أن تكون القيادة للأمة الإسلامية لا لأعداء الله من مشركين ويهود الذين لا يؤمن جانبهم، بخلاف المسلمين فإن الوفاء بالعهد عندهم من الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقد جعل الميثاقُ المسلمين أمة واحدة، من أي جنس كانوا: -( هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: إنهم أمة واحدة من دون الناس).
ولكنه أبقى ما كان معمولاً به في القبائل العربية من التكافل والعَقْل وفداء العاني: (يتعاقلون معاقلهم، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين).
ودعا الميثاق إلى إعانة من أثقله الدين وكثر عليه العيال: (وأن المؤمنين لا يتركون مَفْرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف والقسط بين المؤمنين). وألزم المؤمنين الوقوف صفاً واحداً ضد البغاة الظالمين الآثمين ولو كانوا من ألصق قراباتهم (وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم).
وقرر المساواة بين المؤمنين: (وأن ذمة الله واحدة يجير عليها أدناهم) وسدّ الباب على المشركين في المدينة على أن يتعاونوا مع مشركي قريش: (وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن) وقرر القصاص في القتلى حتى لا يتعدى أحد على أحد، وحتى لا تعود فوضى الغارات والعداوات والإحن التي كانت ضاربة أطنابها قبل الإسلام بين القبائل: (وأنه من اعتبط [أي قتل بدون حق] مؤمناً قتلاً عن بينه فإنه قَوَد به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا القيام عليه).
وألزمهم ملاحقة المجرمين وعدم إيوائهم حتى ينال كل خارج عن نظام الدولة الإسلامية جزاءه وليرتدع الناس عن الإجرام: (وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وأن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل).
وقرر تبعية اليهود للأمة الإسلامية مع السماح لهم بالبقاء على دينهم، وألزمهم إعانة المسلمين بالمناصرة وبالإنفاق في الحرب، أما في حالة السلم فعلى كل فريق الإنفاق على نفسه: (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود … أمة مع المحاربين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ [أي يهلك، راجع النهاية لابن الأثير] إلا نفسه وأهل بيته … ).
(وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم).
وقرر قاعدتي النصر والمسئولية، فلم يَبْقَ ذلك العمل الجائر من نصر القبيلة كلها لأي فرد منها سواء كان ظلماً أو مظلوماً كما قال الشاعر الجاهلي:(4/393)
وهل أنا إلاّ مِنْ غزيِّة أن غوت
===== عويتُ وإن ترشد غزية أرشد
كما لم يبق ذلك الاعتداء على البريء بجريرة غيره، بل كل واحد مسؤول عن عمله: (وأنه لم يأثم امروء بحليفه، وأن النصر للمظلوم).
وقرر حق الجار: (وأن الحار كالنفس غير مضارٍ ولا آثم).
وقرر حرية البقاء في المدينة أو الخروج منها ( حرية الإقامة وحرية التنقل ) ما لم يصب الباقي أو الخارج ظلماً: (وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم).
وكانت أهم قواعد هذا الميثاق جعل القيادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورد الحكم إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم حيث خاطب المؤمنون بقوله: (وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمد صلى الله عليه وسلم).
ونصّ في أثناء المعاهدة مع اليهود على ذلك: (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدَث أو اشتجار يُخاف فساده فإن مردّه إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) [النص الكامل لهذا الميثاق في السيرة النبوية (1/501) وما بعدها].
وبهذا الميثاق العظيم أحاط النبي صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية بسياج قوي منيع داخليّ وخارجيّ، ووطّد دعامة الحكم بما أنزل الله، وأصبحت بذلك دولة الإسلام قائمة على أقوى الدعائم التي يجب توافرها لقيام الدولة العالمية الشرعية الخاتمة. بقيادتها النبوية، وأمتها المطيعة المقتدية، ومنهجها الشامل الواضح.
فإذا أضيف هذا إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبناء المساجد النبوي الشريف الذي كان منطلق الدعوة والتعليم والجهاد والمواساة، ومركز التجمع لكل ما يعنُّ من أمور الدولة الإسلامية من الشورى وغيرها، مع كونه مقراً لأداء الشعائر العبادية، فإن مقومات الدولة تكون قد اكتملت.
وأصبح المسلمون أمة تتربص بها قريش وأهل الجزيرة كلِّهم من ورائها، بل تتربص بها دول الكفر في الشرق والغرب. فماذا بعد؟
( 61 )
الإذن قي القتال
كان قتالُ المسلمين أعداءهم الكافرين في مكة دفاعاً عن أنفسهم محرّماً عليهم على الرغم من شدة الاعتداء عليهم كما مضى، وعندما فكّروا في ردّ الاعتداء عن أنفسهم أمر الله بكفِّ أيديهم، كما قال تعالى: (ألم تَر إلى الذين قيل لهم كُفُّوا أيديَكم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يَخْشَون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا ربَّنا لِمَ كتبت علينا القتال؟ لولا أخَّرتنا إلى أجل قريب؟ قل متاع الدنيا قليل والآخرة خيرٌ لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً) [النساء: 77].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: (كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، وإن لم تكن ذات النُّصُب، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين، والصبر إلى حين، وكانوا يتحرَّقون ويودُّون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة، منها قلة عددهم إلى كثرة عدد عدوهم) [تفسير القرآن العظيم (1/525)].
فالآية مدنية تحكي ما كان من أمر المسلمين في مكة من تحرقهم واشتياقهم لإذن الله تعالى لهم في قتال عدوهم دفاعاً عن دينهم وأنفسهم وأعراضهم، وتُعَجِّب من فريق منهم - وليس كلهم - تَقاعَس عندما فرض الله القتال في المدينة.
ويعقب سيد قطب رحمه الله على تعجيب الله من هذا الفريق المتحمِّس قبل فرض القتال، المتقاعس بعد فرضه فيقول: (وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه، ولا يطيق الهوان،وهو ذو عزة فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة، والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمرَ ربه بالتريُّث والانتظار والتربية والإعداد وارتقاب الأمر في الوقت المقدّر المناسب، فلمَّا أن أمن هذا الفريق في المدينة ولم يعد هناك أذى ولا إذلال … لم يعد يرى للقتال مبرراً … وقد يكون هذا الفريق مؤمناً فعلاً بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى، وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا فالإيمان الذي لم يتضح بعد … ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر والاستماع فقط إلى أمر الله واعتباره هو العلة والمعلول والسبب والمسبِّب والكلمة الأخيرة، سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له … لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف الذي يصوِّره السياق القرآني هذا التصوير، ويعجب منه هذا التعجب، وينفِّر منه هذا التنفير) [في ظلال القرآن (5/712،713) طبع دار الشروق] إهـ مع تصرّف واختصار.
حكمة الأمر بكف المسلمين أيديهم عن القتال في مكة(4/394)
وأمر المسلمين بكف أيديهم عن القتال في مكة – على الرغم من تعدي المشركين عليهم وإيذائهم بكل ألوان الأذى – كان هو المناسب صدوره من العليم الحكيم وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى ما ظهرله من الحكمة في ذلك: (ولم يكن الحال – أي الأمر بالقتال – إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة: منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم. ومنها كونهم كانوا في بلدهم، وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً كما يقال فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لمّا صارت لهم دار ومنعة وأنصار …) [تفسير القرآن العظيم (1/525)].
وقد تعرض سيد قطب لذلك في كتاب (في ظلال القرآن) – بعد أن بيّن أنه يجب على المسلم أن يتأدب مع القرآن فلا يجزم أن هذه هي الحكمة أو تلك وأنها أمور اجتهادية تخطئ وتصيب - فبيّن أن الفترة المكية كانت فترة إعداد وتربية للفرد على الصبر وضبط النفس، والبقاء ضمن مجتمع منظم وقيادة تطاع في بيئة كان ذلك مفقوداً فيها. وأن الدعوة السلمية في المجتمع الجاهلي كانت أشد تأثيراً من الصراع المسلح، وأنه لو أذن للمسلمين في القتال لقامت معركة بين القريب وقريبه في كل بيت لعدم وجود سلطة نظامية متميّزة، وقد يكون ذلك سبباً في نفور الناس من الإسلام، كما أن الله تعالى قد علم أن كثيراً من المعاندين الذين كانوا يفتنون المؤمنين سيكونون بعدُ من جنود الإسلام.
يضاف إلى ذلك أنه كان يوجد في المجتمع الجاهلي من ينصر المظلوم وقد كان أبو طالب، بل وغيره من بني هاشم وبني عبد المطلب، يحمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نقض الصحيفة الآثمة ما يدل على ذلك.
وكان عدد المسلمين قليلاً وعدد عدوهم كثيراً.
وأخيراً فإن المرحلة كانت مرحلة دعوة إلى الله وهي محققة دون قتال، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته على الناس في كل مكان [انظر في ظلال القرآن (5/513-514)]إهـ.
والخلاصة: أن الفترة المكية كانت مرحلة دعوة وابتلاء وصبر وكان جزء منها مرحلة إعداد لإقامة الدولة الإسلامية، ويبدأ هذا الجزء من بدء إسلام أول فوج من الأنصار في منى، أما القتال فكان في ذلك الوقت محرماً لما سبق ولغيره مما لا يعلمه إلا الله، وفي أول نزول الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة باشر تأسيس قيام الدولة وقد مضى الكلام على ذلك كله مفضلاً.
وبعد أن قامت الدولة الإسلامية أذن الله للمسلمين المظلومين بأن يُقاتلوا الكافرين الظالمين، الذين أخرجوهم بغير حق سوى أنهم يقولون: (ربنا الله)، ووعدهم سبحانه في الآية بنصره فقال: (أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير) [الحج: 39].
وكون هذا الإذن وقع في المدينة بعد الهجرة هو الصواب، لا كما قال ابن هشام من أن الإذن وقع في مكة، وبعده أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة [انظر السيرة النبوية (2/79-80)].
وقد ردّ هذا الرأي شمسُ الدين ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد فقال: (فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيده الله بنصره وبعباده المؤمنين وألّف بين قلوبهم، بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعه أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم من أنفسهم، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرضه عليهم فقال تعالى: (أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) [الحج: 39]. وقالت طائفة: (إن هذا الإذن كان بمكة والسورة مكية. وهذا غلط لوجوه: أحدها أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال، ولا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة.
الثاني: أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة وإخراجهم من ديارهم فإنه قال: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) [الحج: 40] وهؤلاء هم المهاجرون.
الثالث: قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) [الحج:19]، نزلت في الذين تبارزوا في يوم بدر من الفريقين.
الرابع: أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) والخطاب بذلك كله مدني، فأما الخطاب بـ (يا أيها الناس) فمشترك.
الخامس: أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعمّ الجهاد باليد وغيره ولا ريب في أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة. فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به) أي بالقرآن (جهاداً كبيراً …) [الفرقان: 52].
السادس: إن الحاكم روى في مستدركه من حديث الأعمش … عن ابن عباس قال: (لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن فأنزل الله عزّ وجلّ: (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) وهي أول آية نزلت في القتال) وإسناده على شرط الصحيحين [زاد المعاد (2/65)].
فهذه المرحلة هي مرحلة إباحة الله للمؤمنين بأن يقاتلوا عدوهم لظلمهم إياهم.(4/395)
( 62 )
فرض القتال على المسلمين
كانت المرحلة الأولى من مراحل القتال – الذي هو جزء من الجهاد في سبيل الله – هي الإذن والإباحة، كما مضى.
أما المرحلة الثانية، فهي فرض القتال على المسلمين، كما قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثَقِفْتُموهم، وأخرجوهم من حيثُ أخرجوكم، والفتنة أشدُّ من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاءُ الكافرين، فإن انتهَوا فإن الله غفورٌ رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكونَ الدين كله لله، فإن انتهَوا فلا عدوان إلا على الظالمين. الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرماتُ قِصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) [البقرة: 190-194].
وللعلماء في هذه المرحلة رأيان:
الرأي الأول: أن الله تعالى فرض على المسلمين أن يقاتلوا أعداءهم الكفار إذا بدأ هؤلاء بقتال المسلمين فقط، مستدلين بأدلة من نفس هذه الآيات.
أولاً: قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) أي الذين يبدءونكم بالقتال.
ثانياً: قوله تعالى: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) والمراد بالاعتداء المنهي عنه على هذا الرأي أن يبدأ المسلمون بقتال الكافرين الذين لم يقاتلوهم.
ثالثاً: قوله تعالى: (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) أي إذا انتهى الكافرون من قتال المؤمنين.
رابعاً: قوله تعالى: (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)
وفي الجملة فالآيات تدل بظاهرها على وجوب رد العدوان الذي يبدأ به الكافرون على المؤمنين
وعلى هذا فقد كان القتال فرضاً على المسلمين في حالة بدء الكفار بقتالهم، ومحظوراً عليهم بالنسبة لمن سالمهم ولم يقاتلهم.
ويبني أهل هذا الرأي عليه أن هذه المرحلة – التي كان محظوراً فيها قتال من لم يبدأ المسلمين بالقتال – نُسخت بالآيات التي نزلت بعد ذلك، وهي صريحة في الأمر بقتال الكفار حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون، كما في سورة التوبة، وعلى هذا الرأي الربيع وابن زيد وابن القيم، فتكون مراحل القتال عندهم أربعاً:
الأولى: حظره على المسلمين عندما كانوا في مكة.
الثانية: إباحته لهم في أول الأمر بالمدينة.
الثالثة: فرض عليهم بالنسبة لمن بدأهم بالقتال.
الرابعة: فرضه عليهم مطلقاً وهي المرحلة الأخيرة.
الرأي الثاني: أن فرض القتال كان عاماً في قتال الكفار، من بدأ منهم بالقتال ومن لم يبدأ، فكل من كان في حالة من يقاتل المسلمين يجب قتاله، لأن الأصل فيهم عدم المسالمة، بل المقاتلة والفتنة، ولا يقفون عن هذا الأصل إلا إذا عجزوا، وذلك لا يقتضي كف المسلمين عنهم حتى يعدوا العدّة وتقوى شوكتهم على المسلمين.
والدليل على عدم مسالمتهم قوله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا) [البقرة: 217].
ويفسر أهل هذا الرأي الاعتداء المنهي عنه، بتجاوز المسلمين القادرين على القتال من الكفار إلى غيرهم ممن لا يقاتلون ولا يعينون على القتال، كالنساء والصبيان والشيوخ والرهبان الذين انقطعوا للعبادة، فإن قتال هؤلاء لا يجوز كما ورد النهي عنه في نصوص أخرى ستأتي في مكانها. ويفسرون الانتهاء في قوله: (فإن انتهَوا فإن الله غفور رحيم) وقوله: (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) بترك الكفر والدخول في الإسلام، أو إعطاء الجزية والكفّ عن محاربة الله ورسوله.
وعلى هذا الرأي لا يوجد نسخ، وإنما زيد حكم الجزية الذي لم تتعرض له سورة البقرة، في سورة التوبة.
وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وعمر بن عبد العزيز، واختاره ابن جرير الطبري وابن كثير في تفسيريهما.
وتكون مراحل القتال ثلاثاً فقط:
الأولى: الحظر عندما كان المسلمون في مكة.
الثانية: الإباحة في أول الأمر بالمدينة.
الثالثة: فرضه مطلقاً [راجع هذه الأقوال في: جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري (2/189-200) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/237-260) وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/226)، وفي ظلال القرآن لسيد قطب (2/187) وزاد المعاد لابن القيم (2/65). الآية من سورة البقرة: 192]
والظاهر أنّ هذا هو أرجح الأقوال، لأن الاعتداء المنهي عنه في الآيات، فسّر بنصوص السنة التي نهت عن قتال النساء والصبيان والشيوخ والرهبان.
والكفار الذين ليسوا من هذه الأصناف، هم في حالة من يقاتل المسلمين ولا يكفّون عن ذلك إلا لعجز، وعجزهم لا يسوغ كفّ المسلمين عنهم حتى يستعدوا لقتالهم، بل يجب مبادرتهم لإعلاء كلمة الله وخضد شوكة أعدائه.
( 63 )(4/396)
وتتضمن آيات سورة التوبة هذه المرحلة الأخيرة من مراحل الجهاد وتوضحها أكمل توضيح، قال تعالى: (براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غيرُ مُعْجزي الله وأن الله مُخْزي الكافرين. وأذانٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريءٌ من المشركين ورسولُه، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غيرُ مُعْجزي الله، وبشِّر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخُذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إن الله غفور رحيم. وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجِرْه حتى يسمعَ كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يؤمنون. كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) [التوبة:1-7].
وأضيفت الجزية في قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله، ولا يَدينون دينَ الحقِّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) [التوبة: 29].
فأصبح المسلمون مكلَّفين أن يقاتلوا كفّار أهل الأرض حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية – على خلاف في أخذها من الوثنيين.
وقد لخّص ابن القيم رحمه الله مراحل الجهاد – بمعناه العام – من حين بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن لقي ربه، فقال: (أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: (يا أيها المدّثر قم فأنذر) فنبّأه بقوله: (اقرأ) وأرسله بقوله: (يا أيها المدثر) ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حوله من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح.
ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره الله أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.
ثم بين رحمه الله أقسام الكفار بعد الأمر بالجهاد وأحكامهم في الإسلام بعد توضيح آخر مرحلة من مراحل الجهاد، فقال: (ثم كان الكفار معه بعد الجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم وأن يوفى لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهودهم، ولما نزلت سورة براءة نزلت بيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمر فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوه الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليه – إلى أن قال: - فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول سورة براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين وأهل ذمة، فصار أهل الأرض معه ثلاث أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب) [زاد المعاد (2/90-92)].
ففرض المسلمين إذاً أن يجاهدوا حتى يحققوا هذه المرحلة من مراحل الجهاد في سبيل الله، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتثالاً لأوامر الله ولا يجوز لهم الوقوف عند المراحل السابقة عليها.
قال سيد قطب رحمه الله: (والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام بأمر من الله، لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها، ولقد انتهت هذه المرحلة كما يقول الإمام ابن القيم: (فاستقر أمر الكفار معه …) [في ظلال القرآن (9/1446) ويراجع أيضاً (10/1581) من نفس الكتاب ] إلى آخر الفقرة التي سبق ذكرها في كلام ابن القيم رحمه الله.
(64)
الفرع الثالث : حكم المراحل الجهادية
بدأت الدعوة بعد البعثة النبوية سراً، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالجهر بها فبلغ ما أمره به ربه، وأمر خلال ذلك بالصبر على الأذى والصفح والكفّ عن القتال، إلى أن هاجر هو وأصحابه إلى المدينة، ثم أذن لهم في قتال الظالمين، ثم فرض عليهم قتالهم – إذا بدأوا بالقتال، أو مطلقاً كما مضى – وكانت أخر مراحل الجهاد – بمعناه الخاص – قتال الكفار كافة، ونبذ عهودهم إليهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون – على خلاف في غير أهل الكتاب – فما حكم هذه المراحل الجهادية التي مرّت بها الدعوة الإسلامية؟
عندما يمر القارئ بنصوص القرآن المتضمنة للمراحل المذكورة يجد أن كثيراً من المفسرين والمؤرخين، وغيرهم من العلماء ينصون على نسخ المراحل كلها بنصوص المرحلة الأخيرة التي يطلقون عليها آية السيف.(4/397)
ومعنى هذا أنه يجب على المسلمين أن يقاتلوا كفار الأرض كلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون، لأن هذه هي المرحلة الأخيرة وقد نسخت ما قبلها من المراحل، والمنسوخ لا يجوز العمل به.
ولكن رجح كثير من المحققين عدم النسخ لأي مرحلة من المراحل الجهادية وهو الظاهر [راجع جامع البيان للطبري (10//34) والجامع لأحكام القرآن (8/39)، (20/37) وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/322)].
وعلى ذلك فإن للمسلمين أن يعملوا بحكم أي مرحلة منها، إذا كانت ظروفهم فيها مشابهة للظروف التي نزلت فيها آياتها، والقول بغير هذا يؤدي إلى مواجهة الواقع بما لا يكافئه، وبالتكليف بما هو فوق الطاقة.
فالمسلمون القادرون على الدعوة سراً فقط، لا يجوز تكليفهم الجهر بها كما هو الحال في الدول الشيوعية، وغيرها من الدول الكافرة التي لا تأذن بالدعوة إلى الله، بل تنزل العقاب على من يتصدى لذلك.
وإذا كانت بعض الدول تأذن بتبليغ بعض أمور الإسلام، كالعبادات الظاهرة، مثل الصلاة والصيام والحج، وتحظر غيرها، كالزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الجهاد، وعدم موالاة الكافرين وتحكيم شرع الله، فيجب على الدعاة إلى الله أن يدعوا جهراً إلى الأمور المأذون فيها، ويدعوا إلى غيرها سراً.
فإذا آذاهم أعداء الله وامتحنوهم بسبب دينهم، فإن كانوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم بدون إلحاق الضرر القاضي عليهم وعلى أهليهم، فعليهم أن يدافعوا، وإذا لم يكونوا قادرين، لقلة عددهم وسيطرة عدوهم على أجهزة الدولة، فعليهم أن يصبروا حتى يحكم الله بينهم وبين عدوهم.
فإذا أصبحوا قادرين على قتال الكافرين وإخضاعهم لكلمة الله تعالى، بأن قامت لهم دولة أو ما يشبهها فيجب أن يبدءوا أعداء الله بالقتال وهكذا … كل مرحلة يحتاج المسلمون إلى تطبيقها جاز لهم ذلك. ولكن يجب عليهم السعي المتواصل لتطبيق المرحلة الأخيرة.
قال سيد قطب رحمه الله: (ولكنا فقط نبادر فنقول: إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة، بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة، ذلك لأن الحركة في الواقع الذي تواجه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد، عن طريق الاجتهاد المطلق، أي الأحكام هو الأنسب للأخذ به في ظرف من الظروف … مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يُصار إليها، متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام، كما كان حالها عند نزول سورة التوبة وما بعدها، ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية سواء في معاملة المشركين أو أهل الكتاب …) [في ظلال القرآن (10/1580)].
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
==============
فِقْهُ الْجِهَاد
لفضيلة الشيخ
د. ياسر برهامي
الدعوة السلفية
Omar_rahal2005@yahoo.com
Omar_rahal84@hotmail.com
تحتل قضية الجهاد في سبيل الله أهمية قصوى في حياة المسلمين ، فقد أعز الله به المسلمين الأوائل وقامت عليه فتوحاتهم الكبرى التي نشر الله بها دينه في مشارق الأرض ومغاربها كما بشر بذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم وخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، وبقيت دولة الإسلام قاهرة لعدوها غالبة لقوى الشر في العالم ما تمسكت به وأقامته ، وما أن تركته الأمة إلا تسلط عليها عدوها وأذلها وأخذ بعض ما في أيديها إلا انه بحمد الله وفضله لم ينقطع ، ولا ينقطع إلى يوم القيامة مصداقاً لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " لا تزال عصابة المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة". رواه البخاري ومسلم واللفظ له .
وكذلك تحتل قضية الجهاد أهمية كبرى في فكر الصحوة الإسلامية المعاصرة وعملها ، وتصور الجماعات الإسلامية العاملة على الساحة لهذه القضية وتطبيقها في الواقع مما يسبب كثيراً من الاختلاف والافتراق بين مرجح لبعض الصور ومانع لها ، ولاشك أنه يلزم المسلم أن يكون على علم وبينة من أمره في هذا الباب الخطير حتى لا يكون تاركاً لما أوجبه الله عليه ضناً بدنياه وإيثاراً لملذاته على أمر آخرته فيقع في النفاق وهو لا يشعر ، وكذلك حتى لا يكون سالكاً سبيل الغواية من حيث أراد الهداية مُقْدِماً على ما يضر نفسه وأمته ودعوته من حيث أراد نفعها .
ومن هنا كان تناولنا لموضوع الجهاد في سبيل الله لبيان موقف الدعوة السلفية لأبنائها وغيرهم ممن قد يكون لم يطَّلع أو يسمع منا وإنما يسمع عنا وما أكثر ما يُسمع في هذا المجال مما يزيد التنافر والتباغض وسوء الفهم والظن ونسأل الله تعالي أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يجعلنا من المجاهدين في سبيله فهو أعلم بمن يجاهد في سبيله وهو مولانا نعم المولى ونعم النصير.
كتبه:
ياسر بن حسين بن برهامي
عفا الله عنه ، وعن المسلمين أجمعين
فضائل الجهاد والمجاهدين ، وفضل الشهادة(4/398)
قال الله تعالى: ) لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا( ]النساء:95[ ، وقال الله تعالى:) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ]التوبة: 19-20[ . روى مسلم في صحيحهِ عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلي الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم ما أبالى أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج ، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام ، وقال الآخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب t وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة،ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله تعالي:) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ( ]التوبة:19[ (مسلم بشرح النووي 6/86) ، وقال تعالى: ) إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ( ]التوبة:111[ ، وقال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ]الصف: 9-10[ ، وقال تعالى: )وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ]آل عمران: 169-170[.
وعن أبى هريرة t قال:" سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم أي العمل أفضل ؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا ؟ قال: الجهاد في سبيل الله ، قيل: ثم ماذا ؟ قال: حج مبرور " [متفق عليه] ، وعن أنس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها " [متفق عليه].
وعن عثمانt قال : " سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل " [رواه الترمذي وقال حسن صحيح].
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:" من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة " [رواه الترمذي وحسنه] ، والفواق ما بين الحلبتين ، وعنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:" تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيماناً وتصديقاً برسلي فهو ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كلم (أي جرح) يُكْلَم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئة يوم كٌلِمَ ،لونه لون الدم وريحه ريح المسك ،والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزوا في سبيل الله أبداً ، ولكن لا أجد سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عنى ، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل " [رواه مسلم وروى البخاري بعضه].
وعن زيد بن خالد أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:" من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا " [متفق عليه] ، وعن أبي هريرة t قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:" ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة " [رواه الترمذي وقال حسن صحيح] .
والأحاديث في فضل الجهاد والشهادة أكثر من أن تحصى .
قال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل وذكر له أمر العدو فجعل يبكي ويقول ما من أعمال البر أفضل منه ، وقال لا نعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من السبيل .
%%%
حب الجهاد فرض وكراهيته نفاق(4/399)
قال تعالى: )وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ( ]التوبة:92[ ، وقال تعالي: )قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ( ]التوبة:24[ . وقال تعالي: )فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ( ]التوبة:81[ .
وعن سهل بن حنيف أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:" من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " [رواه مسلم] .
وعن أبي أمامه t:" من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة " [رواه أبو داود بإسناد صحيح] ، وفى الرواية الأخرى " مات على شعبة من النفاق " [رواه مسلم] .
%%%
معنى الجهاد وأنواعه
قال بن حجر في الفتح (6/1): الجهاد شرعاً بذل الجهد في قتال الكفار ، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق .
وقال الكاساني في بدائع الصنائع (7/97): الجهاد في سبيل الله فعبارة عن بذل الجهد وهو الوسع والطاقة ، أو عن المبالغة في العمل من الجهد وفي عرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله تعالي بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك .
روى أبو داود بإسناد صحيح أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم ألسنتكم " .
وروى أحمد وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي:" المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " .
روى أبو داود والترمذي وحسنه عن النبي صلي الله عليه وسلم: " أفضل الجهاد كلمة عدل عند ذي سلطان جائر " [ورواه النسائي بسند صحيح] .
وقد قال تعالى: ) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا] (الفرقان:52[ ، أي بالقرآن .
ومن هنا يتضح أن الجهاد عند إطلاقه يراد به قتال الكفار وقد يراد به مقاومة الشر والسعي في إبطاله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بصوره المختلفة ، فليس محصوراً في القتال .
قال ابن القيم رحمه الله في بيان مراتب الجهاد : فجهاد النفس أربع مراتب:-
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين .
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها .
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله .
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله .
ثم ذكر جهاد الشيطان على مرتبتين في دفع الشبهات ودفع الشهوات .
ثم جهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب بالقلب واللسان والمال والنفس وجهاد المنافقين أخص باللسان ، وجهاد الكفار أخص باليد .
ثم جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب :-
الأولى: باليد إذا قدر .
الثانية: فإن عجز انتقل إلى اللسان .
الثالثة: إن عجز جاهد بقلبه .
قال فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد ، ومن لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق .أهـ.(زاد المعاد 2/39-40)... باختصار.
وتظهر فائدة تعدد أنواع الجهاد ومراتبه وعدم انحصاره في القتال وإن كان القتال هو ذروة السنام لهذا الذين وهو المقصود في إطلاق الآيات والأحاديث في معرفة أولويات العمل الإسلامي ومعرفة سبيل الأنبياء عموماً والنبي صلي الله عليه وسلم خصوصاً في التغيير فإن الكثير من الناس ربما يدفعه تصوره القاصر على مفهوم الجهاد إلى أعمال غير منضبطة بضوابط الشرع ليتخلص من ظنه تضييع الجهاد وقد غاب عنه أن واجب الوقت الذي هو فيه نوع آخر من أنواع الجهاد ، والناظر في سنة الأنبياء الذين أمروا بالقتال يرى بجلاء أن أولويات العمل بدأت أولاً بالدعوة إلى الإيمان بمعانيه الشاملة ثم إيجاد الطائفة المؤمنة القادرة على تحمل مسؤوليات هذا الدين ثم شرع القتال بعد ذلك بل لا يمكن أن يقوم الجهاد بمعنى القتال إلا إذا سبقته هذه المقدمات .(4/400)
قال ابن القيم : " ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله " كما قال النبي صلي الله عليه وسلم:" المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج .أهـ.(زاد المعاد 2/38).
وليس المقصود من هذا تعطيل الجهاد بمعنى القتال إذا تعين بزعم تربية النفس وجهادها أو اشتراط العدالة في المجاهدين حتى يجاب عنه باتفاق العلماء على وجوب القتال على الفسقة والاستعانة بهم إجماعاً كما يقول البعض ، بل المقصود بيان حقيقة كونية وسنة شرعية لا يمكن أن يقوم الجهاد إلا بها وقد سار عليها الأنبياء وأصحابهم فلابد لنا ونحن نحدد للصحوة أولويتها وعملها في واقعنا المعاصر أن نسير على منهجهم ولا يغيب عنا أن جيوش الصحابة والتابعين لم يكن أكثرهم حديثي الإسلام أو من الفساق والمنافقين حاشاهم من ذلك ، بل هم بحمد الله أكمل الأمة إيماناً وأكثرهم علماً وأحسنهم عملاً ، وبهذا نصرهم الله .
قال البخاري في صحيحه : باب عمل صالح قبل القتال .
وقال أبو الدر داء : إنما تقاتلون بأعمالكم .
ولاشك أن حالة الضرورة غير حالة الاختيار ، وحالة إحياء الأمة من رقدتها الطويلة وبعثها من تحت سلطان عدوها غير حالة الدفع عن الأمة القائمة إذا نزل بها عدوها إذ لا يستجيب لداعي الجهاد ، بل لكل دواعي طاعة الله في حالة الرقاد إلا من استجاب للإيمان والالتزام أصلاً ، ولا يقوم الحق ومنه الجهاد إلا بقيام الطائفة المؤمنة أولاً فإذا قلنا للناس الآن أن أولى الأولويات في الوقت الحاضر هو إعداد العدة العسكرية (ونحن لانشك في وجوبها مع القدرة) ولكننا نعلم مقدار قوة المؤمنين المتواضعة على ذلك ونعلم كذلك بُعد شباب الأمة ورجالها عن الالتزام بدينهم أصلاً ونعلم ما يترتب على ذلك من أمور ربما تودي بالدعوة من أصلها مع أن الإعداد المادي ربما لا يستغرق إلا أسابيع أو شهور إذا استجاب المرء لداعي الإيمان والالتزام إذا قلنا هذه هي أولى الفرائض وأوجب الواجبات وأن من لا يقوم به خائن لأمته ودينه كان ذلك خلطاً في الموازين ، وقلباً لسنن الأنبياء الشرعية ومخالفة لسنن الله الكونية .
وإن كان لابد لنا أن نستحضر من هذا المقام تربية المسلمين على روح البذل والجهاد بصوره ومراتبه المختلفة ، وتعريفهم بحقيقة صراعهم مع الباطل وحب الجهاد في سبيل الله والشوق إليه فإن ذلك من لوازم الإيمان كما سبق بيانه .
%%%
مراحل تشريع الجهاد ووجوبه
قال ابن القيم -رحمه الله-: فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله تعالي ، أول ما أوحى إليه ربه I أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه ) يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ( ]المدثر:1-2[ ، فنبأه قومه ثم أنذر من حولهم من العرب ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين .
فأقام بضعة عشر سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة ، فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفى لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد وأمر أن يقاتل من نقض عهده ، ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام :-
قسماً: أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له فحاربهم وظهر عليهم. وقسماً: لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
وقسماً: لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم إلى أن قال فقاتل الناقض لعهده وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر وأمره أن يتم للموفى بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة ، ثم آل حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة .
والمحاربون له خائفون منه فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ، وخائف محارب .أهـ. (باختصار من الزاد 81/82) .(4/401)
يظهر من هذا التلخيص لمراحل تشريع الجهاد أنه مر بمراحل :-
أولها: مرحلة الكف والإعراض والصفح حيث كان القتال محرماً قال تعالى :) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً( ]النساء:77[.
روى ابن جرير والنسائي في سننهِ عن ابن عباس t أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلي الله عليه وسلم:" فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة ، فقال إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا " .
فلما حوله الله إلى المدينة أمر بالقتال فكفوا فأنزل الله تعالى: ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ ( ]النساء:77 [.
وقال ابن القيم - رحمه الله - عن هذه المرحلة: والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة واشتد الجناح فأذن لهم بالقتال ولم يفرضه عليهم فقال :) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ( ]الحج:39[ .أهـ .
وهذه هي المرحلة الثانية: مرحلة الإذن بالقتال .
ثم المرحلة الثالثة: وهى الأمر بالقتال لمن قاتلهم دون من يقاتل: وذلك بقوله تعالى:)وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( ]البقرة:190[ .
ثم المرحلة الرابعة: فرض عليهم قتال المشركين كافة ، بقوله تعالى: ) وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ( ]التوبة:36[ ، وقوله : ) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ( ]التوبة:5[ ، وقوله: ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ]التوبة:29[ ، وقوله تعالى: )وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ ( ]الأنفال:39[.
وعن ابن عباس وأبى العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم يعنى حتى لا يكون شرك .
وقال النبي صلي الله عليه وسلم:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله " [متفق عليه] . وهذه المرحلة الأخيرة هي التي استقر عليها الأمر في معاملة المسلمين للكفار من جميع الأجناس ، أهل الكتاب وغيرهم . وقال أكثر السلف بنسخ آيات الموادعة والصفح والعفو ، ولا يختلف العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم على أنه يلزم المسلمين عند القدرة ابتداء الكفار بالقتال ولو لم يقاتلوا المسلمين ، وهذا جهاد الطلب مع لوازم جهاد الدفع بالإجماع.
%%%
جهاد الدفع وجهاد الطلب
قال النووي -رحمه الله- في المنهاج : كان الجهاد على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم فرض كفاية وقيل عين ، وأما بعده فللكفار حالان :-
أحدهما: يكونون ببلادهم ففرض كفاية إذا فعله من فيهم كفاية سقط الحرج عن الباقين ، قال ولا جهاد على صبى ومجنون وامرأة ومريض وذي عرج بيّن وأقطع وأشل وعبد وعادم أهبة قتال وكل عذر يمنع من وجوب الحج منع الجهاد إلا خوف طريق من كفار وكذا من لصوص المسلمين على الصحيح والدَيْنُ الحال يحرم سفر جهاد وغيره إلا بإذن غريمه والمؤجل لا وقيل يمنع سفراً مخوفاً ويحرم جهاد إلا بإذن أبويه إن كانا مسلمين لا سفر تعلم فرض عين وكذا كفاية في الأصح فإن أذن أبواه والغريم ثم رجعوا وجب الرجوع إن لم يحضر الصف فإن شرع في قتال حرم الانصراف في الأظهر .
الثاني : يدخلون بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن فإن أمكن تأهب لقتال وجب الممكن حتى على فقير وولد ومدين وعبد بلا إذن وقيل إن حصلت مقاومة بأحرار اشترط إذن سيده ، وإلا فمن قصد دفع عن نفسه بالممكن إن علم أنه إن أخذ قتل وإن جوز الأسر فله أن يستسلم ومن هو دون مسافة قصر من البلدة كأهلها ومن على المسافة يلزمهم الموافقة بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها ومن يليهم ، قيل وإن كفوا ولو أسروا مسلماً فالأصح وجوب النهوض إليهم لخلاصه إن توقعناه .(4/402)
قال الشربيني في الشرح : الحال الثاني من حالي الكفار يدخلون بلدة لنا أو ينزلون على جزائر أو جبل في دار إسلام ولو بعيداً من البلد فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم ويكن الجهاد حينئذ فرض عين وقيل كفاية واعتمده البلقيني وقال أن نص الشافعي يشهد له فإن أمكن أهلها تأهب استعداد لقتال وجب على كل منهم الممكن أي الدفع للكفار بحسب القدرة حتى على فقير بما يقدر عليه وولد ومدين وعبد ولا إذن من أبوين ورب ودين ومن سيد . وفي معنى دخولهم البلدة ما لو أطلوا عليها والنساء كالعبيد إن كان فيهن دفاع وإلا فلا يحضرن ( و إلا ) بأن لا يمكن أهل البلدة التأهب لقتال بأن هجم الكفار عليهم بغتة فمن قصد من المكلفين ولو عبداً أو امرأة أو مريضاً دفع عن نفسه الكفار بالممكن له إن علم أنه إن أخذ قتل وإن جوز الأسر والقتل فله أن يدفع عن نفسه وله أن يستسلم لقتل الكفار إن كان رجلاً لأن المكافحة حينئذ استعجال للقتل والأسر يحتمل الخلاص هذا إن علم أنه متى امتنع من الاستسلام قتل وإلا امتنع عليه الإستسلام ، وأما المرأة فإن علمت امتداد الأيدي إليها بالفاحشة فعليها الدفع وإن قتلت لأن الفاحشة لا تباح عند خوف القتل وإن لم تمتد إليها الأيدي بالفاحشة الآن ولكن توقعتها بعد السبي احمتل جواز استسلامها ثم تدفع إذا أريد منها (1) قال : والذين هم على مسافة القصر فأكثر يلزمهم في الأصح إن وجدوا زاداً ومركوباً الموافقة بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها ومن يليهم دفعاً عنهم وإنقاذاً لهم .
تنبيه : أشار بقوله بقدر الكفاية إلى أنه لا يجب على الجميع الخروج بل إذا صار إليهم قوم فيهم كفاية سقط الخروج عن الباقين .أهـ . (مغنى المحتاج 4/308 :220) .
%%%
تنبيه :
(1) فرض الكفاية إذا لم يقم به أهله وتركه الجميع أثم كل من لا عذر له من الأعذار السابق بيانها من الصبيان والنساء والمرضى وغيرهم . ذكره النووي في روضة الطالبين .
(2) دليل أن جهاد الطلب فرض كفاية فعل الخلفاء الراشدين وحكى القاضي عبد الوهاب فيه الإجماع ولو فرض على الأعيان لتعطل المعاش . أفاده الشربينى في مغنى المحتاج.
قال القرطبي: إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار أو بحلوله بالعقر فإذا وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً ، شباناً وشيوخاً ، كل على قدر طاقته من كان له أب بغير إذنه ومن لا أب له ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلها لزمهم أيضاً الخروج إليه حتى يظهر دين الله وتحمى البيضة وتحفظ الحوزة ويخزى العدو ولا خلاف في ذلك .
وقسم ثان من واجب الجهاد فرض أيضاً على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطو الجزية عن يد ، ومن الجهاد ما هو نافلة وهو إخراج الإمام طائفة بعد طائفة وبعث السرايا في أوقات الغرة وعند إمكان الفرصة والإرصاد لهم بالرباط في موضع الخوف وإظهار القوة فإن قيل كيف يصنع الواحد إذا قصر الجميع قيل له يعمد إلى أسير واحد فيفديه فإنه إذا فدى الواحد فقد أدى فى الواحد أكثر مما كان يلزمه في الجماعة فإن الأغنياء لو اقتسموا فداء الأسرى ما أدى كل واحد منهم إلا أقل من درهم ويغزو بنفسه إن قدر وإلا جهز غازياً
قال صلي الله عليه وسلم " من جهز غازياً فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا " أخرجه الصحيح وذلك لأن مكانه لا يغنى وماله لا يكفى .أهـ.(تفسير القرطبي 4/2990-2991).
قال الكاساني في بدائع الصنائع (10/98): بيان كيفية فرض الجهاد فالأمر فيه لا يخلو من أحد وجهين إما إن كان النفير عاماً وإما إن لم يكن فإن لم يكن النفير عاماً فهو فرض كفاية ومعناه أن يفترض على جميع من هو من أهل الجهاد لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين لقوله تعالى:
) فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى ( ]النساء:95[ ، ولو كان الجهاد فرض عين في الأحوال كلها لما وعد الله القاعدين الحسنى لأن القعود يكون حراماً ، وقوله I: ) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ ( ]التوبة:122[.(4/403)
ولأن ما فرض له الجهاد وهو الدعوة إلى الإسلام وإعلاء الدين الحق ودفع شر الكفرة وقهرهم يحصل بقيام البعض به وكذا النبي صلي الله عليه وسلم " كان يبعث السرايا " ولو كان فرض عين في الأحوال كلها لكان لا يتوهم منه القعود عنه بحال ولا أذن لغيره بالتخلف عنه بحال قال : ولا يباح للعبد أن يخرج بغير إذن مولاه ولا المرأة بغير إذن زوجها ، وكذا الولد لا يخرج إلا بإذن والديه أو أحدهما إذا كان الآخر ميتاً لأن بر الوالدين فرض عين فكان مقدماً على فرض الكفاية ، هذا إذا لم يكن النفير عاماً فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلدة فهو فرض عين يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن هو قادر عليه لقوله I:) انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً ( ]التوبة:41[ ، قيل نزلت فى النفير ، وقوله I :) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ ( ]التوبة:120[ .
فيخرج العبد بغير إذن مولاه والمرأة بغير إذن زوجها وكذا يباح للولد أن يخرج بغير إذن والديه .أهـ. مختصراً .
قال ابن قدامة في المغنى (8/346-374): عند قول الخرقى : والجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين ، قال ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع :-
أحدها : إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام لقوله تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا ( ]الأنفال:45[ ، وقوله: ) وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ]الأنفال:46[ ، وقوله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ( ]الأنفال:15[.
الثاني : إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم .
الثالث : إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير لقول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ( ]التوبة:38[ ، وقال النبي صلي الله عليه وسلم:" إذا استنفرتم فانفروا " .
* ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط :
الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكروة والسلامة من الضرر ووجود النفقة .أهـ.
تنبيهات وفوائد :-
(1) قال النووي : قال الإمام (يعنى الجويني) : المختار عندي مسلك الأصوليين فإنهم قالوا الجهاد دعوة قهرية فيجب إقامته بحسب الإمكان حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم ، ولا يختص بمرة في السنة ، بل ولا يعطل إذا أمكنت الزيادة وما ذكره الفقهاء حملوه على العادة الغالبة (يعنى قولهم يجب في السنة مرة ، وهو قول الأكثرين) ، الروضة (10/209).
(2) وقال أيضاً لو أسروا مسلماً أو مسلمين فهل هو كدخول دار الإسلام (يعنى في كون الجهاد يصبح فرض عين) وجهان أحدهما لا لأن إزعاج الجنود لواحد بعيد ، وأصحهما نعم لأن حرمته أعظم من حرمة الدار فعلى هذا لابد من رعاية النظر فإن كانوا على قرب من دار الإسلام وتوقعنا استخلاص من أسروه لو طرنا إليهم فعلنا وإن توغلوا فى بلاد الكفر ولايمكن التسارع إليهم وقد لايتأتى خرقها بالجنود واضطررنا إلى الإنتظار كما لو دخل ملك عظيم الشوكة طرف بلاد الإسلام لا يتسارع إليه آحاد الطوائف .
(3) من هذا الكلام الأخير تعرف حكم ما لو تسلط الكفار على بلد من بلاد المسلمين واستقر أمرهم على ذلك فصار من بها من المسلمين في حكم الأسرى فلابد هنا من النظر في توقع استخلاص البلد وأهله من عدم ذلك وذلك لأن مسارعة الآحاد مع شوكة الكفار لا تغنى فلا ينطبق حينئذ كلام الفقهاء على قتال الدفع من خروج المرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن سيده ونحوه إذ ذلك حال نزول الكفار لا حال استقرار شوكتهم فمثلاً لا يشك عاقل أن استخلاص الأندلس الآن من الكفار لا يتأتى بذهاب الآحاد فلا يتصور القول بوجوب الخروج عينياً لذلك ، وهذا حال الضرورة الذي يضطر فيه المسلمون للانتظار رغم سقوط البلاد والعباد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وإن كان مع الانتظار يلزم أخذ أسباب القوة فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (راجع هنا ما ذكرناه أعلاه عن أولويات العمل الإسلامي لإقامة الجهاد وغيره من الواجبات الشرعية ) .
مما سلف من القول يتضح لك جلياً أن الأمر المستقر عند العلماء كافة .(4/404)
هو المرحلة الأخيرة من مراحل الجهاد وهو لزوم البدء بالقتال للكفار (حسب الإمكان أو كل سنة مرة) وهنا هو جهاد الطلب وهو فرض كفاية كما يلزم جهاد الدفع عن المسلمين وبلادهم إذا نزل بها العدو وهذا فرض عين على أهل البلد المقصود ومن حوله على مسافة القصر وفرض كفاية على غيرهم حتى تحصل بهم الكفاية في الدفع ، وأما القول بأن الإسلام لم يعرف إلا الحرب الدفاعية وأن الأصل في معاملة الكفار هو السلم لا القتال قول محدث بدعة ضلالة ابتدعها المنهزمون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع المعاصر وقد خالفوا صريح الأدلة نحو قوله تعالى: ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ( ]الأنفال:39[، وقوله تعالى: ) فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( ]التوبة:5[ ، وقول النبي صلي الله عليه وسلم " اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله " [رواه مسلم] ، وقوله صلي الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس … " الحديث .
وما أحسن ما كتبه الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في مقدمة سورة الأنفال والتوبة من الظلال في الرد على هؤلاء فراجعه (ظلال القرآن 1431-1443 وما بعدها) .
ولقد ظهرت بدع جديدة من إنكار وجوب قتال أهل الكتاب حتى يعطوه الجزية بل وتسمية الجزية ضريبة خدمة عسكرية تسقط إذا شاركونا القتال ، ويسعى هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أصحاب الاتجاه الإسلامي المستنير إلى تعميم هذا المفهوم المنحرف لقضية الجهاد فضلاً عن إنكار جهاد الطلب وهذا خرق للإجماع بل لو أن طائفة استقر أمرها على ذلك لصارت طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب قتالها كما سيأتي بيانه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى التتار باتفاق أئمة المسلمين .
* هل هذه المراحل نسخ أم يُعمل بها عند الحاجة ؟
إذا كان الأمر على ما وصفنا من استقرار الأمر على المرحلة الأخيرة فما حكم المراحل السابقة هل زال حكمها بالكلية أم يعمل بها عند الحاجة. الحق أن أكثر السلف وأهل العلم صرحوا بنسخ آيات الصفح والصبر والكف ونحوها من المسالمة والموادعة ، وأنكر البعض النسخ كالزركشي حيث قال في البرهان (41:21-24) قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب :-
الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والمغفرة للذين لا يرجون لقاء الله تعالي ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد ونحوها ثم نسخه إيجاب ذلك هذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسئ كما قال تعالي : ) أَوْ نُنسِهَا ( ، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون .
وفى حالة الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف .أهـ.
وذكر السيوطي هذا الكلام في الإتقان ولم ينسبه للزركشي (الإتقان :66) والحقيقة أن الخلاف بين الفريقين خلاف لفظي لا حقيقة له إذ مصطلح النسخ عند السلف يشمل التقييد والتخصيص وبيان الإجمال كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الإكليل (116) ، فالجميع تفق على أنه لا يكلف المستضعف الذي يشبه حاله حال رسول الله صلي الله عليه وسلم والمسلمين بمكة ما لا طاقة له به من القتال ، وقد سبق الزركشي غيره من أهل العلم بذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول (صفحة221) فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذى الله ورسوله من الذين أوتو الكتاب والمشركين ، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الذين ، وبآية قتال الذين أوتو الكتاب حتى يعطوه الجزية عن يد وهم صاغرون قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( ]الأنفال:61[ .
وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء والخراساني وعكرمة والحسن وقتادة أن الآية منسوخة بآية السيف في براءة ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ( ]التوبة:29[ ، وفيه نظر لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك فأما إذا كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة وكما فعل النبي صلي الله عليه وسلم يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص ، والله أعلم .
قال القرطبي (2879-2880) قال ابن العربي : قد قال الله تعالى: ) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ ( ]آل عمران:139[ .
فإذا كان المسلمون على عزة ومنعة وجماعة عديدة وشدة شديدة فلا صلح ، وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون إذا احتاجوا إليه وقد صالح رسول الله صلي الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم وقد صالح الضمرى وأكيدر دومة وأهل نجران وقد هادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التى شرعناها سالكة وبالوجوه التي شرحناها عاملة .(4/405)
وقال الشافعي t : لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبي صلي الله عليه وسلم عام الحديبية فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية .
وقال ابن حبيب من المالكية: تجوز مهادنتهم السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة .أهـ.( والمقصود إلى أن يقوى المسلمون فينبذوا إليهم على سواء قبل قتالهم كما بينه ابن القيم في الزاد) .
قال ابن حجر في الفتح (7/198): قال الشافعي: إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين جازت لهم مهادنتهم على غير شيء يعطونهم لأن القتل للمسلمين شهادة ، وإن الإسلام أعز أن يعطى المشركين على أن يكفوا عنهم إلا في حالة مخالفة اصطلام المسلمين لكثرة العدو لأن ذلك من معاني الضرورات وكذلك لو أسر رجل مسلم فلم يطلق إلا بفدية جاز .
قال ابن قدامة في المغني (8/ 459 :461): لا تجوز المهادنة مطلقاً من غير تقدير مدة لأنه يفضى إلى ترك الجهاد بالكلية وقال: وتجوز مهادنتهم على غير مال .
وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي لأن فيه صغاراً على المسلمين وهذا محمول على غير حالة الضرورة فأما إذا دعت إليه الضرورة وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر فيجوز ، ولأن بذل المال إن كان فيه صغار فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبى الذرية الذين يفضى سبيلهم إلى كفرهم .
قال الشيباني في السير الكبير: وإذا خاف المسلمون المشركين فطلبوا موادعتهم فأبى المشركون أن يودعهم حتى يعطيهم المسلمون على ذلك مالاً فلا بأس بذلك عند تحقق الضرورة .أهـ.(92/16).
وبهذه النقول كلها يتضح لك أنه لا خلف بين السلف أن العمل بالمرحل الأخيرة من الجهاد إنما هو حسب الإمكان والقدرة وأما مالا قدرة عليه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وإلا عليهم الأخذ بأسباب القدرة حتى يزول عنهم هذا الاضطرار ، وهكذا يتضح لك أخي الكريم أن إنكار المرحلية بالكلية واعتبارها جنباً وإلزام من يقول بها بأنه يدعو إلى ترك سائر الواجبات التي فرضت بعد المرحلة المكية غلو مخالف لكلام أهل العلم من المذاهب الأربعة وغيرهم ، والله أعلم .
* هل يقتصر معنى الضرر والعجز في الجهاد على المعنى الحسي؟
سبق أن نقلنا كلام أهل العلم عن سقوط وجوب الجهاد عن الأعمى والأعرج والصبيان والنساء والمرضى وعادم الأهبة والنفقة ونحوهم (راجع كلام النووي في المنهاج السابق ذكره)، وذلك لقوله تعالى: ) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ( ] النور:61[
فهل تقتصر صورة الضرر على ذلك كما حاول البعض قصرها على ذلك أم أنه عند غلبة الظن بحصول الأذى الجسيم على طائفة من المسلمين من هزيمة وقتل وسبى وأسر من غير مصلحة راجحة تدخل في هذا المعنى كذلك .
لاشك أن هذه الصورة داخلة في معنى العجز وقد سبق في المسألة السابقة في كلام العلماء على حالة الضرورة واحتمال نوع من الصغار فيها لدفع صغار أعظم منه ، وقد دلت آيات سورة الأنفال على جواز ترك القتال إذا كان العدو يزيد على ضعف المسلمين .
قال تعالى: )الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ( ]الأنفال:66[ .
روى ابن جرير عن ابن عباس t قال: لما نزلت هذه ا لآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ومئة ألفاً فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال: ) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ( ]الأنفال:66[ فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم أن يقاتلوا وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم .
قال الكاساني في بدائع الصنائع (7/98): الغزاة إذا جاءهم جمع من المشركين مالا طاقة لهم به وخافوهم أن يقتلوهم فلا بأس أن ينحازوا إلى بعض أمصار المسلمين أو إلى بعض جيوشهم والحكم في هذا الباب لغالب الرأي ، وأكبر الظن دون العدد فإن غلب على ظن الغزاة أنهم يقاومونهم يلزمهم الثبات وإن كانوا أقل عدداً منهم وإن كان غالب ظنهم أنهم يغلبون فلا بأس أن ينحازوا إلى المسلمين ليستعينوا بهم وإن كانوا أكثر عدداً من الكفرة ، وكذا الواحد من الغزاة ليس معه سلاح مع اثنين منهم معهما سلاح أو مع واحد من الكفرة ومعه سلاح لا بأس أن يولى دبره متحيزاً إلى فئة.
قال النووي في روضة الطالبين:(10/274) قال الجمهور :
إذا التقى الصفان فله حالان :-
أحدهما: أن لا يزيد عدد الكفار على ضعف عدد المسلمين بل كانوا مثلي المسلمين أو أقل فتحرم الهزيمة والانصراف إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة .(4/406)
هذا الذي ذكرناه من تحريم الهزيمة إلا لمتحرف أو متحيز هو في حال القدرة أما من عجز بمرض ونحوه أو لم يبق معه سلاح فله الانصراف بكل حال ويستحب أن يولى متحرفاً أو متحيزاً فإن أمكنه الرمي بالأحجار فهل تقوم مقام السلاح وجهان أصحها تقوم .
ومن مات فرسه وهو لا يقدر على القتال راجلاً فله الانصراف ومن غلب على ظنه أنه إن ثبت قتل هل له الانصراف وجهان الصحيح المنع .
الحالة الثانية : إذا زاد عدد الكفار على مثلي المسلمين جاز الانهزام وهل يجوز انهزام مائة من أبطالنا من مائتين وواحد من ضعفاء الكفار وجهان أصحهما لا لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا وإنما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف ، والثاني نعم لأن اعتبار الأوصاف يعسر ، ويجرى الوجهان في عكسه ، وإن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا ظفروا استحب الثبات ، وإن غلب على ظنهم الهلاك ففي وجوب الفرار وجهان قال الإمام : إن كان في الثبات الهلاك المحض من غير نكاية وجب الفرار قطعاً وإن كان فيه نكاية فوجهان أصحهما يستحب ولا يجب . وذكر ابن جزى الغرناطي المالكي في القواني الفقهية نحواً من هذا (128) – ومما يعضد هذا قول موسى للإسرائيلي: ) إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ( ]القصص:18[.
قال القرطبي: لأنه يشاد كل يوم من لا يقدر عليه . وقال النبي صلي الله عليه وسلم في حديث نزول عيسى بن مريم عن يأجوج ومأجوج " فأوحى الله إلى نبي الله عيسى إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور" .
فالواجب عند العجز عن القتال تحريز عباد الله المؤمنين وحفظهم لا مصادمتهم لعدو يصطلمهم ويهلكهم بغير مصلحة فالجهاد لا يعود على مقصوده وهو إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأهله بالنقض بقتل المسلمين وسبى نسائهم من غير مصلحة للمسلمين .
وأما قول من يقول أنه ليس بعد الكفر مفسدة فهو أعظم المفاسد قلنا نعم هو أعظم المفاسد من جهة النوع أما من جهة الكم فالزيادة عليه بالصد عن سبيل الله وأذية المسلمين مع استمرار الكفر وبقائه أعظم مفسدة وضرراً قال الله تعالى: ) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ( ]النحل:88[ ، فكافر يؤذى المسلمين أشد خطراً من كافر لا يؤذيهم .
* هل وجود الإمام شرط في وجوب القتال ؟
قال ابن قدامة في المغنى: (8/352-353) وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك ، فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع.
قال القاضي: ويؤخر قسمة الإماء حتى يظهر إماماً احتياطاً للفروج.
قال النووي في المنهاج: يكره غزو بغير إذن الإمام أو نائبه .
قال الشربيني في الشرح: استثنى البلقيني من الكراهة صوراً
أحدهما: أن يفوت المقصود بذهابه للاستئذان .
ثانيهما: إذا عطل الإمام الغزو وأقبل وجنوده على أمور الدنيا كما يشاهد .
