10. تكوين مكتبة إسلامية من كتب وأشرطة وأقراص إسلامية لربط أفراد الأسرة بدينهم ، وتسهيل الرجوع إلى معرفة الأحكام الشرعية ، وإغلاق طرق التضليل التي تساهم في تجهيلهم وإفسادهم ، وحبذا أن يكون لقناة " المجد " حضور في بيوتكم لما تقدمه من علم نافع ، ولحرصهم أن لا يكون فيها نساء ولا موسيقى ، وكذا ربطهم بالمواقع المفيدة في الإنترنت .
والحقيقة أن النصائح كثيرة ، وكثرتها إنما هو بسبب كثرة ما في تلك الديار الكافرة من ضلال وانحلال وتفسخ وتهتك ، وتحتاج كل جوانب الحياة لنصح وتوجيه وإرشاد ، ولكن ما قلناه أولاً يوفر كثيراً من النصائح وهو الخروج من تلك الديار إلى بلاد الإسلام ، ومن بقي في تلك الديار فليعلم أن الله تعالى سائله عن رعيته يوم القيامة ، فليعد للسؤال جواباً ، ونسأل الله تعالى أن يسهل لكم الخروج من تلك الديار ، وأن يثبتكم على الإسلام والهداية والتوفيق والرشاد ، وأن يصلح لكم ذريتكم ، ويجعلهم دعاة للإسلام .
ونرجو الرجوع إلى السؤال رقم ( 4237 ) : ففيه زيادة بيان حول المحافظة على الأبناء وأفكارهم في الغرب .
والله الموفق .
الإسلام سؤال وجواب
=============
هل يهاجر إلى المدينة النبوية كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
سؤال:
من السنة الهجرة إلى بلد إسلامي ، فهل يجوز الانتقال من بريطانيا إلى المدينة النبوية في السعودية ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ؟.
الجواب:
الحمد لله
تجب الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لمن لم يقدر على إظهار دينه ، قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) النساء/97 .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ ) . رواه أبو داود (2645) . وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
وأما من كان قادرا على إظهار دينه فلا تجب عليه الهجرة .
انظر السؤال (13363) .
وإذا رأى أن بقاءه في بلاده أنفع لقيامه بواجب الدعوة إلى الله وإرشاد الناس ، وكان آمناً على دينه فإن إقامته فيها أفضل من الهجرة منها .
انظر السؤال (47672) .
ولا يشترط في الهجرة أن تكون إلى المدينة النبوية ، بل إلى أي بلد إسلامي يستطيع المسلم أن يقيم شعائر دينه ، ويأمن فيه على دينه .
وانظر تفصيل الهجرة إلى بلاد الإسلام في أجوبة الأسئلة : (3225 ) و (7191 ) .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
============
ما معنى اتخاذ الكفار أولياء ؟ وحكم مخالطة الكفار
سؤال:
ورد في القرآن أنه لا يجوز لنا اتخاذ الكفار أولياء ، لكن ماذا يعني ذلك ؟ أقصد إلى أي حدٍّ ؟ هل يجوز لنا التعامل معهم ؟ أنا أدرس ، فهل يجوز لنا لعب كرة السلة معهم ؟ هل يجوز أن نتحدث معهم فيما يتعلق بالسلة وما إلى ذلك ؟ هل يجوز أن نصاحبهم طالما أنهم أبقوا أمور اعتقاداتهم لأنفسهم ؟ .
أسأل عن ذلك لأني أعرف شخصاً يصاحبهم بمثل هذه الطريقة وتواجده معهم لا يؤثر على اعتقاده ، لكني مع ذلك أقول له : " لماذا لا تبقى مع المسلمين بدلا من هؤلاء ؟ " وهو يرد قائلا : إن أغلب - أو العديد - من المسلمين يشربون الخمر ويتناولون المخدرات في أماكن تجمعهم ، كما أن لهم صديقات ، وهو يخاف من أن معاصي هؤلاء المسلمين قد تغويه ، لكنه متأكد تماما أن كفر الكفار لن يغريه لأنه شيء لا يُعتبر مغريا بالنسبة له ، فهل تواجده ولعبه وحديثه حول أمور الرياضة مع الكفار يعتبر " من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ؟.
الجواب:
الحمد لله
أولاً :
حرم الله تعالى على المؤمنين اتخاذ الكافرين أولياء ، وتوعد على ذلك وعيداً شديداً
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) المائدة/51 .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
" ذكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى مِن المسلمين فإنه يكون منهم بتوليه إياهم ، وبيَّن في موضع آخر أن توَلِّيهم موجب لسخط الله ، والخلود في عذابه ، وأن متوليهم لو كان مؤمناً ما تولاهم ، وهو قوله تعالى : ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) المائدة/80 ، 81 .
ونهى في موضِع آخر عن تَوليهم مبيناً سبب التنفير منه ، وهو قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) الممتحنة/13 .
وبيَّن في موضع آخر أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف ، وتقية ، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور ، وهو قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) آل عمران/28 . فهذه الآية الكريمة فيها بيانٌ لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً وإيضاحٌ ؛ أن محل ذلك في حالة الاختيار ، وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم ، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم ، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة ، ومن يأتي الأمور على اضطرار فليس كمثل آتيها اختياراً .
ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً رغبة فيهم أنه كافر مثلهم " انتهى .
"أضواء البيان" ( 2 / 98 ، 99 ) .
ومن صور مولاة الكفار المحرمة : اتخاذهم أصدقاء وأصحاباً ، ومخالطتهم في الطعام واللعب معهم .
وفي جواب السؤال رقم ( 10342 ) نقلنا عن الشيخ ابن باز قوله :
" ليس الأكل مع الكافر حراماً إذا دعت الحاجة إلى ذلك أو المصلحة الشرعية ، لكن لا تتخذوهم أصحاباً فتأكل معهم من غير سبب شرعي أو مصلحة شرعية ولا تؤانسهم ، وتضحك معهم ، ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة كالأكل مع الضيف أو ليدعوهم إلى الله ويرشدهم إلى الحق أو لأسباب أخرى شرعية فلا بأس .
وإباحة طعام أهل الكتاب لنا لا يقتضي اتخاذهم أصحاباً وجلساء ولا تقتضي مشاركتهم في الأكل والشرب من دون حاجة ولا مصلحة شرعية " . انتهى .
وسئل الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله :
عن حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم ؟
فأجاب :(3/78)
لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم ؛ لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) الممتحنة/4 . وقال تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة/22 .
وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ) الممتحنة/1 .
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم : فهذا لا بأس به ؛ لأنه من باب التأليف على الإسلام ، ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به ، وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولاسيما كتاب " أحكام أهل الذمة " لابن القيم رحمه الله " . انتهى .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( 3 / السؤال رقم 389 ) .
ثانياً :
وأما قول هذا القائل : إنه لا يخالط العصاة من المسلمين خوفا من أن تغويه معاصيهم ، وأما الكفار فإن كفرهم لن يغريه .
فجوابه أن يقال :
أما عدم مخالطته لأهل المعاصي من المسلمين فَلَنِعْمَ ما فَعَلَ ، إذا لم يكن قادراً على نصيحتهم ، ونهيهم عن المنكر ، وخاف على نفسه من الوقوع في معاصيهم واستحسانها .
وأما مخالطته للكفار ، فليست العلة في منع مخالطة الكفار هي الخوف من الوقوع في الكفر فقط ، بل مِنْ أظهرِ عِلَلِ هذا الحكم : عداوتُهم لله ورسوله والمؤمنين ، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ) الممتحنة/1 .
فكيف يليق بمسلم أن يصاحب عدو الله وعدوه ويصادقه ؟!
ثم مِنْ أين يأمَنُ هذا مِنِ استحسانِ طريقتهم ومذهبهم ؟ وقد وقع كثير من المسلمين في الكفر والإلحاد وارتدوا عن الإسلام بسبب مصاحبتهم للكفار ، وإقامتهم في بلدانهم . فبعضهم تَهَوَّدَ ، وبعضهم تَنَصَّر ، وبعضهم اعتنق مذاهب فلسفية ملحدة .
نسأل الله أن يثبتنا على دينه .
وانظر جواب السؤال رقم ( 2179 ) ففيه إيضاح القاعدة العظيمة : " تحريم موالاة الكفّار " وفيه ذِكر صور كثيرة من تلك الموالاة المحرَّمة .
وفي جواب السؤال رقم ( 43270 ) تجد حكم القول بأن أخلاق الكفّار أفضل من أخلاق المسلمين ، وفيه النقل عن الشيخ ابن باز بتحريم هذا القول .
وفي جواب السؤال رقم ( 26118 ) ، ( 23325 ) بيان تحريم مصاحبة الكافر ومصادقته .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
=============
هل تجب الهجرة على من أسلم في بلاد الكفار
سؤال:
ما حكم من أسلم في بلاد الكفار هل يشمله حديث ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) وتجب عليه الهجرة ؟.
الجواب:
الحمد لله
من أسلم من أهل بلاد الكفر ولم يتمكن من إظهار دينه والقيام بشعائر عبادته، أو خاف على نفسه الفتنة في الدين، ولم يستطع حماية عرضه فإنه يجب عليه الهجرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين )
أما إن كان قادراً على إظهار دينه ، وإقامة الشعائر ، وقدر على الهجرة ، فإنه تستحب له الهجرة في هذه الحالة لا تجب .
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى في كتاب المغني : فتستحب له ليتمكن من جهادهم ( يعني الكفار ) ، وتكثير المسلمين ومعونتهم . اهـ
وأما إن كان قادراً على إظهار الدين ، وأمن الفتنة ، ويقوم بالدعوة إلى الله عز وجل وتعليم المسلمين أمر دينهم فإنه يبقى ولا يهاجر ؛ لأن بقاءه فيه مصلحة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث رضي الله عنه لما جاء عند النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه وجلسوا عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأى اشتياقهم لأهليهم فأمرهم بالرجوع وتعليم من وراءهم فقال : ( ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ) رواه البخاري (6008) ومسلم (674) ، وروى البخاري (1452) ومسلم (1865) عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْهِجْرَةِ ، فَقَالَ : وَيْحَكَ ، إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ لَشَدِيدٌ ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَهَلْ تُؤْتِي صَدَقَتَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا .
قال النووي رحمه الله :
( لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا) مَعْنَاهُ : لَنْ يُنْقِصك مِنْ ثَوَاب أَعْمَالك شَيْئًا , حَيْثُ كُنْت , قَالَ الْعُلَمَاء : وَالْمُرَاد بِالْبِحَارِ هُنَا الْقُرَى , وَالْعَرَب تُسَمِّي الْقُرَى الْبِحَار , وَالْقَرْيَة الْبُحَيْرَة . قَالَ الْعُلَمَاء : وَالْمُرَاد بِالْهِجْرَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا هَذَا الأَعْرَابِيّ مُلازَمَة الْمَدِينَة مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْك أَهْله وَوَطَنه ، فَخَافَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا يَقْوَى لَهَا ، وَلا يَقُوم بِحُقُوقِهَا , وَأَنْ يَنْكُص عَلَى عَقِبَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّ شَأْن الْهِجْرَة الَّتِي سَأَلْت عَنْهَا لَشَدِيد وَلَكِنْ اِعْمَلْ بِالْخَيْرِ فِي وَطَنك ، وَحَيْثُ مَا كُنْت فَهُوَ يَنْفَعك , وَلا يُنْقِصك اللَّه مِنْهُ شَيْئًا اهـ .
فالهجرة تدور على القدرة على إظهار الشعائر الدينية والتعبد ، فإن لم يستطع وخشي الفتنة وجبت الهجرة ، وإن استطاع أن يظهر الشعائر وتمكن من الهجرة استحبت ، وإن تمكن من إظهار الشعائر وكان يقوم بالدعوة وتعليم المسلمين بقي والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ، وفقنا الله جميعاً لما يحب ويرضى..
وانظر السؤال رقم ( 13363 ).
الإسلام سؤال وجواب
==============
أحاديث المهدي ونزول المسيح عليه السلام ليست مدعاة لترك العمل
سؤال:
بعض الناس يفهم من أحاديث المهدي أو نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، أنها مدعاة لترك العمل للإسلام ، فيجلس منتظراً خروج المهدي ، أو نزول المسيح حتى تعود العزة للإسلام والمسلمين ، فما رأيكم في هذا الفهم ؟.
الجواب:
الحمد لله
إن هذه الحال المزرية التي وصلت إليها الأمة الإسلامية اليوم ، حال يندى لها الجبين ، وكل المسلمين مسئول عن إصلاح هذا الوضع ، غير أن بعض المسلمين يعطل العمل ، اكتفاءً بالأمل ، ويهرب من إصلاح الواقع المرير للأمة بحجة أنه تسبب فيه من قبلنا ، وسيصلحه من بعدنا !! ويتوقف عن السعي للتمكين لدين الله ، بحجة أن المهدي هو الذي سيفعل .(3/78)
إنه هروب إلى الأماني مع تعطيل الأسباب الشرعية ، والله تعالى يقول : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ) النساء/123.
إن هذه السلبية التي يعاني منها بعض المسلمين اليوم ، لا يمكن للنصوص الشرعية أن تكون دالة عليها، وإنما هو سوء الفهم ، والعجز والكسل ، والهروب من تحمل المسئولية .
فإن الله تعالى أمر المسلمين بالعمل لهذا الدين ، والدعوة إلى الله ، ومجادلة الكفار ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، وقتالهم حتى لا يكون شرك على الأرض ، قال الله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الأنفال/39 .
قال ابن كثير رحمه الله :
أمر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدين لله أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان اهـ .
وهذا الأمر ليس خاصاًًّ بزمان دون زمان ، بل المسلمون في كل زمان ومكان مأمورون بهذا .
ولا شك أن العمل للإسلام وتمكينه في الأرض يستلزم من المسلمين الاجتهاد والبذل والأخذ بالأسباب المؤدية إلى هذا .
وبعض الناس يسيء فهم هذه الأحاديث الواردة في خروج المهدي أو نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام فيتواكل ويترك العمل ويجلس منتظراً لخروج المهدي أو نزول المسيح فيترك الدعوة إلى الله ... والعمل لإعلاء كلمة الله . وقد أمر الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأخذ بالأسباب والسعي في الأرض والعمل .
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ) النساء/71
قال سبحانه : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) الأنفال/60. وقال عز وجل : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) الملك/15. وقال تعالى : ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) المطففين/26. وقال سبحانه : ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) الصافات/61. وقال جل وعلا : ( وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) الإسراء/19. وقال تعالى : ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) البقرة/197.
وأمر الله تعالى مريم أن تأخذ الأسباب ، وهي في أشدّ ضعفها ، فقال عز وجل : ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ) مريم/25.
وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم يعُدّ لكل أمر عدّته ويرسم له خطّته ، كما حدث في رحلة الهجرة فقد أعدّ الرواحل والدليل واختار الرّفيق ، وحدد مكان الاختفاء إلى أن يهدأ الطلب ، وأحاط ذلك كله بسياج من الكتمان ، وكذلك كانت سيرته في غزواته كلّها ، وعليه ربّى أصحابه الكرام ، فكانوا يلقون عدوّهم متحصنين بأنواع السلاح ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة والبيضة (الخوذة) على رأسه مع أن الله سبحانه وتعالى قال : ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) المائدة/67. وكان إذا سافر في جهاد أو حجّ أو عمرة حمل الزاد والمزاد .
وقال صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم : " احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ " رواه مسلم (2664)
ولنا أن نتخيّل الحال التي كان يمكن أن يؤول إليها مصير الدعوة والأمة لو أن الأجيال السابقة أصغوا إلى نداءات الاستسلام حتى يخرج المهدي ، هل كانوا سيهزمون التتار والصليبين ويفتحون القسطنطينية ؟!
وهذا الفهم الخاطئ للنصوص الشرعية الواردة في شأن المهدي والمسيح عليه السلام قد تصدى له كثير من العلماء والدعاة والكتاب .
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
" لا يجوز للمسلمين أن يتركوا العمل للإسلام ، وإقامة دولته على وجه الأرض انتظاراً منهم لخروج المهدي، ونزول عيسى ـ عليهما السلام ، يأساً منهم أو توهماً أن ذلك غير ممكن قبلهما ، فإن هذا توهّم باطل ، ويأس عاطل، فإن الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا أن لا عودة للإسلام ولا سلطان له على وجه الأرض إلا في زمانهما ، فمن الجائز أن يتحقق ذلك قبلهما إذا أخذ المسلمون بالأسباب الموجبة لذلك ، لقوله تعالى : ( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) محمد/7 . وقوله : ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) الحج/40 . . . . إن أحاديث نزول عيسى عليه السلام وغيرها ، الواجب فيها الإيمان بها ، وردّ ما توهّمه المتوهّمون منها من ترك العمل ، والاستعداد الذي يجب القيام به في كل زمان ومكان .." اهـ .
وقال الأستاذ عبد العزيز مصطفى :
" جهاد الكفار أياً كانوا وأينما كانوا وفي أي زمان كانوا واجب بالشرع المحكم غير المنسوخ ، وهذه حقيقة إسلامية ثابتة ، وهذا الجهاد واجب بشروطه ، وضوابطه وأحكامه ، وليس من هذه الشروط أو
الضوابط أو الأحكام أن يؤخر الجهاد انتظاراً لتحول الغيب إلى شهادة ، ما هكذا فهم المسلمون الأوائل ، وما هكذا فعلوا ، بل إنهم لما أُخبروا بأن الله تعالى سيكسر مُلك كسرى بسيوفهم ما قبعوا في البيوت ينتظرون تحقق الخبر ، ووقوع الأمر بلا مقدمات يبذلونها، وجهود يقدمونها ، لا ، بل أعدوا للأمر عُدّته وأخذوا للشأن أهبته، حتى وقع النصر ، وتطابق أمر الشرع مع أمر القدر ... أما بعض مسلمي اليوم فيقولون : لا .. إن جهاد اليهود لن يكون حتى يخرج الدجال. . ولعل هذا من جملة فِتن الدجال في هذه الدنيا .
وانطلى هذا الكلام السخيف على قطاعات من الشباب المسلم، فألقوا عن كواهلهم تحمل أية مسؤولية تجاه المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، تماماً كما انطلى على كثير منهم من قبل كلام أسخف منه ، مؤداه أن الدولة الإسلامية والخلافة لن تقوم حتى يخرج المهدي !!
وعجباً لمروجي هذا الكلام ومردديه، كأنهم يقولون بلسان حالهم لليهود : اشتدوا في عدائكم .. وللنصارى استمروا في طغيانكم .. وللمسلمين استمروا في تشتتكم وتفرقكم وتنازعكم وغثائكم ، حتى يخرج المهدي إليكم ، ولا أدري : بأية حجج وأدلة يقعون في هذه الزلّة ، متوهمين أن المهدي سيخرج إلى قوم قاعدين أو سينصره أناس خاملون" اهـ .
انظر كتاب المهدي وفقه أشراط الساعة للشيخ محمد بن إسماعيل ص (710-722)
نسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداًّ جميلاً .
والله تعالى أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
============
يستطيع أن يقيم دينه في دول الكفر أكثر من بلاده ، فهل تلزمه الهجرة؟
سؤال:
أعيش في إحدى الدول الغربية ، وأستطيع بحمد الله أداء شعائر ديني دون مضايقة ، وقد اطلعت في موقعكم على بعض الأحاديث النبوية التي تمنع الإقامة في بلاد الكفر والسكن بين الكفار ، وأصبحت الآن في حيرة هل أرجع إلى بلدي أم أبقى في هذه البلاد ، علماً بأني إذا رجعت إلى بلدي تعرضت لمضايقات وأذى بسبب التزامي بأحكام الله ، ولن أستطيع أن أجد من الحرية في عبادتي ما أجده في البلد الذي أقيم فيه .(3/78)
فأرجو منكم الإجابة على سؤالي وبيان حكم إقامتي في هذا البلد ، لاسيما أن بلاد المسلمين أصبحت لا تختلف كثيراً عن غيرها من ناحية الالتزام بشعائر الإسلام .
الجواب:
الحمد لله
الأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يقيم بين المشركين ، وعلى هذا دلت الأدلة من الكتاب والسنة والنظر الصحيح .
أما الكتاب ؛ فقد قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) النساء / 97 .
وأما السنة ؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ ) . رواه أبو داود (2645) . وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
وأما النظر الصحيح ؛ فإن المسلم المقيم بين المشركين لا يستطيع أن يقيم كثيراً من شعائر الإسلام وعباداته الظاهرة ، مع ما في ذلك من تعريضه نفسَه للفتن ، لما في تلك البلاد من الإباحية الظاهرة التي تحميها قوانينهم ، وليس للمسلم أن يعرض نفسه للفتن والابتلاءات .
هذا إذا نظرنا إلى أدلة الكتاب والسنة نظرةً مجردةً عن واقع الدول الإسلامية ودول الكفر . وأما إذا نظرنا إلى واقع الدول الإسلامية فإننا لا نوافق السائل على قوله ( وخصوصا أن بلاد المسلمين أصبحت لا تختلف كثيراً عن غيرها من ناحية الالتزام بشرائع الإسلام ) فهذا التعميم غير صحيح ، فليست الدول الإسلامية على درجة واحدة من البعد أو القرب من الالتزام بشرائع الإسلام ، بل هي متفاوتة في ذلك ، بل البلد الواحد يتفاوت باختلاف مناطقه ومدنه .
ثم دول الكفر أيضاً ليست على درجة واحدة من الإباحية والتحلل الخلقي ، بل هي متفاوتة في ذلك أيضاً .
فنظراً لهذا التفاوت بين الدول الإسلامية بعضها البعض ، وبين دول الكفر بعضها البعض .
ونظراً لأن المسلم لا يستطيع أن يذهب إلى أي دولة إسلامية ويقيم بها - لوجود قوانين التأشيرات والإقامة الصارمة وما أشبه ذلك -.
ونظراً لأن المسلم قد لا يتمكن من إقامة دينه في بعض الدول الإسلامية ، في حين أنه قد يتمكن من ذلك أو من بعضه على الأقل في بعض دول الكفر .
فلكل ما سبق لا يمكن الآن أن يصدر حكم عام يعم جميع البلاد وجميع الأشخاص ، بل يقال : لكل مسلم حالته الخاصة به ، وحكمه الخاص به ، وكل امرئ حسيب نفسه ، فإن كانت إقامته لدينه في الدول الإسلامية التي يمكنه أن يسكن بها أكثر من إقامته لدينه في بلاد الكفر لم يجز له الإقامة في دول الكفر ، وإن كان الأمر بالعكس جازت إقامته في دول الكفر بشرط أن يأمن على نفسه من الشهوات والفتن التي بها بأن يحصن نفسه منها بالوسائل المشروعة .
وهذه أقوال لأهل العلم تؤيد ما سبق :
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هذه المسألة فقال : إن هذه المسألة من أشكل المسائل الآن نظراً لاختلاف البلدان كما سبق بيانه ، ولأن بعض المسلمين المقيمين في دول الكفر إذا رجعوا إلى بلدهم اضطهدوا وعذبوا وفتنوا عن دينهم في حين أنهم يأمنون من ذلك في دول الكفر ، ثم إذا قلنا : لهم يحرم عليكم الإقامة بين الكفار . فأين الدولة الإسلامية التي تستقبلهم وتسمح لهم بالإقامة فيها ؟! هذا معنى كلامه رحمه الله .
قال زكريا الأنصاري الشافعي في كتابه "أسنى المطالب" (4/207) :
تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الإِسْلامِ عَلَى مُسْتَطِيعٍ لَهَا إنْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ اهـ .
وقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ المالكي : الْهِجْرَةُ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الإِسْلامِ , وَكَانَتْ فَرْضًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَمَرَّتْ بَعْدَهُ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ اهـ . من "نيل الأوطار" (8/33) للشوكاني .
وقال الحافظ ابن حجر عن قوله صلى الله عليه وسلم : ( أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ ) قال :
وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَنْ لَمْ يَأْمَن عَلَى دِينه اهـ . "فتح الباري" شرح حديث رقم (2825) .
وفي "الموسوعة الفقهية" (20/206) :
دَارُ الْحَرْبِ : هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً . (من) الأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ : الْهِجْرَةُ. قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى ثَلاثَةِ أَضْرُبٍ :
أ - مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ , وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا , وَلا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لا تَجِدُ مَحْرَمًا , إنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ , أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَلَّ مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ . . .
ب - مَنْ لا هِجْرَةَ عَلَيْهِ : وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا , إمَّا لِمَرَضٍ , أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ , أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ , وَالْوِلْدَانِ . لقوله تعالى : ( إلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا )
ج - مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ , وَلا تَجِبُ عَلَيْهِ , وَهُوَ : مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْجِهَادِ , وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ اهـ . باختصار
وفي فتاوى اللجنة الدائمة 12/50 :
وتكون الهجرة أيضاً من بلاد شرك إلى بلاد شرك أخف شراً ، وأقل خطراً على المسلم ، كما هاجر بعض المسلمين من مكة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بلاد الحبشة . أ.هـ
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين .
الإسلام سؤال وجواب
=============
هل يرجع للإقامة في بلاد الكفر ؟
سؤال:
نصحني كثير من أهل العلم بعدم السكن في بلاد الكفار ( أمريكا ) ، أنا عربي أمريكي عشت طوال عمري في أمريكا وأعمل الآن في إحدى الدول الإسلامية ، الأمور أصبحت صعبة بالنسبة لي لكي أستمر هنا - ( قلة الدخل والسكن ) - ، وأفكر بالعودة لأمريكا ، وسبب رئيسي آخر للعودة هو العناية الصحية المجانية لزوجتي المريضة .
أرجو أن تعطيني جواباً مفصلاً بالدليل من القرآن والسنة ، هل أعاني وأبقى في هذا البلد أم أرجع لأمريكا ؟.
الجواب:
الحمد لله
الأصل هو حرمة الإقامة بين أظهر المشركين وفي ديارهم ، ومن يسَّر الله عز وجل له الخروج من تلك الديار إلى بلاد الإسلام : فلا ينبغي له أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير إلا لعذرٍ قاهر يجيز له الرجوع .
ونحن ننصحك بما نصحك به الآخرون بعدم السكن في بلاد الكفر ، إلا أن تكون مضطراً إلى سكن مؤقت كعلاج لا يتيسر لك في بلاد المسلمين .
واعلم أن من ترك شيئا لله عوَّضه الله خيراً منه ، وأن مع العسر يسراً ، وأنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ، واعلم أن الحفاظ على رأس المال خير من المخاطرة في الربح ، ورأس مال المسلم هو دينه ، فلا يفرِّط فيه لأجل دنيا زائلة .
وللشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - فتوى مفصَّلة في حكم الإقامة في بلاد الكفر ، نذكر منها - الآن - ما يتيسر .(3/78)
قال الشيخ ابن عثيمين :
الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم ، وأخلاقه ، وسلوكه ، وآدابه ، وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به ، رجعوا فُسّاقًا ، وبعضهم رجع مرتدًا عن دينه وكافرًا به وبسائر الأديان - والعياذ بالله - حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين ، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهويّ في تلك المهالك .
فالإقامة في بلاد الكفر لابد فيها من شرطين أساسين :
الشرط الأول : أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان ، وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ وأن يكون مضمراً العداوة للكافرين وبغضهم مبتعدًا عن موالاتهم ومحبتهم ، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان قال الله تعالى : { لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } المجادلة / 22 .
وقال - تعالى - : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } المائدة / 51 ، 52 .
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن من أحب قومًا فهو منهم " ، وأن " المرء مع من أحب " .
ومحبة أعداء الله عن أعظم ما يكون خطرًا على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم ، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحب قومًا فهو منهم " .
الشرط الثاني : أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع ، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة ، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين ، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ ، ....
وقال الشيخ ابن عثيمين - في بيان أقسام الناس من حيث الإقامة هناك - :
القسم الرابع : أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة ، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم .
وقال الشيخ - في آخر الفتوى - :
وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به ، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( فتوى رقم 388 ) .
وانظر جواب السؤال رقم ( 14235 ) و ( 3225 ) .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
===============
هل منع الأذان بالمكبّر يعتبر عدم إقامة للشعيرة
سؤال:
السؤال : هل يعتبر منع المسليمن من إعلان أذانهم بالمكبرات داخلا في عدم القدرة على إظهار شعائر الدين الذي يلزم منه وجوب الهجرة وعدم الإقامة بتلك البلد ؟.
الجواب:
الجواب :
الحمد لله
عرضنا هذا السؤال على فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين فأجاب حفظه الله :
لا يعتبر ذلك داخلا فيه لأن المكبرات أمر جديد ، فيؤذنون بأصواتهم المجردة ويقيمون شعيرتهم . والله أعلم .
الشيخ عبد الله بن جبرين
=============
ما هي الهجرة
سؤال:
السؤال :
كيف تكون الهجرة في سبيل الله في هذا العصر ؟.
الجواب:
الجواب :
الحمد لله
الهجرة في سبيل الله هي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، كما انتقل المسلمون من مكة قبل إسلام أهلها إلى المدينة ، لكونها صارت بلد إسلام بعد مبايعة أهلها للنبي صلى الله عليه وسلم وطلبهم هجرته إليهم ، وتكون الهجرة أيضا من بلاد شرك إلى بلاد شرك أخف شرا ، وأقل خطرا على المسلم ، كما هاجر بعض المسلمين من مكة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بلاد الحبشة .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة 12/50.
===============
يريد الهجرة إلى بلاد المسلمين وأبواه يرفضان
سؤال:
السؤال: ماذا يجب على الشخص الذي يتوق للهجرة من بلاد الكفر ولكن أبواه لا يريدان أن يهاجرا ويمنعانه من الهجرة ؟
هل يجوز أن يهاجر بنفسه وهذا يتطلب أن يترك والديه على اعتبار أن هذا أقل الضررين بالإضافة إلى أنه طاعة للخالق في معصية للمخلوق ؟
الجواب:
الجواب:
الحمد لله
عرضنا هذا السؤال على فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين فأجاب بأنّه إذا كان الولد يحتاج إليه أبواه ، وكان مستطيعا لإظهار دينه في بلاد الكفر فيجوز بقاؤه هناك ، والله تعالى أعلم .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
=============
الإقامة في بلد لا يستطيع إظهار دينه فيه
سؤال:
السؤال : ماذا يجب على المسلم الملتزم الذي يعيش في البلدان غير الإسلامية التي تفرض عليه حلق اللحية وعدم الصلاة والمجاهرة بالمعاصي ؟ وهل تركه لأهله وماله يعتبر هجرة ؟.
الجواب:
الجواب :
الحمد لله
الواجب على المسلم أن يحذر الإقامة في بلد يدعوه إلى ما حرم الله ، أو يلزمه بذلك ؛ من ترك الصلاة ، أو حلق اللحى ، أو إتيان الفواحش مثل الزنا والخمور ، فيجب عليه ترك هذه البلاد ؛ لأنها بلاد سوء فلا يجوز الإقامة فيها أبداً ، بل يجب أن يهاجر منها ، وإن خالف وعصى والديه ؛ لأن طاعة الله مقدمة ، وطاعة الوالدين إنما تكون في المعروف ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الطاعة في المعروف ) و ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ، فكل بلد لا يستطيع إظهار دينه فيه ، أو يجبر على المعاصي فيه يجب أن يهاجر منه .
كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله . م/8 ص / 278
==============
هل تجب الهجرة على من لا يأمن على دينه
سؤال:
السؤال :
إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يأمن على نفسه وعلى دينه من الفتن في بلده ، فهل في هذه الحالة تكون الهجرة فرض على المسلم ، وإلى أين يهاجر ؟
الجواب:
الجواب :
الحمد لله
إذا كان الواقع ما ذكر ، من أن المسلم لا يستطيع أن يأمن على نفسه وعلى دينه من الفتن في بلده ؛ شرع له الهجرة منها - إذا استطاع - إلى بلد يأمن فيها على نفسه ودينه .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
فتاوى اللجنة الدائمة 12/51 .
=============
إذا كان لديه مال يكفي للحج أو الهجرة الواجبة فأيهما يقدم؟
سؤال:
إذا توفر لي مال يكفي للحج الواجب أو الهجرة من بلد كافر وتبرج عظيم ... إلى بلاد إسلام فماذا أختار؟ مع العلم أن والدي مقيمان الآن في هذا البلد الكافر .
الجواب:
الحمد لله
أولا :
الحج واجب على الفور في أصح قولي العلماء ، ومعنى ذلك : أنه يجب على المكلف الحج بمجرد التمكن من فعله ، ولا يجوز له تأخيره من غير عذر ، وراجع السؤال رقم (41702)
ثانيا :
الهجرة من بلاد الكفر تكون واجبة أو مستحبة بحسب حال الإنسان ، فإن قدر على إظهار دينه ، وأمن الفتنة على نفسه ، لم تجب عليه الهجرة ، وإن لم يقدر على إظهار دينه ، أو خشي الفتنة على نفسه ، وجبت .(3/78)
وإذا وجبت الهجرة ، ولم يجد الإنسان مالا ليهاجر ويحج ، فالهجرة مقدمة ، لأن الحج لا يجب إلا عند وجود نفقة زائدة على الحوائج الأساسية ، والهجرة الواجبة تدخل في الحوائج الأساسية ، فتقدم على الحج .
وأيضا : تأخير الهجرة بعد وجوبها ضرر على المسلم في دينه ، وأما الحج فيجوز تأخيره بعذر ، ولا ضرر في ذلك .
وهذا الكلام إنما يتصور في حال وجوب الهجرة في وقت الحج ، وإلا فإن وجبت الهجرة قبل الحج ، تعين فعلها ، ثم إن جاء الحج ، وتوفر المال ، وجب ، وإن لم يكن مال لم يجب .
ونسأل الله تعالى أن يحفظك بحفظه ، وأن يثبتك على طاعته .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
============
المواصفات الواجب توافرها في البلاد المهاجر إليها
سؤال:
السؤال :
ما الشروط الواجب توفرها في بلد حتى تكون دار حرب أو دار كفر ؟.
الجواب:
الجواب :
الحمد لله
كل بلاد أو ديار يقيم حكامها وذوو السلطان فيها حدود الله ، ويحكمون رعيتها بشريعة الإسلام ، وتستطيع فيها الرعية أن تقوم بما أوجبته الشريعة الإسلامية عليها ؛ فهي دار إسلام ، فعلى المسلمين فيها أن يطيعوا حكامها في المعروف ، وأن ينصحوا لهم ، وأن يكونوا عونا لهم على إقامة شؤون الدولة ، ودعمها بما أوتوا من قوة علمية وعملية ، ولهم أن يعيشوا فيها ، وألا يتحولوا عنها إلا إلى ولاية إسلامية ، تكون حالتهم فيها أحسن وأفضل ، وذلك كالمدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها ، وإقامة الدولة الإسلامية فيها ، وكمكة بعد الفتح ؛ فإنها صارت بالفتح وتولي المسلمين أمرها دار إسلام بعد أن كانت دار حرب تجب الهجرة منها على من فيها من المسلمين القادرين عليها .
وكل بلاد أو ديار ، لا يقيم حكامها وذوو السلطان فيها حدود الله ، ولا يحكمون في الرعية بحكم الإسلام ، ولا يقوى المسلم فيها على القيام بما وجب عليه من شعائر الإسلام ؛ فهي دار كفر ، وذلك مثل مكة المكرمة قبل الفتح ، فإنها كانت دار كفر ، وكذا البلاد التي ينتسب أهلها إلى الإسلام ، ويحكم ذوو السلطان فيها بغير ما أنزل الله ، ولا يقوى المسلمون فيها على إقامة شعائر دينهم ، فيجب عليهم أن يهاجروا منها ، فرارا بدينهم من الفتن ، إلى ديار يحكم فيها بالإسلام ، ويستطيعون أن يقوموا فيها بما وجب عليهم شرعا ، ومن عجز عن الهجرة منها من الرجال والنساء والولدان فهو معذور ، وعلى المسلمين في الديار الأخرى أن ينقذوه من ديار الكفر إلى بلاد الإسلام ، قال الله تعالى : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من النساء والرجال والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " النساء :97-99 ، وقال تعالى : " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا " النساء : 75 ، أما من قوي من أهلها على إقامة شعائر دينه فيها ، وتمكن من إقامة الحجة على الحكام وذوي السلطان ، وأن يصلح من أمرهم ، ويعدل من سيرتهم ، فيشرع له البقاء بين أظهرهم ؛ لما يرجى من إقامته بينهم من البلاغ والإصلاح ، مع سلامته من الفتن .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
==============
هل يقدم الحج مع أسرته ووالديه أم الهجرة لبلد غير مسلم
تاريخ 27 شوال 1427 / 19-11-2006
السؤال
أنا محتار أرجو أن ترشدوني جزاكم الله خيرا، يوجد احتمال أن أحصل على موافقة للهجرة إلى أمريكا خلال شهر 12 من هذا العام وفي نفس الوقت احتمال أن أحصل على موافقة للحج في هذا العام مع زوجتي ووالدي ووالدتي وأختي، أنا محتار أيهما أختار لأنه في حالة أن أختار الأولى أخسر الثانية وفي حالة أن أختار الثانية أخسر الأولى علما بأنه موافقة الهجرة إن حصلت لا تقبل التأجيل.