ثالثهما: إذا غلب على ظنه أنه لو استأذن لم يأذن له ، (مغنى المحتاج 4/220) .
فائدة:
قال ابن قدامة: قال أحمد لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين ، وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه إنما ذلك في نفسه .
ويروى عن النبي صلي الله عليه وسلم:"إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " .أهـ.
قال الجويني في غياث الأمم : (عند كلامه على خلو الزمان عن الإمام) أما من يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم ولكن الأدب يقتضى فيه متابعة أولى الأمر ومراجعة مرموق العصر كعقد الجمع وجر العساكر للجهاد واستيفاد القصاص في النفس والطرف فيتولاه من الناس عند خلو الدهر عن الإمام طوائف من ذوى الخبرة والبأس .
وقال : فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي خبرة وكفاية ودراية فالأمور موكولة إلى العلماء فحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم.أهـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطاباً مطلقاً كقوله تعالى: ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ( ]النور:2 [، وقوله تعالى: )وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ( ]النور4:[ ، وكذلك قوله: ) وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ( ]النور:4[ .
ولكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادراً عليه والعاجزون لا يجب عليهم وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد بل هو نوع من الجهاد ، فقوله تعالى: ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ( ]البقرة:216[.
وقوله تعالى: ) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ( ]البقرة:190[ ، قوله تعالى: ) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ ( ]التوبة:39[.(4/407)
ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين ، والقدرة هي السلطان فلهذا وجب على ذي السلطان ونوابه إقامة الحدود : قال ( والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه فمتى أمكن إقامتها من أمير لم تحتج إلى أينين ، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت ما لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (34/175).
قال ابن حجر في الفتح في شرح حديث غزوة مؤتة : قال الطحاوي: هذا الأصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامة إلى أن يحضر .
وكذا قال الخطابي وعنه البغوي: ومن هنا تعلم من هذه النقول من أئمة العلماء من المذاهب المختلفة أن وجود الخليفة ليس شرطاً في وجود الجهاد لأنه خطاب متوجه للمسلمين أصلاً والواجب على المسلمين أن يرجعوا إلى علمائهم في تقديم رجل منهم يقودهم في الجهاد بنوعيه الدفع والطلب ويلزمهم أن يجتمعوا ولا يفترقوا فإنه لا تحصل مصلحة الجهاد إلا بالاجتماع بل وسائر مصالحهم ولاشك أن من يشترط وجود الخلافة أولاً قبل الجهاد يلزمه أن ما جرى في أفغانستان وما يجرى في البوسنة وأريتيريا والفلبين وكشمير وسائر البلاد التي يقاتل فيها المسلمون أعداءهم يلزم أن كل هذا محرم غير مشروع وما أبطل من أن ينسب لأحد من علماء الإسلام.
وقد روى أبو داود في سننه عن عقبة بن مالك قال: بعث النبي صلي الله عليه وسلم سرية فسلحت رجلاً منهم سيفاً فلما رجع قال: لو رأيت مالا منا رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:" أعجزتم إذا بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضى لأمري " [حسنه الألباني] .
* هل يشترط انفراد المسلمين بأرض ينطلقون منها في الجهاد ؟
ليس في كلام العلماء السابقين فيما اطلعنا عليه نصاً على مثل هذا الشرط ومن هنا اختلف المعاصرون في ذلك فمنهم من قال: لم يقاتل النبي صلي الله عليه وسلم إلا بعد وجود الأرض في المدينة ومنهم من قال: لا دليل على الاشتراط من مجرد الفعل وإنما كان المانع من القتال بمكة عدم القدرة والشوكة كما سبق بيانه، وقد ذكر العلماء شروط وجود الجهاد ولم يذكروا هذا الشرط بل صرحوا في حالة طروء الكفر على الإمام وردته ووجوب الخروج عليه إذا قدرت على ذلك طائفة أن ذلك يتعين عليها وهذا نوع من الجهاد.
قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل ، وقال: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها. فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه وتنصيب إمام عدل إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليها القيام بخلع الكافر ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه فإن تحققوا العجز لم يجب عليهم القيام وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه ، صحيح مسلم (12/299) ولاشك أن الخروج إنما يكون من الأرض التي هم فيها وهى مازالت تحت حكم الكافر. وإن كان المتأمل لتاريخ المسلمين قديماً وحديثاً يرى أن حصول القدرة على القتال مرتبط إرتباطاً وثيقاً بوجود أرض تأوي المسلمين كما حدث في أفغانستان وغيرها ، فلهذا والله أعلم نرى أن اشتراط الأرض إنما هو الأغلب ضمن شرط القدرة وليس شرطاً مستقلاً .
قال النووي في شروط اعتبار الخارجين على الإمام أهل بغى:
الخصلة الثانية : أن يكون لهم شوكة وعدد وشرط جماعة من الأصحاب في الشوكة أن ينفردوا ببلدة أو قرية أو موضع في الصحراء ، والأصح الذي قاله المحققون أنه لا يعتبر ذلك وإنما يعتبر استعصاؤهم وخروجهم عن قبضة الإمام حتى لو تمكنوا من المقاومة وهم محفوفون بجند الإسلام حصلت الشوكة .أهـ.(روضة الطالبين 10/52) .
* أصناف من يقاتلون وأحكام قتالهم ؟
أولاً: الكفار وهم أنواع :
النوع الأول: اليهود والنصارى والمجوس: وهؤلاء يجب قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون لقوله تعالى: ) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ]التوبة29[ صاغرون أي أذلاء . وقال النبي صلي الله عليه وسلم في المجوس " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ، وقد روى البخاري " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر" .
قال ابن قدامة في المغنى (8/362): ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في هذين القسمين يعنى أهل الكتاب والمجوس في قبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم .(4/408)
النوع الثاني: من غير أهل الكتاب والمجوس مثل عبدة الأوثان ومن عبد من استحسن: فهؤلاء لا تقبل منهم الجزية عند الشافعي وأحمد في ظاهر الرواية ، بل لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل ، وعند أبى حنيفة تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب وهو رواية عن أحمد ، وعند مالك تقبل من جميع الكفار (راجع المغنى 8/263 – مختصر خليل 117 وشرحه وحاشية الدسوقي– ورضة الطالبين 10/305 –بدائع الصنائع 8/110-111) .
قال ابن القيم رحمه الله في الزاد (2/80): فلما نزلت آية الجزية أخذها صلي الله عليه وسلم من ثلاث طوائف من المجوس واليهود والنصارى ، ولم يأخذها من عباد الأصنام فقيل لا يجوز أخذها من كافر غير هؤلاء ومن دان بدينهم إقتداء بأخذه وتركه وقيل بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار كعبادة الأصنام من العجم دون العرب
والأول: قول الشافعي -رحمه الله- وأحمد في إحدى روايتيه .
والثاني : قول أبي حنيفة -رحمه الله- وأحمد في الرواية الأخرى وأصحاب القول الثاني يقولون إنما لم يأخذها من مشركي العرب لأنها إنما نزل فرضها بعد أن أسلمت دار العرب ولم يبق فيها مشرك فإنها نزلت بعد فتح مكة ودخول العرب في دين الله أفواجاً فلم يبق بأرض العرب مشرك ولهذا غزا بعد الفتح تبوك وكانوا نصارى ، ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين ومن تأمل السير وأيام الإسلام علم أن الأمر كذلك فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ منه لا لأنهم ليسوا من أهلها ، قالوا وقد أخذها من المجوس وليس بأهل كتاب ولا يصح أنه كان لهم كتاب ورفع وهو حديث لا يثبت مثله ولا يصح سنده ولا فرق بين عباد النار وعباد الأصنام ، بل عباد الأوثان أقرب حالاً من عباد النار وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار أعداء إبراهيم الخليل فإذا أخذت منهم الجزية فأخذها من عباد الأصنام أولى وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم كما ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال " إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث فأيهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ثم أمره أن يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو يقاتلهم " .أهـ.
والذي في صحيح مسلم أنه يدعوهم إلى الإسلام والهجرة أو الإسلام مع البقاء في بلادهم ويكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله ولا يكون لهم في الفيء نصيب إلا أن يقاتلوا مع المسلمين أو الجزية فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم (صحيح مسلم _ شرح النووي) ، فيظهر من هذا أن القول الراجح قبول الجزية من جميع كفار العالم اليوم خاصة أنه لا يوجد الآن مشركو عرب بل من كان منهم كافراً فهو مرتد أو أهل الكتاب.
النوع الثالث: المرتدون: وهؤلاء لا يقرون على الجزية بالإجماع بل لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل ، والخلاف في المرأة المرتدة هل تقتل أم تحبس حتى تسلم أو تسترق ، وقتلها قول الجمهور لقول النبي صلي الله عليه وسلم:" من بدل دينه فاقتلوه "[متفق عليه] قال ابن حجر في الفتح(12/72) وقتل أبو بكر في خلافته امرأة ارتدت والصحابة متوافرون فلم ينكر أحد عليه وقد أخرج ذلك كله ابن المنذر وأخرج الدارقطني أثر أبى بكر من وجه حسن وأخرج مثله مرفوعاً في قتل المرتدة لكن سنده ضعيف وقد وقع في حديث معاذ أن النبي صلي الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له " أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه ، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها " وسنده حسن ، وهو نص في موطن النزاع فيجب المصير إليه .أهـ.
والقول بالاسترقاق منقول عن على t فإنه استرق من سبى بنى خليفة أم ولده محمد المعروف بابن الخليفة قال الخطابي: ثم لم ينقض عهد الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى .
أما المرتد فلا خلاف في وجوب قتله ، والخلاف في استتابته والراجح عند الجمهور وجوبها وعند البعض استحبابها ، وإليه مال البخاري (راجع فتح الباري 12/267 – روضة الطالبين 10/75 - بدائع الصنائع 4/301 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/301 - المغنى 8/125) .
فائدة: قتل المرتد للإمام ويعزر من قتله بغير إذن لافتئاته على الإمام ولا ضمان عليه ولا كفارة هذا ما لم يقاتل فإذا قاتل قتله كل من قدر عليه ( أفاده في مغنى المحتاج 4/140).(4/409)
هذه الأنواع الثلاثة يلزم قتالهم باتفاق العلماء ، وأما الواحد المقدور عليه من الطوائف الثلاثة فقد بينا حكم المرتد والمرتدة ، وأما الكفار الأصليون فالرجال الأحرار البالغون يخير فيهم الإمام أو أمير الجيش تخيير مصلحة ويفعل الأحظ لأهل الإسلام من قتل أو من فداء بأسرى مسلمين أو مال أو استرقاق فإن خفي الأحظ حبسهم حتى يظهر وقيل لا يسترق وثنى وكذا عربي وهذا مرجوح ولو أسلم أسير عصم دمه وبقى الخيار في الباقي أفاده النووي في الروضة . وهذا في المقاتلين أما الرهبان والأجراء والشيوخ والعميان والزمني الذين لا يقاتلون ولا رأى لهم فقولان للعلماء : الجمهور على عدم جواز قتلهم وهو قول مالك وأحمد وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه ، وقال في الآخر يجوز قتلهم (راجع المغنى 8/477- مغنى المحتاج 4/223- بدائع الصنائع 7/103) فأما إذا كان لهم رأى أو قاتلوا جاز قتلهم باتفاق العلماء أما النساء والصبيان فلا يقتلون لحديث ابن عمر y " أن النبي صلي الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان " [متفق عليه] .
والعبيد كالنساء والصبيان عن الجمهور . ومن قاتل من هؤلاء جميعاً قتل بلا خلاف (المغنى 8/475-478) ، ويصبح النساء والصبيان والعبيد رقيقاً بمجرد الأسر (المنهاج للنووي بشرح مغنى المحتاج 4/227-المغنى 8/379).
قال النووي: ويجوز حصار الكفار في البلاد والقلاع وإرسال الماء عليهم ورميهم بنار ومنجنيق وتبييتهم في غفلة فإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر جاز ذلك على المذهب ول التحم حرب فتترسوا بنساء وصبيان جاز رميهم وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم وإن تترسوا بمسلمين فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم وإلا جاز رميهم في الأصح ، وذكر ابن قدامة في المغنى نحو ذلك (8/448-454).
فإن سأل الساري تخليتهم على إطاء الجزية فقد قال ابن قدامة: لم يجز ذلك في نسائهم وذراريهم لأنهم صاروا غنيمة كالسبي ، وأما الرجال فيجوز ذلك فيهم ولا يزال التخيير الثابت فيهم ، وقال أصحاب الشافعي: يحرم قتلهم كما لو أسلموا ولنا أنه بدل لا تلزم الإجابة إليه فلم يحرم قتلهم كبدل عبدة الأوثان (8/375) ورجح في مغنى المحتاج عدم الوجوب وبقاء التخيير.
تناولنا في الفصل السابق أصناف من يقاتلون من الكفار وصفة قتالهم ، ونتناول في هذا الفصل بيان أصناف من يقاتلون من المنتسبين للإسلام ، ولاشك في خطورة هذه المسألة ، فإن أمر الدماء وحرمتها من أعظم الأمور كما قال النبي صلي الله عليه وسلم : " لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً " [رواه البخاري] .
وغلظ النبي صلي الله عليه وسلم على أسامة قتله الرجل بعد نطق الشهادة فقال صلي الله عليه وسلم : " أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ، فكيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة " متفق عليه .
وفى الصحيح قول النبي صلي الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " ، فوجب على المسلمين أن يحترزوا أعظم التحرز قبل أن يقدموا على قتال أو قتل من ثبت له حكم الإسلام إلا ببينة أوضح من شمس النهار ، وفى نفس الوقت يلزما إن يقاتلوا من أمر الشرع بقتاله حفظاً لرأسمال الإسلام حتى قال ابن هبيرة فيما نقله .
ابن حجر في الفتح (12/301) : (( إن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين والحكمة فيه أن قتالهم حفظ لرأسمال الإسلام ، وفى قتال أهل الشرك طلب الربح وحفظ رأس المال أولى)) ، ومقصوده قتال المشركين قتال الطلب الذي هو فرض كفاية ، أما الدفع فهو حفظ لرأسمال الإسلام أيضاً ، بل هو أعظم بلا شك إذ في تركه تبديل الملة وفى ترك قتال من لزم قتاله من المسلمين تأويلها إلا أن القتال على التأويل الفاسد المذموم يمنع الانحراف المهلك الذي سار في طريقة اليهود والنصارى حتى صاروا إلى الكفر .
%%%
أصناف من يقاتلون من المنتسبين إلى الإسلام
وردت أدلة الكتاب والسنة والإجماع بالأمر بقتال عدة طوائف من أهل القبلة ، وهم أهل البغي وقطاع الطرق ومن أبى قبول الفرائض والتزامها وامتنع عن شريعة من شرائع الإسلام ، وإن لم يخرج عن الدين كمانعي الزكاة .
* الطائفة الأولى : البغاة :
الأصل في قتالهم قوله I: ) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين ، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ( ]الحجرات9-10[.
قال ابن قدامة في المغنى (8/104): وفى هذه الآية خمس فوائد :
أحدها : أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان ، فإنه سماهم مؤمنين .
الثانية : أنه أوجب قتالهم .
الثالثة : انه أسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله .
الرابعة : أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم .
الخامسة : أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقاً عليه .
وقال : الخارجون عن قبضة الإمام أصناف أربعة :
أحدها : قوم امتنعوا وخرجوا عن طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل ، فهؤلاء قطاع طرق ساعون في الأرض بالفساد يأتي حكمهم في باب منفرد.(4/410)
الثاني : قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لا منعة لهم كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم ، فهؤلاء قطاع طريق في قول أكثر أصحابنا وهو مذهب الشافعي ، لأن ابن ملجم لما جرح علياً قال للحسن : إن برئت رأيت رأيي ، وإن مت فلا تمثلوا به .
فلم يثبت لفعله حكم البغاة قال: وقال أبو بكر: لا فرق بين الكثير والقليل وحكمهم حكم البغاة .
الثالث : الخوارج : الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعلياً وطلحة والزبير وكثيراً من الصحابة ، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة حكمهم ، وهذا قول أبى حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث ، ومالك يرى استتابتهم ، فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم ، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين وتباح دماؤهم وأموالهم ، فإن تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار ، وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين ، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانت أموالهم فيئاً لا يرثهم ورثتهم المسلمون .
قال ابن المنذر : لا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين .
والرابع : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه لتأويل سائغ ، وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيوش فهؤلاء البغاة .أهـ. مختصراً .
قال النووي في روضة الطالبين : (10/50): الذين يخالفون الإمام بالخروج عليه وترك الانقياد والامتناع من أداء الحقوق ينقسمون إلى بغاة وغيرهم ، أما البغاة فتعتبر فيهم خصلتان :-
إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الإمام أو منع الحق المتوجه عليهم فلو خرج قوم عن الطاعة ومنعوا الحق بلا تأويل سواء كان حداً أو قصاصاً أو مالاً لله I أو للآدميين عناداً أو مكابرة ولم يتعلقوا بتأويل فليس لهم أحكام البغاة ، وكذا المرتدون ثم التأويل للبغاة إن كان بطلانه مظنوناً فهو معتبر ، وإن كان بطلانه مقطوعاً به فوجهان أوفقهما لإطلاق الأكثرين أنه لا يعتبر كتأويل المرتدين ، والثاني يعتبر ويكفى تعطيلهم فيه ، وقد يغلط الإنسان في القطعيات .
الثانية : أن يكون لهم شوكة وعدد بحيث يحتاج الإمام في ردهم إلى الطاعة إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال ونصب قتال فإن كانوا أفراداً يسهل ضبطهم فليسوا بغاة ، وشرط جماعة من الأصحاب في الشوكة أن ينفردوا ببلدة أو قرية أو موضع من الصحراء ، والأصح الذي قاله المحققون أنه لا يعتبر ذلك وإنما يعتبر استعصاؤهم وخروجهم عن قبضة الإمام حتى لو تمكنوا من المقاومة وهم محفوفون بجند الإسلام حصلت الشوكة .
قال الإمام : يجب القطع بأن الشوكة لا تحصل إذا لم يكن لهم متبوع مطاع إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع.
* وهل يشترط أن يكون فيهم إمام منصوب لهم أو منتصب ؟
وجهان ويقال قولان أصحهما عند الأكثرين لا يشترط .أهـ. مختصراً .
قال الشيخ خليل ابن إسحاق المالكي في مختصره : الباغية فرقة خالفت الإمام لمنع حق أو لخلعه فللعدل قتالهم وإن تابوا .
قال أحمد الدردير في الشرح الكبير لمختصر خليل: البغي لغةً هو التعدي ، وشرعاً: قال ابن عرفة هو الامتناع من طاعة من ثبتت إمامته في غير معصية بمغالبة ولو تأولاً .أهـ.
وقوله في غير معصية متعلق بطاعة ، ومقتضاه أن من امتنع عن طاعته في مكروه يكون باغياً ، وقيل لا تجب طاعته في المكروه فالممتنع لا يكون باغياً وهو الأظهر لأنه من الإحداث في الدين ما ليس منه فهو رد فإذا أمر الناس بصلاة ركعتين بعد أداء فرض الصبح لم يتبع .
قال : (الباغية فرقة) أي طائفة من المسلمين خالفت الإمام الذي ثبتت إمامته باتفاق الناس عليه ، ويزيد بن معاوية : لم تثبت إمامته لأن أهل الحجاز لم يسلموا له الإمامة لظلمه ونائب الإمام مثله (لمنع حق) لله أو لآدمي وجب عليها كزكاة وكأداء ما عليهم مما جبوة لبيت مال المسلمين كخراج الأرض (أو لخلعه) أي وخالفته لإرادتها خلعه أي عزله لحرمة ذلك عليهم وإن جار إذ لا يعزل السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته ، وإنما يجب وعظه (فللعدل قتالهم وإن تابوا) الخروج عليه لشبهة قامت عندهم ، ويجب على الناس معاونته عليهم ، وأما غير العدل فلا تجب معاونته .
قال مالك t : دعه وما يراد منه ينتقم الله من الظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما كما أنه لا يجوز له قتالهم لاحتمال أن يكون خروجهم عليه لفسقة وجوره وإن كان لا يجوز لهم الخروج عليه .(4/411)
يتضح مما سبق أن المتفق عليه من صفة أهل البغي أنهم طائفة من أهل الحق لهم منعة وشوكة يخرجون على الإمام لتأويل سائغ أخطأوا فيه ، وهؤلاء كأهل الجمل وصفين الذين خرجوا على علي t لظنهم أنه يعلم قتلة عثمان ولا يقتص منهم ، فإن كانوا بلا شوكة ولا منعة وخرجوا عن الإمام فحكمهم حكم قطاع الطريق عند الجمهور في ضمان ما أتلفوه وعدم سقوط تبعة قتالهم ، وإن كانوا خرجوا بلا تأويل ، بل عناداّ وامتناعاً عن الحق فهم محاربون ساعون في الأرض فساداً ، وكذا إذا كان التأويل غير معتبر على الصحيح فإذا كان الإمام عدلاً جاز له قتالهم ووجبت معاونته ، أما إذا لم يكن عدلاً بل فاسقاً فلا يجوز له قتالهم حتى يتوب ويقاتل بعد ذلك ، ولا يعان حال ظلمه كما قال الإمام مالك .
%%%
صفة قتالهم وأحكامهم
قال النووي في المنهاج : ولا يقاتل البغاة حتى يبعث إليهم أميناً فطناً ناصحاً يسألهم ما ينقمون ، فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها ، فإن أصروا نصحهم ثم آذنهم بالقتال ، فإن استمهلوا اجتهد وفعل ما رآه صواباً ولا يقتل مدبرهم ولا مثخنهم وأسيرهم ولا يطلق وإن كان صبياً أو امرأة حتى تنقضي الحرب ويتفرق جمعهم إلا أن يطيع باختياره ويرد سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت غائلتهم ولا يستعمل في قتال إلا لضرورة ولا يقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق إلا لضرورة كأن قاتلوا به أو أحاطوا بنا ولا يستعان عليهم بكافر ولا بمن يرى قتلهم مدبرين . 4/128.
قال ابن قدامة في المغنى (8/114): أهل البغي إذا تركوا القتال إما بالرجوع إلى الطاعة ، وإما بإلقاء السلاح ، وإما بالهزيمة إلى فئة أو إلى غير فئة ، وإما بالعجز لجراح أو مرض أو أسر فإنه يحرم قتلهم واتباع مدبرهم ، وبهذا قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : إذا هزموا ولا فئة لهم كقولنا (أي لا يجوز قتلهم) وإن كانت لهم فئة يلجئون إليها جاز قتل مدبرهم وأسيرهم ، والإجازة على جريحهم ، وإن لم يكن لهم فئة لم يقتلوا لكن يضربون ضرباً وجيعاً ويحبسون حتى يقلعوا عما هم عليه ويحدثوا توبة . ذكروا هذا فى الخوارج .
ويروى عن ابن عباس t نحو هذا واختاره بعض أصحاب الشافعي لأنه متى لم يقتلهم اجتمعوا ثم عادوا للمحاربة ، ولنا ماروى عن على t عنه أنه قال يوم الجمل لا يذفف على جريح ، ولا يهتك ستر ولا يفتح باب ، ومن أغلق باباً أو بابه فهو آمن ولا يتبع مدبر (1) ، فإن قتل إنسان من مُنِعَ من قتله ضمنه لأنه قتل معصوماً لم يؤمر بقتله ، وفى القصاص وجهان . وأما أسيرهم فإن دخل فى الطاعة خلى سبيله ، وإن أبى ذلك وكان رجلاً جلداً من أهل القتال حبس ما دامت الحرب قائمة ، فإذا انقضت الحرب خلى سبيله وشُرط عليه أن لا يعود إلى القتال ، وإن لم يكن الأسير من أهل القتال كالنساء والصبيان والشيوخ الفانين خلى سبيلهم ولم يحبسوا في أحد الوجهين . وإن قتل أهل البغي أساري أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أسراهم لأنهم لا يقتلون بجناية غيرهم . فأما غنيمة أموالهم وسبى ذريتهم فلا نعلم في تحريمه بين أهل العلم خلافاً .أهـ. باختصار .
قال الدسوقي في حاشية الشرح الكبير (4/299): يمتاز قتال البغاة عن قتال الكفار بأحد عشر وجهاً : أن يقصد بالقتال ردعهم لا قتلهم ، وأن يكف عن مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا تقتل أسراهم ولا تغنم أموالهم ولا تسبى ذرا ريهم ولا يستعان عليهم بمشرك ولا يوادعهم على مال ولا تنصب عليهم الرعادات ولا تحرق مساكنهم ولا يقطع شجرهم .
قال الكاساني الحنفي في بدائع الصنائع (4/140): الإمام إذا قاتل أهل البغي فهزمهم وولوا مدبرين فإن كانت لهم فئة ينحازون إليها فينبغي لأهل العدل أن يقتلوا مدبرهم ويجهزوا على جريحهم لئلا يتحيزوا إلى الفئة فيمتنعوا بها فيكروا على أهل العدل ، وأما أسيرهم فإن شاء الإمام قتله استئصالاً لشأفتهم ، وإن شاء حبسه لاندفاع شره بالأسر والحبس وإن لم يكن فئة يتحيزون إليها لم يتبع مدبرهم ولم يجهز على جريحهم ولم يقتل أسيرهم لوقوع الأمن عن شرهم عند انعدام الفئة .أهـ.
مما سبق يتضح أن أهل البغي يقاتلون لدفع شرهم بعد إزالة شبهتهم ودعوتهم إلى الرجوع إلى الحق لقوله I: ) فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ( ، فلا يبدءون بالقتال قبل الإصلاح ، فإذا قوتلوا لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يقتل أسير عند عدم وجود فئة لهم باتفاق عامة العلماء ، وعند وجود فئة لهم كذلك عند الجمهور خلافاً للحنفية . وأما الأموال والنساء والذراري فتحريمها باق بلا خلاف بين العلماء لأنهم مسلمون ، وأما نفوذ أحكامهم وقبول شهادتهم فالذي عليه الجمهور قبول شهادتهم وأنه ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام قاضى أهل العدل وينقضي منها ما ينقضي من حكمه من حدود أقاموها وزكاة جمعوها وغيرها (روضة الطالبين 10/53-المغنى 8/119-حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/300). خلافاً للحنفية الذين يرون عدم إنقاذ أحكامهم إلا في بعض الصور (بدائع الصنائع 7/142) ، والجمهور على أنهم لا يضمنون نفساً ولا مالاً مما أتلفوه حال القتال ولا يجب عليهم بعد توبتهم أو هزيمتهم قصاص ولا دية .(4/412)
لقول الزهري : كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أنه لا يقام حد على رجل ارتكب فرجاً حراماً بتأويل القرآن وليغرم مالاً أتلفه بتأويل القرآن . (المغنى 8/113-مغن المحتاج 4/124) ، وذهب البعض لتضمينهم وهو أحد الوجهين عند الشافعية ورجحه الشوكاني في السيل الجرار (4/559) .
* الخوارج ومانعي الزكاة هل هم أهل بغى ؟
أطلق كثير من العلماء من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم أن مانعي الزكاة والخوارج أهل بغى ، قال الخطابي : مما يجب تقديمه في هذا أن يُعلم أن أهل الردة كانوا صنفين :
الأول : صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر: وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب .
والصنف الآخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام :
وهؤلاء على الحقيقة أهل بغى وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصاً لدخولهم في غمار أهل الردة فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما وأرخ قتال أهل البغي في زمن على بن أبى طالب t إذ كانوا منفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل الشرك .إلى أن قال : فإن قيل كيف تأولت أمر الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه الذي ذهبت إليه وجعلتهم أهل بغى ؟ وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا عن أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي ، قلنا لا فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين ، والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان منها قرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع معه تبديل الأحكام ومنها أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين ، وكان عهدهم بالإسلام قريباً فدخلتهم الشبهة فعذروا ، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيها العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها ،وكذا الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده ، فإنه إذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر وكان سبيله أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه ، فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها ، وأن القاتل عمداً لا يرث ، وأن للجدة السدس ، وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر لعدم استفاضة علمها في العامة .أهـ. من شرح مسلم للنووي (1/173) .
يتضح من هذا الكلام النفيس أن التأويل المقطوع ببطلانه ولكنه لا يخالف المعلوم من الدين بالضرورة وانتشر علمه في العامة يمنع من التكفير لكن لا يمنع من القتال ، والذي يختاره الخطابي أن التأويل الباطل يعتبر في إعطاء حكم البغاة لأصحابه ، وقد سبق كلام النووي (أنظر صفحة 15) ومثله كلام ابن قدامة إذ قال في المغنى (8/107) والصحيح إن شاء الله أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداءاً والإجازة على جريحهم ، والذي يظهر من صنيع الإمام البخاري رحمه الله التفرقة بين أهل البغي وبين مانعي الزكاة والخوارج إذ بوّب قتال مانعي الزكاة والخوارج في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم لا في أبواب قتال أهل البغي فقال : باب قتال من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة . وقد سبق بيان معنى الردة في حقهم وكلام الخطابي وأنها عن بعض الدين لاعن أصل الدين .
وبوب لقتال الخوارج فقال باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم .
قال ابن حجر رحمه الله فى فتح البارى (12/280): والذين تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التى ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة وقد اختلف الصحابة فيهم بعد الغلبة عليهم هل تغنم أموالهم وتسبى ذراريهم كالكفار أو كالبغاة ؟ فرأى أبو بكر الأول وعمل به وناظره عمر فى ذلك وذهب إلى الثانى ووافقه غيره فى خلافته على ذلك واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئاً من الفرائض بشبهة فيطالب بالرجوع فإن نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة فإن رجع وإلا عومل معاملة الكافر حينئذ ويقال أن أصبغ من المالكية استقر على القول الأول فعُد من ندرة المخالف . قال النووي: الخوارج صنف من المبتدعة يعتقدون أن من فعل كبيرة كفر وخلد في النار.
قال الشافعي: وجماهير الأصحاب y لو أظهر قوم رأى الخوارج وتجنبوا الجماعات وكفروا الإمام ومن معه فإن لم يقاتلوا وكانوا في قبضة الإمام لم يقتلوا ولم يقاتلوا ثم إن صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا وإن عرضوا ففي تعزيزهم وجهان أصحهما لا يعزرون ولو بعث الإمام إليهم والياً فقتلوه فعليهم القصاص وهل يتحتم قتل قاتله كقاطع الطريق لأنه شهر سلاح أم لا لأنه لم يقصد إخافة الطريق وجهان أصحهما لا يتحتم .(4/413)
وأطلق البغوي أنهم إن قاتلوا فهم فسقة وأصحاب بهت فحكمهم حكم قطاع الطريق . وحكى الإمام في تكفير الخوارج وجهين .
قال: فإن لم نكفرهم فلهم حكم المرتدين ، وقيل حكم البغاة ، فإن قلنا كالمرتدين لم تنفذ أحكامهم . روضة الطالبين (10/52) .
وقال أيضاً في المنهاج: ولو أظهر قوم رأى الخوارج كترك الجماعات وتكفير ذى الكبيرة ولم يقاتلوا تركوا وإلا فقطاع طريق .
قال الشربيني في مغنى المحتاج: أي فحكمهم إن لم نكفرهم وهو الأصح كحكم قطاع طريق ، فإن قتلوا أحداً ممن يكافئهم اقتص منهم كغيرهم لا أنهم قطاع طريق فلا يتحتم قتلهم .
قال محمد بن عبد الله بن حسين في زوائد زاد المستقنع: الخوارج الذين يكفرون بالذنوب ويستحلون دماء المسلمين فظاهر قول المتأخرين من أصحابنا أنهم بغتة حكمهم حكمهم وذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه وطائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين ، قال في الترغيب والرعايتين وهى أشهر وذكر ابن حامد أنه لا خلاف فيه .
وقال الشيخ (يعنى ابن تيمية) أجمعوا أن كل طائفة ممتنعة من شريعة متواترة من شرائع الإسلام يجب قتالها ليكون الدين كله لله كالمحاربين وأولى وقال في الرافضة شر من الخوارج قال وفى قتل واحد منهما ونحوها وكفره روايتان والصحيح جواز قتله كالداعية ونحوه (2/997) زوائد زاد المستقنع
وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية: أن قتال الخوارج ومانعي الزكاة والطوائف الممتنعة من الشريعة قسم ثالث فقال : إن الأئمة متفقون على دم الخوارج وتضليلهم وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد وفى مذهب الشافعي أيضاً نزاع في كفرهم ، ولهذا كان فيهم وجهان في مذهب أحمد وغيره على ...
* الطريقة الأولى : أنهم بغاة .
* والطريقة الثانية : أنهم كفار كالمرتدين ويجوز قتلهم ابتداء وقتل أسيرهم واتباع مدبرهم ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل كما أن مذهبه في مانعي الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها على روايتين وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعي الزكاة وقتال على للخوارج ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين فكلام على وغيره في الخوارج يقتضى أنهم ليسوا كفاراً كالمرتدين عن أصل الإسلام وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره ، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين، بل هم نوع ثالث وهذا أصح الأقوال فيهم .الفتاوى (28/518). وقال أيضاً (28/551): وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة فلا ريب أنه يجوز قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم ، وقال (28/589): كل ما أخذ من التتار يخمس ويباح الإنتفاع به .
وقال (229): فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية والرافضة ونحوهم فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن الإمام أحمد ، والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد فإن النبي صلي الله عليه وسلم قال " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " وقال صلي الله عليه وسلم " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " ، وقال عمر t لصبيغ بن عسل: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك ، ولأن على بن أبى طالب t طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض ، فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ، ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة ، ولهذا ترك النبي صلي الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام ، ولهذا ترك على قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقاً كثيراً وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهراً لم يحاربوا الجماعة ولم يكن تبين له أنهم هم ، وأما تكفيرهم وتخليدهم فيه أيضاً للعلماء قولان مشهوران وهما روايتان عن أحمد ، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم ، والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم كفر وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه ، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له .أهـ.(4/414)
وقد نقل ابن كثير في البداية والنهاية روايتين عن علي t في أموال الخوارج وأسند أنه لم بخمس أموالهم ولم يقسمها وأمر بتفريق من لم يقتل منهم في قبائلهم ، وهذا يدل على أنه لم يكن يكفرهم بأعيانهم ولم ينقل عنه قط أنه سبى النساء والذراري ويمكن حمل الأحاديث التي وردت في مروقهم من الدين وأنهم كلاب النار وهى متواترة في ذمهم على من كان منافقاً كافراً في الباطن كما قال ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب الإيمان (وكذلك سائر الثنتين وسبعين فرقة من كان منهم منافقاً فهو كافر في الباطن ومن لم يكن منافقاً بل كان مؤمناً بالله ورسوله في الباطن وإن أخطأ التأويل كائناً ما كان خطؤه وقد يكون فيه شعبة من النفاق ولا يكون فيه النفاق والذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار .أهـ.
* مما سبق يتضح أنه :-
1- اختلف العلماء في تكفير الخوارج ومانعي الزكاة الذين يقاتلون على منعها على قولين الراجح منها وهو قول جماهير العلماء عدم التكفير بالعموم وهو المنقول عن على t فى الخوارج .
2- أجمع العلماء على ذم الخوارج وتبديعهم ومثلهم مانعي الزكاة ومن أبى التزام الفرائض وحق الإسلام وأنهم ليسوا كمن خرج على الإمام بتأويل سائغ معتبر فلا يفسق بذلك عند جماهير العلماء ، وأجمعوا على أن الصحابة كلهم عدول ولا يفسق أحد منهم ولو وصفوا بالفئة الباغية .
3- ومع ذلك يرى أكثر العلماء أن قتال الخوارج ومانعي الزكاة من جنس قتال البغاة فلا يغنم مال ولا تسبى لهم ذرية ولا يذفف على جريح ولا يقتل أسير ولا يتبع مدبر والواحد المقدور عليه منهم لا يجوز قتله ولا يجب ابتداؤهم بالقتال إذا لم ينصبوا حرباً ولم يستعدوا لذلك (فتح الباري 12/298).
4- ويرى بعض العلماء أن قتال الخوارج ومانعي الزكاة قسم ثالث ليس كقتال المرتدين ولا كقتال البغاة فيجوز الإجازة على الجريح وقتل الأسير والواحد المقدور عليه ما لم يكن في قتله مفسدة راجحة وتقسم أموالهم كغنائم ويجب قتالهم ابتداء وهم من الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فساداً وهذا ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية . والخلاف في هذه المسألة خلاف سائغ يجتهد فيه الإمام أومن يقوم مقامه في الجهاد .
الطائفة الثانية: قتال المحاربين وقطاع الطريق :
الأصل في ذلك قوله تعالى: )إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ]المائدة:33-34[ .
روى الجماعة عن أنس أن ناساً من عكل قدموا على النبي صلي الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فاستوخموا المدينة فأمر النبي صلي الله عليه وسلم بِذَوْدِ وراعِ ، وأمرهم أن يخرجوا فليشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحَرَّة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي النبي صلي الله عليه وسلم واستاقوا الذود فبلغ ذلك النبي صلي الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم .
قال الشوكاني في السبيل الجرار (4/368): وكون سبب نزولها في المشركين الذين أخذوا لقاح النبي صلي الله عليه وسلم لما شكوا إليه وباء المدينة لا يدل على اختصاص هذا الحد بهم فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قال القرطبي في تفسير الآية: قال مالك المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة (هياج) ولا ذحل (ثأر) ولا عداوة .
قال ابن المنذر اختلف عن مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في المصر ونفى ذلك مرة ، وقالت طائفة حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة وهذا قول الشافعي وأبى ثور ، قال ابن المنذر: كذلك هو لأن كلاً يقع عليه اسم المحاربة والكتاب على العموم وليس لأحد أن يخرج من جمله الآية قوماً بغير حجة .أهـ.
قال النووي في روضة الطالبين (10/154): تعتبر فيهم الشوكة والبعد عن الغوث وأن يكونوا مسلمين مكلفين فالكفار ليس لهم حكم قطاع الطريق .
قال ابن تيمية (الفتاوى 28/302): قطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة . قال الله تعال: ) إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ( ]المائدة:33[
وقد روى الشافعي -رحمه الله- : في مسنده عن ابن عباس y في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض .(4/415)
وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي وأحمد وهو قريب من قول أبى حنيفة رحمه الله ومنهم من قال للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيساً مطاعاً فيهم ، ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال ،كما أن منهم من يرى أنهم إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا، والأول قول الأكثر ، فمن كان من المحاربين قتل فإنه يقتله الإمام حداً لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء .
ذكره ابن المنذر ، ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول . وقال: إذا كان المحاربون الحرامية جماعة ، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له فقد قيل يقتل المباشر فقط ، والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مئة ، وأن الردء والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين .والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين .
فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم ، وهكذا المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن ونحوها وهما ظالمتان كما قال النبي صلي الله عليه وسلم " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال إنه أراد قتل صاحبه " أخرجاه في الصحيحين وتضمن كل طائفة ما أتلفته للأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل ، لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها كالشخص الواحد ، وفى ذلك قوله I : ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( ]البقرة:178[ .أهـ.باختصار .
قال الشيخ خليل بن اسحق في مختصره (331): المحارب قاطع الطريق لمنع سلوك أو آخذ مال مسلم أو غيره على وجه يتعذر معه الغوث وإن انفرد بمدينة كمسقى السكران لذلك ومخادع الصبي أو غيره ليأخذ ما معه والداخل في ليل أو نهار في زقاق أو دار قَاتَل ليأخذ المال فيقاتل بعد المناشدة إن أمكن .
قال الدردير في الشرح الكبير: على قوله (على وجه يتعذر معه الغوث) فإن كان من شأنه عدم تعذره فغير محارب بل غاصب ولو سلطاناً فيشمل مسألة سقى السكران ومخادعة الصبي أو غيره ليأخذ ما معه وجبابرة أمراء مصر ونحوهم يسلبون أموال المسلمين ويمنعونهم أرزاقهم ويغيرون على بلادهم ولا تتيسر استغاثة منهم بعلماء ولا غيرهم .
قال الدسوقي في حاشيته: وفى البدر القرافي أن من أخذ وظيفة أحد لا جنحة فيه بتقرير سلطان فهو محارب لأنه يتعذر معه الغوث منه مادام معه تقرير السلطان ، ثم ذكر تردداً في كون الذين يأخذون المكوس محاربين بمنزلة قطاع الطرق أو غاصبين (1).وقال في قوله جبابرة أمراء مصر ، فهم محاربون لا غصَّاب . وقال أيضاً: من خرج لإخافة السبيل قصداً للغلبة على الفروج فهو محارب أقبح ممن خرج إخافة السبيل لأخذ المال .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضى إلى قتلهم جميعاً قوتلوا ، وإن أفضى إلى ذلك سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا ويقتلون في القتال كيفما أمكن ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال وذاك إقامة حد ، وقتال هؤلاء أوكد من قتال الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام ، فإن هؤلاء تحزبوا لفساد النفوس والأموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك لكن قتالهم ليس كقتال الكفار إذا لم يكونوا كفاراً ولا تؤخذ أموالهم إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق ، فإن عليهم ضمانها فيؤخذ منهم بقدر ما أخذوا وإن لم نعلم عين الآخذ ، وإذا جرح الرجل منهم جرحاً مثخناً لم يجهز عليه حتى يموت إلا أن يكون وجب عليه القتل ، وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه إلا أن يكون عليه حد أو نخاف عاقبته ، ومن أُسِرَ منهم أقيم عليه الحد الذي يقام على غيره .
ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها وأكثرهم يأبون ذلك ، فأما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارج عن شريعة الإسلام وأعانوهم على المسلمين قوتلوا كقتالهم .أهـ.
%%%
أعدهُ لكم ، وقام بتنسيقهُ أخوكم في الله:
عمر بن رحال السكندري
=============(4/416)
الموقف من الرأي الآخر نظرة شرعية
محمد بن شاكر الشريف
مع الحملة العسكرية المتصاعدة التي ابتدأتها راعية الصليب في العصر الحاضر على بعض الدول الإسلامية، والتي ينتظر ـ حسب ما يخطط له الصليبيون والصهيونيون ـ أن تعم دول العالم الإسلامي ـ عرباً وعجماً ـ بدأ يكثر الكلام وترتفع الأصوات في وسائل النشر المتعددة بالحديث عن «الآخر»، حتى أصبح هذا اللفظ بمثابة مصطلح يُتداول بين الكُتَّاب، وفي المناقشات والحوارات، وبدأت تغزو أسماعنا مقولات: «ما الموقف من الآخر» و «العلاقة بالآخر» و «ينبغي أن لا تنفي الآخر» و «ينبغي التسامح مع الآخر»، «التعاون مع الآخر» ولا بد أن يكون هناك «موقف حضاري وتعددي من الآخر» ومطلوب «القبول بالتعددية والاعتراف بالآخر» و «الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده، وأفكاره بعيداً عن ضغوط الإكراه وموجات النفي والإلغاء» و «إعادة الاعتبار إلى الآخر وجوداً ورأياً ومشاعر» و «اكتشاف العناصر والمفردات الداخلية والخارجية التي تضيّق الهوة مع الآخر».
تلك عينة من العينات التي باتت تتردد على ألسنة الكثير من المفكرين العصرانيين. والمقصود بالآخر في هذا الكلام «غير المسلم» أي الكافر، وهذا الكلام موجه للمسلمين، ومن يطالعه يخيل إليه من النظرة الأولى أن المسلمين جماعة من المتخلفين المتوحشين الذين يعيشون حياة بعيدة عن معاني الرقي والتمدن والحضارة، وأنهم لا ينظرون إلا لأنفسهم إما جهلاً وانغلاقاً، وإما تجبراً وكبراً، ثم يدلي كل من هؤلاء الكتاب والمتحدثين برأيه في تعليم المسلمين كيف يكونون متحضرين متقدمين في تعاملهم مع «الآخر» وفي النظرة إلى «الآخر» وموقفهم من «أفكار الآخر»، وسأحاول بعون الله أن ألقي الضوء على هذه القضية على النحو التالي:
مَنِ «الآخر»؟
كثير من المواطن المطروحة للنقاش في هذا الموضوع تذكر كلمة «الآخر» دون بيان المراد منها، وفي بعضها يبين أن المراد هو «غير الإسلامي»، ولفظ «الآخر» لغةً لا يحمل قيمة دلالية تتعدى أو تتجاوز معنى لفظ «غير» دون أن يكون في ذلك دلالة على المخالفة أو الموافقة؛ فالآخر قد يكون منا، وقد يكون من غيرنا. قال الله ـ تعالى ـ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قال ابن جرير: «عنى بذلك كل لاحق لحق بالذين كانوا صحبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في إسلامهم من أي الأجناس؛ لأن الله ـ عز وجل ـ عمَّ بقوله: وآخرين منهم»(1)؛ فهنا وصف «الآخر» بأنه منهم، مما يعني أن «الآخر» قد يراد به المخالف، كما يراد به الموافق، وعلى ذلك فإن هذا اللفظ واسع المعنى يشتمل على أنواع متعددة من الموافقة والمخالفة على تعدد درجاتها، وحينئذ لا ينبغي أن يساق الحديث عن «الآخر» مساقاً واحداً؛ بحيث يعم الجميع بحكم واحد أو موقف واحد. وقد ظهرت مواقف كثيرة قدمت فيها أوراق وبحوث أغلبها ينطلق من الحديث عن «الآخر» بغير تفريق بين أنواعه، والسلوك الذي يوصف بأنه علمي يستوجب التفصيل حتى لا يكون هناك تجاوز في الأحكام أوالمواقف.
أنواع «الآخر»:
«الآخر» قد يكون كافراً، وقد يكون مسلماً، والكافر أنواع: فمنه الكافر الحربي، والكافر الذمي، والكافر المعاهَد. والمسلم أنواع: فمنه المسلم الذي هو من أهل السنة والجماعة، ومنه من هو من أهل البدعة والضلالة. وأهل السنة توجد بينهم خلافات في الفقه على تعدد درجات الاختلاف، كما أن البدع منها الغليظة المكفِّرة ومنها دون ذلك؛ وإزاء هذا التباين الشديد؛ فإن سَوْق الكلام عن «الآخر» سَوْقاً واحداً فيه ظلم كبير، وتجاوز للصواب بيقين، وهو موقع في أحد الأطراف: إما الإفراط، وإما التفريط، وقديما قالوا: كِلا طرفي قصد الأمور ذميم.
أصول عامة في مسألة الآخر:
لكن هنا أصول أو قواعد عامة لا ترتبط بـ «الآخر» أياً كان، من فئة أقرب الموافقين أو أبعد المخالفين ينبغي الالتزام والتقيد بها؛ فمن ذلك:
1 ـ العدل:(4/417)
وهو قيمة عليا من قيم الإسلام، وهدف من أهدافه الرئيسة. قال الله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]، وقال ـ تعالى ـ: {يَ ا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ فالمسلم مطالب بالعدل مع الموافق والمخالف ولو كان كافراً، وإن المسلم لا ينبغي أن يحمله بغضه لأقوام ـ حتى وإن كان يبغضهم في الله ـ على ترك العدل معهم، وظلمهم، بل هو مطالَب ومأمور من الله ـ تعالى ـ بالعدل معهم بـ {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وهو أيضاً مطالَب بالعدل مع نفسه ووالديه والأقربين. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، قال ابن جرير ـ ـ رحمه الله ـ ـ: «ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط؛ يعني العدل»(2). فالعدل عند المسلم صفة من الصفات وخلق من الأخلاق، وليس موقفاً من المواقف، وهو ما يعني ان هذه صفة أصلية ثابتة يطبع الإسلام بها المسلم في كل أحيانه؛ إذ العدل واجب من كل أحد على كل أحد في كل حال. ومن العدل ألا نفرق بين المتماثلين، وأن لا نساوي بين المختلفين؛ فمساواة المسلم بالكافر ليس عدلاً، ومساواة السني بالبدعي ليس عدلاً، كذلك مساواة من خالف في الأصول بمن خالف في الفروع ليس عدلاً، كما أن التفرقة بين الناس على أساس الاختلاف في مسائل الاجتهاد؛ بحيث يأخذ هذا حكم، وذاك حكم مع أن الخلاف في مسائل الاجتهاد فليس ذلك أيضاً عدلاً، كما أنه ليس من العدل نقل صورة غير أمينة عن الواقع سواء بالزيادة فيه وتضخيمه، أو بالتنقص منه وتقليله، سواء أكان ذلك يصب في مصلحة المنقول عنه أو ضرره؛ فكل تلك الأحوال ليست من العدل، ويتفرع عنها صور كثيرة جداً؛ والضابط في ذلك أن العدل هو الوقوف عند ما حدَّه الشرع بلا زيادة أو نقص، وليس بما يتصور الإنسان أنه عدل(3)؛ إذ إنه قد يُتصور أمور كثيرة من العدل، وهي ليست منه في شيء.
2 ـ الأخذ بالظاهر:
الإنسان أياً كان؛ فمن الممكن أن يكون عمله في الظاهر ليس متوافقاً مع باطنه، وباطن الإنسان لا يعلمه أحد على الحقيقة إلا الذي يعلم السر وأخفى. وأما الإنسان فليس له إلى علم حقيقة البواطن سبيل، وإن كانت هناك قرائن قد تدل بغلبة الظن على الباطن؛ وعلى ذلك فإننا مطالَبون بالحكم على الشيء المنضبط الواضح وهو الظاهر الذي يظهر من الإنسان، ولا نرتب مواقفنا على تصوراتنا للباطن، ونقول: هو نيته كذا أو كذا، ونحو ذلك من الكلام، وهذه قاعدة معلومة؛ فإن المنافق مع أنه في الدرك الأسفل من النار، لكن لما كان ظاهره الإسلام، وكان يخفي نفاقه في داخله ـ وإن كانت هناك قرائن قد ترشد إلى شيء مما في داخله ـ فإننا نعامله بحسب ما يظهر منه، وهذا أيضاً نوع من أنواع العدل أن تكون المواقف مؤسسة على الأشياء الظاهرة الواضحة وليس على الأشياء الباطنة الخفية؛ إذ لو فُتِحَ باب أخذ المواقف بناءً على الأمور الباطنة الخفية ـ والتي لا سبيل إلى معرفتها يقيناً ـ لفسدت أمور الناس وسفك بعضهم دماء بعض، واستحلوا الأموال بناءً على ما يُتصور لهم في الباطن، وهذا من رحمة الله ـ تعالى ـ بالناس.
3 ـ مرجعية الكتاب والسنة:
فكتاب ربنا ـ تعالى ـ تكفل الله بحفظه، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ملحقة به في ذلك الحفظ؛ لأنها من بيان الدين وتوضيحه، وهما المأمور بالاحتكام إليهما لاحتوائهما على الحق الصراح، وهما المأمور بالرد إليهما عند الاختلاف. قال الله ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]؛ فعلَّق الإيمان بالله واليوم الآخر على الرد إلى الله والرسول عند الاختلاف والتنازع، وبين أن ذلك هو الخير والأحسن عاقبة ومآلاً، وقد اتفق أهل العلم أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- هوالرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد موته -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا يدل على أن الكتاب والسنة فيهما بيان كل شيء وتوضيح كل مشكل، وحل كل معضل. يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين»(4)، وعلى ذلك؛ فإن الكتاب والسنة هما اللذان يُرجَع إليهما، ويُعوَّل عليهما في تناولنا لجزئيات الحديث في موضوع هذه الدراسة.
4 ـ التثبت من المنقول قبل اتخاذ المواقف:(4/418)
المواقف لا ينبغي أن تُبنى على الظن ولا على التصور أو التخيل، وإنما ينبغي أن تُبنى على واقع وحقيقة؛ لذا فلا غناء للموقف الصحيح من أن يؤسَّس على التثبت مما ينقل والتأكد من صدقه وصوابه، وهذا أمر ذو أهمية كبرى، وقد أرشدنا الله ـ تبارك وتعالى ـ إلى التثبت قبل الإقدام بقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6]، وقد قُرئ قوله ـ تعالى ـ «فتبينوا» بقراءة ثانية وهي: «فتثبتوا»، وقال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: «فتبينوا» بالباء، يعني أمهلوا حتى تعرفوا صحته ولا تعجلوا بقبوله، وكذلك معنى «فتثبتوا»(5)، وقد بينت الآية ضرر عدم التثبت؛ إذ يجعل الإنسان نادماً على ما فعل «ولات حين مندم».
وعلى ما دلت عليه الآية السابقة دلَّ قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94]، يقول ابن جرير: «إذا سرتم مسيراً لله في جهاد أعدائكم، فتأنوا في قتل مَنْ أشكل عليكم أمره فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقيناً حرباً لكم ولله ولرسوله»(6)، وقد كان التثبت قبل الإقدام من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أنس بن مالك «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر؛ فإن سمع أذاناً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم»(7)، وقد تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- من فعل خالد بن الوليد عندما أقدم على قتل الذين قالوا: «صبأنا» ولم يحسنوا أن يقولوا: «أسلمنا» فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ابن الوليد ـ مرتين»(8)، قال الخطابي: «أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا»(9).
5 ـ قبول الحق ممن جاء به:
الحق لا يستمد قيمته من قائله، أو من الظرف الذي قيل فيه، وإنما يستمد ذلك من كونه الحق؛ فالحق يحمل قيمة ذاتية مستقلة عن ظروف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وإذا كان الحق يُقبل لأنه حق؛ فلذلك يُقبل الحق ممن جاء به، سواء كان من جاء به مسلماً أو كافراً، أو شريفاً أو وضيعاً؛ فقد يقول الكافر أو المنافق كلمة الحق، كما قد يقول المؤمن كلمة الباطل؛ لذلك جاء في وصية معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ التي سبقت وفاته بعدما حذر من زيغة الحكيم، وبين أن المنافق قد يقول كلمة الحق، وأن الشيطان قد يلقي كلمة الضلالة على لسان الرجل الحكيم قال: «فخذ العلم أنَّى جاءك؛ فإن على الحق نوراً»(10).
وقد حشر لسليمان ـ عليه السلام ـ جنوده من الجن والإنس والطير، وكان فيهم الذي يقدر على إحضار عرش ملكة سبأ في طرفة عين، ومع ذلك فلم يُخبر بخبر ملكة سبأ إلا هدهد، وقد قال الشيطان لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح» وأبو هريرة لا يعرفه، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة لما قص عليه ذلك: «أما إنه قد صدقك، وهو كذوب»(11)، فلم يمنع كونه شيطاناً أن يُقر الحق الذي قاله، لكن لا بد من الاحتراز في مثل ذلك؛ حيث لا يقبل منه إلا الجزء الذي تبينت حقيقته، ولعله لأجل ذلك عقَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قوله: «صدقك» بكلمة: «وهو كذوب» حتى لا يكون قوله: «صدقك» تعديلاً وتوثيقاً له يحمل السامع على قبول كل ما جاء به، وقد قال علي ـ رضي الله عنه ـ: «إن الحق لا يُعرف بالرجال»(12)، مما يعني تميز الحق وتفرده وقبوله ممن جاء به.
الموقف من فكر الكافر:
الكافر هو كل إنسان لم يؤمن بالله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم يدن بدين الإسلام سواء كان من أهل الكتاب اليهود والنصارى، أو كان من عبدة الأصنام والأوثان، أو كان ـ في ظاهره ـ لا يعبد شيئاً؛ فهذه الأصناف جميعها كفار، وعلى ذلك تطابقت أدلة الشرع من الكتاب والسنة، وأجمع على ذلك أهل الإسلام علماؤهم وعوامهم، بل الكفار أنفسهم يعلمون أن من دين المسلمين تكفير كل من لم يؤمن بالله ورسوله ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
والكافر قد يكون مقيماً بدار الإسلام إذا كان ذمياً أو دخل إليها بعهد أو أمان، كما قد يكون مقيماً ببلاد الكفر (دار الحرب، أو دار العهد)، والكلام هنا مقصور على الكافر المقيم بيننا؛ فهذا هو المقدور عليه:(4/419)
قَبِلَت الشريعة ـ وفق شروطها المعلومة ـ إقامة الكافر ببلد المسلمين، مع بقائه على دينه، وهذا يعني أن الكافر المقيم بدار الإسلام بسببٍ مشروعٍ لا يُجبر أو يُكره على ترك دينه والدخول في الإسلام، وهذا يتناول بالضرورة أن الكافر غير مجبر على ترك آرائه وأفكاره الشخصية وتصوراته سواء منها ما خالف الإسلام أو وافقه، وهذا يسميه بعض الناس: «حرية الاعتقاد» أو «حرية وحق التفكير» إلى غير ذلك من المسميات، ونحن لا نسمي ذلك «حقاً» أو «حرية» لأن الله لم يعط أحداً الحق في الكفر أو الضلال، ولم يبح ذلك في شريعته قط، وإنما نسمي هذا «عدم الإكراه» أو «الجبر» فلا حق لإنسان في أن يكفر ولا «حرية» في أن يضل ويشرد عن الطريق المستقيم. ولكن نقول كما قال ربنا: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؛ فنحن لا نُكرِه الكافر على الإسلام وإن كان لا حق له في أن يكفر، ويترتب على هذا الفرق الذي لم ينتبه له كثير من الكتاب المعاصرين تحديدُ الموقف من حكم نشر أو إذاعة الكافر لآرائه بين المسلمين؛ فإذا كان الكافر لا حق له ولا حرية في أن يكفر ويضل؛ فمن باب أوْلى لا حق له ولا حرية في نشر كفره وإذاعته بين الناس، وعدم إكراهه على الإسلام والهدى لا يعطيه حق الدعوة إلى كفره وضلاله في بلاد المسلمين.
وما يتكلم فيه الكافر المقيم بدار الإسلام إما أن يكون أموراً دنيوية بحتة، وإما أن يكون مسائل دينية أو لها متعلق بالدين. فالمسائل الدنيوية البحتة كالمسائل المتعلقة بالخبرة المكتسبة في الزراعة مثلاً أو الصناعة أو تخطيط المدن، وأشباه هذه الأمور، فليس بين أيدينا نصوص معينة تمنعه من المشاركة في ذلك أو من نشر رأيه في ذلك والدعوة إليه، ومن ثم فإن حريته في نشر ذلك النوع من الفكر والدعوة إليه يتبع السياسة الشرعية ويرتبط بالمصلحة في كل عصر.
وأما المسائل الدينية أو المسائل المتعلقة أو لها اتصال بالدين فيرى بعض المعاصرين أن في منعه من نشر فكره المخالف لدين الإسلام حَجْراً على الفكر وكبتاً لحريات الناس، وأن من حقه أن ينشر ما يراه، وينبغي أن يُمَكَّن من ذلك، وأن تُفتح له وسائل النشر المتعددة أبوابها، وربما يُعلل ذلك بأن صاحب الفكر الصحيح أو القوي لا يخاف أو يؤثر عليه صاحب الفكر الباطل والضعيف، وقد يضيف إلى ذلك قوله بأن بلاد الغرب أو الشرق الكافر تمنح المسلمين حرية نشر أفكارهم الإسلامية والدعوة إليها وهذا قمة الرقي والتحضر أو التمدن الحقيقي، حيث لا حجر على نشر الأفكار أياً كان نوعها، وينبغي أن نعاملهم بالمثل.
وهذه كما نرى احتجاجات فكرية، وهي احتجاجات مُقابلة بما هو أقوى منها وأكثر منطقية، ولا يتعارض مع العقول السليمة، فإذا قلنا: إن شريعة الإسلام تشهد بالبطلان على كل ما يخالفها ويناقضها، وأن في مخالفتها ومناقضتها الخسران والبوار، وأنها لذلك لا تسمح لأحد بنشر الدعوة المضادة لها بين أتباعها في أرض تحكمها وتسيطر عليها، كان هذا قولاً مقبولاً معقولاً؛ إذ كيف يستجيز عاقل يريد أن يبني بناءً أن يترك آخرين يهدمون ما يبني وهو قادر على منعهم، ويعلل ذلك بأنه قوي وأنه قادر على بناء ما يهدمون، هذا ليس بتصرف العقلاء.
وأما النقطة الثانية وهي سماحهم لغيرهم بالدعوة إلى أفكارهم ونشرها؛ فإن هذا له ما يسوغه عندهم، وهم في ذلك متوافقون من أنفسهم وليسوا مخالفين لنظمهم؛ فإن القوم مرجعيتهم العليا في ذلك هى الإنسان نفسه، وليس لهم مرجع خارج الإنسان نفسه؛ فالفكر الذي ينظر إليه على أنه مُغرق في الفساد الذي لا تقبله الفطرة يتمتع بالقدر نفسه من الحجية التى يتمتع بها الفكر الذي ينظر إليه على أنه فكر صالح؛ إذ الكل صادر عن الإنسان صاحب المرجعية العليا عندهم؛ حتى وجدنا لديهم أفكاراً في منتهى الفساد ـ ربما لا تقبلها بعض الحيوانات ـ تحولت عندهم إلى واقع ممارس أو قوانين يحتكم إليها الناس؛ ففي تلك البلاد توجد حرية الزواج بين المثلين (رجل لرجل، وامرأة لامرأة) بل يوجد عندهم زواج المحارم حيث يتزوج الرجل ابنته، وهكذا.
وعلى هذا نقول: لو أنهم سمحوا في بلادهم للمسلمين بنشر أفكارهم ودعوتهم؛ فهم لم يخالفوا القاعدة التى ينطلقون منها، ولا يُقبل شرعاً أو عقلاً أن نكافئهم على عدم مخالفتهم لأنظمتهم بمخالفتنا لشريعتنا.
أدلة عدم جواز نشر ما يخالف الشريعة:(4/420)
وقد دل عدم جواز نشر أو إذاعة آراء وأفكار الكفار المخالفة للشرع أدلة كثيرة؛ فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]؛ فأمر الله ـ تبارك وتعالى ـ بالإعراض ـ أي الصد وعدم الاستماع أو الجلوس ـ عمن يخوض أى يستهزئُ ويكذِّب بآيات الله أو يخالفها ويناقضها حتى يأخذوا في حديث آخر؛ أي حتى يبتعدوا عن الخوض في آيات الله؛ فالمسلمون ممنوعون من الإقبال أو الجلوس إلى الكفار والاستماع إليهم حال خوضهم في آيات الله، وإذا كان المسلمون ممنوعين من ذلك، فلا يجوز أن يباح أو يسمح للكفار بأن يقتحموا على المسلمين بيوتهم ومجالسهم ونواديهم ـ عن طريق وسائل النشر الحديثة ـ ليسمعوهم باطلهم وكفرهم بآيات الله وتكذيبهم لها أو معارضتهم ومخالفتهم لها؛ لأنه لا يقول عاقل إن المسلم لا يجوز له أن يذهب إلى الكفار ويجلس إليهم ويستمع لما يقولون، بينما يجوز أن يذهب الكفار إلى المسلم ليسمعوه ما عندهم من الخوض في آيات الله، ولو قال قائل: إن هذه الآية منعت المسلمين من الجلوس لسماع خوض الكفار، ولم تأمر المسلمين بمنع الكفار عن الخوض في الدين، قلنا: هذه الآية مكية، والمسلمون في مكة لم تكن لهم قوة أو ولاية أو سلطان يتمكنون به من دفع الكفار عن الخوض في دين الله، وكان كل الذي يمكن فعله في هذه الحالة هو منع المسلمين من الجلوس إلى الكفار والاستماع إلى خوضهم في الدين، وهذا قد جاء الأمر به.
فلما انتقل المسلمون إلى المدينة وصارت لهم قوة ومنعة ودار حصينة، لم يكن أحد يستطيع إظهار الخوض في آيات الله، أو دعوة المسلمين إلى ذلك، وإنما كان يقوم بشيء من ذلك المنافقون، ولا يجلس إليهم أو يستمع إليهم إلا أمثالهم، فنزل تحذير الله لهم بقوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138]، إلى قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، وفي هذه الآية زجر شديد عن الجلوس والاستماع إلى الخائضين؛ وذلك حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ}. فلم يكن أحد في المدينة وخاصة بعد انتصار المسلمين في بدر، يستطيع أن يجهر بالخوض في آيات الله، واقتصر ذلك على المنافقين أو اليهود في مجالسهم الخاصة التي لا يطلع عليها غيرهم، ولذلك كان القرآن إذا نزل يخبر عن أقوالهم وأفعالهم؛ إذ ينظر بعضهم لبعض ويقول: هل سمع خبركم أو رآكم أحد، فأخبر محمداً -صلى الله عليه وسلم- بذلك؟ وهذا من قلة علمهم وفقههم؛ لأن الله ـ عز وجل ـ هو الذي يخبره. والمقصود أنهم كانوا يسرون ولا يجهرون، قال الله ـ تعالى ـ مبيناً ذلك: {وَإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]. قال القرطبي: المنافقون: «إذا حضروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يتلو قرآناً أنزل فيه فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب على جهة التقرير يقول: هل يراكم من أحد إذا تكلمتم بهذا، فينقله إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ وذلك جهل منهم بنبوته عليه السلام، وأن الله يطلعه على ما يشاء من غيبه»(13).
وإذا كانت وسيلة نشر الأقوال في الزمن الغابر هي الجلوس إلى صاحب القول والاستماع منه؛ فإن الوسائل قد تعددت الآن وتنوعت، وإذا كان المسلمون ممنوعين من الجلوس والاستماع لمن يخوض في دين الله؛ فإن المنع ليس قاصراً على الوسيلة، وإنما هو المنع من الاستماع للباطل، فيعم ذلك كل وسيلة تؤدي الغرض نفسه.
ومن الأدلة على ذلك أن يقال: إن الله ـ تعالى ـ ما أنزل كتبه ولا أرسل رسله إلا للنهي عن الشرك كما قال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وآيات كثيرة في ذلك، وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ فهذا أعظم مقصد من مقاصد بعثات الرسل على تعدد الأزمان؛ فكيف يقال إنه تباح الدعوة إلى ما يناقض ذلك، وأنه يحق لكل أحد التعبير عن ذلك ونشره بين الناس؟ ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ..»(14). فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مأموراً بقتال الناس من أجل توحيد الله تعالى؛ فكيف يقال: ينبغي أن تعطى للكافر الحرية ليدعو إلى كفره وشركه أو مناقضة ما هو معلوم من دين الإسلام؟(4/421)
وقد عمل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ومَنْ بعدَهم من أهل العلم بما دل عليه الكتاب والسنة؛ فقد جاء في الشروط العمرية(15)، التي تؤخذ على أهل الذمة: «ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً»، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في شرح هذه الفقرة من الشروط العمرية: «هذا من أوْلى الأشياء أن ينتقض العهد به»(16)؛ فبين ـ رحمه الله ـ أن العهد ينتقض بذلك؛ وانتقاض العهد يحل دمه وماله. وذكر في الفروع أن العهد ينتقض بـ «ذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء»(17)، وكذلك الأمر لو «فتن مسلماً عن دينه»(18)، وبعض أهل العلم يقول: ينبغي على الإمام أن يشترط عليهم أن من فعل ما تقدم ذكره ينتقض عهده، وإن لم يشترط ذلك في العقد فلا ينتقض عهده بذلك، ويعللون ذلك بأن من دينهم سب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسب الإسلام، لكنهم يمنعون من إظهار ذلك؛ فأهل العلم متفقون على منعهم من إظهار الطعن في ديننا والانتقاص له، والخلاف بينهم هل يُعَدُّ ذلك منهم نقضاً للعهد حتى لو لم يشترط عليهم في أصل العقد، أم لا يكون ناقضاً إلا بالاشتراط(19)؛ فقد دلت الآيات والأحاديث ومقاصد الدين وكلام أهل العلم على عدم جواز السماح للكفار بنشر أقوالهم أو أفكارهم المناقضة للإسلام، فلا ينبغي أن يسمح لهم بذلك، ولا تجوز معاونتهم فيه؛ لأن التعاون المشروع هو التعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان. قال الله ـ تعالى ـ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ}[المائدة: 2]، وقد دلت النصوص أن من عاون أو ساعد في ذلك فله من جرمهم نصيب. قال الله ـ تعالى ـ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]، ولكن هذا لا يمنع من مناقشة الكافرين ودعوتهم إلى الإسلام ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وسماع ما عندهم من شبهات أو اعتراضات تصرفهم عن الدين، والجواب عنها، ولا مانع من أن تُعقد جلسات لذلك بين الدعاة المسلمين وبين المدعوين الكفار لعرض الإسلام عليهم وبيان حقائقه ومزاياه، لكن هذا لا يستلزم السماح لهم بنشر أفكارهم المخالفة للإسلام والدعوة إليها بوسائل النشر المعلومة؛ إذ لا ارتباط بين دعوتهم إلى الإسلام وبين السماح لهم بعرض ما عندهم على الناس.
الموقف من فكر المسلم المخالف:
عندما نتكلم عن المسلم فإنما نتكلم عن الشخص الذي يُحكَم له بالإسلام شرعاً، وليس عمن هو مولود لأبوين مسلمين، أو من كان مسمى باسم من أسماء المسلمين؛ لأنه يوجد في وقتنا الحاضر أناس لهم أسماء إسلامية لكنهم اعتنقوا آراءً وأفكاراً خرجت بهم من حظيرة الإسلام؛ فالشخص الذي لا يرى الإسلام ناسخاً لما سبقه من الرسالات، ويرى أن المسلمين واليهود والنصارى كلهم مؤمنون وأنهم ناجون في الآخرة، وأن الاختلاف بينهم كالاختلاف بين المذاهب الفقهية، وكذلك الذي يرى أن الإسلام صالح فقط لحياة البداوة، وأنه قد استنفد أغراضه، وأنه لم يعد صالحاً للحياة المعاصرة، وكذلك الذي يرى أن الحدود الشرعية عقوبات غير مناسبة للعصر الحديث، وأنه ينبغي استبدالها، وكذلك الذي يرى أنه ينبغي المساواة بين الذكر والأنثى في قسمة الميراث، وكذلك الذي يرى أن الشاب أو الفتاة إذا بلغا سن الرشد فإن لكل منهما أن يقيم ما شاء من علاقات «جنسية» خارج إطار الزواج ولا حرج عليه أو لوم في ذلك، ونحو هذا الكلام؛ فإن كل هؤلاء قد خرجوا من حظيرة الإسلام باتفاق العلماء؛ لأنهم أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة، وإن كانت لهم أسماء إسلامية، وإن كانوا ما زالوا يؤمنون ببعض ما جاء به الشرع: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْملُون} [البقرة: 85]. ونحن هنا لا نتكلم عن هؤلاء؛ لأن هؤلاء يدخلون في الصنف الذي تقدم الكلام عنه، وإن كان هؤلاء من حيث الحقيقة لا يكون لهم وجود في دار الإسلام؛ لأن المرتد لا يُقَر على ردته؛ فإما أن يتوب ويرجع وإما أن يُقتل، وإنما يُتصور وجود هؤلاء: إما في بلاد الكفر، وإما في بلاد المسلمين التي لا تلتزم شرع الله، وأما في البلاد التي تلتزم شرع الله فإن هؤلاء يسرون ذلك الكلام ويخفونه، ولا يبوحون به إلا لأمثالهم؛ فهم في هذه الحالة منافقون. والمراد بحديثنا في هذه الفقرة المسلم المحكوم له بالإسلام شرعاً، وهنا أيضاً نقسم الفكر إلى نوعين:
نوع في مسائل الدين أو متعلق بمسائل الدين، ونوع متعلق بمسائل الدنيا البحتة:
الفكر الدنيوي:(4/422)
لا تلزم الشريعة المسلمين باتباع نمط واحد في الفكر الدنيوي ولا تحجر عليهم في ذلك، ولا تمنعهم من نشر ما لديهم من الأفكار النافعة المفيدة التى تنفع المسلمين في حياتهم الدنيا، ولا بأس من تحاور المسلمين في ذلك وعقد المناقشات أو الندوات والمؤتمرات التي يعرض فيها كلٌ ما عنده، وليس من اللازم أن يتفق المسلمون في هذا النوع من الفكر، ولا يلام أحد على الخلاف في هذا الباب، وليس في منع هذا النوع حجة شرعية يُستند إليها، كما أنه ليس في منعه فائدة دنيوية، ويجوز نشر هذا النوع من الفكر بوسائل النشر المتعددة، لكن ينبغي أن يكون ذلك من أجل تقديم شيء مفيد نافع أو الوصول إلى شيء مفيد نافع، وأن يتكلم الإنسان فيما يحسن من الأمور، وأن لا يكون الحديث أو النشر هو الغاية؛ إنما الغاية تحقيق مصلحة حقيقية من وراء ذلك، ولا يضر المسلم بعد ذلك الخطأ في هذا النوع من الفكر.
الفقه في الدين:
النوع الثاني من الفكر هو الفقه في الدين، وهو ليس فكراً بالمعنى المتداول بين الناس «أي تكوين آراء قائمة على التأمل في الواقع من خلال الخبرات المكتسبة وإعمال العقل انطلاقاً من تلك الخبرات»، وإنما الفقه هو: فهم المراد من نصوص الشرع ـ سواء أكانت النصوص تتعلق بمسائل الأصول أو بمسائل الفروع ـ وتقديم الآراء والحلول لما يجدُّ من أشياء وأمور استناداً إلى النصوص الشرعية والفقه فيها، والخلاف في فهم النصوص الشرعية أمر متصوَّر وممكن الحدوث، وقد وقع فعلاً، وله أنوع:
1 ـ خلاف في مسائل الأصول (العقيدة):
والعقيدة هي كل ما يجب على المسلم اعتقاده يقيناً من غير شك أو ارتياب ولا يجوز له مخالفته، والعقيدة التي تتمتع بذلك هي عقيدة «أهل السنة والجماعة» وهي ـ بحمد الله ـ مدونة مسطورة، محددة مضبوطة، وما خالف هذه العقيدة فهو البدعة كبدعة الخوارج والمعتزلة والمرجئة والشيعة والجهمية والروافض (وهاتان الأخيرتان قد تكلم أهل العلم في تكفيرهما)، وقد نهى أهل العلم قديماً وحديثاً عن الجلوس إلى أهل البدع والاستماع لما هم عليه (وإن قلتَ: أرد عليهم؛ فقد تدخل عليك شبهتهم ولا تستطيع ردها فتصبح بعدها متحيراً مضطرباً).
قال في فتح القدير في قول الله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ} [الأنعام: 68]: «وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة؛ فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه، فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم(20)».
وإذا كان الدعاة إلى البدع ـ كما قرر أهل العلم من السلف والأئمة ـ لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون عقوبة لهم حتى ينتهوا عمّا هم فيه(21)؛ فكيف يجوز نشر بدعهم والسماح بذلك بزعم «حرية الفكر» أو «حق التعبير» أو «إشاعة ثقافة التعدد» أو «إطلاق روح الإبداع»، ومثل هذه العبارات التى لا يترتب عليها غير إفساح الطريق أمام الدعوات الضالة والمنحرفة عن الصراط المستقيم لتغزو العقول والنفوس، وتؤثر في الأفكار والتصورات لتنتج في النهاية مجتمعاً متناقضاً متعارضاً، لا يرجى منه نفع ولا يعوَّل عليه في تحقيق هدف.
فالدعوة إلى الضلال لا تجوز ويتحمل الداعي وزر ذلك، وكذلك المعِين على ذلك أو المساعد فيه، وقد قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(22).
وقد منع أهل العلم قديماً وحديثاً من نشر الأقوال المضلة، وقالوا بحرق أو إتلاف الكتب المشتملة على تلك العلوم الباطلة. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أوْلى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف، أو إتلاف آنية الخمر؛ فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها»(23). وقال النووي: «قال أصحابنا: ولا يجوز بيع كتب الكفر؛ لأنه ليس فيها منفعة مباحة، بل يجب إتلافها... وهكذا كتب التنجيم والشعوذة والفلسفة، وغيرها من العلوم الباطلة المحرمة؛ فبيعها باطل؛ لأنه ليس فيها منفعه مباحة والله ـ تعالى ـ أعلم»(24). وقد ظهر في عصرنا الحاضر عدد من البحوث التي تدعو إلى مذهب المرجئة وتنتصر له، فأفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية في السعودية بعدم جواز نشر هذه الكتب أو طباعتها.
ومن الأدلة على عدم جواز نشر أفكار البدع والضلالات الكثرة الكاثرة من النصوص الشرعية التي تُلزم المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكيف يكون هناك تقيد والتزام بتلك النصوص مع القول بجواز نشر البدع تحت زعم «حرية النشر» و «حق التعبير» ونحو ذلك الكلام؟(4/423)
ومن الأدلة أيضاً قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعدما تلا قوله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم»(25)؛ فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أمرنا بالحذر منهم؛ فكيف يُعطَوْن الحق في التعبير أو نشر ما حذَّر منه الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
وينبغي أن نشير هنا إلى أن المسلم قد يقع في مسألة أو مسألتين أو نحو ذلك، فيخالف بذلك مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يعد بذلك مبتدعاً؛ لأنه لم يؤسس أقواله تلك على أصول أهل البدع، ولم يتخذ البدعة له منهجاً، وإنما وقع فيها من قبيل الخطأ؛ فلا يعد ميتدعاً إلا من يؤسس أقواله على أصول أهل البدع. لكن هذا الموقف إنما هو من الشخص القائل. أما الموقف من القول المبتدع فلا يتغير، بل يجب رده وعدم نشره أياً كان الموقف من قائله، وقد يبدو لبعضهم هنا أن يقول: لماذا لا تُترك لهم حرية نشر أفكارهم وآرائهم على الناس، ثم يُرد عليها ويُبين ما فيها من خطأ، ولا شك أن هذا الكلام يروِّجه بعضهم، وينظرون إليه على أنه من قبيل حرية الفكر، وأن نشر هذا الكلام أوْلى من جعله ينبت في السر والخفاء، لكن هذا القول معارَض بما كان عليه سلفنا الصالح؛ إذ الفتاوى المشهورة عنهم بهجر أصحاب البدع وعدم الجلوس إليهم والاستماع لهم. ثم إن هذا العمل ليس فيه فائدة سوى التشويش على بعض الذين لم ترسخ عندهم الحقائق، إضافة إلى إضاعة الوقت، ولهذا لا نرى صواب ما تقوم به بعض وسائل النشر والإعلام من عمل المناظرات والمقابلات بين من يحملون العلم الشرعي، وبين من يناقضون ذلك ويتمسكون بالأقوال المخالفة له؛ إذ لا فائدة ترجى من وراء ذلك؛ فلم نر أن أحداً على كثرة هذه المناظرات رجع عن مقالاته الفاسدة، وكل ما هنالك أنه تمكن من إسماع باطله لعدد كبير من الناس، ثم إنه قد يتأثر بباطله بعض أصحاب العقول الضعيفة، ولسنا نمانع من إجراء هذه المناظرة وأمثالها؛ ولكن ليس عن طريق النشر في وسائل الإعلام لما يترتب على ذلك من المفاسد التي تزيد عن المصالح المتوقعة. أما إذا لم يكن هناك طريق فعال للرد على تلك الأباطيل غير ذلك؛ فهل يجوز أن نشارك في الرد على أهل الباطل، ومناظرتهم في تلك الوسائل؟ والذي يظهر أن جواب ذلك مرتبط بالمصلحة حسبما تقرر في فقه السياسة الشرعية.
2 ـ خلاف في مسائل الفروع (الخلاف الفقهي):
وهو نوعان: خلاف تنوع وخلاف تضاد. والمراد بخلاف التنوع: هو خلاف في أمور متعددة كلها مشروعة فيختار هذا نوعاً، ويختار ذلك نوعاً آخر، ولا حرج في ذلك. ويلحق بالخلاف في ذلك الاختيارات المتعددة المتعلقة بأمور الدنيا، وهذا النوع لا يُحظر نشره والدعوة إليه بين الناس، وليس من شروطٍ في هذا غير عدم البغي على الآخرين. والمراد بخلاف التضاد: هو التناقض بين الأقوال، وهو أيضا نوعان:
- فخلاف تضاد ضعُفَ فيه أحد القولين ضعفاً كبيراً لمخالفته النص أو الإجماع أو نحوه، ومثل هذا القول يُنقَض؛ فلو حكم به حاكم نُقض حكمه. وما كان سبيله هذا السبيل فلا يجوز نشره والدعوة إليه والاستدلال له ممن يرى صوابه، وإن جازت حكايته لبيان خطئه وبعده عن الصواب. يقول شيخ الاسلام: «فإن الأئمة الأربعة متفقون على أنه إنما يُنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو معنى ذلك»(26).
- وخلاف تضاد لم يضعف فيه قول من الأقوال بحيث يُرَدُّ؛ ومسائل هذا النوع يعبر عنها أهل العلم بمسائل الاجتهاد؛ فهذا النوع من الخلاف لا يمنع نشره والدعوة إليه، ومن رأى صواب شيء من الأقوال فله نشر ذلك والدعوة إليه، وعلى ذلك جرى الحال منذ أيام الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إلى يومنا هذا، يختلفون في كثير من هذا النوع من المسائل ولا يحجر بعضهم على بعض أو يبدِّع بعضهم بعضاً أو يفسق بعضهم بعضاً؛ مع الحفاظ على الأخوة والمحبة والألفة. وهكذا يتبين أنه ليس عندنا مشكلة تتعلق بحرية الفكر أو حق التعبير؛ فكل ما يسوغ القول به أوالعمل في الشريعة فلا منع ولا حرج من نشره والدعوة إليه، ولكن كثيراً من القوم يريدون منا تحت زعم «حرية الفكر» أو «حق التعبير» أو «إشاعة ثقافة التعدد» أن نبيح ما لا يباح وأن نتجاوز ما لا يجوز تجاوزه.
وقد سئل شيخ الإسلام عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد؛ فهل ينكر عليه أم يُهجَر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين فاجاب: «الحمد لله: مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه، ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين. والله أعلم»(27).(4/424)
وينبغي أن يُعلم أن التقليد هنا رخصة، ولا يجوز لمستعملها أن يدعو إلى ما تضمنه وينافح عنه ويستدل له، إنما يقوم بذلك من كان لديه علم بالأدلة؛ أما من ليس عنده غير التقليد فإنه لا ينبغي له أن ينشر؛ لأنه ليس من أهل ذلك، ولو تقيد الناس بذلك لقل كثير من الكلام الدي يُنشر؛ لأنه ليس من أهل العلم. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد؛ فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء»(28)، وقال: «مسائل الاجتهاد لا يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل؛ فهذا خلاف إجماع المسلمين(29)».
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوِّز «شركة الأبدان» فهل يجوز له منع الناس؟ فأجاب: «ليس له منع الناس من ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك»(30).
وينبغي هنا التفريق بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ إذ بعض الناس يستخدمون اللفظين على أنهما مترادفان؛ ومسائل الخلاف أوسع أو أعم من مسائل الاجتهاد؛ فمسائل الخلاف تشمل المسائل التي اختلف فيها المسلمون سواء أكان هذا الخلاف سائغاً أو غير سائغ، وأما مسائل الاجتهاد فإنما تتناول أو تشمل المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف.
آداب النشر:
وفي الدعوة إلى مسائل الاجتهاد أو نشرها ينبغي مراعاة أمور كثيرة حتى يكون العمل نافعاً مفيداً من غير أن يترتب عليه ضرر؛ فمن ذلك:
ـ عدم البغي أو الاستطالة على المخالف، واتهامه في نيته، والبحث له عن زلات أو عيوب خارجة عن نطاق الموضوع. ومنه أن تكون المرجعية والمحاججة لكتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وليس لفلان؛ فإذا وقف الأمر عند حد المحاججة بالرجال فينبغي أن ينتهي الحديث عند ذلك. ومن ذلك العلم؛ فلا يتكلم في شيء إلا إذا علمه صحيحاً من مصادره الصحيحة، وليس لمجرد كلمة يقرؤها من هنا وكلمة من هناك، ثم ينصب نفسه للدعوة والمجادلة. ومن ذلك عدم إهدار ما عند الآخرين من الخير والفضل من أجل الخلاف في هذه المسائل، ومن ذلك عدم التفسيق أو التبديع؛ لأن هذه المسائل ليست من مسائله. ومن ذلك أن يكون الحرص على الاتفاق لا على تأكيد الخلاف، ومن ذلك أن تبقى الأخوة والمودة والتناصح والتعاون على الخير حتى مع استمرار الخلاف.
لكن هناك مسألة ينبغي النظر إليها، وهي ما إذا كان الشخص قد جمع بين الأمرين: بين فساد في بعض مسائل الاعتقاد أو الأقوال الفقهية الشاذة، وبين جودة رأي في بعض المسائل الأخرى؛ فهل يسمح له بحرية النشر في المجال الذي أجاد فيه؟ وهذه المسألة قد تطرَّق لشبيه لها من بعض الوجوه علماء الحديث من قبل فيما يخص جواز التحديث عن أهل البدع؛ فبعض أهل العلم رأى أن مجال الرواية هو على الأمانة والصدق والضبط، فإذا كان الرجل أميناً صادقاً ضابطاً فلا حرج من التحديث عنه، وعليه بدعته.
ورأى آخرون أن يترك حديثه لئلا يكون في التحديث عنه إشهار لأمره وتعديل له وتزكية. وفصَّل آخرون وقالوا: إن كان ما يرويه يدعم بدعته ويؤيدها فلا يقبل، وإلا فلا مانع من التحديث عنه بشرط الصدق والضبط.
والذي يترجَّح لديَّ أن هذه المسائل تعد من مسائل السياسة الشرعية التي لا يترجَّح فيها قولٌ واحدٌ على طول الزمن، وإنما هو تابع للمصلحة الشرعية في كل عصر؛ فإن كان يوجد من بين المسلمين سليمي العقيده من يغني عما عنده من جودة فكر ورأي؛ فلا أرى تمكينه من النشر ومخاطبة الناس، وإن كان لا يوجد من يغني عنه، فلا مانع من النشر له في هذا الباب فقط، والمسألة من قبل ومن بعد مسألة اجتهادية.
________________________________________
(1) تفسير ابن جرير 82/62.
(2) تفسير ابن جرير 5/123.
(3) انظر منهاج السنة لابن تيمية 3/2، (طبعة أنصار السنة بالقاهرة).
(4) مجموع الفتاوى 91/671، وانظر الموافقات للشاطبي 3/712 ـ 812.
(5) تفسير ابن جرير رحمه الله 62/321.
(6) المصدر السابق 5/122.
(7) أخرجه البخاري كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، رقم 585، واللفظ له، ومسلم 1/882.
(8) أخرجه البخاري (3/391 فتح الباري).
(9) ذكره ابن حجر 8/85 فتح الباري.
(10) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/315) وقال: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، وأخرجه أبو داود 4/202.
(11) أخرجه البخاري، باب فضل سورة البقرة.
(12) تفسير القرطبي 1/043.
(13) تفسير القرطبي 8/992.
(14) متفق عليه.
(15) العمرية: نسبة إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي وردت عنه تلك الشروط، وأهل الذمة هم الكفار الذين يقيمون بدار الإسلام بعد التزامهم بأحكام أهل الذمة.
(16) أحكام أهل الذمة 3/4521.
(17) الفروع 6/752.
(18) التنبيه 1/932، وانظر منار السبيل 1/582.
(19) انظر في تفصيل ذلك أحكام القرأن، للجصاص 4/572، أحكام أهل الذمة، لابن القيم 3/7531.
(20) فتح القدير 2/821.
(21) انظر مجموع الفتاوى 82/702.
(22) اخرجه مسلم، باب من سن سنة حسنة 4/0602.(4/425)
(23) الطرق الحكمية، ص، 235.
(24) المجموع شرح المهذب (91042).
(25) أخرجه البخاري 4/5561 ومسلم 4/3502.
(26) مجموع الفتاوى (72/403).
(27) مجموع الفتاوى (2/702).
(28) مجموع الفتاوى (53/212).
(29) مجموع الفتاوى (53/232).
(30) مجموع الفتاوى (03/08).
البيان السنة التاسعة عشرة * العدد 206* شوال 1425هـ * نوفمبر/ديسمبر 2004م
==============
حكم الإقامة في بلاد الكفر في هذا العصر
الحمد لله وبعد .
بداية أشكر الأخ أبو عمر السمرقندي على طرق هذا الموضوع الهام جدا .
ستكون مشاركتي بطرح الفتاوى المعاصرة المتعلقة بالموضوع .
وإذا وجدت بحثا يتعلق بالمسألة فلا شك أنه سيوضع مباشرة .
وكما نعلم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره والفتاوى المعاصرة تتحدث عن واقع معاصر . والله أعلم .
1 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=714
لا تجوز الإقامة ببلاد الكفار إلا لضرورة أو مصلحة راجحة
2 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=1204
لا يصح طلب جنسية دولة كافرة إلا لضرورة
3 - http://63.175.194.25/index.php?ln=ara&ds=qa&lv=browse&QR=14235&dgn=3
حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم ؟
4 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=1818
لا يجوز السفر إلى بلاد الكفر لقصد التنزه
5 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=1620
إن استطعت إكمال الدراسة في بلدك فهو أفضل
6 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=2007
لا تجوز الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد غير المسلمين إلا في حال الضرورة
7 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=7517
دار الإسلام ودار الحرب
8 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=3732
حكم التجنس والإقامة في دولة كافرة والانخراط في جيشها
9 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=3562
حكم الارتحال عن بلد مسلم
10 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=5045
تجوز الإقامة في بلاد الكفار إذا كانت لغرض الدعوة
11 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=6341
من يدرس ويقيم في أماكن مختلطة كيف يحفظ صيامه ؟
12 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=25591
حكم إقامة الفتاة في سكن جامعي في دولة كافرة
13 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=12716
حكم السفر لبلاد الكفر لأجل الزواج
14 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=16686
الهجرة على ثلاثة أضرب
15 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=15708
شروط جواز إعانة مريد الهجرة إلى بلاد الكفر
16 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=15784
الإقامة في بلاد الكفر لأجل الدعوة جهاد
17 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=17601
قد توجد حالات تجعل السكن في بلاد الكفر أفضل
18 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=18886
نوعية الضرورة تحدد جواز الحلف لأخذ الجنسية من عدمه
19 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=18462
كيف يحتاط المسلم لدينه في بلاد الكفر
20 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=20063
هل ترخص الهجرة لديار الكفر لتحسين المعيشة
21 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=20969
رغبة الأب في دراسة ابنه في ديار الكفر...نظرة شرعية
22 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=21567
العذر القاهر يرفع إثم الإقامة في بلاد الكفار
23 - http://islamweb.net/pls/iweb/fatwa.showSingleFatwa?FatwaId=23444
الاستدلال بحديث (أنا بريء من...) في محله
24 - http://www.darislam.com/home/esdarat/dakhl/alaam/data/65.htm
بحث : التجنس بجنسية غربية .
وهو جمع ليس به بأس .
25 - http://www.abubaseer.bizland.com/books/download/b33.zip
الهِجْرَةُ مسائِلٌ .. وأحكام . تأليف : عبد المنعم مصطفى حليمة " أبو بصير " .
- ملفات صوتية :
25 - http://www.islamway.com/arabic/images/lessons//othymeen//mafased1.rm
مفاسد السفر إلى بلاد الكفر . محمد بن صالح العثيمين . الجزء 1
http://www.islamway.com/arabic/images/lessons//othymeen//mafased2.rm
مفاسد السفر إلى بلاد الكفر . محمد بن صالح العثيمين . الجزء 2
كتبه
عَبْد اللَّه زُقَيْل
================
قواعد في فقه السياسة الشرعية
محمد بن شاكر الشريف(4/426)
الصلاح والفساد نقيضان، وضدان لا يلتقيان، وإذا كانت السياسة ـ كما تدل على ذلك لغة العرب ـ تعني الإصلاح والاستصلاح؛ فإن ذلك لا يتم ولا يكتمل إلا بإزالة أو دفع نقيضه أو ما يضاده، ومن هنا يتبين أن السياسة الكاملة لا تتحقق إلا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد ودرئها وتعطيلها. والسياسة المطلقة هي التي تقوم بذلك في الأمور الدنيوية والأخروية، لجميع الخليقة عوامهم وخواصهم، فيما يظهر من أفعالهم وأقوالهم، وفيما يبطنون من ذلك، وهذه السياسة المطلقة، أو السياسة الكاملة الشاملة لا يقوم بها إلا رسول يوحى إليه من رب السموات والأرضين، ويتبعه في ذلك خلفاؤه الذين يقتدون بسنته. وأما جهود البشر المبتوتة عن الوحي، فلا تتعدى ـ مهما بلغوا من المعرفة والتقدم ـ تدبير أمور المعاش، وإصلاح معاملات الناس فيما بينهم في ظواهرهم على حسب ما يظهر لهم من علومهم القاصرة. قال التهانوي في بيان أنواع السياسة: «وفي كليات أبي البقاء ما حاصله: أن السياسة المطلقة هي إصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، على الخاصة والعامة في ظواهرهم وبواطنهم، وهي إنما تكون من الأنبياء، وتسمى مطلقة؛ لأنها في جميع الخلق، وفي جميع الأحوال، أو لأنها مطلقة أي كاملة من غير إفراط ولا تفريط. وأما من السلاطين وأمرائهم فإنما تكون على كل منهم في ظواهرهم، ولا تكون إلا منجية في العاجل؛ لأنها عبارة عن إصلاح معاملة الناس فيما بينهم، ونظمهم في أمور معاشهم، وتسمى سياسة مدنية، وأما من العلماء الذين هم ورثة الأنبياء حقاً على الخاصة في بواطنهم لا غير، أي لا تكون على العامة؛ لأن إصلاحهم مبني على الشوكة الظاهرة، والسلطنة القاهرة، وأيضاً لا تكون على الخاصة في ظواهرهم؛ لأنها منوطة بالجبر والقهر، وتسمى سياسة نفسية»(1).
ومن هذا النقل يتبين أن السياسة تقسم بحسب مجالها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: سياسة نفسية: ومجالها باطن الإنسان (أي قلبه) وعملها إصلاح الباطن وتهذيب النفوس، ودرء المفاسد والغوائل عن القلوب، وهذه يقوم بها العلماء الربانيون الذين يَُعنَوْن بإصلاح القلوب وتربية النفوس وتهذيبها.
النوع الثاني: سياسة مدنية: ومجالها ظاهر الناس فقط وما يتعلق بحياتهم، وعملها إصلاح ظواهرهم بتدبير أمور معاشهم، وإصلاح معاملاتهم، وإقامة شؤون اجتماعهم وعمرانهم، وهذه يقوم بها الولاة والأمراء والسلاطين والملوك والرؤساء؛ فإذا كانت هذه السياسة «مفروضة من العقلاء، وأكابر الدولة وبصرائها، كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية»(2).
النوع الثالث: سياسة مطلقة أو كاملة، ومجالها باطن الإنسان وظاهره، وهي تشمل النوعين السابقين، وهذه التي يقوم بها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ثم من يخلفهم ويمشي في ذلك على طريقتهم، وهم الخلفاء الراشدون في كل عصر ومصر. ومن الجدير بالذكر أن جميع أنواع السياسة المقيدة بالشرع تدخل تحت مسمى السياسة الشرعية، وإن كانت السياسات الثابتة بالنص القرآني تسمى سياسة إلهية، والثابتة بالسنة تسمى سياسة نبوية، وذلك تمييزاً لها وبياناً لمصدرها المباشر. ومن البين أن السياسة التي يكون مصدرها المباشر هو الاجتهاد المبني على الكتاب والسنة هي أيضاً من السياسة الشرعية. ونستطيع هنا أن نميز مصادر السياسة الشرعية أو الأدلة العامة لها وهي: الكتاب، السنة، وسياسة الخلفاء الراشدين، وأخيراً الاجتهاد الصحيح المبني على ما تقدم.
الدين والسياسة:(4/427)
ويتبين مما تقدم أن الدين كله سياسة لإصلاح الحياة الدنيا ودرء المفاسد عنها، وكذلك لإصلاح الآخرة ودرء المفاسد عنها. واللغة العربية لغة القرآن تصدِّق ذلك؛ فقد جاء في كتاب الغريب: «الدين: المُلك والسلطان، قال الله ـ تعالى ـ: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76]، أي في سلطانه وملكه»(3)، وفي لسان العرب: «دِنْته أَدِينُه دَيْناً: سُسْته، ودِنته: مَلَكْتُه، ودَيَّنْتُه القومَ: ولَّيته سياستهم»(4)، وقال ابن الجوزي: «الشريعة سياسة إلهية» (5)، وقد كتب ابن تيمية ـ رحمه الله ـ رسالة في السياسة الشرعية، قال في أولها: «فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة الإلهية». وبيَّن ـ رحمه الله ـ أنها «مبنية على آية الأمراء في كتاب الله»(6)، فسماها: سياسة إلهية، وهو ما يكون دليلاً واضحاً على أن السياسة التي يُعتد بها شرعاً هي السياسة التابعة للشريعة، وأما السياسة المخالفة للشرع، وإن بدا لبعضهم أنها محققة لبعض المصالح، فهي ليست بسياسة على الحقيقة، وإن سُميت بذلك؛ فإن العبرة بالحقائق وليس بالأسماء؛ فإذا كان الاسم يخالف الحقيقة، فلا قيمة له ولا عبرة به، ذكر ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ «أن عضد الدولة كان يميل إلى جارية، فكانت تشغل قلبه، فأمر بتغريقها، لئلا ينشغل قلبه عن تدبير الملك» وعلق على ذلك بقوله: «وهذا هو الجنون المطبق؛ لأن قتل مسلم بلا جُرم لا يحل، واعتقاده أن هذا جائز كفر، وأن اعتقاده غير جائز، لكنه رآه مصلحة، فلا مصلحة فيما يخالف الشرع»(7)، وقد نقل ابن مفلح في الفروع قوله: «أكثر السلاطين يعملون بأهوائهم وآرائهم لا بالعلم، ويسمون ذلك سياسة، والسياسة هي الشريعة»(8).
الاجتهاد في السياسة الشرعية:
وإذ يتبين مما تقدم أن السياسة الكاملة تقوم على جلب مصالح الدارين، ودفع المفاسد والغوائل عنهما، فإن المصالح والمفاسد. منها ما هو معلوم مُدرَك بالنصوص كمصلحة العبادات من صوم وصلاة وحج وزكاة، ومثل تناول الطيبات من المطعومات والمشروبات، ومثل ستر العورات، واجتناب النجاسات ونحو ذلك، وكذلك المفاسد منها ما هو معلوم مُدرَك بالنصوص كالربا، وشرب الخمر، والسرقة، وقتل النفس بغير حق، والظلم، ونحو ذلك.
ومن المصالح والمفاسد ما هو مدرَك بالاجتهاد لا سيما أن منها ما هو متجدد بتجدد الأزمان ويختلف باختلاف ظروف المكان. والمصالح والمفاسد المدرَكة بالاجتهاد يدخل الخطأ في إدراكها وتصويرها وتحققها في آحاد وأفراد الصور الواقعة كثيراً؛ فقد يُظن ما ليس بمصلحة (حقيقية) مصلحة ينبغي تحصيلها، وقد يظن في الجانب المقابل ما ليس بمفسدةٍ (حقيقية) مفسدةً ينبغي دفعها وإزالتها، ويعظُم هذا الخلط والاضطراب عندما لا تتميز المصالح من المفاسد، فتكون المصلحة المطلوب تحصيلها تكتنفها مفسدة أو عدة مفاسد، وكذلك قد تكون المفسدة المطلوب دفعها مختلطة بمصلحة أو عدة مصالح، ولا يمكن دفعها على الانفراد، فيكون في دفعها دفعاً لتلك المصالح؛ لذلك فإن الفقه في هذا الباب لا يصلح أن يُقْدِم عليه المبتدئون أو الشادون في الفقه، وإنما هو في حاجة إلى فقهاء متضلعين تضلعاً كاملاً في فقه الشريعة بمعناه الشامل، إضافة إلى الخبرة الواسعة بالواقع، ولعلنا في هذه المقالة نعرج على بعض القواعد الفقهية التي تضبط هذا الأمر؛ فمن ذلك:
القاعدة الأولى: لا ضرر ولا ضرار:
وهي قاعدة عظيمة، بل من أعظم قواعد الفقه في السياسة الشرعية، وعليها تنبني فروع فقهية كثيرة يعسر حصرها في هذا المقال، ومستند هذه القاعدة ودليلها نص حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ضرر ولا ضرار»(9).
معنى الضرر والضرار:
الضرر والضرار قيل: هما لفظتان بمعنى واحد على وجه التأكيد، ويقال: الضرر الذي لك فيه منفعة وعلى غيرك فيه مضرة، والضرار الذي ليس لك فيه منفعة وعلى غيرك المضرة، وقيل: الضرر أن تضر بمن لا يضرك، والضرار أن تضر بمن أضر بك، لا على سبيل المجازاة بالمثل والانتصار للحق، بل على سبيل الإضرار والانتقام، وقد علق ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ على تلك الأقوال بقوله: «والذي يصح في النظر ويثبت في الأصول أنه ليس لأحد أن يضر بأحد سواء أضر به قبلُ أم لا، إلا أنَّ له أن ينتصر ويعاقب إن قدر، بما أُبيح له من السلطان، والاعتداء بالحق الذي له مثل ما اعتدي به عليه، والانتصار ليس باعتداء ولا ظلم ولا ضرر، إذا كان على الوجه الذي أباحته الشريعة»(10).
تفسير القاعدة:(4/428)
الضرر والضرار الواردان في الحديث وردا لفظين نكرتين في سياق النفي مما يفيد الاستغراق والعموم، وهذا معناه نفي سائر أنواع الضرر ابتداءً أو مجازاة؛ فالضرر لا تبيحه الشريعة لأحد، ولا تشرعه، وهذا يعني أن كل ما جاء في الشرع مشروعيته فليس بضرر وإن كان فيه إزهاق الانفس أو هلاك الأموال؛ وانطلاقاً من ذلك فإن الضرر يُمنع في جميع مراحله، فيمنع قبل وقوعه، عند توقع حدوثه وتوفر الدواعي لذلك؛ وذلك كالإجراءات، أو التنظيمات والترتيبات الوقائية التي يكون من شأنها منع الضرر جملة، أو تضييق مجاريه، وتقليل إمكانية حدوثه، فتحديد المناطق الصناعية المقلقة، أو التي ينتج عنها غازات سامة، أو روائح كريهة بالنسبة للتجمعات السكنية من السياسة الشرعية، وكذلك تنظيم المرور بما يسهل حركة الناس والحياة، ويمنع الأضرار الناتجة عن ترك الناس يسيرون كيفما شاؤوا، فذلك أيضاً من السياسة الشرعية.
كما أن من السياسة الشرعية القائمة على منع الضرر قبل وقوعه إعداد العدة المستطاعة من القوة التي ترهب عدو الله وعدو المسلمين وتخيفهم كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
ويمنع الضرر أثناء وقوعه، وذلك بمدافعته، وعدم الاستسلام له والإذعان، وينبني على ذلك فروع كثيرة كرد المعتدي، ومدافعة العدو الصائل ومقاتلته؛ فقد «جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار»(11)، ويمنع الضرر بعد وقوعه، وهذا التعبير فيه نوع غرابة؛ إذ كيف يمنع، وهو قد وقع؛ وذلك يُتَصَوَّرُ إمكانيته في صورتين:
الصورة الأولى: العقوبات المشروعة على المعاصي والمخالفات؛ فإن تشريع العقوبات وتقريرها على محدثي الضرر ومرتكبيه تكون عظة وعبرة للآخرين؛ بحيث يمثل ذلك ردعاً وزجراً يمنع من تكراره أو يقلل من فرص حدوثه، على حد ما جاء في قوله ـ تعالى ـ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، ولا تجوز المجازاة أو العقوبة على الضرر بإحداث ضرر مثله على المعتدى، لا فائدة منه للمعتدى عليه؛ فمن أفسد شيئاً أو أتلفه لا تكون عقوبته بإفساد شيء مثله عليه إذا أمكن تعويض المُعتدى عليه؛ لأن الإفساد في هذه الحالة فيه مزيد من الإفساد والإضرار بدون فائدة منه، وإنما تكون عقوبته بأن يصلح ما أفسد، أو يعوض عنه بمثله إذا لم يمكن الإصلاح، فإذا تعذر ذلك ولم يمكن، فإنه يُفعل به مثل ما فعل بلا زيادة، فإن في هذا إراحة لقلب المظلوم المعتدى عليه إلا أن يعفو؛ فمن أفسد حياة إنسان عمداً، فإن المعتدي لا يستطيع أن يصلح ما أفسد برد الحياة مرة أخرى، كما أنه لا يستطيع أن يعطي مثله، فتكون عقوبته في هذه الحالة أن يفسد عليه القاضي حياته، إلا إذا تنازل صاحب الحق (ولي الدم).
الصورة الثانية: إزالة آثار الضرر عن طريق التعويضات المشروعة التي تجعل الضرر كأن لم يكن، أو تخفف آثاره إلى أقصى حد ممكن؛ فقد روى البخاري «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: كلوا، وحبس الرسول [أي الخادم] والقصعة، حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة، وحبس المكسورة»(12).
مبادرة الضرر عند أول ظهوره:
ومنع الضرر يستوجب مبادرته سواء قبل حدوثه وعند توقع ذلك، أو أثناء حدوثه، أو بعد حدوثه، عند القدرة على ذلك، ولا يتأنى به؛ فإن التأني في ذلك، وترك المبادرة ربما أدىا إلى استفحاله؛ بحيث يخرج عن السيطرة وعدم القدرة على إزالته، أو قد يحتاج إلى جهود مضاعفة عما كان يحتاج إليه لو دُفع أول أمره، وهذه كانت سياسة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في تعامله مع المرتدين؛ فإن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ بادر في دفع ذلك الضرر العظيم، ولم يتأنَّ في ذلك، ولم يستمع في ذلك إلى رأي أو مشورة من أحد؛ إذ أدرك ببصيرته الإيمانية أن كل يوم يمضي بدون مواجهتهم يكون قوة للمرتدين وضعفاً للمسلمين، فبادرهم، وقصدهم إلى أماكنهم، ولو قدر لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أن يقبل مشورة من أشار بالتريث في ذلك فلربما تغير وجه التاريخ.
القاعدة الثانية: الضرر يُدفع بقدر الإمكان:
ويندرج تحت قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» قواعد أخرى، منها: أن الضرر يدفع بقدر الإمكان؛ فإذا كان لا بد من دفع الضرر وإزالته ـ كما تقدم بيانه ـ فإنه يُدفع ويُسعى في إزالته بقدر الإمكان؛ فمهما أمكن دفعه من الضرر دُفع؛ فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله؛ فإذا أمكن دفع الضرر كله من غير أن يبقى شيء منه دُفع، وإلا فإنه يُدفع منه ما أمكن دفعه.
القاعدة الثالثة: احتمال أخف الضررين:(4/429)
عند دفع الضرر أو السعي في إزالته، قد لا يتيسر ذلك إلا بالوقوع في ضرر آخر، وهنا يتحتم علينا إذا أردنا إزالة الضرر أن نقع في ضرر آخر، والمقصود دفع الضرر بالكلية؛ فإذا تعذر ذلك ولم يمكن، فإنه يحتمل أخف الضررين، فإذا كان الضرر المدفوع يزيد عن الضرر المترتب على ذلك دُفع، وإن كان الضرر المترتب أعلى من الضرر المدفوع، لم يدفع الضرر في هذه الحالة، ولا يمكن أن يقال: إذا ترتب على دفع الضرر ضرر آخر لم يدفع الضرر حتى وإن كان الضرر المترتب أقل من الضرر المدفوع؛ لأن هذا يخالف قاعدة السعي في إزالة الضرر، وقد عبر أهل العلم عن تلك القاعدة بقاعدة «احتمال أخف الضررين» أو «أهون الشرين» أو «تُدفع المفسدة العظمى باحتمال أدناهما» أو نحو ذلك من تلك العبارات، وهذه القاعدة لها فروع كثيرة، وقد جاء بعضها في السياسة الإلهية؛ فمن ذلك ما فعله الخضر ـ عليه السلام ـ عندما خرق السفينة؛ فقد كان في خرقه لها ضرر، ولكنه فعل ذلك ليدرأ ضرراً أشد، وهو مصادرة السفينة من قِبَل الملك الظالم الذي كان يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، فخرقُ السفينة ضرر لا شك فيه، ولكنه بلا شك أقل ضرراً من ضياع السفينة كلها، فلم يمكن إزالة الضرر الكبير إلا باحتمال الضرر الأقل، والشيء نفسه يقال في قتله للغلام، وهذه وتلك من السياسة الإلهية؛ لأن الخضر ـ عليه السلام ـ قال لموسى ـ عليه السلام ـ بعدما بيَّن له وجه هذه التصرفات: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82].
القاعدة الرابعة: إذا اجتمعت المصلحة والمفسدة فالعمل على أرجحهما:
هناك من الأمور ما لا تكون فيها المصلحة خالصة، أو المفسدة خالصة بل يجتمع الأمران في آن؛ بحيث لا يمكن التعامل مع أي منهما على انفراد، فلا تُحصَّل المصلحة إلا بتحصيل المضرة، ولا تُزال المضرة أو تدفع إلا بإزالة المصلحة ودفعها، فإن كانت المصلحة أرجح من المضرة؛ فإن المصلحة تُحَصَّل، وإن أدى ذلك إلى تحصيل المضرة؛ لأنها تنغمر إلى جانب المصلحة الأكبر، وإن كانت المضرة أرجح فإنها تدفع، وإن أدى ذلك إلى دفع مصلحة هي أقل من المضرة شأناً.
ومن فروع تلك القاعدة فداء أسرى المسلمين بالمال؛ فتحرير الأسارى المسلمين من أيدي الكفار مصلحة، بينما ذهاب جزء من أموال المسلمين إلى الكفار مفسدة، لكن مصلحة تحرير أسرى المسلمين أرجح من مفسدة ذهاب جزء من أموال المسلمين إلى الكفار فترجح، ويدخل في ذلك تبادل الأسرى، وإعطاء بعض المؤن للكفار إذا لم يمكن توصيل المؤن للمسلمين المحاصرين إلا بذلك الطريق، ونحو ذلك من المسائل. وقد لخص ابن تيمية ـ رحمه الله ـ الكلام في هذه القاعدة بكلام بديع فقال: «الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما» إلى أن يقول ـ رحمه الله ـ: «وهذا باب التعارض باب واسع جداً، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة؛ فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة؛ فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم؛ فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر، وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء»(13).
والفقه الصحيح في هذا الباب الذي يترتب عليه تقديم ما يستحق التقديم، وتأخير ما حقه التأخير، وتحصيل ما حقه أن يحصل، ودفع ما حقه أن يدفع، يحتاج إلى علم صحيح بمراتب الأعمال ودرجاتها وتفاوتها، فيميز بين الضار والأشد ضرراً، والضار الخالص الذي ليس فيه نفع، والضار الذي يصحبه نفع، ويميز بين الصالح والأشد صلاحاً، والصالح الذي ليس فيه مفسدة، والصالح الذي تخالطه المفسدة، ويوازن بين الصلاح وبين الضرر عند الاختلاط، فيعرف أرجحهما وأخطرهما، ويعمل على مقتضى ذلك بحسب ما تقدم من القواعد.
أخف الضررين والفهم الخاطئ:(4/430)
يظن كثير ممن لم يحقق الأمور ويدققها أن أخف الضررين هو أيسرهما وأسهلهما في بادي الرأي؛ بقطع النظر عن أية ضوابط أخرى، والمراد بأخف الضررين هو ما كان أخف الضررين بالمعيار الشرعي، وليس بالمعيار النفسي أو العاطفي؛ فقد يكون أخف الضررين شرعاً هو الأشد أو الأصعب فيما يظهر؛ فقد منع قوم الزكاة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ قتالهم، ورأى غيره ترك قتالهم ومحاولة تألُّفهم(14)، وقد يرى الرائي من بعيد أنَّ نَصْبَ القتال أمر شديد، وأن الأيسر منه ترك القتاك مع محاولة تألُّفهم، وأن هذا هو الأخف ضرراً، وهو أهون الشرين، لكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ رفض ذلك وأبى أشد الإباء، وكان القتال عنده أخف الضررين وأهون الشرين، حتى إنه ـ رضي الله عنه ـ لم يقبل مشورة من أشار عليه، وأقسم بالله العظيم بقوله: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه»(15)، والعقال: الحبل الذي توثق به الإبل؛ فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لا ينصب القتال على حبل لا قيمة له في ذلك الزمان؛ لكن الأمر كان متعلقاً بالخروج على الدين والامتناع عن التزام بعض أحكامه، وقد أجمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بعد تردد قصير على صواب رأي أبي بكر، وحمدوا له موقفه ذلك؛ وهذا مما يدل على إجماع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على أن نصب القتال لمن أبى التزام شرائع الله أو بعضها أخف ضرراً من تسويغ مخالفة الشريعة والخروج عليها؛ فأخف الضررين ليس المراد به القبول بالأمر الواقع المخالف للشريعة، والإذعان له، ولكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ ومعه الصحابة ـ إذ أخذ هذا القرار؛ فقد أعد العدة لذلك، وجهز الجيوش ورتبها وأشرف عليها، حتى لا يكون هناك تقصير في الأخذ بالأسباب؛ ولذلك فقد كلل الله جهود الصحابة بالنجاج، وأغلق على المسلمين باباً عظيماً من أبواب الفتنة، لو فُتح لضاع الدين.
القاعدة الخامسة: مراعاة المآل واعتباره:
والمراد بالمآل ما ينتهي إليه الأمر ويصير إليه في عقباه، فلا ينبغي للإنسان أن يهجم على فعل الشيء أو الإحجام عنه بمجرد ما يظهر منه من الصلاح أو الضرر في بادي الرأي؛ بل ينبغي أن ينظر في مآله وعاقبته؛ فقد يكون الأمر ظاهره الفساد، وعاقبته ومآله غير ذلك، وقد يكون الأمر ظاهره الصلاح وعاقبته أيضاً غير ذلك، ونحن هنا لا نتكلم عن المآل الذي هو غيب عنا مما يقدره الله؛ فإن هذا مما لا سبيل إلى معرفته ومن ثم عدم القدرة على مراعاته، وإنما مرادنا التبصر في الأمور لإدراك الدلائل والقرائن الخفية المقترنة بالأمر ـ التي لا تبدو لأول وهلة ـ التي يتبين منها أن مآل الأمر يختلف عن مباديه، واختلاف المآل مع الابتداء يتصور من وجهين:
الأول: من جهة التصرف نفسه، وهذه ينبغي مراعاتها.