أرجو الأخذ بنظر الاعتبار ما يلي قبل إصدار الفتوى:
1-أنا جنسيتي عراقية ولا توجد عندي إقامة دائمة في أي بلد باستثناء إقامة مع والدي في البحرين لكنها ليست دائمة، مرتبطة مع إقامة والدي ولا يحق لي العمل في البحرين.
2-أنا ووالدي ووالدتي قد حججنا من قبل في عام 1999 لكن زوجتي وأختي لم يحجا من قبل.
3-والدي ووالدتي كبار في السن ولذلك لا يمكنهم الذهاب للحج من دوني أي في حالة عدم ذهابي لن يذهبا هما أيضا في هذا العام.
4-الهجرة إلى أمريكا هي موافقة نهائية للحصول على الكرين كارد وفي حالة عدم ذهابي في ذلك التاريخ سوف تسقط من عندي نهائيا.
جزاكم الله خيرا أفتوني أيهما اختار في حالة صدور الموافقتين في نفس الوقت هذا العام علما باني صليت صلاة استخارة والأمور ماشية بشكل سلس وجيد بالنسبة للشغلتين.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي يظهر لنا والله أعلم أن خيار الحج مع أهلك هو أولى بالتقديم لاعتبارات معينة نذكر منها ما يلي:
أولا: إنك تحقق لأهلك مصلحة الحج إلى بيت الله الحرام ولاسيما زوجتك وأختك، وبذلك تكسب رضا أبويك، وهذا الرضا ذخيرة يكسبك الله تعالى بها خير الدنيا والآخرة، ومن ذلك أمر الرزق.
ثانيا: أن الإقامة في بلاد تننشر فيها المنكرات بدون نكير وسيلة لكثير من المفاسد، وقد ذكرنا جملة من هذه المفاسد بالفتوى رقم:2007، فراجعها. وعليه، فلا يسعى المسلم لتحصيل سبل الإقامة هنالك إلا لضرورة ملجئة أو حاجة معتبرة شرعا، ولا نظن أن الأمر قد وصل بك هذه الدرجة، ويتضح هذا بالأمر الثالث وهو:
ثالثا: أن أرض الله واسعة، وفي بلاد المسلمين من الخيرات ما يغني عن السفر إلى هناك، فإذا ضيق عليك في رزقك في البلد الذي تقيم فيه الآن فهنالك بلاد أخرى من بلاد المسلمين يمكنك أن تبحث فيها عن عمل، فاستعن بالله وفوض أمرك إليه، ولن تعدم قريبا أو صديقا يعينك في البحث عن عمل طيب، وتذكر قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ {الطلاق: 2-3}
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
ترك الهجرة طاعة للأم
تاريخ 25 صفر 1426 / 05-04-2005
السؤال
أنا طالب في الجامعة، كنت على صداقة مع فتاة، ثم تبنا إلى الله على أن نتزوج بعد إنهاء الدراسة، ولكن بقي كل منا يحب الآخر ، من جهة أخرى أحس أن حياتي الدينية ضاقت بي في بلدي، وأني مفتون في ديني، وأنا الآن بين نيران ثلاثة (أريد الفرار بديني وأهاجر إلى بلد آخر- أمي ترفض ذلك بشدة- أخشى أن تنهار صديقتي السابقة إذا تركت وعدها بالزواج)، وأنا أشعر بالذنب إن حصل لها مكروه، أفيدوني أفادكم الله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تقدم في فتاوى سابقة منها الفتوى رقم: 48193 حكم الهجرة من بلاد الفسق والكفر والتي يجد فيها المسلم مضايقة وفتنة في دينه، وبينا أن المسلم يجب عليه أن يهاجر من هذه الأرض إذا كان لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه أو لا يأمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتنة.(3/78)
أما إذا كان يستطيع أن يقيم شعائر الدين ويأمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتنة فإنه يستحب له أن يهاجر من هذه الأرض ولا يجب عليه ذلك، وعليه فإن انطبقت عليك الحالة الأولى وهي أن لا تستطيع أن تقيم شعائر دينك ولا تأمن على نفسك من الوقوع في الفتنة، فيلزمك الهجرة وإن لم ترض والدتك، وأما في الحالة الثانية فطاعة أمك مقدمة على الهجرة.
وأما عن حكم الصداقة مع الفتاة الأجنبية فانظره في الفتويين التاليتين: 10271، 4220.
ولا حرج عليك في الزواج من هذه الفتاة، بل ينبغي لك الوفاء بالوعد الذي أعطيتها إياه، لا سيما إن كانت مرضية في دينها وخلقها.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
الهجرة الهجرة يسلم لك دينك.
تاريخ 20 جمادي الأولى 1424 / 20-07-2003
السؤال
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته أنا فتاة هداني ربي لهذا الدين الرائع الشامل والحمد لله رب العالمين أداوم على الصلاة ومتحجبة. مشكلتي أنني أتتمنى أن أغطي وجهي ولا أستطيع نظرا لشغلي، لأنه مصدر عيشي، أنا لست متزوجة، وأعيش بمفردي في الغربة، أنا كثيرة الحزن من هذه الناحية مخافة من رب العالمين وإرضاء له أفيدوني جزاكم الله الخير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يزيدك حرصًا على الخير، وأن يرزقك الثبات على الحق. وبخصوص سؤالك فإن تغطية الوجه واجبة على المرأة، فلا يحل لها كشفه إلا لزوج أو محرم. كما سبق أن بينا ذلك في الفتوى رقم: 5224.
إذا ثبت هذا فلا يجوز لك الاستمرار في هذا العمل الذي يترتب عليه التفريط في واجب من الواجبات، بل لا تجوز لك الإقامة في هذا البلد بدون وجود زوج أو محرم. ثم إن الأخطر على دينك وجودك في بلاد كفر، إذ أن الإقامة في بلاد الكفر قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. رواه أبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
فالهجرة الهجرة يسلم لك دينك، وتنالي رضا ربك.
ولمزيد من الفائدة راجعي الفتاوى التالية: 11071، 3859، 10334.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
الهجرة.. حلم يداعب أحلام الشباب
الاثنين :01/07/2002
(الشبكة الإسلامية) - خالد بركات
طوال نصف القرن الثاني من القرن العشرين.. لا يفتأ حلم الهجرة يداعب عقول الشباب في الوطن العربي على امتداد أقطاره.. يدفعهم إلى ذلك صعوبات كثيرة تواجههم في أوطانهم الأم، من بينها التكافؤ في الحصول على فرص العمل والدخل المحدود وتدني الخدمات الاجتماعية ونقص الحريات.
وعادة ما ترتبط أحلام المهجر في رؤوس الشباب بالثراء السريع والكفاءة العلمية والوجاهة الاجتماعية، إضافة إلى متعة الانتماء إلى الحضارة المنتصرة، وهو الأمر الذي يوقعهم كثيرا ضحية لإعلانات الهجرة المضللة التي تنشر في الجرائد، وتستغل الطموح الزائد وقلة الخبرة لدى الشباب لتحقيق مكاسب غير مشروعة.
ولكن ما حدث بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 دفع الكثيرين إلى التروي قبل الإقدام على المغامرة التي اعتادوا القيام بها قبل التهيؤ لها، ودفعهم أيضا إلى مراجعة انبهارهم ببلاد المهجر التي لم تعد الفردوس المفقود للمهاجرين.
وفي لقاء مع مجموعة من الشباب الذين يسعون إلى الهجرة يقول "سامي علي" الحاصل على بكالوريوس السياحة والفنادق من جامعة حلوان بمصر: تخرجت منذ خمسة أعوام وحتى الآن لا أجد الوظيفة المناسبة، وتراودني فكرة الهجرة لأي دولة أجنبية، وسمعت من أصدقائي عن إمكانية النجاح في الخارج وسهولة الحصول على عمل بأجر مجزٍ، ولكنني الآن أفكر كثيرا بعد ما حدث في أمريكا خلال العام الماضي، فكثير من زملائي رجعوا من هناك، وهم يتحدثون عن سوء المعاملة وجلسات التحقيق، ونظرات الناس التي تلاحقهم في الشوارع بارتياب، والتي قد يصحبها أيضا دفعة باليد أو سبة باللسان أو قذفة بحجر.
ويقول "يسري أحمد خليل" وهو موظف في إحدى شركات القطاع العام المصري: سافرت في الصيف إلى عدة دول أوروبية مثل هولندا وفرنسا وكندا، وانبهرت بهذه الدول جدا، فهي أكثر تنظيما وللأسف الشديد هي أيضا أكثر عدالة من الدول العربية، فلا يوجد لديهم منطق الواسطة في الحصول على فرص العمل، وطريق النجاح هناك واضح ومستقيم، وهو العمل الجاد، وليس العلاقات الشخصية، أو الرشوة والمحسوبيات، ولهذا السبب أحاول الحصول على فرصة للهجرة إلى أوروبا، وتقدمت بطلب هجرة إلى أمريكا ولكنه رفض وحمدت الله على ذلك حين وقعت أحداث سبتمبر.
ويقول صلاح الدين رمضان -31عاما وعاطل عن العمل-: فشلت طوال عشر سنوات في الحصول على فرصة عمل ثابتة ومستقرة، وما أزال أبحث عن فرصة عمل تضمن لي دخلا جيدا لأكوّن أسرة، وأثناء بحثي في الصحف عن فرص العمل أطالع كثيرا إعلانات الهجرة، وأقرأ عن المكاتب التي تساعد على السفر، ورغم أن الحلم يداعبني كثيرا، ولكن قلبي لا يطمئن لهذه الإعلانات، وخاصة أنني سمعت أن كثيرين من الشباب دفعوا أموالا من دون طائل.
أما عادل شفيق -مصمم أزياء- فيقول: نسمع أن الأجور في الولايات المتحدة مرتفعة جدا في مهنة مثل مهنتي، وتصل في بعض الأحيان إلى عشرين ألف دولار شهريا، وهو رقم خيالي، ولكن لا أعرف مدى تقبل المجتمع الأمريكي للعرب والمسلمين بعد أحداث 11سبتمبر .
الهجرة العشوائية
ومن أشهر طرق الهجرة إلى الولايات المتحدة التي يندفع إليها الشباب ما يسمى بـ "اليانصيب الأمريكي"، وهو البرنامج السنوي الذي يفتح الطريق أمام راغبي الهجرة إلى أمريكا عن طرق القرعة العشوائية، ويتيح هذا البرنامج 55 ألف فرصة للهجرة والإقامة والعمل في إطاره سنويا، ويكون من حق هؤلاء بعد سنوات معدودة الحصول على الجنسية الأمريكية.
وعملية السحب في هذا "اليانصيب" تتم عن طريق الكمبيوتر لاختيار الفائزين، ورغم ذلك لا يخلو الأمر من محاولات استغلال الشباب لأخذ أموالهم، فعندما يقترب موعد برنامج اليانصيب السنوي تبدأ شركات أمريكية، وربما مصرية أيضا، بنشر إعلانات في الصحف عن تقديمها للمساعدة للشباب للحصول على الجرين كارد ورخصة للعمل في أمريكا، وعندما يتصل بهم الشاب يطلبون منه دولارات مقابل ملء الاستمارة الخاصة ببياناته، وهي ذات البيانات المطلوبة في برنامج الهجرة العشوائية، وكل الدور الذي تقوم به هذه الشركات هو إرسال هذه الاستمارات إلى العنوان المحدد لاستقبال الطلبات في أمريكا، بعد كتابة الاستمارات على الكمبيوتر.
ضياع ميزة المجانية
وبذلك فبدلا من أن يستفيد الشاب من ميزة المجانية في هذا البرنامج فإنه يتحول إلى وسيلة للشركات التي تمارس الخداع للتغرير بالشباب، وهي في النهاية لا تتعرض لأي مساءلة قانونية لأن أوراقها تنص على أنها مجرد وسيط بين الراغب في الهجرة وبين الجهة التي ستتولى إجراء القرعة بنظام الكمبيوتر، وأنها لا تتدخل إطلاقا في عملية الاختيار أو ترجيح طلبات بعينها، لأنهم -كما يشيرون في إعلاناتهم- مكاتب مستقلة لا تتبع الحكومة، وهي معلومات حقيقية، ورغم كونها غير مطمئنة إلا أن الشباب يقبل على المغامرة بدافع أنه لن يخسر أكثر مما يخسره إذا استمر موجودا داخل وطنه.
ويتولى هذه الشركات في الأغلب محامون يقومون بإعداد معلومات تسهل مهمة الراغب في الهجرة، وتوضح له الشروط المطلوبة والبيانات المراد استكمالها باللغة العربية، وهي ذات البيانات الموجودة على موقع إدارة الهجرة الأمريكية باللغة الإنجليزية مجانا لمن أراد.(3/78)
تفاصيل النظام
وإذا راسلت أحد هذه المكاتب سيرسل إليك الوثيقة رقم 16 التي تتضمن تفاصيل نظام الهجرة باليانصيب الحكومي والاستمارة التي يجب على صاحب الطلب استيفاء بياناتها وهي عبارة عن عدة أوراق:
الورقة الأولى: تشمل رد المكتب على الرسالة، وتوضح كيفية الاشتراك في نظام الهجرة المتنوع المعروف باسم يانصيب الجرين كارد، وتمنح التأشيرة لمواطني عدة دول، ومن ينجح في الفوز بهذه الفرصة يحق له العمل والإقامة الدائمة في الولايات المتحدة الأمريكية سواء الشاب بمفرده أم الأسرة المكونة من الزوجة والأولاد، وتقوم وزارة الخارجية الأمريكية بتحديد مكان سحب القرعة وتوقيتها، لذا دائما ما ينصح المكتب بسرعة المبادرة والاشتراك في اليانصيب لأن الفترة المتبقية محدودة، والتسجيل السريع من خلال هذا الإعلان يضمن للمشترك مكانا بين باقي المشتركين في الهجرة، ودائما ما يتوقع المكتب سرعة إغلاق باب الهجرة قريبا، وفي نهاية هذه الورقة يوصي المسؤول عن المكتب بسرعة الاستجابة باستيفاء البيانات المدونة بالاستمارة، وسوف يقوم المكتب بإعداد ملف للمشترك والرد في حالة الفوز في القرعة، وتتم الإجابة عن أي استفسار أو تساؤل بالفاكس أو البريد.
الورقة الثانية في "الوثيقة 16" تقول: مصاريف الفرد 50 دولارا و75 دولارا للأسرة، وفي الحالة الأخيرة يتم عمل طلب لكل فرد في الأسرة، وهذا معناه مضاعفة فرص الفوز، ويتم دفع المصاريف بالدولار الأمريكي، أو بالعملات الدولية المتداولة، ودائما ما يحاول المكتب الوسيط وصف نفسه كوكالة ذات صبغة قانونية.
الورقة الثالثة: تضم الإجابة عن عدة أسئلة تهم الراغب في الهجرة، فنظام اليانصيب الحكومي يخضع لإشراف الكونجرس الأمريكي لاختيار أعداد محددة من دول بعينها بطريق القرعة العشوائية، ولكي يشترك الشخص في هذه القرعة عليه أن يستوفي البيانات، وفي حالة فوزه يتم الاتصال به لتحديد موعد لإجراء مقابلة شخصية في أقرب قنصلية أمريكية لمنزله.
أما بالنسبة للحقوق الممنوحة للفائزين، فهي تعطي لهم حق الإقامة الدائمة والعمل داخل الولايات المتحدة وشغل الوظائف الحكومية المتاحة والتمتع بكافة الخدمات التي يحصل عليها المواطن الأمريكي مثل العلاج والتعليم، وأيضا الحق في ضمان أقاربهم الراغبين في الحصول على الجرين كارد مستقبلا، والمهاجر يمكنه الاحتفاظ بجنسيته الأصلية والحصول على الجنسية الأمريكية بعد عدة سنوات من إقامته هناك.
والشباب الذين يحق لهم الاشتراك في هذا اليانصيب، سواء كان زوجا أم زوجة أو عَزَبَ، من كان محل ميلاده في إحدى الدول التي يطبق عليها اليانصيب الحكومي للهجرة، والذي يشمل كل دول العالم ماعدا كندا والصين وكولومبيا وجمهورية الدومينيكان والسلفادور والهند وجاميكا وكوريا والمكسيك والفليبين وتايوان وإنجلترا وفيتنام.
أما الشروط المطلوبة للالتحاق فهي الحصول على مؤهل عال أو عامين من الخبرة في عمل ثابت، وتقديم عدد من الأوراق الرسمية ومنها صحيفة الحالة الجنائية وضمان اللياقة العقلية والصحية، وألا يكون الشاب قد سبق له الإصابة بمرض معد أو أدمن المخدرات.
وحصول الزوج على الجرين كارد يعني حصول الزوجة على نفس الفرصة وكذلك الأبناء غير المتزوجين تحت 21 سنة، والأوراق المطلوب إرسالها أيضا صورة جواز السفر وطلب الاستخدام وشيك بالمصاريف المطلوبة.
الهجرة إلى كندا
أما الهجرة إلى كندا فلا يتبع فيها نظام القرعة، ولكن تتم عن طريق التقدم بطلب إلى السفارة يتم بحثه، وعقد امتحانين للمتقدم لتحديد إمكانية قبوله بناء على درجة إجادته للغتين الرسميتين في البلاد (الإنجليزية والفرنسية) إضافة إلى مدة خبرته، ونوع التخصص الذي يجيده، ومستوى تعليمه، ووجود أقارب له في كندا من عدمه.
وفي حالة موافقة السفارة على عقد امتحان للمتقدم، فإنها تطلب منه رسوما باهظة تكون غير مضطرة إلى ردها في حالة رسوبه في الامتحان.
ولعبا على وتر زيادة فرص النجاح، يجد بعض المهاجرين السابقين إلى كندا من أصول عربية الفرصة سانحة لاستدرار أموال من جيوب أبناء شعوبهم الأصلية، ولذلك فإن الإعلانات تنشر في الصحف المصرية -مثلا- عن مكاتب تعمل على تسهيل الهجرة إلى كندا، ويدفع في مقابل الخدمات التي يقدمها هذا المكتب مبلغا كبيرا، ليزوده المكتب بنصائح حول كيفية التقدم والإجابة بنجاح على أسئلة الامتحان الشفهية والتحريرية، وكيفية اختيار الولاية التي يهاجرون إليها، وأفضل أشكال الهجرة التي يمكن قبول صاحبها.
إلى نيوزيلندا
وبالمثل لا يختلف أسلوب الهجرة إلى نيوزيلندا التي تقع في آخر محطة في قطار العالم - على بعد 2000 كيلو متر جنوب استراليا، و2000 كيلو متر أخرى شمال القارة المتجمدة الجنوبية- لا يختلف أسلوب الهجرة إلى تلك الجزيرة النائية عن الهجرة إلى كندا التي تحتل معظم مساحة أمريكا الشمالية بتعداد سكان لا يزيد في الأولى (نيوزيلندا) عن 4 ملايين نسمة، وفي الثانية (كندا) عن 30 مليونا.
ولكن المفارقة التي يفاجأ بها الشاب هناك هو أن الدولة لا تقدم له خدمات كبيرة كمهاجر، وتترك عليه بالكامل عبء البحث عن عمل، ومواجهة صعوبات الحياة.
وربما لهذا السبب فإن الهجرة إلى كندا أو نيوزيلندا لا تصلح إلا لمن يملكون مخزونا وافرا من المال، وإلا فإن الراكب سيضطر إلى تكبد تكاليف تذكرة غالية الثمن للعودة من هناك خالي الوفاض.
=============
أريد أن أترك بلاد الغرب فهل أنا آثمة إذا ألححت على زوجي في ذلك
تاريخ 2006-01-05 12:54:20
الموضوع : ... استشارات الأسرة والمجتمع
السائل : ... ن.ع.م
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
أنا في بلاد الغرب مع زوجي وأولادي ولا أحب هذا البلد وقبل مجيئي إليه كنت أستعيذ بالله منه, للفسق والفجور وضعف الإيمان الذي يترتب عنه، ولكن قدر الله وما شاء فعل، والآن لي أربعة سنوات هنا وابنتي الكبرى ثلاث سنوات وستدخل المدرسة بعد سنة حسب قوانين البلد.
مع العلم أننا لا نحب أن ندخلها المدرسة من هذا البلد سؤالي: هل إذا ألححت على زوجي بأن يهجرنا إلي بلد مسلم أكون آثمة؟ مع العلم بأنه قادر على ذلك، واتفقنا على ذلك قبل زواجنا، ولكن ما يخوفني ويجعلني أشعر أني آثمة هو تضايق زوجي عندما أذكر ذلك الأمر، وكأني أضغط عليه؛ لأنه يريد أن نرحل معا وهذه فكرة ممتازة، ولكن الوقت لا ينتظر, وكان الاتفاق الذي بيننا أن نمكث سنتين فقط، ولكن نحن الآن في السنة الرابعة والأولاد يكبرون, ومما يجعلك تفر من تلك البلدان أنك إذا مرضت يوما لا تجد أمينا في أخلاق أولادك إلا من رحم الله, فأنا الآن بين أمرين: إما أن أهاجر لأجل ديني وأولادي وأترك زوجي، ثم يلحقني بعد سنة، وذلك لأجل الديون والضرائب التي عليه, وإما أن أبقى معه، ولا أدري ماذا يحدث بعدها؟
علما بأني موافقة أن يتزوج بأخرى إذا خاف على نفسه.
ملاحظة: بعض الأحيان أقول في نفسي فليشعر زوجي ما شاء، فانا مأجورة لأني أطلب الهجرة ومكوثي هنا أصلا إثم، فما نصيحتكم لي؟
وجزاكم الله خيرا وعذرا على الإطالة فقد أردت الإيضاح فقط.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت العزيزة/ ن.ع.م حفظها الله!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،،،
فنسأل الله أن يقدر لك الخير ويسدد خطاك ويلهمنا جميعاً رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا!
قد ذكر العلماء ضوابط للسفر إلى بلاد الكافرين وهي كما يلي:-
1- أن تكون ضرورة لا يجد الإنسان ما يسدها في بلاد المسلمين.(3/78)
2- أن يكون لمن يسافر علم يحجزه عن الشبهات.
3- أن يكون له دين وورع يحجزه عن الشهوات.
4- أن لا يطيل المكث بين أظهر المشركين.
5- أن يتمكن من إظهار دينه وإقامة شعائره والدعوة إليه.
6- أن تكون معه زوجته لتؤنسه وتعفه ويعفها.
ونحن أيضاًَ ننصحكم بسرعة العودة إلى ديار المسلمين خاصة مع وجود أطفال في هذه السن، وأرجو أن تتعظوا بالذين خسروا أبناءهم فلم تنفعهم الدنيا التي ربحوها، ولكن الصواب أن يكون ذلك بالحوار الهادئ والإقناع، وإذا كان الخلاف على سنةٍ واحدةٍ فلا تتركيه وحده واحتسبي أجرك عند الله، واجتهدي في رعاية أولادك وعمري بيتك بطاعة الله، وعموماً نحن لا نؤيد فكرة بقاءه وحده، وإذا كنت قد صبرت لمدة أربع سنوات فلن يصعب عليك البقاء لعام واحد، والطفلة في هذا العمر تأخذ قناعاتها وثقافتها من أبويها، بخلاف الطفلة التي تكون أكبر قليلاً فإنها تتأثر أكثر بمن يعلمها وبمجموعة الرفاق، وعلى كل حال فإن الأم العاقلة تستطيع بسهولة أن تزيل الآثار السالبة.
وأرجو أن تظل أبواب الحوار مفتوحة، ولكن مع تغيير الأسلوب واختيار الأوقات المناسبة واتخاذ خطوات عملية، والاجتهاد في التوفير وحسن التدبير حتى تتمكنوا من التخلص من الالتزامات المالية.
وأرجو أن تقدري مشاعر زوجك فإن رضاه من طاعة الله، وليس من الصعب التوفيق بين رضاه وعمل ما يرضي الله، وإذا قدم كل واحد منكما بعض التنازلات، فإن اللقاء سوف يكون في الوسط، والأمر هينٌ فإن الخلاف على توقيت العودة وليس على أصل القضية.
ولا يخفى عليك أن الأفضل هو أن ترجعوا في وقت واحد، وبعد تخطيط وترتيب وليس من المصلحة كثرة الطرق على هذا الموضوع خاصة في الأحوال التي لا يكون فيها الزوج مهيأ نفسياً للمناقشة، وربما كانت بعض الحقائق المالية خافية عليك ولا يريد أن يخبرك بها حتى لا تغتمي وتهتمي، وهذه صفة عند عدد كبير من الرجل، فقدري وضعه والتمسي له الأعذار.
وأرجو أن تهتموا بالدعوة إلى هذا الدين وكونوا نموذجا للأسرة التي تحرص على طاعة الله في كل زمان ومكان، وتلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)، وليس في طلبك إثم ولكن من أمر بمعروف فليكن الأسلوب معروفا ومقبولا، ونحن سعداء بحرصك على الخير وخوفك على أطفالك.
ونسأل الله لك السداد والثبات.
المجيب : ... د. أحمد الفرجابي
==============
سافرنا إلى ألمانيا ؛ وتكاد حياتنا الاجتماعية تكون صفرا
تاريخ الإستشارة : ...
الموضوع : ... استشارات الأسرة والمجتمع
السائل : ... maream
السؤال
أنا أم لطفلين، مرتاحة مع زوجي، مشكلتي أني أصبحت غير واثقة بنفسي! علما أني لم أكن كذلك؛ لكن بسبب مجيئنا إلى ألمانيا، ونظرة الناس لنا - خاصة الحجاب - أثرت فينا!
لا أعرف! تكاد حياتنا الاجتماعية تكون صفرا! وذلك مما أثر في أولادي؛ لأنهم لا يملكون أصدقاء! إني لا أستطيع عمل شيء! فداخلي مهزوز جدا! ساعدوني!
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الكريمة الفاضلة/ مرام المحترمة حفظها الله!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،،،
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية! فأهلا وسهلا ومرحبا بك! وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت، وفي أي موضوع! ونسأله جل وعلا أن يثبتك على الحق! وأن يربط على قلبك! وأن يرزقك الثقة التامة بنفسك! وأن يحفظك من الضعف والانهيار!
وبخصوص ما ورد برسالتك، فما تذكرينه شيء طبيعي في بداية حياة الغربة والبعد عن الأهل والوطن، وانعدام التفاهم مع مجتمع لا تعرفين لغته، أو لا تجدين فيه من هو مستعد لمد جسور العلاقات الاجتماعية الصادقة التي تعودتها؛ ولذلك أرى أن المسألة مسألة وقت، وعما قريب سوف تتعرفون إلى إخوانكم من المسلمين العرب المهاجرين من أمثالكم، وستشعرين بتلاشي هذا الشعور مع الأيام.
ولكني أحذرك من الاستجابة لداعي النفس والشيطان بخلع الحجاب بحجة أنك مثار سخرية واشمئزاز واستخفاف المجتمع، فهذه كلها أوهام، حتى ولو كانت موجودة فعلا فليس معنى ذلك أن نتخلى عن ديننا؛ ليرضى عنا أعداؤنا! وما قيمة الحياة المادية الفارهة في ظل الفسق والفجور والإلحاد!؟
فحذار حذار ـ أختي مريم ـ من الضعف الذي يؤدي بك إلى التخلي عن دينك ومبادئك! وعليك أنت وزوجك بالبحث عن أقرب مسجد، أو مركز إسلامي، وربط أنفسكم به وبنشاطاته؛ حتى لا تذوبوا في هذا المجتمع الكافر!
وكم أتمنى أن تراجعوا أنفسكم في موضوع الإقامة في هذه البلاد! خاصة وأنتم ما زلتم في أول الطريق تقريبا؛ لأن الشرع ينهى عن الهجرة إلى بلاد الكفر، إلا في حالات الضرورة القصوى التي يحددها أهل العلم، أما مجرد الهجرة بدافع الحرية والنداء والتقدم فهذه كلها ليست مبررات شرعية، ولا قيمة لها في نظر الشرع، وأنتم بذلك مخالفون لشرع الله بلا شك.
والأمر كذلك بالنسبة لأولادك، فلا بد أن تشعريهم بالعزة والكرامة، وأنكم أبناء الإسلام العظيم، وأنكم أفضل من هؤلاء الألمان الكفار، وأنكم من أهل الجنة، أما هم فهم من أهل النار ما داموا غير مسلمين، وحاولي أن تزرعي فيهم العزة والكرامة والاعتزاز بالإسلام!
ولا تنسي نفسك أنت وزوجك من المحافظة على تعاليم الإسلام، والورد القرآني اليومي، والاطلاع على بعض الكتب الشرعية الميسرة لديكم؛ حتى تظلوا قريبن من الله ورسوله، وإن شاء الله سوف تكونون أحسن مستقبلا!
وبالله التوفيق!
المجيب : ... الشيخ / موافي عزب
===============
ما سبب تفضيل الشباب للعيش ببلاد الغرب
تاريخ الإستشارة : ...
الموضوع : ... استشارات ومشاكل الشباب
السائل : ... اسعيدي
السؤال
ما هو السبب الذي يجعل كثيرا من الشباب يفضل البقاء في الغرب والعيش فيه مع كل الخيرات التي توجد في بلده، ولا يطمح في يوم من الأيام بأن تكون بلده أحسن بكثير من البلد الذي هو فيه الآن؟
وشكرا.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الابن الفاضل/ أسعيدي حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فنسأل الله أن يقدر لك الخير ويسدد خطاك ويلهمنا جميعاً رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا!
فإن الإنسان إذا أنعم الله عليه بالرزق الواسع في بلده مع أهله وأرحامه وأحبابه فقد نال خيراً كثيراً، وقد امتن الله على بعض الكافرين الذين رزقهم أولاداً ورزقاً سهلاً ميسوراً لم يحتج الأبناء للسفر من أجل طلبه، فقال تعالى: { وجعلت له مالاً ممدوداً * وبنين شهودا } وسعيد من يجد أبنائه بين عينيه صباحاً ومساءاً، أما إذا ضاقت على الإنسان أسباب الرزق في موطنه فالصواب أن يسعى في الأرض ويتخذ الأسباب {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور }.
ولكن المسلم يحتكم في سائر أموره إلى شريعة الله، فلا يسافر إلى بلد لا يتمكن فيه من إظهار شعائر الدين، بل إن أهل البلاد أنفسهم إذا حيل بينهم وبين طاعة الله وعبادته فإنهم مأمورون بالهجرة، ولابد أن يكون لمن يسافر إلى ديار الكافرين أن يكون له دين يحفظه وورع يزجره، وأن تكون هناك ضرورة ملحة لم يجد لها حلاً وسبيلاً في بلاد المسلمين، والصواب أن لا يطيل المكث في ديار الكافرين، ولعلكم أعرف منا بالذين خسروا أولادهم حين أصروا على البقاء في تلك البيئات المليئة بالموبقات، وأرجو أن لا يقيم هناك إلا من يستطيع أن يخدم دين الله ويأمن على نفسه بتوفيق الله من الانحراف والذوبان، شريطة أن يبحث عن رفقة صالحة تذكره بالله إذا نسي وتعينه على طاعة الله إن ذكر.(3/78)
أما تفضيل بعض الشباب للعيش هناك فقد تكون له أسباب منها:-
1- الرغبة في الاستفادة من وسائل التطور والرفاهية.
2- الاهتمام بالمظاهر الدنيوية.
3- الرغبة في الحريات المنفلتة التي لا تتقيد بدين ولا بعرف ولا بخلق.
4- ضعف معنويات المغلوب التي تجعله يعجب بالغالب ويستحسن بلاده وفعاله.
5- كراهية بعض الشباب للقيود والضوابط الأخلاقية التي تحكم الشباب، وخاصة في جانب العلاقات الجنسية، ولا شك أن أهل الغرب عرفوا أكثر من غيرهم أضرار وأمراض الانفلات في مجال العلاقات الجنسية.
ولا شك أن بلادنا أحسن من غيرها في جانب المحافظة على الأخلاق والقيم الفاضلة التي بها يرتفع الإنسان ويسعد، ولعلكم تلاحظون أن الرفاهية المادية التي يعيش فيها الغرب يقابلها شقاء وبؤس في جانب الروح، وهذا قد لا يشعر به بعض الشباب للوهلة الأولى وهذا هو مكمن الخطر.
والله ولي التوفيق والسداد!
المجيب : ... د. أحمد الفرجابي
==============
الهجرة إلى بلاد الغرب
تاريخ الإستشارة : ...
الموضوع : ... استشارات الأسرة والمجتمع
السائل : ... غدير مسلمى
السؤال
لقد قدمت إلى كندا منذ خمسة أشهر من أجل الجنسية، ولم يجد زوجي عمل هنا فتركنا هنا أنا وأولادي ، وأعمارهم 10 و9 و4 .
لقد تمسكت بوجودي هنا من أجل أن يتعلم أولادي هنا ، ومن أجل ما أنفقناه من أموال ، فكان من الصعب أن أعود خالية الوفاض ، هذا ما فكرت فيه ، فهل موقفي صح أم خطأ؟
أفيدوني.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ غدير مسلمي حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ،،،
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بك في موقعك، وكم يسعدنا اتصالك بنا دائماً في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله جل جلاله أن يشرح صدرك للذي هو خير، وأن يهديك إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، وأن يجعلك عوناً لزوجك وأولادك على طاعة الله واتباع هدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
وبخصوص ما ورد برسالتك: فاعلمي أختي الفاضلة -بارك الله فيك- أن الإقامة في بلاد الكفر لا تجوز إلا لهدف شرعي، وأرى أن مجرد فكرة أن يتعلم أولادك في هذه البلاد أو أنه من الصعب عليك أن تعودي إلى بلدك خالية الوفاض ليس سبباً شرعياً لبقائك وحدك مع أولادك في تلك البلاد التي يغلب عليها التحلل من القيم والمبادئ والأخلاق، والتي يهاجر فيها الكثير من المسلمين الصادقين خوفاً على أولادهم من الضياع والانحراف، وأرى أنك بذلك تجرين وراء سراب خادع وشيء مظنون ، أما المقطوع به والذي لا شك فيه أن أولادك بنشأتهم في تلك البلاد سوف يذوبون في هذه المجتمعات، وقد يتركون دينهم بالكلية أو يصبحوا مجرد مسلمين بالاسم فقط، وبذلك تكونين أنت سبباً في ضياع دينهم الذي هو أغلى وأسمى وأعز من الدنيا وما فيها .
لذا أنصحك بضرورة العودة فوراً إلى البلاد واللحاق بزوجك، وابدأ الحياة الصحيحة من هناك ، واعلمي أختاه أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فتوكلي على الله واحزمي أمتعتك، وودعي تلك البلاد إلى غير رجعة، وسلِ الله أن يعوضكم عما ضاع منكم من أموال خيراً، وأن يعينكم على تربية أولادكم، وأن يرزقكم خير الدنيا والآخرة، وأن يبارك لكم في أرزاقكم وابشري بخير، واعلمي أن الله لا يضيع أهله، وبالله التوفيق.
المجيب : ... الشيخ / موافي عزب
==============
هل الآيات القرآنية التي تتحدث عن السعي في الأرض تقصد الاغتراب
تاريخ 2006-01-05 12:57:04
الموضوع : ... استشارات ومشاكل الشباب
السائل : ... جابر
السؤال
في السنوات الأخيرة زادت تطلعات الشباب وسعيهم إلى الهجرة والاغتراب وخصوصا إلى أمريكا وعندما تحدث أحدهم وتحاول إقناعه أن هذا البلد بلد ضياع وفساد يرد عليك بكل قناعه أنه مغترب في وطنه فلا عمل ولا نظام ولا قانون ونفس الشيء عندما تتحدث مع مغتربين في أمريكا وتقول لهم أن الاستقرار في بلادنا أفضل يردون عليك بكل قناعه وبنوع من السخرية ماذا سنعمل إذا ذهبنا إلى بلادنا؟ من أين سنأكل ونعيش؟ فهل كلام الطرفين صحيح؟ أم أنه ضعف الإيمان فينا بأن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق الكريم أينما كان الإنسان؟ كيف نرد عليهم ونقنعهم؟ خصوصا أنهم يتكلمون في أمور صحيحة عن حالة معظم دولنا العربية وما وصلت إليه، وهل الآيات القرآنية التي تتحدث عن السعي في الأرض، وبأن أرض الله واسعة القصد منها الهجرة والاغتراب؟
أرجو الرد على هذه الأمور المهمة ولكم خالص الشكر والتقدير وجزاكم الله خير.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ العزيز/ جابر حفظه الله!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،،،
فنسأل الله أن يقدر لك الخير ويسدد خطاك ويلهمنا جميعاً رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا!