الثاني: من جهة مخالفات الناس وتقصيرهم ووقوعهم في المعاصي، وهذه لا تُراعى بإطلاق، ولا تُهمل بإطلاق، بل لكل حالة موقف خاص بها.(4/431)
فمن الجهة الأولى ما ورد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة: «لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون»(16)؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- نظر في مآل هذا التصرف الصحيح المطلوب، فوجد أن العرب قد ينفرون من ذلك لحداثة عهدهم بالكفر، فكفه هذا المآل عن ذلك التصرف الذي لم يكن فعله واجباً على الفور، ولذلك ترجم عليه البخاري بقوله: «باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه» قال ابن حجر: «وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا»(17)، ومن ذلك أيضاً عدم قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمنافقين وتعليل ذلك بقوله: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»(18)، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر ـ رضي الله عنه ـ عندما أراد قتل ابن صياد ـ على أساس أنه الدجال ـ قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن يكُنْهُ فلن تسلط عليه، وإن لم يكنهُ فلا خير لك في قتله»(19)، ومن ذلك ما فعله الخضر ـ عليه السلام ـ من إقامته للبيت الذي يريد أن ينقضَّ على ما هو مذكور في سورة الكهف، ومن ذلك قبول توبة المحارب غير المقدور عليه وإسقاط العقوبات عنه؛ فإن عدم قبول توبته وعدم إسقاط العقوبات يدعوه إلى مزيد الإفساد وسفك الدماء ونهب الأموال، فإذا كان هذا المحارب غير مقدور عليه فإن ذلك يزيد من خطره وضرره؛ بينما قبول توبته وإسقاط العقوبة عنه يدعوانه إلى المبادرة إلى التوبة والكف عن جرائمه. وبالنظر إلى ذلك المآل جاء التشريع بإسقاط العقوبة عن المحارب غير المقدور عليه إذا تاب كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34].
ومن الجهة الثانية: جهة تقصير الناس ووقوعهم في المعاصي:
قد يفعل المسلم ما يستوجب إقامة الحد عليه، وإن إقامة الحد قد تدفع المحدود إلى الهرب إلى دول الكفر، واللحاق بهم، وبالنظر إلى هذا المآل؛ فإن كان تحقُّق ذلك ممكناً قوياً في الواقع، فإن الحد يؤخَّر إلى حين انتفاء ذلك، وإن كان تحققه بعيداً، فلا يلتفت إليه؛ لأن ذلك الالتفات في مثل هذه الحالة مبطل للحدود كلها، وفي ذلك جاء التشريع بعدم إقامة الحدود في دار الحرب؛ فقد ورد قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقطع الأيدي في الغزو»(20)، قال الترمذي ـ رحمه الله ـ:«والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي لا يرون أن يقام الحد في الغزو بحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو؛ فإذا خرج الإمام من أرض الحرب، ورجع إلى دار الإسلام، أقام الحد على من أصابه».
القاعدة السادسة: تقديم الأهم أو الأوْلى:
الأمور ليست كلها على وِزان واحد؛ فبعضها مهم وبعضها أكثر أهمية، وبعضها نتائجه أعظم وفضله أكثر، والقدرة على تحقيقه في الواقع أقوى، فإذا تعارضت الأمور وتضايقت، ولم يمكن تحقيقها جميعاً، إما لضيق الوقت، وإما للعجز عن القيام بذلك كله، وإما للتعارض، فإنه يقدم في ذلك الأهم أو الأوْلى ثم الذي يليه وهكذا، ويتحدد الأوْلى من خلال عدة عناصر: الفضل والأهمية، والنتائج المتوقعة، والقدرة على التحقيق والتنفيذ؛ فقد يكون أمر أفضل من أمر، لكن لا قدرة على تحقيقه، فيكون البدء بتنفيذ الأقل فضلاً في هذه الحالة أوْلى للقدرة على التنفيذ؛ وقد دل على تقديم الأوْلى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ عندما بعثه داعياً إلى اليمن: «إنك تقدُم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله...الحديث»(21).
إذ توحيد الله وعبادته وترك الشريك أوْلى قضية في الإسلام، وليس هناك من فائدة لعبادة أخرى من صلاة أو زكاة أو حج أو غير ذلك، إذا فُقِدَ ذلك الأصل؛ لذا كانت هذه القضية هي الأوْلى والأهم، ولذا كانت لها الأوَّلية في الدعوة.
وقد يتفق كثير من الناس على أصل تلك المقولة، لكنهم يختلفون في تنزيلها على الواقع، فيكون ما حقه التقديم عند جماعة مؤخراً عند غيرهم، والعكس صحيح، ويمكن أن تقسم الأولويات في هذا الصدد إلى نوعين: أولويات مطلقة، وأولويات نسبية.
الأولويات المطلقة والنسبية:
أما المطلقة فهي المتعلقة بالإسلام نفسه كالدعوة إلى التوحيد وأركان الإسلام، وكالنهي عن الشرك وكبائر الذنوب، وهذه يحتاج إليها في جميع الأزمان والأمكنة.(4/432)
وأما الأولوية النسبية فهي تختلف باختلاف ظرفي الزمان والمكان؛ فقد ينتشر جهل بقضية شرعية في مكان وينتشر الجهل بقضية أخرى في مكان آخر، فيكون الأوْلى في كل مكان الحديث عن القضية التي يحتاجها، وقد ينتشر فساد في مكان وينتشر فساد آخر في مكان آخر، فيكون الأوْلى في النهي عن الفساد في كل مكان الفساد المنتشر فيه. وتقديم الأهم أو الأوْلى لا يعني التقليل من أية شعيرة أو شريعة جاءت بها النصوص ولو كانت في باب السنن والمستحبات، كل ما هنالك أن ننزل هذه الأمور المنزلة التي أنزلها الشارع؛ بحيث لا يكون في ذلك تعدّ أو تجاوز للشرع، كما لا يكون تفريط أو تقصير عنه، وقد قسَّم أهل العلم أمور الشرع ومصالح العباد إلى ثلاث مجموعات:
أولاها: الضروريات، وثانيها: الحاجيات، وثالثها: التحسينات. فالضروري مقدم عند التعارض على الحاجي، وكذلك الحاجي مقدم على التحسيني.
تلك بعض القواعد في فقه السياسة الشرعية، وهي قواعد نظرية، من الممكن معرفتها لكثير من طلبة العلم، وأما تطبيقها وتحقيق مناطها في الواقع، فلا يقدر عليه إلا العلماء الربانيون،
________________________________________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي 664 ـ 665.
(2) ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص 170.
(3) الخطابي: غريب الحديث 1/ 551 ـ 552.
(4) ابن منظور: لسان العرب، مادة دين 13/170.
(5) تلبيس إبليس، ص 188.
(6) السياسة الشرعية، ص 4 ـ3.
(7) تلبيس إبليس، ص 188.
(8) الفروع 6/ 386.
(9) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/66) ، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأخرجه أحمد في المسند رقم 2719 (1/313) وقال محققه الشيخ شعيب الأرناؤوط: حسن. وابن ماجه، كتاب الأحكام رقم 2331.
(10) التمهيد، لابن عبد البر 2/160.
(11) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، رقم 201.
(12) أخرجه البخاري كتاب المظالم والغصب رقم 2301.
(13) مجموع الفتاوى، 20/ 48 ـ 58.
(14) انظر أحكام القرآن للجصاص، 4/271.
(15) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، رقم 6741، ومسلم كتاب الإيمان، رقم 29.
(16) أخرجه البخاري، كتاب العلم، رقم 1123، ومسلم، كتاب الحج، رقم 3371.
(17) فتح الباري، (3/ 448).
(18) أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، رقم 4525، ومسلم كتاب البر والصلة، رقم 3682.
(19) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، رقم 1267، ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 5215.
(20) أخرجه الترمذي، كتاب الحدود، رقم 1370، وقال: هذا حديث غريب. وأبو داود، كتاب الحدود، رقم 3828، وقد صححه الألباني: صحيح أبي داود، رقم 3708.
(21) البخاري، كتاب الزكاة، رقم 1365، ومسلم، كتاب الإيمان رقم 28.
السنة التاسعة عشرة * العدد 201* جمادى الأول 1425هـ * يونيو/يوليو 2004م
==============
حكم الاحتفال بأعياد الكفار
* أولا ما معنى العيد؟
العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك فالعيد يجمع أمورا:ـ
* منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة
*ومنها اجتماع فيه
*ومنها أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات
*وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقا,وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا
فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا
والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمكان كقوله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا.
وقد يكون لفظ العيد اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب كقول النبي صلى الله عليه وسلم دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا.
*و أعياد الكفار:ـ كثيرة مختلفة وليس على المسلم أن يبحث عنها ولا يعرفها بل يكفيه أن يعرف في أي فعل من الأفعال أو يوم أو مكان أن سبب هذا الفعل أو تعظيم هذا المكان والزمان من جهتهم ولو لم يعرف أن سببه من جهتهم فيكفيه أن يعلم أنه لا أصل له في دين الإسلام فإنه إذا لم يكن له أصل فإما أن يكون قد أحدثه بعض الناس من تلقاء نفسه أو يكون مأخوذا عنهم فأقل أحواله أن يكون من البدع,
* فمن ذلك الخميس الحقير الذي في آخر صومهم فإنه يوم عيد المائدة فيما يزعمون ويسمونه عيد العشاء وهو الأسبوع الذي يكون فيه من الأحد إلى الأحد عيدهم الأكبر,
*ومن ذلك ما يفعله كثير من الناس في أثناء الشتاء في أثناء كانون الأول لأربع وعشرين خلت منه ويزعمون أنه ميلاد عيسى عليه السلام ,
*وكذلك أعياد الفرس مثل النيروز والمهرجان وأعياد اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار أوالأعاجم والأعراب,
*حكم موافقتهم فى أعيادهم:ـ
و موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين,
الطريق الأول العام :ـ(4/433)
هو ما من أن هذا موافقة لأهل الكتاب وعموم الكفار فيما ليس من ديننا ولا عادة سلفنا فيكون فيه مفسدة موافقتهم وفي تركه مصلحة مخالفتهم حتى لو كانت موافقتهم في ذلك أمرا اتفاقيا ليس مأخوذا عنهم لكان المشروع لنا مخالفتهم لما في مخالفتهم من المصلحة لنا كما هو معام من الدين, فمن وافقهم فقد فوت على نفسه هذه المصلحة وإن لم يكن قد أتى بمفسدة فكيف إذا جمعهما,(المفسدة ومشابة الكفار)
ومن جهة أنه من البدع المحدثة وهذه الطريق لا ريب في أنها تدل على كراهة التشبه بهم في ذلك فإن أقل أحوال التشبه بهم أن يكون مكروها وكذلك أقل أحوال البدع أن تكون مكروهة ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد مثل قوله صلى الله عليه وسلم من تشبه بقوم فهو منهم فإن موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقا وكذلك قوله خالفوا المشركين ونحو ذلك مثل ما ذكرناه من دلالة الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الدلائل المعاومة من الكتاب والسنة,
وأما الطريق الثاني الخاص:ـ
في نفس أعياد الكفار فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار
أما الكتاب:ـ فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله تعالى:( والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما)الأية..
فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى (والذين يشهدون الزور) قال هو الشعانين
وكذلك ذكر عن مجاهد قال هو أعياد المشركين
وكذلك عن الربيع بن أنس قال هو أعياد المشركين
وفي معنى هذا ما روي عن عكرمة قال لعب كان لهم في الجاهلية
وقال القاضي أبو يعلى مسألة في النهي عن حضور أعياد المشركين
وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن الضحاك في قوله تعالى:( والذين لا يشهدون الزور) قال أعياد المشركين
وبإسناده عن أبي سنان عن الضحاك(والذين لا يشهدون الزور) كلام الشرك
وبإسناده عن جويبر عن الضحاك (والذين لا يشهدون الزور) قال أعياد المشركين
وروى بإسناده عن عمرو بن مرة (لا يشهدون الزور) لا يمالئون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم
وبإسناده عن عطاء بن يسار قال قال عمر إياكم ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم,
*وأما السنة:ـ
*الحديث الأول:ـ فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال ما هذان اليومان قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر رواه أبو داود بهذا اللفظ ورواه أحمد والنسائي وهذا إسناد على شرط مسلم,
فوجه الدلالة أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما
كقوله تعالى:(أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) وقوله تعالى:(وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل) وقوله تعالى:( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم)
وقوله تعالى:(ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب)
ومنه الحديث في المقبور فيقال له:" أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به خيرا منه مقعدا في الجنة ويقال للآخر انظر إلى مقعدك من الجنة أبدلك الله به مقعدا من النار"
فقوله صلى الله عليه وسلم قد أبدلكم الله بهما خيرا يقتضي ترك الجمع بينهما لا سيما قوله خيرا منهما يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية,
وايضا فقوله لهم إن الله قد أبدلكم لما سألهم عن اليومين فأجابوه إنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضا بيومي الإسلام إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسبا إذ أصل شرع اليومين الواجبين الإسلاميين كانوا يعملونه ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية
وفي قول أنس ولهم يومان يلعبون فيهما وقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما دليل على أن أنسا رضي الله عنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم أبدلكم بهما تعويضا باليومين المبدلين,
الحديث الثاني:ـ ما رواه أبو داود عن ثابت بن الضحاك قال:" نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم"
أصل هذا الحديث في الصحيحين وهذا الإسناد على شرط الصحيحين وإسناده كلهم ثقات مشاهير وهو متصل بلا عنعنة , وبوانة بضم الباء الموحدة موضع قريب من مكة(4/434)
قوله فأوف بنذرك تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء وذلك يدل على أن الوصف هو سبب الحكم فيكون سبب الأمر بالوفاء وجود النذر خاليا من هذين الوصفين فيكون وجود الوصفين مانعا من الوفاء ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به,
فقول النبي صلى الله عليه وسلم هل بها عيد من أعيادهم يريد اجتماعا معتادا من اجتماعاتهم التي كانت عندهم عيدا فلما قال لا قال له أوف بنذرك,
وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم مانع من الذبح بها وإن نذر كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك وإلا لما انتظم الكلام ولا حسن الاستفصال,
ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو لمشاركتهم في التعييد فيها أو لإحياء شعار عيدهم فيها ونحو ذلك إذ ليس إلا مكان الفعل أو نفس الفعل أو زمانه , وإن كان النهي لأن في الذبح هناك موافقة لهم في عمل عيدهم فهو عين مسألتنا إذ مجرد الذبح هناك لم يكره على هذا التقدير إلا بموافقتهم في العيد إذ ليس فيه محذور آخر,
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان وأعياد الكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد,و هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها ومعلوم أنه لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محا الله ذلك عنه فلم يبق شيء من ذلك,
ومعلوم أنه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد لأن المقتضى لها قائم من جهة الطبيعة التي تحب ما يصنع في الأعياد خصوصا أعياد الباطل من اللعب واللذات ومن جهة العادة التي ألفت ما يعود من العيد فإن العادة طبيعة ثانية وإذا كان المقتضى قائما قويا فلولا المانع القوي لما درست تلك الأعياد, وهذا يوجب العلم اليقيني بأن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كان يمنع أمته منعا قويا عن أعياد الكفار ويسعى في دروسها وطموسها بكل سبيل وليس في إقرار أهل الكتاب على دينهم إبقاء لشيء من أعيادهم في حق أمته صلى الله عليه وسلم,
والحديث الثالث:ـ ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا وفي رواية يا ابا بكر إن لكل قوم عيدا وإن عيدنا هذا اليوم
وفي الصحيحين أيضا أنه قال دعهما يا ابا بكر فإنها أيام عيد وتلك الأيام أيام منى
قوله: إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم كما أنه سبحانه لما قال:(ولكل وجهة هو موليها) وقال:(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا),أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم وذلك أن اللام تورث الاختصاص فإذا كان لليهود عيد وللنصارى عيد كانوا مختصين به فلا نشركهم فيه كما لا نشركهم في قبلتهم وشرعتهم, وكذلك أيضا على هذا لا ندعهم يشركوننا في عيدنا.
ومن هذا الباب حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب رواه أبو دواد والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح,
فإنه دليل على مفارقتنا لغيرنا في العيد والتخصيص بهذه الأيام الخمسة لأنه يجتمع فيها العيدان المكاني والزماني ويطول زمنه وبهذا يسمى العيد الكبير فلما كملت صفة التعييد حصر الحكم فيه لكماله أو لأنه هو عيد الأيام وليس لنا عيد هو ايام إلا هذه الخمسة,
والوجه الرابع من السنة:ـ أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته وكان اليهود بالمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد هادنهم حتى نقضوا العهد طائفة بعد طائفة وما زال بالمدينة يهود وإن لم يكونوا كثيرا فانه صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي وكان في اليمن يهود كثير والنصارى بنجران وغيرها والفرس بالبحرين,
ومن المعلوم أن هؤلاء كانت لهم أعياد يتخذونها ومن المعلوم أيضا أن المقتضي لما يفعل في العيد من الأكل والشرب واللباس والزينة واللعب والراحة ونحو ذلك قائم في النفوس كلها إذا لم يوجد مانع خصوصا نفوس الصبيان والنساء وأكثر الفارغين من الناس, ثم من كان له خبرة بالسير علم يقينا أن المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يشركونهم في شيء من أمرهم ولا يغيرون لهم عادة في أعياد
الكافرين بل ذلك اليوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين يوم من الأيام لا يختصونه بشيء أصلا, ثم على هذا جرى عمل المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين,
غاية ما كان يوجد من بعض الناس ذهاب إليهم يوم العيد للتنزه بالنظر إلى عيدهم ونحو ذلك فنهى عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة عن ذلك, بل لما ظهر من بعض المسلمين اختصاص يوم عيدهم بصوم مخالفة لهم نهى الفقهاء أو كثير منهم عن ذلك لأجل ما فيه من تعظيم ما لعيدهم,(4/435)
الوجه الخامس من السنة:ـ ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد" متفق عليه.
وفي لفظ صحيح بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له.
وعن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم " رواه مسلم
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة عيدا في غير موضع ونهى عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد,
ثم إن في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى واللام تقتضي الاختصاص,
ثم هذا الكلام يقتضي الاقتسام إذا قيل هذه ثلاثة أثواب أو ثلاثة غلمان هذا لي وهذا لزيد وهذا لعمرو أوجب ذلك أن يكون كل واحد مختصا بما جعل له لا يشركه فيه غيره,
فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت أو عيد يوم الأحد خالفنا هذا الحديث وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي إذ لا فرق بل إذا كان هذا في عيد يعرف بالحساب العربي فكيف بأعياد الكافرين العجمية التي لا تعرف إلا بالحساب الرومي القبطي أو الفارسي أو العبري ونحو ذلك,
*ومن الدلائل أيضا(الاجماع):ـ
ما جاء في شروط عمر رضي الله عنه: التي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام وسموا الشعانين والباعوث فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها فكيف يسوغ للمسلمين فعلها أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهرا لها,
وذلك أنا إنما منعناهم من إظهارها لما فيه من الفساد إما لأنها معصية أو شعار المعصية وعلى التقديرين فالمسلم ممنوع من المعصية ومن شعائر المعصية ولو لم يكن في فعل المسلم لها من الشر إلا تجرئة الكافر على إظهارها لقوة قلبه بالمسلم فكيف بالمسلم إذا فعلها فكيف وفيها من الشر ما فيها؟؟,
وقد جاء من رواية أبي الشيخ الأصبهاني عن عطاء بن يسار هكذا رأيته ولعله عطاء بن دينار قال قال عمر إياكم ورطانة الأعاجم وإن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم,
وروى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار قال قال عمر لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلو على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم, وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد يعرض لعقوبة ذلك وأشد,
وبالإسناد عن الثوري عن عوف عن الوليد أو أبي الوليد عن عبد الله ابن عمرو قال من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة, وهذا يقتضي أنه جعله كافرا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار وإن كان الأول ظاهر لفظه فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية,
وروى بإسناده عن البخاري صاحب الصحيح قال قال لي ابن أبي مريم أنبأنا نافع بن يزيد سمع سليمان بن أبي زينب وعمرو بن الحارث سمع سعيد ابن سلمة سمع أباه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال اجتنبوا أعداء الله في عيدهم,و قوله اجتنبوا أعداء الله في عيدهم نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه فكيف بمن عمل عيدهم,
*ومن أقوال الفقهاء:ـ
لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود نص عليه أحمد في رواية مهنا واحتج بقوله تعالى:(والذين لا يشهدون الزور) قال الشعانين وأعيادهم , وقال إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم,
وقال الخلال في جامعه باب في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين,
وقال بن تيمية: لا يتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك بل ينهى عن ذلك فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب إجابة دعوته,
ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم في مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر صومهم,
وكذلك أيضا لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد لا سيما إذا كان مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه
ولا يبيع المسلم ما يستعين المسلمون به على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك لأن في ذلك إعانة على المنكرات,
*وأما الاعتبار في مسألة العيد والمنع من مشابهة الكفار فيها فمن وجوه :ـ (وهو الرابع)(4/436)
أحدها أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه:( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاج) وقال :(لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر, والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به بين الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة, وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار ونحوه من علاماتهم فإن تلك علامة وضعية ليست من الدين وإنما الغرض منها مجرد التمييز بين المسلم والكافر وأما العيد وتوابعه فإنه من الدين وهذا أمر ملعون هو واهله فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه,
الوجه الثاني من الاعتبار أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله لأنه إما محدث مبتدع وإما منسوخ وأحسن أحواله ولا حسن فيه أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس,(وهو منسوخ)
الوجه الثالث من الاعتبار يدل أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيدا حتى يضاهى بعيد الله بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر كما قد سوله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام فيما يفعلونه, مما يصير به مثل عيد المسلمين بل البلاد المصاقبة للنصارى التي قل علم أهلها وإيمانهم قد صار ذلك أغلب عندهم وأبهى في نفوسهم من عيد الله ورسوله على ما حدثني به الثقات ويؤكد صحة ذلك ما رأيته بدمشق وما حولها من أرض الشام مع أنها أقرب إلى العلم والإيمان,(هذا الكلام يذكره بن تيمية من زمنه فالله المستعان وعليه التكلان)
فهذا الخميس الذي يكون في آخر صوم النصارى يدور بدوران صومهم الذي هو سبعة أسابيع وصومهم وإن كان في أوائل الفصل الذي تسميه العرب الصيف وتسميه العامة الربيع فإنه يتقدم ويتأخر ليس له حد واحد من السنة الشمسية كالخميس الذي هو في أول نيسان بل يدور في نحو ثلاثة وثلاثين يوما لا يتقدم أوله عن ثاني شباط ولا يتأخر أوله عن ثاني آذار بل يبتدئون من الاثنين الذي هو اقرب إلى اجتماع الشمس والقمر في هذه المدة ليراعوا التوقيت الشمسي والهلالي
وكل ذلك بدع أحدثوها باتفاق منهم خالفوا بها الشريعة التي جاءت بها الأنبياء فإن الأنبياء ما وقتوا العبادات إلا بالهلال وإنما اليهود والنصارى حرفوا الشرائع تحريفا ليس هذا موضع ذكره
ويلي هذا الخميس يوم الجمعة الذي جعلوه بإزاء يوم الجمعة التي صلب فيها المسيح على زعمهم الكاذب يسمونها جمعة الصلبوت ويليه ليلة السبت التي يزعمون أن المسيح كان فيها في القبر وأظنهم يسمونها ليلة النور وسبت النور ويصنعون مخرقة يروجونها على عامتهم لغلبة الضلال عليها ويخيلون إليهم أن النور ينزل من السماء في كنيسة القيامة ! التي ببيت المقدس حتى يحملوا ما يوقد من ذلك الضوء إلى بلادهم متبركين به وقد علم كل ذي عقل أنه مصنوع مفتعل,
ثم يوم السبت يطلبون اليهود ويوم الأحد يكون العيد الكبيرعندهم الذي يزعمون أن المسيح قام فيه,
ثم الأحد الذي يلي هذا يسمونه الأحد الحديث يلبسون فيه الجديد من ثيابهم ويفعلون فيه أشياء وكل هذه الأيام عندهم أيام العيد كما أن يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام وهم يصومون عن الدسم وما فيه الروح ثم في مقدمة فطرهم يفطرون أو بعضهم على ما يخرج من الحيوان من لبن وبيض ولحم وربما كان أول فطرهم على البيض,
***هذا والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على مجمد وآله وصحبه أجمعين***
وجمعه وكتبه الفقير الى عفو ربه تعالى…
د/ السيد العربى بن كمال
==============
سقوط ابن العلقمي على يد هولاكو
الأسباب - الدلالات - الآثار - الموقف
د. عوض بن محمد القرني
توطئة :
من هو ابن العلقمي ؟ ومن هو هولاكو ؟
إن التداعيات الذهنية لسقوط بغداد في أيدي البرابرة الأمريكيين استفزت الذاكرة لتستدعي من تلاففيها حدث سقوط بغداد سنة 656 هـ في قبضة البرابرة التتر الذين أبادوا أهلها ودمروا حضارتها وأحرقوا مكتباتها وكان ذلك الإجتياح بعد أن تسلط على حكومة بغداد في حينها مجرم يسمى (( ابن العلقمي )) كان وزيراً للخليفة الضعيف المستضعف الماجن (( المستعصم )) فسرح الجيش وظلم الناس وعزل الخليفة عن الرعية ونشر اللهو والإباحية والبدع .
ثم كاتب التتر وأطمعهم في بغداد وحسن لهم أخذها فلما قدموا وحاصروها خرج للتفاوض معهم واتفق معهم على مؤامرة تسليم بغداد واستباحتها وأخرج لهم الخليفة والعلماء بخدعة منه لهم فقبضوا عليهم وقتلوهم وفتح لهم أبواب بغداد ففعلوا فيها الأعاجيب .
أما هولاكو فهو قائد جيوش التتر سنة 656 هـ .
وما أشبه اليوم بالبارحة .
فها هو صدام حسين (( ابن العلقمي المعاصر )) .(4/437)
وها هو جورج بوش الرئيس الأمريكي (( هولاكو المعاصر )) .
وها هي بغداد الجريحة المستباحة هي هي .
وها هم تتر العصر (( الجيش الأمريكي )) يستباح تحت ظلال حرابهم كل شيء في بغداد .
فهل يمكن في ظل هذا التداعي لمخزون الذاكرة ألا يربط بين الحدثين وهما شبه متطابقان تماماً .
إن هذا الحدث الجلل الذي أصيبت به الأمة سيكون له أبلغ الأثر في مستقبلها والحديث عنه متعدد الجوانب متشعب النواحي عميق الدلالات ، وسأقف مع هذا الحدث من خلال الجوانب الآتية :
أولاً : ما الذي أوصلنا إلى هذه الكارثة ؟
ثانياً : ما هي العبر والدلالات التي نخرج بها من هذا الحدث ؟
ثالثاً : ما هي الآثار المتوقعة والمترتبة على هذا الحدث سواء كانت إيجابية أو سلبية ؟
رابعاً : ما العمل حيال هذا الحدث أو ما الموقف ؟
إننا في أشد الحاجة إلى مصارحة أنفسنا لمعرفة أسباب هذه الكارثة والبحث عن مخرج منها قبل أن تتكرر بصورة أسوأ في بلد آخر والمفترض أن الأمة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
أولاً : ما الذي أوصلنا لهذه الكارثة ؟
لقد جعل الله لكل شيء سبباً وإن الأحداث الجارية في واقعنا هي نتيجة لأمور سابقة لها على مقتضى سنن الله في الحياة وإن حدث الغزو والاحتلال الأمريكي الصليبي للعراق والتهديد لدول المنطقة كان نهاية ونتيجة للكثير من الأسباب التي أدت إليه ، وأقصد بالحدث جميع جوانبه من احتلال للعراق وانهيار لنظامه وخذلان الدول العربية له ومشاركة بعضها بصورة أو أخرى في عملية الغزو وسلبية الشعب العراقي حيال الحدث ومجيء بعض أبنائه تحت رايات أمريكا وما صاحب ذلك من تفاعلات شعبية وإعلامية على مستوى المنطقة .
ويجب أن نفرق بين الأسباب التي جعلت أمريكا تقوم بهذه الحرب الصليبية وبين الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة .
فالأولى : أسباب هي دوافع لأمريكا وقد سبق الحديث عنها في دراسة سابقة .
والثانية : هي أسباب أدت لحسم نتيجة المعركة بهذه الصورة ، وليس بأي صورة أخرى ، وهي ما سأتحدث عنه وعلى هذا فسيكون حديثي عن الأسباب التي من وجهة نظري أفرزت وشكلت الصورة النهائية للحرب ، وأهم هذه الأسباب هي :
1 - الهجمة الصليبية الاستعمارية في بداية هذا القرن التي مزقت جسم الأمة وأقامت بينها الحدود المصطنعة بإتفاقية سايكس بيكو الشهيرة ، وتحولت الأمة الواحدة إلى دويلات هزيلة متناحرة يدبر بعضها المؤامرات ضد البعض الآخر وتنفق من الأموال وتكدس من السلاح في الصراع بينها أضعاف ما تنفقه أو تستعد به لعدوها الخارجي ، وإن شئت أن تأخذ النظام البعثي نموذجاً فأمامك قائمة طويلة من الحروب مع شعبه وجيرانه ، وهكذا أصبح في أغلب الأقطار أنظمة وأحزاباً علمانية ما بين ليبرالية أو يسارية فاضطهدت الأمة وقتلت كرامتها وارتهنت لعدوها وحاربت دينها وتاريخها وقيمها حتى أصبحت الأمة أمماً يأكل بعضها بعضاً وذلت أمام عدوها وتوالت هزائمها في جميع الميادين فجاءت هزيمة نظام البعث في العراق في السياق ذاته ومحصلة نهائية للعوامل ذاتها التي تتكرر عبر هذا القرن في بلدان شتى وبصور مختلفة .
2 - الغزو الإستيطاني اليهودي الذي غرسه الغزو الصليبي الإستعماري في فلسطين في قلب الأمة وأحاطه بأنظمة هشة ضعيفة تحميه أكثر مما تشكل عليه خطراً وقد قام هذا الغزو الصهيوني بتمزيق المنطقة من خلال عملائه ومؤامراته واستنزف إمكاناتها من خلال الحروب والانقلابات والصراعات التي كان يدبرها إما مباشرة من خلال عملائه أو يدبرها بالوكالة عنه الأمريكان ومن قبلهم البريطانيون والغرب عموماً ، وما نظام البعث في العراق ومغامراته وكوارثه على الأمة إلا إحدى تلك الصور القاتمة التي لطخت وجه أمتنا وكانت آخر إنجازات ذلك النظام تلك الهزيمة النكراء أمام الزحف البربري الأمريكي ، والحقائق التي ستكشف يوماً ما ستبين مدى صلة أصحاب البطولات الزائفة من بعثيي العراق وغيرهم بالصهيونية وإسرائيل كما تبين حال أشياعهم الأولين ولكن بعد رحيلهم .
3 - الأنظمة العلمانية المفروضة على الأمة والجاثمة على صدرها من بدايات القرن والتي استنزفت خيرات الأمة وطاقاتها في بناء السجون والمعتقلات وشن الحروب على الجيران وبناء القصور وتكديس الأموال في المصارف العالمية وإنفاقها على الشهوات والموبقات وبناء الأجهزة الأمنية الكثيرة .
هذه الأنظمة التي مزقت الجبهة الداخلية للشعوب بشنها حرب لا هوادة فيها على دين الأمة وتاريخها وهويتها ومحاولة زرع هوية مستوردة وغرسها في المجتمع بالحديد والنار مما أفقد الأمة أي شعور بالانتماء لأوطانها والحكومات التي تحكمها وجعلها تقول لا فرق بين بوش أو شارون أو صدام حسين أو ... الخ .(4/438)
ولئن كانت هذه جريمة الأنظمة العلمانية فإن الأحزاب العلمانية التي لم تصل لسدة الحكم عبر الانقلابات العسكرية لم تقل عن الحكومات جرماً في تفتيت الجبهة الداخلية وشن الحرب القذرة على كل جميل في حضارتنا وتاريخنا والمحاولة الدؤوبة لجر أمتنا إلى واشنطن أو لندن وباريس بدلاً من مكة والمدينة ، وما ميشل عفلق مؤسس حزب البعث والذي ما زال يسبح بحمده كثير من مثقفينا إلا نموذجاً من حصاد الهشيم وركام الزيف الذي عانت منه أمتنا كثيراً والذي تتجرع الآن ثماره المرة من الزقوم والحنظل ، وهذه الأنظمة لم تتفق على شيء إلا على حرب شعوبها واضطهادها حيث أنه لم يفعّل بينها أي اتفاقيات إلا الاتفاقيات الأمنية ولم يلتئم شمل أي جهاز حكومي عربي على الحقيقة إلا وزارات الداخلية .
وإذا أردنا أن نفهم أسباب عجز النظام العربي القائم وعدم فاعليته ، فعلينا أن نتذكر أنه تصميم وتنفيذ فرنسي بريطاني ثم رعاية وتعهد أمريك سوفيتي وأن له وظيفة وقدرة وحدوداً لا يستيطع تجاوزها بناء على أصل تكوينه وحدود إمكاناته .
4 – تنحية شريعة الله عن الحكم ودينه عن التوجيه مما جعل الشعوب تعيش غربة قاتلة وفصاماً نكداً بين هويتها وقيمها وتاريخها وذاكرتها الحضارية وبين دساتيرها وقوانينها وإعلامها ورموزها السياسية والفكرية المفروضة عليها بالحديد والنار .
فتفككت المجتمعات بل وتناحرت فئات الأمة ونحي الشرفاء أو غيبو معنوياً أو مادياً وقاد الأمة في المواجهة من لا ترضى به ولا تطمئن له ولا يشعر هو نحوها بصلة ولا انتماء وبالتالي فقدت الصلة الروحية والوحدة المعنوية بين الشعب العراقي وحكومته ووقف يتفرج على الحرب وكأنها لا تعنيه ولم يقاتل إلا شراذم من ميليشيا صدام وأفراد من حزب البعث ليس لها رسالة ولا هدف ولا غاية تستحق القتال من أجلها (( ونحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله )) .
5 – الاستبداد السياسي والقمع الأمني والفساد الإداري والمالي الذي تعيشه الأمة العربية فأغلب الأمة مهمش وفئة قليلة يستأثرون بأمرها ويسومونها خسفاً ويتعاملون مع كل من يشتبه في تذمره أو عدم ولائه بأشد أنواع الاضطهاد والتعذيب والفساد الإداري يضرب أطنابه في أغلب جوانب الحياة أما النهب للأموال والثروات وإفقار النسبة العظمى من الأمة في مقابل الثراء الفاحش لفئة قليلة متسلطة أو منافقة قريبة منها فحدث ولا حرج كل ذلك جعل هذه الشعوب تبحث عن منقذ حتى لو كان الشيطان مع الأسف ومع طول السنين وتفاقم الاضطهاد والظلم والفقر والجهل يغيب الوعي وتختل الموازين وتصبح الشعوب تبحث عمن ينقذها من جزارها ولو كان جزاراً أشد وأنكى ولسان حالها يقول لم يعد هناك ما نخسره ولن يكون هناك أسوأ من هؤلاء .
ومع هذه الفجوة الهائلة بين النظام العراقي وشعبه فلم يستح طبالوا هذا النظام قبل الحرب بفترة وجيزة من أن ينظموا مسرحية هزيلة أسموها انتخابات رئاسية وزعموا أن الشعب انتخب صدام حسين بنسبة 100% وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم : (( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )) .
6 – السياسات الخاطئة الهوجاء التي انتهجها النظام العراقي البائد والتي أفقدته أي دعم أو تعاطف من أغلب شعبه ومن دول الجوار وكذلك تعاطيه المتغطرس مع أعدائه الذين كانوا ينفخون فيه الشعور الوهمي بالقوة والبطولة ويجرونه إلى كوارث إثر كوارث حتى آل به الأمر إلى هذا الفرار المخزي والهزيمة المذلة فلم يكن صدام حسين وزمرته لا بالأتقياء البررة ولا بالأقوياء الفجرة ، ومسكينة أمة يقودها هؤلاء الذي حين فاتهم أن يعيشوا أعزة لم يكن فيهم من الرجولة ما يجعلهم يموتوا كراماً ، لقد استولى الجيش الأمريكي على مئات الدبابات وآلاف المدافع والصواريخ وعشرات الطائرات لم تستعمل أبداً ، أفما كان يمكن أن يفعل بها شيء وبالذات أن الشمال العراقي كان صامداً والجنوب ما زال متماسكاً لكنه القانون الرباني { إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } (يونس:81) .
7 – التواطؤ المشين والاستخذاء المخزي لدول الجوار العراقي والذي مكن الصليبيين من غزو بلاد الرافدين عبر تلك البلدان إما براً وإما جواً وإما بحراً ولولا ذلك التواطؤ لما أمكن الجيوش الصليبية أن تغزو العراق بهذه الصورة ، نعم صدام حسين لم يدع له صديقاً حتى من أقرب الناس إليه رفقاء دربه وأزواج بناته ، لكن صدام حسين عرض زائل وبلاد العراق وطن إسلامي عربي لا يجوز لأحد من العرب والمسلمين إعانة أمريكا عليه ولو ببعض كلمة لكنه الخذلان ولئن كان من سنن الله أن من أعان ظالماً على ظلمه سلطه الله عليه فإن الدول العربية بتوجيه أمريكي أعانت صدام على ظلم إيران فانتقم الله منهم على يد صدام في حرب الخليج الثانية وها هم يعينون أمريكا على ظلم العراق ، وإني لأخشى أن ينتقم الله منهم على يد أمريكا انتقاماً مريعاً قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } (الأنعام:129) .
ثانياً : العبر والدلالات التي نخرج بها من هذا الحدث :(4/439)
إن ذوي العقول والبصائر هم الذي ينظرون في الأحداث على ضوء سنن الله في الحياة فيخرجون من تلك الأحداث بالعبر والدلالات التي ينطلقون منها لاستدراك فائت والاستعداد لقادم من خلال تعميق صواب وتقويم اعوجاج وتصحيح خطأ وإزالة باطل وإقرار حق ، قال تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ } (آل عمران:137) ، وقال تعالى : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } (الفتح:23) .
ومن العبر والدلالات والعظات التي ينبغي أن يقف عندها كل عاقل في هذا الحدث الأمور الآتية :
1 – أن الله سبحانه وتعالى قد جعل عاقبة الظلم والظالمين إلى البوار والهلاك والفساد ، وصدام حسين ونظام البعث قد مارسوا من الظلم وعاثوا في الأرض من الفساد ما تتقاصر دونه أخبار أعتى الظالمين وكبار المجرمين في التاريخ ولم يسلم من أذاهم حتى الشعوب المجاورة لهم وقد أمهلهم الله طويلاً حتى استكبروا وقالوا من أشد منا قوة ، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر على أيدي طغاة آخرين سيأتيهم القدر الرباني بعد ذلك .
قال تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } (يونس:13) .
وقال تعالى : { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً } (الكهف:59) .
وقال تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } (النمل:52) .
وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } (القصص:59) .
2 – أن استعباد الشعوب وإذلالها ونهب خيراتها وحكمها بغير دينها الذي ارتضاه الله لها يؤدي إلى بغض تلك الشعوب لظالميها وتخليها عنهم وإسلامهم لعدوهم أشد ما يكونون حاجة إلى من ينصرهم .
قال تعالى : { وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } (الشورى:8) .
3 – أن استسلام الشعوب للظلم والطغيان وعدم قولها للظالم يا ظالم ، وعدم أخذها على يد السفيه يؤدي حتماً إلى أن يعمها الله بعقاب من عنده فتفتقر بعد الغنى وتتفكك بعد الوحدة وتضعف بعد القوة ويسلط الله عليها من يسومها خسفاً من سفهائها أو أعدائها ، قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } (إبراهيم:28) .
4 - ضعف الأنظمة المستأسدة على شعوبها أمام العدو الخارجي وهشاشتها في مواجهته ، فها هي تنكشف في مواجهة أمريكا كما انكشف بعضها من قبل في مواجهة إسرائيل وكما قال الشاعر :
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تطير من صفير الصافر
5 – خطورة عدم تعرف الأنظمة والحكومات على حقيقة مواقف الشعوب ووجوب أن تتحسس حاجاتها وإلا تنخدع بما يزينه تجار الكلام ومنافقوا المنابر وبطانة السوء المتاجرون بمصالح الشعوب وأقواتها فها هم يعلنون لصدام حسين أن الشعب انتخبه بنسبة 100% وعند الاختبار الحقيقي لهذه الادعاءات تكشفت الحقائق المرة حين عبر الشعب العراقي عن فرحه الغامر ونشوته الجارفة بزوال الظلم عنه .
6 – تخلي عازفي المواكب وطبالي المناسبات وتجار المباديء عن أولياء نعمتهم حين زوال دولهم وبيعهم لسيدهم حين يتأكد من قدرة جزاره على اصطياده وإلا فأين ذهبت فرق الجيش المسلح وفيالق الحرس الجمهوري ومناضلوا الحزب وفدائيو صدام الذين يزيد عددهم عن نصف مليون ، فهاهم تخلوا عنه جميعاً قبل أن يصل عدد قتلاهم ألف قتيل ، وقبل أن يقتلوا من عدوهم مائة قتيل ، وهاهم شعراء مربد صدام ومن دبجوا في مدحه المقالات وألقوا بحضرته المعلقات وألفوا في عبقريته الموسوعات من مناضلي الصحف ومقاتلي الفنادق والبارات هاهم أول من يتذوق مرق نظام البعث وصدام حين قامت بطهيه العبقرية الأمريكية فشمتوا به ورموه بكل نقيصة يعلمونها عنه بل ورموه بما ليس فيه ، نعم هاهم يتظاهرون بصحوة الضمير وعودة الوعي على إيقاع وعزف رصاص الحرية الأمريكية وإن المغرور والله من اغتر بمثل هؤلاء .
7 – انكشاف ملامح المشروع العلماني بشكل واضح وبروز خطره في الترويج للأمركة تحت رداء الإصلاح والوطنية والتحرر والمطالب الشعبية نعم إنهم الطابور الخامس في داخل أمتنا من الأفاعي المتسللة خفية في ظلام الاستبداد إلى مواقع التأثير والتوجيه وحين تقع كارثة الغزو الأمريكي إذا بهم يتحولون إلى أبواق دعاية لأمريكا يحسنون وجهها القبيح ويبشرون بالعصر الذهبي للإنسان في ظل زمنها .
إنهم يمثلون الصفحات السوداء في تاريخ أمتنا المعاصر وسيسجل عليهم التاريخ أنهم جاءوا أدلاء وخدماً للأمريكي المستعمر .
وإن من الاستخفاف بعقولنا زعمهم أن أمريكا بذلت كل هذه الجهود لتحرير شعب العراق ، إن كل من يروج للعصر الأمريكي هو إما من الممسوخين فكرياً أو من العملاء سياسياً واستخباراتياً والأمة في كل تاريخها لم تخدع بهؤلاء ولن تخدع بهم بإذن الله .(4/440)
والبعض منهم عاد للعزف على ألحانهم القديمة فلم يجدو ما يتباكون عليه في العراق إلا سعدي يوسف أو البيّاتي الشيوعيان أو السيّاب المتنقل بين الشيوعية والقومية العلمانية ، قال تعالى : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (المطففين:14) .
8 – ظهور ضعف وهشاشة المنظومات القطرية والإقليمية في مواجهة الحدث فهاهي الدول العربية وهاهو مجلس التعاون الخليجي وها هي جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي تبدو عاجزة عن اتخاذ أي موقف حتى قريب من مواقف بعض الدول الأوربية أو السماح لشعوبها بالتعبير عن مواقفها وعواطفها في مواجهة العدوان .
وهذا الضعف المريع ما لم تتداركه الحكومات فإن سنة الله ماضية في ذهاب ريحها إن كان بقي لها ريح .
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
9 – افتضاح أكذوبة الشرعية الدولية وهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي التي أنشأتها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية والتي طالما تغنت بها ومارست جبروتها وطغيانها من خلالها لكنها حين تتعارض مع رؤاها تدوسها في زبالة التاريخ ولا تلقي لها بالاً مما يؤكد أن العالم هو عالم الوحوش وشريعة الغاب لكن ذلك يتم من خلال القتل بالقفزات الحريرية تحت مسمى الشرعية الدولية أو بالأسلحة الفتاكة تحت أي شعار آخر لا فرق .
10 – انهيار مزاعم أمريكا في الديموقراطية والعدالة والحرية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها فهاهي تحت دعوى كاذبة لم تستطع إثباتها (( نزع أسلحة الدمار الشامل )) تغزو شعباً وتحتل وطناً وتسقط حكومة وفي سبيل ذلك تقتل النساء والأطفال والشيوخ وتهدم المساكن والمساجد وتحرق الأخضر واليابس ، وتدمر جميع الخدمات وضرورات الحياة ثم تعين في النهاية ويا للمفارقة جنرالاً عسكرياً أمريكياً باسم حاكم مدني للعراق وكل ذلك تمت مسمى حرب تحرير العراق { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً } .
11 – بروز الأثر البالغ للقنوات الإعلامية في تغطية أحداث الحرب أو التحليل لتلك الأحداث مما يؤكد أهمية هذه المنابر ودورها في توجيه الشعوب ومن ثم الإسهام في صناعة التوجهات والأحداث .
12 – ظهور شدة الحاجة إلى الإصلاح وضرورة العودة إلى الله قبل أن تحل بالأمة كوارث أعظم وفجائع أخطر ونوازل أفدح والعاقل من اتعظ بغيره والجاهل من كان موعظة لغيره قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ } (آل عمران:13) .
وقال تعالى : { وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } (الرعد:31) .
ثالثاً : الآثار المحتملة لهذا الحدث :
كأي حدث من الأحداث الجارية في الحياة وبالذات الأحداث الكبرى لا يمكن أن يحدد آثار الحدث عنصر واحد من العناصر والقوى ذات العلاقة بالحدث بل إن جملة القوى والعوامل وصراع الإرادات والقدرات هي التي تشكل في النهاية آثار الحدث وصورته النهائية فعلى الرغم من جبروت وطغيان أمريكا وحسمها المعركة العسكرية ضد النظام البعثي سريعاً إلا أن شعوب المنطقة وبالأخص الشعب العراقي قادرة بإذن الله على أن تجعل الصورة على خلاف ما يرجوه ويؤمله ويخطط له الأمريكان والصهاينة لكنني هنا سأتحدث عن أسوأ الاحتمالات وأفضلها مهما كان احتمال وقوعها ضئيلاً وسأبدأ بالحديث عن :
أ - المخاطر والآثار السلبية المحتملة :
1 ) إن ما تؤمله أمريكا ابتداء هو أن تنجح في استعمار العراق واستغلال ثرواته واستخدامه قاعدة عسكرية للتحكم في المنطقة وجعله نموذجاً غربياً أمريكياً يحتذى في المنطقة .
2 ) تهديد دول المنطقة وشعوبها وزيادة تمزيقها بإثارة النعرات القومية والطائفية فيما بينها واستغلال ثرواتها لصالح الرأسمالية المتوحشة وابتزازها لإعادة إعمار العراق ومسخ شخصيتها ، يقول وزير الدفاع البريطاني (( يجب أن يدفع فاتورة إعمار العراق الشعب العراقي الذي نال الحرية ودول المنطقة التي خلصناها من صدام حسين ، أما دافعوا الضرائب البريطانيون فإن ذلك ليس من مسئوليتهم )) .
وهكذا أمريكا وبريطانيا تدمر العراق ثم الشعب العراقي ودول المنطقة تدفع فاتورة الإعمار الذي سينفذه الشركات الأمريكية والبريطانية .
3 ) إعادة رسم وتشكيل خارطة المنطقة سياسياً بما يخدم المصالح الأمريكية ويزيد من ضعف دول المنطقة من خلال الضغط على بعض الحكومات والسعي لاستبدال البعض الآخر كما بدأت نذر ذلك بالنسبة لسوريا .
4 ) السعي لفرض الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة وجعل إسرائيل الكبرى أمراً واقعاً وتصفية القضية الفلسطينية بفرض السلام الأمريكي الإسرائيلي والقضاء على حركات المقاومة الفلسطينية .(4/441)
5 ) تغيير المناهج التعليمية ومسح أو مسخ أي أثر ديني فيها وها هي أمريكا تطالب بوضوح وعلى أعلى المستويات بإلغاء كل شيء في مناهجنا حتى لو كان من القرآن يؤدي إلى كراهية الأمريكان واليهود ويا للمفارقة ففي إسرائيل الابن المدلل لأمريكا يدرس في مناهجهم من العنصرية والاحتقار لجميع البشر ما لا يخطر على بال إنسان بل إن أصل قيام دولة إسرائيل وطردها لشعب من أرضه وسلبها لوطنه قائم على مقولة دينية توراتية .
أما المهزومون فكرياً ونفسياً من مثقفينا وإعلاميينا وسياسيينا فقد أصبحت كلمة الجهاد لديهم من المحرمات والبديل لها هو ثقافة السلام وثقافة التسامح السلام والتسامح الذي تسقى شجرته بدماء أطفال فلسطين والعراق وأفغانستان وتزين مشاهده بأشلاء النساء والشيوخ ويجمل ديكوره بحطام المآذن وبقايا المنازل .
6 ) الحيلولة دون قيام أي قوة عسكرية أو صناعة عسكرية تهدد إسرائيل وذلك من خلال تقليص عدد الجيش العراقي وتدمير أسلحته والسيطرة على علماء الصناعة العسكرية وأسرهم أو قتلهم عند الحاجة لذلك .
7 ) تغيير قيم المجتمعات العربية وطبيعة علاقاتها وتوجيهها توجيها تغريبياً وبالذات في موضوع المرأة التي يؤمل الأمريكان أن يغيروا وجه المنطقة اجتماعيا من خلالها وذلك بإفسادها وإخراجها من ضوابط الشرع والحشمة والعفاف تحت ستار تحريرها وإعطائها حقوقها .
8 ) تكثيف الضغط على الحكومات لتصفية ومحاصرة العمل الإسلامي ومناشطه وبالذات العمل الخيري لما له من دور جيد في دعم الدعوة الإسلامية على مستوى العالم .
9 ) التمكين للتيارات العلمانية ودعمها وإبراز قادتها وتهيئة الفرص لهم ليسهموا بشكل كبير في المشهد السياسي في المنطقة ليكونوا البديل للتيار الإسلامي المتجذر في المجتمع الإسلامي والذي ثبت أنه الرافض الإستراتيجي للوجود الصهيوني والهيمنة الأمريكية .
وفي الجملة فإن أمريكا كما صرح مساعد وزير الدفاع المستقيل (( ستسعى لتغيير هوية المنطقة ابتداء بالعراق وإعادة تشكيلها دينياً وتعليمياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً بما يخدم المصالح الأمريكية ويتوافق مع متطلبات السلام الإسرائيلي )) .
ب – الآثار الإيجابية الممكنة لهذا الحدث :
مهما كانت الصورة قاتمة والأحداث مؤلمة إلا أن سنن الله اقتضت ألا يأتي في هذه الحياة شر محض ، فإذا استبصر العقلاء مواطن لطف الله في قدره على أنوار شرعه فسيرون الآثار الإيجابية في هذا الحدث واقعة حاصلة أو متوقعة ممكنة وحينئذ يبذلون جهدهم للحفاظ عليها وتنميتها وتكثيرها وتطويرها لتغطي على المشهد كله بإذن الله ، والعظماء من الرجال هم الذي يخرجون من ركام الهزيمة بتباشير النصر ومن تلافيف اليأس بآفاق التفاؤل ومن شدة الألم والمعاناة بفسيح الأمل والثقة بإذن الله سبحانه وتعالى .
وقد يستغرب البعض الحديث عن آثار إيجابية لاحتلال قوة صليبية لبلد عربي مسلم لكننا فيما سيأتي من حديث سنبين ذلك بجلاء بإذن الله .
وأهم هذه الآثار الإيجابية من وجهة نظري :
1 / أن البغي والاستكبار والغرور والاستعلاء والظلم التي اتصفت بها أمريكا : مستكبرة بقوتها وكثرتها وعددها وعتادها ، متناسيةً قدرة الله عليها ، مقدمات الخذلان لها بل الدمار مثلما أخبر الله تعالى عن من قبلهم فقال سبحانه : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ } (فصلت:15) ، وقال تعالى : { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } (الزمر:51) ، { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (الشورى:42) .
2 / ما في هذه الأحداث من كشف للمرتابين المنافقين ومرضى القلوب من المتأمركين الداعين للتغريب والمسوقين لأمريكا ممن صفقوا لها ورحبوا بها سواء كانوا أنظمة أو أحزاباً وشخصيات وكذلك عبدة الهوى والدنيا والوظيفة والجاه عند الخلق : وفي هذا الكشف خير عظيم ، كما حدث يوم أحد ويوم الأحزاب ، قال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (آل عمران:179) ويبقى بعد ذلك معالجة السماعين لهم والمتأثرين بهم بالتعليم والوعظ والابتلاء والتزكية والتوعية .(4/442)
3 / وضوح السبيل والمفاصلة العقدية : وذلك من خلال استمساك جملة كبيرة من العامة بمبدأ الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين وإدراكهم لبعض مآرب الكفار وبعض مخططات العدو الماكر ، وهو ما كان مشوشاً في أزمات سابقة { لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } (الأنفال:42) .
4 / انكشاف أمريكا وظهور زيف شعاراتها عن العدالة والحرية والإنسانية والحضارة وحق الشعوب في تقرير المصير وظهور صدق ما ينادي به دعاة الإسلام من عداوة الغرب الصليبي والصهاينة اليهود للأمة وكذلك انكشاف زيف مزاعم الغرب فيما يسمى بالشرعية الدولية ... الخ فكان الأمر كما قال الله تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } (آل عمران:118) وعلى ضوء ذلك يمكن مخاطبة الحكومات وإشعارها - بحسب الوسائل المتاحة - بأن ما تريده أمريكا استبدال الواقع بجميع أبعاده بما في ذلك البعد السياسي بواقع آخر يكون أكثر انسجاماً مع المشاريع الصهيونية في المنطقة وأكثر أماناً لمستقبل إسرائيل .
5 / ما يتوقع من تخفيف ضغط العولمة - ولو إلى حين – بسبب انشغال أمريكا وصراعها مع دول غربية أخرى حول العراق وهذه فرصة للتأني والنظر البصير والاستعداد لمواجهتها بخطط متعقلة وبرامج محكمة ، وقد يؤدي ذلك إلى تركيز الاهتمام على التعامل بين البلدان الإسلامية فتكون خطوة ثم تعقبها خطوات بإذن الله .
6 / ظهور فتاوى شرعية مؤصلة - جماعية وفردية - في جملة من بلاد المسلمين ، في القضايا الراهنة واهتمام بعض الغربيين بهذه الفتاوى وإطلاع كثير من المسلمين عليها ، مما يقوّي مرجعية أهل العلم والإيمان في أمور الأمة فيسهم في إحياء أصالة الأمة ووحدتها .
7 / قد تنجلي الأحداث عن إعطاء قدر من الحرية للشعوب في التعبير عن تطلعاتها والمشاركة في شؤونها والسماح بقيام مؤسسات شعبية كالأحزاب والنقابات وهذا يقتضي الإعداد لهذه المرحلة بكافة احتمالاتها في البلدان المهيئة لذلك .
8 / القيام بإحياء جملة طيبة من القضايا الشرعية المنسية مثل قضية الجهاد والولاء والبراء ، وفقه السياسة الشرعية كأحكام " دار الكفر " و " دار الإسلام " والراية ، والملاحم مع أهل الكتاب والإقامة في بلاد الكفر ، والهدنة والعهد ، وأحكام عصمة النفس والمال ، وكذلك الأحكام المتعلقة بالتحالف أو الاستعانة بالمسلمين على المشركين ، والحديث برؤية شرعية للعديد من المستجدات مثل : التعددية وتداول السلطة والرقابة على الولاة ، وما أشبه ذلك مما سيكون مادة خصبة للاجتهاد والتفقّه ووزن الأمور بميزان الشرع الحكيم .
رابعاً : ما العمل حيال هذا الحدث :
إن الأحداث الجارية أصابت كثيراً من الناس باليأس والقنوط والهلع والجزع وقد كان مما علمناه من كتاب الله أن من سنن الله تعالى في خلقه بقاء الصراع بين الحق والباطل والخير والشر ليميز الله الخبيث من الطيب ، وليعلي بالتمحيص درجات أهل الإيمان ، وليرفع بالابتلاء درجات بعضهم فوق بعض ولتتم مقتضيات حكمته تعالى في إيقاظ الهمم بالنوازل ، وتحريك العزائم بالمحن وإحياء الحمية الإيمانية بالمحن .
وقد ضرب الله لنا أمثالا بالأمم والأنبياء قبلنا ، ومن أكثر القصص في القرآن قصص بني إسرائيل ، وذلك لوجود بعض أوجه الشبه بينهم وبين هذه الأمة ، وقد عاشوا سنين عديدة تحت الذل والهوان والتسلط الفرعوني بعد أن نسوا ما ذكروا به ، وتعلقوا بالدنيا وأنسوا بها وركنوا إلى الشهوات وحب الحياة ، ثم اشتد عليهم العسف والأذى قبيل ميلاد موسى عليه السلام ، ولما بلغ أشده وأكرم بالنبوة زاد عليهم الأذى والظلم ، حتى قالوا { أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } (الأعراف:129) .
ومكثوا على هذا الحال من الاضطهاد سنين عديدة وفيهم أهل الإيمان بالله : موسى وهارون ومن استجاب لهما ، ونبي الله يعدهم بالنصر والاستخلاف في الأرض وهلاك العدو ، وبعد هذه السنين الطوال أمروا بالخروج وركوب البحر ، فخرجوا من الذلة والهوان { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } (الأعراف:137) .
وفي هذا دليل على أن نصر الله تعالى آت وزمانه مقبل ولكنه لا يحسب بحساب أعمارنا القصيرة ولا يقاس وفق قياسات زمنية قريبة { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ } (الأنبياء:37) .(4/443)
وإنني أرى أن هذه الأحداث توجب علينا الكثير من الأمور على مستوى الشعوب والأفراد ، ومن هذه الواجبات :
1 - إن الواجب في هذه الأحوال الاستمساك بالعروة الوثقى والاسترشاد بالهدى المبين من كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، والوثوق بوعد الله واليقين بنصر الله وأن الله سبحانه لن يسلط على هذه الأمة من يستبيح بيضتها ، وأنها أمة مرحومة منصورة ، كما أخبر الصادق المصدوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذا ينبغي أن تكون هذه الأحداث مهما كانت مؤلمة موئل تفاؤل ورجاء لا مصدر يأس وخوف إن العمل على إشاعة روح التفاؤل والثقة بنصر الله،والتأكيد على أن المستقبل لدين الإسلام في مثل هذه الظروف من أوجب الواجبات ، قال الله تعالى { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } (غافر:51) .
2 – الحرص على تقوية الربط بين الأحداث وبين القضية الكبرى للمسلمين : قضية فلسطين والحد الأدنى الذي لا يجوز التنازل عنه بحال من الأحوال هو دعم المجاهدين في فلسطين بالقليل من المال والقليل من السلاح والقليل من الغذاء والدواء والإقلاع عن أوهام السلام الذي لن تغفر الأمة لدعاتها اقترافهم هذه الجريمة في الوقت الذي تسيل فيه الدماء في فلسطين أنهاراً وفي الوقت الذي يبدو فيه اقتناع كثير من الناس داخل أمريكا - فضلاً عن خارجها - بضرورة التعامل العادل معها ، مما يعضد الانتفاضة المباركة ويسند جهاد المسلمين لليهود ، ويزيد قضية فلسطين رسوخا ويزيل كثيرا من الغبش العلماني والشهواني عن مساراتها إن من أهم محددات نتيجة المواجهة بين أمريكا والصهاينة من جهة والمسلمين من جهة أخرى هو ما يجري في ساحة فلسطين ولذا فإن الواجب على الحكومات والشعوب والجماعات أن تدعم الجهاد في فلسطين بكل ما تستطيع وألا تسمح بسقوطه لأن النتائج لذلك السقوط لا قدر الله ستكون مؤلمة وكارثة .
3 - يمكن للعاملين للإسلام القيام بترسيخ مبادئ الدعوة إلى الإصلاح الشامل لحال الأمة ليطابق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويسترشد بهدي الخلفاء الراشدين وعصور العزة والتمكين ، وذلك بواسطة برامج ودراسات تُنشر للأمة ويخاطب بها الحكام والعلماء والقادة والعامة وستفتح الأحداث بابا واسعا لتطوير وسائل الدعوة لمواكبة المواجهة العالمية الشاملة بين الكفر والإيمان ، فبالإضافة إلى الشريط أو النشرة أو الكتيب مثلاً يضاف القنوات الفضائية المتعددة اللغات والصحافة المتطورة ، ومراكز الدراسات المتخصصة ... والمؤسسات التعليمية والخيرية المُحْكمة التخطيط مع التركيز على المشاركات الإعلامية وشبكة المعلومات والإسهام فيها بقوة،لأن مساحة الحرية فيها أوسع وجمهورها أكثر .
4 - يجب على العاملين للإسلام حكوماتٍ وجماعات وأفراد أن يدركوا قيمة هذه الفرصة العظيمة ( من خلال ما ذكر سابقا وغيره ) وأن يجعلوا هذه الأحداث منطلقاً للمرحلة الإصلاحية التالية على مستوى الشعوب ( دعوة وجهادا وتربية وتزكية ) : وهي مرحلة الجهاد الكبير بالقرآن كما قال تعالى : { وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادَاً كَبَيرَاً } (الفرقان:52) إن المرحلة وأحداثها تقتضي منا العمل الدؤوب على التعبئة النفسية والتربوية في موجهة الأمريكان واليهود وتهيئة النفوس إيمانيا وعمليا وإعلاميا لمواجهة التغيرات والنوازل،وإزالة الإحباط واليأس وانكسار الإرادة، قال تعالى { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (آل عمران:139) والتركيز على فهم سنن الله تعالى في الأنفس والمجتمعات وإيضاح ذلك للناس،وربط النصر والعزة بالإيمان والعمل الصالح والتقوىوالصبر0كما قال الله تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } (آل عمران:120) وقال سبحانه : { وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } (آل عمران:186) .(4/444)
5 – هذه فرصة كبيرة يجب أن يوظفها ذوو الرأي لتحريك الأمة كلها لمواجهة أعدائها المتكالبين عليها من كل مكان وترك الاستهانة بأي قوة في هذه الأمة لفرد أو جماعة وبأي جهد من أي مسلم ، ونبذ فكرة حصر الاهتمام بالدين على فئة معينة يسمون بـ " الملتزمين " فالأمة كلها مطالبة بنصرة الدين والدفاع عن المقدسات والأرض والعرض والمصالح العامة ، وكل مسلم لا يخلو من خير ، والإيمان شُعَب منها الظاهر ومنها الباطن ، ورب ذي مظهر إيماني وقلبه خاوٍِ أو غافل ، ورب ذي مظهر لا يدل على ما في قلبه من خير وما في عقله من حكمة ورشد ، وهذا لا يعني إهمال تربية الأمة على استكمال شُعَب الدين ظاهراً وباطناً ، بل المراد إن إجادة تحريك الأمة وتجييش طاقاتها لنصرة الدين وتحريك الإيمان في قلوب المسلمين هو من أسباب النصر والقوة ومن دواعي تزكية الصالح و توبة العاصي ويقظة الغافل ، وهذا جيش النبي صلى الله عليه وسلم خير الجيوش لم يكن كله من السابقين الأولين بل كان فيه الأعراب الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، وفيه مَن خَلَط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وفيه المُرجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، وفيه من قاتل حمية عن أحساب قومه ، فضلاً عن المنافقين المعلومين وغير المعلومين ، وإنما العبرة بالمنهج والراية والنفوذ التي لم تكن إلا بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم بيد أهل السابقة والثقة والاستقامة من بعده .
ولو لم نبدأ إلا بتحريك الإيمان والغيرة في قلوب مرتادي المساجد ، وكذلك الجيران والأقرباء والعشيرة وزملاء المهنة وإن تلبسوا بشيء من المعاصي الظاهرة،لكان لذلك أعظم الآثار،وأينع الثمار بإذن الله .
والمراد أن يعلم أن حالة المواجهة الشاملة بين الأمة وأعدائها تقتضي اعتبار مصلحة الدين والمصالح العامة قبل كل شيء ، فالمجاهد الفاسق - بأي نوع من أنواع الجهاد والنصرة - خير من الصالح القاعد في هذه الحالة مع التأكيد على أن المواجهة مع الأعداء متعددة الميادين طويلة المدى،كما قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود:من الآية49) ، وقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (آل عمران:200) .
6 - تتيح هذه الأحداث الفرصة الجيدة للعلماء والمثقفين وذوي الرأي لتوعية الأمة بمفهوم نصرة الدين وتولي المؤمنين ، التي هي فرض عين على كل مسلم ، وأن ذلك يشمل ما لا يدخل تحت الحصر من الوسائل ، ولا يقتصر على القتال وحده ، فالجهاد بالمال نصرة ، وكذلك الإعلام وبالرأي والمشورة وبنشر العلم ، وبالعمل الخيري ، وبنشر حقائق الإيمان ولاسيما عقيدة الولاء والبراء ، وبالقنوت والدعاء ، وبالسعي الجاد لجعل المجتمعات الأقرب إلى التمسك والمحافظة قلاعاً ونماذج يمكن أن يفيء إليها بقية الناس ، وبجعل منارات العلم والشرع مرجعيات للاستشارة والفتوى ، وتفويت الفرصة على العلمانيين والشهوانيين في تشويه صورة الإسلام ودعاته وتاريخه والإستحواذ على مراكز التوجيه وكذلك القيام بإظهار مخاطر العدو على الجميع مع التوازن في الطرح بما لا يؤدي إلى مواجهة غير محسوبة النتائج أو فقدان المكتسبات الدعوية القائمة .
7 - الفرصة الآن متاحة بشكل جيد لتحويل وحدة الرأي والتعاطف إلى توحّد عملي ومنهجي لكل العاملين للإسلام في كل مكان ، يقوم على الثوابت والقطعيات في الاعتقاد والعمل ، ويدرس الفروع والاجتهادات بأسلوب الحوار البناء ، فاجتماع كلمة الأمة أصل عظيم لا يجوز التفريط فيه بسبب تنوع الاجتهاد واختلاف الوسائل ، وما يجمع المسلمين أكثر وأقوى مما يفرقهم ، والشرط الوحيد لهذا هو أن يكون المصدر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته ، وما كان عليه الأئمة المتبوعون في عصور عز الإسلام فمن أعظم أسباب ما أصابنا من بلاء التفرق والاختلاف فالعمل على توحيد جهود العاملين للإسلام للأخذ بأسباب النهضة والقوة في التمكين للأمة، وتحقيق ما به تفويت الفرصة على الأعداء،و الوقوف في وجه الطروحات التي تؤدي للفرقة وضعف الأمة من الواجبات الشرعية ، كما قال تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (المائدة: من الآية2) ، وقال سبحانه : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (الأنفال:46) .(4/445)
8 - أصبحت إمكانية مطالبة الحكومات بفتح باب الحوار مع الشعوب والقيام بالإصلاح الشامل في جميع الميادين السياسية والإقتصادية والإدارية والإجتماعية حفاظاً على الجبهة الداخلية وتدعيماً للوحدة الوطنية في كل قطر عربي وإسلامي وكذلك تفهم هموم الشباب ومشكلاته واستيعاب حماسته فيما يخدم الدين والأمة والوطن حقيقة أكثر من ذي قبل لشعور الجميع بالخطر مع التأكيد على أن هؤلاء الشباب في الأصل طاقة ذات حدين إن لم تستصلح وتهذب أصبحت وبالاً وبلاءً ، وهم إذا رأوا الصدق من أحد وثقوا فيه وقبلوا توجيهه ، وإذا ارتابوا في أحد أعرضوا عنه وحذّروا منه ، فلابد في التعامل معهم من حكمة وأناة وصبر ، ولابد من الكف عن الأعمال والإعلام والمواقف المسيئة للدين ، وترك ما يستفزهم من المنكرات ، وأن تلغي الحكومات من تعاملها الحل الأمني الذي ثبت أنه لا يؤدي إلا إلى ردّات فعل أعنف والدخول في نفق مظلم لا نهاية له .
9 - الحذر من التأويلات الخاطئة لأخبار وأحاديث الفتن والملاحم ، والتعبيرات الباطلة للرؤى والأحلام ، والتحذير من تعليق القلوب والأذهان بتفسيرات وهمية وتأويلات فاسدة وتحديدات وتعيينات لم ينزل الله بها من سلطان مما يؤدي إلى أعمال تهورية خاطئة يعقبها يأس وقنوط وانتكس والعياذ بالله .
10 - التركيز على المقاطعة الاقتصادية لجميع المنتجات الأمريكية وبالأخص المواد الإعلامية والفنية وهذه المقاطعة لا يعذر مسلم بالتقصير فيها إذ يستطيع كل فرد في الأمة حتى الأطفال أن يسهم في ذلك والواجب على العلماء والمؤسسات إصدار الفتاوى والدراسات وتوفير المعلومات التي تخدم هذه القضية .
11 - إعادة تأهيل المؤسسة الدينية في المجتمعات الإسلامية للقيام بدورها في حشد طاقات الأمة لمواجهة عدوها وتحريرها من كونها مبررة للحاكم كل شيء وتابعة لسياسته في كل أمرلأن ذلك سيفقد الناس الثقة بها وأول المتضررين من ذلك الحاكم نفسه .
12 - وجوب الضغط الشعبي والمطالبة المستمرة الهادئة العاقلة للحكومات لتتوحد فيما بينها اقتصادياً ودفاعياً وسياسياً وتنهي خلافاتها في سبيل الدفاع عن مصالح الأمة الكبرى وترفع الظلم عن شعوبها وتبني جيوشاً قوية مؤمنة قادرة على مواجهة مخاطر العدوان الذي لن يستثني أحداً وإلا فسيغرق الطوفان الجميع ويكون الانتحار الجماعي ، إن المتغيرات التاريخية في زمن العولمة والجغرافية في زمن التكتلات والمعلوماتية في زمن الإتصالات والاقتصادية في زمن الشركات الكبرى والفكرية في زمن الصحوة الإسلامية العارمة تستدعي من هذه الأنظمة أن تستشعر آلام أمتنا وتستجيب لطموحاتها مستوعبة لمتغيرات ومدركة لحجم التحديات وإلا فهو نهاية الطريق { سنت الله الاية.
13 - على المؤسسات الإسلامية الدعوية والحركات الإسلامية بل والحكومات أن تدعم الدعوة في أمريكا بخطط مدروسة وبرامج قوية لأن المستقبل الواعد لها بإذن الله سيقلب الموازين في أمريكا نفسها { وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } (يوسف:21) .
وأخيراً يا أمة الإسلام أذكركم بقول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } (غافر:51) ، وبقوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } (آل عمران:139) ، وبقوله تعالى : { الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } (المنافقون:8) ، فنحن على وعد من الله بالعزة والنصر والتمكين ومن أصدق من الله قيلاً .
د. عوض بن محمد القرني
25/2/1424هـ
===============
التصور السياسي للحركة الإسلامية
تأليف
الشيخ رفاعي سرور
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين. وبعد...
فإن الحقيقة التي يجب أن نفهمها قبل طرح النظرية السياسية الإسلامية هي أن الحركة الإسلامية هي القادرة وحدها على تكوين نظرية سياسية صحيحة.
ذلك لأن للنظرية السياسية شروطا علمية، وهي تكوين النظرية في بداية مرحلة إنشاء الأمة1 "الدعوة"، ومن خلال المضمون الحضاري لهذه الأمة دون انقطاع للوجود التاريخي لها2.
والأمة الإسلامية هي الأمة الوحيدة التي تكونت نظريتها السياسية من خلال منهجها مع تمام نشأتها.
والأمة الإسلامية هي الأمة التي لم ينقطع وجودها التاريخي لحظة واحدة على هذه الأرض3.
والأمة الإسلامية هي الأمة ذات المضمون الحضاري المطلق... وهو الحق.
ورغم ذلك فإن المستقر في الأذهان أن الدعوة الإسلامية لا تملك تصورا سياسيا... وقد جاء هذا الادعاء ف الابتداء كأسلوب خطير من أساليب التنقص الجاهلي بالدعوة... ولكن الادعاء استقر في الأذهان في الانتهاء؛ لأن الدعوة لم تعلن عن تصورها السياسي بعد، ولم يستطع هؤلاء الذين استقر في أذهانهم هذا الادعاء التفريق بين عدم وجود نظرية سياسية، وبين وجود نظرية سياسية لم تطرح بعد.
ويبقى السؤال: لماذا لم تطرح الحركة الإسلامية - في الواقع القائم - تصورها السياسي حتى الآن؟(4/446)
والإجابة؛ إن طرح التصور السياسي للحركة هو ذاته عمل سياسي يجب أن ينضبط بأحكام النظرية السياسية ذاتها، ومن أهم أحكام هذه النظرية... العلاقة الصحيحة بين الفكر والحركة، وتصبح القاعدة في طرح التصور السياسي للحركة هي أن تبلغ الحركة مرحلة القوة السياسية... فهل بلغت الحركة الإسلامية هذه المرحلة؟ ونبدأ بمناقشة هذا التساؤل، وأول حقائق هذه المناقشة أن القوة السياسية تعرف بشواهدها.
وإن مواقع الدعوة المنتشرة في العالم المستضعفة أمام الحكومات الجاهلية... تتراوح بين الوصول إلى مرحلة القوة السياسية التي تنطبق عليها هذه الشواهد وبين مرحلة الاستضعاف الأولى التي يعبر عنها بالمرحلة الفردية.
مرورا ببعض المواقع التي ينطبق فيها بعض هذه الشواهد دون غيرها... ووصول واقع الدعوة إلى مرحلة القوة السياسية، والتي تتوافر فيها جميع هذه الشواهد يقتضي أن يطرح أصحاب هذا الواقع تصورهم السياسي... ويسيروا ملزمين بالدخول في مرحلة الممارسة السياسية لدعوتهم...
أما الشواهد العامة للقوة السياسية فأهمها أن أعداء الدعوة يفكرون بمنطق التعامل مع أصحابها لا منطق القضاء عليها، وهذا هو الشاهد الأول؛ لأن نشأة القوة السياسية تأتي من خلال نظرة أعدائها لها وأسلوب التعامل معها.
أن تكون قضية أصحاب القوة السياسية مؤيدة على مستوى الرأي العام اجتماعيا وفكريا وأن يكون التعاطف مع أصحابها ثابت ومؤكد، ويلاحظ في هذا الشاهد أن لا يحسب فقط من خلال التأييد والتعاطف القائم بل يشمل مدى قابلية غير المؤيدين لأن يكونوا مؤيدين.
أن يمثل المعتنقون لقضية القوة السياسية كثرة عددية تبلغ مستوى القاعدة الجماهيرية، بحيث يصل مستوى تلك القاعدة إلى أنها تكاد تمثل موقف " الشعب " أو الأمة.
أن تمثل هذه الكثرة نماذج متعددة من جميع المستويات الاجتماعية بحيث لا يمكن تقييده بمستوى اجتماعي معين أو فئة اجتماعية، ويشمل هذا الشاهد وجود عناصر اجتماعية متميزة من كل مجالات المجتمع.
أن تحقق الكثرة العددية بعناصرها المختلفة اختراقا واضحا لمستوى السلطة القائمة4.
أن تملك هذه القوة دائما رد الفعل المناسب إذا حاول أعداؤها التأثير في قوتها أو إضعافها بحيث يتطلب رد الفعل المطلوب الإمكانيات المادية اللازمة والاستعداد للبذل والتضحية بصفة دائمة ويقظة5.
أن يؤكد حجم القوة السياسية في الواقع المفاوضات والمعاهدات الاتفاقات السرية والعلنية بين القوة السياسية وأعدائها أصحاب السلطة.
فإذا بلغ موقع من مواقع الدعوة مرحلة القوة السياسية بشواهدها المذكورة على أصحاب هذا الموقع بدء الممارسة السياسية ابتداء من طرح التصور السياسي لهم والمنطلق من واقعهم القائم ومرحلتهم العملية.
وإذا كان طرح التصور السياسي للحركة الإسلامية عند وصولها إلى مرحلة القوة السياسية... شرطا أساسيا فإن هناك شروطا أخرى تمثل في الحقيقة حماية (مهمة الطرح) من عدة أخطاء أساسية:
الخطأ الأول: طرح التصور السياسي للحركة من خلال النظريات السياسية غير الإسلامية ادعاءً للصفة العلمية للنظرية المطروحة.
الخطأ الثاني: طرح التصور السياسي للحركة من خلال تجربة إسلامية تاريخية، مثل مرحلة الدولة الإسلامية التاريخية للأمة6، فيتكلم صاحب هذا الخطأ دائما في شكل الدولة الإسلامية في الماضي بكل مصطلحاتها ونمطها الشكلي.
الخطأ الثالث: طرح التصور السياسي للحركة من خلال البرنامج الإسلامي للإصلاح والذي سيكون عندما تقوم الدولة الإسلامية.
وتصحيح الخطأ الأول هو تحديد التصور السياسي للحركة الإسلامية من خلال المنطلق السلفي...
وتحديد النظرية السياسية بالحق الشرعي والدين الخالص... وهو الرد المباشر على أصحاب الخطأ الأول.
وتحديد التصور السياسي العام للحركة الإسلامية من خلال المرحلة التي تمر بها الدعوة فعلا في كل موقع من هذه المواقع تحديدا دقيقا هو الرد على أصحاب الخطأ الثاني.
أما الخطأ الثالث... فهو الذي يتطلب مناقشة مباشرة.
فالبرنامج خطة تفصيلية موقوتة منبثقة عن تصور ومحققة في واقع، فكيف يتحدد برنامج بغير واقع؟
إن الجاهلية تريد أن تُحَمِّل التصور الإسلامي كل مشاكلها الجاهلية لذا كان لابد من تعريف للمشكلة التي يجب أن نواجهها بالتصور السياسي الإسلامي.
فالمشكلة الإسلامية هي المشكلة التي تقابل الفكر الإسلامي في طريقه إلى الواقع الإسلامي.
وأي مشكلة خارج هذا الإطار وهذا المسار هي مشكلة جاهلية لا يعالجها إلا التفجير الإسلامي للواقع وترتيبه من جديد حسب التصور الصحيح.
والاستفزاز الجاهلي للحركة الإسلامية بأنها لا تملك برنامجا سياسيا أمر لا يجب الاستجابة له.
نحن نملك التصور السياسي.
نحن نملك النظرية السياسية.
أما البرنامج السياسي... فلابد لكي يطرح أن نملك الواقع، وكل من يريد برنامجنا السياسي عليه أولا أن يعطينا الواقع ويسلم قيادته، وليكن شعارنا في الرد على أصحاب هذا الاستفزاز " أعطني واقعك أعطك برنامجي ".
قيمة الممارسة السياسية (تمهيد):
ولأجل أن نبدأ تقييم الممارسة السياسية يجب أن نقارن بين طبيعة هذه الممارسة مع أساليب الحركة الإسلامية.(4/447)
وقد اتفقنا أن الأساليب الأساسية للحركة الإسلامية هي: التبليغ بالكلمة واستخدام القوة وإقامة السلطة... أما الهجرة والعزلة فهي تصرف اضطراري يتحتم عند اليأس من الاستجابة، والفرق بينهما: أن الهجرة تصرف اضطراري جماعي، والعزلة تصرف اضطراري فردي... ولا تخرج أساليب العمل عن هذا الإطار العام.
أما العلاقة بين هذه الأساليب... فيثبت فيها أن استفاضة البلاغ وإقامة الحجة والدعوة بالكلمة هي الخط الأصلي للحركة، وأن خط القوة هو في الابتداء لإنشاء فرصة الدعوة بالكلمة عندما تمنع الجاهلية هذه الفرصة... وفي الانتهاء لإقامة السلطة وإنشاء الدولة.
أما موقع الممارسة السياسية من هذا الإطار فهو:
أن الممارسة السياسية تحقق ضبط العلاقة بين أساليب الحركة ذاتها من ناحية وأساليب الحركة بالنسبة للواقع من ناحية أخرى.
فهي التي تفرض أسلوب التبليغ بالكلمة بعد تحليل الواقع وموضع الدعوة.
وهي التي تفرض أسلوب القوة عندما تُمنع الدعوة من فرصة الاتصال بالناس.
وهي التي تحلل آثار القوة في الواقع وتؤكد تلك الآثار لتحقيق غاية الحركة الأصلية، وهي إقامة دولة الدعوة والهداية.
إذًا فالممارسة السياسية ليست أسلوبا قائما بذاته... ولكنها الضابط لكل أساليب الحركة... بحيث يتحقق الهدف الأساسي للدعوة من خلال أي أسلوب.
فهناك مثلا أسلوب الدعوة وأسلوب القوة.
وهناك السياسة الضابطة للعلاقة بين هذين الأسلوبين التي تضمن بها الدعوة الاتجاه بالأسلوب المناسب نحو تحقيق الهدف النهائي.
فقد تفرض الممارسة السياسية إيقاف أسلوب استخدام القوة وقد تحتمه، وفي كلا الافتراضين يكون تحقيق الهدف هو الأمر القائم المطلوب.
هذه هي قيمة الممارسة السياسية على مستوى أساليب الحركة.
أما قيمة الممارسة السياسية على مستوى الكيانات المتعددة في الواقع الواحد... فإنها قيمة ضخمة وهي إدخال الكيانات المتعددة للدعوة ضمن إطار الحركة الواحدة... دون علاقة حركية مباشرة بين هذه الكيانات باعتبار صعوبة تلك العلاقة منهجيا وحركيا، بل إن فرض التصور السياسي الصحيح للحركة هو الذي سيعطي لكل كيان بمنهجه الذي يتبناه مساحته الصحيحة في الواقع الحركي، ويصبح ضبط هذه المساحة وتلك العلاقة بالزيادة أو التحجيم مرتبط بهذا التصور وتلك الممارسة.
أو بمعنى آخر طرح التصور السياسي للحركة الإسلامية الذي يرى فيه كل كيان منهجيته التي يتصورها وحركته التي يمارسها، بحيث ينشأ الموقف الواحد لجميع كيانات الحركة بصورة سياسية صحيحة.
وكذلك فإن تحديد التصور السياسي للحركة الإسلامية سيسد ثغرات خطيرة في منهج الدعوة... وأخطرها: ثغرة الخروج عن الأحكام الشرعية في ممارسة الدعوة بادعاء "مصلحة الدعوة" حيث يسد التصور السياسي للدعوة بصبغته السلفية هذه الثغرة على أصحاب هذا الادعاء.
وأخطرها أيضا الارتداد عن خط المواجهة بالقوة بادعاء العمل السياسي وتحديد التصور السياسي بأبعاده المتعددة – بما فيه بُعد الممارسة بالقوة – يسد أيضا هذه الثغرة على أصحاب هذا الادعاء.
وبذلك لا تصبح السياسة لافتة فوق أي موقف باطل أو مرحلة ضعف... بحيث يصبح التصور السياسي للحركة الإسلامية ضابط لكل العبارات7 والمصطلحات التي تشكل خطرا كبيرا على الدعوة إذا أصبحت عنوانا للأهواء والتراجع والخلل.
فلا تصبح عبارات عائمة... بل تتحدد وتستقر وتنضبط.
أولاً
النظرية السياسية الإسلامية
والآن... ما هي النظرية السياسية للحركة الإسلامية؟
إن الأسلوب الأفضل في طرح النظرية هو البدء بتعريف " السياسة " الإسلامية، وبتحليل عناصر التعريف يتم طرح النظرية... فما هي السياسة الإسلامية؟
السياسة: هي حكمة (الجماعة) المنشئة (لدولة) الدعوة العالمية (الخلافة) المقيمة (لحضارة) الحق.
حكمة الجماعة:
اتفقنا أن الحكمة: هي حاسة الصواب الكامنة في كيان الداعية محددة له في واقع الدعوة سبيل الوصول إلى الغاية8.
وهذا هو المفهوم الفردي للحكمة.
فإذا تحدد المفهوم الجماعي للحكمة... كان هذا المفهوم هو السياسة... فإذا قلنا: إن الحكمة هي سياسة الفرد كانت السياسة هي حكمة الجماعة، وعلى هذا... فإن النظرية السياسية الإسلامية تتحدد أساسا بعناصر الحكمة الأربعة: " الواقع، الحق، الإنسان، الغاية ".
وارتباط هذه العناصر بالمستوى الجماعي للدعوة حيث يتحدد الإطار العام للنظرية السياسية للحركة.
بحيث يكون غياب أي عنصر من عناصر الحكمة الأربعة سببا في عدم تحديد هذا الإطار.
أ) تحليل الحركة السياسية (الواقع):
ومن هنا كان ابتعاد العلماء عن الحياة العامة جعلهم بعيدين عن السياسة نظريا وعمليا، وقد سجل هذه الظاهرة المؤرخ ابن خلدون... فذكر أن العلماء أبعد عن السياسة ومذاهبها؛ والسبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري والخوض في المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أمورا كلية ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات.(4/448)
ويقصد ابن خلدون أن كثيرا من العلماء – لعيشهم مع الكتب – ينظرون إلى الأمور من خلال الكتب، مع أن الواقع الخارجي (الدول وأحوال الناس الاجتماعية والخارجية والاقتصادية) يكون مغايرا أو محتاجا إلى تدقيق في التفاصيل.
أما وضع الشيء الذي في الخارج في قالب الكتب فهذا يؤدي إلى الخطأ بالتأكيد، فالذي لا يعرف الواقع يظن – مثلا – أن الحكام المعاصرين مثل بعض حكام الدولة الأموية والدولة العباسية... مع أن الفارق كبير، فالسياسة – كما يقول ابن خلدون – تحتاج إلى مراعاة إلى ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال فإنها خفية.
هذا إذا كانت السياسة بمعنى معرفة الواقع تماما ومحاولة للنهوض بالمسلمين من خلال هذه المعرفة إلى الدرجة التي يريدها الإسلام، أما إذا كان المقصود بالسياسة المراوغة والاحتيال وإتقان فن المداهنة والنفاق فلا (9 ".
والإطار الواقعي للنظرية السياسية يتحقق مقتضاه في الممارسة من جانبين: الواقع الذي نمارس فيه الدعوة، وواقع أصحاب الدعوة ذاتها.
فتتم الممارسة من خلال: التقييم السياسي للواقع وهو التصور الذي يختلف عن التحديد الفقهي المباشر في الحكم على هذا الواقع...
مثال ذلك: التفريق بين الروم والفرس باعتبار أن الروم ينتسبون إلى دين سماوي والفرس مجوس؛ مما جعل المسلمين يفرحون لنصر الروم رغم أن الحكم الشرعي في الدولتين هو الكفر.
ومثال ذلك أيضا: اختيار الرسول عليه الصلاة والسلام الحبشة لتكون موضعا للهجرة الأولى قائلاً: " اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكا لا يُظلم عنده أحد "10. رغم مساواته في الكفر مع غيره؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فيه كان قبل إسلامه.
ومن هذين المثالين يتضح الفرق بين التصور الفقهي المجرد والتصور السياسي.
التصور الاجتماعي: وبهذه القاعدة يكون الاستفادة بطبيعة أي واقع، مثل الاستفادة بتقاليد الجوار... كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جوار أحد المشركين11، وكما أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماع العرب قبل الإسلام على أن لا يظلم بينهم أحد، وهو المعروف بحلف الفضول الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو دعيت إليه لأجبت "12.
الموقع الجغرافي:
ويدخل ضمن الاستفادة بالواقع والاستفادة بكل عناصر هذا الواقع حتى جغرافية الواقع... ولقد كان موقع غفار في طريق تجارة قريش مانعا لقريش من قتل أبي ذر... وهذا نص الحديث كما رواه أبو ذر الغفاري، يقول أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم. فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقالوا: قوموا لهذا الصبي. فقاموا، فضُربتُ لأموت فأدركني العباس فأكب عليَّ، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم... تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار؟! فأقلعوا عني، فلما أصبحت الغد رجعت فقلت ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا لهذا الصبي. فصُنع بي مثل ما صُنع بالأمس، وأدركني العباس فأكب عليَّ وقال مثل مقاله بالأمس13.
وكان موقع أبي ثمامة من أهل اليمامة وموقع اليمامة من أهل مكة مانعا لقريش من قتله، وتقول السيرة: فلما أسلم أبو ثمامة خرج إلى مكة معتمرا، حتى إذا كان ببطن مكة قال: فكأني أول من دخل مكة. أخذته قريش وقالوا: لقد اختبأت علينا. وأرادوا قتله، فقال قائل منهم: دعوه؛ فإنكم محتاجون إلى الطعام من اليمامة. فتركوه، فقال لهم: والله لا أرجع إلى دينكم ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من اليمامة ولن تأخذوا حبة قمح حتى يأذن لكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم 14.
التصور التاريخي:
وأهم مقتضيات التصور السياسي للواقع هو الاستفادة من تجاربه، فتنطلق الممارسة السياسية من مجموع التجارب السابقة على المستوى التاريخي للأمة.
ولقد احتج مؤمن آل فرعون على فرعون احتجاجًا تاريخيًّا صحيحًا عندما قال له: " وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ "15.
وباعتبار أن السياسة وظيفة جماعية... فإن إدراك الواقع يجب أن يكون هو الآخر وظيفة جماعية.
وهذا يعني أن تجتمع كل إمكانيات الحركة الإسلامية بكل اتجاهاتها في مهمة إدراك الواقع.
ويصبح نظام جمع المعلومات ومتابعة الواقع الجاهلي بكل الوسائل والأساليب لصالح الحركة الإسلامية أهم واجبات الممارسة السياسية للحركة بكل كياناتها.
هذا من حيث الواقع الجاهلي الذي ستمارس فيه الدعوة... أما واقع الدعوة ذاتها فهو الذي يبدأ بتاريخها.
وتحقيق ذلك يحتم مناقشة قضية التراث باعتبارها سجل التجربة الإسلامية.
التحليل السياسي للتراث:(4/449)
وقضية نقل الخبرة وهي قواعد الاستفادة بالتجربة المسجلة في كتب التراث ومناقشة قضية التراث تكون بالمنطق السياسي ذاته... بمعنى أن التعامل مع كتب التراث لا يكون تعاملا مع نصوص مجردة، بل يجب ربط النص التراثي بصاحبه وواقعه وهدفه، وبذلك يؤخذ التراث بمنطق الحكمة... حيث يتوفر في التعامل عناصر التعريف الأساسية لمعنى الحكمة... (النص وصاحب النص وواقع النص والهدف منه ".
وبذلك تتحقق مهمة إحياء التراث وتنبع من طبيعة وحقيقة التصور الصحيح لوظيفة ذلك الإحياء... أما الاقتصار على الوظيفة اللغوية أو حتى التاريخية فإنه يجعل الإحياء قاصرًا... أما الإحياء الكامل فهو الإحياء بالحكمة، أو الارتفاع بالإحياء إلى مستوى الوظيفة السياسية.
والتحليل اللفظي لنصوص التراث يسمح باكتشاف حقيقة المدركات الكامنة في الألفاظ.
والتحليل التاريخي يحدد الواقع من حيث الزمان والمكان
أما التحليل السياسي فهو ربط المدرك بالواقع... والإنسان هو الذي يقوم بذلك الربط فينطبق مفهوم الحكمة على مهمة التحليل.
ولذلك يقول حامد ربيع: " التحليل السياسي للتراث يلغي عنصر الزمان إذ يفرض على المحلل أن يسعى لإدراج التراث في إطار أكثر اتساعًا حيث يصير النص التقاءً بين ماضٍ وحاضر ومستقبل بحيث يكشف الحقائق الثابتة الدائمة وتمييزها عن الأخرى المؤقتة... ".
ونحن إذ نركز على الإنسان المحلل فإنما يكون ذلك بسبب أن الإنسان نفسه هو الذي يربط بين النص وواقع صاحبه... وهو الذي قد يضطر إلى تجريد النص التراثي من تلك العوامل إذا كانت نتيجة التحليل هي الوصول إلى حقيقة مطلقة يجب الاستفادة بها مجردة من ظروفها التاريخية.
ومهمة ربط النص بظروفه لإدراكه بصورة صحيحة.
وتجريد النص من ظروفه لاستخلاص حقيقته المطلقة والثابتة16 هو ما يسمى بـ "الوعي السياسي ".
إذن: الوعي السياسي هو مجموعة الحقائق المطلقة المأخوذة من التحليل السياسي للتراث التاريخي للأمة.
ومن هنا يجب ألا نتعامل مع النص التراثي كمجرد استجابة إلى نوع من أنواع الفضول، إنما من منطلق الحركية العلمية وهي أهم خصائص التنظيم السياسي. والحركة العلمية كخصيصة من خصائص التنظيم السياسي هي التعامل مع النص التراثي بمقتضى مفهوم الحكمة أو التصور السياسي.
وفي إطار تحليل الواقع التاريخي للدعوة تتحدد أخطر قضاياها تحديدًا سياسيًّا: وهي قواعد نقل الخبرة.
وأهم هذه القواعد:
تقييم الخبرة الإسلامية وعناصرها:
- الصواب الشرعي.
- بلوغ حد الاستطاعة المادي والتنظيمي لتحقيق الهدف.
- أثر التجربة المتحقق قدرًا.
- الارتفاع بمفهوم الأخوة فوق مستوى الصواب أو الخطأ.
- ربط التجربة بالواقع.
فعند تقييم أي عمل إسلامي في واقع الدعوة نسأل أولاً عن الحكم الشرعي في هذا العمل، فإن كان صوابًا شرعيًّ نسأل: هل بلغ أصحاب هذا العمل حد الاستطاعة المادي والتنظيمي قبل القيام به؟ فإن لم يبلغوا فيكون الحكم عليهم بالتقصير من هذه الناحية، وإن كانوا قد بلغوا فلا بأس عليهم، فإذا توافر الدليل الشرعي بالصواب من حيث الحكم وتوافر حد الاستطاعة المادي والتنظيمي من حيث العمل، ثم كان الخطأ في الممارسة... فإننا نواجه هذا الخطأ بعدة واجبات:
الأول: معالجة هذا الخطأ وأثره في الواقع.
الثاني: قد يحدث خطأ باعتبار الخطة وبالقياس إلى الهدف المحدد، ولكن قد يكون لهذا الخطأ بالاعتبار القدري جانب إيجابي بالقياس إلى الواقع، فعندئذ يجب التنبيه لهذا الخطأ والاستفادة منه في واقع الممارسة.
الثالث: ربط آثار التجربة بكل جوانبها الإيجابية المحددة تخطيطًا أو المحققة قدرًا أو السلبية الناشئة عن الممارسة... بواقع الدعوة وتقييم الوضع النهائي للتجربة.
الرابع: الارتفاع بمفهوم الأخوة فوق اعتبار الخطأ والصواب... بعد الاطمئنان إلى الاجتهاد، وفوق اعتبار النتائج؛ لأنها بقدر الله وحده.
ب) بناء النظرية السياسية (الحق):
سبق القول بأن السياسة هي المفهوم الجماعي للحكمة... وعلى أساس هذه الحقيقة يكون بناء النظرية السياسية هو الارتفاع بجوانب الحكمة إلى المستوى الجماعي، وذلك بمقتضى الحق.
ويصور الإمام ابن القيم جانب الحق في بناء النظرية، فيقول (بتصرف): السياسة ما كان فعلاً معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يصنعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي، ومن قال: لا سياسية إلا بما نطق به الشرع؛ فقد غلَّط الصحابة؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنن... وكفى تحريق علي الزنادقة17، وتحريق عثمان المصاحف، ونفيُ عمر نصر بن حجاج.
ويقول ابن القيم: وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرَّط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوا مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنه مطابق للواقع ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع.(4/450)
ولعمر الله إنها لم تنافِ ما جاء به الرسول، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى أولياء الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًّا طويلاً وفسادًا عريضًا، فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنقاذها من تلك المهالك...
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله... وكلا الطائفتين أُتِيَت من قِبَل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه؛ فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط... وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا أظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل من أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين إمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه وتعالى بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له... فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل وجزء من أجزائه، ونحن نسميها " سياسة " تبعًا لمصطلحاتكم وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات. أهـ 18.
ومن بناء النظرية السياسية تحققت:
1) شواهد الحق في الممارسة السياسية فكان أهمها:
العقيدة: وتتحقق كشاهد من شواهد الحق في ارتفاعها فوق الممارسة السياسية والحركية ونظام الدولة.
القوة: التي تفرض الحق كمضمون للنظرية والممارسة السياسية.
الثبات: وأهم شواهد انطلاق الممارسة السياسية من الحق هو ثبات الخط السياسي لهذه الممارسة؛ لأن الحق يرفع الممارسة السياسية فوق ظروف الواقع وزعاماته حتى يبلغ الأمر أن يصبح الخط السياسي هو الذي ينخرط به الواقع وتنتظم به الزعامات.
إن أكبر دلائل البعد عن الحق هو التفاف الخط السياسي حول منحنيات الواقع والالتواء فوق عقباته: وكذلك التلون بلون كل زعامة جديدة والاصطباغ بصبغتها.
وقد قدمت الفترة الإسلامية الأولى نموذجًا لهذا الثبات.
ابتداءً من أخطر مستويات المواقف السياسية.
مثال: إصرار أبي بكر الصديق على جعل أسامة بن زيد على رأس الجيش الذي جهزه الرسول صلى الله عليه وسلم واختار أسامة لقيادته.
وانتهاءً بأبسط مستوياتها.
مثل المرأة التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أعطني19.
المفاصلة النظرية: بين السياسة الإسلامية والجاهلية.
فللنظرية السياسية الإسلامية مصطلحاتها... وكذلك للنظرية الجاهلية مصطلحاتها الخاصة بها.
وهناك مصطلحات مشتركة. قد تُقرر من جانب النظرية الإسلامية من حيث اللفظ؛ فيصير الأمر الخطير أن تفهم بمدلولها في السياسة الجاهلية. مما يصير به الأمر أشد خطرًا أن تفرض هذه المصطلحات بمدلولها الجاهلي فتنتفي دلالتها الصحيحة في النظرية الإسلامية. ولهذه المصطلحات أمثلة مشهورة أهمها مصطلح الثورة والحرية.
فالثورة في النظرية الجاهلية... تعني رفض الواقع بصورة مطلقة...
كما تعني بصورة مطلقة... الغضب.
وكذلك تعني العنف...
فإذا انتقلنا بمصطلح " الثورة " إلى النظرية السياسية الإسلامية فإننا نرى وجوداً لعناصر مصطلح الثورة ولكنه وجود صحيح.
حيث نرى الرفض موضوعيًا. والغضب واعيًا. والعنف منضبطًا.
فإذا ما أصبح مصطلح " الثورة " بهذه العناصر الصحيحة كان مصطلح الثورة إسلاميًا، وأصبح من الجائز إضافته إلى النظرية السياسية الإسلامية كمصطلح من مصطلحاتها.
حيث سيكون الرفض الموضوعي للواقع في التغيير والغضب الواعي في التعامل والعنف المنضبط في المواجهة... فمصطلح الثورة الإسلامية ليس مجرد رفض للواقع ولكن للباطل في هذا الواقع بحيث إذا كان في هذا الواقع حق أخذت به الثورة الإسلامية وأقره الإسلام وأصبح جزء من نظامه... مثل الزواج الذي أقرته الشريعة وقد كان نوعًا من الزواج في الجاهلية...
وأما الغضب فهو قمة الوعي؛ لأنه غضب لله... وليس غضبًا شخصيًّا يفقد فيه الغاضب وعيه ويصبح إغلاقًا.
وأما العنف فهو الأمر المنضبط بسياسة القوة وأحكامها الشرعية.
وبذلك يتحقق مصطلح الثورة الإسلامية بمنطلق خاص للتغيير يتميز بالحسم المتأني مثل معالجة مشكلة الرق20.
إن التقابل المطلق بين النظرية السياسية الإسلامية والجاهلية يقتضي الحذر الشديد من المحاولة الخاطئة للخلط بين مصطلحات النظرية السياسية الإسلامية وغيرها...
وابتداءً بالمصطلحات الضخمة كالثورة.
وانتهاءً بأدق التعبيرات البسيطة مثل رفض تعبير الإمبراطورية الإسلامية بدلاً من الخلافة.(4/451)
مرورًا بأمثلة الخلط بين المفاهيم الإسلامية وغيرها مثل الخلط بين الشورى والديمقراطية... بما بينهما من فوارق جوهرية محددة حتى في الأساس المشترك بينهما؛ فالشورى قائمة على إجماع الرأي، وكذلك الديمقراطية، ولكن لصاحب الرأي في الشورى اعتبار كبير في هذا الإجماع... وليس إجماع الهمج الرعاع أتباع كل ناعق؛ كما في الديمقراطية21.
وانطلاق الممارسة السياسية من التصور السياسي بنظريته وأبعاده ومصطلحاته لايعني الاتفاق المطلق بين مفكري السياسة الإسلامية ومحلليها؛ لأن عنصر التفكير العقلي وإدراك الواقع والتصور المرحلي للهدف داخلة ضمن هذه الممارسة. وهي الأمور التي يكون فيها الاختلاف شيئًا طبيعيًّا. مما يجعل الممارسة السياسية سببًا في تحقيق أكبر اتساع لنطاق الاختلاف بين مفكري الحركة الإسلامية.
ومواجهة هذا الخطر تتمثل بصورة أساسية في تحديد:
2) ثوابت الفكر السياسي:
أ) تأصيل الفكر السياسي.
وأول ثوابت هذا التحديد هو إدراكنا للعلاقة بين الفقه والسياسة الذي تتحدد به طبيعة الممارسة.
وهي الحكمة ذاتها.
ذلك لأن الحكمة كما اتفقنا هي المفهوم الفردي للسياسة.
والحكمة هي الفقه.
وبذلك تصبح كل أصول الفقه أساسًا في الممارسة السياسية.
ب) الإطار السياسي للفكر الحركي:
والذي يُحدَّد بالإجابة على هذا السؤال:
ما هي الكتابات التي تكوِّن في مجموعها إطار الفكر في واقع الحركة الإسلامية...
إن هذا التحديد شرط جوهري في تنظيم العلاقة الصحيحة بين الفكر والحركة...
إن فقد هذا التحديد يجعل الدعوة معرضة لخطر التحول إلى مجرد ظاهرة فكرية ضخمة تتضاءل بجانبها واقعية الحركة حتى تضيع.
وتحديد هذه الكتابات بأصحابها قد يحقق فائدة السهولة في الرجوع إليها.
ولكن الأفضل هو إثبات القاعدة التي يتحدد بها هذه الكتابات ليصبح هذا التحديد أساسًا للفكربصورة مطلقة.
والقاعدة الأساسية:
- أن يكون صاحب الكتاب سلفي الفهم.
- أن يكون صاحب الكتاب هو نفسه من أصحاب التجارب الواقعية والعملية في مواجهة الجاهلية، وأن تكون كتاباته مرتبطة بواقعه وتجاربه ومواجهته بصورة مباشرة.
مع مراعاة أن ينطبق على جميع هذه الكتابات وأصحابها... قاعدة: أن كل إنسان يخطئ ويصيب ويؤخذ من كلامه ويرد عليه.
- وأن تتجرد في نفس الوقت عملية الأخذ والرد من عوامل الغيرة والحسد والأحاسيس الحقيرة التي قد تسعى بصاحبها إلى التفكير في هدم شوامخ الفكر ورؤوس الهدى والرشاد22.
ج) التنظيم السياسي للفكر:
وحرية الفكر في إطار الجماعة مكفولة في حدود الكتاب والسنة وأنه لا حرية خارج هذه الحدود.
وإعلان الرأي حق شرعي بشرط واجب شرعي مقابل؛ وهو أن تنقطع علاقة الفرد برأيه بمجرد الاطمئنان إلى وصول هذا الرأي إلى ولي الأمر.
وعندئذ ينطبق على هذا الرأي قواعد الجماعة في الحكم علي الرأي... والوصول إلى الصواب.
وبذلك يصبح الواجب شرطًا يقابل حقًّا؛ لأن تجاوز هذا الشرط ذلك يُسلم الفرد إلى مرحلة الانشقاق الفكري والمنهجي إذا تبنى رأيه بعد حكم الجماعة فيه بالبطلان.
ثم تُسلمه هذه المرحلة إلى الخروج عن الجماعة إذا أخذ موقفًا مبنيًّا على رأيه المحكوم عليه بالبطلان.
وبعد تحديد ثوابت الفكر السياسية المحققة للاتفاق على الحق ننتقل إلى مقتضيات الاتفاق على الحق في تلك الممارسة.
وأهم مقتضيات انطلاق الممارسة السياسية من الحق التعامل مع المعارضين للجماعة.
3) المعارضة السياسية:
والتصور السياسي الإسلامي يعتبر أفضل النماذج السياسية في التعامل مع أصحاب المعارضة السياسية...
فهناك مصطلحات أساسية متعلقة بمفهوم الجماعة:
1) الجماعة بمعنى الحق.
2) الجماعة بمعنى الأمير.
3) الجماعة بمعنى العامة.
4) الجماعة بمعنى العلماء.
ونضيف إلى هذه المصطلحات بخصوص المعارضة السياسية مصطلحين أوليين:
مصطلح الفرقة: وهو الخروج عن الجماعة بمعيار الحق الاعتقادي.
ومصطلح الطائفة: وهو الخروج عن الجماعة بمعيار الأمر العملي.
بمعنى: أن الفرقة: هي خروج عقيدي...
والطائفة: خروج عملي...
ولكل منهما أسلوب في التعامل:
فأسلوب التعامل مع الفرقة: بحسب قضية خروجهم عن الجماعة سواء كانت كفرًا أوبدعة.
وأسلوب التعامل مع الطائفة: بحسب قضية خروجهم عن الإمام أو الأمير.
وتعدد معاني الجماعة قائم على أساس الحفاظ عليها في كل الظروف...
أما المعنى الأساسي للجماعة فهو الجماعة بمعنى الحق والوارد فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الحديث: " التارك لدينه المفارق للجماعة "23.
ولكن عند تعدد الحق في الأفهام في إطار قضايا التوحيد تكون المفاصلة وتكون الفرقة، وإذا تعدد الحق في غير هذا الإطار كان رأي الأمير هو المعيار الذي تتبناه الجماعة في تلك القضية؛ ويتحقق بذلك الجماعة بمعنى الأمير... والوارد فيه حديثه صلى الله عليه وسلم: " من أطاع الأمير فقد أطاعني "24.
وعند غيبة الإمارة يكون إجماع العامة المسلمة هو معيار الحق وهو الوارد فيه قول رسول الله: " عليكم بالسواد الأعظم... "25.
وعند عجز السواد الأعظم عن الإجماع يكون للعلماء حق الطاعة، ويتحقق فيهم معنى الجماعة.(4/452)
ولكن السواد الأعظم الذي يعتبر معيارًا للحق له صفات محددة وأهمها: توطين النفس على هذا الحق.
ولذلك لايكون هناك تقليد في مهمة إنشاء العامة المسلمة كما قال صلى الله عليه وسلم: " لا تكن إمعة إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تسيئوا "26.
ومن هنا أيضا فإن للعامة في منهج الدعوة مسئولية خطيرة.
فليس في التعامل مع العامة نمط الهياج والصور المزيفة...
وعندما يكون المطلوب معرفة إجماع العامة أو الرأي العام لهم؛ فإن المهمة تبدأ بإثبات رأي الفرد.
يقول ابن إسحاق: إن وفد هوازن بالجعرانة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء مالم يخف عليك، فامنن علينا منَّ الله عليك. قال: وقام رجل من هوازن، أحد بني سعد بن بكر يقال له زهير يكنى أبا صرد فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر ثم نزل من بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يارسول الله، خيَّرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل تُردُّ إلينا نساؤنا فهو أحب إلينا، فقال لهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا وقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فقال: المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم 27.
وفي رواية: " فقال الناس. قد طبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنعرف من رضي منكم ممن لم يرض. فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم28. فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن. فإنه أبى أن يرد عجوزًا صارت في يديه منهم، ثم ردَّها بعد ذلك وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي نبطية قبطية ".
وعندما يكون الحديث في أمر العامة فلا بد أن يكون للمتحدث صفات ضرورية ولازمة أهمها نفي السفه الذي يثبت الحكمة كما في الحديث: " سيأتي علي الناس سنوات خدّاعات يُصدّقُ فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة"29.
ومن ناحية أخرى: فإن مصطلح العامة المسلمة يتحدد بانتفاء صفة الهمج الرعاع وحديث علي بن أبي طالب يبين الصفة الأساسية للهمج الرعاع.
الناس ثلاثة: " عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، والباقي رعاع أتباع كل ناعق"30.
وبذلك يتبين منهج الارتفاع فوق مستوى هؤلاء الهمج الرعاع.
إن الهمج الرعاع قوم لا يفقهون ولا يعلمون.
لا يدركون أصول التفكير فهم لا يفقهون.
ولا يعلمون صواب الواقع. وليسوا على سبيل النجاة.
وصواب التفكير وإدراك الواقع هي النجاة من صفة الهمج الرعاع.
بعدتحديد النظرية السياسية في إطارها الواقعي، وتحديد بناء النظرية السياسية بمقتضى الحق، نأتي إلى المحصلة بين الواقع والحق، أو:
4) العلاقة الجدلية بين الفكر والحركة:
وبادى ذي بدء نريد أن نوضح معنى " العلاقة الجدلية31 بين الفكر والحركة ".
ففي البدء تكون الفكرة ثم تكون بها الحركة، فتضيف الحركة خبرة جديدة تضاف إلى الفكرة الأصلية، فيتسع نطاق الفكرة فنتحرك به حركة أوسع؛ فتضيف إلينا الحركة الأوسع خبرة أكبر تضاف إلى نطاق الفكر ليتسع فنمارس بة حركة أوسع وهكذا. هذا هو تفسير جدلية العلاقة بين الفكر والحركة.
وعندما يزداد حجم الفكر دون أن نمارس به حركة مناسبة فإن هذا يمثل خللاً سياسياً إذ قد تتحول الدعوة بسبب هذا الخلل إذا تضخم إلى ظاهرة فكرية بحتة.
ومن هنا يلزم كضرورة سياسية تحديد إطار الفكر الذي ينشأ من خلال العلاقة الجدلية الصحيحة مع الحركة وهو ما يسمى فكر الحركي.
والإطار الأساسي لهذا الفكر هو قضايا حد الإسلام " قضايا الحكم والنسك والولاء ".
ويضاف إليها كل قضايا الفكر المستفادة من خبرة التحرك بقضايا حد الإسلام في الواقع.
وقد سبق تقرير أن الفكر في تطوره مع الحركة مستفاد من خبرة الحركة وأن تحديده يكون باعتبار أصحابه؛ فيصبح أي فكر ناشئ عن خبرة عملية مستفادة من مواجهة صاحبه مع الجاهلية يصبح هذا الفكر داخلاً في إطار الفكر الحركي.
وكما تحدد الفكر تتحدد الحركة.(4/453)
والإطار الأساسي لهذه الحركة هو التبليغ بالكلمة واستخدام القوة وقيام السلطة؛ فيجب تحديد إطار الحركة الصحيحة التي تنشأ من خلالها العلاقة الجدلية الصحيحة مع الفكر. ومعنى هذا التحديد أن أي كيان لا يتبنى أسلوب التبليغ وإقامة الحجة ورفع اللتباس وتصحيح المفاهيم وأسلوب المواجهة القوية الهادفة إلى إقامة السلطة الإسلامية... أي كيان لا يتبنى هذه الأساليب يكون خارجاً من إطار التحديد السياسي للحركة...
وليكن معلوماً أن الخلل في العلاقة بين الفكرر والحركة خطر عظيم يسبب الفتنة، في مرحلة الحركة والجماعة ويسبب الانهيار32 في مرحلة الدولة.
وأبرز قضايا العلاقة الجدلية بين الفكر والحركة هي: قضية المرحلة المكية والمدنية، وتفسير لتلك العلاقة من أساسها.
وهذه القضية لها عناصر يجب إدراكها ابتداًء...
أن مرحلة الدعوة بعد تمام نزول القران تجاوزت المرحلة المكية والمدنية شرعاً.
أن اعتبار الدعوة في مرحلة مكية أو مدنية بعد ذلك اعتبار حركي.
فإذا كانت ظروف الدعوة تماثل المرحلة المكية اعتبرناها مرحلة مكية، وإذا كانت ظروف الدعوة تماثل المرحلة المدنية اعتبرناها مرحلة مدنية، ومارسنا تطبيق الأحكام المنهجية لكل مرحلة.
وعندئذ نكون ملزمين بدراسة علة الختلاف المنهجي بين المرحلتين من حيث الواقع.
وبمجرد البدء في الدراسة نجد أن الحد الفاصل البين في هذا الاختلاف هو حد القدرة والاستطاعة.
فإذا كان الأصل في الدعوة هو الإعلان فإن عدم القدرة عليه يجعلنا نمارس حكما منهجياً مكياً وهو السرية.
وأهم مثال عن الإعلان وإظهار الدين باعتبار القدرة:
هو جواز إقامة الجمعة والجماعات في غير ديار الإسلام.
فبالرغم من أن إقامة الجمعة التي تحدد لإقامتها شروط فقهية مباشرة أن تكون الدار التي تقام فيها الجمع هي دار الإسلام؛ فإنها تقام في غيرها من باب الجواز إذا كان هناك قدرة على إقامتها.
ولا يحتج لعدم إقامتها بانتفاء الوجوب لانتفاء الشرط الفقهي؛ لأن إقامتها باعتبار القدرة يكون من باب الجواز مثل إقامة الجمعة للمرأة والغلام والعبد من باب الجواز عند القدرة رغم عدم الوجوب بالنسبة لهم؛ لانتفاء شروط وجوبها عليهم.
غير أن السيرة تحفظ لنا حدثاً ثابتاًعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به الدليل على اعتبار القدرة في التفريق بين المرحلة المكية والمدنية وهو محاولة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي بن أبي طالب كسر الأصنام ليلاً دون أن يراهم أحد. 33
وبعد تحديد المحصلة بين الواقع والحق نكون قد انتهينا من تحديد عنصرين من عناصر الحكمة في تحديد النظرية السياسية؛ لنأتي بعدهما إلى العنصر الثالث وهو الإنسان الذي يمثل الجانب الإنساني في النظرية.