إن أبلغ رد على هؤلاء هو وجود أعداد كبيرة من الغربيين الذين يعملون في بلادنا ويتمتعون بالحرية ويؤدون أعمالهم على أكمل الوجوه، ولو عمل أولئك الشباب في بلادهم كما يعملون في البلاد الأخرى لامتلأت جيوبهم ولتقدمت أوطانهم ولما احتاجوا للهجرة، لكن كثير من الشباب - بكل أسف - يريد أن يكرم في بلده ولكن من دون أن يعمل وأن يعيش أحسن معيشة دون أن يجتهد ويتعب.
وحق للإنسان أن يتأسف على تلك المجموعات الكبيرة من المهاجرين الذين تعلموا في ديار الإسلام ثم خرجوا ليكون نتاجهم في بلاد لم تتعب في تعليهم ولم تجتهد في تأهيلهم، وليتهم بعد ذلك سكتوا فلم يقلوا اللوم على بلادهم وزمانهم، ويصدق على أمثال هؤلاء ما قاله الشاعر الحكيم:
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب *** ولو نطق الزمان لنا هجانا
وما ينبغي للمسلم أن يهاجر إلى مواطن الفساد والفحشاء وبلاد الكفر إلا إذا كانت هناك ضرورة ملحة لم يجد ما يسدها في ديار المسلمين، وكان للمسافر دين يردعه ويمنعه من الشهوات وعلم يصد به الشبهات، وأن يتمكن من إظهار دينه، وأن تكون معه زوجة تعفه ويعفها وأن لا يطيل المكث بين أظهر المشركين، ولا يخفى عليك أن الذين مكثوا هناك دهوراً وأزمنة طويلة فقدوا أولادهم فخرج الأبناء والأحفاد على دين القوم وتجرع أولئك كأسات الندامة لأنهم جمعوا الأموال وخسروا الأولاد.
ولا يخفى على كل عاقل أن هناك الملايين في ديار المسلمون لم يموتوا من الجوع وهم يضحكون ويبتهجون لا يخافون على أنفسهم ولا على أموالهم ولا على أولادهم، وليس الرزق في بلد دون بلد لكن المسلم مطالب بالسعي والبحث عن العمل ليأتي بالسبب فقط، ولكنه قد يعمل ولا يجد الرزق لأن الأرزاق بيد الله، وقد كتبها ونحن في بطون أمهاتنا وأمرنا بالسعي وفعل الأسباب ثم التوكل على الوهاب، وقد قال صلى الله عليه وسلم (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً) فقد تحركت بأمر الله وأكلت من رزق الله.
ونحن ننصح شبابنا بسرعة العودة إلى ديارهم قبل أن يخسروا دينهم وقيمهم، وما ينبغي أن يمكث هناك إلا من ينتظر منه أن يبلغ رسالة الإسلام ويخرج الناس - بإذن الله - من الظلام.
ولاشك أن الإنسان يسعى لطلب الرزق وقد يتجاوز بلاده إلى غيرها وينتفع من أسفاره كثيراً ولكنه في طلبه للرزق لا ينسى وظيفته الأساسية التي خلق لأجلها وهي عبادة الله قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فإذا تعارض طلب الرزق مع المهمة الأصلية ترك ذلك المكان وتحول إلى مكان آخر يتمكن فيه مع طلب الرزق من العبادة.(3/78)
والمسلم يهاجر إلى المكان الذي يتمكن فيه من عبادة الله كما يريد، وحتى أهل البلاد الغربية من المسلمين إذا لم يتمكنوا من إقامة شعائر الدين فإن الواجب عليهم أن يهاجروا ويتركوا الأوطان والأملاك فإن لم يفعلوا قيل لهم {ألم تكن أرض واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جنهم.....}، ومن هنا يتضح لنا أن صلاح الدين مقدم على كل شيء، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن روح القدس نفخ في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب فخذوا ما حل ودعوا ما حرم عليكم).
وإذا وجد الإنسان رزقاً وكانت البيئة طاهرة والرفقة صالحة فالصواب أن يلزم ذلك المكان ويجتهد في طاعة الملك الديان، وقد سعد الناس في دولة الإسلام الواسعة وتنقلوا في الأرض دون حواجز وموانع، فهذا أحد العلماء في الدولة العثمانية يقول ولدت في العراق ودرست العلوم الشرعية في استانبول وتخرجت قاضياً فقيل لي هناك وظيفتان وظيفة في صنعاء والأخرى في المغرب العربية، فاختر لنفسك ما تريد.
ويؤسفنا أن تتحول الحدود الجغرافية إلى موانع حقيقية تمنع التواصل بين الناس وأحسن من قال:
مشيناها خطى كتبت علينا ** ومن كتبت عليه خطى مشاها
وأرزاق لنا متفرقات *** فمن لم تأته منا أتاها
ومن كانت منيته بأرض ** فليس يموت في أرض سواها
والله تبارك وتعالى يقول: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}.
والله ولي التوفيق والسداد!
المجيب : ... د. أحمد الفرجابي
===============
أريد الحياة بلندن فهل من مشكلة
تاريخ الإستشارة : ...
الموضوع : ... استشارات ومشاكل الشباب
السائل : ... حسام العلي
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
أنا شاب بحالة مادية جيدة، وملتزم دينيا، ولكن أحلم بالعيش في لندن، وأفكر بالسعي للحصول على الفيزا! هل من مشكلة ـ إذا حافظت على التقاليد العربية ـ أن أعيش هناك!؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الابن الفاضل/ حسام العلي حفظه الله!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،،،
نسأل الله العظيم أن يوفقك لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا وإياك لهدى والتقى والعفاف والغنى، وأن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا!
فإن الإنسان مدني بطبعه، فهو يتفاعل ويتأثر بما حوله ومن حوله، ومن هنا حرص الإسلام على البحث عن البيئة الطاهرة، والرفقة الصالحة، وقد تبرأ رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من رجل يقم بين أظهر المشركين، وشرعت الهجرة بحثاً عن أرض يعبد فيها الإنسان ربه كما يريد، ورغبه في وجود من يعينه على الطاعات من الرفاق الصالحين.
وإذا اضطر الإنسان إلى السفر إلى بلاد الغرب، فلا بد من توفر شرائط ذكرها العلماء وهي كما يلي:
1-أن يكون له دين يردعه من الشهوات.
2-أن يكون له علم يعصمه من الشبهات.
3-أن تكون هناك ضرورة ملحة لم يجد ما يسدها في ديار المسلمين.
4- أن لا يطيل المكث إذا فرغ من أداء المهمة التي جاء لأجلها.
5- أن يصطحب زوجة تعفة وتؤانسه.
6- أن يتمكن من إظهار شعائر دينه.
7- أن يحرص على الدعوة إلى الله، والاعتزاز بقيمه ودينه؛ حتى يؤثر ولا يتأثر.
8- أن يحرص على انتفاء رفقة صالحة، تذكره بالله إذا نسى، وتعينه على طاعة الله إذا ذكر.
9- وإذا كانت ظروفك المادية جيدة، وأنت مرتاح في بلدك، فلا ننصحك بالذهاب إلى أي مكان؛ لأن الأصلح للإنسان أن يعيش في بيئته، ووسط أهله؛ حتى يتمكن من بر والديه، والإحسان لأرحامه، ونفع جيرانه.
10- ولا تخفى عليك الآثار السالبة التي أحدثتها الأحداث العالمية والحروب على إخواننا في بلاد الغرب، فقد تنامت مشاعر الكراهية والعداء للعرب والمسلمين، وقد لا يأمن الإنسان على نفسه ومستقبله!
11- وأرجو أن تسأل من جرب تلك البلاد! ولا ينبئك مثل خبير.
والله ولي التوفيق!
المجيب : ... د. أحمد الفرجابي
==============
أخت زوجي بالنمسا وزوجها يطالبها بالعيش معه بمصر وأهلها يرفضون فماذا تفعل
تاريخ 2006-04-19 12:48:42
الموضوع : ... استشارات الأسرة والمجتمع
السائل : ... رحاب
السؤال
السلام عليكم و رحمه الله.
الحقيقه أنها مشكلة أخت زوجي، ونظرا لاختلاف و جهات النظر في الحل، أردت أن أعرض المشكلة عليكم، لعلكم تساعدونها في الاختيار، على أن أروي التفاصيل بصورة حيادية من كل جهة.
سافرت أخت زوجي للعيش في النمسا، و عمرها 13 سنة، وذلك مع أسرتها وهي أصغر إخوتها، وكانت مدللة جدا، وبعد أن بلغت سن الشباب، وكان عمرها 25 وفي إحدى زياراتها لمصر مع الأسرة، تم زواجها من شاب مصري فقير الحال، على أن تسكن هي بالنمسا، وهو يظل بمصر، نظرا لعملها هناك، ويأتى هو فيما بعد للعمل بالنمسا، عندما تجد هي له عملا، وساعدته حقيقه كثيرا في بناء مستقبله، حيث كان يعمل محاميا صغيرا في أحد مكاتب المحاماة، ولكن بمساعدتها وأهلها تم تعيينه في أحد البنوك الكبرى، كما أنها بأموالها من عملها ساهمت معه في شراء شقة تمليك، وفرشها من أفخر أنواع الفرش، حيث كانت هي المساهمة بأغلب التكاليف، كما أنها ساهمت أيضا في شراء سيارة من أحدث السيارات، كما غيرت له من طبيعة ملابسه، هندامه و كل شيء، كانت تحضره له من النمسا عندما تسافر له أو يأتى هو لها، ورزقهما الله بولد 9سنوات و بنت 3 سنوات، ولكن منذ أول يوم والمشاكل دبت بينه وبينها من ناحية، وبينها وبين أهلها من ناحية أخرى، وبينه وبين أهلها من ناحية ثالثة، حيث أنه بالطبع له عادات وأخلاق سيئة، كما أنها مدللة، وأهلها شديدو الخوف عليها من أي شيء قد يلمسها، ولكم نصحتها بأن هذه ليست بالمعيشة السوية، وأنه لا بد لها من الذهاب والاستقرار مع زوجها بمصر، حيث أن مستقبله هناك أفضل بكثير من النمسا، ولكنها كانت تجيب بأنها حاولت ذلك، لكنها لا تستطيع لعدة أسباب، منها أنها لا تستطيع أن تترك هذا الجو الرائع بالنمسا وأسلوب المعيشة الراقي لتسكن بمصر، كما أنه دائما مشغول عنها مع أصدقائه على الهاتف، كما أن التعليم و الجانب الصحي بالنمسا أفضل من مصر، وأنها تريد الأفضل لأولادها، وكنت أقول لها بأنه ينشغل عنك بالتليفون لأنه اعتاد ذلك، نظرا لسكنه وحيدا لفترات طويله، وأنها لا بد أن تحاول الاستقرار معه، وذلك أفضل للأطفال، لكنها لم تفعل أيضا بسبب المشاكل بينهما، وتشجيع أهلها لها على البقاء معهم بالنمسا.
ومؤخرا تطورت الأمور تطورا خطيرا حيث طلبت منه أن يبيع السيارة ويأتي ليعمل بالنمسا كعامل في مطبعة أو ما شابهه من أنواع العمل، وأن ثمن السيارة يسدد به ديونا لأخواتها عليه، حيث أنه لا يرسل لها إلا القليل من المال، وهو بالطبع ما لا يسد أي شيء من مصاريف الحياة، ويقوم أخواتها بمساعدتها، حيث كانت قد توقفت عن العمل طيلة 8 سنوات منذ رزقها الله أول ابن، ولكن زوجها رفض بيع السيارة، وأتى وجرب العمل لمدة شهرين، دبت خلالها الخلافات الشديدة بينه وبين أهلها، وكذلك بينهما لكني كنت دائما أقول لها إن الخلافات بينهما نظرا لعدم استقرارهما مع بعض، فهذا شيء طبيعي أن تكون هناك اختلافات بين الأزواج، ولكن مع العشرة فإن كل طرف يبدأ في تغيير بعض طباعه، لكي يرضي الآخر، وهو ما لا يحدث معك.(3/78)
المهم أنها فوجئت بأنه باع الشقة وسدد ديونا عليه بمصر، واستأجر شقة غالية، وطلب منها أن تأتي للعيش معه بمصر، وعندما طالبته بالمال الذى دفعته بالشقة، حيث أنه قرابة الـ 75% رفض وعرض عليها اليسير من المال بحجة أنه قد فقد الكثير من ثمن البيع بتسديد الديون، وهي الآن حائرة لا تدري ما تفعله، هل تنفصل عنه، أم يبقى الحال على ما هو عليه؟ هي بالنمسا وهو بمصر، حيث أن أهلها يرفضون إقامته بالنمسا بعد ما حصل منه من بيع للشقة وعدم تسديد ديون أختهم، وأنه اغتصب بذلك حقها، أم تترك النمسا وتذهب للعيش معه بمصر؟
أنا اشهد أنه كان يأتي لها بأفخر الملابس، وكان يخرج معها للنزهة بأفضل الأماكن، وذلك تعترف هي أيضا به، وأنه إذا استطاع الأفضل فسوف يفعل، كما أشهد أنها مدللة وأن لها تصرفات خاطئة، وأوقن بأنه لا يوجد أنسان كامل، ويجب علينا أن نتعايش على ذلك، ولكنها لا تستمع لي كثيرا، فربما أكون مخطئة، وعلى ذلك أرجو إفادتكم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ رحاب حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بك في موقعك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله جل وعلا أن يجزيك عن صاحبتك أحسن الجزاء، وأن يبارك فيك وأن يكثر من أمثالك، وأن يصلح ما بينها وبين زوجها وأن يجمع بينهما على خير.
وبخصوص ما ورد برسالتك، فأنا أضم صوتي إلى صوتك وبقوة، وأن ما عرضيته على أختك من ضرورة العودة إلى مصر والإقامة مع زوجها هذا هو عين الحق، وهو الحل الأمثل فعلاً، وأن ما بينهما من خلاف سوف يزول بالعشرة والمخالطة، وأن تركها لزوجها لن يزيده منها إلا بعداً ونفوراً وهي كذلك.
لذا أقترح عليها أن تحاول ولو على سبيل التجربة حتى لا تقضي على حياتها الزوجية، خاصة وأن لديها أطفالاً لن تستطيع أن تربيهم وحدها، خاصة بعد تقدمهم في السن ودخولهم مرحلة المراهقة.
لذا أنصحها وبقوة بضرورة أن تتوكل على الله وتعيش في بلد زوجها وتتذرع بالصبر، لأن الحياة قطعاً مختلفة في مصر عنها في النمسا، وبعدها تقرر البقاء أو إقناع زوجها بالهجرة معها على أن يعيشا بعيداً عن أسرتها.
والله الموفق.
المجيب : ... الشيخ / موافي عزب
===============
حكم الارتحال عن بلد مسلم
تاريخ 17 جمادي الأولى 1422 / 07-08-2001
السؤال
هل تجوز الهجرة لإنسان ضاق به العيش فى مجتمع يشوبه الجهل والتخلف والتعسف؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا كان هذا المجتمع الذي ذكرت مجتمعاً مسلماً في الأصل، فلا ينبغي لهذا الإنسان أن يهاجر عنه إذا كان باستطاعته أن يدعو إلى الله تعالى، ويعلم شرعه، ويبصر الناس فيه، ويعلمهم ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم، لأن ذلك من النصح لعامة المسلمين.
وفي صحيح مسلم وغيره عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" أما إذا كان هذا الإنسان لا يستطيع نفعهم وخاف على دينه أو نفسه أو عرضه فعليه أن يهاجر عنهم إلى بلد يأمن فيه على دينه ونفسه وعرضه.
وإن كان الباعث لهذا الإنسان على الهجرة من بلده، هو طلب الرزق وسعة العيش، فلا حرج في ذلك بشرط أن لا يكون في تركه للبلد الذي هو فيه تضييع لبعض الحقوق والواجبات عليه، وأن لا يكون البلد الذي سينتقل إليه فيه خطر عليه في دينه، أو نفسه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الفرار بالدين... أم البقاء مع الزوج في بلاد الكفر
تاريخ 12 صفر 1422 / 06-05-2001
السؤال
أنا امرأة متزوجة ولدي ستة أولاد وأعيش مع زوجي في بلاد الغرب وكلما طلبت من زوجي السماح لي بالعودة إلى بلدي (الجزائر). احتج بعدم إمكانية الاستقرار في الجزائر وعدم توفر السكن. وقد سبق لي أن طلبت من أمي إن كانت موافقة على عيشي عندها مع أولادي فوافقت، وفي المقابل زوجي يأمرني بالبقاء معه حتى يجمع المال الكافي لشراء مسكن . وإنني متيقنة أن الله لن يضيعني إن اخترت الهجرة من بلاد الكفر. إنني في حيرة من أمري، و أخشى إن تصرفت بما يرضي ضميري وهوالهجرة؛ أن أتسبب في ضياع أولادي .
فماذا أفعل؟ هل أبقى معه وأخاطر بأولادي أم أتوكل على الله و أفر بديني؟ .فهل أجد لديكم ما يدفعني للمضي قدما مطمئنة القلب دون خوف أو تردد؟ .أسأل الله ذلك و السلام عليكم و رحمة الله . أختكم في الله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن طاعة المرأة زوجها في المعروف واجبة، ومن المعروف ألا يأمرها بمعصية الله، ووعد الله جل وعلا المرأة على هذه الطاعة والصبر عليها بالأجر الجزيل. فقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت". رواه أحمد. وقال صلى الله عليه وسلم: " خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك". ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( الرجال قوامون على النساء…) [النساء:34] رواه الطبري وأبو حاتم. ولاشك أن المرأة لا يجوز لها أن تطاوع زوجها على الإقامة الدائمة في
بلاد الكفر من غير ضرورة ملجئة، لأنها معصية عظيمة فقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم" رواه أبو داود والترمذي والنسائي والطبراني. وقال صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال: " لا ترايا ناراهما" رواه أبو داود والترمذي. فإذا كان زوجك لا يعارض الرجوع إلى بلدكم، ولكن يريد أن يهيئ الظروف المناسبة لذلك، فإن طاعتك له في الانتظار لا تعد من باب المعصية، بشرط أن لا تطول مدة الانتظار بحيث يفتن الأولاد، فإن كانت فتنة الأولاد وشيكة وقد ظهرت علاماتها بتأثرهم بمساكنة الكفار، فالواجب هو الخروج بهم فوراً إلى ديار المسلمين. وحاولي إقناع زوجك بذلك، ولتضعوا حداً وزمناً معيناً لا تتجاوزنه. وإذا كانت ظروف بلادكم لا تناسب، فابحثوا عن مكان آخر أقل فتنة حتى تتدبروا أمركم. وإذا كان زوجك صالحاً مستقيماً فخذي الأمر معه برفق، وتفهمي ظروفه، فإن طال الأمر، وغلب على الظن الافتتان أو الخروج، فإن أصر على البقاء فالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أولى بالطاعة. فرتبي لنفسك وأولادك أمر الهجرة من تلك البلاد متوكلة على الله، والله لا يضيع من توكل عليه.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
التوفيق بين تحريم المرأة على الكافر وبقاء زوجة أبي طالب في عصمته
تاريخ 05 ربيع الأول 1422 / 28-05-2001
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فضيلة الشيخ:
هل مات أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم كافرا أم مسلما وكيف ذلك؟ علماً أن زوجته فاطمة بنت أسد من أوائل الداخلين في الإسلام وكيف سمح الرسول صلى الله عليه وسلم ببقائها على ذمته لحين وفاته. والسلام عليكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/78)
فإن أبا طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مات كافراً، لا يوجد في ذلك خلاف معتبر بين أهل العلم، وقد روى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عماه قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة"، فقال: لولا أن تعيرني قريش يقولون: ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك، ولا أقولها إلا لأقر بها عينك، فأنزل الله عز وجل: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).
وهكذا قال عبد الله بن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة: إنها نزلت في أبي طالب، حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا إله إلا الله.
وروى البخاري من حديث عباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار".
وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه".
وفي رواية: "تغلي منه أم دماغه".
وروى مسلم من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه".
وأما سماحه صلى الله عليه وسلم ببقاء فاطمة بنت أسد في عصمة أبي طالب، فإن ذلك كان قبل تحريم بقاء المؤمنات تحت الكفار، لأن أبا طالب مات عام الحزن، وهو قبل الهجرة بثلاث سنين، وتحريم بقاء المؤمنات في عصم الكفار نزل في صلح الحديبية عام ستة من الهجرة.
أخرج الشيخان عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءت نساء من المؤمنات، فأنزل الله: (يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات...) إلى قوله تعالى: (... ولا تمسكوا بعصم الكوافر)، وأخرج الواحدي عن ابن عباس قال: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم، ومن أتى من أهل مكة من أصحابه فهو لهم، وكتبوا بذلك كتاباً وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها وكان كافراً، فقال: يا محمد رد علي امرأتي، فإنك قد شرطت علينا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله هذه الآية.
فوفاة أبي طالب، ونزول تحريم بقاء المؤمنات في عصم الكفار بينهما تسع سنين. والعلم عند الله تعالى.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
حكم من ركب البحر ومات في ما يسمى (بالهجرة السرية)
تاريخ 27 ربيع الثاني 1422 / 19-07-2001
السؤال
كيف تعتبر وفاة شخص قام بالهجرة السرية من بلاده نحو بلاد أخرى ثم توفي في البحر؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الأصل في ركوب المراكب البحرية هو الجواز إذا كانت السلامة غالبة، وكانت وجهة السفر من الوجهات التي أذن الشرع في السفر إليها.
ولا شك أن أيا من الشرطين لا يتوفر الآن فيما يسمى بالهجرة السرية، فلا السلامة غالبة، ولا الوجهة يجوز السفر إليها إلا في نطاق ضيق، فإذا نظرنا إلى ما يحف بهذه الهجرة من المخاطر والتعرض للمطاردات التي قد تنتهي في أحيان كثيرة بغرق هؤلاء المهاجرين، أو بإلقاء القبض عليهم والزج بهم في السجون وغير ذلك من الإهانة، رأينا أنها تتنافى مع ما اتفقت عليه جميع الأديان السماوية من وجوب حفظ النفس، كما أنها تؤدي إلى الاستسلام للكفرة، وإذلال النفس لهم، والمسلم لا يجوز له أن يذل نفسه، وقد أعزه الله تعالى، كما قال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8].
يضاف إلى ذلك أن هذه الهجرة غالباً ما تكون إلى بلاد الكفر، وقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم من المسلم الذي يقيم بين أظهر المشركين، كما في سنن أبي داود والترمذي.
والحاصل أن من أقحم نفسه في البحر مهاجراً على نحو ما ذكر، فقد عرض نفسه للتهلكة، وإن مات مات في سفر معصية، وأقل أحواله أن يكون آثماً معرضاً نفسه لما يجب عليه حفظها وصيانتها منه.
والله تعالى أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم التزوج بمقيمة بدار الكفر، والإقامة معها
تاريخ 24 شعبان 1422 / 11-11-2001
السؤال
ماحكم الزواج بفتاة قاطنة(تسكن) بالديار الأوربية وذلك من أجل العمل هناك أي سيتم الذهاب إلى ذلك البلد الأوربي بسبب تلك الفتاة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا كان الزواج من هذه الفتاة سيسبب لك المقام في بلاد الكفار، فلا يجوز لك القدوم عليه، لأن الهجرة أو السفر إلى بلاد الكفر لا يجوز، إلا بوجود شروط معينة ذكرها العلماء، ولأغراض خاصة، وليس الزواج وطلب العيش منها، وانظر ما كتبناه في هذا الموضوع تحت رقم: 2007
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===========
لا تستطيع لبس الحجاب لظروف قاهرة...نظرة شرعية
تاريخ 22 شوال 1422 / 07-01-2002
السؤال
مشكلة تتمثل في أني أعيش فى دولة تمنع المراة المسلمة من ارتداء الحجاب و لكن رغم كل شيء فأنا أرتدي الحجاب ولكن تعرضت الى عدة مشاكل و منها أني مسكت فى مركز ااشرطة و استعملوا معى ابشع الألفاظ لكن لم انزع الحجاب و انتقلت من المعهد كنت ادرس فيه الى معهد اخر وتعرفت على بنت وهداها الله الى الحجاب ولكن بدؤوا يقلقونها ولكن بصدق انا خائفة ان امسك نعم انامستعد للع>اب لكن لست مستعدة ان اخسر شرفى لانهم ا>ا امسكت ساغتصب من طرف ه>ه اادولة ااظالمة و فى نفس ااوقت لست مستعدة ان انزع فرض الله لاني احس بنفسى عارية ارجوك ارشدنى فانا تعبت و لا اعرف ماافعل وانا عمرى 18سنة ساعدنى ارجوك ارجوك
الفتوى
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإننا نقول لهذه الأخت الكريمة أعانك الله على ما أنت فيه من البلاء وكتب الله لك الأجر والثواب ووفقك للثبات على الحق.
وبالنسبة لحالتك فالجواب هو أنك إن استطعت الهجرة من هذا البلد إلى بلد آخر وجب عليك فراراً بدينك، وحفاظاً على إيمانك وعفتك وعرضك، وإن لم تتمكني من ذلك، فالأمر فيه تفصيل.
فإن كان ارتداؤك للحجاب سيؤدي إلى ضرر في نفسك أو أعضائك أو عرضك أو عقلك، فعند ذلك يجوز لك كشف ما يدفع عنك ذلك، لأن الضرورات تبيح المحظورات ولكن يكون ذلك بضوابط، منها: ألا تخرجي من بيتك إلا لضرورة، فإن لم توجد الضرورة وجب القرار في البيت اتقاء للمعصية بترك الحجاب، وأن يكون الكشف في حدود ما يدفع عنك ذلك.(3/78)
وأما إن كان لبسك للحجاب لا يؤدي إلى ضرر كبير، بحيث يمكنك تحمله مع المشقة والاغتمام، ولا يؤثر على حياتك أو عرضك أو أعضائك أو عقلك، فهذا لا يجوز لك معه خلع الحجاب، وعليك في هذه الحال أن تصبري ولك الثواب الجزيل كما قال تعالى عمن أوذوا في سبيله: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) [آل عمران:195]
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
لا يحكم على المسلم بالكفر بإقامته بدار الكفر.
تاريخ 07 جمادي الأولى 1424 / 07-07-2003
السؤال
ماهي دار الكفر و ماهوحكم الذين يعيشون في هذه الدار، هل هم مسلمون أم كفار أم مشركون، أرجو الإجابة بالتفصيل.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن دار الكفر هي الدار التي تجري فيها أحكام الكفر، ولا يكون العز والمنعة فيها للمسلمين، وقد سبق بيان ذلك مدعمًا بأقوال أهل العلم في الفتوى رقم: 7517. وقد يعيش في هذه الدار المسلم أو الكافر، إذ لا يلزم من مجرد الإقامة في دار الكفر كفر من فعل ذلك إن كان في الأصل مسلمًا، لكن قد يحكم عليه بوجوب الهجرة من دار الكفر أو استحبابها حسبما تقتضيها حاله من حيث تمكنه من إقامة شعائر دينه أو عدم تمكنه من ذلك على تفصيل قد سبق أن بيناه في الفتوى رقم: 12829. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الهجرة الهجرة يسلم لك دينك.
تاريخ 20 جمادي الأولى 1424 / 20-07-2003
السؤال
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته أنا فتاة هداني ربي لهذا الدين الرائع الشامل والحمد لله رب العالمين أداوم على الصلاة ومتحجبة. مشكلتي أنني أتتمنى أن أغطي وجهي ولا أستطيع نظرا لشغلي، لأنه مصدر عيشي، أنا لست متزوجة، وأعيش بمفردي في الغربة، أنا كثيرة الحزن من هذه الناحية مخافة من رب العالمين وإرضاء له أفيدوني جزاكم الله الخير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يزيدك حرصًا على الخير، وأن يرزقك الثبات على الحق. وبخصوص سؤالك فإن تغطية الوجه واجبة على المرأة، فلا يحل لها كشفه إلا لزوج أو محرم. كما سبق أن بينا ذلك في الفتوى رقم: 5224.
إذا ثبت هذا فلا يجوز لك الاستمرار في هذا العمل الذي يترتب عليه التفريط في واجب من الواجبات، بل لا تجوز لك الإقامة في هذا البلد بدون وجود زوج أو محرم. ثم إن الأخطر على دينك وجودك في بلاد كفر، إذ أن الإقامة في بلاد الكفر قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. رواه أبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
فالهجرة الهجرة يسلم لك دينك، وتنالي رضا ربك.
ولمزيد من الفائدة راجعي الفتاوى التالية: 11071، 3859، 10334.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
اعتزال المجتمعات الفاسدة... وتفصيل القول فيه
تاريخ 13 رجب 1424 / 10-09-2003
السؤال
يا فضيلة الشيخ هل يجوز أن يعتزل المسلم المجتمعات الفاسدة الكافرة إلى الجبل اعتمادا على ما جاء في بعض الأحاديث النبوية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن الأمر في مسألة الهجرة من مظان الفتن يختلف حكمه باختلاف أحوال الناس والبلدان، وقد سبق تفصيل القول في هذه المسألة في الفتوى رقم: 12829. وهذا في من كان من أهل تلك البلاد أصلاً، أما من قدم إليها من المسلمين فتجب الهجرة في حقه إلى حيث يأمن على دينه، ما لم تكن هنالك ضرورة أو مصلحة راجحة، وتراجع في هذا الفتوى رقم: 2007. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الحجاب في بلاد الكفر أحرى بالتطبيق
تاريخ 16 شوال 1424 / 11-12-2003
السؤال
ما حكم الحجاب بالنسبة للأقليات في فرنسا مثلا، أفادكم الله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فإن الحجاب قد أوجبه الله على المرأة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب:59]. ولا ريب في أن التفريط في أمر الحجاب والتهاون فيه مما يفضي إلى انتشار الفساد وشيوع الرذيلة والمنكرات، وهذا الحكم عام لكل مسلمة في أي بلد، بل هو في بلاد الكفر أحرى بالتطبيق، وإذا كان المسلم لا يستطيع إقامة أمور دينه وإظهار شعائره وجبت عليه الهجرة عن بلاد الكفر، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:97]. وبناء على ذلك، فإن المرأة في فرنسا أو غيرها من دول الكفار، إما أن تلتزم بالحجاب وغيره من العبادات والشعائر، وإما أن تهاجر إلى بلاد الإسلام، إن قدرت على ذلك وكانت تتمكن من إقامة الدين كله، وإظهار الشعائر، وراجعي في الموضوع الفتوى رقم: 10334. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
ترك القيام في الصلاة لا يسوغه وجود المسلم في دولة كافرة
تاريخ 29 شوال 1424 / 24-12-2003
السؤال
بيم الله الرحمن الرحيم سؤالي هو كالتالي: هل يجوز لي أن أتيمم وأصلي العصر وأنا جالس، لأني خفت أن يفوتني وقت الصلاة، وجالس لأني في الشارع ولأني في دولة كافرة؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فالأصل في الطهارة للصلاة أن تكون بالماء، ولا يجوز العدول عنه إلى التراب إلا لمسوغ شرعي، ومن المسوغات الشرعية للعدول عن الوضوء إلى التيمم ضيق الوقت عند بعض العلماء، فلو كان بحثك عن الماء أو انشغالك بالوضوء يترتب عليه خروج وقت الصلاة، فلا حرج عليك إن شاء الله في التيمم، وإلا فلا يجوز لك التيمم. وبخصوص صلاتك وأنت جالس والحال ما ذكرت، فلا تجوز لأنك قادر على القيام، ووجودك في دولة كافرة ليس مسوغاً لذلك، إلا إذا غلب على ظنك أن يترتب عليك ضرر من ذلك، ولم تجد مكاناً آمناً تصلي فيه قائماً. وننبهك إلى أنك إن كنت عاجزاً عن إقامة شعائر دينك في بلاد الكفر، فالواجب عليك الهجرة إلى بلد تستطيع فيه ذلك، ولا يجوز لك البقاء في بلاد الكفر من غير ضرورة، وراجع لمزيد من الفائدة الفتوى رقم: 5537، والفتوى رقم: 16686، والفتوى رقم: 714. والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
الفرار بالدين للنجاة من الفتن عين السلامة
تاريخ 07 جمادي الثانية 1425 / 25-07-2004
السؤال(3/78)
أنا مسلم ملتزم دينيا وتعلقي بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن والاهم من المؤمنين كبير وأنامتزوج وأعيش في بيت والدي مع إخوتي ولكن أعيش في منطقة مليئة بالفساد من المتبرجات والزواني والكافرين والمبتدعين في الدين والفاجرين وبيوت الدعارة الذين يأتون من الخليج ظانين بأنه بأموالهم سوف يشترون نساء العالم فأحسست بأن قلبي يذوب في صدري فتيقنت بأني على طريق الإيمان مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يأتي على أمتي زمان يذوب قلب المؤمن في جوفه من كثر المعاصي والفجور ولأنه لا يستطيع أن يغير شياً ولكن أخذ نظري يزيغ إلى المتبرجات رغم أني أستغفر الله بعد ذلك لكن عبادتي أخذت بالتراجع رغم حبي لله سبحانه وتعالى وشغلتني الدنيا بالعمل من الصباح حتى المساء ((اعذروني لأني أطلت عليكم )) ولكني قررت مايلي عملاً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يأتي زمان على أمتي يهرب المرء بدينه في شعب الجبال يرعى الغنم خوفاً على دينه فتعرفت على منطقة ريفية في حوران عرف عن أهلها الدين والأخلاق والحياء وفيها مسجد مصلوه قلة رغم أنهم يصلون ولكن في البيوت فقررت أن أنتقل إلى تلك المنطقة بعد صلاة الإستخارة فيسرالله لي عملي في هذا المسجد وأمل أن أكون داعية ومقيما في ذلك المسجد عابداً متهجداً وأنا أعمل صباحاً في وظيفتي لكسب الرزق وهروباً من الفجور والكفر والفساد ولكن أمي وأبي و زوجتي لا و لن يوافقوا وقالت لي زوجتي اذهب لوحدك فهل :
1 - يحق لي أن أغضب أهلي وأن اترك زوجتي وإن كان لا يحق لي ذلك فهل يحق لي ظلم نفسي فأنا أخاف على نفسي من الفساد وعلى و لدي الذي اسمه جهاد وأنا أربيه على الجهاد والدين الصحيح وليس على البدع والفساد فأنا على يقين أني في تلك البلدة المحافظة سأحفظ ديني ودين أهلي وولدي في المستقبل أرجوكم أفتوني ماذا أفعل هل أرد على أهلي أم على نفسي بالهرب بديني
2 - أرجو إعطائي نبذة عن من هم المفتون في المجلة وهل الشيخ محمد حسان منهم
جزاكم الله خيراً و أدامكم للمسلمين
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى لنا ولك الثبات والتوفيق وحب الله تعالى وحب رسله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
ولتعلم أن أغلى ما يملك المسلم وما يجب أن يحافظ عليه هو دينه، فإذا كان في مكان لا يستطيع فيه إقامته أو يخشى من الفتنة والانحراف فإن عليه الفرار بدينه إلى مكان ينجو فيه من الفتن، فالسلامة لا يعدلها شيء، والفرار إلى الله تعالى هو عين السلامة.
وعلى ذلك، فما دام انتقالك من مكان الفساد لا يؤدي إلى خروجك من البلد بالكلية، وبالإمكان أن تصل والديك وأرحامك في كل وقت، فإن عليك أن تنتقل عن مكان الفساد إلى مكان تقيم فيه دينك ولا تخشى من الفتنة.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح عند شرح حديث: لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. والمعنى أن الهجرة هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن، والنية في جميع ذلك.
ولقد أحسن من قال:
إذا شاع في أرض فساد ومنكر وليس بها ناه مطاع وزاجر
ففر ولا تصبح مقيما ببلدة يقل بها عرف وتفشو المناكر
فإن عقاب الذنب عند خفائه يخص وإن يظهر يعم المجاور
وهذا المعنى مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: وما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن فيه أسلافهم. رواه الحاكم والبيهقي.