ج) المنطلق الإنساني للممارسة السياسية (المسلم السياسي):
أما جانب " الإنسان " في النظرية السياسية فإنه يتمثل في مصطلحين:
الأول: المفكر السياسي: وذلك باعتبار أن الفكر مهمة إنسانية صادرة عن الإنسان المرتبط بالحق والناظر في الواقع والمدرك للغاية.
لتصبح جوانب الحكمة هي بذاتها عناصر الفكر السياسي.
وبذلك أصبح لزاماً على المفكر السياسي الإسلامي الالتزام بالأساس الشرعي؛ ليكون الحق هو القيمة العليا التي منها وبها تتحدد جميع أبعاد الممارسة السياسية.
وأصبح لزاماً على الفكر السياسي الإسلامي الارتباط بالواقع بجانبيه: الاجتماعي والحركي؛ وذلك من خلال الارتباط بالواقع الدعوة، وكذلك من خلال الالتزام بقواعد الحركة لهذا الواقع... أيضاً.
وأصبح لزاماً على المفكر السياسي الإسلامي اعتبار قضية الخلافة هي منطلقة الوحيد في بناء وتصور الحقيقة السياسية وذلك على أساس أن الخلافة هي الغاية النهائية للحركة.
وبذلك يكون الفكر السياسي علاقة تفاعل بين التأمل بالحق من جانب الإنسان في الواقع، وإدراك الغاية
وإذا كان التأمل يعكس النبوغ الفردي والحساسية الذاتية...
فإن الواقع ترجمة للمعاناة اليومية من خلال الممارسة...
والاستمرارية الفكرية تفترض التتابع المستمر والمعاناة المنتظمة في علاقة ثابتة بين الفكر والحركة؛ حتى تتحقق الغاية.
الثاني: الزعامة السياسية:
والزعامة السياسية تعني باختصار: القدرة الذاتية على اتخاذ القرار السياسي المحقق لأكبر احتمالات الصواب وأقضى درجات الاطمئنان النفسي " يعني الجانب الإنساني للقرار السياسي ".
وعلى هذا فإن الزعامة السياسية تتطلب بهذا الاعتبار عدة صفات أساسية:
الإخلاص الملهم للصواب والمجبر للخطأ والمحقق للثواب في كلا الأمرين والمحقق في نفس الوقت للتجرد من الصراعات النفسية والمؤثرات العاطفية والمصلحة الشخصية.
التوكل المعين على خوض التجربة قبل بدئها وعلى تحمل اثارها بعد تمامها.
الذكاء المحقق للإحاطة بالقرار واثاره واحتمالاته وبدائله؛ بدقة ذهنية واستشفاف مستقبلي يستوفي حق التفكير في القرار بأسرع وقت ممكن بحيث لا يصل صاحب التفكير إلى مرحلة الاستغراق النظري المضل والمحير.(4/454)
الخبرة المستخلصة من تجارب الماضي المشابهة للتجربة القائمة لتحقيق كل عناصر الصحة والصواب بأسهل الأساليب، وتحقيق أكبر العوامل النبهة للتجربة إلى المزالق والثغرات التي دفع ثمنها أصحاب التجارب السابقة حتى لا يتضاعف الثمن وتتضاءل الحصيلة.
العزم الذي يجعل صاحب القرار منطلقاً بقراره بأقصى الاطمئنان الشرعي والحركي والنفسي... اطمئناناً يملؤه ويتعداه منه إلى جميع المحيطين به فيطمئنوا كما اطمأن اطمئناناً واثقاً، بغير غرور يعمي عن الحقيقة، وبغير تردد يضيع الهدف ويحير المشاركين له في الموقف.
القوة الشخصية التي يأخذ بها فرصته الكاملة في اتخاذ قراره ويتنبه بها ألى المحاولات الطبيعية المصاحبة لكل قرار جديد والتي يحاول فيها أصحابها نقد أو رفض القرار من المحيطين بصاحب القرار عندما يكون حوله المخلص غير الذكي والذكي الفاقد للخبرة؛ حيث سيتمثل كل فقد لأي عنصر من عناصر الإخلاص والذكاء والخبرة في محاولة معاكسة لصاحب القرار...
القوة الشخصية التى ينشئ بها واقعاً جديداً، ويدخل بها في مرحلة جديدة، ويحدث بها متغيرات جديدة بقرار واحد يتطلب رجلاً قوياً وزعيماً سياسياً.
صدق الإيمان الذي يجعله يتعرف على مصلحة الدعوة بكل كيانه ومواهبه.
تخطر له الفكر ويلهم الأمر. ويعيش الصواب.
يعيش قضيته... يغير ظروفه وينهض بأمته ويحيي حضارته.
الصبر الذى يتحمل به المناوأة من المختلفين معه داخل كيانه السياسي، والمتربصين به خارج كيانه، والضاغطيت عليه من العقول غير الفاهمة، والحاقدين عليه من النفوس غير السوية... الصبر الذي يحقق المرحلية المنبطة بلا بطء الخائف، ولا تهور المتحمس.
الحبوالألفة: التي تعين علي الأطمئنان لقراره وتخفف من وطأة الخطأ إذا حدث وتعين علي تحمل المعاناة المترتبة علي الخطأ... الحب الذي يجعل الجميع يبذل كل ما في وسعه؛ لإنجاح قرار يحبون صاحبه " خير أمرائكم من تحبونهم "34.
الربانية التي تحمي الزعيم من أي تناقض بين الحق المطلق وإنسانيته.
البصيرة التي تحمي الزعيم من غيبة الغاية عن تصوره.
العلم الذي يحمي الزعيم من الغفلة بالواقع وطبيعة الأمور.
وبذلك تجتمع في الزعامة السياسية كل العناصر المحققة لمضمون النظرية السياسية.
فتصبح الزعامة هي المحصلة النهائية للممارسة.
كما تصبح الزعامة السياسية أساساً في بناء النظرية السياسية مما يجعل هذا الأساس مقدمة ضرورية لتحقيق الإحكام بين جوانب بناء النظرية السياسية...
وذلك بعد تمام الوصول إلي الغاية.
د) أهداف العمل السياسي (الغاية):
وجانب الغاية في التصور السياسي، له معني جوهري وهو الهداية؛ لأن الهداية هي غاية الدعوة وحكمتها.
وباعتبار أن السلطة هي الوسيلة الأساسية لتحقيق الهداية. (إن الله يزع بالسلطان ما لم يزع بالقران)35.
وباعتبار أن للسلطة حداً نهائياً وهو الخلافة؛ أصبحت الخلافة هي الصيغة السياسية لغاية الهداية.
ولكن إقامة السلطة ابتداًء، والخلافة كحد نهائي لها تقتضي القوة... والقوة تقتضي الشهادة.
والشهادة تقتضي الجنة...
فأصبحت الشهادة والجنة غاية نهائية علي المستوي الفردي لأصحاب الدعوة.
وبذلك يتحدد مجموع الغايات بصورة مرتبة:
الهداية: كغاية نهائية للدعوة.
الدولة والخلافة: كصيغة سياسية لتلك الغاية.
الشهادة والجنة: كمقتضي؛ لتحقيق تلك الصيغة. وهذه الحقائق الثلاث هي التي تمثل في التصور السياسي جانب الغاية.
وبحسب ترتيب حقائق الغاية في التصور السياسي.
أصبحت غاية الهداية هي الهدف التي ترتبط بها كل الأساليب.
وهذا الأرتباط حقيقة بارزة في التصور الإسلامي العام حيث أن الغاية والأسلوب ليس بينهما في التصور الإسلامي أي تناقض.
ومن هنا أصبحت غاية الهداية هي المحصلة النهائية لكل أبعاد التصور السياسي.
فالهداية هي محصلة البعد العسكري بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم "36 وقوله: " عجبت لقوم يجرون الي الجنة بالسلاسل "37.
والهداية هي محصلة البعد القتصادي بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار "38 وقول الله: " والمؤلفة قلوبهم... ".
والهداية هي محصلة البعد الجماهيري39...
غير أن نقطة الضوء المكثفة حول حقيقة الغاية في التصور السياسي هي حق هذه الغاية علي مستوي كيانات الحركة المتعددة التي تتبني جميعها الهداية كغاية واحدة لتلك الكيانات.
فيجب أن يكون لهذه الغاية الواحدة – وهي الخلافة – حق مفروض علي طبيعة العلاقة بين الكيانات المتعددة الهادفة إلي هذه الغاية الواحدة.
ثانياً
الصيغة السياسية لحركة الهداية
أ) دولة الدعوة:
والسعي للخلافة كصيغة سياسية للغاية، يبدأ بإقامة الدولة المرتبطة بالهداية.
فالدولة الإسلامية أساسها نشر الدعوة والعقيدة، والدعوة الإسلامية محورها ووظيفتها خلق القناعة بحقيقة الدين.(4/455)
وواجب الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدعوة: " ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "... هذه الطبيعة المتميزة كان لا بد وأن تكوِّن بخصائصها جميع عناصر ومتغيرات النموذج السياسي الإسلامي... فالدولة وظيفتها الدفاع عن العقيدة، وأساس شرعية السلطة ومحور وسبب وجودها هو نشر الدعوة فيها، والدعوة والسلطة يتفاعلان كحقيقة ديناميكية واحدة، ورغم أن المحور الأساسي وجوهر هذا التفاعل هو الدين إلا أن السلطة هي التي تأتي فتخلق ذلك الإطار الذي يتيح للمواطن بأن يحقق ذاته من خلال الاستجابة إلى قواعد الممارسة الدينية... وهكذا فإن شرعية السلطة هي الدين وأداة الدين هي السلطة.
إن واجب الدولة هو أن تدعو إلى كلمة الحق، وأن تدعو من خلالالإقناع، والاقتناع بهذا المفهوم لذا كان ولا بد أن يتحول إلى قواعد للمارسة في كل ما له صلة بنظرية التعامل السياسي في الحضارة الإسلامية.
وكذلك فإن البيعة كعقد سياسي مصدر للسلطة تتمركز حول عنصر أساسي هو وحده محور شرعيتها وهو مضمون الممارسة للسلطة: احترام الأحكام الإسلامية فإذا حدث إخلال بذلك المضمون يصير المسلم وقد أضحى ليس من حقه – فقط – عدم الطاعة، بل من واجبه رفض تلك الطاعة ومقاومة الحاكم ولو بالسلاح40.
والدولة هي مقتضى التوحيد؛ لأن الدولة هي الحُكم، والحكم هو مقتضى التوحيد: " ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
والدولة هي التمكين للدين في الأرض: " وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ".
والدولة هي الأداة الأساسية لإقامة الدين: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ".
لقد كانت بيعة العقبة الأولى هي أول مرحلة فعلية لإقامة الدولة... وكان مضمونها: " حتى أبلغ دعوة ربي "41.
فالدولة هي الوسيلة الأساسية للدعوة.
وفي قول الله: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ".
فندرك أن الدولة لرفع الاستضعاف عن المسلمين.
وفي قوله سبحانه: " حتى لا تكون فتنة ".
ندرك أن الدولة لرفع الفتنة من جانب غير المسلمين؛ ويكون الدين لله.
ولذلك جاء تعريف وظيفة الدولة في التصور السياسي بأنها: مجموع الأهداف التي يجب أن تسعى الإرادة السياسية إلى تحقيقها من خلال الأداة النظامية42.
إن الدولة عندما تكون للدعوة فإن هذا معناه أن يكون الحاكم ونظم الحكم والمحكومين به أداة للدعوة.
بل تكون الدعوة قضية كل إنسان وحياة كل نسمة في دولة الدعوة.
بل يبلغ الأمر بأن تكون الدعوة قضية الهدهد في دولة سليمان نبي الله.
يعرفِّ الشرك: " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ".
ويعرِّف التوحيد: " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ".
ويعرِّف سبب الشرك: " وزين لهم الشيطان أعمالهم ".
ويعرِّف السبيل: " فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ".
يتأخر وهو مطمئن؛ لأن معه نبأ عظيم... نبأ فوق النظام... نبأ من أجله كان النظام... يتأخر ومعه عذره؛ لأن معه قضية الدعوة وهي قضية الحاكم وقضية الدولة وقضية الأمة... هدهد يعرف أن الدعوة لأهل الأرض جميعهم؛ فيجب ألا يكون شرك في أي مكان، ففي سبأ شرك يجب القضاء عليه... حتى لو لم تكن سبأ في ملك سليمان.
ودون أن يكون من رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ودون أن يكون من رجال الحسبة.
ودون أن يكون مكلفًا... أو موظفًا.
فالدعوة هي الضمير وهي الوعي والذات وهي الهوية.
ولذلك يقول الإمام ابن القيم في شفاء العليل: ولما كان الهدهد داعيًا إلى الخير وعبادة الله وحده والسجود له جاء النهي عن قتله... كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه43.
لقد كانت دعوة الهدهد ولاء للدولة الإسلامية.
فكلن لا بد أن يكون على الدولة الإسلامية واجب حمايته بعد أن أعطاها ولاءه، فجاء نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله ومعه النملة والنحلة44.
من أجل ذلك يجب أن تكون خطوط الحركة مشدودة إلى هدف الدولة.
وهذه الخطوط هي أخطر خطوط التصور السياسي للحركة الإسلامية.
الخط الأول: هو أن يكون لقيام الدولة الاعتبار الأول في منهج الحركة وبحسب مقتضيات الواقع وطبيعة الظروف وبكل الإمكانيات.
ولكن...
هذا الاعتبار لا يوقف كل كيان الحركة على هذا الهدف إذ أن هناك أهدافًا موازية ضرورية في ذاتها بصفة شرعية ومؤدية إلى هذا الهدف الأساسي بصفة حركية.
وأهم هذه الأهداف:
- رفع الالتباس عن الناس واستفاضة البلاغ... وهذه هي الصفة الشرعية...
وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية... يعني تكوين القاعدة المؤيدة للدولة الإسلامية ونظام الحكم الإسلامي عندما يقوم... ويبقى بعد ما يقوم.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وهذه هي الصفة الشرعية وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية تهيئة الواقع الاجتماعي للإذعان لحكم الله.(4/456)
- جمع الإمكانيات لإقامة الدولة... وهو من إعداد القوة، وهذه هي الصفة الشرعية وهذا العمل هو في نفس الوقت بالصفة الحركية... سيحمي الحركة من الوصول إلى مرحلة حدوث العجز الإداري والفني عند إقامة السلطة.
والشرط الأساسي في ممارسة تحقيق هذه الأهداف الموازية لهدف إقامة السلطة هو ألا يطغى هدف بعينه على بقية الأهداف الموازية، وألا يطغى مجموع الأهداف الموازية على هدف إقامة السلطة والإعداد لها بالصورة الحركية المباشرة؛ لأن له الاعتبار الأول في الدعوة... ودون أن يوقف هذا الهدف الأساسي هذه الأعمال لأنها واجبات أصلية بصفتها الشرعية، ومؤدية إلى الهدف الأساسي بصفتها الحركية.
الخط الثاني: هو أن يكون للمستضعفين في زمن الحركة الولاية في نظام الدولة45... وذلك لأن الدولة والسلطة فتنة فلا يجب أن يتعرض لها إلا من لا تضره بإذن الله... والمستضعفون هم الذين عرضت على قلوبهم الفتن كالحصير عودًا عودًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث46.
فالمستضعفون هم الذين لا تضرهم الدنيا والسلطان بعد أن مروا بمرحلة الاستضعاف...
من ناحية أخرى... فإن تولية المستضعفين مسألة عدل... يدل على ذلك خطبة عمر بن الخطاب التي رواها ليست عند عباس قائلاً: خطب عمر بن الخطاب بالجابية فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي فيكم فقال: " استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "47. كما قال عمر أيضاً في موضع اخر: إن الله عز وجل جعلني خازناً لهذا المال وقاسمه له ثم قال: بل الله يقسمه وأنا بادئ بأهل النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أشرفهم، نفرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم عشرة الاف إلا جويرية وصفية وميمونة، فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا، فعدل بينهن عمر، ثم قال: إني بادئ بأصحابي المهاجرين الأولين فإنا أخرجنا من ديارنا ظلماً وعدواناً، ثم أشرفهم، ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة الف: ولمن شهد بدراً من الأنصار أربعة الاف ولمن شهد أحد ثلاثة الاف قال: ومن أسرع في الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطأ به العطاء؛ فلا يلومن رجلاً إلا مناخ راحلته48.
ومن ناحية ثالثة... فإن تولية المستضعفين وهم خير من حفظهم الله من فتنة السلطة سيكونون خير من يحفظون أمانة السلطة.
وهذه خطبة عتبة بن غزوان التي تمثل الوثيقة السياسية التي يتأكد منها منهج الدعوة في الانتقال من مرحلة الحركة إلى مرحلة الدولة.
خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه، قال: أما بعد: فإن الدنيا قد اذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها؛ فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً، ووالله لتملأن، أفعجبتم، ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة؛ وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واترز سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون اخر عاقبتها ملكاً فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا49.
ومن تحليل الوثيقة يتبين:
كيف أن الولاية لم تؤثر في إيمان الولاة وارتباطهم بالآخرة واحتقارهم لشأن الدنيا، وكيف أن الولاية لم تنس الولاء فترة الاستضعاف وأنها لا زالت هي الفترة التي تملأ عقله ووجدانه ولم تزحزحهاعن ضميره ممارسة والحكم. وكيف أن الولاية لم تصبه بأمراضها فنراه يستعيذ بالله أن يكون في نفسه عظيماً وعند الله صغيراً، وكيف أن الولاية مرحلة ستمر ولن تبقى لهم وأنه سيأتي ولاة آخرون محددو الصفات والمعالم.
وهذه وثيقة أخرى تتضمن نفس القاعدة وهي وثيقة تعيين أول سفراء بعد إقامة الدولة الإسلامية.
وهذا بيان بأسماء المعينين وصفات كل منهم:
حاطب بن أبي بلتعة: سفير إلى مصر أرسل إلى المقوقس. وهو بدري شهد الحديبية50.
دحية بن خليفة الكلبي: سفير إلى الروم أرسل هرقل. وهو قديم شهد المشاهد51.
سليط بن عمرو العامري: سفير اليمامة أرسل إلى هوذة بن علي. وهو بدري له قدم في الإسلام52.
شجاع بن وهب الأسدي: سفير إلى دمشق أرسل إلى الحرث بن أبي شمر. من السابقين هاجر للحبشة53.
عبد الله بن حذافة السهمي: سفير الى فارس أرسل إلى ابرويزبن هرمز. مجاب الدعوة من سادة الصحابة54.
عمرو بن أمية: سفير إلى الحبشة ارسل إلى الأصم بن أبجر النجاشي. أسلم يوم أحد55.
عمرو بن العاص سفير إلى عمان. أسلم قبل الفتح56.
وعندما نقدم هذا النموذج التاريخي لدولة الدعوة نقدم معه هذه الحقيقة.(4/457)
إن حقيقة دولة الدعوة لا تتجلى إلا في التجربة الإسلامية؛ لأن دار الإسلام هي الدار التي تعلوها أحكام الإسلام وعندما لا تعلوها أحكام الإسلام لا تكون إسلامية، وتصير خارج نطاق التجربة.
والإسلام يرفض إثبات اسم دار الإسلام لدولة لا تعلوها أحكام الإسلام ويعلن الفقه الإسلامي أن الدولة التي لا تعلوها هذه الأحكام ليست محسوبة على الإسلام.
وفي كل مراحل الدولة المسلمة... كان شرط الدعوة قائماً. ابتداًء من الخلافة الراشدة. حتى الملك العضود... كانت الدعوة.
أما التجارب التاريخية للأمم السابقة في العلاقة بين الدولة والدعوة فإنها تسمح بمتناقضات غاية في الخطورة، فالحضارة اليونانية والرومانية والفارسية... لم يكن لها اهتمام بالدين. وحتى الحضارة الكاثوليكية التي قامت على حقيقة التعصب الاستفزازي للمسيحية... كان هذا التعصب فارغاً من مضمون الدعوة.
حيث كانت صيغة هذا التعصب هي المزايدة بين الأمراء والاتهامات بالهرطفة والسيطرة المقيتة لرجال الدين... كانت هوساًً فارغاً من مضمون الدعوة. حتى مثال الدولة اليهودية كرمز للربط بين الدولة والدين يثبت ويؤكد أن دولة الدعوة ليست إلا الإسلام؛ لأن اليهود ليست لهم أية صلة باليهودية.
ومن هنا استحقت الدعوة الإسلامية، دون غيرها، أن تكون المقيمة لدولة الحق، واستحقت الخلافة الإسلامية أن تكون المقيمة لحضارة الحق.
ب) المضمون الحضاري لدولة الدعوة:
حضارة الحق... فلكل حضارة مضمون. والحركة صانعة الحضارة.
والحق هو مضمون الحركة الإسلامية وحضارتها.
ومن هنا كانت خصائص الحضارة الإسلامية صادرة عن مضمونها.
فالحق ومقتضاه من حيث الممارسة: الوحدة في معايير السلوك، والوحدة في معايير التعامل؛ وأبرز هذه المعايير هو العدل.
كذلك فللحق مقتضاه من حيث التعامل... وهو السيطرة.
وكذلك فإن الحق الذي تتبناه الحضارة يجب أن يستوعب الواقع البشري وهو العالمية، وأيضاً فإن الحق مقتضاه الاستمرارية...
ومن هنا يتحدد مقتضى الحق كمضمون للحضارة الإسلامية الذي تنشأ عنه خصائصها المستمدة من حركتها من البداية؛ لتكون:
ج) الصيغة السياسية للمضمون الحضاري:
بخصائصها الأساسية...
العدل... " السيطرة " " القوة " "الظهور ". العالمية. الستمرارية.
ولقد سبق القول في أن الحضارات السابقة حضارات مصنوعة جاء مضمون كل حضارة منها كرد فعل للحضارة التي تسبقها...
مثلما جاءت حضارة القوة المادية (الرومانية) كرد فعل لحضارة المثالية الخيالية (اليونانية) وجاءت حضارة الحاكم الإله... (الفارسية) كرد فعل للقوة المادية (الرومانية ".
ومثلما جاءت حضارة الفرد والقومية (الأوربية) كرد فعل للتعصب الكاثوليكي " الكاثوليكية ".
وهذا دليل على أنها حضارات لم تصنع على عين الله.
ودليل آخر على ذلك هو أن النظرية السياسية لكل حضارة لم تتكون إلا بعد فترة زمنية طويلة وقطع أشواط تاريخية عبر حياة الأمة... بل إن هناك أمماً لم تتكون نظريتها إلا في أواخر عمرها.
الأمر الذي يختلف تماماً في حضارة الأمة الإسلامية التي تكونت نظريتها السياسية في حياة مؤسسها الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الحركة حتى الخلافة.
لأنها كانت الممارسة السياسية للمضمون الحضاري للأمة تعني أن يكون الموقف السياسي امتداداً طبيعياً لتاريخ الأمة وانسجاماً مطلقاً مع حضارتها.
وذلك يقتضي أن تجتمع في هذا الموقف كل الخبرة السياسية للأمة المأخوذة عن تراثها السياسي وتجاربها التاريخية.
ثالثاً
طبيعة الممارسة السياسية
أ) الموقف السياسي (نقطة البدء):
وكما تسهم كل نقطة عندما تتحرك في صنع الخط كذلك يسهم الموقف في تحديد اتجاه الخط السياسي للدولة وطبيعة البناء الحضاري للأمة في واقع الممارسة.
إذن فالموقف السياسي هو النقطة المتحركة الصانعة للخط السياسي.
ولإنشاء الموقف السياسي عدة قواعد:
الترتيب الإجرائي:
1) الحكم الشرعي في مضمون الموقف.
2) أثر الموقف على ولاء الجماعة.
فقد يكون الموقف صحيحاً ولكنه لا ينال إجماعة الجماعة حيث يسبب مجرد إعلانه انشقاقاً... عندئذ يكون الأولى ترك هذا الموقف حتى يتحقق الإجماع عليه وهذا ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما لم يعلن الدخول في معركة بدر حتى حقق إجماع المهاجرين والأنصار بعد أن قال له سعد بن عبادة سيد الأنصار: والله لو خضت بنا غمار هذا البحر لخضناه معك57.
إن مراعاة واقع الجماعة في اتخاذ القرار مبدأ سياسي هام يتجلى واضحاً في كل مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم السياسية58.
3) أثر الموقف في تحقيق الهدف العام للجماعة، وينقسم إلى ناحيتين:
أ) النتيجة العملية.
ب) الهدف الدعائي.
فقد يكون للموقف أثر صحيح من الناحية العملية. ولكنه يسبب اهتزازاً في صورة الدعوة أمام نظر الناس وهذا الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لايقتل عبد الله بن أبي سلول وهو مستحق للقتل قائلاً لعمر: دعه حتى لا يتحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه59.
ومن هنا كانت الترجيحات هي أساس إنشاء الموقف السياسي بعد ثبوت الترتيب الإجرائي.
الترجيحات:
فعندما... ننشئ موقفاً سياسياً بصورة نظرية.(4/458)
ننظر إلى الحكم الشرعي فإذا ثبتت شرعيته ننظر إلى أثر الموقف على ولاء أصحاب الدعوة؛ لأن الحفاظ على هذا الولاء أولى من تحقيق أي نتيجة عملية.
فإذا لم يكن للموقف ضرر على ولاء الجماعة؛ ننظر إلى نتيجته العملية في الواقع؛ فإذا كانت له نتيجة محققة لمصلحة الدعوة ننظر في الأثر الدعائي والإعلامي للدعوة.
فإذا كان للموقف أثر دعائي ضار فلا نمارس هذا الموقف؛ لأن الضرر الدعائي مفسدة؛ ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فإذا لم يكن له ضرر دعائي مارسنا الموقف.
ثم مع ذلك يراعى في إنشاء الموقف الاعتبارات الأصلية الآتية:
1) التوافق بين الأسلوب والنتيجة:
والتوافق بين الأسلوب والنتيجة خصيصة من خصائص المنهج الإسلامي العام فالإسلام منهجاً هو الإسلام أثراً ونتيجة بغير تناقض.
بل إن النتيجة الصحيحة التي يمكن الوصول إليها بأسلوب غير صحيح محكوم عليها بالبطلان ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال في كتاب الله برأيه وأصاب فقد أخطأ "60 لأن منهج أو أسلوب الوصول إلى النتائج يجب أن يكون صحيحاً في ذاته حتى يكون صحيحاً في نتيجته وبذلك تقوم الدعوة بالحق ويقوم الإسلام بالإسلام.
2) التوافق بين المبدأ والمصلحة:
إن أهم الحقائق المعروفة في الدعوة الإسلامية أنها دعوة مبادئ؛ وهذا ما سلم به أعداء الدعوة أنفسهم... حتى أن أبا سفيان يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هرقل ولم يكن قد أسلم بعد... سؤالاً خطيراً... أيغدر؟ قال: لا يغدر61...
ولكن موقفا آخريدل على أن الحفاظ على مبادئ الدعوة أمر لايمكن التفريط فيه مهما بلغت درجته وهذا الموقف الرجل أمام الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاءه رجل كان الرسول قد أحل دمه ووقف الرجل أمام الرسول ومشى دون أن يمسه أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة: لم لم تقتلوه؟ قالوا يا رسول الله! هلاّ أشرت إلينا؟ فقال: ما كان لنبي أن يكون له غلة. أي إشارة خفية62.
3) التوافق بين الوسيلة والغاية:
وكذلك الوسائل بعد الأساليب يجب أن تكون من الإسلام ذاته. من أجل ذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم مشركاً يريد القتال مع المسلمين قائلاً له: " نحن لا نستعين بمشرك "63.
بل قد يبلغ الأمر أن يرد الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً لعن ناقته أثناء الذهاب إلى الغزو قائلاً له: ارجع بها لا تصحبنا بملعون64.
4) الدلالة السياسية للحدث السياسي:
ولما كان الموقف السياسي هو النقطة المتحركة للاتجاه السياسي كان لابد أن يقوم الموقف السياسي علي معناه الدال علي الاتجاه السياسي والقوة السياسية.
وهذا المعني هو ما نتفق علي تسمية بالدلالة السياسية.
وعلي هذا الاساس يقوم إنشاء الحدث بدلالة مقبولة أو نفي دلالة مرفوضة أو الاثنتين معاً.
والدلالة السياسية متعددة: منها الدلالة العملية، ومنها الدلالة القولية، ومنها الدلالة الشخصية.
وأقوي أمثلة ارتباط الموقف السياسي بدلالته هو المفاوضات والمعاهدات.
والدلالة الثابتة التقليدية للمعاهدات من الجانب الإسلامي:
1) إثبات وحدة الموقف.
2) فرض الإرادة السياسية.
3) تحقيق مكاسب عملية.
ومن الجانب الجاهلي غالبا ما يكون هدم هذه الاهداف وتضييع هذه الدلالات.
مثلما قال المفاوض عن قريش لرسول صلى الله عليه وسلم في معاهدة الحديبية: " جئت بأوشاب الناس لتفض بهم بيضتك وما أراهم إلا منفضين عنك " فأثبت له الصحابة غير ذلك عندما ابتدروا نخامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسحوا بها أجسادهم، وتنافسوا علي وضوئه ليشربوه؛ حتى رجع المفاوض الي قريش ليقول لها: لقد رأيت الروم وقيصر، والفرس وكسري؛ فما وجدت قوماً يعظمون صاحبهم كما يعظم أصحاب محمد محمداً؛ وأري أن تصالحوه.
ومثلما حاول مفاوض الفرس في معاهدته مع المسلمين إنشاء شرخ في بناء موقفهم السياسي فاتفق مع المفاوض المسلم علي معاهدة الصلح، وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي تم فيه عقد هذا الصلح، ثم جاء مفاوض آخر فوافق مفاوض الفرس علي المعاهدة وأخبره أنها تبدأ من اليوم الذي جاء فيه المفاوض الثاني فرفض المفاوض المسلم أن يكون بدء المعاهدة من اليوم بل من الأمس كما حدد ذلك أخوه السابق عليه؛ وبذلك تتحقق وحدة الموقف وتخفق خطة الفرس في التفريق بين المفاوضين المسلمين حتى ولو بفارق يوم في تحديد تاريخ المعاهدة.
ولعل وحدة الموقف هذه التي أثبتها المفاوض الثاني هي التي ثبت معها فرض الإرادة السياسية وذلك بتمسكه باتفاق أخيه علي تاريخ المعاهدة.
ثم نبدأ طرح نماذج عامة بعد نموذج المعاهدات للموقف السياسية المتضمنة لجميع أنواع العلاقات بين الموقف السياسي كحدث له دلالته المتحققة من خلاله.
أنموذج:
دلالة سياسية تحققت بالكلام دون عمل وهو حديث عائشة: " يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين باباً شرقياً وباباً غربياً فبلغت به أساس إبراهيم "65.
أنموذج:
من أمثلة إثبات الدلالة بصورة واضحة لا تحتمل غيرها هو حادثة المرأة التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلتها وقاتل القبائل حولها.(4/459)
كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنا أسرينا حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلي عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس،...... فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه الذي أصابهم، قال: " لا ضير – أو لا يضير – ارتحلوا ". فارتحل، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي للصلاة فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال: " ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟! ". قال: أصابتني جنابة... ولا ماء. قال: " عليك بالصعيد؛ فإنه يكفيك ". ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانًا – كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف – ودعا عليًّا فقال: " اذهبا فابتغيا الماء ". فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين – أو سطيحتين – من ماء على بعير لها فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوفًا. قالا لها: انطلقي إذًا. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي
فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث. قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين – أو السطيحتين – وأوكأ افواههما وأطلق العزالى ونودي في الناس: استقوا. فسقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال: اذهب فأفرغه عليك. وهي قائمة تنظر إلي ما يفعل بمائها. وأيم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها ملاة منها حين ابتدأ فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لها. فجمعوا لها - من بين عجوة ودقيقة وسويقة - حتى جمعوا لها طعاما فجعلوها في ثوب وحملوها ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئاً، ولكن الله هو الذي أسقانا... فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون علي من حولها من المشركين ول يصيبون الصرم الذي هي منه. فقالت يوما لقومها: ما أري أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام66.
أنموذج:
نفي دلالة مرفوضة، وإثبات دلالة مقبولة.
عن ابن عمر قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة. قلنا: كيف نلقي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟ فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا نحن الفرارون، قال: لا بل أنتم العكارون (أي الكرارون)، فقبلنا يده، فقال: أنا فئتكم وفئة المسلمين، ُثم قرأ (إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلي فئة)67.
وذلك في تفسير قول الله عز وجل: " إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ".
وفي غزوة أحد حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغزوة وجمع المسلمين حوله ليردوا علي أبي سفيان الذي أراد أن يحقق نتيجة سياسية للغزوة...
وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: " لا تجيبوه " فقال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: " لا تجيبوه ". فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقي الله عليك ما يخزيك! قال أبو سفيان: أعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أجيبوه ". قالوا: ما نقول؟ قال " قولوا: الله أعلي وأجل ". قال أبو سفيان. لنا العزي ولا عزي لكم. فقال الني صلى الله عليه وسلم: " أجيبوه " قالوا ما نقول؟ قال " قولوا: الله مولانا ولا مولي لكم ". قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال. قال الني صلى الله عليه وسلم: " أجيبوه "! قالوا: ما نقول؟ قال " قولوا: قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار "68.
حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار ورائهم بالجيش وأقام ثلاث ليال حتى سميت غزوة حمراء الأسد69.
وكان في هذا أيضاً نفي دلالة مرفوضة وإثبات دلالة مقبولة.
فالوقوف بعد أحد ثلاث لنفي دلالة مرفوضة وهي قبول الهزيمة وإثبات دلالة مقبولة وهي الإصرار علي مواصلة الجهاد بعد حرمان العدو من تحقيق أي نتيجة سياسية لصالحه.
أنموذج:
حدث قام علي حفظ صورة الدعوة في نظر الناس كدلالة مطلوبة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " كنا في غزاه... فكسع70 رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمعها الله رسوله صلى الله عليه وسلم قال: ما هذا؟
فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار؟ فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها؛ فإنها منتنة. قال جابر: وكان الأنصار حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد فقال عبد الله بن أبي... أو عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق! قال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه71.
أنموذج:
حدث نشأ بدلالة مقبولة، بعد تجريده من دلالة مرفوضة.(4/460)
بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج اليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد: إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم علي شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل ما شئت، فترك حتى كان الغد ثم قال له، ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك: إن تنعم علي شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير.
فقال: أطلقوا ثمامة. فانطلق إلي نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله 72...
والملاحظة الأساسية في الحديث أن ثمامة ذكر الدم في اليوم الأول؛ ولذا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوطا؛ لأنه لو تركه بعد ذكره الدم لكان معني الموقف هو الطمع في الدية أو الفداء. وفي اليوم الثالث لم يذكر ثمامة الدم أو المال فقال: عندي خير فقال أطلقوا ثمامة.
إن القاعدة السياسية التي يتضمنها هذا الموقف هي شرط جوهري في الممارسة السياسية وإنشاء الموقف السياسي وهو: الوضوح ومعناه أن يكون للموقف تفسير واضح لا يحتمل غيره ولذلك ترك رسول الله ثمامة حتى أصبح لإطلاق سراحه تعبير واحد ومعني واحد هو الإكرام الذي لا يختلط به معني الطمع في الدية أو الخوف من الثأر.
أنموذج:
حدث قام علي حفظ وحدة الموقف، وهي من أخطر دلالات الموقف السياسي.
لما غدر يهود بني قريظة بالمسلمين في غزوة الخندق وتحالفوا مع المشركين كان لابد من إجلائهم؛ لأن وجودهم كان مرهوناً بالمعاهدة التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن تحالف اليهود مع الأنصار قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم والذي لم يزل قائما بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان يمثل مشكلة خطيرة...
فالواجب إجلاؤهم ٍوقتالهم... وهم حلفاء الأنصار في نفس الوقت... فما الموقف...؟
كان الموقف السياسي هو إحالة أمرهم إلي الأنصار ذاتهم... فطلب منهم رسول الله أن ينزلوا علي حكم من يختارون. وكان من الطبيعي أن يكون اختيارهم من الأنصار باعتبارهم حلفاءهم؛ فاختاروا سعد بن معاذ سيد الأنصار.
وكما تقول كتب السيرة: " فلما أصبحوا نزلوا علي حمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت...
فلما كلمته الأوس قال: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاك إلي سعد بن معاذ... فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فحملوه علي حمار قد وطؤا له بوسادة من أدم، وكان رجلاً جسيماً جميلاً، ثم أقبلوا معه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم؟ فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلي دار بني عبد الأشهل. فنعي لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه.
فلما انتهي سعد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلي سيدكم... فقاموا إليه، فقالوا يا أبا عمرو، إن رسول الله قد أمر مواليك لتحكم فيهم؛ فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من ها منا، في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله إجلالاً له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم؛ قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبي الذراري والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة73.
أنموذج:
حدث قام علي أساس توجيه أعداء الدعوة بما يناسب مصلحة الدعوة ذاتها.
قال أبو داود حدثنا محمد بن داود بن سفيان أخبرنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلي ابن أبي ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس والخزرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة: آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم يريدون أن تقاتلوا بأبنائكم وإخوانكم؛ فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا74.(4/461)
وهذا الموقف يتضمن قاعدة سياسية هامة وهي توجيه أعداء الدعوة إلي اتخاذ الموقف المناسب للدعوة بمنطق المصلحة لهؤلاء الأعداء وهذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبدة الأوثان الذين اجتمعوا لقتاله. وهو ما فعله مع قريش ذاتها عندما بلغه أنهم خرجوا إليه بالعوذ المطافيل75 لقتاله فقال: ويح قريش لقد أكلتها الحرب خلوا بيني وبين القبائل فإن كان الأمر لي عليهم كان شرفا لهم وإن كان الأمر لهم علي كان ما يرجون76. نفس منطق المصلحة يتحدث به الرسول إلي أعدائه ليوجههم إلي الموقف المناسب للدعوة...
ب) أبعاد الممارسة السياسية (الحدود النهائية):
1) البعد الجماهيري للتصور السياسي " العامة ":
والعامة هي العنصر الأساسي من عناصر الأمة حيث أن الأمة هي: الحكم، والملأ، والعامة وهذا العنصر هو المحقق لمعني الأمة المرتبط بخصائصها القدرية.
وهذه الخصائص هي:
- العصمة: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي علي ضلالة " 77 وقال: " لا يجمع الله هذه الأمة إلا علي هدي " 78.
- الرحمة: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذه الأمة مرحومة " 79.
- النصر: حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذه الأمة منصورة " 80. وقال " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر هذا الدين لا يضرهم من خالفهم " 81.
وهذه الخصائص مرهونة بالأمة بمعني السواد الأعظم باعتبارها العنصر الأساسي للأمة وكذلك الضمان الأخير لتحقيق معني الجماعة؛ ولذلك جاء معني الجماعة في مجموع النصوص الواردة بأربعة معايير؛ وكان منها معيار العامة 82.
ومما يجب إدخاله في الاعتبار وجوباً شرعياً جوهرياً هو أن العامة في دار الإسلام هي المقصودة - أساساً - بهذا المصطلح. أما العامة في دار الكفر فلا تنطبق إلا علي من كره ما عليه المجتمع من الكفر وهذه هي البراءة المذكورة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن كره فقد برء إلا من رضي وتابع...
فلا يمكن أن نتصور أن مجموع الراضين عن الكفر والتابعين لأهله الملتصقين بهم في كفرهم أو مجموع الهمج الرعاع أتباع كل ناعق هم المحققون لمصطلح السواد الأعظم.
قيمة التوجه للعامة:
والحقيقة أن التعامل مع العامة ترجع أهميته إلي ارتباطه المباشر بغاية الدعوة وهي الهداية.
وذلك أن غاية الدعوة هي أن يؤمن الناس. وعندما يتمكن أصحاب الدعوة من التعامل المباشر مع الناس.
فإن هذا الأمر تكون له أهمية ضخمة قد تقترب من أهمية محاولة إقامة السلطة الإسلامية؛ لأن هدف هداية الناس هو أهم أسباب قيام هذه السلطة.
كما نعلم أن إسقاط الحكم الجاهلي هو إزاحة لأهم وصول الحق إلي الناس، وعندما تنشأ ظروف الدعوة التي تتاح فيها إمكانية وصول الحق إلي الناس...
تكون قد تحققت نتيجة أصلية هي نفسها أهم نتائج إسقاط الحكم الجاهلي وإقامة الحكم الإسلامي.
ومن هنا كان من أهم معاني الفتح 83 معاهدة الحديبية؛ لأن هذه المعاهدة هي التي أتاحت هذا الاتصال المباشر بين المسلمين والكفار، فحقق هذا الاتصال إيمان تسعة أعشار المسلمين الذين كانوا في فتح مكة ومن هنا كان لمعاهدة الحديبية معني الفتح؛ لأن لها حقيقته وسببه وغايته وهي أن يؤمن الناس...
وكما ترجع قيمة فرصة الاتصال بالناس إلي نتيجتها ترجع إالي سببها.
إن الجاهلية لا تتيح هذه الفرصة... بغير حساب.
إنها تتيحها تسليما بأقل الأخطار عليها.
إن الجاهلية توازن كما وازنت قريش فوافقت علي المعاهدة، وأعطت الجاهلية فرصة الدعوة عندما أيقنت أن الدعوة أمر واقع لا يمكن مواجهته. وعندما أيقنت أن استنفاد طاقة الدعاة في الدعوة بالكلمة هو البديل الحتمي لممارسة القوة.
فالفرصة لها ثمن، والفرصة ليست رخيصة، والفرصة ليست عارضة...
إنها محسوبة وبدقة من جانب الطرف الجاهلي الذي سلم بحركة الدعاة المتجهة إلي الناس.
وباعتبار أن عنصر الكثرة هي أهم عناصر العوام؛ فإن تحقيق الإضلال لهم أصبح أكبر أهداف الشيطان؛ لأن الشيطان يسعي أن يموت أكثر الناس علي الكفر.
ومن هنا فإن التعامل المباشر مع الناس هو الذي يقطع علي الشيطان هدفه في الإضلال العام.
وقد تكون مهمة إسقاط الحكم الجاهلي بالصفة الانقلابية أخطر وأشد؛ ولكن دعوة الناس مباشرة تستوعب أكبر عدد ممكن من هؤلاء الناس.
وهذا هو الذي يعطي لأسلوب الاتصال المباشر بالناس أهمية وقيمة.
فليست الخطورة معني مرادفا للأهمية في منهج الحركة.
فقد يكون الأمر أقل خطورة وأكثر أهمية.
أو أقل أهمية وأكثر خطورة.
ضرورة التوجه... ذلك لأن التوجه هو الذي يحقق أكبر فرصة لاستخلاص الطاقات الصالحة للحركة... وهناك في واقع الناس معادن مغمورة يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " 84.
إن التوجه إلي الناس... لا يعني أن يؤمن كل الناس... فإذا كانت الاستجابة قليلة فإن هذهالقلة هي النتيجة الطبيعية؛ وإدراك هذه الحقيقة يعالج اليأس الذي قد يطرأ علي أصحاب الدعوة إذا بذلوا جهداً ضخماً مع الناس.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس كإبل مائة... لا تكاد ترى فيه راحلة " 85.(4/462)
كما يعالج الرسول صلى الله عليه وسلم اليأس في نفوس الدعاة إذا اقتربوا ممن يحمل كرهاً شديداً للدعوة بحيث يصبح هذا الامر سبباً في الأمل والرجاء؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أشد الناس كرهاً لهذا الأمر هم أشد الناس حباً له بعد الدخول فيه " 86.
والقاعدة السياسية في تحقيق التأثير في العامة هي تحقيق مقتضيات الكيان الصحيح للدعوة:
1) البطولة وهي النموذج الإنساني السليم للتأسي والاقتداء إسلامياً.
2) التماسك. ويراجع فيه معاهدة الحديبية.
3) التضحية والبذل.
4) الثبات علي العقيدة الذي جعل مشركاً يسلم لما ضرب مسلماً ليقتله، فسمعه يقول: فزت ورب الكعبة.
أما أساسيات التوجه من حيث الاسلوب الحركي ومن حيث قضايا التبليغ.
فإن الأسلوب الحركي في دعوة العامة قائم علي قاعدة أن نغشي الناس كما قال الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه إلي المدينة: " اغشنا في مجالسنا " 87.
ومن كلمة " اغشنا " ينطلق أسلوب التعامل مع العامة.
ومن كلمة " غشي " تنشأ عناصر الأسلوب. ومن لسان العرب.
1) أن غشينا من ذلك شيء من القصد إلي الشيء والمباشرة والتوجه.
2) وفي حديث المسعي: فإن الناس غشوه أي ازدحموا عليه وكثروا.
3) الغشاء: الغطاء والعموم.
4) غشي الشيء: إذا لابسه.
وبذلك يجتمع في معني (غشي) التوجه، والتعميم والازدحام والكثرة والملابسة.
يجب أن نغشي الناس فنذهب إليهم بكثرة... وليس مجرد التسلل إليهم.
ونغشاهم... وليس مجرد لقاءات عابرة.
والهدف...
هو أن تعيش الجماهير واقع الدعوة الذي يستردهم من أسر الإعلام الجاهلي.
الجماهير أسيرة... والدعوة تتطلب إنقاذهم واستردادهم وفك أسرهم.
والوسيلة: هي أن تصبح دعوة الجماهير موازية ومقابلة لمكر الليل والنهار.
السحر... البهارج والألوان الشيطانية التي تأخذ عيون الناس.
موازية للخبث الذي يصل إلي أعماق النفس البشرية.
للإغراء والفتنة... للكيد والدهاء.
الجماهير في وضع لا يطاق... نادراً ما تجد ناجياً من لوثته.
وحتى لا تخاف الجماهير عندما ترى الدعاة يقتربون منهم.
يجب أن يكون هذا الاقتراب من خلال المبررات الطبيعية لهذا الاقتراب.
فترتكز حركة التوجه إلي الجماهير من خلال مبرراته الطبيعية:
القرابة... الجواز... الصداقة... أو أي مبرر طبيعي آخر...
هذا هو الأساس في الأسلوب الحركي في التوجه للعامة.
ثم نأتي إلي الأساس في أسلوب عرض القضايا وهو البساطة.
الأمية:
والحد النهائي للبساطة هو مفهوم الأمية...
والأمية تعني التسليم بحقائق هذا الدين بغير مسلمات فكرية مسبقة؛ وعندئذ يخلو الملتقي من الخلط بين وحي السماء والثقافات الخاصة، ويعبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الأمية بقوله: " نحن قوم أميون الشهر وهكذا وهكذا " 88 مشيراً بيده وأصابعه.
يعني أنه أشار بيده ثلاث مرات:
في المرة الأولي والثانية يبسط أصابعه كلها دلالة علي عشرة أيام وعشرة أيام، وفي الثالثة بسط أصابعه عدا واحداً؛ للدلالة علي رقم (9) أي أن الشهر (29) يوماً.
ولعل أهم أمثلة التعالي الجاهلي بالثقافة المقابلة للأمية... كانت الثقافة اليونانية والرومانية.
وكانت هذه الثقافة هي بذاتها مادة اختلاط حقائق الدين المسيحي المنزلة من عند الله.
وكانت سبباً مباشراً في دخول هذه الوثنية إلي الدين المسيحي والترحيب بها لكثير من بلاد الدين المسيحي ذاته.
وكما تكون البساطة أساسا في أسلوب عرض قضايا الدعوة كذلك تفعل الجاهلية وفي مواجهة قضايا الدعوة.
الارتكاز الجاهلي علي خصائص الجماهير
هذا هو النمرود الذي حاج إبراهيم ربه يقول: " أنا أحيي وأميت) فينتقل سيدنا إبراهيم إلي دليل آخر ولم يكن هذا تسليماً بإمكانية ذلك ولكنه اليقين بإمكانية خداع الجماهير بأي صورة من الصور التي وردت في التفسير. وهي أن يأتي بأثنين محكوماً عليهما بالإعدام فيعدم أحدهما، ويترك الآخر، ويقول: أنا أحيي وأميت. فتصرخ الجماهير المقتنعة بذلك الموقف الوهمي والمتحمسة لموقف الملك الكذاب.
هذه هي الجماهير في ظل الجاهلية.
وهذا فرعون يقول: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب) إنما يحقق مضاعفة الخضوع؛ لأنهم يعرفون هامان كما يعرفون فرعون.
تتضاعف رموز السيطرة في إحساس الجماهير.
هذا هو النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه يقول: " أنا أحيي وأميت "... فينتقل سيدنا إبراهيم إلى دليل آخر، ولم يكن هذا تسليمًا بإمكانية ذلك، ولكنه اليقين بإمكانية خداع الجماهير بأي صورة من الصور التي وردت في التفسير... وهي أن يأتي باثنين محكومًا عليهما بالإعدام فيعدم أحدهما ويترك الآخر، ويقول: أنا أحيي وأميت. فتصرخ الجماهير بذلك الموقف الوهمي والمتحمسة لموقف الملك الكذاب.
هذه هي الجماهير في ظل الجاهلية.
وهذا هو فرعون يقول: " يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب "... إنما يحقق مضاعفة الخضوع؛ لإنهم يعرفون هامان كما يعرفون فرعون.
تتضاعف رموز السلطة في إحساس الجماهير.
وعندما يقول: " ابن لي صرحًا " يبدو أمام الجماهير في غاية الموضوعية والمنطقية، وكأنه سيسر مع القضية خطوة خطوة، وأمام الناس.(4/463)
وبذلك تصبح الجماهير الساذجة أمام الفضاء... يضع أعينهم أمام الفراغ... ماذا بعد الصرح؟! لا شيء... وهذه هي النتيجة المطلوبة.
أن يعتقد الناس أنه لا شيء في السماء وأن موسى كاذب.
إن البساطة أمر واضح محقق.
إن العامة تنخدع بمنتهى البساطة.
ألم يجعل لهم السامري عجلاً جسدًا له خوار؟ وبنفس منطق السامري واصل الصليبيون الخداع.
وهذا فصل حيل الرهبان:
وفيها يقول ابن تيمية: " وقد صنف بعض الناس مصنفًا في حيل الكهان، مثل الحيل المحكية عن أحدهم في جعل الماء زيتًا بأن يكون الزيت في جوف المنارة فإذا نقص صب فيها ماء فيطفو الزيت على الماء؛ فيظن أن نفس الماء انقلب زيتًا.
ومثل الحيلة المحكية عنهم في ارتفاع النخلة، وهو أن بعضهم مر بدير راهب... أسفل منه نخلة فأراه النخلة صعدت شيئًا حتى حازت الدير فأخذ من رطبها، ثم نزلت حتى عادت كما كانت، فكشف الرجل الحيلة... فوجد النخلة في سفينة في مكان منخفض إذا أرسل عليه الماء امتلأ حتى تصعد السفينة، وإذا صرف الماء إلى موضع آخر هبطت السفينة.
ومثل الحيلة المحكية عنهم في التكحل بدموع السيدة مريم، وهو أنهم يضعون كحلاً في ماء متحرك حركة لطيفة، فيسيل حتى ينزل من تلك الصورة فيخرج فيظن أنه دموع.
ومثل الحيلة التي صنعوها بالصورة التي يسمونها القونة بصيدنايا، وهي أعظم مزاراتهم بعد القيامة وبيت لحم، حيث ولد المسيح وحيث قبر – في زعمهم – فإن هذه هي صورة السيدة مريم، وأصلها حشة نخلة سقيت بالأدهان حتى سمنت وصار الدهن يخرج منها مصنوعًا يظن أنه من بركة الصورة.
ومن حيلهم الكثيرة... النار التي يظن عوامهم أنها تنزل من السماء في عيدهم في قمامة... وهي حيلة قد شهدها غير واحد من المسلمين والنصارى ورأوها بعيونهم أنها نار مصنوعة يضلون بها عوامهم، يظنون أنها نزلت من السماء، ويتبركون بها، وإنما هي صنعة صاحب محال وتلبس "89.
وقد أورد ابن كثير رحمه الله عند تفسيره قول الله تعالى: " يعلمون الناس السحر) حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذ الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوتًا كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيته، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه، ففتنهم بذلك وأوهمهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر... عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
وبعد عرض البعد الجماهيري للتصور السياسي... قيمته وضرورته وأسس ممارسته، فإنه يجب أن يتقرر:
أن العمل الجماهيري لا يمثل بديلاً عن العمل العسكري ولا نقابلاً له ولا مؤثرًا فيه.
ذلك لأن حسابات العمل الجماهيري قائمة على هدف استيعاب " القوة الجاهلية " في تيار الحركة الإسلامية، ولأن هدف العمل العسكري هو إضعاف هذه القوة وإفناؤها.
وفي حالة العمل الجماهيري المحقق [لاستيعاب] القوة الجاهلية.
وفي حالة العمل العسكري المحقق [لإفناء] القوة الجاهلية التي لم يستوعبها العمل الجماهيري.
لن تكون هناك [قوة جاهلية] رافضة لإقامة الحكم الإسلامي.
ولكن السنة الثابتة للتدافع بين الجاهلية والإسلام لن تترك التيار الإسلامي يستوعب الواقع الجاهلي بجماهيره وقوته دون أن تمنعه.
ومن هنا نشأ مفهوم حتمية العمل العسكري... بحيث يصل هو الآخر إلى مرحلة السنة الثابتة للعمل الإسلامي.
ولذلك قرر ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة المعاداة باعتبارها سنة ثابتة من سنن الثوابت، وليس باعتبارها حقيقة مستخلصة من خبرة الواقع.
فكانت حقيقة التدافع هي الحقيقة الأولى التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم بعد حقيقة الوحي من حديث ورقة، إذ قال له بعد إخباره بالنبوة: يا ليتني كنت جذعًا إذ يخرجك قومك. قال: " أو مخرجيَّ هم؟! ".
قال: نعم... ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا أُخرج وعُودي90.
وكما يكون الارتكاز على بساطة الجماهير في الإضلال يكون الارتكاز على تحقيق العصبية الجماهيرية للجاهلية.
إن تحقيق عصبية العامة للحكم الجاهلي مهمة صعبة، ولكن الجاهلية تمارسها بكل دقة، ونموذج تلك الممارسة هو الممارسة الفرعونية، وعناصر تلك الممارسة هي أن يشعر العامة أنهم أصحاب السلطة (شركاء في القرار) وهذه فكرة فرعون عندما قال: " فماذا تأمرون ".
ويبلغ إحساس العامة بالسلطة الكاملة عندما يقول لهم فرعون: " ذروني أقتل موسى ". إن فرعون يقول للعامة: ذروني. ودون أن يستطيع أحد أن يمنعه... يطلب فرعون من العامة أن يتركوه... يطلب التفويض الشعبي في اتخاذ القرار المناسب تجاه موسى، وأن يشعر العامة أنهم أصحاب المصلحة " يريد أن يخرجكم من أرضكم ".
أن يشعر العامة أنهم أصحاب السياسة " ويذهبا بطريقتكم المثلى "... سياستكم ومذهبكم السياسي.(4/464)
أن يشعر العامة أنهم أصحاب القضية والمبدأ " إني أخاف أن يبدل دينكم ".
أن يشعر العامة أنهم حماة الواقع وأصحاب الإصلاح.
إن أهم عناصر العصبية هي إنشاء الخوف على النظام الحاكم غي نفوس الناس؛ ولذلك يعبر الناس عن الخوف قائلين: " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ".
وحينئذٍ يكون طمأنة الناس هو واجب النظام " قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ".
ومن أهم عناصر العصبية أن يشعروا بأنهم محور النظام، ومن هنا كان الضمير يعود على الناس: " أرضكم – طريقتكم – دينكم... ".
وبذلك يتبين أن إطار التعامل الجاهلي مع الجماهير يقوم على البساطة المرتكزة على سذاجة الجماهير في إضلالهم وتحقيق عصبيتهم للضلال عن الحق.
2) البعد العسكري للتصور السياسي:
سياسة القوة:
وهذا البعد من أخطر أبعاد التصور السياسي للحركة الإسلامية؛ وذلك لأن المستقر في الأذهان أن السياسة تقابل القوة، ولكن التصور السياسي يتضمن أن هذه السياسة توافق القوة أو توازيها في مهمة تحقيق الغاية النهائية للدعوة، ومن هذه الحقيقة ينطلق هذا البعد.
أما تحقيق ذلك في مجال الممارسة فإنه يقتضي عدة أمور:
تحليل القوة العسكرية إلى عناصرها الأساسية في التنفيذ والاستفادة بهذه العناصر بغرض التأثير في الواقع الجاهلي دون الاضطرار إلى الممارسة الفعلية للقوة.
وتفسير ذلك:
أن الجاهلية تعتبر الحركة الإسلامية قوة سياسية طالما أيقنت بقدرتها على الممارسة العسكرية.
والقوة العسكرية لها عناصر لا تقوم إلا بها، وإدراك الجاهلية لتوافر هذه العناصر لدى الحركة الإسلامية ينشئ تأثيرًا عند الجاهلية لا يقل شأنًا عن الممارسة الفعلية للقوة العسكرية.
وهذه العناصر هي:
الزعامة... والولاء المطلق لها.