وأما عن المفتين فهم لجنة من طلاب العلم الشرعي ممن تمرس على الفتيا والبحث العلمي المؤصل، وتتبنى منهج أهل السنة والجماعة في النظر والاستدلال، وفي التعامل مع المخالف من غير تعصب.. ويرأس اللجنة أحد العلماء المعروفين بدولة قطر هو الدكتور عبد الله الفقيه.
وأما عن فضيلة الشيخ محمد حسان حفظه الله فليس من ضمن أعضاء اللجنة، ولعلمكم الكريم فهذا الموقع موقع الشبكة الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف بدولة قطر.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
الكتابية وغيرها من الكوافر إذا أسلمت قبل زوجها
تاريخ 29 رجب 1425 / 14-09-2004
السؤال
عن حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن الإمام علي رضي الله عنه قوله عن المرأة تسلم قبل زوجها: هو أملك ببضعها ما دامت في دار هجرتها فما صحة ذلك؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن النص الذي أشار إليه السائل الكريم هو ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن علي قال: هو أحق بها ما داما في دار الهجرة. ورواية أخرى عن علي أيضاً قال: إذا أسلمت النصرانية أو امرأة اليهودي كان أحق ببضعها لأن له عهداً. انتهى.
لكن الذي عليه جمهور أهل العلم أن الكتابية وغيرها من الكوافر إذا أسلمت قبل زوجها تعجلت الفرقة، ثم إنه إن أسلم في عدتها كان أولى بها من غير أن يحتاج إلى عقد جديد أو مهر.
قال في المغني: فإن أسلمت الكتابية قبله تعجلت الفرقة، سواء كان زوجها كتابيا أو غير كتابي؛ إذ لا يجوز لكافر نكاح مسلمة. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من يُحفظ عنه من أهل العلم. انتهى.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن زوجها إذا أسلم كان له ارتجاعها ولو بعد انقضاء عدتها ما لم تتزوج، وقد أيد ابن القيم رحمه الله هذا القول، وبإمكانك أن تطلع على المزيد من الفائدة في الفتوى رقم: 25469.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
إصرار الزوجة على الخروج والسفر بغير رضا الزوج يعتبر نشوزا
تاريخ 12 شعبان 1425 / 27-09-2004
السؤال
أنا متزوج منذ أكثر من سنة وزوجتي جارتي لكن لديها الجنسية الفرنسية وذلك يسمح لنا العيش في فرنسا حيث المعيشة أحسن وفرص العمل متوفرة, والد زوجتي لم يرد أن يعطيها وثائقها وهذا ما جعلها دائمة متوترة سعيت بكل جهدي لأخفف عنها وذلك حتى أنني أسمح في حقي أحيانا كزوج , ستتزوج ابنة خالها وطلبت مني أن تذهب إلى العرس على بعد 400 كلم فرفضت لأسباب منها عدم وجود النقود وطول المدة التي ستقضيها وقالت سأذهب حتى ولو كلفني هذا الطلاق وطلبت مني أن آخذها إلى منزل والديها فرفضت وخرجت من المنزل وأنا أكتب لكم لا أدري إن ذهبت لوحدها أم لا مع العلم أن والديها لا ينهيانها عن المنكر و أنا أعمل بقوله تعالى إن أبغض الحلال عند الله الطلاق و أنا لا أريد أن أطلقها أطلب منكم نصحي في كلتا الحالتين إن ذهبت أو لا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن ما قامت به زوجتك من خروجها عن طاعتك وإصرارها على الخروج والسفر بغير رضاك يعتبر نشوزا، ولكن لا يجب عليك طلاقها، وكنا قد أوضحنا الخطوات التي يتبعها الزوج في حال خروج زوجته عن طاعته في الفتوى رقم:(3/78)
17322، كما بينا حكم سفر المرأة بدون إذن زوجها وبدون محرم في الفتوى رقم: 3449 والفتوى رقم: 21016، والواجب على هذه الأخت أن تتقي الله تعالى وتطيع زوجها فلا تخرج إلا بإذنه؛ لأن له الحق في أن يمنعها من الخروج إلى ما يباح لها الخروج إليه فكيف بخروجها وسفرها إلى مناسبة قد تكون مشتملة على بعض المنكرات من اختلاط أو غيره، ولا يجوز لها أن تطلب الطلاق بغير ضرر أو تتسبب فيه، ولذلك يرجى مراجعة الفتوى رقم: 2019، كما يجب على والدها أن ينهاها عن المنكر ومنه الخروج عن طاعة زوجها، ويأمرها بالمعروف ومنه طاعة الله تعالى، ثم طاعة زوجها.
والواضح من السؤال أنك تريد السفر صحبة زوجتك إلى بلاد الغرب من أجل تحسين المعيشة، ولشروط جواز السفر والإقامة في تلك البلاد راجع الفتوى رقم: 44524، ولعل والد زوجتك منعها الوثائق اعتراضا على سفرها إلى هناك، فإن كان منعه إياها لسبب شرعي وهو عدم وجود ضرورة تبيح لكما الهجرة إلى تلك البلاد فهو محق في ذلك، وإن كانت ثم ضرورة تبيح ذلك فلا يحق له أن يمنعها الوثائق الضرورية للسفر مع زوجها، هذا مع أن التجنس بجنسيات الدول غير المسلمة لا يجوز إلا في حالات خاصة كنا قد ذكرناها في الفتوى رقم: 26795.
واعلم أن النص الذي أشرت إليه ليس آية من القرآن ولا حديثا قدسيا وإنما هو حديث رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه السيوطي وضعفه الألباني، ولفظه: أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
متى يجوز للمرأة السفر بدون محرم
تاريخ 19 شوال 1425 / 02-12-2004
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تسافر لوحدها بهدف ممارسة الدين بحرية (لأنها لا تستطيع لبس الحجاب في بلادها ولا تعلم الدين ولا الدعوة إلى الله) وهي أيضا تريد السفر من أجل مزاولة الدراسات الإسلامية لأن في بلادها لا يوجد مجال لهذه الدراسات ولا يوجد الكثير من الناس الذين هم على قدر كاف من العلم ولا دعاة جديرين بهذه التسمية(أو ربما هم لا يستطيعون القيام بالدعوة) مع العلم أن ليس لديها لا أب ولا أخ و لا زوج(أي محرم قريب لكي يسافر معها) 2-هل يجوز أن يكون لدي أصدقاء غربيون وأصدقاء من البلاد التي هي في حال حرب مع المسلمين.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المرأة إذا كانت في بلد لا تستطيع فيه القيام بدينها، ولا يمكنها أن تقر في بيتها لحاجتها للخروج لحوائجها، وكانت يفرض عليها عدم التمسك بدينها إذا خرجت، فإنه يجوز لها الهجرة منه لبلد تحافظ فيه على دينها وأخلاقها وعرضها من دون محرم إذا تعسر وجود محرم. فإن أمكن وجود المحرم أو أمكن أن تعرض نفسها على رجل صالح يتزوجها فإن عليها أن تحرص على خروج المحرم معها حتى يوصلها لمكان هجرتها، ولا يلزم أن يجلس معها بل يكفي أن يسافر معها حتى تصل ثم يرجع. ويدل لجواز هجرتها من دون محرم في الحالة السابقة ما ثبت من هجرة بعض الصحابيات من دون محرم إلى المدينة، فقد هاجرت أم سلمة رضي الله عنها من دون محرم. وراجع للزيادة في هذا الموضوع الفتاوى التالية أرقامها:
31768 ، 47032 ، 12498 ، 48251 .
وأما اتخاذ الأصدقاء فإن كان المسؤول عنه اتخاذ المرأة أصدقاء رجالا فهو محرم، وأما اتخاذ الرجل أصدقاء أو اتخاذ المرأة صديقات ففيه تفصيل قدمنا فيه فتاوى سابقة خلاصتها أنه لا يجوز محبة الكفار ولا موالاتهم، ويجوز التعامل معهم في حدود الشرع ومجالستم لحاجة، وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 23135 ، 10327 ، 25510 ، 7885 ، 11507 ، 15030 ، 11945 ، 54149.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
================
الهجرة وإذن الوالد
تاريخ 18 صفر 1426 / 29-03-2005
السؤال
أنا شاب من بلد عربي علماني. أحس بأني لا أستطيع إقامة ديني في بلدي: فقد كثر الفجور والباطل والفتن، والحرام مستباح…وأصبح من الصعب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعم الجهل فلا تجد من تستفتي ولا من يعلمك أمور دينك إلا عن طريق الوسائل الحديثة كالفضائيات والأنترنت، وهناك ضغوط على مظاهر الالتزام، ومنع للصدع بالحق، مما جعل كثيرا من الناس يخافون من الالتزام، إضافة إلى أنه من الصعب جدا إذا أنجبت أبناء تربيتهم كما يجب في هذه الظروف. وأنا أريد الهجرة إلى بلد أن تكون العفة فيه أفضل حالا والزواج أيسر، ويكون العلم الشرعي متوفرا، فإن شئت تفرغت لطلب العلم، وإن شئت مارست عملا ووجدت بيئة تعينني على تعلم ديني وقضاء حياة خالصة لوجه الله تعالى. المشكل أن أبي لن يستوعب هذا…فهو كل ما يريد، أن يراني في وظيفة مرموقة، وأن أشتري سيارة، وأن أتزوج عاجلا وأنجب الأبناء، وأن أبني بيتا…
فإذا رفض هجرتي، هل يجوز لي السفر دون إذنه؟ وما هو الأولى، علما وأنه قد يهددني بأن لا يرضى عني أبدا…؟ والذي يقلقني أكثر أن أبي أصبح رجلا كبيرا، وهو يشكو من ارتفاع ضغط الدم خاصة عند الغضب، وأخشى أن تسبب مواجهتي له وموقفي صدمة له قد أخاف عقباها…
وإن لم يجز لي ذلك، فإلى متى أبقى رهين إذنه؟ هل إلى أن أتزوج؟ أسألكم النصح، وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين عامة وحال بلادكم خاصة، واعلم أخي أن حكم الهجرة من بلدك الندب إن كنت تستطيع أن تقيم شعائر دينك ولا تخشى الفتنة على نفسك. وطاعة أبيك فيما لا معصية فيه واجبة، وهو بحاجة إلى رعايتك وعنايتك، فكن عونا له على أمر دينه ودنياه ، وأما إن كنت قد عجزت عن إقامة شعائر الدين وكانت الفتنة في دينك متحققة أو يغلب على الظن وقوعها، فيجب عليك الهجرة ولو لم يأذن والدك، وانظر الفتوى رقم: 12829 وفقك الله لطاعته.
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
ترك الهجرة طاعة للأم
تاريخ 25 صفر 1426 / 05-04-2005
السؤال
أنا طالب في الجامعة، كنت على صداقة مع فتاة، ثم تبنا إلى الله على أن نتزوج بعد إنهاء الدراسة، ولكن بقي كل منا يحب الآخر ، من جهة أخرى أحس أن حياتي الدينية ضاقت بي في بلدي، وأني مفتون في ديني، وأنا الآن بين نيران ثلاثة (أريد الفرار بديني وأهاجر إلى بلد آخر- أمي ترفض ذلك بشدة- أخشى أن تنهار صديقتي السابقة إذا تركت وعدها بالزواج)، وأنا أشعر بالذنب إن حصل لها مكروه، أفيدوني أفادكم الله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تقدم في فتاوى سابقة منها الفتوى رقم: 48193 حكم الهجرة من بلاد الفسق والكفر والتي يجد فيها المسلم مضايقة وفتنة في دينه، وبينا أن المسلم يجب عليه أن يهاجر من هذه الأرض إذا كان لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه أو لا يأمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتنة.
أما إذا كان يستطيع أن يقيم شعائر الدين ويأمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتنة فإنه يستحب له أن يهاجر من هذه الأرض ولا يجب عليه ذلك، وعليه فإن انطبقت عليك الحالة الأولى وهي أن لا تستطيع أن تقيم شعائر دينك ولا تأمن على نفسك من الوقوع في الفتنة، فيلزمك الهجرة وإن لم ترض والدتك، وأما في الحالة الثانية فطاعة أمك مقدمة على الهجرة.
وأما عن حكم الصداقة مع الفتاة الأجنبية فانظره في الفتويين التاليتين: 10271، 4220.
ولا حرج عليك في الزواج من هذه الفتاة، بل ينبغي لك الوفاء بالوعد الذي أعطيتها إياه، لا سيما إن كانت مرضية في دينها وخلقها.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى(3/78)
==============(3/78)
ممارسة الرذيلة في الغرب وكيفية المواجهة
تاريخ 02 ربيع الثاني 1426 / 11-05-2005
السؤال
لقد حضرت البارحة محاضرة عن كيفية وجود المرأة واندماجها في المجتمع الغربي، وماذا يمكن لها أن تقدم لهذا الأخير من تعاليم الإسلام العظيمة، ولقد حز في نفسي أمر أليم لما علمت أن هناك أخوات مسلمات على حد قولهن ويقمن الصلاة ويصمن رمضان، ويتاجرن بأنفسهن في الدعارة مقابل أموال كثيرة، كانت الأخت المحاضرة مليكة حميدي وهي عضو مهم بحضور المرأة المسلمة بأوروبا ومهماتها الواجبة عليها تحكي لنا قصة بنت تعمل هكذا وتقول لها أنا مسلمة وطبعا بعد تكلمها معها ومحاولتها معها بإيجاد عمل لها كبائعة في محل بديلا لترك ماهي عليه من المعصية تقول لها هاتفيا بعض المرات أتعلمين أنا أتعب في قضاء كل اليوم لأجر كنت أتقاضاه في ساعة فقط، لا حول ولا قوة إلا بالله، شعرت بغيرة على ديني وبألم فظيع في قلبي فقلت من المسؤول عن كل هذا، هي تقول (المحاضرة) إننا يجب أن نرحمهم ونساعدهم في ترك الرذيلة، لكننا نخاف منهم على أولادنا ولا ننظر إليهم نظرة الرحمة باعتبارنا أنهم هم المسؤولون باتخاذهم طريق الشيطان والمعصية، فما موقف الإسلام من هذا، ماذا يجب علينا فعله اتجاههم، هل يجوز لي في الإسلام أن أنقل محاضرات ودروس في العفة مثلا وكل ما تحتاجه المرأة المسلمة من الشبكة الإسلامية وإلقاؤها على الأخوات في المسجد، لأني أعرف أن هناك حديثا يقول: أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار. هل هذا صحيح، وقال الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه: الدين النصيحة. فأنا من عادتي دائما أتكلم في الدين وما أن أعلم بآية تحريم أو حديث حتى أذكره في الجميع مبتغية في ذلك وجه الله تعالى وغيرة على إسلامي ــأني لا أملك شهادات ومستواي الباكالوريا بالمغرب، لكن دائما أشغل سمعي بالمحاضرات والدروس ولله الحمد، أفيدوني؟ جزاكم الله خيراً كثيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنشكر لك غيرتك على هذا الدين العظيم وغضبك لله عندما رأيت محارمه تنتهك، وهذا من مقتضيات الإيمان ولوازمه، ولقد بينا في الفتوى رقم: 61716 الواجب تجاه هؤلاء النسوة الفاجرات، وذكرنا المسؤول عنهن فراجعيها.
ونؤكد على وجوب الإنكار على هؤلاء النسوة بقدر المستطاع وتخويفهم بالله العظيم وبأليم عقابه، وبأن الموت يأتي فجأة ثم نلقى الله فيسألنا عن الصغير والكبير والنقير والقطمير مما عملناه في الدنيا، قال الله تعالى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ {المجادلة:6}، وقال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {الحجر:92-93}، وقال أيضاً: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ {الصافات:24}.
فالدين النصيحة، وقد يستيقظ إيمانهن المخدر، فيثبن إلى رشدهن ويرجعن عن غيهن، وأما قول بعض هؤلاء الداعرات الفاجرات أن ممارسة الرذيلة أيسر من كسب الرزق الحلال، مع أنها تصلي وتصوم، فإن هذا من انتكاس الفطرة وارتكاسها، ونسيان الله والاستهانة بأمره ونهيه، ونخشى أن يؤدي ذلك إلى استحلال هذه الكبائر فيقعن في الكفر بالله العظيم، قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {النور:63}، وقد قال صلى الله عليه وسلم: اتق المحارم تكن أعبد الناس. فليس أعبد الناس من زاد في الصلاة والصيام، وإنما من كف نفسه عما حرم الله واتقى ما يسخطه سبحانه.
وأما كونك تتحرجين من الدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة الخوف من التجرؤ على الفتيا، فنقول لك: إن مقام الفتيا يختلف عن مقام الدعوة والنصيحة، والفتيا ليست لكل أحد، وإنما لأهل العلم الذين توفرت فيهم شروط الإفتاء وأجيزوا بذلك.
أما الدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك لكل من علم من الشريعة ما يدعو إليه أو ينهى عنه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: بلغوا عني ولو آية. وانظري الفتوى رقم: 60894 وما تفرع عنها من فتاوى.
ونزيدك أن ممارسة الدعوة إلى الله، والاشتغال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أسباب الاستقامة على أمر الله، خاصة في البلاد التي تعج بالمنكرات مثل بلاد الغرب، وانظري الفتوى رقم: 19186، والفتوى رقم: 8580.
هذا، وإن خوفك على أبنائك من التأثر بالنساء الفاجرات هو خوف في محله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة. رواه مسلم.
وعلى هذا، فإن الواجب عليك تحصينهم بالعلم النافع، وتقوية الوازع الديني عندهم، وتهيئة المحضن التربوي الذي ينشؤون فيه على مراقبة الله في جميع أحوالهم، فيؤدون الصلاة على وجهها، وتلتزم البنات منهن بالحجاب الشرعي، ومع متابعتك لاستقامتهم على أمر الله فإنه يجب عليك الانتباه لأصدقائهم، فتشاركيهم في اختيارهم، فإن الصاحب ساحب، والطباع سراقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: المرء على دين خليله... رواه أبو داود والترمذي.
هذا وإن كنت غير قادرة على إظهار شعائر دينك، وليس عندك من العلم ما تدفعين به عن نفسك الشبهات التي قد ترد عليك، وليس عندك من التقوى ما تدفعين به الشهوات، وأمكنك الهجرة إلى بلاد المسلمين، فإن الهجرة تجب عليك حينئذ، وانظري الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 10043، 37470، 2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
لا تخرج المرأة بدون إذن زوجها
تاريخ 27 ربيع الثاني 1426 / 05-06-2005
السؤال
يا شيخنا جزاك الله عنا كل الخير بإجابتك على أسئلتنا
الصراحة إنني أصبحت غير آمنة علي نفسي من زوجي فأنا أعيش في دولة أجنبية بعيدة عن أهلي أنا لي منه طفلان ولد وبنت لذلك أريد أن أتعلم اللغة الانجليزية وان أبحث لي عن عمل دون معرفة زوجي بالنسبة للعمل لا يمكن لي العمل الآن أما بالنسبة لتعلم اللغة فإني في أمس الحاجة لها حتى وهذه ليست شكوكا وإنما أنا متأكدة من ذلك نظرا أنه لم يجعلني أمضي معه في عقد الشقة التي نتواجد فيها حاليا لأني كنت في العاميين الماضيين أمضي معه وكنت سأشك في ذلك وأكذب نفسي إلا أنني كنت قد رأيت رسالة من مكتب الإيجار هنا يطلب جميع الأدوات الموجود في شقتنا بالتواجد في مقر المكتب إلا أن زوجي لم يقل لي أو يطلب مني ذلك
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من حقك أن تأمني على نفسك وتطمئني على حقوقك، وقد فرض الله تعالى لك على زوجك السكنى والنفقة والكسوة بالمعروف، كما فرض عليه أن يؤمنك، وحرم عليه أذيتك والضرر بك بغير حق شرعي.
ولكن لا يجوز لك أن تتجاوزي حدود الله تعالى بالخروج من بيتك بدون إذن من زوجك، أو تضيعي أمانتك وتربية أبنائك ورعايتهم.
وبإمكانك أن تنصحي زوجك وتبيني له ما تخشين من أمره، فإذا لم يستجب استعنت عليه بجماعة المسلمين، أو من يهمهم أو يعنيهم هذا النوع من الأمور حتى ينصفوك.
وبخصوص تعلم اللغة الأجنبية فلا مانع شرعا من تعلمها ما لم يترتب على ذلك مانع شرعي خارج.
وكذلك لا مانع شرعا من عمل المرأة إذا ضبط بالضوابط الشرعية من الالتزام بالحجاب، وعدم الخلوة بالأجانب والتأدب بالآداب والأخلاق الشرعية، وقد سبق الكلام على حكم عمل المرأة في الفتاوى: 522، 9708، 19233.(3/78)
كما ننبهك إلى أنه لا يجوز للمسلم الهجرة إلى بلاد غير المسلمين والإقامة فيها إذا لم يستطع إقامة شعائر دينه أو كان لا يأمن على نفسه، وراجعي الفتوى رقم: 2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
هجرة المرأة إلى حيث يمكنها أن تقيم دينها
تاريخ 28 ربيع الثاني 1426 / 06-06-2005
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
سؤالي ذو شقين أولاً بارك الله فيكم: هناك فتاة تحيا مع أهلها.. والدتها نصرانية.. والدها تارك للصلاة، وهي ولله الحمد ملتزمة.. فهل يجوز لها أن تترك أهلها وتهاجر في سبيل الله، علما بأن والدها من النوع الشبه علماني.. يعني مثلا يعارض أن ابنته ترتدي النقاب بل الحجاب نفسه يقول لها خففي فيه وأحيانا يطلب منها أن تظهر بعض شعرات رأسها وله ابنة أخرى لا يفرض عليها الحجاب.. كذلك هو يجبرها على الخروج للدراسة هكذا.. أيضا هو عاقد العزم على السفر للإقامة بين المشركين ويرى في التزام ابنته تشددا وأحيانا يسب الدين.. كذلك أجبر ابنته على نزع الحجاب لأخذ صور! عدا هذا فإنه لكي يسهل بعض الإجراءات وافق أن ابنته يتم تعميدها في الكنيسة على أنها نصرانية كل هذا عدا المشاكل اليومية بالطبع ومن إخراجها للتنزه بغير إرادتها وما إلى ذلك.. فما حكم أنها تهاجر في سبيل الله إذا تيسر لها ذلك، وهي مفتونة في دينها؟
الشق الثاني: ما حكم أنها تهاجر بدون محرم.. وهل هناك من النصوص ما يفيد بهذا، لأنه والله أعلم الهجرة فرض وتسقط فرضية اصطحاب المحرم لأنها أوجب..
نرجو لو تكرمتم أن يكون الجواب مدعوما بأدلة قاطعة من قرآن وسنة وأقوال العلماء حفظكم الله؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل لهذه الفتاة ولأمثالها وللمسلمين جميعاً من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجا.
ومن المفروض أن يكون الأهل وخاصة الأب حرزاً لبناته، وعونا لهن على طاعة الله تعالى، والبعد عن معصيته.. امتثالاً لأمر الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ {التحريم:6}، وما دام هذا الأب على الوصف الذي ذكر من سب الدين والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.. فإن على ابنته أن تحاول التخلص منه والبعد عنه إذا لم تنفع فيه النصيحة.
ويجب أن يكون ذلك بطريقة شرعية بحيث لا تهاجر إلى جهة غير مأمونة أو تسافر وحدها... فإن الهجرة لا تكون إلا إلى بلد يستطيع المسلم أن يقيم فيه دينه.. وسفر المرأة بدون محرم لا يجوز إلا لضرورة، فلو قدر أنها وجدت جهة تستطيع أن تقيم فيها شعائر دينها ولم تجد محرما يرافقها، فإن لها أن تسافر بدون محرم إذا كان الطريق آمناً، وبإمكان هذه الفتاة أن تبحث لنفسها عن زوج صالح يخلصها من هذا البيت الذي لا تستطيع فيه القيام بدينها، ويمكن أن تستعين في ذلك بمن تعرف من الصالحين وأهل الخير.
وقد سبقت الإجابة على مثل هذا السؤال بالتفصيل في الفتوى رقم: 56445، والفتوى رقم: 48251 نرجو الاطلاع عليهما وعلى ما أحيل عليه فيهما للوقوف على الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
ترك الوالدين والهجرة بالأبناء إلى الغرب
تاريخ 07 جمادي الأولى 1426 / 14-06-2005
السؤال
أنا متزوج لي 5 أطفال و المعيشة هنا في ليبيا صعبة جدا ولا يوجد اهتمام بأبنائنا هنا من الناحية العلمية والصحية والأدبية أيضا ونحن أربع أبناء في العائلة وأنا الابن الثالث و أفكر في أن أهاجر إلى كندا من أجل الحياة الهنيئة و المعيشة الطيبة والعلم لي ولأبنائي أريدهم أن يحصلوا على اهتمام من الناحية الصحية وأن يتعلموا أحسن علم من أجلهم وأجل وطني ولكن يوجد والداي أبي وأمي وأفكر فيهما هل إن حاولت أن أرحل عنهما بعيدا أكون قد ظلمتهام أم لا ؟ وحرام هذا أم لا؟ و شكرا .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا ينبغي أن تفرط في والديك وهما في هذه السن، وكذلك لا ينبغي أن تفرط في تربية أبنائك، وغير خاف عليك أن تلك البلاد التي تنوي الهجرة إليها بلاد يصعب جدا على المرء أن يتمسك فيها بدينه، ومن شبه المستحيل أن يحمي فيها أبناءه من الانحراف الأخلاقي الموجود هناك.
وما دمت في وطنك مع أبويك وأسرتك آمناعلى نفسك وأهلك ومالك وتستطيع إظهار شعائر دينك فهذه نعمة عظيمة مغبون فيها كثير من الناس، داخل أوطانهم وخارجها.
وبإمكانك أن تحسن من حالك وتعلم أبناءك وتربيهم على الفضيلة في بلدك إذا صدقت النية وبذلت الجهد.
وللمزيد من التفصيل والأدلة عن هذا الموضوع نرجو الاطلاع على الفتاوى: 39825، 44524، 47032، 57804، 17898 وما أحيل إليه فيها.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
السفر للزواج بفتاة متدينة
تاريخ 09 جمادي الأولى 1426 / 16-06-2005
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
عندي أمر حيرني و استعسر علي بعض الشيء فهمه..و هو متعلق بحديث إنما الأعمال بالنيات..
هل من سافر للزواج بفتاة متدينة أعجب بدينها و خلقها و أراد إعانتها على أمر دينها وهو أحبها لأجل حرصها على دينها و تمسكها به..هل هذا يعتبر من الذين كانت نيتهم للدنيا؟ لأن في قوله صلى الله عليه وسلم "من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" فهل هذا الزواج يعتبر إرادة للدنيا ويعتبر غير مأجور عليه؟
لا أدري..كيف يمكن التوفيق بين ذلك الحديث الذي كأنه يقول عن الزواج كأنه فقط من متاع الدنيا..أخشى أن زواجي هذا لا أدري...إن كانت الغاية منه ما عند الله والغاية منه ابتغاء مرضاته وبناء بيت مسلم وأن تكون زوجته في الجنة وهذا كان القصد من البداية فهل تعتبر النية صحيحة هكذا؟الحديث مفزع..و الله المستعان..فنحن ما تزوجنا إلا لإعجاب كل منا بتدين الآخر وإسلامه والتزامه وقد استشرت أحد المشايخ الذي يعرف الفتاة و نصحني بالزواج بها لأنها على خلق ودين وكانت تفرق بيننا المسافات ولم يمكننا الزواج إلا بعد السفر..في انتظار تفسيركم حفظكم الله تعالى..
وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه. متفق عليه من حديث
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا مالكا.
وهذا الحديث يعني أن الأمور تبع لمقاصدها، فالذي يدعي أنه يهاجر إلى الله ورسوله وهو يريد غرضا آخر، فإنه مذموم من حيث كونه يظهر من العبادة خلاف ما يبطن، وأما من هاجر يطلب التزويج، أو يريد الهجرة إلى الله والتزويج معا ولم يبطن من القصد خلاف ما يظهر، فليس في فعله هذا مذمة، قال ابن حجر في "فتح الباري": فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة، فإنه يثاب على قصد الهجرة، لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط، لا على صورة الهجرة لله، لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف...(3/78)
ومن هذا تعرف أن من سافر للزواج بفتاة متدينة، وقد أعجب بدينها وخلقها، وهو يريد إعانتها على أمر دينها، وهو إنما أحبها لأجل حرصها على دينها وتمسكها به، وأراد أن تكون زوجته في الجنة، أنه لا يعتبر من الذين كانت نيتهم للدنيا فقط. بل هو مأجور عند الله تعالى بما أراده من الخير وإعفاف النفس.
وليس في هذه الإرادة أي تعارض مع الحديث المذكور، كما تبين من الشرح الذي بينا.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
حكم الزواج ممن أسلم حديثا ومازال مسجلا مسيحيا في الأوراق الرسمية
تاريخ 25 جمادي الثانية 1426 / 01-08-2005
السؤال
أنا شاب في الثالثة والعشرين من العمر كنت مشركا بالله (والعياذ بالله من الشرك به) وقد هداني الله إلى نور الإسلام منذ حوالي الأربع سنوات ولكن إسلامي ما زال سرا تجنبا لأذى أهلي لي وأنا أعلم ردة فعل أهلي جيداً فقد يطالني أذى كبير منهم وذلك يمنعني من أداء واجباتي الدينية خاصة الصلاة كما يجب فكثيرا من الأوقات لا أقدر أن أصلي خاصة في أي من مساجد المنطقة التي أسكن بها وما زلت غير مسجل في الأوراق الرسمية ماذا علي أن أفعل لتجنب أذاهم ولإعلان إسلامي ليتسنى لي أداء واجباتي الدينية كما يجب؟ خاصة أني أتألم جداً لعدم تمكني من تأديتها وأنا أفكر بالزواج من فتاة مسلمة هل بإمكاني ذلك بالرغم من أني ما زلت مسجلا رسميا بأني مسيحي؟ مع العلم إن مكان إقامتي بالأردن
أفيدوني جزاكم الله كل الخير.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا نهنئك بما أنعم الله به عليك من الهداية للإسلام الذي هو الدين الوحيد المقبول الآن عند الله، لأنه نسخ من ما سبقه، وبالتالي فهو السبب الوحيد الآن لصلاح حال الناس وحصول سعادتهم في الدنيا والآخرة.
ونسأل الله أن يثبتك ويختم لك بالحسنى، وننصحك أن تعزم عزماً صادقاً على القيام بجميع الأوامر والبعد عن جميع النواهي الشرعية التي تعبد بها ربك الذي خلقك فسواك فعدلك، وجعل لك السمع والبصر والعقل لتشكره، وأتم نعمته عليك وأسبغها لتسلم وتنقاد.
فإن لم تتوفر لك الوسيلة الكافية الآمنة في بلد ما لإقامة دينك، فاحرص على الهجرة إلى مدينة أخرى تستطيع فيها القيام بالأعمال الصالحة، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لما ضيق عليهم في مكة إلى أن يهاجروا إلى الحبشة، فقال لهم: أن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه. رواه البيهقي وصححه الألباني في الصحيح.
وفي صحيح مسلم: أن التائب القاتل مائة نفس لما استرشد العالم وسأله هل له من توبة قال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناس يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.
وعليك بالجد في تعلم دينك بواسطة الأجهزة المعاصرة فاستخدم الكمبيوتر والشريط، واتصل بأهل العلم فيما يشكل عليك، والزم الدعاء بتسهيل أمرك في آخر الليل وبعد الصلاة وعند الإفطار.
واعلم أن القيام بالأعمال والزواج بامرأة مسلمة لا يشترط فيه شرعاً إعلان الإنسان لإسلامه، ولا تسجيل ذلك في الوثائق الرسمية.
وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 12744، 38634، 16789، 19650، 31768، 61490، 57186، 59782، 53348.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
لا تجوز مساكنة الفساق لغير ضرورة
تاريخ 27 جمادي الثانية 1426 / 03-08-2005
السؤال
أسكن مع شخص مسلم في كندا ولكن للأسف هذا الشخص يحضر صديقته إلى البيت ويجلسان في حجرته ولا ألقى منهما أي مضايقة ولقد أنكرت عليه ذلك ونصحته ولكنه لم ينته وكما تعلمون أنه من الصعب أن أجد أخا مسلما آخر لأسكن معه أرجو منكم ما هو الحكم الشرعي في السكن مع هذا الشخص وماذا علي أن فعل
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أخطأ هذا الشخص الذي تسكن معه خطأ كبيرا فيما ذكرت أنه يفعله من إحضار المرأة التي وصفتها بأنها صديقته إلى بيته.
فإن فتنة النساء من أعظم الفتن وأخطرها، وقد تخوف منها النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، فقال: ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء. متفق عليه.
وقال: فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. رواه مسلم.
وإذا كان ذاك الشخص لا يستمع لنصحك، ولا ينثني عن إحضار تلك المرأة، فواجبك هو أن تترك السكن معه لئلا يلحقك بعض ما يمكن أن يصيبه جراء معصيته، ولئلا تطمئن نفسك إلى هذا المنكر، فإن النفوس تطمئن وترضى بما تعودت عليه.
وإذا كنت مضطرا إلى السكن معه لعدم توفر سكن تأمن فيه على دينك، ولم يكن في إمكانك أن تنفرد بسكن خاص بك، فلا مانع من البقاء معه نظرا للضرورة، مع العزم على مفارقته متى أتيح لك ذلك، أو الهجرة من هذا البلد إلى حيث تنجو بدينك إذا لم تجد حلا آخر.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
الطلاق في المحاكم الوضعية لا يترتب عليه وحده انتهاء العلاقة الزوجية
تاريخ 02 رجب 1426 / 07-08-2005
السؤال
أنا شاب مغترب متدين متزوج من قريبة لي كانت تصلي حتى حين وغير محجبة وعندي بنتان، الكبرى 4 والصغرى 3 سنوات منذ بدء زواجنا والمشاكل لا تتوقف، أما أسبابها فمردها إلى الغيرة المفرطة في البداية ثم الفروق الشاسعه في المستوى الثقافي فزوجتي ذات تعليم متدن ولا تتقبل أن تتعلم بالإضافة إلى اختلاف الطباع والأهواء كانت مشاكلنا تحتد وتخفت بين الحين والآخر يتخللها الوعظ والتأديب والتأنيب والتعنيف والهجر والشتائم والشكوى لأهلها دون جدوى، كما أنني طلقتها مرتين وكنت في حالة من الغضب الشديد على أمل أن ترتدع، لكنها لم تتعظ ومنذ خمسة أشهر اكتشفت أنها على علاقه مع شاب عن طريق الإنترنت لا أدري ما طبيعتها غضبت كثيرا وأخبرت أهلها بالأمر فقالوا لي إنني حساس وأن الأمر ليس جديا، لكني خرجت من المنزل لأربعة أيام لا أدري ماذا أفعل بعدها تدخل رجل ذو فضل وتم إصلاح ذات البين وقد تصادف ذلك مع حصول زوجتي على جنسية البلد الذي نحن فيه فاشتد ساعدها حاولت إعادة الثقه بيننا وعادت إلى الإنترنت وذات يوم كنت في زيارة صديق فطلبت مني المبيت عنده لأن صديقتيها ستسهران عندها ففعلت لأكتشف في اليوم التالي أن الأمر كان كذبا ولم تحضر الأطفال إلى المدرسة قلت إن بعض الظن إثم لكنها توقفت عن الصلاة وبدأت في سماع الأغاني بصوت مرتفع وأهملت المنزل فضقت ذرعا بهذا الوضع وخرجت من المنزل لمدة عشرين يوما بعد إقفال الحاسوب بعدها استقرت الأمور لبضعة أيام لكنها بدأت تطرح مطالب غريبة مثل (من حقي يكون لي رفقة شباب, الرغبة في تعلم قيادة السيارة والأغرب تلك الجمله -بدأت أرغب في الجنس ولكن ليس معك-) لأنه خلال فترة المشاكل خفت رغبتها كثيرا فكظمت غيظي لأنني قلت في نفسي إنها أخطات في التعبير لكن وضع زوجتي لم يتغير ولن يتغير فلم ينفع معها الضرب ولا غيره وأنا حائر قلق على مستقبل طفلتي وزوجتي لا تريد العودة إلى أهلها، وأنا ليس لي عمل هنا رغم شهادتي الجامعية من بلد الأصل فماذا أفعل أرشدوني أثابكم الله وهل الطلاق في المحاكم الأوروبية يعد طلاقا؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(3/78)
فإن للبيئة والمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان أثر كبير في التزامه بأحكام الدين أو تفلته منها، وفي تحليه بالأخلاق الإسلامية أو تخليه عنها، ولا شك ولا ريب أن العيش في المجتمعات غير الإسلامية، يعد خطراً على دين المسلم وأخلاقه، ولذا ننصح من يعيش من المسلمين هناك بالعودة إلى بلادهم الإسلامية، حفاظاً على دينهم ودين أبنائهم وأخلاقهم، وتراجع الفتوى رقم: 52060.
ولعل هذا هو الحل الأمثل لمشكلة السائل وأمثاله، لكن ربما لا يكون السائل قادراً على العودة بزوجته خاصة وأنها قد امتلكت جنسية ذلك البلد، ونحن لا ننصح الزوج بطلاق زوجته ما لم يفقد كل أمل في صلاحها وعودتها إلى رشدها وصوابها، فليحرص على نصحها بلين وحكمة، وتعليمها ما يجب عليها من حق الله وحق الزوج، وليعرفها ويقربها من المسلمات المتدينات هناك، ويصحبها إلى المراكز الإسلامية والمساجد، ويعرفها بالمواقع الإسلامية على الإنترنت، مستخدما معها أسلوب اللين والترغيب، ففي الحديث: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه. رواه مسلم.
والحاصل أن على الزوج أن يسعى بكل ما يمكنه في إصلاح الزوجة، فإن صلحت فبها ونعمت، وإلا كان الطلاق هو الحل، وعليه أن لا يترك البنات معها في حال الطلاق إن أمكنه ذلك، فإنها إن بقيت على هذه الحال فليست أهلا للحضانة، وتنتقل الحضانة إلى من يليها كأمها، وليعد بهن إلى بلده، ففي العودة فرار بدينه ودين بناته من تأثير ذلك المجتمع الموبوء.
أما بشأن الطلاق في المحاكم الأوروبية فقد نص البيان الختامي للمؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، المنعقد بكوبنهاجن- الدانمارك مع الرابطة الإسلامية، في الفترة من 4-7 من شهر جمادى الأولى لعام ألف وأربعمائة وخمسة وعشرين من الهجرة الموافق 22-25 من يونيو لعام ألفين وأربعة من الميلاد: أنه إذا طلق الرجل زوجته طلاقاً شرعياً فلا حرج في توثيقه أمام المحاكم الوضعية، وأن اللجوء إلى القضاء الوضعي لإنهاء الزواج من الناحية القانونية لا يترتب عليه وحده إنهاء الزواج من الناحية الشرعية.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===========
السفر إلى بلاد الكفر أو القرض الربوي لتحصيل مسكن
تاريخ 20 رجب 1426 / 25-08-2005
السؤال
كنت قد طرحت عليكم سؤالا حول الموضوع المتعلق بالهجرة إلى البلاد غير الإسلامية حيث إن هدفي من ذلك هو الحصول على مسكن فكان الرد بأنه لا يجوز، وقد تراجعت عن هذه الفكرة, لكن عندما لجأت إلى البحث عن مسكن وجدت أن كل المعاملات تتم بالربا إذ يبيعون لك البيت ويقتطعون من راتبك الشهري على فترة قد تصل إلى أكثر من عشر سنوات، أنا استحوذت علي فكرة الهجرة ولكن لمدة قصد جمع رأس مال يمكنني من الحصول على بيت في بلدي المغرب، أريد تفصيلا واضحا ولا أريدكم أن تحيلوني على سؤال آخر؟ وجزاكم الله عني خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأصل أنه لا يجوز الاقتراض بالربا مهما كان السبب الداعي إلى ذلك، لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {البقرة:278}.
لكن نصوص وقواعد الشريعة وأصولها دلت على أنه يجوز للمسلم فعل المحرم عند الاضطرار إليه، ومن ذلك قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ {الأنعام:119}، ولقاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها، لقول الله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ {البقرة:173}.
ومعلوم أن المسكن الذي يأوي إليه المرء من ضروراته المؤكدة، فمن لم يجد مالاً ليشتري به مسكناً، وكان لا يقدر على الاستئجار نظرا لقلة ما يحصل عليه من أجر مقابل عمله جاز له أن يشتري بيتا بقرض ربوي إن لم يجد قرضاً حسناً.
ولكن ينبغي أن تعلم أن ما ذكرته في سؤالك ليس من المعاملات المحرمة، فكون المقرضين في بلدك يبيعون لك البيت ويقتطعون من راتبك الشهري على فترة قد تصل إلى أكثر من عشر سنوات لا يعتبر ربا، طالما أن فترة الاقتطاع محددة.
وأما عن هجرتك إلى بلاد الكفر لتحصيل أمر لم يتيسر لك في غيرها، فإن أمنت على نفسك وأهلك الفتن، وقدرت على إقامة شعائر الإسلام فلا بأس بها، وإن لم تأمن الفتنة في دينك فإنها لا تجوز لك.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
هل يجدد زواجه من الكتابية التي أسلمت
تاريخ 08 شوال 1426 / 10-11-2005
السؤال
إخوتي في الله أنا شاب سافرت إلى فرنسا بنية الدراسة والإقامة معا، ولم أكن ساعتها ملتزما بتعاليم الدين الحنيف. وأملا في الحصول على الجنسية تزوجت من شابة فرنسية والأرجح أنها كانت مسيحية بعد زواجي بها بأسابيع، سبحان الله أحسست بتغيير في نفسي وتأنيب ضميري؛ حيث إنني في الأصل نشأت في بيئة جد محافظة وكانت هذه السبب في هدايتي. فبدأت أصلي وأقسمت على نفسي أن أقلع عن كل المعاصي. ثم بدأت في دعوة زوجتي إلى الإسلام وكانت المهمة جد سهلة لأن إرادة الله قبل كل شيء، ثم إن زوجتي كانت لها أخلاق رفيعة تؤهلها لقبول الإسلام، ثم إنني والحمد لله شاب متعلم وجامعي فاجتهدت في عرض الإسلام عليها بطريقة منطقية وبديهية. والحمد لله فما هي إلا أيام وتعلمت الصلاة ثم توقفت عن العمل ولبست الحجاب ثم تنقبت مؤخرًا والحمد لله، ونحن نأمل في الهجرة إلى بلاد الإسلام عما قريب بعد علمنا بعدم جواز الإقامة في ديار الكفر وحرصًا على تنشئة ولدينا وتربيتهما في بيئة إسلامية نظيفة والله الموفق وهو من وراء القصد. وكنا نتعلم الدين مع بعض على ضوء الكتاب والسنة وتعلما من أمهات الكتب لعلماء أهل السنة والجماعة أي السلفية كالشيخ ابن تيمية والأئمة الأربعة والمعاصرين كالشيخ ابن باز - رحمه الله - وابن عثيمين، الألباني.. وهذا على سبيل المثال لا الحصر. اعذروني على الإطالة إلا أنني أردت أن تعرفوا الظروف المحيطة بالمسألة.
المشكلة هي أننا عندما تزوجنا وكنا على جاهلية عقدنا قراننا في البلدية الفرنسية بعدما طلبت يدها من جدها ووافق وعقد رئيس البلدية قراننا على مشهد من أهلها وأصدقاء لي مسلمين وبعد التوبة والاستفسار علمت أن جدها لم يكن أهلا للولاية لأنه ليس مسلما. إلا أنني قدمت لها مهرا وشهد أحد أصدقائي - وهو مسلم - الزواج بطريقة قانونية بالإمضاء على عقد القران، وشهد الثاني - وهو مسلم أيضا-بالحضور فقط دون الإمضاء. فسألت أحد العلماء السلفية من المغرب واتصلت به هاتفيا بغية استدراك الأمر كعقد قران شرعي جديد فأجابني بأنه لا داعي لهذا وكفى أن أتوب من هذا العمل وأن أتمسك صعدا بتعاليم الدين مستندا إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلب من الكفار والمشركين تجديد عقد النكاح بعد الدخول في الإسلام فضلا عن المذنبين من المسلمين. ولكن أنا ساعتها لم أكن مشركًا - والعياذ بالله - وإنما مسلم عاص ومستهتر للأسف الشديد.(3/78)
الآن أود أن أعرف حكم هذا الزواج الذي تزوجته هل هو باطل؟ وما يجب فعله لأرتاح لأنني أحيانا أحس - والعياذ بالله - أن أولادي غير شرعيين وأحزن كثيرا لهذا ولا يفارقني هذا الشعور رغم مواظبتي وزوجتي على تطبيق تعاليم الشريعة السمحاء التي ما عرفنا قيمتها إلا بعد الإقامة بين الكفار. والله الذي لا إله إلا هو إن حبنا للإسلام فاق الهيم وحبنا لرسوله صلى الله عليه وسلم لا يعادله حب، وأيقنا هنا معنى الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}
وعرفنا كيف لأحدنا أن يحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أكثر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. نشهد الله الذي لا إله غيره أنك كذلك وأنت أهل له يا حبيبي يا رسول الله.
وبعد لكل من أغراه بريق الغرب من الشباب المسلم. أحذرهم الحذر العظيم من الإقدام على الإقامة في بلد الكفر. والله إنها مستنقع للرذيلة والفاحشة ومفسدة للدين والدنيا والآخرة. وإلى كل شاب غره متاع الدنيا أقول: والله إن أكل الفاصوليا وشظف العيش في بلاد الإسلام أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، فهل من مدكر؟! أفيدونا يرحمكم الله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يوفقك وزوجتك إلى ما فيه صلاحكما ونصرة الإسلام والمسلمين، وجزاك الله خيرًا على دعوة زوجتك الكتابية إلى الإسلام وتقبل الله منها استجابتها وجعله في موازين حسناتها وصحائف أعمالها.
وبالنسبة لزواجك بهذه المرأة وهي لا تزال على دينها (النصرانية) فلا نرى ما يبطله أو يفسده، وكون الولي ليس بمسلم لا يؤثر على صحة العقد مادامت الزوجة غير مسلمة، وقد بينا ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10748، 23317، 6564.
وما حصل من أبناء بينكما فنسبتهم إليك نسبة صحيحة وهم أولاد شرعيون لك ولها؛ لأنهم نتجوا عن عقد زواج صحيح، ولا يضر كذلك أن يتولى إجراءات العقد غير مسلم لما بيناه في الفتاوى التي أحلنا عليها.
وما أجابك به الذي سألته عن حكم عقد زواجك لا ينطبق على حالتك تمامًا؛ لأنك مسلم، وما ذكره يتوافق مع حال الزوجين اللذين كانا كافرين ثم أسلما.
وراجع الفتوى رقم: 63280 والفتوى رقم 2007.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
الحكمة من إباحة الزواج من الكتابيات
تاريخ 12 شوال 1426 / 14-11-2005
السؤال
السؤال الأول: لماذا أجاز الإسلام زواج المسلم من الكتابيات، وبالطبع كما هو معروف يكون لها الحرية في الاحتفاظ بعقيدتها، ما الحكمة من ذلك، وإذا كانت الإجابة بأن الأب يورث لابنائه الديانة، فكيف بالأطفال الذين ينشئون في كنف أم غير مسلمة، والطفل كما نعرف يستمد من أمه كل شيء العلوم والمعارف والأخلاق....إلخ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد مر الزواج بغير المسلمين رجالاً كانوا أو نساء -بعدة مراحل في بداية الإسلام- واستقر الأمر في النهاية على تحريم الزواج من غير المسلمين عموماً واستثني من ذلك زواج الكتابيات خاصة إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
ففي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة نزل قول الله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {المائدة:5}، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل في الفتوى رقم: 9894.
والحكمة من ذلك أن أهل الكتاب يلتقون مع المسلمين في كثير من أمور الدين فإذا اقتربوا منهم وكانت القوامة واليد العليا للمسلمين صحح ذلك الكثير من الأخطاء والمفاهيم التي عندهم عن الإسلام والمسلمين فكان ذلك وسيلة لإسلامهم وإسلام أقاربهم ومن له صلة بهم وخاصة إذا كان زوج الكتابية صاحب خلق ودين... ومن الحكم أن المسلم يحترم دين الكتابية ونبيها فلا يصدر منه ما يؤذيها في دينها... وبالعكس من المسلمة إذا تزوجها الكتابي فإنه لا يحترم دينها ولا يؤمن بنبيها فلا يؤمن أن يجرح شعورها ويؤذيها في دينها. وإذا كان الإسلام لا يريد أن يجبر زوجة المسلم على اعتناق الإسلام بل يقرها على البقاء على دينها ويأمر بالعدل معها والإحسان إليها بالمعروف فإنه لا يحق لها إظهار الكفر والمخالفات الشرعية في بيت زوجها المسلم أو تربية أبنائه على دينها، كما أنه يفرض على الأبناء اتباع الإسلام والانتساب إلى أبيهم، وعلى أمهم أن تعلم هذه الحقيقة من البداية فلا يحق لها تربيتهم وتنشئتهم على غير الإسلام.
ولا يجوز للأب ترك أبنائه يتربون على غير الإسلام ولا يجوز له أن يسمح لأمهم بتوجيههم إلى دينها... وكون الأم ألصق بالطفل من الأب لا يجيز لها ذلك تربيتهم على غير الإسلام، ولا يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية ليست مأمونة على الأبناء وعلى نفسها. ولا شك أن الابتعاد عن نكاح الكتابيات على العموم أفضل، وقد بينا ذلك في الفتوى رقم: 5315.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
-===========
يجوز الأخذ من اللحية حسب ما تقتضيه الضرورة
تاريخ 03 ذو القعدة 1426 / 04-12-2005
السؤال
أسكن في مدينة ولا أستطيع أن أطلق لحيتي فأقوم بتخفيفها ويوجد مدينة أخرى أستطيع أن أفعل ذلك فهل يتوجب علي الهجرة في هذه
الحال علما أني طالب وليس لي القدرة على الهجرة والاستقرار في الوقت الحاضر بشكل دائم في تلك المدينة ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيجب على المسلم أن يوفر لحيته امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في صحيح البخاري وغيره: وفروا اللحى.
وإذا احتاج إلى الأخذ من طولها وعرضها فلا مانع من ذلك شرعا، وذهب كثيرون من أهل العلم إلى جواز أخذ ما زاد على القبضة مطلقا، وإذا كان يلحقه ضرر بتوفيرها فيجوز له حلقها أو الأخذ منها حسب ما تقتضيه الضرورة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات؛ كما قال أهل العلم، ولكنها تقدر بقدرها، ولذلك فلا تلزمك الهجرة من بلدتك بسبب تخفيف اللحية.
وللمزيد من الفائدة والتفصيل وأقوال أهل العلم نرجو أن تطلع على الفتويين التاليتين: 25794، 67598.
وما أحيل عليه فيهما.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
============
إقامة الجمعة في السجن.. رؤية شرعية
تاريخ 18 ذو القعدة 1426 / 19-12-2005
السؤال
أرجو عرض المسألة التالية على أهل العلم في موقعكم المبارك لبيان الحكم الشرعي فيها:
كما تعلمون فإن كثيراً من أبناء الشعب الفلسطيني المسلم يزجون في سجون الاحتلال وكنت واحداً منهم
وقد واجهتني معضلة شرعية ألا وهي تعدد صلاة الجمعة وكذا صلاة العيد في السجن الواحد فقد كنت مسجوناً في معتقل ( عوفر ) بالقرب من مدينة رام الله وهذا المعتقل قدرتُ مساحته بحوالي كيلومتر مربع وهو مقسم إلى عشرة أقسام متجاورة ويفصل بين القسم والآخر أسلاك شائكة متعددة عرضها أربعة أمتار تقريباً ويوجد حوالي ألف معتقل في هذا المعتقل يعني حوالي مئة معتقل في كل قسم منها وتقام صلاة الجمعة في كل قسم على انفراد وكذا صلاة العيد أي عشر جمع وعشر صلوات عيد .
وهنا مجموعة ملحوظات:(3/78)
- لا يمكن من الناحية العملية إقامة جمعة واحدة لأن قوات الاحتلال لا تسمح بذلك.
- لا يمكن من الناحية العملية إقامة جمعتين لقسمين متجاورين لأن طبيعة أقسام السجن لا تسمح بجلوس المعتقلين من القسمين المتجاورين على جانبي الشبك الشائك.
- يرى المعتقلون وخاصة المشايخ منهم أنه لا بد من إقامة صلاة الجمعة وكذا صلاة العيد وإن تعددتا لما للصلوات من آثار نفسية كبيرة في نفوس المعتقلين ولا يخفى عليكم ما لصلاة الجمعة من دور في حياة المسلم وخاصة المعتقل.
- هذه الحالة تتكرر في جميع السجون والمعتقلات الصهيونية التي تضم أكثر من عشرة آلاف معتقل.
- ليس هنالك إلا خياران إما تعدد الجمعة أو القول بأن لا جمعة في السجون.
- كنت أميل إلى أنه لا جمعة على السجين حتى دخلت السجن ولمست بنفسي الأثر العظيم الذي تتركه صلاة الجمعة في نفوس المعتقلين وكذلك صلاة العيد وما يصحبها من التكبير الذي يرفع معنويات المعتقلين ... إلخ
أرجو التكرم بالجواب المفصل في هذه الواقعة حيث إن إخوانكم المعتقلين ينتظرون الجواب.
وجزاكم الله خير الجزاء.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في إقامة الجمعة في السجن إذا توفرت شروط الجمعة في المسجونين وأمكنهم أداؤها ، فذهبت طائفة إلى صحة ذلك وهو ما نص عليه طائفة من الشافعية وهو ظاهر كلام الحنفية وابن حزم الظاهري ، وقالوا : يقيمها لهم من يصلح لها منهم أو من أهل البلد ، ويتجه وجوب نصبه على الحاكم ، وروي عن ابن سيرين أنه كان يقول بالجمعة على أهل السجون ، وخالفه إبراهيم النخعي فقال : ليس على أهل السجون جمعة .
وقد سئل العلامة ابن حجر الهيتمي في فتاويه الفقهية الكبرى: هل يلزم المحبوسين إقامة الجمعة في الحبس ؟
فأجاب بقوله : القياس أنه يلزمهم ذلك إذا وجدت شروط وجوب الجمعة وشروط صحتها ولم يُخشَ من إقامتها في الحبس فتنة؛ لكن أفتى غير واحد بأنها لا تلزمهم مطلقاً، وقد بالغ السبكي فقال : لا يجوز لهم إقامتها وإن جاز تعددها. وهو بعيد جداً وإن أطال الكلام فيه في فتاويه والاستدلال لعدم الوجوب بأن الحبوس لم تزل مشحونة من العلماء من السلف والخلف ولم ينقل أن أحداً منهم أقامها في الحبس يمكن الخدش فيه بأنه لا يتم إلا إن ثبت أنه وجد في حبس أربعون شافعياً ممن يعتد بفعلهم ولم يقيموها مع توفر ما ذكرناه من الشروط وعدم خوف الفتنة، فمن أثبت هذا اتضح له عدم الوجوب، ومن لم يثبته يلزمه أن يقول بالوجوب ، فإن الذي يصرح به كلام أصحابنا .
ولقد كان البويطي وهو في قيوده في الحبس يغتسل ويلبس نظيف ثيابه ويأتي إلى باب السجن فيشاور السجان في صلاة الجمعة فيمنعه فيرجع ويقول: الآن سقطت الجمعة عني. فتأمل محافظة هذا الإمام - الذي هو أجَلُّ أصحاب الشافعي رضي الله عنه، ولذا استخلفه في حلقته وأخبره بهذه المحنة التي وقعت له بقوله له : ستموت في قيودك - على صلاة الجمعة ، مع ما هو عليه تجده كالصريح في أنه لو أمكنه إقامتها في الحبس لفعلها فيه. فإن قلت: إن أقاموها قبل جمعة البلد أفسدوها على أهلها أو بعدها لم تنعقد لهم ، قلت: ممنوع فيهما؛ بل عذر الحبس لا يبعد أنه يجوز التعدد فيفعلونها متى شاءوا قبل أو بعد ولا حرج عليهم حينئذ.
وفي العناية شرح الهداية من كتب الحنفية: ويكره أن يصلي المعذورون الظهر بجماعة يوم الجمعة في المصر ، وكذا أهل السجن. لما فيه من الإخلال بالجمعة إذ هي جامعة للجماعات ، والمعذور قد يقتدي به غيره بخلاف أهل السواد لأنه لا جمعة عليهم ( ولو صلى قوم أجزأهم ) لاستجماع شرائطه .
وذهب آخرون إلى المنع ومن أحسنهم تقريراً لذلك الشيخ تقي الدين السبكي فقد سئل عن المسجونين بسجن الشرع وهم أكثر من أربعين هل يجوز لهم أن يقيموا من بينهم إماماً يخطب بهم ويصلي بهم الجمعة والأعياد ؟ (أجاب ) رحمه الله تعالى : لا يجوز لهم إقامة الجمعة في السجن بل يصلون ظهراً لأنه لم يبلغنا أن أحداً من السلف فعل ذلك مع أنه كان في السجون أقوام من العلماء المتورعين، والغالب أنه يجتمع معهم أربعون وأكثر موصوفون بصفات من تنعقد به الجمعة فلو كان ذلك جائزاً لفعلوه والسر في عدم جوازه أن المقصود من الجمعة إقامة الشعار ولذلك اختصت بمكان واحد من البلد إذا وسع الناس اتفاقاً، وكأنها من هذا الوجه تشبه فروض الكفايات ، ومن جهة أنه يجب على كل مكلف بها إتيانها فهي فرض عين .
وقد نُقِل عن الشافعي رحمه الله قول إنها فرض كفاية وغلَّطوا قائله لما اشتهر أنها فرض عين، وعندي يمكن حمل ذلك النقل على ما أشرت إليه بأن فيها الأمرين جميعاً : ( أحدهما ) قصد إظهار الشعار وإقامتها في البلد الذي فيه أربعون وهذا فرض كفاية على كل مكلف في تلك البلد وعلى كل من حولها ممن يسمع النداء منها إذا كانوا دون الأربعين . ( والثاني ) وجوب حضورها وهو كل من كان من أهل الكمال من أهل ذلك البلد وممن حولها ممن يسمع النداء إذا لم يمكنه إقامة الجمعة في محله ، وإذا عرفت أن المقصود بها ذلك والسجن ليس محل ظهور الشعار فلا تشرع إقامتها فيه ولعل ذلك لم يقمها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وأقامها أبو أمامة أسعد بن زرارة بالبقيع بقيع الحصمات من ظاهر المدينة، والظاهر أن ذلك كان بأمره صلى الله عليه وسلم، وإنما يأمر بها ولا يفعلها لما قلنا من المعنى . والسجن ليس محلاً لإقامتها لأمرين : ( أحدهما ) عدم ظهور الشعار (والثاني ) أنه تعطيل إقامتها في بقية البلد إذا كانت لا تحتمل جمعتين ، وما عطل فرض الكفاية نمنع منه فعدم الجواز إذا كانت البلدة صغيرة لهاتين العلتين، وكل علة منهما كافية لهذا الحكم ولو أن أربعين اجتمعوا في بيت لا يظهر فيه الشعار وعجلوا بالخطبة وصلاة الجمعة قبل الجمعة التي تقام في البلد في الشعار الظاهر لم أر ذلك جائزاً لهم لما ذكرته من العلتين .
وإذا كانت البلدة كبيرة والجامع الذي لها لا يسع الناس وكانت بحيث تجوز إقامة جمعة أخرى فيها على ما ذكر الروياني وغيره من المتأخرين فأقام أهل السجن الجمعة أو أهل بيت لا يظهر فيه الشعار فأقول : إن ذلك لا يجوز أيضاً لإحدى العلتين وهي أنه ليس محل إقامة جمعة فهي غير شرعية، والإقدام على عبادة غير مشروعة لا يجوز، وقد ظهر أنه لا يجوز إقامة الجمعة في السجن سواء أضاق البلد أم أتسع، سواء أجوزنا جمعتين في بلد إذا ضاق أم لم نجوز، ولذلك لم نسمع بذلك عن أحد من السلف .
إذا عرف هذا فأهل السجن يصلون ظهرا، وهل يستحب لهم الجماعة ؟ وجهان : أصحهما نعم، وعلى هذا يستحب لهم إخفاؤها وجهان : أصحهما لا والنص أنه يستحب الإخفاء لأن الجماعة في هذا اليوم من شعار الجمعة وإن كان لا تهمه على هؤلاء، أما المعذورون الذين نخشى عليهم من التهم فيستحب لهم الإخفاء قطعاً وإنما يصلون الظهر بعد فراغ جمعة البلد . وأما العيد فيستحب لهم صلاته وأما خطبته ففي استحبابها نظر لما أشرت إليه من الشعار ولم أنظر فيه فيحتاج إلى كشف وتأمل ، والله أعلم . كتب في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاين .(3/78)
ومما لحظناه من معنى فرض الكفاية يظهر تحريم السفر على أحد القولين قبل الزوال المفوت للجمعة وإن كان وقتها لم يدخل بخلاف بقية الصلوات ، وقد كنت أستشكل ذلك ولا أصغي لمن يقول : إن الجمعة متعلقة باليوم، وأقول كيف تجب الوسيلة قبل وجوب المقصد؟ حتى ظهر لي هذا المعنى وذلك أن إقامة شعار هذا اليوم بهذه الصلاة متعلق باليوم وإنما يتوقف على الزوال وجوب الصلاة وصحتها، ولهذا يستحب التبكير لها ، ومسائل أخرى تتخرج على هذا . انتهى
والحاصل أن المسألة من مسائل الخلاف بين العلماء ولا يقطع فيها برأي واحد، ومن عمل بأحد الرأيين فهو على خير. فاختلاف العلماء رحمة واسعة واتفاقهم حجة قاطعة كما نص على ذلك ابن قدامة رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه القيم المغني ، وإذا أخذتم بقول من يرى أن عليكم أن تصلوا الجمعة فلا حرج أن تصلي كل مجموعة لوحدها إذ لا يمكنكم أن تجتمعوا في مكان لما ذكرت.
نسأل الله تعالى أن يفك أسرى المسلمين جميعاً وأن يفرج هموم المحبوسين من المسلمين، وأن ينصر عباده الموحدين إنه القادر على ذلك . ولمعرفة حكم تعدد الجمعة تراجع الفتوى رقم: 23537 .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
حكم دفع رسوم للاشتراك في السحوب للحصول على الكرت الأخضر
تاريخ 07 صفر 1427 / 08-03-2006
السؤال
أود أن أسأل عن مشروعية الاشتراك بالسحوبات السنوية للحصول على الكرت الأخضر الأمريكي وذلك عن طريق دفع مبلغ بالانترنت وتعبئة نموذج؟ وهل يعتبر ذلك من باب تقديم طلبات الهجرة التي قد تقبل أو لا ؟ أم من باب الميسر؟
أرجو الإفاده ولكم جزيل الشكر .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالميسر هو ما لا يخلو فيه أحد الطرفين أو الأطراف من غنم أو غرم ، فإذا غنم غنما شيئا كبيرا بالنسبة إلى ما دفع، وإذا خسر خسر ما دفعه دون أي مقابل ، والميسر من الكبائر قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {المائدة: 90 }
وأما بخصوص المسألة المعروضة وهي التقدم عن طريق الانترنت بطلب للحصول على إقامة في الولايات المتحدة الأمريكية فيما يعرف بالكرت الأخضر ، وذلك بتعبئة نموذج موجود على الشبكة العنكبوتية مع مبلغ من المال كرسوم على هذا الطلب ، ثم بعد ذلك تجرى قرعة لاختيار مجموعة من جميع المستحقين حسب تصنيف القانون الأمريكي للمستحقين، فهذا ليس من الميسر وإنما هو أجرة مقابل المعاملة المذكورة والمستحق عندهم ليدخل القرعة، والقرعة مشروعة في شريعتنا عند تساوي أهل الاستحقاق ، وراجع الفتوى رقم : 23168 .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
ترك الحجاب لأجل الدراسة والتصوير بغير حجاب
تاريخ 14 صفر 1427 / 15-03-2006
السؤال
أنا سيدة مغتربة في فرنسا ولا أتكلم الفرنسية، وأريد الدخول إلى المدرسة لتعلم اللغة؛ لكي أعرف كيف أتعامل مع أهل هذا البلد ويجب أن أخلع الحجاب عند وصولي بوابة المدرسة فما الحل ؟
والسؤال الثاني : مطلوب مني صورة فوتغرافية بدون حجاب لاستخراج بطاقة شخصية لي في فرنسة فماالحكم في ذلك؟
وجزاكم الله الخير والرجاء إجابتي في أسرع وقت لمدى أرقي في هذا الموضوع
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا أن بينا أنه لا تجوز الهجرة إلى بلاد غير المسلمين إلا حين يكون المهاجر متمكنا من إقامة دينه وآمنا على نفسه من الوقوع في الفتن ، فتن الشهوات والشبهات ، ولك أن تراجعي في هذا فتوانا رقم : 69518 ، وهذا في حق الرجل ، وأما إذا تعلق الأمر بالمرأة فإن المنع يكون آكد لما يغلب أن ينجر عن إقامتها في تلك البلاد من الفساد .
وفيما يتعلق بموضوع ترك المرأة للحجاب من أجل الدراسة فقد بينا من قبل أن ذلك لا يجوز ، ولك أن تراجعي فيه فتوانا رقم : 30735 ، وبخصوص طلب الصورة الشخصة منك فإن كانت لغرض مباح وتدعو إليه الحاجة فلا نرى ما يمنع منه ، لكن بشرط أن تكون الصور محتشمة ، وأن لا يظهر فيها إلا ما تدعو الحاجة إليه في إثبات الشخصية .
والله أعلم .
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
النطق بكلمة الكفر عند الاضطرار
تاريخ 28 صفر 1427 / 29-03-2006
السؤال
كنت في دولة أجنبية واضطررت لأن أدعي باعتناقي المسيحية وكنت أسر أنني كاذب حيث إنه في وقت تعميدي كنت أنطق بالشهادة في سري. وأنا الآن تائب أفتوني أفادكم الله كيف اكفر عن هذا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من نطق بكلمة الكفر أو عمل من الأعمال الشركية مضطرا ضرورة تعتبر شرعا كخوفه على نفسه نرجو أن يعفو الله عنه بسبب الاضطرار إذا كان مطمئن القلب بالإيمان.
قال الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {النحل:106}
فعليك بصدق الالتجاء إلى الله تعالى والإنابة إليه, ومحاولة الهجرة من المكان الذي لا تأمن فيه على دينك. وراجع الفتاوى التالية:
38871، 15719، 12633، 35959، 24683، 38634، 64166.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
==============
واجب من هو في مكان لا يستطيع إقامة شعائر دينه
تاريخ 05 ربيع الأول 1427 / 04-04-2006
السؤال
أنا في بلاد لا يمكنني أن أظهر فيها ديني، ولذلك تنبغي علي الهجرة فهل لي أن أهاجر دون استشارة والدي
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المسلم إذا كان في بلد لا يستطيع فيه إقامة شعائر الدين ولا يأمن على نفسه أو عرضه أو ماله فإن عليه أن يهاجر إلى بلد يأمن فيه على نفسه ويستطيع إقامة شعائر دينه، ولذلك فإذا لم تكن تتمكن من إظهار شعائر الدين فإن عليك أن تهاجر إلى بلد آخر تستطيع أن تظهر فيه شعائر دينك إذا وجدته وكنت قادرا على الهجرة، آمنا في الطريق وبعد الوصول، ولا يتوقف ذلك على إذن الوالدين.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
====================
هل يكفي الطلاق المدني الصادر من دولة غير مسلمة
تاريخ 16 صفر 1428 / 06-03-2007
السؤال
سيدي الفاضل، في البداية أود أن أتقدم لسيادتكم بخالص شكري وتقديري على ما تقدمه في سبيل نهضة الأمة الإسلامية وهداية المسلمين ونظرا لثقتي الشديدة في أرائك الحكيمة ولأنه ليس لي ملجأ سواك للسؤال والمشورة فقد قررت أن أكتب إليك لعلك تطفئ نار الحيرة في قلبي.(3/78)
أنا سيدة عربية مسلمة سنية وأعيش في كندا، كنت متزوجة وأعيش مع زوجي في هذا البلد وحدث بيننا الكثير من المشاكل نظرا لسوء معاشرته لي وسوء معاملته لأبنائنا ومن هذه الأشياء على سبيل المثال وليس الحصر، إهانته المستمرة لي سواء بالضرب أو بالسب حتى أنه ذات مرة ألقى علي وعاء يحتوي على حساء مغلي مما تسبب لي في ضرر كبير، ضربه لابننا وعمره 7 سنوات مما تسبب له في مرض في الدماغ أكد الأطباء أن الأمل في الشفاء منه ضعيف للغاية، أما الطامة الكبرى وهي طلبه الدائم والفرض علي بالقوة لمعاشرتي بالطريقة التي حرمها الله والتي يهتز لها عرش السماء ( بالتأكيد أنت تفهم قصدي جيدا )، إجباري على التنازل له عن ميراثي من أبي وذلك بعقد عن طريق محامي قريب له وبدون شهود، وغيرها وغيرها من الأشياء التي لو ذكرتها جميعا لاحتجت إلى مئات الصفحات لكني لا أريد أن أطيل على سيادتكم .
تركت البيت بعد أن ضاق صدري بكل ما يحدث وطلبت مه الطلاق لكنه لم يقبل ورجع هو إلى بلدنا الأم، قمت بالاتصال به وطلبت منه الطلاق مرة أخرى فقام بمساومتي وطلب مني نقودا وبالفعل أرسلت له هذه النقود ومعي ما يثبت ذلك إلا أنه ماطل مرة أخرى، وبعد محاولات كثيرة طلقني في بلدنا الأم وفرحت لذلك كثيرا .
وفي أثناء هذه الفترة تقدم إلى شخص آخر لخطبتي على خلق ودين إلا أنه سمع بذلك الأمر وأرجعني إلى عصمته قبل انتهاء فترة العدة بثلاثة أيام غيابيا مع العلم بأنه تزوج من أخرى وله حياته حتى أبنائه لا يسأل عنهم بأي شكل من الأشكال .
بعد ذلك أقمت دعوى قضائية في البلد لأجنبي التي أعيش فيها لطلب الطلاق وكسبتها لأن أسبابي قوية وبالفعل تم الطلاق عن طريق المحكمة المدنية في تلك البلد . علما بأنني قد اعتبرت هذا الطلاق مثل الخلع الذي حلله الله وذلك لأنني قد تنازلت عن كل حقوقي كما أنه قد استرد المهر المقدم وأكثر منه بكثير .
والآن سؤالي لك سيدي، هل هذا الطلاق يعتبر شرعيا أم أنني مازلت على عصمته ؟ وهل يحق لي الآن شرعيا الزواج من آخر أم لا ؟؟ علما بأن معي الآن طلاقا رسميا من البلد الأجنبي التي أعيش فيها وذلك منذ عام كامل.
أرجو منك سيدي أن ترد على رسالتي في أقرب وقت ممكن فأنا في حيرة من أمري ولا أريد أن أغضب الله .
جزاكم الله خيرا وأعتذر عن الإطالة في رسالتي .
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمثل هذا النوع من القضايا تفصل فيه المحاكم الشرعية أو من يقوم مقامها فهي صاحبة الاختصاص في حل أمور المناكرات والدعاوي، أما الفتوى من بعيد فلا تفيد في هذا النوع إفادة كبيرة، وعلى العموم ليس للزوج حق في عضل زوجته بالصورة المذكورة، فإن هذا من الاستهزاء بآيات الله، وفي ذلك نزل قوله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللهِ هُزُوًا {البقرة:231} قال ابن كثير في التفسير: "كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارا لئلا تذهب إلى غيره ثم يطلقها فتعتد فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة فنهاهم الله عن ذلك وتوعدهم عليه فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي بمخالفته أمر الله تعالى" انتهى
كما أن طريقته المذكورة في معاشرتها من كبائر الذنوب كما سبق بيانه في الفتوى رقم:8130 ، ولا يجوز لها طاعته في ذلك.
ولها حق طلب الطلاق للضرر، فإن أجاب الزوج وإلا طلق عنه القاضي، أو من يقوم مقامه من مركز إسلامي ونحوه، وليس للزوج أخذ العوض في الخلع إذا كان الضرر منه على الزوجة، كما سبق في الفتوى رقم: 49317.