والكثرة العددية القوية.
والمستوى المرتفع للكفاءة العملية.
والاستعداد التام للبذل والتضحية.
كذلك تحليل القوة العسكرية إلى عناصرها الأساسية في التأثير وتحقيق هذه العناصر بصورة مباشرة في الواقع... فتحقق آثار القوة العسكرية دون ممارستها وأهمها الرهبة وفرض الإرادة...
ولما كان تحقيق هذه العناصر في واقع الدعوة – سياسيًّا – يعتبر أهم ضروريات التصور السياسي للقوة؛ لذلك كانت المعاهدات باعتبارها مجالاً للربط بين السياسة والقوة هي أيضًا المجال الفعلي لإبراز هذه العناصر في الواقع... مثلما كان في معاهدة الحديبية، حيث تحقق فيها مجمل العناصر المذكورة.
كما تقول كتب السيرة: خروج عروة بن مسعود زعيم ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس بين يديه ثم قال:
يا محمد... أَجَمَعْتَ أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفُضَّها بهم، إنها قريش قد خرجت معها المعوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدًا. قال: وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، فقال: امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟! قال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبي قحافة. قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها. قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، قال: فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك! ما أفظك وأغلظك! قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عروة: من هذا اي محمد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس. فقاام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه... لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقًا إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش... إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكًا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيء أبدًا فرُوا رأيكم91.
فنلك هي العناصر القاتلة للجاهلية... المسلمون مقاتلون في كل لحظة، ولا ينتظرون فقط إلا الإذن بالقتال، وهذا تفسير التسوية بين من قضى نحبه ومن ينتظر... بين من قاتل ومن ينتظر القتال، فلكليهما نفس الأثر في قلوب الأعداء... وبذلك يكون للسياسة أثر الدماء في تحقيق الهدف.
حماية الدعوة من الاصطباغ بالصبغة العسكرية البحتة.
ولا نعني بذلك نفي هذه الصبغة، ولكن نعني طغيان هذه الصبغة على الدعوة كحركة هداية ورحمة...
وبذلك يعني مفهوم سياسة القوة: الحفاظ على الهدف النهائي للدعوة من خلال خط الممارسة العسكرية، بحيث لا تنفصل هذه الممارسة عن هذا الهدف النهائي... وذلك باعتبار أن السياسة هي التي تتبنى تحقيق هذا الهدف من خلال أساليب الحركة المتعددة.(4/465)
- إن تقرير مبدأ القوة في التصور السياسي لا يعني أن توقفها تخلٍّ عن مبدأ من مبادئ الدعوة؛ لأن الممارسة والتوقف مرتبط بالهدف والواقع... والتصور السياسي هو الحكم المنهجي لتلك الممارسة.
- إن تحقيق التعاطف بتحقيق المنفعة والإقناع العقلي والقدوة الصالحة والصبر على الأذى والبذل والتضحية... هو الأساس في إقامة سلطان الحق على النفوس.
وكلها عوامل محققة لغاية الهداية، والقوة واحدة من هذه العوامل.
وبذلك يكون تحقيق هذه العوامل مع مجمل العناصر المذكورة الناشئة عن تحليل القوة العسكرية تنفيذًا أو تأثيرًا هي إطار التصور السياسي للقوة.
ولما كانت الهداية هي الهدف النهائي للدعوة... كانت كذلك هي القيمة العليا للمارسة السياسية، وكانت سياسة القوة هي تحقيق الهداية بالقتال.
ومقتضى ذلك يمثل أهم عناصر سياسة القوة:
- التبليغ قبل القتال.
- دعوة الأسرى.
- قبول استجارة المشرك.
- الجنوح للسلم إذا جنحوا له.
- قبول توبة من لم تصله يد القدرة: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ".
وفي إطار حماية الدعوة من الاصطباغ بالصبغة العسكرية البحتة تتحدد العلاقة بين أساليب الحركة المتعددة والهادفة إلى تحقيق الغاية النهائية للدعوة بأساس نفسي ثابت.
- الحرص على إسلام الكفار بدلاً من قتلهم وهم على الكفر.
- ترجيح الهداية على الغنائم.
- الحزن على كفر الناس والأسى على ضلالهم.
- التجرد من الشعور بالانتقام والقصاص.
إن الظهور العسكري البحت أو الغالب للدعوة هو الذي سيحرمها من التعاطف الذي يمثل الجذور الحقيقية لجحم كيانها في الواقع.
إن المعيار النهائي لبعد القوة هو حماية الدعوة من محاولة الجاهلية الهادفة إلى اقتلاع الدعوة من الواقع أو الاستهانة بها في التعامل.
أما وصول الدعوة إلى تعامل الجاهلية كطرف له اعتباره العظيم فإن هذا يقتضي فكرًا سياسيًّا تحافظ به الدعوة على هذه المرحلة.
3) البعد الاجتماعي للتصور السياسي:
اتفقنا في النظرية الساسية على أن التوافق بين الواقع الحركي والاجتماعي يعتبر شرطًا أساسيًّ في صحتها، وهذا التوافق – كشرط في صحة النظرية السياسية – هو الذي تحاول الجاهلية القضاء عليه من خلال إنشاء التناقض بين الجانب الحركي والجانب الاجتماعي للدعوة.
والتناقض الذي تحاول الجاهلية إنشاءه يتمثل بصورة أساسية في الإسقاط الاجتماعي للدعوة، هذا الإسقاط الذي يظهر الدعوة بصورة متردية ومنحطة لا توافق مع مستوى قضية الدعوة وواقعها الحركي.
ومحاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة أسهل من مواجهتها فكريًّا؛ ذلك لأن هذه المحاولة سيكون التعامل فيها مع الإنسان بضعفه ونقائصه في إطار الدعوة، الأمر الذي يختلف عن المواجهة الفكرية التي سيكون التعامل فيها مع النصوص الشرعية الثابتة.
وكما أنها أسهل فهي أخطر...
ذلك لأن الناس في البداية لا يتعاملون مع الدعوة كقضية فكرية قبل رؤيتهم لصورة الدعوة الاجتماعية... وعلى هذا فإن الإسقاط الاجتماعي يعني قطع الصلة وبصورة نهائية بين الناس والدعوة.
ومحاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة بدأت من الأيام الأولى.
وكانت هذه البداية هي وضع واقع الدعوة في ميزان التصور الاجتماعي الجاهلي.
فاعتبرت الجاهلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أبتر؛ لأنه لا ولد له.
وكما اعتبرت النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحق النبوة؛ لأنه ليس رجلاً من القريتين عظيم.
واعتبرت أن الدعوة ليست صحيحة؛ لأن أتباعها فقراء.
ولكن هذه البداية لم تنجح؛ لأن الدعوة فرضت تصورها الاجتماعي، وأسقطت التصور الاجتماعي الجاهلي ذاته.
ولعل أبرز مواقف المحاولة الجاهلية كان عند المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ ذلك لأن المؤاخاة كانت علاقة اجتماعية كاملة تحققت كمقتضى للتوافق بين الجانب الحركي والاجتماعي للدعوة، فبلغت الجاهلية أقصى ما عندها في مواجهة هذه المؤاخاة سواء من جانب المشركين أو المنافقين أو اليهود، ولكن المحاولات فشلت حتى تحقق الهدف من المؤاخاة ثم تقرر العودة بالعلاقة الاجتماعية إلى أساسها الطبيعي، وهو صلة الدم والقربى بعد أن كان الأساس الحركي هو أساس العلاقة في موقف المؤاخاة92.
وإذا التقطنا هذا الخيط فإننا يندرك أن واقع الدعوة - منذ البداية حتى الواقع القائم الآن- كان من ناحية الدعوة محاولة لتحقيق التوافق بين الجانب الحركي والاجتماعي بإنشاء الواقع الاجتماعي المتناسب مع القضية الإسلامية فكريًّا وحركيًّا.
وكان من ناحية الجاهلية هو إحداث التناقض بين هذين الجانبين بإسقاط الدعوة اجتماعيًّا، وبهذا الإدراك يمكننا تحليل الواقع القائم الآن للدعوة بقدر من التفصيل.
فمن ناحية الدعوة تمثل الخلل الاجتماعي – أول ما تمثل – في مجرد إعلان الولاء للتجمع واتجاهه من جانب الأفراد المنتمين إلى الدعوة لتحقيق الارتباط العضوي بالتجمع دون النظر إلى الجانب التربوي والأخلاقي لهؤلاء الأفراد.
وكانت هذه مرحلة وسط بين الوضع المثالي ووضع الانحطاط الكامل المتمثل في المرحلة الثالثة.
وهي مرحلة الانتساب إلى الاتجاه الإسلامي بمجرد الهدي الظاهر.
" الجلباب – اللحية – الحجاب "...(4/466)
وكان مدخل هؤلاء المنتسبين هو مجرد هذا الالتزام الشكلي... دون أن يكون هناك الكيان المستقطب القائم على مهمة التربية والتأصيل الأخلاقي.
يضاف إلى هذا الخطر خطر آخر يساويه، وهو الشعور غير الشرعي بالذات الناشئ عن الاعتزاز بالانتساب للدعوة صاحبة الأحداث المؤثرة في الواقع.
هذا الاعتزاز الذي وجد من غير مشاركة فعلية في الأحداث ةتحمل مسؤليتها... والذي سبب ضررًا نفسيًّا بالغًا؛ لأنه انتساب يفتقد المسؤلية والتضحية والبذل.
هذا الشعور الذي أضاع الفضل الحقيقي لأصحابه في واقع الدعوة مما أحدث اضطرابًا في العلاقات الاجتماعية وأحدث هذا الاضطراب بدوره ظاهرة الفوضى الاجتماعية التي تعاني منها الدعوة معاناة شديدة.
فأصبح الجميع دعاة وذوي تاريخ.
الأمر الذي يتنافى مع قاعدة ارتباط الفضل الاجتماعي في واقع الدعوة بالسبق والتضحية والعمل في سبيل الله.
ثم يضاف إلى شكلية الالتزام... وضياع حق أصحاب الفضل في واقع الدعوة.
خط التشتت الاجتماعي المترتب على معاناة الاعتقالات والسجون والاحتياج المادي الذي يسبب الإرهاق النفسي الشديد.
ثم كان الخطر الأكبر من خلال عملية التزاوج تحت مظلة هذه الأخطار المتعددة... هذا التزاوج:
في واقع انحطاط الأخلاق وضياع الأمانة.
وفي واقع الانتساب الشكلي بالهدي الظاهر فقط.
وفي واقع الشعور بالغرور والشعور غير الشرعي بالذات وضياع حق أصحاب الفضل.
وفي واقع الاحتياج المادي والإرهاق النفسي الناشئ عن السجن والاعتقال.
واقع هذا التزاوج...
أوجد أسرة أصبحت هي بذاتها مشكلة، وأصبحت محاولة علاجها الشغل الأساسي لأصحاب الدعوة، كما أصبحت معالجة آثار إخفاقها بعد الإخفاق في معالجتها... عبئًا لا يطاق.
ثم يأتي بعد ذلك الدور الجاهلي القائم على استغلال هذه الأخطاء بأبشع صورممكنة...
أما من ناحية الجاهلية فقد جاء منها أخطر الأساليب في محاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة، وهي إنشاء العناصر المتشبهة بالمظهر الإسلامي وممارسة السلوك الجاهلي بهذا المظهر... وعندما يراهم الناس تسقط مهابة هذا المظهر من نفوسهم، ويضيع تقدير الناس لسماتهم وشكلهم، وسواء كان انتشار هذه العناصر أمرًا مقصودًا أو حدث بصورة تلقائية، فإن النتيجة واحدة.
فكيف تحمي الدعوة نفسها من هذه النتيجة؟
لقد كان الإسلام قادرًا على حماية نفسه من هذه النتيجة يوم كان حكمه غالبًا وأحكامه سائدة، وكان أهم هذه الأحكام هو منع غير المسلمين من التشبه بالمسلمين.
وكان من أخطر هذه الأساليب الجاهلية كذلك هي إيقاع الضرر على العامة وتفسير هذا الضرر على أنه نتيجة حتمية للدعوة؛ ليحدث الانفصال بين العامة والدعوة...
مثل المقاطعة الاجتماعية التي فرضتها قريش على بني عبد المطلب؛ حتى يمارسوا ضغطًا على أصحاب الدعوة.
ولعل حادثة مقاطعة بني عبد المطلب – المذكورة آنفًا – بإقاع أضرار عليهم بصفة عامة بسبب أصحاب الدعوة لإيجاد الكُرْه، وإنشاء الحاجز مثال تاريخي على هذا الأسلوب.
مفهوم الدفاع الاجتماعي:
والآن لا بد من الدفاع الاجتماعي عن الدعوة.
وهذا المفهوم له عناصر يمكن تحديده من خلال المواجهة... المحاولة التي تمارسها الجاهلية لإسقاط الدعوة اجتماعيًّا.
وقد اتفقنا أن أول تلك العناصر هو افتقاد الكيان الواحد المسيطر على الامتداد الاجتماعي، ولما كان وجود الكيان الواحد مرتبطًا بمشكلة الفكر والمنهج فإن المعالجة الاجتماعية يجب أن تنفصل عن هذه المشكلة... بمعنى ضرورة إنشاء سلطة اجتماعية تتولى مواجهة المشكلات الاجتماعية في إطار بعيد عن مشكلة الاختلاف الفكري.
وهذا ما فسره الإمام الجويني حيث قال في كتاب غياث الأمم في التياث الظلم: أن يتولى كل عالم في ناحية من النواحي أو حي من الأحياء السلطة المفقودة للأمراء في هذا الحي.
ثم تأتي مواجهة ضياع حق أصحاب الفضل بترسيخ قواعد التعامل الاجتماعي المحددة لهذا الحق:
- حق العلماء الذي يوجب تقديمهم وتوقيرهم وإيثارهم على أنفسنا.
- حق أصحاب السبق الزمني وهو المقرر في قول الله: " والسابقون الأولون من المهاجرين... ".
ومفهوم الدفاع الاجتماعي يوجب تحديد أساس التعامل الاجتماعي بين أصحاب الدعوة والواقع القائم.
ويجب أن يتقرر ابتداءً أن الناس ينظرون إلى أصحاب الدعوة من خلال مفهوم المثالية؛ لأنهم يمثلون في نظرهم واقع التطبيق الصحيح للدين.
وظهور أي نقيصة أو خطأ سلوكي لن ينظر له على أنه أمر طبيعي محتمل، ولكن سينظر إلى صاحبه على أنه إنسان سيئ يحاول الوصول إلى مكانة لا يستحقها لينال تقديرًا بغير حق.
كما أن الناس ينظرون إلى أصحاب الدعوة على أنهم الفئة التي من الممكن أن تحكمهم في يوم ما فيرغبون بصورة قوية في الاطمئنان على أمانتهم وسماحتهم وحسن خلقهم؛ لأن أي خطأ يراه الناس يرتبط في أذهانهم بهذا الاحتمال.
فيقول كل من يرى الخطأ في نفسه: هكذا يفعل أصحاب الدعوة لعامة الناس عند حدوث أية مشكلة أو خصومة.
وعند حدوث أية مشكلة اجتماعية بين الناس وبين أحد أفراد الدعوة يجب أن تأخذ هذه المشكلة صورة العداء بين الجاهلية والإسلام.(4/467)
لأن احتمال خطأ هذا الفرد المنتسب للدعوة قائم أمام الآخرين.
وهذا هو مضمون الموقف الذي نزل فيه قول الله عز وجل: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما * واسغفر الله إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ".
حيث جاء في تفسير الآية: إن نفرًا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرق درع لأحد الأنصار، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم بنو أبيرق، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فلما رأى ذلك السارق عمد إلى الدرع فأقاها في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن صاحبنا بريء وإن الذي سرق الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علمًا؛ فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس... فنزلت الآية تبرئ اليهودي.
وفي مثل هذه الحالة يتمثل واجب نصرة الأخ في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالًا أو مظلومًا ". في رد الأخ عن ظلمه93 " فإن ذلك نصره ".
إن معالجة أي مشكلة عارضة بتلك القاعدة يكون بذاته أفضل أسلوب للدعوة.
أما إعطاء المشكلة الاجتماعية العارضة أبعاد العداء بين الجاهلية والإسلام فذلك أمر باطل.
لأن صورة العداء بأبعاده الكاملة لا تتفق مع المشكلات العارضة، مثلما حدث مع موسى والذي استغاثه... لقد كانت مشكلة عارضة حدثت بين رجل من بني إسرائيل ورجل من الأقباط، وتصرف فيها موسى عليه السلام بصفة شخصية لا تتعلق بمنهج الدعوة ومرحليتها فقتل القبطي، واعترف بأن هذا العمل من الشيطان، ولكنه كان سببًا في غرق فرعون وجنوده بصفة منهجية ترتبط بمنهج الدعوة ومرحليتها، وكان هذا عملاً طيبًا مقبولاً، ولم يكن من عمل الشيطان.
ومما يجب الحذر منه هو أن تؤثر الضخامة العددية لأصحاب الدعوة على الإحساس بالاستضعاف؛ لأن الضخامة العددية تسبب اعتزازًا وثقة تؤثر في أسلوب معالجة المشكلات العارضة بين أفراد الدعوة والجاهلية.
فالاستضعاف هو مرحلة ما قبل الوصول للسلطة.
حتى لو كان هناك قوة شخصية أو كثرة عددية.
ومعالجج المشكلة العارضة يجب أن ترتبط بمرحلة الاستضعاف للدعوة ولا يجوز تجاوزها.
وقد يكون للقوة الشخصية نفس أثر الضخامة العددية في إضعاف الشعور بالاستضعاف.
وهذا عمر بن الخطاب لم يكن يدانيه أحد في قوته الشخصية، حتى إنه هدد من يحول تتبعه في الهجرة فقال: " من أراد أن تيتم أولاده، وتتأرمل زوجته، أو تثكله أمه فليتبعني)94. ومع ذلك كان مستضعفًا؛ لأنه كان مرتبطًا بالجماعة المستضعفة التي لم يُمَكن لها بعد.
والواقع أن هناك حديثًا قدسيًّا يعالج قضية المحافظة على البناء الاجتماعي بعد فترة الاستضعاف.
وإليك نصه أولاً:(4/468)
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرّفِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الشّخّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلاَ إِنّ رَبّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمّا عَلّمَنِي، يَوْمِي هَذَا. كُلّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْداً، حَلاَلٌ. وَإِنّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلّهُمْ. وَإِنّهُمْ أَتَتْهُمُ الشّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ. وَحَرّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ. وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً. وَإِنّ اللّهَ نَظَرَ إِلَىَ أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إلاّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ: إِنّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ. وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ. تَقْرَأُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ. وَإِنّ اللّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرّقَ قُرَيْشاً. فَقُلْتُ: رَبّ إِذاً يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ. وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ. وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ. وَابْعَثْ جَيْشاً نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ. وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدّقٌ مُوَفّقٌ. وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلّ ذِي قُرْبَىَ، وَمُسْلِمٍ. وَعَفِيفٌ مُتَعَفّفٌ ذُو عِيَالٍ. قَالَ: وَأَهْلُ النّارِ خَمْسَةٌ: الضّعِيفُ الّذِي لاَ زَبْرَ لَهُ، الّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعاً لاَ يَتْبَعُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً. وَالْخَائِنُ الّذِي لاَ يَخْفَىَ لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقّ إِلاّ خَانَهُ. وَرَجُلٌ لاَ يُصْبِحُ وَلاَ يُمْسِي إِلاّ وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ". وَذَكَرَ الْبُخْلَ وَالْكَذِبَ وَالشّنْظِيرُ الْفَحّاشُ، وَإِنّ اللهَ أَوْحَىَ إِلَيّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتّىَ لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ علىَ أَحَدٍ، وَلاَ يَبْغِي أَحَدٌ عَلَىَ أَحَدٍ)95.
والملاحظة العامة في هذا الحديث هو معالجته لعدة مراحل مرتبطة ببعضها:
1) نظرة شاملة لمرحلة ما قبل البعثة وبداية الأمر فيها وإثبات الأصل الذي كان عليه الوجود البشري... " كل مال نحلته عبدًا حلال "... " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ".
" إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ". هذه مقدمة ضرورية للحديث... لأن الحديث يثبت أهمية النبي صلى الله عليه وسلم بصورة خطيرة...
صورة افتقار البشر جميعًا إلى رسالة... مما تقتضي إثبات افتقاره هو في رسالته إلى ربه.
والرسالة من الله أمر وعلم.
والأمر من الله " إن الله أمرني ".
والعلم من الله " أن أعلمكم ما جهاتم ".
والعلم يوم بيوم " ما علمني يومي هذا ".
وهذه هي المقدمة:
" كل مال نحلته عبدًا حلال ". والمال رمز لكل شيء آتاه الله إنسانًا. " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ".
فالأصل في عطاء الله الحِل. والإنسان على الفطرة.
ثم جاءت الشياطين " فاجتالتهم عن دينهم ".
ونشأ الحرام " وحرمت عليهم ما أحللت لهم ".
اجتالت الشياطين الدين.
وملأ الأرض بالحرام. " وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا ". " وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم ". والمقت أشد الغضب. " إلا بقايا من أهل الكتاب " المتمسكون بدينهم الحق من غير تبديل.
والنبي والبشر أمام مسئولية الرسالة سواء. " إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك... ".
وحتى لا يكون التبديل واجتيال الدين. " أنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء ".
باقيًا لا تجري فيه سنن الفناء.
وأسبابه...
ثابتًا تقرؤه نائمًا ويقظان.
وهذه هي البعثة.
ويقر النبي بضعفه وافتقاره إلى ربه. "إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ".
هذا هو الاستضعاف.
فيرد القوي الغني: " استخرجهم كما استخرجوك . واغزهم نغزك ".
وافتح عليهم بلادهم... نفتح عليك مددنا.
" وأنفق فسننفق عليك ".
" وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله ".
" وقاتل بمن أطاعك من عصاك" . وذلك هو التمكين.
وبعد المقدمة... والبداية... والبعثة... والاستضعاف... والتمكين... قام المجتمع المسلم.
2) فكيف يكون حفظه بعد قيامه؟...
هذا بصفات أهل الجنة الثلاث:
- ذو سلطان مقسط متصدق موفق.
- ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم.
- وعفيف متعفف ذو عيال.
وهذه الصفات هي عناصر البناء الاجتماعي للدولة المسلمة.
وبهذه الصفات يكون المجتمع المسلم وتكون الأمة وتكون الجنة.
وبعدها صفات أهل النار الخمسة:
- الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعًا لا يتبعون أهلاً ولا مالاً.
- الحثالة الفارغين كمالة العدد.
- والخائن الذي لا يخفى (أي لا يظهر) له طمع وإن دق إلا خانه.
والخونة بطبعهم وتكوينهم وتصرفهم التلقائي.
- ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك.
المخادعون: عن العرض والمال.
والبخل والكذب الشنظير الفاحش.
والشنظير: سيئ الخلق.(4/469)
وفي رواية: وأن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد.
فالتواضع يمنع الفخر الذي إذا امتنع امتنع معه البغي.
وبصفات أهل النار تكون نهاية المجتمع ونهاية الأمة... وتكون النار.
4) البعد الاقتصادي:
والبعد الاقتصادي للنظرية السياسية بُعدٌ منطقي؛ لأن المال له قوة نفسية واجتماعية بلغت حد الأثر في العقيدة والإيمان الذي أنشأ الخوف الشديد على أصحاب الدعوة من فتنة المال، كما قال تعالى: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابًا وسررًا عليها يتكئون * وزخرفًا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة غند ربك للمتقين ".
ومن أجل هذا التأثير نستطيع أن نقول: إن أخطر أحداث الدعوة كا إنفاق عثمان بن عفان قافلته على المسلمين، وإن أخطر أحداثها من الجانب الآخر كا قرار مقاطعة قريش لبني عبد مناف الاقتصادية.
وليس أدل على أثر الاقتصاد السياسي من دعاء موسى بحسم الصراع بينه وبين فرعون في قوله سبحانه: " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ".
وكذلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بحسم الصراع مع قريش بقوله: " اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف "96... رواه البخاري والترمذي، وفي رواية: " بسبع كسبع يوسف " رواه البخاري.
ولأجل هذا الأثر الاقتصادي على الدعوة كانت العلاقة بين الممارسة الاقتصادية والسياسية تلقائية في فهم الصحابة.
وهذا ثمامة يرجع إلى قومه مسلمًا يعلن لهم إسلامه ويعلن لهم مع إسلامه: يا قوم لقد أسلمت، ولن تأخذوا حبة قمح حتى يأذن لكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم97.
وبهذا الفهم التلقائي أدركت إحدى النساء مغزى تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أععطى قبيلتها مالاً وزادًا، ثم أخذ يحارب القبائل الأخرى فقالت: والله ما أرى محمدًا قد ترككم بعد أن أعطاكم هذا المال والزاد ثم ذهب ليقاتل القبائل غيركم إلا لأجل شيء يريده منكم، وأرى أنه الإسلام... فأسلمت وأسلمت معها القبيلة98.
كما يتساوى البذل بالنفس والبذل بالمال في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا "99، فتساوى التجهيز بالمال للغزو والخلف في الأهل بعد الغزو... مع الغزو نفسه عند الله سبحانه وتعالى.
والحقيقة أن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة هي نفسها العلاقة بين العمل العسكري والسياسة، وذلك في مضمون فرض الإرادة.
فكما أن التصور العسكري يفرض إرادة المنتصر، فإن الجزية هي التي تبقي على فرض تلك الإرادة.
من أجل ذلك كان اعتبار عنصر المال من أخطر عناصر الدعوة المحققة لأهدافها، ولكن هذا العنصر المهم في ذاته تعتبر نتيجته خطيرة في ذاتها؛ لأن المال هو فتنة هذه الأمة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " فتنة هذه الأمة في المال "100.
ولعل قصة ثعلبة101 الذي نزل فيه قول الله عز وجل: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم مغرضون "... دليل على شدة خطر المال على النفس، وحتى لا نظن أنها حالة فردية... كانت هذه المواجهة القرآنية الحاسمة للمؤمنين في غزوة أحد: " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ".
وعند تعميق الإحساس بخطر المال في واقع الدعوة لن تجد أشد من هذا الموقف الذي نرى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى التاقتين اللتين أعدهما أبو بكر للهجرة وهو يقول له: " بالثمن يا أبا بكر ".
إن الظروف أكبر وأقوى من أن يذكر فيه المال...
لأنهما اثنان مطلوب موتهما يُعدان أسباب نجاتهما.
ولكنها النبوة التي تضع الأسس وترسي القواعد " بالثمن يا أبا بكر ".
كما لن نجد حقيقة تدل على خطر المال أقوى من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين ".
الشهيد... الشهيد... نعم... إلا الدَّين.
فإذا كان هذا مع الشهيد فليس لأحد من المسلمين خروج عن حساب المال.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل قبل أن يصلي على الجنازة: " هل عليه من دَين؟ " فإن قالوا: نعم. قال: صلوا على صاحبكم، إلا أن يقول رجل: دَينه عليَّ.
ومن هنا أصبح النجاح في تحقيق أساس اقتصادي للدعوة هو دليلاً أصليًّا وجوهريًّا على صحة الإيمان، ولعل الدليل على ذلك المثل الذي ضربه القرآن في قوله عز وجل: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا زكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ".
وكما تدل النفقة قبل الفتح على قوة الإيمان فإنها تدل كذلك على دقة أثر المال في الدعوة، وذلك لاختلاف أثر النفقة قبل الفتح وبعده، حيث كان للنفقة قبل الفتح أثر أكبر.
من أجل ذلك فإن السياسة الاقتصادية للحركة الإسلامية تقوم ابتداء من مفهوم الزهد الحقيقي في الدنيا.(4/470)
ومن هنا يأتي دور مجموع نصوص الرقائق المحققة لهذا الزهد لا على أنها نصوص تُحفظ باللسان، بل لتكون واقعًا حيًّا وحياة واقعة لأصحاب الدعوة.
5) البعد القدري:
ومناقشة البعد القدري للنظرية السياسية يعتبر من أهم المناقشات؛ لأن الفكر السياسي يتميز ببروز الإعمال العقلي والارتباط بالواقع. والبعد القدري هو البعد المقابل لهاتين الميزتين في الفكر السياسي.
ذلك لأن ربانية الدعوة الإسلامية وارتباطها بقدر الله والسنن الثابتة جعل هذا الارتباط في أصل النظرية السياسية.
فعند تحليل الأحداث من المنظور المادي البحت وارتباط الأحداث ببعضها كسبب ونتيجة وفعل ورد فعل ودوافع وأغراض.
ومن المنظور القدري من حيث علاقة الأحداث بالسنن الثابتة وأحاديث آخر الزمان؛ تجد تحليل الواقع الجاهلي العام علي مستوي العالم له عناصر أساسية أهمها:
1) الهيمنة الصليبية المتمثلة في زعامة أمريكا للعالم والوحدة الأوربية.
2) العلو اليهودي.
3) العمالة والكفر علي مستوي الحكومات المسيطرة علي مواقع الدعوة.
4) الفقر والجهل علي مستوي الشعوب المحيطة بمواقع الدعوة.
فنجد أن عناصر هذا التحليل المادي للواقع الجاهلي يؤكد اجتماع الجاهلية وتحزبها بكل مستوياتها العالمية الحكومية والشعوبية ضد الدعوة مما قد يحدث في نفوس الدعاة منتهي اليأس والإحباط.
فيأتي المنظور القدري فيحقق غاية الرجاء من خلال إثبات سنة الله الثابتة بهزيمة الأحزاب. من هنا استبشر الرسول صلى الله عليه وسلم لما اجتمعت الأحزاب عليه؛ لأن تحزب الأحزاب معناه تحقيق فعل من أفعال الله القدرية وهو هزيمة الأحزاب.
وبذلك يصبح التصور القدري للأحداث بعدًا أساسيًّا من أبعاد النظرية السياسية.
هذا من حيث علاقة التصور القدري بالتحليل السياسي.
والواقع أن البعد القدري للنظرية السياسية كان أساساً حتمياً لتحليل مواقف متعددة في تاريخ الدعوة ما كان لنا أن ندركها إلا من خلال هذا البعد ولعل أبرز هذه المواقف طلب يوسف عليه السلام الوزارة في ظل حكم غير شرعي.
لذلك لأن قصة يوسف عليه السلام بأكملها تحقيق قدري للرؤيا التي رآها بالتمكين له في الأرض. وفي إطار هذا التصور كانت جميع أحداث القصة وأبرزها وضع السقاية في رحل أخيه حيث عقبت الآيات علي هذا التصرف بقوله سبحانه: " كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذه أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله)، وعلى هذا لا يحتج بهذا الموقف سياسياً إذ يعتبر من الناحية الفقهية أحوال أعيان لا يقاس عليها.
ومن أمثلة تلك المواقف في تاريخ الدعوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هو قطع أشجار اليهود في غزوة بني قريظة حيث أنكر اليهود علي الرسول صلى الله عليه وسلم قائلين له: أتنهانا عن الفساد وأنت تأمر بقطع الشجر فأنزل الله عز وجل " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة علي أصولها فبإذن الله ".
فهذا تصرف قدري بحت فعله رسول الله بإذن ربه والقدر فوق الشرع؛ ولكن هذا التصرف القدري لا يؤثر علي القاعدة الثابتة في الحروب ومنها النهي عن قطع الأشجار إلا أن يكون الأمر لأسباب عسكرية بحتة فيجوز ذلك اضطراراً ولكن لا يحتج بفعل رسول الله في غزوة بني قريظة علي الجواز المطلق من حيث التحليل.
والقواعد القدرية للتحليل السياسي محددة في عدة نقاط.
أولاً: الطاعة:
أما من حيث علاقة التصور القدري بالمواجهة السياسية فتقوم علي: الطاعة المطلقة لله لتحقيق المهابة لنا في قلوب أعدائنا؛ لأن المهابة هي حقيقتنا في قلوب أعدائنا وقوتنا في شعورهم وحجمنا في تصورهم وهي الأساس والأصل الذي تقوم عليه الممارسة السياسية؛ لأنه تبعاً لهذه المهابة تكون الممارسة السياسية في الواقع، والله قادر علي أن يجعل لنا في قلوب أعدائنا تلك المهابة وهو قادر أيضاً علي أن يجعلهم يروا ضخامة حجمنا في تصورهم بشكل مادي بحت.
غير أن للمهابة أسباباً: أولها الوجود الإسلامي الصحيح لأصحاب الدعوة حيث يصيروا بهذا الوجود كالقسورة التي تفر منها الحمر المستنفرة102.
وهناك أسباب مباشرة لتحقيق المهابة تراجع فيها الأحاديث؛ وأهمها الجهاد؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا "103.
وقال في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: " ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم)104 إلي آخر الحديث.
وابتداء من نشأة الحركة لا يغيب البعد القدري حتى إقامة السلطة، لنري أن أهم حقائق تلك السلطة هي قرشية الخلفية مثالاً هاماً للمقتضيات القدرية التي يجب الالتزام بها في التصور السياسي للدعوة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: " الخلافة في قريش "105.
فلا يسمح التصور السياسي للدعوة بالجدل أو الإعمال العقلي البحت حول هذا الحقيقة لأنها حقيقة قدرية خالصة.
ثانياً: التفويض والتوكل:
وأهم الحقائق القدرية في التصور السياسي: الوفاء بالعهود والمواثيق؛ ذلك أن الله لا يحب الخائنين.
فإذا بدت مصلحة لكنها لا تتحقق إلا بنقض العهد؛ فهذه المصلحة باطلة سياسياً.(4/471)
وفي المقابل فإن التصور السياسي يقيم العهود والمواثييق بقاعدة التوكل عل الله بعد استفراغ الجهد في التفكير والتقييم والتحليل والتوقع.
ومن هنا قال سبحانه: " وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ".
وهذه هي القاعدة القدرية العامة في العهود ونصها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم)106.
ثالثاً: مراعاة السنن الثابتة:
مثل التفسير القدري للاختلاف كصيغة من صيغ العذاب الواقع علينا وتحقيق موجبات الرحمة التي يرفع بها هذا العذاب واعتبار هذه الموجبات أسباباً مباشرة في معالجة الاختلاف.
وكذلك معالجة الفتن القائمة بين المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار أن ترك هذا الأمر هو السبب في ضرب قلوبنا بقلوب بعض كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليضربن الله قلوبكم بقلوب بعض)107.
غير أن موضوعية البعد القدري للتصور السياسي تتمثل بصورة نهائية في الوصول بالدعوة من مرحلة الاستضعاف وخشية الاختطاف إلر مرحلة التمكين والعالمية إذ أن تجاوز الدعوة لجميع مراحلها لا يمكن أن يتحقق إلا بصورة قدرية.
ولعل حادثة أصحاب الفيل التي حفظ الله بها البيت تهيئة لظروف الدعوة؛ ولعل الصراع بين الروم والفرس الذي أجهد الدولتين تحقيقاً لتلك التهيئة دليل علي هذا البعد.
كما قال سبحانه: " محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوي علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ".
وفي إطار البعد القدري للتحليل السياسي:
يجب حسم مسألة العلو اليهودي.
لأن هذه المسألة تأتي خطورتها من الفهم الخاطي للآيات الواردة فيها حيث يتحدد هذا الخطأ في الاعتقاد الجازم بحتمية أبدية للعلو اليهودي. ويغذي هذا الفهم اليهود أنفسهم من خلال كتابات108 معينة يخرج قارئها بتصور يفسد العقيدة حيث يعتقد أن اليهود يفعلون ما يريدون وأنه ما من حركة أو سكنة لإلا وهي جزء من خطة يهودية شاملة.
هذا التصور شرك صريح...
الله وحده هو الفعال لما يريد.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعقيدة التوحيد ترفض هذا الوهم والواقع شاهد عي ذلك.
وحادثة واحدة... تكفي... وهي نكسة 1967م التي كان ظاهرها لصالح اليهود وكان باطنها الرحمة حيث كانت نقطة التحول في تاريخ الحركة الإسلامية حيث بدأت من مصر بعد أن قويت الرغبة في الرجوع إلي الله لتبدأ مع تلك الرغبة الدعوة الإسلامية بمستواها الفردي فيبلغ خطرها كل أنحاء العالم ويصبح مواجهة هذا الخطر هو محور السياسة العالمية علي مستوي الشرق والغرب.
رابعًا
النظرية السياسية الجاهلية
أ) التفسير العام للنظرية
والواقع أن للجاهلية نظريات ومذاهب واتجاهات ومدارس ونظماً سياسية مختلفة109، لكن ما نعنيه بالعنوان هو النظرية السياسية الجاهلية في تقابلها مع الإسلام؛ وهذا هو جوهر السياسة الجاهلية. وبهذا الاعتبار فإن هذا الاختلاف يصبح أمراً شكلياً بالنسبة لهذا الجوهر وتعدداً سطحياً بالنسبة لاتجاه الهدف الأساسي والنهائي للجاهلية وهو القضاء علي الإسلام. وللدلالة علي هذه الحقيقة نذكر مثالاً بأقصي تناقض شكلي في إطار النظريات السياسية الجاهلية يحقق أكبر توحد في حرب الإسلام وهذا المثال هو الديموقراطية والديكتاتورية حيث يمثل أكبر تقابل في إطار النظريات الجاهلية أكبر توحد في إطار النظرية الجاهلية الواحدة.
فكلا النظريتين يمنع وجود واقع صحيح للدعوة.
فالديمقراطية... هي أن يتكلم الجميع، والديكتاتورية هي أن لا يتكلم أحد. وهاتين النتيجتين المتقابلتين بالنسبة للدعوة يحققان نتيجة واحدة وهي أنه لن يسمع أحد لأحد حيث لا تقوم الدعوة إلا في واقع يجد فيه من يتكلم أحد يسمعه.
وأقرب تشبيه للقرف بين الديمقراطية والديكتاتورية هو فرق اللون بين الضباب والظلام؛ حيث يكون التقابل التام في اللون الأبيض والأسود بنتيجة واحدة - وهي انعدام الرؤية.
ففي الديمقراطية يتبدد الفكر الصحيح في واقع الإسقاف والثرثرة، وفي الديكتاتورية يتواري الفكر الصحيح في واقع القهر والكبت.
وفي الديقراطية يضيع الإنسان المفكر في ظواهر الفوضى الفكرية والإعلامية وفي الديكتاتورية يختفي الإنسان المفكر في غياهب السجون وفي كل من النظريتين... يغيب الإنسان المفكر... والفكر الصحيح. وجوهرية النظرية السياسية الجاهلية في مواجهة الإسلام لها غاية ثابتة وهي الصد عن سبيل الله.
والصد عن سبيل الله كغاية سياسية جاهلية له خطوط محددة:
منع ظهور الدين " قتل الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس ".(4/472)
منع حدوث الامتداد إذا فرض الظهور من خلال التركيز علي الزعامة (محاولة منع الرسول الخروج من مكة) كما قال سبحانه: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ".
التفسير غير الحقيقي للامتداد إذا فرض هذا الامتداد كما فسر رستم قائد الفرس خروج المسلمين للقتال بقوله: " ما أخرجكم إلا الجوع ".
فإذا ظهر الدين وفرض وجوده وتحقق امتداده... نشأت خطوط أخري.
منع الدين السياسي: العلمانية.
وفي منع الدين السياسي:
عشنا فترة تمتد علي الأقل منذ حركات الإحياء القومي في أعقاب الحرب العالمية الأولي وحتى هذه اللحظة حيث يدور التصور حول حقيقة واحدة تدور فتنبع من مبدأ تقييد الدلالة السياسية للدين الآسلامي وإبعاده بصورة أو بأخري من الحركة السياسية، ومن مفاهيم الصراع السياسي، ومن مفاهيم الصراع السياسي قبل الحرب العالمية بدعوي العلمانية، وبعد الحرب بدعوي الاشتراكية وتقييدها للتقاليد الاسلامية110.
مقاومة السلفية ونشر البدع (الانتساب العاطفي) للتحول بالناس إلي مرحلة الانتساب العاطفي الخاطيء... مثل التصوف.
ثم الاقتلاع العاطفي: مرحلة الانحلال - والإدمان...
ثم اقتلاع الجذور التاريخية؛ ومثال هذه المحاولة ما يتم في بلاد العالم المنتسبة إلي الإسلام مثلا حيث يتم هدم فكرة الخرفة تاريخيا من خلال الفكر العلماني، وتأكيد النتساب لمرحلة ما قبل الإنتساب – مثل الفرعونية في مصر – لإضعاف الأنتساب الإسلامي التاريخي، وتغيير الآثار والمعالم الدالة علي الانتساب الإسلامي التاريخي لهذه البلاد111.
الفصل بين الدعوة والناس بتشويه الصورة الاجتماعية للدعوة112.
وإيقاع الضرر بالعامة بسبب أصحاب الدعوة مثل مقاطعة قريش لبني عبد مناف حتى يكره الناس هذه الدعوة.
وفي ثنايا خطوط الصد عن سبيل الله تبرز عدة قواعد للسياسة الجاهلية أهمها:
قاعدة الهدف الناقص.
ففي مقاومة الجاهلية للدعوة سياسياً فإنها تنطلق من قاعدتها الأساسية وهي منع الدعوة من الوصول إلي هدفها الكامل. بمعني أن الجاهلية قد تسلم بمرحلة لا تمثل هدفاً كاملآً.
مثال أن تسلم الجاهلية بوجود كثرة مسلمة في واقعها إذا فرضت هذه الكثرة وجودها ولكنها - أي الجاهلية - تركز في مقاومة الدعوة إذا وصلت إلي هذه المرحلة علي الزعامة، فتفرض أو تسمح بنوع من الزعامة يحدث في هذه الكثرة تأثيراً يذهب أثرها؛ لأن الزعامة الصحيحة والكثرة المسلمة هدف كامل.
أو تركز علي التفريق... لأن الوحدة والكثرة هدف كامل. وعندما تحاول الجاهلية مهمة التفريق فإنها لا تستغل فقط اختلافات منهجية بين هذه الكثرة ولكنها تسعي إلي إنشاء التناقض الذي تضمن به عدم إمكانية تجاوز المحاولة الجاهلية في التفريق. وفي هذا الإطار يمكن نقل قضايا خلافية تاريخية مثل إتاحة مساحة كبيرة لفكر إرجائي أو خارجي بين واقع أهل السنة.
وعندما تعلم الجاهلية أن الصراع بين الاتجاهات، أو حتى محاولة تجمعهم سيستهلك طاقة أصحاب الدعوة؛ فإنها ستسمح بذلك إذا كان تقديرها أن محاولة التجمع هذه ستبوء حتماً بالإخفاق.
وعناصر الهدف الكامل هي الامتداد الإسلامي الصحيح الواحد القوي، وتحقيق النفص يمكن أن يأتي بقفد أي عنصر من هذه العناصر.
ومثال الهدف الكامل الذي عالجه القرآن هو قول الله عز وجل: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) فيكون الهدف هو الأمة الواحدة التي تعبد رباً واحداً فيأتي الشيطان ليمنع هذا الكمال؛ فإما أن يجعل الناس تعبده أو ييأس من ذلك فيلجأ إلي إنقاص الهدف من ناحية الأمة الواحدة فيحاول التفريق؛ وهذا معني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم"113.
قاعدة الخطر الأول:
وفي مقاومة الجاهلية للدعوة في حال الامتداد الواسع المواجهة الشاملة فيتم ترتيب هذا الامتداد بحيث يتم التركيز على ما يمكن أن تعتبره الجاهلية خطرًا أوليًّا.
ثم تتعامل مع الآخرين بأسلوب مختلف يحقق نوعاً من الأمان والانفصال عن الخط الذي سيتم التركيز عليه من جانب الجاهلية.
قاعدة سرقة الكفاح:
والواقع أن تدخل الجاهلية بعد أن تقطع الدعوة شوطاً هائلاً من طريقها وتقترب من تحقيق هدفها له أمثلة تاريخية محددة نضرب لها مثلاً قديماً من دعوة موسى... وهو موقف السامري والعجل بعد أن مرت أشد مراحل الدعوة قسوة وشدة وهي فترة تعبيد فرعون لبني إسرائيل، حيث تم الخروج من مصر؛ ليكون وقوف موسى ببني إسرائيل بين يدي الله عند جبل الطور لأخذلا التوراة وإقامة دولة الحق المنشودة وإذا بموسى يتعجل اللقاء فيسبق بني إسرائيل وتغيب القيادة ليظهر السامري متبنياً الهدف الذي حدده موسى من قبل وهو لقاء الله عز وجل لتلقي الشريعة.
فيأمر السامري بني إسرائيل بجمع الحلي وهو التصرف الذي جعل من كل بني إسرائيل صناعاً مشاركين في خطيئة العجل.(4/473)
وعندئذ انفصلت جماهير بني إسرائيل عن دعوة موسى فلم يسمعوا لأخيه هارون وتوجهوا نحو العجل. واحتل السامري موقع الزعامة وكان مضمون تجربة السامري هو أن اقتراب الدعوة من تحقيق أهدافها لا يجعل الجاهلية تسلم بالأمر الواقع فتحاول احتواء هذه النتيجة بل والاستفادة من أساسها وإعادتها إلى فترة الضعف الأول...
ومن المثل القديم... إلى المثل الحديث... بنفس المضمون.
وهو موقف عبد الناصر والثورة من دعوة الإخوان حيث بلغت دعوة الإخوان مرحلة كانت فيها من السلطة قاب قوسين.
تجمعات جماهيرية مؤيدة ومتعاطفة مع الدعوة.
عناصر منبثة داخل الجيش والبوليس بأرفع مستويات القيادة.
وانتصارات عسكرية عظيمة على اليهود في فلسطين صنعت موقفًا تاريخيًّا يحقق أكبر رصيد من التقدير والإكبار في نفوس الناس.
وإذا التجربة تبدأ بحلقتها الأولى... تغيب القيادة بغياب الإمام حسن البنا.
ثم الحلقة الثانية... وهي تبني نفس الأهداف التي طرحتها دعوة الإخوان في خطتها الإصلاحية، فكانت أهداف الثورة هي – بالكلمة والحرف – مضمون رسالة المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين، فتحولت الجماهير – في أغرب صورة – عن دعوة الإخوان وتوجهت نحو الثورة.
وبمقارنة سريعة بين المثلين: تجربة السامري وعبد الناصر... يتوضح أن أخطر عناصر التوافق هو التدخل في مرحلة ما قبل تحقيق الهدف.
ولعل مضمون هذين المثلين التارخيين يحقق الإدراك التام لحجم المترتب على غيبة القيادة في واقع الدعوة.
أما الحد النهائي لهذا الخطر فهو أن تغيب القيادة برغبتها وإرادتها؛ والعلة الثابتة دائمًا في هذه الغيبة هو الزهد في السلطة الذي يفهم على أنه إخلاص وتجرد.
وهذا الفهم قد يكون صحيحًا إذا كان هذا الزهد لا يخرج بالسلطة عن إطار الدعوة واصحابها الحقيقيين، أما أن يزهد أصحاب الدعوة في السلطة لتكون في أيدي أعدائها فتلك هي الجريمة الكبرى.
وهذا عمر مكرم أكبر الشيوخ في مصر التي كانت في مرحلة الانقياد التام لزعامة العلماء يسلم قيادة البلاد لمحمد علي في أغرب تصرف تاريخي بدأت به أكبر مرحلة تواجد علماني في مصر.
وغاية السياسة الجاهلية الثابتة هي: الصد عن سبيل الله، وتتحقق بمضمون ثابت.
ومضمون النظرية السياسية الجاهلية هو الطاغوتية، وهو المصطلح الذي يعني الشيطنة السياسية.
وأساسيات هذا المصطلح:
أ) هي السلطة بعناصرها الأصلية.
ب) والقتال: " الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا ".
ج) الولاء: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".
وتندرج تحت هذه العناصر: أخطر الأفكار السياسية الجاهلية المحققة للسيطرة على الإنسان وعقله، والمنشئة في قلب الإنسان الجاهلي دافع القتال في سبيل الطاغوت.
والمحققة لولائه للجاهلية.
وبعد قواعد السياسة الجاهلية الأصلية نمتد إلى أخطر عناصرها.
عناصر الممارسة السياسية الجاهلية:
المكر السيئ:
والمكر هو التدبير الخفي، وقد وصفه الله بالسوء؛ لأن مجرد التدبير الخفي قد يكون للخير وهو ما جعله الله عز وجل يصف أفعاله بالمكر.
وخطر المكر السيئ يرجع إلى عدة حقائق:
- أننا على وجه الحقيقة لا نتحمل هذا المكر؛ لأن الله وحده هو القادر عليه، وهو سبحانه الذي يصده عنا، وهذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم ".
- وأننا لا نستطيع صد هذا المكر؛ لأن الفاعلية الخبيثة للمكر الجاهلي هو أنه يزيل الجبال، وهو المأخوذ من قوله تعالى: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ".
والموقف الصحيح في مواجهة المكر الجاهلي هو الصبر على هذا المكر عندما يكون له أثر في الواقع، وإمهال الكافرين رويدًا حتى ترى الفعل الإلهي ردًّا على هذا المكر؛ لأننا كطرف من الدعوة خارجين فعلاً من دائرة المكر بين الله وأعدائه، وهو المأخوذ من قوله سبحانه: " إنهم يكيدون كيدًا * وأكيد كيدًا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا ". ولذلك تكون أول صيغ الفعل الإلهي في رد المكر الجاهلي هو ارتداد أثره على مدبريه، وهو المأخوذ من قول الله: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ".
ذلك أننا غير قادرين على وجه الحقيقة على صد المكر الجاهلي؛ لأنه مكر دائم لا يتوقف لحظة، وهو المأخوذ من قوله سبحانه: " بل مكر الليل والنهار "... ولا يكون زمن إلا ليل أو نهار.
- والموقف الصحيح في مواجهة المكر الجاهلي أيضًا هو أن نقف بالدعوة الموقف الصحيح ونعطيها وجودها الشرعي الذي تستحق به الدفاع الرباني عنها وعن أصحابها.
ومما يجعلنا نؤكد على الالتزام الشرعي البحت والمطلق في مواجهة الجاهلية هو استحقاق الدفاع الإلهي عن الدعوة، حتى لو خالف ذلك مقتضى التفكير العقلي أو العملي، وهذه هي طبيعة التصور السياسي للحركة الإسلامية.
فلا غدر ولا خيانة؛ لأن الله لا يحب الخائنين، ولا ظلم؛ لأن الله لا يحب الظالمين.(4/474)
مرحلة التعذيب والقتل الهادفة إلى القضاء على أصحاب هذه الدعوة، وهي المرحلة التي تظن كل الجاهليات أنها المرحلة الحاسمة والنهائية.
ولكن المفاجأة تكون عندما تتجاوز الدعوة هذه المرحلة، فيتجه التفكير الجاهلي إلى مرحلة تقليدية ثالثة هي:
الاستنفار العام، ومعناه حشد كل القوى الجاهلية وكل أساليبها في مواجهة شاملة مع الدعوة، وهي المرحلة التي يرتفع فيها العداء للدعوة إلى المستوى القومي، وتتحرك فيها الجاهلية في كل الاتجاهات الأمنية والسياسية والإعلامية والاجتماعية، وتكون صيغة الاستنفار العام: " أن امشوا واصبروا عاى آلهتكم إن هذا لشيء يراد ".
امشوا: تحركوا في كل الاتجاهات، واصبروا: اثبتوا على آلهتكم التي كادت الدعوة تنسفها نسفًا، إن هذا لشيء يراد: إنها خطة محكمة متفق عليها بين الجميع، ولكلٍّ دوره فيها.
ويثبت أصحاب الدعوة ثباتًا يستحقون به التأييد من الله.
محاور النظرية السياسية الجاهلية:
1) المحور الإعلامي:
ولكن الجاهلية تقاوم، وسيكون أخطر عناصرها المقاومة الإعلامية الجاهلية للدعوة الإسلامية... وسيتركز المحور الإعلامي هو الآخر على عدة ركائز.
المتابعة الدقيقة لأصحاب الدعوة بحيث لا تدع الداعية لحظة واحدة يخلو فيها إلى الناس، وهذا أبو لهب يحقق أعلى مستويات المتابعة، حيث يسير وراء الرسول وهو يدعو إلى دين الله ليقول للناس في آخر كلامه: هذا ابن أخي... لا تصدقوه.
ولقد بدأت المتابعة الجاهلية فعلاً منذ لحظة الرسالة الأولى، حيث "أمر إبليس أتباعه بالانتشار في الأرض" عند بعثة النبي.
ومنذ أن انتشرت الشياطين في جميع الأرض لم تقف المتابعة عند حد إقليمي أو مستوى دولي، وقد مر في الكتاب أنه كما كانت المتابعة في مكة كانت في المدينة، وقد مر كيف أرسلت قريش إلى عبد الله بن أُبيٍّ تعتب عليه وجود الرسول في المدينة وتهدد بالتدخل العسكري لإنهاء هذا الوجود.
وليس هناك من دليل على دقة المتابعة العالمية للحركة الإسلامية من حادثة كعب بن مالك114.
التنفير الدائم للناس من أصحاب الدعوة، وذلك من خلال تصويرهم في أذهان الناس في صورة سيئة، وهذه هي الفكرة القديمة التي مارسها فرعون عندما قال عن موسى: " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)؛ وذلك بسبب العقدة التي كانت في لسان موسى، وكذلك اتهام بني إسرائيل لموسى بأنه آدر لما وجدوه لا يستحم معهم، وجاء ذلك في قول الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ".
هذه الفكرة القديمة التي تمارس بالأساليب الحديثة والخبرات الفنية، ونظرة واحدة إلى صور المقبوض عليهم في قضايا الإسلام تؤكد لك هذه الحقيقة؛ حيث لا نرى إلا كل ما ينفر.
تصنع الصور بالأساليب الحديثة: الزيغ في النظرات، والبلاهة في الوجوه؛ لإثبات الانحراف والتيه.
وتصنع الصور: الشعاثة في الشعر، والشراسة في الملامح؛ لإثبات الإرهاب... صورة باهتة...
خلفيات مظلمة للإيحاء بالتآمر... وصفحات الجرائد هي المستند والدليل... كل هذا ضروري في مهمة الإعلام الجاهلي.
وكله نابع من النظرية الإساسية للإعلم الجاهلي بصورة محددة!
والحقيقة أن النظرية الإعلامية بصورة محددة... هي السحر والكهانة.
وهذا هو إعلام الجن والشياطين ببعثة النبي... يقول فيه أحد الشياطين: " أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلاسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلاصِ وَأَحْلاسِهَا "... ويقول شيطان آخر وذلك بعد أن صرخ صرخة لم أسمع115 صارخًا قط أشد صوتًا منه: " يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله "... وهكذا يكون الأسلوب مؤثرًا.
أسلوب الجن والسحرة...
الصرخة المؤثرة والأخذ بالقلوب.
الصيغة الاستفزازية للعقل... ماذا تعني الصرخة؟!
الصورة امرأة سوداء مثيرة لشعرها116...
صوت... صورة... عبارة... أسلوب... عناصر إعلامية بحتة.
والتكرار أخطر عناصر الإعلام.
الخبر الصادق بجانب مائة كذبة... نظرية الجن في تحقيق التصديق هي نفس نظرية الأنباء.
فيكذب الكاهن مائة كذبة117.
وهذه هي عناصر الإعلام الشيطاني.
ولما كان الأمر متعلقًا بالتفاعل العقلي والنفسي، فلا بد أن يكون الإعلام: " زخرف القول غرورًا "... عناصر إعلامية جاهلية بحتة.
زخرف القول للإقناع بلا حقيقة أو مضمون... إقناع بالظاهر والشكل والأسلوب، وهذا هو الزخرف.
غرورًا: تغريرًا.
ولا بد أن يكون الإعلام الجاهلي أداة للتعامل مع الإنسان.
فلا بد أن يكون هناك الشكل المنطقي.
والصورة المبدئية كما حاول أن يبدو بها أبو جهل عندما قال في غزوة بدر: اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان المستفتح118.
السمة الإنسانية كما قال عقبة بن أبي معيط في الإسلام: " فرق الناس، وخرب الديار، وجعل الولد يقتل والده"119... وكما تحاول الجاهلية اليوم الارتفاع فوق مستوى الدين بزعمهم بالمفاهيم الإنسانية: الحرية، الإخاء، المساواة.(4/475)
والإعلام الجاهلي هو وسيلة الجاهلية العقلية والنفسية في الإنشاء والإبقاء على الكفر والفساد، والإعلام هو ساحر الحكم الجاهلي... الإعلام هو المحقق لمهمة الرضى والمتابعة بالكفر، وهو المقاوم للكراهية العارضة لهذا الكفر.
ومن أجل ذلك لا بد من الاستيعاب الكامل لوقت الإنسان وعمره، بحيث لا تفوت لحظة دون أن تكون فتنة، كما قال سبحانه: " بل مكر الليل والنهار ".
ولا بد من التناسب الدقيق مع العقلية البشرية كهدف للإعلام، ولعل مؤتمر الندوة الذي حاول الاتفاق على تعريف القرآن دليل على هذا التناسب120.
ولا بد من الأسلوب المؤثر السهل العبارة التي تخرج من هذا الفم ليتلقفها الجميع فتصبح على جميع الألسنة... والحقيقة أن عبد الله ابن سلول هو أستاذ هذا التعبير الإعلامي الجاهلي... فهذه عبارة من عباراته: " سمِّن كلبك يأكلك ".