وإذا كان الزوج قد أخذ العوض الذي بذلته له زوجته، وقبل ما تنازلت له منه من حقها مقابل إنهاء العصمة، فإن الخلع يقع عليه ولو لم يتلفظ به كما نص عليه أهل العلم. قال في مختصر خليل للخرشي: ( ص ) وكفت المعاطاة ( ش ) أي كأن تعطيه شيئا على وجه يفهم منه أنه في نظير العصمة ويفعل فعلا يدل على قبول ذلك ) انتهى، قال في فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك(لو أعطته المال في نظير الطلاق من غير تعليقه على شيء، وقبله وقع الطلاق بائنا، وإن لم يتلفظ بشيء قال في المختصر: وكفت المعاطاة الخرشي كأن تعطيه شيئا على وجه يفهم منه أنه في نظير العصمة، وكأن تدفع له دراهم، ويقبل منها ذلك ا هـ المجموع، وكفت المعاطاة حيث فهم الخلع ا هـ،) انتهى
وكان ينبغي للأخت أن تلجأ إلى المركز الإسلامي في بلد إقامتها لحل قضيتها، أو لتحديد الحق الذي لها أن تطالب به عن طريق القانون الوضعي، أما اللجؤ إلى القانون الوضعي ابتداء فلا يجوز، فقد نص البيان الختامي للمؤتمر الثاني لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، المنعقد بكوبنهاجن- الدانمارك مع الرابطة الإسلامية، في الفترة من 4-7 من شهر جمادى الأولى لعام ألف وأربعمائة وخمسة وعشرين من الهجرة الموافق 22-25 من يونيو لعام ألفين وأربعة من الميلاد على (أنه يرخص في اللجوء إلى القضاء الوضعي عندما يتعين سبيلا لاستخلاص حق أو دفع مظلمة في بلد لا تحكمه الشريعة، شريطة اللجوء إلى بعض حملة الشريعة لتحديد الحكم الشرعي الواجب التطبيق في موضوع النازلة، والاقتصار على المطالبة به والسعي في تنفيذه.) كما تطرق البيان إلى (أن اللجوء إلى القضاء الوضعي لإنهاء الزواج من الناحية القانونية لا يترتب عليه وحده إنهاء الزواج من الناحية الشرعية، فإذا حصلت المرأة على الطلاق المدني فإنها تتوجه به إلى المراكز الإسلامية وذلك على يد المؤهلين في هذه القضايا من أهل العلم لإتمام الأمر من الناحية الشرعية) انتهى
وعليه فعلى الأخت أن تتوجه إلى المركز الإسلامي لإتمام الأمر من الناحية الشرعية.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============(3/78)
الفهرس العام
الباب الثاني…1
فتاوى حول الهجرة…1
تفسير آية ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم...) وواقع المسلمين…1
الحجاب... وإلا وجبت الهجرة…3
الزواج على الورق لأجل الحصول على الجنسية…4
الواجب على من يقيم في بلاد الكفر…6
حكم بقاء من أسلم من أهل البلدان غير الإسلامية في بلده…7
إعادة إقامة الخلافة واجب شرعي على المسلمين…9
قصة حديث "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين…11
شروط جواز إعانة مريد الهجرة إلى بلاد الكفر…12
الأفضل أن تستبدل الكلمة بـ(الهجرة)…13
الهجرة على ثلاثة أضرب…15
شروط الاستعانة بالكافر والسلام عليه…15
الهجرة واجبة لمن لم يتمكن من أداء شعائر الدين…17
من وسائل المبشرين لتدنيس هوية المسلم…18
الإسلام يهدم ما كان قبله…21
هل ترخص الهجرة لديار الكفر لتحسين المعيشة…21
لا تجوز الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد غير المسلمين إلا في حال الضرورة…23
حكم العمل في ديار الكفر…25
البديل المأمون بلاد المسلمين…27
كيف تكون داعية ناجحاً ومؤثراً…28
الحكم من استئجاره عليه الصلاة والسلام دليلاً لطريق الهجرة…30
مرتكب الكبائر هل يدخل في مسمى (الكفر)…31
لهذه الاعتبارات نرى أن العمل الدعوي للمرأة هو الأسلم…32
مسائل في أحكام دار الإسلام ودار الحرب…35
شروط جواز الهجرة لديار الكفر…36
هجر المسلم...المشروع منه والممنوع…36
هجرة الإنسان من مكان المعصية إلى مكان الطاعة واجبة…38
حكم اللجوء لبلاد الكفر لتحصيل لقمة العيش…40
أحوال الهجرة من بلاد الكفر…41
من شروط حِلِّ ذبيحة الكتابي…43
تستطيع القيام بكثير من أمور الدين…44
الغيرة منها المحمود ومنها المذموم…45
الحياة السعيدة يكون باتباع هدي الكتاب والسنة…46
وسائل المحافظة على الإيمان والدعوة وتحصيل العلم…47
متى تباح الدراسة في بلاد الكفر…51
بيع المرأة وشراؤها وقت النداء يوم الجمعة…52
ماهي دار الكفر و ما هو حكم الذين يعيشون في هذه الدار، هل هم مسلمون أم كفار أم مشركون، أرجو الإجابة بالتفصيل.…53
يزداد المسلم رسوخا في الإسلام بحسب استسلامه وانقياده…54
الأكل من اللحوم المذكاة في بلد انتشر فيه فساد العقيدة…57
الهجرة للإقامة والعمل في البلاد الأجنبية…58
هل تجوز الهجرة لإنسان ضاق به العيش فى مجتمع يشوبه الجهل والتخلف والتعسف؟…59
يجوز استخدام المشرك…60
هاجر للدراسة فشعر باليأس والفشل…61
الفرق بين السفر والهجرة…62
ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها…63
اكتساب الخبرات النافعة من الكفار مشروع…64
حكم إقامة من يستطيع إقامة شعائر دينه في بلاد الكفر…67
حكم الهجرة إلى بلاد الكفر لمن لم يستطع إقامة شعائر دينه في بلده…68
الهجرة من دار الفسق والبدعة مشروعة…70
حكم صلاة الفريضة في السيارة خشية التعرض للأذى…71
هل يلزم الزوج التطليق إن طلبته الزوجة…72
المسلم مطالب بالدعوة إلى الله على حسب استطاعته…73
البقاء في بلاد غير المسلمين يختلف باختلاف حال المقيم…74
الأذن في المرأة من العورة…75
السفر لبلاد الكفار للعمل والدراسة والسياحة…77
الدفن في التابوت ودفن الميت في بلد غير الذي مات فيه…78
تفنيد بعض الفتاوى الصادرة عن برنامج( صناع الحياة)…80
الصلاة على السقط ودفنه…85
من خشي الفتنة على نفسه في ديار الكفر وجب عليه الخروج…86
ضوابط لمشروعية هجر أهل المعاصي…87
من مفاسد الإقامة في ديار الكفر…89
تأخير الهجرة من دار الكفر لتجديد الإقامة…93
هجرة من لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه…95
واجب من لا يستطيع إقامة شعائر دينه في بلده…96
الابتلاء من سنن الله في خلقه…97
الإكراه المعتبر في جواز النطق بالكفر…101
تجب الهجرة من بلاد الكفر لمن خشي على انحراف أبنائه…103
للمؤمن أسوة حسنه في الأنبياء والصالحين في مواجهة الابتلاء…103
هذه الأعذار ليست كافية لترك الصلاة…108
لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه…109
السفر إلى بلاد الكفر أو القرض الربوي لتحصيل مسكن…111
سفر المرأة مع صبي لها…112
حكم عمل المرأة مضيفة في الطائرة…115
الهجرة بالمال إلى الغرب للعمل…118
الإقامة في بلاد الكفر لأجل العمل وتسديد الديون…119
بقاء الأسرة في الدولة الكافرة عند الحاجة…119
ترك الدراسة بل عدم الإقامة في دار الكفر…121
بلاد الملحدين وبلاد أهل الكتاب…122
لا يجوز البقاء في مكان يغلب على الظن الفتنة في الدين…123
ذات الدين إذا كان أولياؤها عقيدتهم منحرفة…124
النطق بكلمة الكفر عند الاضطرار…127
حكم الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا…128
الإقامة في ديار الكافرين وشفاعة سيد المرسلين…129
التمسك بالدين عند الفتن…131
دلالات الدين الحق…133(3/78)
من حصل على منحة دراسية بشرط العمل لدى الجهة المانحة ولا يريد العودة لبلده…147
التخوف من إنجاب الأطفال…149
الفرار بالدين... أم البقاء مع الزوج في بلاد الكفر…150
حكم الإقامة في الدول الإسلامية المطبقة للقوانين الوضعية…152
حكم من ركب البحر ومات في ما يسمى (بالهجرة السرية)…155
حكم السفر إلى بلاد الكفار؟ وحكم السفر للسياحة؟…156
وسئل أيضاً: عن حكم الإقامة في بلاد الكفار؟…157
رجل أسلم في دار الحرب هل يبقى فيها…163
حكم السلام على غير المسلمين…165
ما حكم الهجرة من بلاد المسلمين إلى دولة غربية أو كافرة؟…166
فتوى حول الهجرة من فلسطين…166
التزام المسلمين بالأحكام الشرعية في بلاد غير المسلمين…169
وصية ابن باز للأقليات الإسلامية…173
حكم السفر إلى بلاد المشركين…175
لا تجوز الإقامة في بلد يظهر فيه الشرك والكفر إلا للدعوة إلى الله…176
ما حكم الهجرة؟.…179
ما حكم الهجرة إلى كندا؟…180
حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم…180
الإقامة في بلد الكفار…182
ديار الكفر وديار الإسلام…185
إعانة المهاجرين على إقامة غير نظامية في أوربا…187
الهجرة إلى بلد غير مسلم…188
الإقامة في بلاد الكفر لتحصيل الجنسية…190
التجنس بجنسية الدولة الكافرة…191
الهجرة إلى بلد مسلم…194
هل هذا يوجب الهجرة من بلدي؟!…196
الهجرة إلى بلاد الكفار…198
دخول المسلم إلى دولة غير إسلامية والإقامة فيها…199
البلد الذي يُحكم بالقانون الوضعي؛ هل هو بلد كفر؟ تجب الهجرة منه؟…219
الهجرة مفاهيم وآثار…219
حكم الهجرة إلى بلاد الكفر الأصلية لتحسين المعيشة…225
التحذير من السفر إلى بلاد المشركين…226
حكم السفر إلى بلاد الكفر لأجل التجارة؟…231
فصل؛ في وجوب الهجرة وبيان أحكامها…232(3/79)
الباب الثالث
أحكام الدور الثلاث عند المعاصرين
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثالث
أحكام الدور الثلاث عند المعاصرين
إسلام زوجة الكافر فى دار الإسلام ودار الحرب
فتاوى الأزهر - (ج 6 / ص 36)
المفتي
أحمد هريدى .
30 نوفمبر 1964م
المبادئ
1- إسلام زوجة الكافر وهما فى دار الإسلام يقتضى عرض الإسلام عليه، فإن أسلم فهى امرأته، وإن أبى فرق بينهما، ويكون ذلك بقضاء القاضى .
2- إسلامها وهما فى دار الحرب لا تقع به الفرقة بينهما حتى تحيض ثلاثا إن كانت من ذوات الحيض، وإلا فبمضى ثلاثة أشهر، ثم تبين منه إن لم يسلم قبل انقضاء هذه المدة .
3- الإسلام ليس سببا للفرقة، ولكن الإباء عنه من الزوج هو السبب فيها، وهذا إذا كان إسلامها فى دار الإسلام .
4- عند تعذر عرض الإسلام عليه لكونهما فى دار الحرب - لقصور الولاية - يقام شرط الفرقة وهو هنا مضى الحيض أو المدة مقام السبب هو الإباء .
5- بإسلام زوجها قبل حيضها ثلاثا، أو قبل مضى ثلاثة أشهر يكونان على نكاحهما .
6- خروج أحدهما إلى دار الإسلام بعد إسلام أحدهما فى دار الحرب يكون الحكم كما إذا أسلمت وهما فى دار الحرب لعدم ولاية القاضى على من كان فى دار الحرب .
7- تجب عليها العدة الصاحبين، وتبدأ من عقب وقوع الفرقة بمضى ثلاث حيضات، أو بمضى ثلاثة أشهر، ولا عدة عليها عند أبى حنيفة
السؤال
من السيدة/ بطلبها المقيد برقم 761 سنة 1964 المتضمن أنها تحمل جنسية جمهورية بورما وكانت تدين بالمسيحية، وتزوجت من المدعو / الإنجليزى الجنسية والمسيحى الديانة، وكانت تقيم معه فى بورما، وفى شهر يونية سنة 1962 تركته وذهبت إلى إنجلترا للدراسة وأقامت بلندن .
أما زوجها فقد عاد إلى بلده أقام بها حتى الآن بمفرده وحدث أثناء إقامتها بلندن للدراسة أن درست تعاليم الدين الإسلامى وصممت عن اقتناع على الدخل فى الإسلام، وفعلا أشهرت إسلامها فى يناير سنة 1964 فى المركز الإسلامى بلندن، وحصلت على إشهاد بذلك، وعندما علم زوجها بإسلامها أخذ فى مضايقتها ومطاردتها غير آبه باختلاف الدين مع أن صلته به قد انقطعت منذ سنة 1962 عند مغادرتها بورما إلى إنجلترا للدراسة، وأنها اضطرت إثر مالاقته من متاعب ومطاردة من زوجها إلى البحث عند بلد إسلامى تلجأ إليه لحمايتها، ولتحصل على رأى الدين فى عقد زواجها من زوجها المسيحى، وقد حضرت إلى الجمهورية العربية المتحدة فى الثانى من شهر أبريل سنة 1964 وطلبت السائلة الإفادة عن الآتى : 1- مصير عقد زواجها من هذا الإنجليزى المسيحى عد إسلامها وهجرتها إلى بلد إسلامى ووجوده ببلد مسيحى هى إنجلترا، وهل تقرير مصير هذا العقد يحتاج إلى حكم القاضى للتفريق بينهما، أم يق بمجرد إسلامها ووجودها ببلد إسلامى ووجود الزوج فى دار حرب 2-إذا اعتبر أن عقد الزواج مفسوخ منذ إسلامها فى يناير سنة 1964 فهل هذا الأمر يحتاج إلى عدة قبل زواجها من مسلم، أم لا يحتاج إلى ذلك
الجواب
المنصوص عليه فى مذهب الحنفية أنه إذا أسلمت المرأة وزوجها غير مسلم وكانا فى دار الإسلام عرض عليه الإسلام من القاضى، فإن أسلم فهى امرأته وإن أبى فرق بينهما .
أما إذا كانا فى غير دار الإسلام وأسلمت الزوجة وزوجها غير مسلم لم تقع الفرقة بينهما حتى تحيض ثلاث حيض إن كانت ممن تحيض، وإلا فبعد مضى ثلاثة أشهر، ثم تبين من زوجها إن لم يسلم قبل انقضاء هذه المدة .
قال صاحب الهداية وإذا أسلمت المرأة وزوجها كافر عرض عليه الإسلام فإن أسلم فهى امرأته، وإن أبى فرق القاضى بينهما .
لأن المقاصد قد فاتت، فلا بد من سبب تبنى عليه الفرقة، والإسلام طاعة فلا يصلح سببا فيعرض الإسلام لتحصل المقاصد بالإسلام أو تثبت الفرقة بالإباء .
ثم قال وإذا أسلمت المرأة فى دار الحرب وزوجها كافر لم تقع الفرقة عليها حتى تحيض ثلاث حيض ثم تبين من زوجها .
وهذا لأن الإسلام ليس سببا للفرقة، وعرض الإسلام متعذر لقصور الولاية، ولابد من الفرقة دفعا للفساد، فأقمنا شرطها وهو مضى الحيض مقام السبب كما فى حفر البئر ولا فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها .
وقال صاحب الفتح تعليقا على قول صاحب الهداية حتى تحيض ثلاث حيض إن كانت ممن تحيض وإلا فثلاثة أشهر، فإن أسلم الآخر قبل انقضاء هذه المدة فهما على نكاحهما وإن لم يسلم حتى انقضت وقعت الفرقة، وقال صاحب تبيين الحقائق (ولو أسلم احدهما ثمة فى دار الحرب لم تبن حتى تحيض ثلاثا، فإذا حاضت ثلاثا بانت، ثم قال وكذلك الحكم إذا خرج أحدهما إلى دار الإسلام بعد إسلام أحدهما فى دار الحرب لا تقع الفرقة بينهما حتى تحيض ثلاث حيض، لعدم ولاية القاضى على من بقى فى دار الحرب، فما لم يجتمعا فى دار الإسلام لا يعرض على المصر سواء خرج المسلم أو الآخر .
ثم إذا وقعت الفرقة بعد انقضاء الحيض الثلاث تلزمها العدة عند الصاحبين، ولا تلمها عند أبى حنيفة .(4/1)
وبما أن السائلة أسلمت فى لندن فى يناير سنة 1964 وزوجها مسيحى يقيم بلندن فلا تقع الفرقة بينها وبين زوجها إلا بعد مضى ثلاث حيض إن كانت ممن تحيض، أو مضى ثلاثة أشهر إن كانت من غير ذوات الحيض من تاريخ إسلامها، من غير حاجة إلى عرض الإسلام أو إلى حكم القاضى، ثم إذا وقعت الفرقة بعد انقضاء الحيض الثلاث لزمها قبل أن تتزوج من آخر عدة عند الصاحبين، ولا يلزمها عند أبى حنيفة، فيحل لها الزواج بعد انقضاء الحيض الثلاث الأول التى تقع بعدها الفرقة عنده، وبعد انقضاء العدة عقب الفرقة عندها .
ومما ذكر يعلم الجواب عن السؤال .
والله أعلم
===============
دار الإسلام و دار الحرب
فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 119)
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما المقصود بدار الحرب ، ومتى يطلق على منطقة بأنها دار حرب ، وهل تقام فيها الحدود ؟
الجواب
جاء فى كتاب " بيان للناس من الأزهر الشريف ، ج 1 ص 248 " أن تقسيم البلاد إلى دار كفر وإسلام أمر اجتهادى من واقع الحال فى زمان الأئمة المجتهدين ، وليس هناك نص فيه من قرآن أو سنة . والمحققون من العلماء قالوا : إن مدار الحكم على بلد بأنه بلد إسلام أو بلد حرب هو الأمن على الدين . حتى لو عاش المسلم فى بلد ليس له دين أو دينه غير دين الإسلام ، ومارس شعائر دينه بحرية فهو فى دار إسلام ، بمعنى أنه لا تجب عليه الهجرة منها . وذكر المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة فى رسالة عن نظرية الحرب فى الإسلام " ص 38" رأيين للفقهاء فى دار الإسلام ودار الحرب . ثم اختار رأى أبى حنيفة وهو: أن مدار الحكم هو أمن المسلم ، فإن كان اَمنا بوصف كونه مسلما فالدار دار إسلام وإلا فهى دار حرب . وقال : إنه الأقرب إلى معنى الإسلام ، ويوافق الأصل فى فكرة الحروب الإسلامية وأنها لدفع الاعتداء . انتهى . وبخصوص الحدود قال فريق من الفقهاء منهم أبو حنيفة : إذا غزا أمير أرض الحرب فإنه لا يقيم الحد على أحد من جنوده فى عسكره ، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبه ذلك ، فيقيم الحدود فى عسكره ، وحجتهم أن إقامتها فى دار الحرب قد تحمل المحدود على الالتحاق بالكفر. وقد نص على عدم إقامتها أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعى وغيرهم ، وعليه إجماع الصحابة . وكان أبو محجن الثقفى لا يطيق الصبر عن شرب الخمر، فشربها بالقادسية فحبسه أمير الجيش سعد بن أبى وقاص وأمر بتقييده ، ثم طلب من امرأة سعد أن تطلقه ليشترك فى المعركة وتعهد بالعودة إلى الحبس ، وكان ذلك ، ولما عرف سعد بلاءه فى الحرب عفا عنه فتاب عن الحمر . ورأى جماعة آخرون عدم الفرق بين إقامة الحدود فى دار الإسلام وغيرها، ومنهم مالك والليث بن سعد .
وبعد، فهذا سؤال تقليدى عن الحدود قضت به ظروف كان المسلمون فيها أصحاب قوة وسلطان يفتحون البلاد بالإسلام ، فهل يمكن فى ظروفنا الحاضرة أن يكون لنا هذا الوضع ؟ هذا ، ويثار هنا سؤال عن حكم إقامة المسلم فى بلاد المشركين ، ورأى الإسلام فى الجاليات الإسلامية . روى أبو داود والترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " أنا برىء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " . وهذا الحديث يلتقى مع الآيات التى تحث على الهجرة من مكة إلى المدينة، وتنعى على من يستطيعون الهجرة ولا يهاجرون ، ومنها قوله تعالى { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض اللَّه واسعة فتهاجروا فيها ، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} النساء : 97 ، . والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة ، لكن هل هى واجبة أم مندوبة؟ قال العلماء : إن خاف المسلم على دينه وخلقه أو على ماله وجب أن يهاجر، وإن لم يخف لم تجب الهجرة ، وتكون سنة . لكن قال المحققون : إذا وجد المسلم أن بقاءه فى دار الكفر يفيد المسلمين الموجودين فى دار الإسلام ، أو يفيد المسلمين الموجودين فى دار الكفر بمثل تعليمهم وقضاء مصالحهم ، أو يفيد الإسلام نفسه بنشر مبادئه والرد على الشبه الموجهة إليه - كان وجوده فى هذا المجتمع أفضل من هجره ، ويتطلب ذلك أن يكون قوى الإيمان والشخصية والنفوذ حتى يمكنه أن يقوم بهذه المهمة .
وقد كان لبعض الدعاة والتجار فى الزمن الأول أثر كبير فى نشر الإِسلام فى بلاد الكفر " انظر الجزء الأول من كتاب بيان للناس من الأزهر الشريف "
=============
ُدار الإسلام ودار الكفر
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 5 / ص 53)
المجيب د. عبد الله بن المحفوظ بن بيه
وزير العدل في موريتانيا سابقاً
أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ 15/3/1425هـ
السؤال
ما هو تعريف دار الإسلام ودار الكفر ودار الحرب؟ هل تنطبق هذه المصطلحات على عالم اليوم؟ إذا كان الجواب نعم أرجو بيان مواقع كل دار على أرض الواقع.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:(4/2)
هذه المسألة اختلف فيها العلماء، فبعضهم قسم الدور إلى دارين فقط إلى دار إسلام ودار حرب، وهم الأحناف،ومعنى هذه القسمة أن كل دار لا يحكمها الإسلام تعتبر دار حرب، ولكن أكثر العلماء من المذاهب الثلاثة قسموا الدور إلى ثلاثة، إلى دار إسلام ودار حرب، ودرا هدنة وموادعة، وصلح، فتسمى بكل هذا: دار هدنة، ودار موادعة، ودار صلح، فأكثر الدور الآن - أي ديار غير المسلمين- هي في الحقيقة من هذا النوع من دار الهدنة، بناء على الاتفاقيات الدولية التي انخرط فيها المسلمون مع غيرهم في ميثاق الأمم المتحدة فيمكن اعتبار هذه الدور في العالم الغربي والعالم الشرقي أنها من باب دار الهدنة ودار الموادعة، وبالتالي فيمكن أن تعتبر دار سلم، وليست دار إسلام، فدار الإسلام هي الدار التي يحكمها المسلمون، وبعض العلماء يقول التي تتسم بشرائع الإسلام، لكن بصفة عامة نقول إن الدار التي يكون أكثر سكانها مسلمين فهي إن شاء الله دار إسلام، أما الدار التي تحكمها قوانين غير إسلامية وسكانها ليسوا مسلمين، فهذه تعتبر في الوقت الحاضر - إلا ما شذ وندر - هي دار موادعة أو دار سلم، يطلق عليها دار سلم لوجود معاهدات دولية تمنع الاعتداء.
طبعاً على أرض الواقع هناك شيء آخر، يعني طموحات أو ميولات عدوانية لدى بعض الدول، لكن مع هذه الميولات العدوانية هي لا تعلن أنها تحارب الإسلام، ومع وجود الميولات العدوانية عند بعض الدول بالنسبة لبعض المسلمين، أو بالنسبة لبعض البلاد الإسلامية تكون هذه الدول ذات الميول العدوانية بالنسبة لها تعتبر دار حرب، ولكن بصفة عامة نقول إن ميثاق الأمم المتحدة والتداخل العالمي الحالي جعل الدور كلها يمكن أن تعتبر دار سلم، إلا ما قل وندر، كدولة بني إسرائيل ونحو ذلك التي تعلن حرباً حقيقية على بعض المسلمين.
==============
الفرق بين دار الإسلام ودار الكفر
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 16 / ص 333)
المجيب د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
عضو البحث العلمي بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/الجديد
التاريخ 07/01/1427هـ
السؤال
ما الفرق بين دار الإسلام ودار الكفر؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالأرض التي تسود فيها أحكام الإسلام هي دار الإسلام، وخلافها دار الكفر. وأمة الإسلام أمةٌ ذات رسالة سماوية، تتحمل مسؤولية ربانية تجاه الناس جميعاً، على اختلاف أعراقهم، وأوطانهم، ولغاتهم؛ لهدايتهم إلى دين الله الحق، ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، كما وصفها الله في كتابه بقوله: "كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" [آل عمران: من الآية110]. فمن حال بين الناس وبين سماع الحق وقبوله، وأقام الحواجز المادية أمام الأمة ورسالتها، فقد بادأها العداء، وأعلن عليها الحرب، فمن البدهي أن تكون داره دار حرب.
ولم تزل الدول قديماً وحديثاً تعلن الحرب على دول أخرى لأقل من هذا؛ كما شهدنا في الأحداث القريبة إعلان بعض الدول المتحالفة الحرب على العراق بدعوى لم تثبت قبل، ولا أثناء، ولا بعد تلك الحرب!! ثم يندد بعض المجحفين بحركة الفتح الإسلامي التي كانت رحمة على البشرية جمعاء.
إن مقاصد الفتوحات الإسلامية أن يكون الدين لله، وأن يرفع الظلم عن المستضعفين، وليس لتحقيق مطامع مادية، أو أهداف استراتيجية، أو القيام بعمليات تهجير عرقي، أو ممارسة ضغوط ابتزازية، كما فعلته وتفعله كثير من الدول الغربية الآن. والله أعلم.
==============
دار الإسلام ودار الحرب
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3482)
رقم الفتوى 7517
تاريخ الفتوى : 20 محرم 1422
السؤال
ما معنى دار حرب و دار السلم؟ وهل لبنان يعتبر دار حرب؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد عَّرف الفقهاء دار الإسلام ودار الحرب بتعريفات وضوابط متعددة يمكن تلخيصها فيما يلي، دار الإسلام هي: الدار التي تجري فيها الأحكام الإسلامية، وتحكم بسلطان المسلمين، وتكون المنعة والقوة فيها للمسلمين.
ودار الحرب هي: الدار التي تجري فيها أحكام الكفر، أو تعلوها أحكام الكفر، ولا يكون فيها السلطان والمنعة بيد المسلمين.
قال الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: تعتبر الدار دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها، وإن كان جُلُّ أهلها من الكفار.
وتعتبر الدار دار كفر لظهور أحكام الكفر فيها، وإن كان جل أهلها من المسلمين. المبسوط للسرخي 10/144.
وقال الإمام ابن القيم: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم يجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها. أحكام أهل الذمة 1/266.
ويقول الإمام ابن مفلح: فكل دار غلب عليها أحكام المسلمين فدار الإسلام، وإن غلب عليها أحكام الكفر فدار الكفر، ولا دار لغيرهما. الآداب الشرعية 1/213.
إذا عرفت هذا استطعت التمييز بين دولة وأخرى من حيث كونها دار إسلام، أو دار حرب. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============(4/3)
حكم الربا في دار الكفر كحكمه في دار الإسلام
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 1883)
رقم الفتوى 13433
تاريخ الفتوى : 26 ذو القعدة 1422
السؤال
سؤالي عن شراء البيت في كنداً لأني أسكن هناك والطريقة المتبعة عندنا هي طريقة ربوية، بعض المسلمين يقولون شراء البيت عن طريق البنوك الربوية يجوز لأننا لا نسكن في بلد إسلامي كما أفتى عدد من الباحثين بذلك لعدم وجود خيار آخر، أنا أريد أن آخذ منك المشورة في هذا الصدد.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فحكم الربا في دار الكفر كحكمه في دار الإسلام سواء، هذا مذهب جماهير العلماء: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة.
ودليلهم على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة القاضية بتحريم الربا مع عدم التفريق بين دار الحرب ودار الإسلام، ولا بين تعامل المسلم مع مسلم أو مع كافر، وأما عن حكم الاقتراض بالفائدة الربوية لبناء مسكن فقد تقدمت الإجابة عنه في الجواب رقم:
1297
واعلم أن شراء السكن ليس ضرورة، ما دام يمكن دفع هذه الحاجة أو الضرورة بالاستئجار.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
أحكام الملتَقَط في دار الإسلام
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4065)
رقم الفتوى 17151
تاريخ الفتوى : 20 ربيع الأول 1423
السؤال
ما حكم زواج اللقيط وهل يشترط أن تكون الفتاة لقيطة أيضا أفتونا جزاكم الله خير الجزاء؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد :
اللقيط وهو الولد المتروك في الشوارع مجهول الأب أو الأولياء، إذا وجد في دار الإسلام أو في بلد يغلب عليه المسلمون فهو حرٌّ مسلم في جميع أحكامه، فهو مسلم تبعاً للدار، وحرٌّ لأن الأصل في الآدميين الحرية. فالله تعالى خلق آدم وذريته أحراراً.
وعلى هذا، فإن جميع تصرفاته وعقوده لها حكم تصرفات غيره من أحرار المسلمين، بما فيها زواجه وطلاقه .. فما ذكره السائل من اشتراط زواجه من لقيطة مثله ، غير صحيح ولم يقُل به أحد .
والله أعلم .
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
الحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4139)
رقم الفتوى 17269
تاريخ الفتوى : 30 ربيع الأول 1423
السؤال
إذا عمل أحد في المافيا أو عمل تاجر مخدرات بالغرب وباع المخدرات لشباب الغرب الفاسدين هل هذا العمل حرام أم حلال؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز للمسلم أن يعمل في المافيا أو أن يكون تاجر مخدرات ومحرمات لا في بلاد الغرب ولا في غيرها وذلك لما يأتي:-
1- لأن جريمة المخدرات وأعمال المافيا تظل جريمة في حق الإنسان أيَّ إنسان بما تمثله من شر وفساد في الأرض، وقتل وتدمير للإنسان. وهذا الوصف لا ينفك عنها في أي مكان، فالتحريم ملازم لها في كل الأحوال ولا يختص بزمان ولا مكان. وما جاء الإسلام إلا لينقذ البشرية من الشرور بجميع أصنافها.
ولا شك أن كلا من العمل في ترويج المخدرات والعمل في عصابات المافيا يعتبر شراً محضاً، وقد حرم الإسلام الخمر -وهي أقل ضرراً من المخدرات- وأوجب على شاربها الحد، ولعنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن شاربها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه.
أما المافيا فإن الإسلام سمى أصحابها محاربين، وقد أنزل فيهم قول الله جل وعلا: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33].
2- المسلم يلتزم أحكام الإسلام أينما حلَّ وذهب، يقول الشوكاني رحمه الله: فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها. السيل الجرار4/152.
ويقول الشافعي: والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر. الأم 7/355.
3- المسلم إذا دخل ديار الغرب بإذن منهم واشترطوا عليه عدم الفساد أو الإخلال بأمن بلادهم، فيجب على المسلم أن يفي بالشرط وأن يُنجز الوعد والعهد، فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، وهذا عام فيجب الوفاء بالعقد مع أي كان من مسلم و كافر. وفي الحديث الصحيح: المسلمون على شروطهم.
4- إن صورة المسلم الذي يتعامل بالمخدرات ويروج لها أو يشارك في المافيا، صُّد عن سبيل الله وقطع لطريق هؤلاء إلى الإسلام، والله تعالى يقول: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ*الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [هود:19].
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
مسائل في أحكام دار الإسلام ودار الحرب
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4407)
رقم الفتوى 24428
تاريخ الفتوى : 24 شعبان 1423(4/4)
السؤال
- ما هو تعريف الدارين أي دارالإسلام ودارالكفر؟
- ما هي العلاقة بين الدارين أي ( دار الإسلام ودارالكفر)؟
- وما حكم الإقامة في دار الكفر الأصلي؟
- ما هي شروط دارالإسلام؟
- وأخيراً كيفية استئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة إسلامية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تقدم الكلام عن معنى دار الحرب ودار الإسلام، وشروط دار الإسلام، وذلك في الفتوى رقم: 7517 .
وتقدم الكلام عن أحكام الإقامة في دار الحرب، والهجرة إليها، وذلك في الفتوى رقم: 8614 .
وتقدم الكلام عن العلاقات بين دار الحرب ودار الإسلام، وذلك في الفتوى رقم: 20632 .
وتقدم الكلام عن استئناف الحياة الإسلامية، وإقامة دولة إسلامية، وذلك في الفتوى رقم: 1411 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
قسمة التركات لا فرق فيها بين دار الإسلام ودار الكفر
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2711)
رقم الفتوى 63263
تاريخ الفتوى : 06 جمادي الأولى 1426
السؤال
فى حالة وفاة شخص مسلم فى بلاد المهجر هل يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية في توزيع التركة مع العلم، أن الهالك ترك وصية لأخيه وفي حالة عدم توافق الورثة، فهل يجوز تطبيق قانون هذا البلد الذي توجد به كل ممتلكات الهالك؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا بد للمسلم من تطبيق شرع الله وتنفيذ حكمه سبحانه لا فرق في ذلك بين دار الإسلام ودار الكفر، وقسمة التركات وتوزيعها مما بينه سبحانه وتعالى بنفسه ولم يكله لملك مقرب ولا نبي مرسل، وختم ذلك بأمر عظيم بليغ، فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ {النساء:13-14}.
فهذا هو الواجب أن توزع التركة كما أمر الله سبحانه وتعالى ولا يجوز رفض ذلك، فعلى جميع الورثة الانقياد والإذعان له، فقد قال سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا {الأحزاب:36}، فلا خيرة للمسلم بعد أمر الله وحكمه، وإذا اضطر المسلم في بلاد الغرب إلى مخاصمة ومحاكمة فينبغي أن تكون إلى المراكز الإسلامية في تلك البلاد أو إلى هيئة إسلامية أو محكمة شرعية خارجها، ولا يلجأ إلى المحاكم الوضعية بحال ما أمكن ذلك، كما بينا في الفتوى رقم: 26057 .
وأما وصية الميت لأخيه فإنها لا تنفذ ولا تجوز إذا كان وارثاً إلا إذا أجازها الورثة فتكون عطية منهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. أخرجه أبو داود وغيره وصححه الألباني .
وأما إن كان غير وارث لكونه محجوبا عن الإرث بوجود ابن أو أب للميت فتجوز له الوصية في الثلث فما دونه وعلى الورثة تنفيذ الوصية قبل قسمة التركة كما جاء في كتاب الله: مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ {النساء:12}، كما بينا في الفتوى رقم: 21998 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
الموازنة بين الإقامة في دار الإسلام ودار الكفر
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 2971)
رقم الفتوى 63556
تاريخ الفتوى : 09 جمادي الأولى 1426
السؤال
فضيلة الشيخ
أنا مسلم مقيم في أوروبا منذ عشرين سنة تقريبا، لقد وصل حال المسلمين في هذا البلد إلى مستوى من الذل والإهانة ما يصعب وصفه وبدأت أفكر في العودة إلى بلدي الأصلي المغرب إلا أنه لي أطفال يدرسون الثانوية بقي على الحصول على شهادتهم سنتان وأصبحت أخشى على بناتي أن يحصل لهن ما حصل للكثير من المسلمين بالذوبان في هذا المجتمع لكن وضع بلادي لا يساعد بناتي على التعليم حيث التعليم هناك باللغة الفرنسية ولا توجد مدارس تساعد على قبولهم في الثانويات هناك فأرجو النصح هل أعود وأضحي بكل شيء وخصوصا لي بنت بقي على تخرجها طبيبة سنتان فقط أم أصبر على ما يصيبنا ونفوض الأمر لله وما رأي الشرع في الإقامة في دار الكفر، مع العلم بأن لنا في هذا البلد الحرية التامة في القيام بشعائرنا الدينية أكثر مما هو عليه الحال في البلاد الإسلامية؟ وجزاكم الله خير الجزاء.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل جواز الإقامة للمسلم في أي مكان من أرض يستطيع القيام فيها بأداء شعائر دينه ويأمن فيها على نفسه وعياله وماله.... وما دمت آمنا على دينك ونفسك وعيالك.. هناك، ولكن طول المقام تترتب عليه مفاسد... وكذلك الرجوع إلى الوطن تترتب عليه مفاسد أخرى أيضاً.. فإن عليك أن توازن وتقارن بين تلك المفاسد فترتكب أقلها ضرراً.(4/5)
فقد قال أهل العلم: إن الشريعة مبناها على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد أو تقليلها، وترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين باحتمال أدناهما وأقلهما ضرراً.
مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار كرامة المسلم وحريته في كلا البلدين، فلا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه أو يهينها بالمقام في مكان أو الرحيل إلى آخر يهان فيه أو يذل... فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه. رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===============
إقليمية الشريعة والقضاء في ديار الإسلام
الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 111)
كلما هبَّت رياح الضعف والوهن على بلد إسلامي أو عربي، أثيرت حوله مشكلات عديدة تتعلق بأوضاع غير المسلمين من الناحية القانونية أو الاجتماعية أو السياسية، وتبدأ مظاهر الفتنة بالتساؤل: هل تطبق عليهم أحكام الشريعة الإسلامية، أو أنهم يخضعون لقوانين خاصة بهم؟ وذلك كما كان عليه الحال في أواخر عهد السلطة العثمانية، حيث تقرر بمساعي الدول الكبرى ما يسمى بنظام الامتيازات الأجنبية الذي عانت منه البلاد الشيء الكثير، ويعاصرنا الآن الوضع المتأزم في السودان بين الشمال والجنوب بمناسبة إقرار القانون الجنائي لإعفاء الجنوبيين من أحكامه، بل حتى إقليم الخرطوم عاصمة الدولة، التي يختل فيها الأمن اختلالاً ملحوظاً، وتكثر جرائم النهب والسرقة والقتل في الفترة التي أوقف فيها تطبيق الحدود الشرعية.
ومثل هذه التساؤلات لا تتردد بالنسبة لغير المواطنين في ربوع الدول القوية الغربية أو الشرقية، فلا يعترض أحد على تطبيق أحكام قانون عقوبات تلك الدولة، مهما اشتد وقسا، ومهما تعنَّت الساسة وتغطرسوا، ويظل مبدأ إقليمية القانون الذي هو جزء من سيادة الدولة هو المحترم والمطبق، ويتصدى قضاء الدولة الحالي للنظر في أي جريمة وقعت على أرضها أو إقليمها، أو حتى على وسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية والجوية التابعة لها من طائرات وسفن، ولو في غير إقليم الدولة البري أو البحري أو الجوي، وتبادر الدولة على الفور إلى طرد دبلوماسي مثلاً لإطلاقه عياراً نارياً في شارع أو قرب سفارته، وتعلن الدولة صراحة كما حدث في بريطانيا في الأسبوعين الأخيرين من شهر أيلول(سبتمبر 1988) قائلة لغير الإنجليز: إما أن تحترموا قوانيننا أو ترحلوا من بلادنا، حفاظاً على ا لأمن الداخلي والسلم والاستقرار.
وبالمقارنة بين هذا المثال والوضع في السودان يظهر لنا أن القضية إذن هي قضية قوة ونفوذ لحماية المبدأ والحق، فإن كانت هناك قوة، كان احترام المبدأ القانوني هو السائد، وإن كان هناك ضعف انحسر مبدأ القانون، وظهر الاستنكار والاستهجان في وسائل الإعلام من إذاعة وصحافة، وتجرأ الناقدون لوصف القانون الجنائي المستمد من شريعة الله تعالى بأنه متسم بالقسوة والشدة، وأنه سبب التفرقة والتجزئة والانقسام، وفصل جنوب السودان عن شماله!!
والواقع أن مشكلة جنوب السودان سياسية محضة تعتمد على دعم وتأييد خارجي، له بواعثه وأهدافه ومراميه المفروضة والمشبوهة المعروفة، وليس منشأ المشكلة قضية تطبيق الشريعة.
ومع كل هذا أودّ بيان مبدأ إقليمية القانون الجنائي والقضاء، وأقارن بين ما عليه القانون الوضعي في العقوبات، وبين ما قرره فقهاؤنا الشرعيون منذ قرون كثيرة، لمعرفة أوجه الشبه والاختلاف في هذا الموضوع المهم جداً، ولدحض ذرائع الذين يريدون التخلص من أحكام شريعة الله تعالى، بقصد إبقاء الجريمة ترتع وتمرح، ويكون المجرمون في أمان من العقاب الرادع الذي يستأصل الإ جرام ويقطع دابره.
من المعلوم أن الشريعة الغراء ذات المصدر الإلهي الوحيد الثابت الصحة والأصل منذ مجيئها وإلى اليوم والغد، تبغي الخير والسلامة والعدالة والاستقرار والعيش بسلام في ديارها وفي العالم أجمع، سواء بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم الذين يعيشون في ديار الإسلام وأوطانه، وإذا تحقق هذا الهدف، وهو سريع التحقق إذا طبقت أحكام الشريعة بأصولها وفروعها الصحيحة، وفي ضوء مقاصد التشريع العامة وروحه النقية الصافية، والتُزمت جميع الأحكام الشرعية، ليس في نطاق العقاب الصارم وحده، وإنما في مبنى الهيكل السياسي والاجتماعي والاقتصادي الشامل لجميع المواطنين في ديار الإسلام بحيث يشعر الناس أن مظلة الإسلام رحمة كلها، وخير كلها، وعدل كلها، ومصلحة كلها. وقد أثبتت التجارب أن العقوبات والأنظمة الوضعية لم تحقق للناس سعادتهم ولم تكفل أو تضمن لهم الأمن والسلامة والاستقرار لأموالهم وأنفسهم ومنازلهم وتحركاتهم وتنقلاتهم وأسفارهم.
ولا فرق في الحاجة إلى تطبيق شريعة الإسلام المدنية والجزائية بين عالم متمدن متحضر، وعالم بدائي أو متخلف، فالبشر هم البشر، والناس هم الناس، والكل يعرف أن أكبر نسبة للجرائم في العالم هي في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه في كل دقيقة أو ثانية تقع جريمة في بريطانيا وأمريكا.(4/6)
ومبدأ إقليمية قانون العقوبات وغيره في كل دولة معناه أن القانون يسري حكمه على كل ما يقع في إقليم الدولة من جرائم مهما كانت جنسية المجرم وصفته. وأساس هذا المبدأ حق الدولة في السيادة على إقليمها، سواء الإقليم الأرضي، والمائي، والجوي. والإقليم الأرضي يشمل جميع أجزاء حدود الدولة الجغرافية من مساحة الأرض اليابسة، والإقليم المائي يمتد إلى ذلك الجزء من البحر العام الملاصق لشواطئ الدولة، ويتحدد في العرف الدولي عرضه بثلاثة أميال بحرية من آخر نقطة ينحسر عنها البحر وقت الجزر، والإقليم الجوي يضم كل طبقات الجو فوق الإقليمين الأرضي والمائي.
وهذا المبدأ الذي يحكم نطاق التطبيق المكاني للنصوص الجنائية الوضعية وهو ما يعبر عنه بمبدأ ( إقليمية قانون العقوبات ) هو المبدأ السائد في عالم القانون المعاصر، ولكن يرد عليه استثناءان: أحدهما داخلي والآخر خارجي. أما الاستثناء الداخلي فيقتضي إعفاء بعض الأشخاص من الخضوع لقانون العقوبات في ا لدولة، وهم أعضاء البرلمان عما يبدونه من أفكار وآراء في أداء أعمالهم داخل المجلس أو في لجانه، ورؤساء الدول الأجنبية ورجال السلك السياسي الأجنبي، وأفراد القوات الحربية الأجنبية الذين يقومون بمهمات أمنية لحفظ السلام بترخيص من الدولة، وذلك عملاً بالعرف الدولي باعتبار أن هؤلاء تتصل أوضاعهم بسيادة الدولة التي ينتمون إليها.
وأما الاستثناء الخارجي فيعني تطبيق قانون عقوبات الدولة خارج إقليمها على جرائم تمس مصلحة أساسية لها، وهي الجرائم المخلة بأمن الدولة، وجرائم تزييف النقود الوطنية، وجرائم تزوير أختام الدولة.
ولقد أجمع فقهاء الإسلام على وجوب تطبيق الشريعة في دار الإسلام على المسلمين وغيرهم ، كما هو السائد في نظريات القوانين الوضعية، ومنها القوانين العربية، مع المخالفة أحياناً في بعض الحالات، فإن فقهاءنا اختلفوا فيما بينهم في مدى تطبيق الشريعة على المستأمن: وهو من دخل دارنا بأمان مؤقت، وذلك مثل الأجانب الذين يدخلون أراضي دولة أخرى بتأشيرة دخول من الدولة نفسها أو من سفاراتها أو قنصلياتها المعتمدة في خارج الدولة، كما اختلفوا أيضاً في مدى تطبيق الشريعة على جرائم مواطني الدولة الواقعة أو التي ترتكب خارج أرض الدولة. وتطبق أحكام الشريعة على المسلمين وغيرهم في ديار الإسلام في المعاملات المدنية والعقوبات الجنائية، سواء أكانت حدوداً شرعية (عقوبات مقدرة) أم تعازير (عقوبات غير مقدرة متروك أو مفوض تقديرها إلى ولي الأمر الحاكم).
ومبدأ إقليمية القضاء تابع لإقليمية الشريعة، ويجب على القاضي المسلم أن يحكم في النزاع في حقوق الآدميين من ديون ومعاملات في رأي الحنفية والشافعي في القول الصحيح، لقول الله تعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: {وأن احكُمْ بينَهم بما أنزلَ الله ، ولا تتَّبعْ أهواءَهم، واحذرْهم أن يفتنوك عن بعضِ ما أنزلَ الله ُ إليكَ، فإن تولَّوْا فاعلمْ أنما يريدُ الله أن يُصيبَهم ببعضِ ذنوبهم، وإن كثيراً من الناسِ لفاسقون. أفحُكْمَ الجاهلية يبغون، ومَنْ أحسنُ من الله حُكماً لقومٍ يُوقنون} [المائدة:49/5]. وهذا يشمل المسلمين وغيرهم في دار الإسلام.
وذهب فقهاء آخرون (مالك والشافعي في القول الآخر وأحمد) إلى أنه يخير القاضي المسلم بين الحكم والإعراض عن الحكم بين غير المسلمين في المعاملات، لقوله تعالى: {فإنْ جاءوك فاحكمْ بينهم أو أعرضْ عنهم} [المائدة:42/5]. والظاهر هو الرأي الأول، لأن هذه الآية منسوخة بالآية المتقدمة: {وأن احكم بينهم} [المائدة:49/5] ولأننا التزمنا بمنع الظلم عن المستوطنين غير المسلمين في ديارنا، ويلزم الدولة استئصال دابر الإجرام والفساد في داخل أراضيها لحفظ الأموال والدماء، ويجب منح غير المسلمين حق التقاضي عموماً إلى محاكمنا، وهذا يتفق مع ما قررته اتفاقية جنيف عام (1949م) في المادة (42) من منح الرعايا الأجانب حق التقاضي، سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم، بعد أن كان هذا الحق مسلوباً منهم فترة طويلة من الزمن.
ويتقوى الرأي الأول بقول الإمام علي رضي الله عنه: «وإنما بذلوا الجزية ـ ضريبة الأشخاص كضرائب الدخل الحالية ـ لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا» . وروى أبو داود والبيهقي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة» .(4/7)
أما الخلاف الفقهي في المستأمن فينحصر في رأيين: رأي أبي حنيفة ومحمد، ورأي الجمهور، أما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: فيريان أن المستأمن الذي يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام لا تطبق عليه العقوبات الشرعية إذا ارتكب جريمة متعلقة بحق الله تعالى، كشرب الخمر والزنى والسرقة، ولا تقام عليه الحدود؛ لأن المستأمن التزم بما فيه حقوق العباد،ولأن العقاب الديني لا ولاية كاملة فيه للحاكم المسلم على المستأمن، لتوقيت مدة إقامته في ديارنا. أما مسؤوليته مدنياً وجنائياً فيما يمس حقوق الأشخاص، كالقصاص والقذف والغصب والتبديد، فهو كبقية المسلمين وغير المسلمين المقيمين إقامة دائمة في بلاد الإسلام (الذميين المعاهدين) لما في ذلك من صلاح الجماعة، وزجر الجاني، وعهد الذمة القديم ما يزال ساري المفعول على غير المسلمين الحاليين المقيمين في البلاد الإسلامية.
وأما الجمهور ومنهم أبو يوسف والشيعة الإمامية والزيدية: فيرون أن المستأمن كالذمي تطبق عليه أحكام الشريعة، ويخضع لجميع أحكام المعاملات المدنية والجرائم المخلة بالأمن والنظام، ويعاقب على جرائمه التي تمس حق الشخص كالقصاص، والسرقة في رأيهم، والقذف وإتلاف الأموال، وكذا جرائمه التي تتعلق بحق الله تعالى كشرب الخمر والزنى، لما في ذلك من ممارسة حق السيادة للدولة، وللمحافظة على نقاوة المجتمع وسلامته وأمنه، ولأن المستأمن في دار الإسلام التزم بتطبيق أحكام الإسلام عليه بموجب العهد أو الأمان، كما أن أحكام الشريعة في المعاملات المالية من بيوع وعقود وتعامل بالربا تطبق عليه باتفاق الفقهاء.
وقد اتخذت نظرية أبي حنيفة ومحمد ذريعة لإعفاء الأجانب من الخضوع لأحكام الشريعة مما سبَّب منح المستأمنين في عهد سليمان القانوني السلطان العثماني ما يسمى بالامتيازات الأجنبية التي قاست منها البلاد الإسلامية كثيراً، فكانت سبباً لاستغلال المسلمين، وتضييع حقوقهم، واستعلاء الأجانب عليهم، والحد من سلطة الدولة وسيادتها، والإعفاء من الاختصاص التشريعي والقضائي، ومن الأعباء المالية والخدمة العسكرية.
وينبني على رأي الجمهور أن الحصانة القضائية التي يترتب عليها في العرف الدولي الحديث عدم خضوع رجال السلك الدبلوماسي للولاية القضائية للدولة الموفد إليها، سواء في المسائل المدنية أو الجنائية أو الإدارية، هذه الحصانة غير مقررة لدى جماهير فقهائنا، فالمستأمن والسفير والقنصل ورئيس الدولة الأجنبية وغيرهم من ذوي الاستثناءات المتقدمة يسأل كل منهم مدنياً وجنائياً عما يرتكبه من أعمال مخالفة في بلاد الإسلام؛ لأن دفع الفساد واجب ملزم لكل من يقيم بين المسلمين، ولو مؤقتاً، والمجرم لا يستحق الحماية ولا يصلح لأداء وظيفته.
وأما الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد فيريان أيضاً مسؤولية المستأمن مدنياً وجنائياً، لكنه معفى فقط كما تقدم من المسؤولية الجنائية التي تتعلق بالحق العام (حق الله تعالى) الذي تمارسه الدولة وترعاه، كشرب الخمر والزنى.
ويرى أستاذنا المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة: أن العقوبات التعزيرية التي لم يرد في عقوبتها نص من كتاب أو سنة، أي غير الحدود الشرعية، يعفى منها الممثلون السياسيون مجاراة للعرف الدولي الحاضر، ومراعاة لمبدأ المعاملة بالمثل؛ لأن تقديرهذه العقوبات من حق ولي الأمر، وله الإعفاء منها لمصلحة عامة. والعرف أو القانون الدولي، وإن كان لا يخضع الممثل السياسي لولاية القضاء الإقليمي خشية التحامل عليه وإهدار حصانته، فإنه أجاز للدولة الموفد إليها تبليغ الأمر إلى الدولة الموفدة لمحاكمته، كما أن لها أن تعتبره شخصاً غير مرغوب فيه، وتطلب استدعاءه، بل لها في الجرائم الخطيرة أن تطرده، ولها أن تقبض عليه إذا كان ذلك ضرورياً للمحافظة على سلامتها، كما لها أن تطلب رفع الحصانة الدبلوسية عنه من دولته لتحاكمه هي بسبب ارتكابه جريمة في أرضها. أما القناصل فيجوز خضوعهم للقضاء الإقليمي. وهكذا يقترب العرف الدولي الحاضر من الحكم المقرر في الشريعة لدى فقهائنا.
وأما الخلاف الفقهي حول تطبيق أحكام الشريعة على رعايا دار الإسلام إذا ارتكبوا جرائم في خارج تلك الدار، فيتمثل في رأيين أيضاً: مذهب الحنفية، ومذهب الجمهور. أما الحنفية: فيرون أن أحكام الشريعة العقابية لا تطبق على الجرائم التي يقترفها المسلم أو الذمي في دار الحرب، لعدم ولاية الإمام في إقامة الحدود وغيرها على جزء من أجزاء الدار أو البلاد غير الإسلامية، ولأن وجوب إقامة الحد مشروط بالقدرة على الإقامة أو التطبيق، ولا قدرة للإمام على من يرتكب جريمة في دار الحرب أثناء ارتكابها، وإذا لم تتوافر القدرة لم تجب العقوبة.
إلا أن أبا يوسف خالف أستاذه أبا حنيفة في أمرين:
الأول ـ أن التعاقد على الربا حرام في جميع البلاد، في دار الإسلام وغيرها؛ لأن الربا حرام في ذاته في أي مكان من العالم.(4/8)
والثاني ـ أن الأسير المسلم إذا قتله مسلم أو ذمي في دار الحرب، فعليه الدية، لأنه إذا تعذر القصاص لعدم ولاية الإمام المسلم على تلك الدار، فتجب الدية؛ لأن الأسر لا يفقد عصمة المسلم، ولأنه (لا يُطَل دم في الإسلام) أي لا يهدر، فإذا امتنع القصاص، أمكن إيجاب الدية. وأما الجمهور (مالك والشافعي وأحمد): فيرون أن الشريعة تطبق على كل جريمة في أي مكان ارتكبت، سواء في حدود البلاد الإسلامية أو خارجها، وسواء أكان الجاني مسلماً أم ذمياً أم مستأمناً؛ لأن المسلم ملزم بأحكام الشريعة في أي مكان، والذمي والمستأمن ملزمان بتلك الأحكام الشرعية بمقتضى العهد والأمان. وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعقوبة سكران يوم حنين في بلاد المشركين، وروى أبو داود في المراسيل عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «وأقيموا الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم» .
وهذا الحكم شامل في رأي الجمهور كل حرام كالتعامل بالربا وغيره من المحرمات كالقمار والرشوة، وما أروع كلمة الإمام الشافعي في ذلك، حيث قال في كتابه الأم (165/4): «ومما يوافق التنزيل والسنة، ويعقله المسلمون، ويجتمعون عليه: أن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في دار الإسلام حرام في بلاد الكفر، فمن أصاب حراماً، فقد حده الله على ما شاء منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً» . وهذا واضح في أن الدار أو المكان لا تغير صفة التحريم للأفعال، فلا تمنع العقوبة المقررة جزاء على ارتكاب الفعل الحرام.
وهذه النظرية ـ نظرية الجمهور - هي السائدة اليوم في القوانين الوضعية، إلا أن الفرق بينهما أن القانونيين يجيزون للدولة تطبيق العقاب على ما ترى فيه مصلحة بسبب ارتكاب الجرائم التي تقع في خارج أراضيها، وتطبق العقوبة الصارمة على الجرائم التي تمس مصلحة أساسية لها، وهي ما سبق بيانه من جرائم أمن الدولة، وتزييف العملة، وتزوير أختام الدولة الرسمية.
أما الشرعيون فيوجبون تطبيق عقوبات الحدود دون إعفاء، ويجيزون لولي الأمر في التعزيرات إعفاء ما ترى فيه مصلحة في ذلك. والخلاصة: إن المبدأ الأساسي في الحكم الإسلامي في ديار الإسلام على المسلمين والذميين والمستأمنين هو مبدأ إقليمية القوانين، مع بعض استثناءات كحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية العقيدة، وكذلك اختصاص القضاء اختصاص إقليمي، ومبدأ الإقليمية التشريعي والقضائي هو الذي تسير عليه القوانين الوضعية في العصر الحديث.
==============
المنشأ التاريخي لمفهوم دار الإسلام ولمفهوم الدولة الحديث
الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 407)
المبحث التمهيدي: مقدمات
وفيه مطلبان:
المطلب الأول :
أولاً ـ المنشأ التاريخي لمفهوم دار الإسلام ولمفهوم الدولة الحديث :
فقرة 1 ـ كانت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة (يثرب) وما سبقها من بيعتي العقبة أساساً في نشأة أو تكوين الدولة الإسلامية، أو دار الإسلام في اصطلاح فقهائنا؛ إذ بذلك تميزت شخصية المسلمين عن المشركين، وتوطدت لهم في المدينة الدعائم الأولى للأمن والاستقرار، وبرزت السلطة السياسية للنبي، وهذه السلطة تعتبر الآن هي العنصر الجوهري في تكوين الدولة (1) .
وكان من مظاهر ممارسة النبي عليه السلام لتلك السلطة أنه قام بموادعة اليهود في المدينة حينما كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود، وعاهدهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم (2) .
وبدأ التشريع القرآني ينظم أوضاع الجماعة الإسلامية لتدبير شؤونها وسياسة ملكها، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يمارس سلطانه السياسي في تنفيذ القوانين والأنظمة المشرعة، وتأديب العصاة، ومعاقبة الجناة، وعقد الاتفاقات أو المعاهدات ومحاربة الأعداء؛ إذ أنه بعد اثني عشر شهراً من مقدمه عليه السلام إلى المدينة
__________
(1) النظم السياسية للدكتو ثروت بدوي: 37/1.
(2) سيرة ابن هشام: المجلد الأول/501، ط الحلبي. ولقد كان هذا الاتفاق على إنشاء (أمة) واحدة من أعجب الاتفاقات التي عرفها التاريخ من هذا النوع.
وقعت أول غزوة في الإسلام: وهي غزوة الأبواء التي خرج فيها الرسول صلّى الله عليه وسلم يريد قريشاً، فوادعته بنو ضمرة بودَّان (1) .
الهجرة إذن كانت نقطة تحول في تاريخ الإسلام تمخص عنها ميلاد دولة جديدة لم يعرف لهامثال سابق بين العرب أطلق عليها الفقهاء اصطلاح (دار الإسلام)، لأن اصطلاح (الدولة) لم يكن معروفاً وقتذاك، ولأنه كان هناك تلازم بين مفهومي الدولة ودار الإسلام.
ويلاحظ أنه تميزت دولة دار الإسلام في بدء تكوينها بأنها دولة متحدة تجمع كل من استجاب لدعوة الإسلام، وآمن برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم على أساس أن حكم الإسلام أو شرعه يسودها، وإن ولايته الشخصية تمتد إلى مختلف الأقاليم الإسلامية (2) .(4/9)
فقرة 2 ـ وأما مفهوم الدولة الحديث فقد ظهر في أوربا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر بعد أن تحطمت السلطة البابوية. وانهار النظام الإقطاعي، أو مبدأ الزعامات الإقطاعية الذي كان يقوم على الجمع بين ملكية الأرض وبعض الامتيازات كقيادة الجيش أو جمع الضرائب مثلاً، دون أن يكون للملك سلطة حقيقية إلا على أرضه التي اقتطعها لنفسه. وقد أدى تجمع سكان الإقطاعات إلى ما يدعى بالأمة كالأمة الإيطالية والأمة الفرنسية، ثم تولد عن ذلك ما يعرف بالدولة بوجود سلطة سياسيةفي المجتمع، لأن السلطة السياسية هي الصورة الحديثة للجماعة السياسية.
وهكذا توالى ظهور الدول الحديثة ذات القومية الواحدة، وتوطدت أركانها الاقتصادية، كما حدث في إنجلترا وفرنسا وأسبانيا، والبرتغال والسويد والدانمرك والنرويج، والمجر وبولندة وروسيا، وأصبحت القاعدة أن تتمتع الدول بالسيادة ولا تخضع لسلطة عليا أخرى.
__________
(1) سيرة ابن هشام: 590/1.
(2) أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية للدكتور حامد سلطان: ص 157.
وتحددت فكرة العائلة الدولية منذ مؤتمر وستفاليا سنة (1648) م، وكانت مقصورة في أول الأمر على دول غرب أوربا، ثم انضمت إليها سائر الدول المسيحية، غير الأوربية، ثم اتسعت في سنة 1856 م فشملت تركيا الدولة الإسلامية ودولاً أخرى غير مسيحية كاليابان والصين (1) .
ثانياً ـ التمييز بين مفهومي دار الإسلام والدولة الإسلامية :
3 ـ على الرغم مما كان قائماً من وجود التلازم بين مفهومي دار الإسلام والدولة الإسلامية، فإن دار الإسلام تتميز بارتكازها على أساس العنصر المادي (أي الأرض أو الاقليم) (2) وأما الدولة الإسلامية فتتميز بما لها من صفة السيادة (أو الاستقلال) والشخصية المعنوية ذات الأهلية والذمة المالية المستقلة عن ذمة أشخاص رعاياها، فلها مالية مستقلة عن أموالهم تتمثل في بيت المال (3) . وكانت الدولة الإسلامية مستقلة لا تخضع لأي سلطة أخرى، كما كانت مستقلة
__________
(1) مبادئ القانون الدولي العام للدكتور حافظ غانم: ص 46 ومابعدها، النظم السياسية المرجع السابق: ص 23 وما بعدها، و 37.
(2) يتضح ذلك من مفهوم دار الإسلام: وهي كما قال أبو منصور البغدادي: كل دار ظهرت فيه دعوة الإسلام من أهله بلا خفير ولا مجير ولا بذل جزية، ونفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن كان فيهم ذمي ولم يقهر أهل البدعة فيها أهل السنة (ر: كتاب أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي المتوفى سنة 429هـ : ص 270، ور أيضاً: دار الإسلام ودار الحرب، بحث المؤلف).
(3) ر: المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 187.
عن أشخاص الحكام فيها، وكان يعد الحاكم بمثابة أمين على السلطة ونائباً عن الأمة (1) . وهذا هو المعنى الذي يرمز إليه فقهاء القانون الوضعي القائلون بأن الدولة توجد حينما تجد السلطة السياسية سندها لا في إنسان، ولكن في شخص معنوي مجرد له طابع الدوام والاستقرار والاستقلال عن أشخاص الحكام أنفسهم (2) .
ثالثاً ـ اتجاه تطور مفهومي دار الإسلام والدولة الحديثة :
4 - المبدأ أو الأصل الفقهي أن تكون دولة الإسلام أو دار الإسلام موحدة السياسة وشاملة لجميع الأقاليم الإسلامية، وذلك لتحقيق غاية الإسلام الأساسية: وهي قوة الإسلام والمسلمين بأن يكونوا جميعاً يداً واحدة، فيتجهون، اتجاهاً واحداً، وتسوسهم سياسة واحدة تحقق الخير والمصلحة للجميع. وقد ظلت الخلافة أو الدولة الإسلامية بناء على ذلك موحدة الصف طوال القرون الثلاثة الأولى الهجرية، ثم تجزأت دار الإسلام خلافاً للمبدأ السابق، فقامت دول إقليمية في عهد الدولة العباسية، وانقسمت الخلافة العباسية إلى دويلات: في العراق نفسها،وإيران والشام ومصر وشمالي إفريقية، ثم فيما بعد في الأندلس، فظهرت في أسبانيا الدولة الأموية الثانية ( 317-423 هـ )، وقامت الخلافة الفاطمية (297-567 هـ )، في المغرب، ثم انتقلت إلى مصر في عهد المعز لدين الله سنة (362 هـ).
__________
(1) ر: للتفصيل موضوع دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف: ف/20.
(2) ثروت بدوي، المرجع السابق: ص 24 وما بعدها. ومن المعلوم الآن أن من خصاص الدولة تمتعها بالشخصية المعنوية أو بالشخصية القانونية، ومن ثم فهي تلزم وتلتزم كالأشخاص الطبيعيين تماماً، ويترتب على الاعتراف للدولة بالشخصية القانونية، علاوة على أهلية التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات تأكيد الانفصال بين الحاكم والسلطة، أي أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسون السلطة، وأن هذه الوحدة لها طابع الدوام والاستقرار (ثروت بدوي: ص 52 وما بعدها) وهذه المعاني سبق إليها الإسلام كما تقدم.
وهكذا وجدت في وقت واحد ثلاث خلافات إسلامية: خليفة عباسي في العراق، وخليفة أموي في الأندلس، وخليفة فاطمي في إفريقية وجنوبي إيطاليا وصقلِّية، ثم مصر وقسم كبير من الشام (1) .(4/10)
وكان من أهم عوامل التجزئة وفصم عرى الوحدة الإسلامية هو الفتنة الأولى أو الكبرى التي انتهت بمصرع عثمان بن عفان رضي الله عنه، والفتنة الثانية التي انتهت بقتل الحسين بن علي وآل بيته رضي الله عنهم في كربلاء.
وفي وسط هذا الاختلاف بين أهل السنة والشيعة وتشعب الآراء وتعدد الفرق وانقسام المسلمين إلى دويلات، انقض التتر والمغول على الخلافة العباسية في بغداد، فأزالوا معالمها ثم استولوا على دمشق. ثم جاءت الدولة العثمانية، فاستولت على البلاد الإسلامية وعاصرت انسلاخ الأندلس وطرد المسلمين منها ومن سائر أوربا بسبب ضعفهم أمام العدو، وطلبهم النصرة بل الحماية من العدو المشترك أيام (ملوك الطوائف).
ثم ضعفت الدولة العثمانية: فانقض المستعمرون الغربيون على الأقاليم الإسلامية يتقاسمونها بينهم بالحماية أو الانتداب أو الوصاية مستفيدين من النُّعَرة الوطنية (2) وظل الحال كذلك إلى أن استقل معظم البلاد في وحدات اقليمية أو دويلات متعددة بنحو خمسين دولة إسلامية في الوقت الحاضر.
والخلاصة: إن مفهوم دار الإسلام اتجه خلافاً للمبدأ الإسلامي نحو التجزؤ
__________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 292، ط مصطفى محمد، الشرع الدولي في الإسلام للدكتور نجيب الأرمنازي: ص 158، مقدمة كتاب السياسة لأبي القاسم المغربي: ص 28.
(2) الكلام عن مآسي الاستعمار الغربي في هذا الصدد يتسع لمؤلف ضخم، وقد شاهد جيلنا الحاضر الكثير من ويلاته بتجزئة الإقليم الواحد إلى أوطان متعددة خاضعة تحت نفوده، وبذر بذور الفتن والتفرقة بين الإخوة عملاً بقاعدة (فرق تسد).
والانقسام في واقع الحياة الإسلامية مما أدى إلى ضعف دولة الإسلام. وبسط نفوذ المتسلطين عليها، ومعاناة مختلف أشكال الاستعمار القديم والجديد.
5 - وأما الدول الحديثة فإنها بعد أن قامت على أساس الإقليمية الضيقة، دأبت على توفير أو استكمال خصائصها أوعناصرها: وهي النظام (1) والسيادة (2)
__________
(1) النظام: معناه ائتمار الجماعة بأمر فئة منها وخضوعها لقراراتها. أو بعبارة أخرى: وجود طبقة من الحكام وأخرى من المحكومين. وهذا في الحقيقة هو المظهر الداخلي لسيادة الدولة وسلطانها (راجع موجز القانون الدستوري للأستاذين عثمان خليل والطماوي: ص 14).
(2) السيادة: وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة، ومقتضاها أن سلطة الدولة سلطة عليا لا يسمو عليها شيء، ولاتخضع لأحد، ولكن تسمو فوق الجميع، وتفرض نفسها على الجميع. ومقتضاها أيضاً أن سلطة الدولة سلطة أصيلة، أي لا تستمد أصلها من سلطة أخرى. وللسيادة وجهان: سيادة خارجية، وسيادة داخلية. الأولى خاصة بالعلاقات الخارجية بين الدول، ومقتضاها عدم خضوع الدولة صاحبة السيادة الخارجية لأية دولة أجنبية، والمساواة بين جميع الدول أصحاب السيادة، ومن ثم فالسيادة الخارجية مراد فة للاستقلال السياسي، وذلك يتوفر باعتراف الجماعة الدولية بها، فهي ذات دور سلبي محض. وأما السيادة الداخلية أوالنظام كما ذكرت فلها معنى إيجابي مضمونه أن الدولة تتمتع بسلطة عليا على جميع الأفراد والهيئات الموجودة على إقليمها، وأن إرادتها تسمو على إرادتهم جميعاً، أي أن سيادة الدولة الكاملة تعني استقلالها الخارجي، وسمو سلطانها في الداخل، وهذا يدل على أنه لا دولة بدون سيادة، وقد حل محل هذه الكلمة في العرف الحديث لفظة (استقلال الدولة) (راجع ثروت بدوي: 40/1-43، حافظ غانم: ص 13، المرجعان السابقان). ويمكن القول بوجود أساس لمبدأ السيادة الخارجية أو الاستقلال السياسي في القرآن الكريم في قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] وقوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:8/63] والعزة: الأنفة. ومن أّهم مقوماتها الاستقلال الذي هو من مستلزمات التمكين في الأرض الذي وعد الله به المؤمنين الذي يعملون الصالحات.
والشخصية القانونية (1) .
__________
(1) الشخصية القانونية أو المعنوية: هي الخاصة الثانية للدولة، ومعناها أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسون السلطة، وأن هذه الوحدة لهاطابع الدوام والاستقرار لا تزول بزوال الأفراد الذين يباشرون الحكم، وإن السلطة التي تتمتع بها إنما تقوم من أجل خدمة أغراض الجماعة، لا من أجل تحقيق مآرب شخصية للحاكم. ويترتب على ذلك أن الشخص المعنوي يلزم غيره، ويلتزم في ذمته كالأشخاص الطبيعيين تماماً، أي أن له أهلية التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات، كما أشرت سابقاً (ثروت بدوي، المرجع السابق: ص 52 وما بعدها).(4/11)
إلا أن نظريةالسيادة المطلقة تعرضت في العصر الحديث لانتقادات جوهرية، وهجرها الكثيرون على اعتبار أنها لا تتفق مع الظروف الحالية للمجتمع الدولي (1) ، وبرز اتجاه معاصر نحو إمكان الانتقاص من السيادة على الصعيدين: الإقليمي والدولي، ففي مجال التعاون الإقليمي نما الإدراك لدى بعض الشعوب والأمم بوجوب التجمع في صور تغاير صورة الدولة بعناصرها التكوينية الحالية، وبوجوب التعديل في عنصر السيادة الذاتية، وظهرت الاتحادات القارِّية كالاتحاد الأمريكي الذي نشأ في أواخر القرن الماضي، ثم تجدد تنظيمه بعد الحرب العالمية الثانية، وكالاتحاد الأوربي الذي برز إلى حيز التحقيق العملي بعد الحرب العالمية الأولى، ثم بدت أهم مظاهره بعد الحرب العالمية الثانية، فنشأ المجلس الأوربي سنة (1949م)، وعقدت اتفاقية السوق الأوربية المشتركة عام (1957 م)، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية وقعت روسيا والدول الشيوعية ميثاق وارسو سنة (1955م) (2) . وهكذا تتجه الدول الحديثة في النطاق الإقليمي نحو الوحدة أو الاتحاد لتقوية شأنها ودعم نفوذها.
__________
(1) حافظ غانم، المرجع السابق: ص 134.
(2) أحكام القانون الدولي في الشريعة، حامد سلطان: ص 153، الحقوق الدولية العامة، فؤاد شباط: ص 258.
وعلى الصعيد الدولي طرأ على مفهوم السيادة قيد جديد، فأصبحت الدول من الناحية النظرية القانونية لا الواقعية الفعلية غير مطلقة التصرف في ميدان العلاقات الدولية لخضوعها للقانون الدولي العام المفروض على الدول بناء على اعتبارات تعلو على إرادتها، والذي هو يورد قيوداً على تصرفات الدول، ويحكم علاقاتها مع الدول الأخرى ومع الهيئات الدولية، فمثلاً: تضمَّن ميثاق الأمم المتحدة قيداً على مبدأ السيادة المطلقة في مظهرها الخارجي، فقضى على حق
الدولة في إعلان الحرب متى شاءت، لأن الميثاق يقوم على فكرة نبذ الحروب ووجوب استتباب الأمن والسلم الدولي (1) .
والخلاصة: أن الاتجاه الحالي للدول نحو التجمع والاتحاد يتفق مع أصل الفكرة الشرعية الداعية إلى وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار الإسلام.
__________
(1) القانون الدولي العام للدكتور حامد سلطان: ص 752 وما بعدها، حافظ غانم، المرجع السابق: ص153.