ولكن كل عناصر الإعلام الجاهلي لا ترى مجتمعة إلا في مواجهة أي حدث إسلامي؛ عندئذ تكون العناصر المباشرة المواجهة للحدث:
التهوين من شأن الحدث: مثلما قال أبو لهب تعقيباً على إعلان الرسالة من النبي صلى الله عليه وسلم من فوق جبل مكة: " تباً لك طول يومك ألهذا جمعتنا)121، وكأن حدث الرسالة لن يبقى إلا يوم إعلانه (طول يومك)، الأمر الذي لا يستحق الجمع (ألهذا جمعتنا؟ ".
قطع الصلة بين أفراد الحدث والواقع الاجتماعي الذي تم فيه الحدث حتى لايكون لهؤلاء الأفراد امتداد اجتماعي... مثلما قال عروة بن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت بأوشاب الناس لتفض بيضتك، حتى أفهمه ابن أخيه أنهم ليسوا أوشاباً وكان يلبس المغفر على وجهه فضرب يد عمه وقال له: اخفض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك122...
إعلان أنهم ليسوا على شيء... مثلما استشار المشركون اليهود في أمر الدعوة، فأخبرهم اليهود أن المشركين أفضل من المسلمين، وكما قال القرآن على لسان اليهود في المشركين: " هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ".
المزايدة على أصحاب الدعوة... مثلما زايد المشركون على المسلمين لسقاية البيت وعمارة المسجد الحرام، فأنزل الله عز وجل: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر "... والصورة الحديثة للمزايدة على أصحاب أي حدث إسلامي تافهة نفس التفاهة القديمة.
فبمجرد حدوث الحدث يتم تخصيص أماكن خاصة للسيدات في المواصلات وزيادة البرامج الدينية في وسائل الإعلام والاهتمام بأقرب مناسبة دينية والمبالغة في الاحتفال بها.
ولكي تمنع الجاهلية أثر أي حدث إسلامي فإنها بعد أن تمارس رد الفعل الإعلامي المذكور سابقًا بعناصره فإنها تبحث عن أخطاء يغلب الظن فيها أنها لا تنال تأييد الناس.
مثل قول اليهود للرسول: ما بالك تنهى عن الفساد في الأرض وتقطع الشجر؟! فرد القرآن عليهم مبينًا تفسير الموقف123.
ومثلما أخطأ بعض من أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية فقتلوا بعض المشركين في الشهر الحرام فأرسلوا إلى رسول الله وقالوا: ما بالك تقتل في الشهر الحرام124.
فرد عليهم مقررًا في البداية خطأ هذا الفعل. " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به ".
هذا أساس الحكم.
لكن الذين قَتلوا لم يكونوا يعلمون أنهم دخلوا في الأشهر الحرم، فهذا اعتذار عن الفعل.
وإذا لم يكن هذا السؤال مجرد تشنيع بالمسلمين وكان حرصًا على حرمات الله، فهناك حرمة أكبر وقعوا هم فيها وهم يعلمونها...
" والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ".
" والفتنة أكبر من القتل ".
ولا زالت الجاهلية تتابع الحركة الإسلامية وتبحث عن خطأ لها.
التأكيد على إصابة الحدث الإسلامي بأمراض وعقد نفسية... مثلما قال قوم شعيب لنبيهم بعد إعلان دعوته: " إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء "... ومثلما قالول لرسول الله بعد إعلان النبوة: إن كان أصابك شيء طلبنا لك الأطباء125.
2) المحور الاقتصادي:
الفقر المنسي والغنى المطغي:
إن الجاهلية تنشئ بسياستها وضعًا اقتصاديًّا عالميًّا ينقسم الناس فيه إلى قسمين: الفقر المنسي، والغنى المطغي.
وهما الحالتان اللتان تبتعدان بالإنسان عن إدراك الحق، فالذي ينسى نفسه فقيرًا يصعب عليه التفكير الصحيح في الواقع، والذي لا يرى نفسه إلا غنيًّا وطاغيًا يصعب عليه إدراك الواقع؛ ولذلك حذر رسول الله من هاتين الحالتين في إطار التحذير من الأسباب التي تبتعد بالإنسان عن الحق والصواب، فيقول: " بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر "126؛ من أجل ذلك أنشأت الجاهلية المصطلحات المشار إليها: مصطلح الدول النامية، ومصطلح الدول الصناعية الكبرى؛ حيث يعيش الفقر المنسي والغنى المطغي تحت هذين المصطلحين.(4/476)
إن خطة الإفقار الجاهلية للعامة تهدف إلى إحداث معاناة معيشية شديدة تستهلك كل الطاقة الذهنية والنفسية للإنسان، وكذلك تهدف إلى تفتيت العلاقات الاجتماعية كنتيجة للحرص والأنانية، ومحاولة كل إنسان تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح الشخصية.
وحتى لا يصل الفقراء إلى نقطة الانفجار والثورة فإن السينما والتلفزيون يبتعدان به عن هذه النقطة من خلال موضوعات الأفلام والمسلسلات اليومية التي تضرب على الجرح والوتر الحساس فتثير الشجون تارة، وتارة أخرى تعالج الموضوعات التي تعرض حياة الترف والأرستقراطية التي تحدث نوعًا من السعادة وتعويض الحرمان...
وتارة ثالث تعرض الموضوعات التي ينتصر فيها الفقير على الغني من خلال قصص الحب... والمبادئ والأخلاق والشهامة.
المهم أن يبقى الفقر بلا ثورة...
أما خطة الغنى المطغي، فمنها خطة الترف الذي يفقد أصحابه الإحساس الحقيقي بغيرهم من البشر، وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة إحساس بالغير... وكذلك ستجعلهم يفتقدون حاسة البحث عن الحق؛ لأن الترف أنشأ عندهم معيارًا للحق وهو المال فقط وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة بحث عن الحق، وتجعلهم يفتقدون إدراك الواقع وعندئذ لن تكون دعوة؛ لأن الدعوة هي ثمة الإدراك الصحيح للواقع.
إن المترفين هم أصحاب المال عندهم تفسير كل شيء وعلة كل تصرف وحكمة كل حدث، وأساس كل واقع ومنتهى كل غاية وقيمة كل إنسان... إن الترف هو عدو الدعوة الأول.
ومن هنا فإن أهم مقتضيات الصراع بين الجاهلية والإسلام هو تخليص الإنسان من حالة الفقر المنسي، وواقع الغيبوبة النفسية والذهنية التي يعيشها البشر كما يوجب على الدعاة أن يعملوا بكل أساليبهم على إعادة العقل البشري من غيبوبة الفقر المنسي وإفاقته بكل المؤثرات النفسية والعصبية، وبكل الأساليب الكلامية والعملية، كما يجب أن يقف الدعاة أمام الترف الجاهلي وعناصر الثراء للاستعلاء بالإيمان وتجرده وكرامة الزهد وكرامة الزاهدين ومكانة العلماء؛ ليفيق المترفون عندما يشعرون أن هناك قيمة أعلى من المال وحقيقة أكبر منه هي قيمة الإيمان والإسلام.
سياسة المواجهة للنتيجتين:
إن التصور السياسي الصحيح يفرض على الدعاة في مواجهة الفقر المنسي والغنى المطغي أن نتعامل مع الإنسان بأقصى إمكانيات التأثير.
الإثارة الفكرية والعاطفية... بأعمق أبعادها.
المواقف المحزنة... الخواطر المخيفة... العبارات المطمْئِنة.
يجب أن يهتز الإنسان أمام الدعاة هزًّا عنيفًا... وليسكن سكونًا تامًّا يجب أن يستحوذ الدعاة على كيان الإنسان كله، يجب أن يقف الإنسان أمام الدعاة كأن على رأسه الطير...
لا حراك... سوى حركة النَّفَس ونبض العروق...
يجب أن يتكلم الدعاة بكل الألسنة وبكل الأساليب؛ لينسى الإنسان أمام الدعاة حياته الدنيا سواء كان فقيرًا أو غنيًّا.
ليبحثوا عن كل القصص الصحيحة... كل الطرائف... كل المواقف... السيرة... حياة الصحابة... الرقائق... الكرامات والمعجزات... الجن والملائكة... القبر وعذابه... الجنة والنار... كل الإسلام... كل حقائق الإسلام... كل قضايا الإسلام.
لإنقاذ الفقراء الناسين والأغنياء الطاغين.
وفي النهاية...
يجب أن يترفع الدعاة عن مصالح الدنيا؛ حتى لا يتهمهم الفقراء ولا يستهين بهم الأغنياء.
عندئذ يمكن الإطاحة بالاتاه الاقتصادي المنشئ لمصطلحات: العالم الثالث... الدول الصناعية الكبرى... الدول النامية... المعونة الاقتصادية... هذا المصطلح الذي يعني أن كيانات الدول النامية عالة على الآرض لا تتجاوز أهدافها وآمالها هدف العيش وأمل الاستقرار بالحصول على هذه المعونة، فتفرض الدول العظمى إرادتها على الدول الأخرى.
3) المحور القانوني:
ورغم أن الجاهلية فوضى وخروج عن الأصول، إلا أن الشيطان يرغب في اميصاص الطبيعة البشرية التي ارتكز فيها بصورة دفينة الرغبة في النظام والحياة في ظله.
فأنشأ الشيطان للجاهلية صيغة قانونية تحقق نظاماً يخضع له جميع الناس.
ولعل المثال التاريخي لهذا الوضع هو اعتراض قوم شعيب على الرسالة باعتبارها خروج على نظام لا يملكون إلا الخضوع له: " قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ".
فهناك نظام يجعلنا لا نستطيع التصرف بهوانا "أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ".
ولكن العلة في انتشار النظام الجاهلي لا تقف عند حد امتصاص الإحساس الطبيعي المركوز في النفس البشرية بالرغبة في النظام ولكنها في الأساس... أسلوب يضمن به الشيطان أن يكون له قيادة العالم وزعامته ليسيطر من خلال هذه القيادة وتلك الزعامة على جميع الناس.
وانطلقت الجاهلية في المرحلة القائمة لمقاومة الدعوة في اتجاهات متعددة.
وكانت الحرب العالمية هي رصيد السياسة الجاهلية عالمياً.
والتي نشأ عنها أخطر هذه الاتجاهات وهو الاتجاه القانوني تحت مظلة الأمم المتحدة – الهيئة الجاهلية القانونية العالمية.
وفي إطار دستور الأمم المتحدة الذي أعطى حق العضوية الدئمة في مجلس أمنها لدول محدودة وحق الفيتو مع حق العضوية الدائم.(4/477)
من خلال هذا الوضع تمت الاتفاقيات والمعاهدات وكان أخطرها معاهدة بيكر التي تم الاتفاق فيها على وضع العالم تحت وصاية ومسئولية الدول الكافرة المسماة بالعظمى.
ولكي يبقى للمحور القانوني فاعليته يجب أن تبقى آثار الحرب الثانية التي تمثل رصيداً لقانون النظام العالمي ولا بد أن تبقى الحرب نفسها في إحساس العالم باعتبارها المصدر الفعلي لقوة القانون، وأول عناصر هذا الاتجاه هو إيحاء الحرب في عقل العالم وضميره من خلال الأفلام والقصص. ولعل من أبرز هذه الأساليب هو الإبقاء على مساعد هتلر سجيناً في سجن تشرف عليه دول الحرب المنتصرة وتتناوب حراسته دولة كل ثلاثة أشهر باعتبار هذا السجين أطول أثر واقعي للحرب...
4) المحور النفسي:
ومن أخطر المحاور النفسية للسياسة الجاهلية: هو امتصاص رد الفعل الإسلامي إذا فعلت الجاهلية ما يقتضي هذا الرد بحيث يتبدد رد الفعل الإسلامي بصورة نفسية شعورية غير عملية أو خطيرة ولعل أخطر الأمثلة على ذلك:
حاث سقوط الخلافة الإسلامية: ذلك الحدث الذي كان قتلاً لكل مسلمي العالم فكانت قصائد شوقي التي نعى فيها سقوط الخلافة فكانت قصائده بمثابة المستأجرة في المأتم التي تسعد أهل الميت فيخفف هذا من وطأة الفجيعة.
وكان منصب (الخلافة) الصوفية الذي تهتم به الدولة وتعطية الصفة الرسمية حيث يخرج (الخليفة) في المولد النبوي الشريف يركب (الفرس) وحوله (السيوف الخشب) و (الرايات) فيخرج الخليفة على جموع الشعب المتصوفة وهم يشعرون أن هذا (الخليفة) خير من ملء الأرض من (الخليفة) الذي ذهب...
ولكن هذه الخدعة الكبرى لا تستسيغها العقول الواعية فليكن لهؤلاء ما يخمد مشاعرهم ويهدئ من روعهم... فكان السماح بالجمعيات الدينية التي وضعت على رأس برنامجها (إعادة الخلافة) والتي أشعرت أصحاب هذه العقول الواعية أن الخلافة ستعود ولكنها مسألة وقت.
5) المحور العسكري:
المحور العسكري المتمثل في التطور التكنولوجي في التسليح إلى الحد المحقق ليأس جميع البشر في المواكبة ليستمر التطور حتى يصل إلى ما يطلق عليه حرب الفضاء لتصبح الأرض موقعاً تم الانتهاء منه ثم حرب الكواكب التي لا تمثل فيها الأرض إلا كوكباً صغيراً. فتتضاعف مشاعر السيطرة من جانب الدول العظمى ومشاعر اليأس من جانب الدول الأخرى.
تماماً مثلما سيشعر يأجوج ومأجوج بغلبهم لأهل الأرض فقالوا: الآن نحارب أهل السماء؛ فوجهوا لها حرابهم فنزلت فتنة لهم مخضبة بالدماء127.
ولكن...
تحت كل هذه التراكمات الصخرية والطبقات الجاهلية الجلدة يكون غليان الإيمان ويفتح الفهم الإسلامي الصحيح فوهة البركان.
مهما كان الوضع... ومهما كانت المؤامرة... سيفتت البركان الإسلامي تراكمات السياسة الجاهلية العالمية.
الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...
قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشد لحظات المشقة؛ في الخندق... عندما اجتمعت الأحزاب فكان المسلم لا يأمن أن يخرج ليقضي حاجته... ووقف حجر أمام الصحابة وعجزوا عن تحطيمه حتى الخندق فيه الأحجار ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ معولاً ويضرب الحجر ضربة؛ ويرى في غبار حجر الخندق ثلاث صور:
الصورة الأولى: مدائن الفرس.
الصورة الثانية: قصور الروم.
الصورة الثالثة: اليمن128.
اختلطت الدول العظمى بغبار حجر الخندق.
وتبدد الوهم... وهم الدول العظمى. التي تحولت إلى مجرد صور.
وفتحت الفرس، وفتحت الروم، وفتحت اليمن.
إن عالمية الدعوة عقيدة أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع نوح سفينة فوق الرمال، وسخر القوم من رسول الله كما سخروا من نوح وقالوا: لا يأمن أحدنا أن يقضي حاجته ويعدنا بقصور الروم ومدائن كسرى! 129. ولم يدر الساخرون أن الطوفان آت ليعم الأرض عقيدة سهلة نرى الأرض فيها تنزوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى فتوحاته المقدرة له من عند الله... قدر سهل " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ".
خامسًا
نموذج للصراع السياسي بين الإسلام والجاهلية
(مصر: 1965 م - 1981 م)
ولكن قبل طرح نموذج الصراع؛ " مصر 1965 - 1981 ".
نجيب على تساؤل قد يتبادر إلى الذهن: لماذا مصر، ولماذا هذه الفترة؟
وللإجابة على هذا التساؤل ثلاثة جوانب:
الأول: إن الذين يعيشون التجربة أو يشاركون فيها، هم الذين يقدمونها، ولا يقدمها عنهم غيرهم... ولا يتجاوزون هم أيضاً حدود تجربتهم...
إن الكتابة عن تجارب الآخرين تسهم في إحداث طمس وإهدار للتجربة في كل موقع من مواقعها، وكل فترة من فتراتها. هذه قاعدة سياسية هامة...
الثاني: لأن الحركة الإسلامية في مصر اكتسبت صفة القوة السياسية خلال هذه الفترة حتى نهايتها مما يجعل لأحداث هذه الفترة وهذا الواقع فرصة قيمة لدراسة دقيقة يتم من خلالها تحليل هذه الأحداث التي انتقلت بالحركة لهذه المرحلة، وحققت لها صفة القوة السياسية.
الثالث: أن وصول الحركة الإسلامية في مصر إلى هذا المرحلة كان تحت وطأة أكبر ضغط جاهلي.(4/478)
وذلك لأن النظرة الجاهلية العالمية لمكانة مصر على أنها مفتاح المنطقة العربية والشرق الأوسط جعلها تلقي بكل ثقلها الأمني والإعلامي والسياسي والعسكري لمحاربة الحركة الإسلامية في مصر...
مما يجعل مفاتيح الحركة في مصر نتائج عيارية للعلاقة بين الإسلام والجاهلية في أي موقع من العالم.
وهذه الجوانب الثلاثة هي بمثابة المقدمة للإجابة الأساسية عن التساؤل: " لماذا مصر... ولماذا في هذه الفترة " وهي أن الحركة الإسلامية في مصر تجربة منهجية كاملة.
وإن سبقها من حيث النتائج العملية والسياسية تجارب إسلامية أخرى في مواقع أخرى قد تكون قريبة من بلوغ غايتها ومنتهاها.
وذلك لأن الحركة الإسلامية في مصر منذ بداية الإخوان المسلمين والعمل الفدائي في القناة وحرب اليهود حتى المنصة تقدم أساسياته كحقائق مطلقة يمكن تجريدها من ظروفها وملابساتها الخاصة لتحقق وعياً سياسياً على مستوى الحركة الإسلامية العالمية في كل مواقعها.
ويحسن أن نذكر ابتداًن هذه الأساسيات بترتيبها الصحيح الذي يمثل في أي تجربة خطاً صحيحاً لتطور العلاقة بين الفكر والحركة وهذه الأساسيات هي: العقيدية. الحركية. الشرعية. القدرية.
السياسية بأبعادها المذكورة في الكتاب.
ولكن الأمانة تقتضي القول بأن ظهور هذه الأساسيات في الواقع لم يكن بهذا الترتيب النظري الصحيح...
حيث برزت دعوة الإخوان من خلال: الأساسية الحركية.
فقدمت نموذجاً لا مثيل له في البناء التنظيمي للجماعة...
ونماذج لا يعلى عليها في أساليب الحركة التي أظهرت على ضفاف القناة منهجاً حركياً تاريخياً... في حرب الإنجليز.
وقدرات تكتيكية عسكرية هائلة في حرب اليهود...
ولم يكن الواقع يسمح بخلاف عقيدي حول العدو حيث أن كفر الإنجليز واليهود كان أساس الاندفاع العسكري تحقيق نحو المواجهة.
ولكن قيام الحركة الخبيثة للضباط عام 1952 أنشأ ضرورة الحكم على العدو الجديد... لينشأ معها الأساسية العقيدية التي اكتملت في كتابات الأستاذ سيد قطب.
ولكننا نعترف أن إنشاء الأساسية العقيدية كان على حساب المستوى الحركي للدعوة. بعد توقف الحركة بسبب الخلاف والسجون.
لتبدأ الدعوة بعد توافر الأساسية العقيدية بخبرة حركية ضعيفة تمثلت في عدة محاولات لم تدخل منها في حيز التنفيذ سوى محاولة الفنية العسكرية، وبفكرة خداعية غير قائمة على المواجهة العسكرية الفعلية.
وذلك بعد انقطاع الصلة العملية بين أصحاب المستوى الأول في الحركة بسبب سجنهم وأصحاب المحاولات الأخيرة الذين بدأوا بخبرتهم وإمكانياتهم الذاتية.
كما نعترف أن البداية الجديدة للأساسية الحركية بخبرة المبتدئين وإمكانياتهم الذاتية أظهرت خطاً حركياً عظيماً.
وهو الارتكاب على الخبرة الشخصية والذكاء العقلي والفكر البوليسي؛ حتى بلغ الأمر أن تكون كل مراجع الحركة أجنبية مثل كتابات حرب العصابات...
وتجارب الكفاح المسلح التي لا تمت إلى الإسلام بصلة.
الأمر الذي نشأت به الأساسية الثالثة وهي الأساسية الشرعية الداعية إلى الالتزام بالدليل الشرعي في كل مراحل الدعوة، وضرورة أن يكون لأصحاب الدعوة سلف في كل موقف أو تصرف.
والاهتمام بالعلم الذي يتوافر به الأدلة حتى لا تكون دعوة داعية إلى إقامة المجتمع المسلم وهي تفتقد شرعية حركتها وسلفية منهجها.
وهي أساسية جوهرية أسهمت بصورة طيبة في تأصيل الدعوة من حيث قضيتها وأسلوب جمع الناس حولها.
ورغم أن هذا التأصيل قد تم من خلال الأساسية العقيدية؛ فكان لأصحاب سلفية الدعوة فضل تثبيت هذا التأصيل الشرعي في الواقع. بسبب تواجدهم في هذا الواقع بصورة واسعة.
وأخيراً؛ ونحن نواصل تحليل أساسيات المنهج الكامل من حيث الواقع يفيد الانتباه إلى هذه الحقيقة وهي أن الخطأ والصواب كان احتمالاً قائماً على جميع من حاول إبراز أساسية من هذه الأساسيات إلى الواقع.
ولكن قيام الاحتمال لا يلغي فضل المحاولة...
وهذا ما كان واضحاً في إبراز الأساسية القدرية بصورة كبيرة؛ وذلك لأن الفشل المتلاحق لتجارب الدعوة في مصر جعل أصحاب الدعوة يبحثون عن علة هذا الفشل فكانت أهم محاولة للبحث هي الاتجاه القائل بأن الدعوة لها أسباب وسنن يجب ارتباط منهج الحركة بها. كما يجب ارتباط منهج الحركة بأحاديث آخر الزمان وعلامات الساعة.
وقد كانت المحاولة خاطئة؛ لأنها لم تحقق الارتباط منهج الحركة والسنن الثابتة وأحاديث آخر الزمان وعلامات الساعة. ولكن فضل إبراز هذه الأساسية لم يذهب معها.
حيث التقط آخرون هذا التوجه الحركي ليعالجوا أخطاء المحاولة.
ويحددوا التصور القدري الصحيح لمنهج الحركة.(4/479)
وما أن بلغت الدعوة هذه المرحلة المنهجية الهائلة والتي توافرت واستقرت فيها الأساسية العقيدية والحركية والشرعية والقدرية حتى انطلقت بكل قوتها وبكل استعدادها للبذل والتضحية؛ حيث تجاوزت الدعوة رحلة الجدل وغموض السبيل وقصر الرؤية الصحيحة للعمل؛ الأمر الذي تطلب إبراز الأساسية السياسية لتحقيق ضبط القوة وتوجيه الاستعداد؛ ليتحقق أكبر قدر من الأهداف بأقل قدر من التضحية حتى لا تتجاوز التضحيات حتى لا تتجاوز التضحيات المبذولة حجم الأهداف المحققة.
وبعد المقدمة... يبدأ التحليل...
ابتداء من الحضانة التي كان أشهر شعاراتها: " يا رب احفظ بابا جمال "
ومروراً بالمرحلة الابتدائية ذات المناهج المشحونة بالأفكار الاشتراكية وشخص عبد الناصر.
والمرحلة المتوسطة التي تتواصل فيها المناهج المشحونة وتكون فيه الرحلات الإجبارية إلى الهرم والسد العالي؛ لربط الشباب تاريخياً بالفراعنة بناة الهرم وحاضراً بالزعيم باني السد.
وانتهاءً بالجامعات التي فرغت فيها قاعات المحاضرات بعد توزيع الطلبة على الرحلات والمؤتمرات والمعسكرات ومسيرات التأييد والبيعة مدى الحياة للزعيم الملهم.
وفي هذا الوقت كان الشباب المواظب على الفرائض يبحثون له عن راق يتهامسون حوله: هل به مس؟
كانت صلاة الفجر سرًّا.
كان يكفي لينفض أي تجمع أن تحاول شرح آية: " ومن لم يحكم بما أنزل الله ".
كان الناس يشيرون إلى أحد البيوت قائلين: البيت ده فيه واحد من الإخوان.
كان جميع الكتاب والمفكرين والصحفيين ملزمين بالهجوم على الإخوان.
كانت البراعة والعبقرية تقاس بمستوى هذا الهجوم المفروض.
كانت الجمعيات الدينية جميعها وبلا استثناء وبكل توجهاتها تجتمع وتتفق وتنطلق عندما تكون المهمة هي الاستنكار وبشدة على الإخوان أو أي عمل من أعمالهم.
ومن هذا الواقع كان التحول...
وكان هذا التحول من المرحلة الاشتراكية إلى الإسلام في مصر...
هو في حقيقته آية من آيات الله سبحانه وتعالى ويجب أ، تكون دراسة آية التحول هي الدرس الأول في تاريخ الحركة القائمة.
لقد نشأت الحركة الإسلامية من خلال مجموعة من الشباب لا يملكون أي خبرة... أي إمكانية... أي تأييد... أي تصور... إلا قضية الحاكمية تفسير آية " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ".
في مجتمع...
يملك أيد يولوجيته الاشتراكية المتمكنة التي جعلت الأستاذ الجامعي الملحد هو القدوة والنموذج الاجتماعي.
أيديولوجية متمكنة فرخت كوادر مغسولة المخ تحت مظلة الدراسات السياسية التي أنشئت لها خصيصاً كلية أو مغسلة الاقتصاد والعلوم السياسية التي لا يلتحق بها إلا أصحاب أعلى درجات الثانوية العامة لدراسة أعداء الثورة... الإخوان... من خلال المناهج ورسائل الماجستير والدكتوراه.
مجتمع... له زعيمه... الذي اجتمعت فيه كل خصائص الزعامة القومية، صوت وصورة من يؤيده عالمياً: الكتلة الشرقية، ودول عدم الانحياز علناً، وأمريكا والغرب سراً.
مجتمع... له شعبه الذي كانت تتعلم فيه الأجيال النطق على حروف كلمة جمال مروراً بكل المواهب الشعبية، وعلى رأسهم الذي ترك له مصر أمانة في يده130.
والذي بلغ أن جعل لعيد الثورة صلاة... " في صلاة العيد: عيد الثورة بناجيك يارب ".
له زعيمه الذي أعلن قرار ضرب سوريا بعد حركة الانفصال وإنهاء الوحدة فصفق الناس تصفيقاً حاداً ملتهباً.
ثم قرر عدم ضرب سوريا لأن الدم العربي لايسفك بيد عربية فصفق الناس تصفيقاً حاداً ملتهباً.
التصفيق على التناقض... التصفيق على أي شيء... التصفيق فحسب.
لقد كان العالم وراء عبد الناصر في حرب الإسلام:
1) لقد أعلن عبد الناصر عن ضبط تنظيم 65 وهو في الاتحاد السوفييتي.
قائلاً بافتخار: لقد اعتقلنا 18 ألف في ليلة واحدة " وهذا هو الشرق ".
2) سافر المشير عبد الحكيم عامر للاتفاق أو للموافقة على أكبر صفقة سلاح فرنسية لمصر بعد أحداث التعذيب التي تمت في السجن الحربي... " وهذا هو الغرب ".
حتى يذكرنا منظره القبيح بقبح شجرة الجاهلية (ذات أنواط)131.
وداخل المجلة الرجل الحقيقي فعلاً المفكر القدوة الحبيب ملأ القلب والعين " سيد قطب " جالساً وحده في ساحة السجن. وبذلك يقولون: هذه هي الصفقة وجاء دور الثمن.
مجتمع له تنظيمه الداخلي " الاتحاد الإشتراكي العربي " على رأسه لجنة مركزية كل عضو من أعضائها كتلة لحمية حاقدة على الإسلام.
تنظيم كرأس الأخطبوط الجاثم بجسده فوق قلب مصر يعد النبض وتمتد أطرافه فوق كل أطرافها لينقل الحركة والهمس فلا عزبة ولا كفر ولا نجع ولا قرية إلا وترى فيها لافتة الشؤم: الاتحاد الاشتراكي العربي.
جهاز إعلامي...
أقنع الشعب بنصر 1956 بعد ضياع شرم الشيخ وغيرها من أرض مصر في المعركة ثم رتب الاحتفالات بعيد النصر من تاريخ ضياع الأرض أجازة قومية تعطل فيها المصالح "الهيئات الحكومية والمدارس".
جهاز إعلامي...
أقنع الشعب بأن العرب سيشربون القهوة في تل أبيب في الوقت الذي كان الجنود يجرون بملابسهم الداخلية فرارًا من ممر متلا...
جهاز إعلامي...
ابتداءً من الأراجوز وانتهاءً بالمسرح القومي ومهرجانات السينما.(4/480)
ابتداءً من المنولجست132... وانتهاءً بأرقى القصائد التي جعلت السد معجزة عبد الناصر... معجزة ليس لها أنبياء133.
ثم إثبات النبوة لصاحب المعجزة التي ليس لها أنبياء على لسان القبيح قباني، حيث قال في عزاء جمال بعد أن نفق: قتلناك يا آخر الأنبياء.
نحن الآن في مصر سنة 1965:
- شباب صغير السن يأخذ على عاتقه الدعوة إلى الله.
- نشأت هذه الفكرة عنده دون أن يكون له نماذج يقتدي بها، وإخوة كبار ينصحونه.
كان اتجاه الحكم الناصري نحو الإخوان أو بقايا الإخوان في السجون.
كانوا لا يتصورون أنه من الممكن أن يكون هناك دعوة إلا من خلال الإخوان، والإخوان في السجن... انتهت المشكلة.
- عدم رغبة صلاح نصر في التعامل مع الأحداث التي كانت بعد القضاء على الإخوان بشيء من الاهتمام وعدم الرغبة في تصعيدها إلى رجال السلطة بعد إعطائهم تقريرًا بأنهاء المشكلة بعد مذابح الإخوان.
كما أن ارتكاز الدعوة في البداية على أفكار بعيدة عن فكرة الوصول للسلطة أحدث نوعًا من الاستهانة بالدعوة.
حيث بدأت الدعوة بالاهتمام بأحكام الهدي الظاهر (اللحية – الحجاب) من ناحية... ومن ناحية أخرى ظهرت فكرة العزلة والهجرة، وكلها أفكار بعيدة عن المواجهة.
كما أنه لم يكن هناك أجهزة أمنية تابعة للداخلية بمعنى الكلمة، بل كانت مكاتب مهملة تابعة للأقسام، وقد كانت المخابرات العامة هي المكلفة فعلاً بمواجهة الدعوة الإسلامية.
مما جعل هذا الجهاز بعد أحداث 15 مايو 1971 فرصة أمنية هائلة للحركة، حيث كانت أمن الدولة أجهزة بسيطة لا قيمة لها.
التحليل: الدعوة قضية فطرية وليست قضية تلقين...
الغباء غير الطبيعي من جانب الحكم الناصري...
قدر الله الغالب على أمره...
صغر سن الشباب خفف من التركيز الأمني عليهم.
صغر سن الشباب جعله متحمساً وخصوصاً أنه لم يقاس من أهوال الفترة الناصرية.
الرغبة الجامحة في القضاء على الحكم الناصري كرد فعل نفسي لأهوال الناصرية...
وكرد فعل للخوف من تكرار هذه الأهوال معهم.
النكسة:
هزيمة 67: التخفيف من وطأه القهر الناصري للشعب الذي حقق للدعوة فرصة حركية أوسع بين الناس.
- استغلال الشيوعيين للموقف ومحاولة القضاء على حكم عبد الناصر – هذا الاستغلال الشيوعيين الذي حقق فرصة أكبر للحركة الإسلامية كمواجهة للمد الشيوعي الخطير في مصر.
هزيمة 67: أسقطت الاتجاه الاشتراكي وألجأت الناس إلى ربها حتى ينصرها الله وحدوث موجة تدين طبيعية.
ومات جمال...
وتولى السادات الذي اضطر إلى رفع شعار العلم والإيمان لمواجهة الخطر الشيوعي ولا تزال حركة الشباب صغير السن مجهولة لدى الأمن – ويقرر السادات إعطاء فرصة للاتجاه الإسلامي كمواجهة للشيوعية ولكنه كان يظن أنه سينشئ الرغبة في التحول إلى الاتجاه الإسلامي من أساسها كتصرف سياسي وهو لا يدري أن هناك من سيلتقط فرصة وجوده الغالية.
إن نكسة 67 دليل قاطع على أن العالم لا يسير وفق خطة محكمة لا يخطئ أصحابها.
لأنه لو كان الأمر كذلك لما كانت نكسة 67 أصلاً ولو على الأقل في هذا التوقيت.
لأن هذا التوقيت لم تمت فيه جذور الأصالة الإسلامية بعد...
حتى جاءت النكسة لتتحول أرض مصر إلى تربة خصبة ومناسبة لا متداد وارتفاع هذه الجذور.
مقتل سيد قطب:
من أبرز حقائق الإسلام: حقيقة الشهادة.
وفهم هذا الدين: هو تحقيق مقتضياته وحقائقه.
ومقتضى حقيقة الشهادة: الإخلاص والتزام الحق، ويجمعها في الإسلام: " الاستعداد للموت في سبيل الله ".
لأن هذا الاستعداد يستحيل حدوثه في الواقع إلا بالإخلاص والطاعة، ويصبح الاستعداد للموت أقوى أدلة الحق في واقع صاحب هذا الاستعداد...
ومن هنا جاء معنى الشهادة...
إن صاحب هذا الاستعداد بذاته أقوى دليل على الحق، وتصبح هذه الشهادة أقوى أسباب الفهم الإسلامي على الإطلاق؛ لأن الفهم بالدليل، والشهيد أقوى درجات هذا الدليل.
وهذا مشرك يقتل مسامًا فيقول المسلم وهو يُقتل: الله أكبر... فزت ورب الكعبة. فيسلم المشرك... بعد أن تلقى من المسلم الشهيد الدرس الأخير.
وها هم فتية الدعوة الأوائل يقرأون الظلال قبل قتل سيد قطب، ويمرون عليه دون أن يعيروه أي انتباه... ثم يقتل سيد قطب؛ فيرجعون إليه ويعكفون عليه، ويتحقق أكبر نطاق من الفهم الإسلامي الصحيح في الزمن القريب... ويخدم الدعوة دمُه قبل قلمه، وباختصار شديد: فإن كتابات سيد قطب هي أول الكتابات الحديثة التي تنطبق فيها الشروط الصحيحة لكتابات الحركة الإسلامية.
فكان التواجد السريع للحركة الإسلامية من العناصر التي تترقب فرصتها.
الأمر الذي لم يتوقعه أحد وبأقصى درجات الفهم الصحيح المأخوذة عن كتابات سيد قطب بصفة أساسية.
كل هذه العوامل ساعدت على إنشاء الحركة الإسلامية لتمثل خط الواقع الذي هيأه الله للدعوة ثم يأتي خط التطور الطبيعي للحركة ذاتها.
بدأت مجموعات الشباب تنطلق إلى الدعوة من منطلقات مختلفة حيث لم يكن هناك واقع قائم للدعوة يمكن النسج على منواله أو السير على منهجه...
وكانت المنطلقات التي انطلقت منها الدعوة محددة:
منطلق الجهاد:(4/481)
وأصحاب هذا المنطلق كانوا يعتبرون أنفسهم امتدادًا طبيعيًّا لتنظيم سيد قطب، حيث كانت القضية هي محاولة قلب نظام الحكم، وكان التأثير الفكري لسيد قطب قد بلغ مداه، فكانت المحصلة هي التجمع على مفهوم الجهاد بعد أن تعامل الإعلام المصري مع أحداث تنظيم ثورة 1965 على أن الجهاد هو الأسلوب الذي انتظمت به الأحداث.
منطلق العزلة:
وأصحاب هذا المنطلق كانوا ممن ارتكز مفهوم الرفض للجاهلية في أذهانهم، وكان السعي إلى موقف الرفض متمثلاً في العزلة موقفًا نفسيًّا تم صياغته بصورة منهجية مناسبة.
منطلق السلفية:
وأصحاب هذا المنطلق جاؤوا كرد فعل لعدم الانضباط الشرعي في منهج الدعوة وتجاوز الاجتهاد العقلي لحدوده في واقع الدعوة إلى درجة أن تكون الصلة بين الحركة والشرع ليست إلا في الانتساب والانتماء والهدف، أما الواقع والأسلوب فكان اجتهاديًّا عقليًّا بحتًا، مما أوجد التوجيه السلفي كمواجهة لهذه الظاهرة.
ثم كان خروج الإخوان من السجون ليتكون منطلق جديد وهو الممارسة الحزبية والنيابية والجماعات الإسلامية في الجامعة والعودة إلى الأساليب التارخية الثابتة للجماعة.
وكان تطور الحركة على مستوى مجموع هذه المنطلقات المختلفة متمثلاً في غيبة فكرة الجهاد والعزلة عن واقع الدعوة ومنهجها غير أن المحاور السابقة الأساسية للحركة تمثلت بصفة أساسية في الجهاد والإخوان والسلفية.
فكرة الجهاد... أعداد معدودة من الأفراد يتبنونها ويقول لسانهم بها...
لا يتجاوزون مرحلة الكلام.
محولات ساذجة... ضرب مولد لأحد الذين يطلق عليهم أولياء... إلقاء قنبلة في أحد الملاهي.
ثم كان تنظيم الفنية العسكرية... مجموعة من الشباب تربوا على فكرة الجهاد ولم يطيقوا تحمل الواقع المحيط بهم، فكان الاتفاق مع صالح سرية... والقيام بعملية الفنية.
وكانت خصائص حركة الفنية:
أنها كانت عقب انتصار حرب أكتوبر؛ الأمر الذي أكد الرفض الإسلامي للواقع رغم النتيجة العسكرية والإعلامية والسياسية التي حققها السادات من حرب أكتوبر.
إلا أنها كانت أول خطة تدخل حيز التنفيذ رغم أن خطة الفنية جاءت قائمة على فكرة خداعية... وليست على المواجهة العسكرية المباشرة.
إن غالبية العناصر المنفذة كانت طلبة الفنية والطب والهندسة، مما فرض التفسير الإسلامي الصحيح للأحداث والأشخاص الصحيحة والعقيدة الثابتة التي ارتفعت فوق مستوى التفسير الجاهلي الهزيل، والإحصائيات الجاهلية التافهة التي تعتبر هذه الأحداث ناتجة عن أشخاص يعانون من عوامل نفسية معقدة وقاسية.
المنصة - أو أقدار 1401 هجرية -:
هكذا كان السادات قبل قتله يبذل جهدًا هائلاً ضد نفسه، وكانت أيامه الأخيرة داخلة بأحداثها ضمن قدر إلهي بقتله، حتى بدا للجميع قتيلاً يمشي على الأرض... وكان تحرك السادات المكثف هو أبرز العلامات الدالة على الطبيعة القدرية للمنصة.
وكانت قرارات سبتمبر في الابتداء، ومرورًا بالسخرية من النقاب، وسب الشيوخ في الانتهاء، نقاطًا أساسية ثلاث في خط مقتله، وكان رد الفعل لهذا الخط وتلك النقاط هي ذاتها علامة جديدة، وكانت الرغبة في قتله في نفس الشعب، حتى بلغ هذا القتل مبلغ الأمنية الهائلة.
ثم كانت مجموعة العلامات الفردية التي ساهمت كل علامة فيها في تحقيق القدر الإلهي بالقتل، ولعل ما يمكن ذكره:
أن يأمر السادات – ولأول مرة – الحرس الذي كان أمام المنصة بالرجوع خلفها تحسبًا لهجوم متوقع من الخلف.
أن يمرض القائد المعين للطابور ليحل محله ضابط آخر اختار أن يفتش عربة ويترك عربة... ليجيء دور عربة الموت في ترتيب العربات التي لم تفتش.
أن يتوه الإراد المكلفون بإحضار القنابل من الصحراء بعض الوقت؛ فكان هذا التيه سببًا في نجاة هؤلاء الإفراد من أحد دوريات الشرطة التي انتشرت هناك في ذلك الوقت.
أن تنجو سيارة القنابل التي جاء بها المشاركون من حادثة محققة بالاصطدام مع أخرى قبل الدخول إلى القاهرة بوقت قريب، حيث توقفت السيارتان والمسافة بينهما متر واحد.
وتمت العملية في أقل من وقتها المحسوب وبصورة دقيقة جعلت العالم يطمئن إلى أن تمام هذه العملية نتيجة حتمية لمستوى سياسي هائل حُسبت فيه التوقيتات ودُرست فيه الظروف.
ثم كان الإفراج عن جميع القوى السياسية بعد المنصة، مما جعل من الحركة الإسلامية المنقذ العظيم من خطر الاعتقال لهذه القوى جميعها.
مما جعل للحركة الإسلامية محورية الحركة السياسية العامة في مصر، كما أن الجهد المبذول والتضحيات الهائلة من جانب أصحاب الحركة أجبر جميع القوى السياسية في مصر على احترامهم وتقديرهم.
ويضاف إلى ذلك الكيفية الإعجازية التي تمت بها العملية والتي كانت دليلاً في نظر الناس على عظمة التفكير وحكمة التدبير وإحكام العمل ودقة التنظيم... وفوق ذلك وقبل ذلك: " والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
وكنتيجة لأن المنصة قتل فيها رئيس الجمهورية فقد كسر حاجز الخوف من السلطة.
ونتيجة للأسلوب الذي تمت به العملية... فقد أصبح الشخص المسلم بالنظرة الاجتماعية إنسانًا مفكرًا ومخططًا وفدائيًّا عظيمًا، بل أصبح نموذجًا اجتماعيًّا.(4/482)
ونتيجة لمجموع هذه النتائج اتسع نطاق الانتساب للدعوة، وزاد عدد الملتزمين والمتعاطفين معها.
ولكن...
للجاهلية موقف تقليدي ثابت عند هزيمة أي عنصر من عناصرها:
- التبرؤ من المهزوم حتى لا تهبط الجاهلية إلى مستوى العنصر المهزوم...
- تأكيد النصح له وعدم استجابته للحفاظ على المستوى السياسي للجاهلية وعدم سقوطه مع العنصر الساقط...
- إدخال احتمالات غائبة في الموقف لتقليل التجاوب مع الحدث... وتضييع أثره السياسي.
ولعل أبرز هذه الاحتمالات الخاصة بالمنصة هو القول بأن أمريكا هي التي قتلته بعد انتهاء الاستفادة منه، وكتاب " خريف الغضب " هو أول من ترك مساحة فارغة للاحتمالات الخفية وراء الحادث، ولكن بمرور الوقت سيصبح من المناسب طرح التفسير المباشر للحادث كما يطرحه أعداء الدعوة، وسيكون أحد هذه الاحتمالات؛ وذلك حتى يكون الواقع أكثر تقبلاً لهذه الاحتمالات بقلة عدد الذين فعلوا الحادث أو عايشوه.
=================
أين نحن من نظامنا السياسي الإسلامي ؟
محمد بن شاكر الشريف
« ليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه ، وطمست أعلامه ، وكان لكل زعيم فيه بدعة ، ولكل عصر في وَهْيِهِ أثر » [1] ، كلمة عظيمة قالها إمام من أئمة عصره ، لو كتبت على حد تعبير الأقدمين بماء الذهب ، لم يوفها ذلك حقها ، وهي كلمة واضحة مفسرة لا تحتاج إلى مزيد شرح أو بيان ، والتاريخ البعيد والقريب ، والواقع الحاضر المشاهد ، شاهد على صدق ذلك ؛ فمع التزام المسلمين في الصدر الأول بالنظام السياسي الإسلامي [2] ، كان الدين قوياً وأحكامه محفوظة ، وأعلامه عالية مرفوعة ، وبمرور الزمن بدأ معدل الصعود الإسلامي يتناقص لأسباب متعددة من أهمها غياب سلطان الدين .
وسلطان الدين نوعان : نوع على القلوب ، ونوع على الجوارج يمثله النظام السياسي الإسلامي وكان ذلك الغياب على مستويين :
1 - المستوى العملي التطبيقي : إذ بدأ الحكم في الابتعاد شيئاًِ فشيئاً عن الالتزام بالنظام السياسي الإسلامي ، حتى آل الأمر إلى الانقلاب الكلي على ذلك النظام وحلول النظام العلماني محله على تعدد صوره وأشكاله .
2 - المستوى العلمي النظري : حيث جُهل الكثير من أحكام هذا النظام وحدوده وصلاحياته عند الساسة وصناع القرار ؛ فضلاً عن العامة ، فلم يعرفوا أصوله ومعالمه الرئيسة ، كما لم يعرفوا تفصيلاته وجزئياته أو هيئاته ومؤسساته .
وقد كان هذا الغياب على تلك المستويات مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « لَتُنتقضنَّ عرى الإسلام عروة عروة ؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ؛ فأولهن نقضاً الحكم ، وآخرهن الصلاة » [3] .
و المسلمون اليوم مطالبون بإعادة النظام السياسي الإسلامي والعودة إليه ؛ وذلك لا بد له من جهود قوية وعزمات ثابتة تتضافر على فعل ذلك ، منها جهود علمية ودعوية تشرح هذا النظام وتبين معالمه وأسسه كما تبين أحكامه التفصيلية ، ومنها جهود تطبيقية تقوم بالتمكين لهذا النظام وتطبيقه في الواقع ، وهذا المقال هو جهد دعوي يقدم في سبيل بيان عدد من الخصائص العامة ، أو المعالم البارزة التي يستند إليها هذا النظام الذي لم تعرف له الدنيا مثيلاً ، ولن تعرف طالما بقيت بعيدة عن هداية الوحي المعصوم المتمثل بالكتاب والسنة النبوية .
* الخصائص التي يتميز بها النظام السياسي الإسلامي :
- الأول : النظام السياسي نظام شرعي :
فهو ليس نظاماً وضعياً تواطأ على وضعه مجموعة من الناس أو فئة وفق مقاييسسهم العقلية وتصوراتهم الشخصية أو خبراتهم التاريخية ، ويترتب على هذا الأصل عدة أمور منها :
1 - استمداد هذا النظام في أصوله وفروعه من الشرع : فأصول هذا النظام وفروعه ، أو قواعده وجزئياته ، أو هيئاته ومؤسساته إنما ترجع إلى الشرع وتستند إليه ، ويستدل عليها بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة النبوية .
2 - الكلمة العليا في النظام السياسي الإسلامي للكتاب والسنة : الكلمة العليا في هذا النظام وفي المجتمع وكل شيء إنما هي لله تبارك وتعالى ، ومظهر ذلك ودليله في الواقع : القبول والإقرار والتقيد بالشرع المنزل كتاباً وسنة ، والانصياع له ، والدوران في فلكه ، وعدم الخروج عليه . قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } ( الأحزاب : 36 ) . وفي الكتابات المعاصرة يختصر كثير من الكتاب تلك الجملة المطولة في لفظ واحد للدلالة عليه ألا وهو لفظ « الحاكمية » وهذا اللفظ يناظر اصطلاح « السيادة » الذي يستخدم في الدراسات القانونية الدستورية ، ومضمونها : تلك السلطة المطلقة المتفردة بتقرير الحق والإلزام به ، والتي لها وحدها دون شريك الكلمة العليا في أمر المجتمع والدولة ؛ بحيث لا توجد سلطة أخرى تساويها أو تدانيها ، فضلاً أن تعلو عليها [4] .(4/483)
3 - اشتمال الكتاب والسنة على أحكام النظام السياسي جميعها : فالكتاب والسنة كافيان ومشتملان على جميع التشريعات والأحكام التفصيلية المحتاج إليها في النظام السياسي الإسلامي ، وليس هناك من حاجة إلى غيرهما في تقرير ذلك وبيانه ؛ فالكتاب والسنة منفردان بذلك ، ولا يقبلان المزاحمة من مصدر آخر .
4 - الحقوق والالتزامات تقررها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة :
فتقرير الحقوق والالتزامات ، وعلاقة الراعي بالرعية ، وعلاقة الدولة المسلمة بغيرها من الدول إنما تتم بواسطة الشريعة ، وليس لجهةٍ سلطانٌ أو حقٌّ في تقرير تلك الحقوق والالتزامات ، أو تحديدها وتقييدها ؛ فضلاً عن تحويرها أو تغييرها أو إلغائها .
5 - السلطة في النظام السياسي الإسلامي مستمدة من الشرع : أساس السلطة السياسية في الدولة الإسلامية وحق الطاعة الممنوح للولاة ، إنما يرجع إلى الشرع ، ولا يرجع إلى الأمة أو الشعب كما هو الحال في الأنظمة العلمانية التي تجعل الأمة أو الشعب أساس السلطة السياسية في الدولة .
- الثاني : وجوب طاعة الأئمة والولاة في غير معصية :
وهذا قد دل عليه أدلة كثيرة متنوعة من الكتاب والسنة ؛ نذكر من ذلك على سبيل المثال قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } ( النساء : 59 ) . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ؛ فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » [5] .
ويترتب على ذلك أمور منها :
1 - وجوب طاعة الإمام فيما أمر به ونهى عنه ، وكذلك طاعة الولاة المعينين من قِبَله .
2 - حرمة منازعة الإمام القائم بالشرع الأمرَ ، أو الخروج عليه بالسيف والسنان .
3 - منع كل وسيلة تذهب بهيبة الإمام أو الولاة ، أو تفضي إلى توهين العمل بطاعته واجتماع القلوب عليه .
لكن طاعة الإمام في النظام السياسي الإسلامي ليست طاعة مطلقة ، بل هي طاعة مقيدة بطاعة الإمام لله والرسول واتباع الشرع المنزل وتحكيمه بين الناس ؛ ولذلك فإن الشريعة تقر بحق المسلمين في نصح الولاة وإرشادهم إلى الخير وتحذيرهم من الشر ، والإنكار عليهم وفق القواعد الشرعية التي قررها علماء السياسة الشرعية ، كما تقر بحق الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد منها في عزل ولاتها متى استوجب الوالي ذلك على النحو المفصل في كتب الفقه ، مثل أن يطرأ على الوالي الكفر والعياذ بالله . قال القاضي عياض - رحمه الله - فيما نقله عنه النووي : « أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر أنعزل » [6] . وقال ابن حجر : « ينعزل بالكفر إجماعاً ؛ فيجب عل كل مسلم القيام في ذلك ؛ فمن قوي على ذلك فله الثواب ، ومن داهن فعليه الإثم ، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض » [7] .
- الثالث : التكامل بين الراعي والرعية أو بين الحكومة والشعب :
الحكومة ردف للشعب ، والشعب ردف للحكومة في ظل النظام السياسي الإسلامي « وذلك لأنهما متوازيان في الاتجاة نحو تحقيق المقاصد الشرعية ، ولذلك فهما معتبران سوياً من الأمة ، ولا تقوم بينهما علاقة الترصد والتعارض التي تقوم بين الشعب والحكومة في القانون الوضعي » [8] .
فالراعي والرعية ، أو الحكومة والشعب يؤمنون بعقيدة واحدة ، ويسعون لتحقيق هدف واحد ، من خلال شريعة واحدة ، وهذا من شأنه أن يوجد قدراً كبيراً من التوافق في الفكر والفهم ، وفي طريقة علاج الأمور ، وفي اختيار الوسائل المفضية إلى ذلك ، ولا يوجد بينهم من الخلاف في هذه الحالة إلا ما لا بد منه من الاختلاف أو التباين بين الناس في القدرة على الفهم والاستيعاب .
كما أن الجميع مطالبون بتنفيذ الأحكام الشرعية ، وتحقيق الأهداف التي دعت إليها الشريعة ، كل حسب وضعه والصلاحيات التي منحتها له الشريعة ، وينشأ مما تقدم بين الراعي والرعية علاقات الحب والمودة والرحمة ، والسعي المشترك والتعاون على تحقيق الأهداف ، وهذا بعكس العلاقة بين الراعي والرعية في الأنظمة الوضعية ؛ فإنها علاقة قائمة على تقسيم المجتمع إلى فئات : حكومية ومعارضة ، وهمُّ كل فئة أن تترصد للفئة الأخرى وتبحث عن أخطائها ونشرها بين الناس ، وإطلاق الشائعات ، أملاً في المحافظة على السلطة أو الوصول إليها .
وسائل تحقيق التكامل بين الراعي والرعية :
من دراسة النصوص الشرعية تظهر لنا ثلاث دوائر كبرى يتم من خلالها تحقيق ذلك التكامل وهي :
الدائرة الأولى : الشورى :(4/484)
ففي الشورى يتم عرض الآراء ودراستها ممن يحسنون ذلك في الأمور المشكلة ، واختبارها لمعرفة كنهها ، واستخراج أفضلها وأنفعها وأيسرها وأقلها مؤونة ، فيستشير الراعي أهل العلم والفقه والخبرة من رعيته ، وتبذل الرعية المستشارة غاية جهدها في معاونة الراعي واستخراج أفضل ما تراه ، والراعي ينظر في كل تلك الأقوال لا يغلِّب رأياً على رأي إلا لرجحانه عنده من جهة الشرع والمصلحة ، والرعية تقبل ذلك منه لعلمها بنصحه لهم وإرادة الخير للمسلمين . قال الله تعالى في وصف المؤمنين : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ( الشورى : 38 ) .
وفي الشورى تنصهر الرعية والراعي في بوتقة واحدة ، ولا يكون الجميع إلا جسداً واحداً همه الوصول بالأمة في المسائل المعروضة إلى بر الأمان ، وتحقيق أعلى المصالح .
الدائرة الثانية : النصيحة :
والنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح إما بدلالته على ما ينبغي فعله وحضه عليه ، وتيسير أسبابه والإعانة عليه ، وإما بدلالته على ما ينبغي تركه واجتنابه ، وحثه على الابتعاد عن ذلك ، ومعاونته فيه .
والنصيحة تبذلها عامة الرعية لولاتهم ، كما يبذلها الولاة للرعية ؛ فالرعية تنصح الراعي ، والراعي ينصح الرعية ، وهو واجب على الجميع ؛ ففي نصح الراعي للرعية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من أمير يلي أمر المسلمين ، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة » [9] . قال النووي - رحمه الله - : « وفي هذه الأحاديث وجوب النصيحة على الوالي لرعيته ، والاجتهاد في مصالحهم ، والنصيحة لهم في دينهم ودنياهم » [10] . وفي نصح الرعية للراعي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « الدين النصيحة . قلنا : لمن ؟
قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » [11] ، قال ابن حجر - رحمه الله - : « والنصيحة لأئمة المسلمين : إعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به ، وتنبيههم عند الغفلة ، وسد خَلَّتهم عند الهفوة ، وجمع الكلمة عليهم ، ورد القلوب النافرة إليهم ، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن » [12] .
الدائرة الثالثة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
وهو الأمر بما أرشد الشارع إليه من قول وفعل ، والنهي عما حذر منه ، وهو يهدف إلى نشر الخير وإذاعته ، وإشاعته ، والتضييق على المنكر وحصره ، ومن ثم إزالته ، وهو واجب يتكامل فيه الراعي والرعية لتحقيق الهدف المنشود من ذلك .
قال الله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ } ( التوبة : 71 ) . وقال تعالى : { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَر } ( الحج : 41 ) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في أمرِ الرعيةِ ولاةَ أمورهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر : « ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ؛ فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع ، قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : لا ؛ ما صلوا » [13] . وقد بوَّب النووي على هذا الحديث ونحوه « باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع ، وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك » [14] . فالجميع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر تكميلاً للخير وتقليلاً للشر في سعي دائب نحو هدف مشترك يسعى الجميع لتحقيقه .
فهذه الدوائر الثلاث يعمل من خلالها ذلك الأصل ، ويؤلف بينها في نسيج واحد ، وكل واحدة من هذه الدوائر لها أحكام تفصيلية كثيرة خاصة بها ، ليس المقام مقام بسطها والحديث عنها .
- الرابع : التوازن بين الحكومة والرعية :
الحكومة قوة بما تملكه من الجيوش والعتاد العسكري ، وبما تملكه من حق الطاعة على الرعية . والرعية قوة بما تملكه من الكثرة العددية والقدرة على التحرك فيما بينها ، وبعض هذه القوى أكبر من بعض وأضخم ، ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان ، والأحوال المحيطة ، وقد يحدث تحت تأثير تلك القوة المتزايدة لأحد الطرفين على الآخر ، أن يطغى الطرف الأقوى على الطرف الأقل قوة ؛ لذا كان من خصائص هذا النظام الرباني إحداث التوازن بين القوى المكونة للأمة .
دلائل ومظاهر التوازن في النظام السياسي الإسلامي :
1 - ثبات التشريع الإسلامي :
الأحكام الشرعية في الإسلام ثابته ثبات الطود الأشم ، لا تقبل التعديل أو التحوير ، أو التبديل أو الإلغاء من قِبَل آية فئة من الناس سواء أكانوا حكاماً أو محكومين ، أكثرية كانوا أو أقلية ، مما يمنع أي قوة من قوى المجتمع من استخدام نفوذها أو ثقلها في المجتمع في إحداث تشريعات جديدة أو تغييرات في التشريعات الموجودة تدعم بها أوضاعها ، وتضعف الآخرين أمامها ، بعكس النظم الوضعية ( الديمقراطية ) حيث التشريع فيها للبشر ، فيملك الحزب الحائز على الأغلبية في المجلس النيابي ( البرلماني ) إحداث تشريعات جديدة ، أو تغيير تشريعات قائمة يدعم بها أوضاعه أو يضعف بها معارضيه .
2 - عدم جواز تعطيل الشريعة :(4/485)