المطلب الثاني ـ نشأة مصطلح الدولة الإسلامية :
1 - السبب في إطلاق مصطلح الدولة الإسلامية على نظم الحكم الإسلامية :
6 - لم يضع العلماء المجتهدون نظرية عامة للدولة تبين أسسها النظرية أو العملية، وإنما كانوا يضعون الحلول ويقدمون الآراء بمناسبة كل حالة طارئة، كما هو الشأن في أغلب أحكام الفقه الإسلامي، لكنهم مع ذلك يلاحظ أنهم يسيرون على هدى مبادئ ونظريات عامة ثابتة، وهكذا فإن الدولة الإسلامية قامت على دعائم جديدة مبتكرة تختلف تماماً عن الدعائم التي قامت عليها بيزنطة وفارس، ومنها أن الإسلام نبذ فكرة سيطرة الحاكم، وفكرة خضوع المحكومين في الشؤون الدينية والدنيوية معاً لغير مبادئ الإسلام، فالله وحده هو صاحب السلطان في شؤون الآخرة من ثواب أو عقاب، ويقوم نظام الحكم في الشؤون الدنيوية على القواعد الشرعية في حفظ المصالح ودرء المفاسد بحسب حال الزمان والمكان،
وعلى أسس العدل والشورى والمساواة والمعاملة بالمثل والأخلاق، وعدم التمييز بين الناس في الجنس واللغة أو اللون أو الإقليم (1) .
7 - ونلاحظ أن عناصر الدولة الحديثة نفسها التي تتكون منها الآن كانت متوافرة في تكوين الدولة الإسلامية في الماضي (2) : وهي الجماعة من الناس، والخضوع لنظام معين، والتسليم المحدد، والسلطان أو السيادة، والشخصية المعنوية.
هذه العناصر والخصائص توافرت بذاتها في الحكومة النبوية التي أقامها الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة، فالمسلمون الأولون من المهاجرين والأنصار هم شعب الدولة، والشريعة الإسلامية هي نظامها، والمدينة هي إقليمها، والنبي صاحب السلطان لا يشاركه فيه سلطة أخرى، والجماعة الإسلامية تمثل الشخصية المعنوية للدولة فيكون لها حقوق، وعليها التزامات، وتظل المعاهدات التي يعقدها الحاكم الأعلى نافذة المفعول لا تنتقض أو لا تنتهي بوفاته.
وكانت بيعتا العقبة الأولى والثانية قبل الهجرة (3) على الإيمان بالله وبرسوله، وعلى السمع والطاعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وحمايته ونصرته هما الركيزة الأولى في الاتفاق على تكوين دولة المدينة (4) .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 217/4، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 157 وما بعدها، شرح أدب الدنيا والدين: ص 240، 488، تفسير المنار: 11/3 وما بعدها، و 199/4 وما بعدها، و 188/5 وما بعدها، أحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان: ص 127 وما بعدها.
(2) ر: للتفصيل دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(3) حدثت البيعة الأولى قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، والثانية بعدها بعام واحد في موسم الحج: (سيرة ابن هشام: المجلد الأول/431، 418، ط الثانية للحلبي).(4/12)
(4) على الرغم مما كانت عليه هذه الدولة من بساطة، فإنها كانت دولة مستوفية جميع أركانها، كما كان شأن دولة مدينة روما، أو دولة مدينة أثينا في الأزمنة القديمة (انظر مبادئ نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الحميد متولي: ص 451 و 488).
كانت إذن الحكومة النبوية في المدينة جديرة بإطلاق مصطلح الدولة الإسلامية عليها، ويؤكد ذلك ما قام به النبي صلّى الله عليه وسلم من إصلاحات اجتماعية وسياسية عقب الهجرة مباشرة، فجمع بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم، ووادع يهود المدينة، وكانت هذه المعاهدة بين المسلمين وغيرهم بمثابة الدستور الذي نظم شؤون المسلمين وعلاقاتهم بغيرهم داخل المدينة وخارجها (1) على نحو أشبه ما يسمى اليوم بالميثاق الوطني.
__________
(1) سيرة ابن هشام، المرجع السابق: ص 501 وما بعدها.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يمارس شؤون السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، فكان عن طريق الوحي والاجتهاد الخاص يضع قواعد السلوك للناس في حياتهم الاجتماعية، ويحكم بين الخصوم، ويجبي الصدقات،ويوزع الغنائم، ويولي الأمراء على القبائل والمدن ويحدد لهم الاختصاصات، ويرسل القضاة إلى الأمصار، ويقود المعارك، ويعقد عقود الصلح أو الموادعة.
أنشأ النبي صلّى الله عليه وسلم بهذه التصرفات تنظيماً أو جهازاً إدارياً بالتدريج توضحت معالمه واستكملت عناصر بنيانه قبل وفاته بسنتين، حيث أرسل الأمراء والعمال إلى البلاد التي آمنت برسالته، وكان في كل وقت شديد الحرص على مشاورة أصحابه، ويقوم أحد كتاب الوحي عنده بالكتابة إلى الملوك والأمراء، ويتخصص بعض الكتاب لحوائج الناس أو لمنازعاتهم، أو لعلاقات القبائل وتوزيع الحقوق فيما بينهما ونحو ذلك مما يثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن رسولاً فحسب، وإنما كان كذلك حاكماً ورئيساً لدولة (1) .
8 - واستمرت الخلافة الراشدية على الأسس نفسها التي قامت عليها الحكومة النبوية مع إضافة اصلاحات رائعة في عهد عمر بن الخطاب في نظام القضاء والإدارة بوضع الدواوين وتعيين القضاة وتحديد صلاحيات الولاة والعمال في الأمصار الإسلامية (2) .
إلا أنه في عهد أبي بكر فصلت السلطة القضائية عن السلطة الإدارية بدليل قول أبي عبيدة لأبي بكر: أنا أكفيك المال، وقول عمر له: وأنا أكفيك القضاء.
وكانت الخلافتان الأموية والعباسية رمز قوة الدولة وصاحبة الكلمة النافذة في العالم مع وضوح التقسيمات الإدارية للدولة وتعيين اختصاصات الولاة والأمراء.
وكذلك كان شأن الدولة العثمانية عدة قرون.
وهكذا ظلت الدولة الإسلامية طوال عشرة قرون مثالاً صحيحاً للدولة نظمت شؤونها على نحو سليم يتضمن كل ما تتطلبه مقومات الدولة الأساسية في الوقت الحاضر، مع ملاحظة فارق التطور والتقدم العلمي الحديث.
__________
(1) عبقرية الإسلام في أصول الحكم للدكتور منير العجلاني: ص 90-98، مبادئ نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الحميد متولي: ص 451.
(2) سيرة عمر بن الخطاب للأستاذين علي وناجي الطنطاوي: 224/1 و 263 و 548/2، ط الترقي بدمشق، تاريخ الحضارة العربية للأستاذ راتب الحسامي: ص 54 و 86.
2 - صلاحية نظام الحكم الإسلامي للتطبيق في الوقت الحاضر :
9 - الخلافة (أو الإمامة أو إمارة المؤمنين) أو أي نظام شوري يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة كلها ذات مدلول واحد ، لا يختلف عما هو متعارف الآن من أنظمة الحكم الدستورية النيابية إلا في أن الخلافة ذات صبغة دينية وسياسية أو
رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا ولجميع المسلمين في كل قطر (1) ، فهي تقوم على أساس الشورى أو الانتخاب، ويلتزم فيها تطبيق شريعة الإسلام، وتسود فيها مبادئ المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، مهما اختلفت الأجناس والألوان، وتباينت الأقدار، وتتوخى تطبيق العدالة بحق، وتوفر لأبنائها الحرية الكافية في القول والرأي والنقد في ظل من القيم الخلقية الأصيلة (2) .
والحاكم ليس هو صاحب السيادة، وإنما الأمة والشريعة معاً هما صاحبا السيادة في الدولة الإسلامية (3) .
وهذا كله من الناحيتين النظرية والعملية قابل للتطبيق في الوقت الحاضر كما طبق في عصر صدر الإسلام، بشرط أن يتوافر لدى الناس الاستعداد الكافي وحسن التفهم والإدراك العقلي والتجريبي، مع مراعاة وسائل التطبيق الزمنية، إذ أن من مبادئ الفقه الإسلامي المرونة ومراعاة المصالح، وقابلية التطور في الأحكام الفقهية الاجتهادية، ودفع الضرر، وإقامة العدل ومنع العدوان. وبالتزام هذه المبادئ يتيسر على الناس اختيار شكل الحكم الذي يحقق تلك الأهداف دون تقيد بتسمية معينة كنظام الخلافة، وذلك عملاً بمبدأ نفي الحرج في الإسلام.
__________
(1) ليس صحيحاً أن نظام الخلافة والإجماع الأصولي ضرباً من المحال كما توهم بعض رجال القانون وذلك بدليل وقوعهما بالفعل ( قارن الدكتور متولي: ص 548 ).
(2) راجع نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الله العربي: ص 48 وما بعدها.
(3) النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 340.(4/13)
3 - هل يوجب الإسلام إقامة دولة؟
10 ـ الإسلام نظام ديني ومدني متكامل، ويتلازم وجود المسلمين مع قيام
الدولة، ومن أهم أركان كل دولة كما أشرت سابقاً وجود سلطة عامة سياسية عليا يخضع لهاجميع الأفراد المكونين للجماعة (1) .
لذلك نرى الأكثرية الساحقة من علماء الإسلام (وهم أهل السنة والمرجئة والشيعة والمعتزلة إلا قليلاً منهم، والخوارج ما عدا النجدات) تقرر وجوب إقامة حكومة عليا (أو إمارة أو دولة أو إمامة). والمراد بالوجوب هنا هو المعروف في علم أصول الفقه المرادف عند جمهور العلماء لمعنى الفرضية، وقد قال العلماء فعلاً: إن الإمامة فرض كفاية (2) .
__________
(1) النظم السياسية للدكتور ثروت بدوي: 33/1.
(2) مغني المحتاج: 129/4، شرح المواقف للجرجاني: 346/8، شرح العقائد النسفية للتفتازاني: ص142 وما بعدها، مقالات ا لإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري: 133/2، حجة الله البالغة للدهلوي: 110/2، أصول الدين للبغدادي: ص 271 وما بعدها، ط استانبول، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 3، ولأبي يعلى: ص 3، نيل الأوطار: 256/8، مقدمة ابن خلدون: ص 191 وما بعدها، الحسبة لابن تيمية: ص 4-7، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 161، النظريات السياسية الإسلامية للريس: ص 144،إكليل الكرامة في مقاصد الإمامة لصديق حسن خان: ص 7 وما بعدها.
قال ابن تيمية: يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لاتتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلّى الله عليه وسلم : «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة (1) .
وقال ابن حزم: (اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم،حاشا النجدات، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم (2) .إلا أن هؤلاء الموجبين للإمامة فريقان: قال أكثر الأشعرية، والمعتزلة، والعترة؛ إنها تجب شرعاً، لأن الإمام يقوم بأمور شرعية. وقال الشيعة الإمامية: تجب الإمامة عقلاً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم ويفصل بين الناس في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكان الأمر فوضى.
وقال الجاحظ والبلخي والكعبي وأبو الحسن الخياط والحسن البصري: تجب الإمامة عقلاً وشرعاً.
وشذ جماعة (وهم المُحكِّمة الأولى والنجدات من الخوارج، وضرار، وأبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم المعتزلي وهشام الفُوطَي) فقالوا بجواز الإمامة وأنها لا تجب، قال الأصم: لو تكافَّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام.
واستدل كل فريق على رأيه بأدلة مطولة لا مجال هنا لذكرها (3) .
__________
(1) السياسة الشرعية له، المكان السابق.
(2) الفصل في الملل والنحل: 87/4، وانظر المحلى: 438/9، م/1768 ومراتب الإجماع: ص124.
(3) ر: للتفصيل إمامة ـ الإمامة الكبرى. وقد سبق إيراد هذه الأدلة في فصل: نظام الحكم في الإسلام.
===============
أركان الدولة الإسلامية ونشأتها وشخصيتها
الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 422)
المبحث الأول ـ أركان الدولة الإسلامية ونشأتها وشخصيتها
المطلب الأول ـ أركان الدولة الإسلامية :
تمهيد :
11 - الدولة في العرف الحديث: مجموع كبير من الناس يقطن بصفة دائمة في إقليم جغرافي معين، ويخضع لسلطة عليا أو تنظيم سياسي معين.
يظهر من هذا التعريف التقليدي للدولة أن عناصرها أو أركانها ثلاثة: هي الشعب أو مجموعة من الأفراد، والإقليم، والسلطة الحاكمة. ويربو عدد الدول الآن على (170) دولة.
وتتصف الدولة بوصفين أو خاصتين: وهما السيادة والشخصية المعنوية أو القانونية، فالسيادة هي المعيار التقليدي للدولة، أي الذي يميزها عن غيرها من الجماعات (1) .
وسأبحث هنا ركنين من أركان دولة الإسلام: وهما الشعب والإقليم (2) وأبحث أيضاً وصف (السيادة) الذي يعتبره بعض فقهاء القانون الدستوري ركناً من أركان الدولة (3) .
فصارت مواضيع هذا المبحث ثلاثة: الشعب والإقليم والسيادة.
__________
(1) النظم السياسية، ثروت بدوي: ص 28 و 40، حافظ غانم، المرجع السابق: ص 124 و 128، أحكام القانون الدولي في الشريعة: ص 212.
(2) من المعلوم أن الدولة الإسلامية سبقت ـ في مظهرها القانوني ـ نشوء الدول الأوربية من حيث اكتمال عنصر الإقليم وعنصر الشعب وعنصر الولاية الذاتية فيها، انظر ( أحكام القانون الدولي لحامد سلطان، المرجع السابق: ص 231).
(3) موجز القانون الدستوري، عثمان خليل والطماوي: ص 10-14.
الركن الأول ـ الشعب :
أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً وأساسيته في مفهوم الدولة الإسلامية :(4/14)
12 ـ الشعب أو الأمة في المفهوم الحديث يقوم على عنصرين: عنصر مادي وهو الاستقرار على بقعة معينة من الأرض ، وعنصر معنوي: وهو الرغبة في الحياة المشتركة. ويعتبر أول عناصر الدولة هو العنصر الإنساني وهو الشعب، وتعد ضخامة عدد أفراد الدولة الحديثة من مميزاتها إذا قورنت بدولة (المدينة) السياسية القديمة.
والشعب في مفهوم تكوين الدولة الإسلامية هو شعب دار الإسلام الذي يتألف من المسلمين الذين يؤمنون برسالة الإسلام ديناً وشرعاً وعقيدة ونظاماً سياسياً ومن الذميين، أي غير المسلمين الذين يقيمون إقامة دائمة في دار الإسلام، فمن هؤلاء جميعاً يتكون شعب الدولة الإسلامية أو رعاياها الذين يرتبطون في المفهوم الحديث برابطة سياسية وقانونية هي رابطة الجنسية أو الرعوية.
وتنحصر غاية المسلمين في توحيد الله والدعوة إليه وإلى تطبيق الدستور الإسلامي في الحياة عامة في كل مكان، دون تمييز بين الناس إلا على أساس العقيدة والفضيلة والكفاية والكفاح التي تجمعها كلمة (التقوى).
ولقد كان الهدف من تركيز هجرة المسلمين إلى المدينة وتلاقيهم مع الأنصار هو إيجاد ركيزة الشعب المكون للدولة الإسلامية الأولى، إذ لا يمكن لدولة أن تعيش في فراغ عن السكان، كما أن تنفيذ شريعة الإسلام أيضاً يتطلب وجود المكلفين المؤمنين بها. وقد يوجد مع شعب الدولة مؤقتاً مستأمنون أوأجانب بلغة العصر.
ثانياً ـ اختلاف هذا الركن عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة :
13 - يختلف مدلول الشعب في الدولة الإسلامية عن مدلوله في المفهوم الحديث للدولة، فالشعب أو الأمة في المفهوم الحديث شعب محصور في حدود جغرافية، يعيش في إقليم واحد، تجمع بين أفراده روابط من الدم أو الجنس أو اللون أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العادات والمصالح المشتركة (1) أي أن الشعب يقوم في الغالب على أساس عنصري.
أما الشعب في مفهوم الدولة الإسلامية فإنه يقوم على أساس مبادئ وغايات أساسها ما جاء به الإسلام من نظام صالح للحياة البشرية قائم على محاربة العنصرية أو القبلية أو العصبية الإقليمية أو القومية. والرابطة أصلاً هي الوحدة في العقيدة أي في الفكرة والوجدان، فكل من اعتنق الإسلام من أي جنس أو لون و وطن وكل من التزم أحكام الإسلام من غير المسلمين وأقام في دار الإسلام، فهو أحد مواطني دولة الإسلام، مما يدل على أن نظرة الإسلام إنسانية وأفقه عالمي، لأن أساس تجمع الأفراد المكونين للدولة الإسلامية ليس هو الأرض ولا اللون ولا اللغة ونحوها، وإنما أساس الارتباط بالدولة هو إما الإقرار بعقيدة الإسلام أو الولاء السياسي للدولة الإسلامية.
14 - ومن هنا يتحدد مفهوم الأمة والقومية في الإسلام:
__________
(1) حافظ غانم، المرجع السابق، ص 125 وما بعدها، ثروت بدوي: ص 29، أحكام القانون الدولي في الشريعة لسلطان: ص 215.
أما الأمة في مفهوم الإسلام فليست هي التي تربط بين أفرادها وحدة الجنس أو اللون أو اللغة أووحدة المكان. وإنما هي التي تجمع بينها رابطة العقيدة والأخلاق.
وأما القومية في نظر الإسلام فهي رابطة تنظيمية تؤلف بين جماعة تعيش في رقعة ذات حدود جغرافية متعاونة في تدبير شؤونها ومصالحها المشتركة، دون انعزال عن الأقوام الأخرى التي تقيم في رقعات أرضية أخرى، فهي دعوة للتعارف والتآلف بين القوميات المتعددة المنتشرة في بقاع العالم، وليست دعوة للانعزال أو التعصب (1) ، وبعبارة أخرى: هي أن القومية في كل صورها الحديثة تتنافى مع مبادئ الإسلام، لأن الإسلام يقرر مبدأ المساواة التامة بين الناس، ويقيم وحدة المسلمين على أساس الأخوة أو الاشتراك في عقيدة واحدة ونظرة أخلاقية واحدة تسمو فوق اعتبارات الجنس والنشأة واللغة، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/49]، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «ليس لأحد فضل على أحد إلا بدين أو تقوى، الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى» (2) ، وقال أيضاً: «يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، أيها الناس، كلكم من آدم، وآدم من تراب لا فخر للأنساب، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للعجمي على العربي، إن أكرمكم
__________
(1) نظام الحكم في الإسلام للدكتور العربي: ص55، النظريات السياسية الإسلامية للريس: ص 339، نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 47 و 52، العرب والإسلام لأبي الحسن الندوي: ص85. حامد سلطان ، المرجع السابق: ص 111و 141 و 155 و 183 و 217، نحو مجتمع إسلامي لسيد قطب: ص 92 وما بعدها، منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد: ص 71، الإسلام عقيدة وشريعة للأستاذ محمود شلتوت: ص 362 وما بعدها، ط 1959.
(2) رواه أحمد في مسنده (مجمع الزوائد: 266/3) قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.(4/15)
عند الله أتقاكم» (1) ، وفي حديث آخر: « ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» (2) .
وذلك يعني أن الإسلام هدم برج العصبية القاتلة، والعنصرية السقيمة البغيضة لأنها تفرق الجماعات، وتولد الأحقاد والشرور والمنازعات، وأحل محلها الإنسانية العالمية، لأنها سبيل الإخاء والمحبة والسلام (3) .
الركن الثاني ـ الإقليم :
أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً واختلافه عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة :
15 - يشمل إقليم الدولة الإسلامية جميع البلاد الإسلامية، فهو يتحدد بحدود دار الإسلام مهما اتسعت رقعتها، ودار الإسلام: (اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين) (4) . وهذا يعني ضمناً أن حدود إقليم الدولة الإسلامية ليست ثابتة أو دائمة (5) ، إذ أنه يجب شرعاً تبليغ الدعوة الإسلامية إلى العالم،
__________
(1) رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ مقارب لهذا (سنن أبي داود: 624/2، جمع الفوائد: 398/2، الترغيب والترهيب: 573/3، 614).
(2) رواه أبو داود عن جبير بن مطعم (سنن أبي داود: 625/2).
(3) إذا كان نظام الدولة الحديث يقوم على أساس فكرة الأمة التي يرتبط أفرادها بروابط الجنس واللغة والدين أو بالروابط الاقتصادية أو الجغرافية أو التاريخية، فإن مفهوم الأمة الذي يقوم عليه نظام الدولة المسلمة أوسع مدى، فهي تشمل كل من آمن بالإسلام أو التزم أحكام الإسلام، مهما كان جنسه أو لونه أو أصله أو لغته، لأن رابطة الأخوة الإسلامية فوق رابطة الجنسية ورابطة الإقليمية أو التوطن في بلد معين.
(4) شرح السير الكبير: 81/3، وانظر للتفصيل دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(5) كان ركن الإقليم في دولة المدينة في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم عبارة عن المدينة وضواحيها، ثم أخد إقليم الدولة يمتد في عهده، ثم في عهد خلفائه على النحو المعروف.
وعندئذ تنتقل الحدود بانتقال سلطان الإسلام إلى البلاد الأخرى، فكلما اتسع نطاق سلطان المسلمين اتسعت الأقاليم الإسلامية. ولا يراد بالوطن عند فقهاء الإسلام إلا مكان إقامة الشخص الدائمة، أي بلده التي يقيم فيها عادة، أو محل سكناه.
فإذا وقف سلطان امتداد الإسلام تحدد الإقليم تحت وطأة الضرورة والظروف بالحدود التي وقف عندها، وأصبحت حدود دار الإسلام مقيدة من الناحية الواقعية بهذه الحدود (1) .
إلا أن الإسلام حين يزيل الحواجز الجغرافية أو العنصرية التي تقوم عليها فكرة الوطن القومي، فإنه لا يلغي فكرة الوطن على الإطلاق، لأن تعلق الإنسان بوطنه أمر فطري، حتى إن حبه يملأ نفسه ومشاعره، لذا فهو أي الإسلام يبقي على المعنى الطيب وحده لهذه الفكرة: معنى التجمع والتآخي والتعاون والنظام والمشاركة في الأفراح والأحزان، والالتفاف مع الإخوان في الوطن حول الهدف الأعلى المشترك (2) ، وبالتالي فالوطن فكرة في الشعور لا رقعة من الأرض نعيش
__________
(1) أما من الناحية المثالية فإن إقليم الدولة الإسلامي غير محدود، شأنه شأن الخطاب التكليفي غير محدد إطلاقاً بإقليم محصور معين، ولا مقيد برابطة الجنسية أو الموطن، بل هو خطاب مطلق من كل قيد، وموجه إلى المسلمين والبشر جميعاً، بغض النظر عن الروابط الإقليمية، يعني أن الشريعة ليست ذات صبغة إقليمية وإنما هي ذات صبغة عامة أو عالمية. إلا أن سلطة الدولة الإسلامية مقيدة في الواقع بحدود دار الإسلام لعدم قدرتها على التنفيذ الجبري لأحكامها في خارج دار الإسلامي(قارن التشريع الجنائي الإسلامي: 278/1 وما بعدها والإسلام وأوضاعنا السياسية للأستاذ عبد القادر عودة: ص221 و ما بعدها، وأحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان: ص 111و 184 و 231).
(2) نحو مجتمع إسلامي لسيد قطب: ص 96، الإسلام والحياة للدكتور محمد يوسف موسى: ص189.
فيها، هذه الفكرة يجتمع في ظلها الناس من كل جنس ولون وأرض (1) . وكما أن ركن (الشعب) يختلف عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر (اللاعنصرية) فدولة الإسلام ليست دولة عنصرية محدودة بحدود أرض القوم والجنس والعنصر، وإنما هي دولة فكرية تمتد إلى المدى الذي تصل إليه عقيدتها، دون أن يكون هناك امتيازات تقوم على أساس الجنس أو اللون أو الإقليم (2) ، كذلك فإن ركن (الإقليم) يختلف عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر مبدأ (اللا إقليمية) (3) .
ثانياً ـ مشمول إقليم الدولة :
16 - يظهر من تعاريف الفقهاء لدار الإسلام أن إقليم الدولة الإسلامية يشمل كل موضع أو جزء من البلاد خاضع لسلطان المسلمين (4) . وبناء عليه يكون مشمول إقليم الدولة ما يأتي:
1 - ما هو جزء أساسي من الإقليم :
يشمل إقليم الدولة كل ما يدخل في تكوينها الجغرافي أو الطبيعي، وهو مايأتي:
__________(4/16)
(1) هذا ويلاحظ أن ارتباط الدولة بالإقليم في المفهوم الجديد رابطة حديثة النشأة يرجع وجودها إلى القرن التاسع عشر، وتوثقت في القرن العشرين، فالإقليم لم يكن عنصراً أساسياً من عناصر الدولة عند اليونان والرومان، وإنما بدأت الرابطة بين الدولة وبين الإقليم تظهر في الإدراك القانوني في أواخر القرون الوسطى (حامد سلطان، المرجع السابق: ص 228).
(2) بحث الفرد والدولة في الشريعة للدكتور عبد الكريم زيدان: ص 14.
(3) ر : للتفصيل دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(4) ر : دار الإسلام ودار الحرب.
أ ـ الأرض: أي الجزء اليابس أو الرقعة التي يعيش عليها المسلمون وتخضع لسلطانهم أو ولايتهم، سواء أكانت مدينة أو قرية أو صحراء أوغابة أو جبل أو جزيرة (1) .
وكذلك يعتبر ما في باطن الأرض من محتويات تابعاً للدولة بدليل إيجاب الخمس للمصالح العامة فيما يخرج من الأرض من المعادن والركاز (2) والباقي للمالك. وهذا يعني أن ملك الأرض يستتبع ملك ما تحتها وما فوقها عملاً بالقاعدة الشرعية: (من ملك شيئاً ملك ما هو من ضروراته).
ب ـ الأنهار الوطنية: وهي التي تمر من منبعها إلى مصبها في أراضي دار الإسلام كأنهار مصر والشام والعراق ونحوها.
جـ ـ المياه الساحلية أو البحر الإقليمي: وهي قسم محدد من البحر ملاصق لأرض الدولة التي تنتهي حدودها إلى البحر.وتابعيتها لدار الإسلام بناء على مبدأ إحراز المباح، لأن من سبق إلى مالم يسبق إليه أحد من المباحات فهو له كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم (3) .
وفي حكم ذلك ما يعرف بالمنطقة المجاورة (أو الملاصقة أو التكميلية) (4) تعتبر
__________
(1) رد المحتار: 277/3، ط الحلبي.
(2) ر : زكاة.
(3) رواه أبو داود عن أسمر بن مضرِّس بلفظ: (أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فبايعته، فقال: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له) (نيل الأوطار: 302/5).
(4) هذه المنطقة عبارة عن قسم من أعالي البحار يجاور مباشرة البحر الإقليمي تمارس الدولة الساحلية عليه بعض الاختصاصات المحددة في المسائل الاقتصادية والمالية والجمركية، وفي مسائل أمن الدولة والصحة العامة وفي الغنائم وفي الحياد (حافظ غانم، المرجع السابق: ص 402).
جزءاً من دار الإسلام. ومثلها أيضاً الامتداد القاري (1) .
وأما المياه الداخلية القائمة في داخل أراضي دار الإسلام فهي جزء من إقليم الدولة المسلمة بلا نزاع، لأنها خاضعة لنفوذ المسلمين وتحت أيديهم.
2 - ما هو امتداد أو ملحق بالإقليم اعتباراً :
17 - تعتبر وسائل النقل الدولية من سفن وقطارات دولية تمر في أقاليم دولة أخرى، وطائرات، جزءاً ممتداً من إقليم دار الإسلام، فإن كانت هذه الوسائل حربية فتخضع لسيادة الدولة الإسلامية وتطبق عليها الشريعة باتفاق الحنفية وغيرهم قياساً على اعتبارهم أرض المعسكر الإسلامي جزءاً من دار الإسلام. فإن كانت هذه الوسائل تجارية أو مدنية:
ففي أصل المذهب الحنفي الذي يقرر أن لا ولاية للسلطة المسلمة على جرائم دار الحرب: إن كانت في مياه أو أراض أوأجواء تابعة لدار الحرب، فلا تخضع لسيادة الدولة الإسلامية. وإن كانت في مناطق تابعة لدار الإسلام، أو حرة غير تابعة لأحد، كما لو كانت في وسط البحر مثلاً، فتخضع لسيادة الدولة الإسلامية وتطبق عليها الشريعة. وبما أنه يمكن الآن ممارسة ولاية الدولة على هذه الوسائط في أراضي دولة أخرى، فإن هذه الوسائل في جميع الحالات تخضع لسيادة الدولة المسلمة، عملاً بقاعدة: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً).
وفي رأي غير الحنفية القائلين بمعاقبة رعايا الدولة الإسلامية على الجرائم التي
__________
(1) الامتداد القاري: أي الطبقات الأرضية المنحدرة الواقعة في قاع أعالي البحار بجوار مياه الدولة الإقليمية.واهتمام الدول بها مرجعه إلى رغبتها في استغلال الثروات الطبيعية كالبترول مثلاً الموجودة في قاع البحر الممتد أمام شواطئها خارج البحر الإقليمي (حافظـ غانم المرجع السابق: ص 392).
يرتكبونها في أي مكان عند عودتهم لدار الإسلام: تخضع هذه الوسائل لسيادة الدولة الإسلامية مطلقاً سواء أكانت في مناطق تابعة لدار الحرب أو لدار الإسلام أو حرة (1) .
3 - ما هو جزء من إقليم الدولة، ولكن عليه حقوق ارتفاق لدولة أخرى :
18 - يشمل هذا العنصر منطقتين تعتبران من إقليم الدولة الإسلامية لولايتها وسلطانها عليهما وهما:
أ ـ الجزء الواقع في إقليم الدولة من الأنهار الدولية: إذ أن هذا الجزء خاضع لسيادة الدولة الإسلامية، وتمارس سلطانها عليه، وإن كان لا مانع عن طريق الاتفاق أو التبادل ونحوهما من انتفاع الدول الأخرى بالملاحة فيه ونحوها، كما هو الشأن في نطاق الملكية الخاصة بتقرير حقوق ارتفاق عليها بسبب الجوار ونحوه.(4/17)
ب ـ طبقات الجو عمودياً: يشمل إقليم الدولة أعماق الأرض والطبقات الهوائية التي تعلو إقليمها الأرضي والمائي، وذلك يكسب الدولة الحق في مباشرة اختصاصها وحقوقها على الأجواء العليا، سواء في الملاحة الجوية أو المواصلات والإذاعات (اللاسلكية). والدليل الشرعي العمل بالقاعدة الفقهية السابقة: (من ملك شيئاً ملك ما هو من ضروراته) والملكية عامة كانت أو خاصة تستتبع ملك ما فوق الأرض من طبقات الجو، وما تحتها من الأعماق، فيبني المالك مثلاً ما شاء فيها من طباق (2) ويمارس عليها كل ما يكون له من حقوق بشرط عدم الإضرار بالآخرين، وتأمين مصالحهم الضرورية.
__________
(1) ر : دار الإسلام ودار الحرب: ف/43 و 111-113، التشريع الجنائي الإسلامي: 296/1.
(2) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف/635.
4 - الأقاليم المشتركة بين عدة دول :
19 - تمارس الدولة المسلمة سيادتها على الأجزاء المشتركة بينها وبين دول أخرى بحسب المعاهدة أو الاتفاق المعقود، كما هو الحال بالنسبة إلى نظام المضايق التركية التي تشرف تركيا بموجبه على مضايق البوسفور والدردنيل بمقتضى معاهدة مونتريه في (26) تموز (يوليو) سنة (1936م)، مع الحفاظ على مبدأ حرية الملاحة للسفن التجارية. وكما هو شأن مضيق جبل طارق وطنجة الموضوعة في حالة حياد دائم بموجب اتفاقية تدويلها سنة (1923م) وكذلك المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية في الشمال والجنوب الشرقي تحكمها الاتفاقيات المعقودة. وهذا كله يعني أن سيادة الدولة على الإقليم المشترك إما ناقصة أو معدومة فلا تتبع دولة ما بحكم الحياد.
5 - ما لا يعتبر جزءاً من الإقليم ويمكن اعتباره امتداداً مشتركاً مشاعاً لإقليم كل دولة :
20 - إن المناطق الحرة غير التابعة لدولة ما يمكن اعتبارها في الإسلام مشاعة لكل الدول على السواء؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولأنها لا تخضع لحيازة أحد، فتنتفع بها كل الدول بشرط عدم الإضرار بالآخرين كتلويث مياه البحار والجو بالغبار الذري، لأن الضرر ممنوع شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» (1) . وتشتمل هذه المناطق ما يأتي:
__________
(1) رواه مالك في الموطأ وأحمد في مسنده، وابن ماجه والدارقطني في سننهما عن ابن عباس وعبادة (الفتح الكبير وغيره ).
أ ـ أعالي البحار (1) : الأصل في الشريعة أن البحار العامة ليست ملكاً لأحد (2) لعدم الحيازة لها ، سئل بعض فقهاء الحنفية عن البحر الملح أمن دار الإسلام أو دار الحرب؟ فأجاب بأنه ليس من أحد القبيلين، لأنه لا قهر لأحد عليه (3) . ويؤيد ذلك الاعتماد على بعض قواعد الإسلام لتقرير مبدأ حرية البحار مثل مبدأ العدالة ومبدأ المساواة وقاعدة الحيازة الفعلية أو الحيازة الحكمية وأن الأصل في الأشياء والأعيان الإباحة، فالعدالة والمساواة تقضيان بجعل البحار مشاعة لجميع الدول، إذ لا حيازة لإحدى الدول عليها فعلاً أو حكماً مما يوجب رفض القول بمبدأ ملكية البحار والسعي لتقرير مبدأ حريتها (4) .
ب ـ الفضاء الكوني (5) : يعتبر الفضاء الكوني أيضاً حراً يجوز لكل دولة الانتفاع به قياساً على مبدأ حرية البحار العامة السابق ذكره لعدم الاستيلاء أو حيازة دولة ما له، ولكن مع مراعاة الشرط السابق وهو عدم الإضرار بالآخرين.
__________
(1) المقصود بأعالي البحار في العرف الحاضر:كل أجزاء البحر التي لا تدخل في البحر الإقليمي أو في المياه الداخلية لدولة من الدول (حافظ غانم، المرجع السابق: ص 405). ويقصد بحرية البحار: أن يكون لكافة الدول أن تنتفع بها على قدم المساواة. ولا تخضع السفينة الموجودة في أعالي البحار إلا لاختصاص الدولة التي ترفع علمها.
(2) التشريع الجنائي الإسلامي لعودة: 296/1.
(3) رد المحتار على الدر المختار: 267/3 و 277، ط الحلبي، وانظر التفصيل في بحث دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(4) بدأ رجال الكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسهم البابا في العصر الوسيط بإدخال البحار في ملكية ملوك أوربا كي يتسنى لهم محاصرة الدولة الإسلامية عن طريق البحر المكتشف أو الذي سيعرف (ر : أحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان: ص 243، نظم الحكم والإدارة في الشريعة والقوانين لعلي منصور: ص 312).
(5) توصلت بعض الدول الكبرى في عصرنا الحاضر إلى الفضاء الكوني بقذائف صاروخية تحمل كواكب صناعية تدور حول الكواكب السماوية، وتشرف على الكرة الأرضية، وتصور أي جزء منها، وترسل معلومات فلكية عن الفضاء والأشعة الشمسية إلى الدولة التي أطلقتها.
الركن الثالث: السيادة :
تمهيد :
1 - نظرية السيادة في المفهوم الحديث للدولة والنظريات البديلة كمعيار للدولة :
21 - السيادة فكرة حديثة نسبياً، فلم تكن معروفة حتى القرن السادس عشر، وهي تعني مجموعة من الاختصاصات تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة، وتجعل منها سلطة آمرة عليا. ولعل أهم هذه الاختصاصات هو قدرتها على فرض إرادتها على غيرها من الهيئات والأفراد بأعمال من جانبها وحدها، تكون نافذة من تلقاء نفسها، دون أي توقف على قبول المحكومين لها.(4/18)
ولا يصح الخلط بين السلطة السياسية والسيادة؛ إذ أن هناك فرقاً بين السلطة في ذاتها وأوصاف السلطة، فالسيادة في الواقع ليست إلا الصفة التي تتصف بها السلطة السياسية في الدولة، لأن السلطة ركن من أركان الجماعة، أما السيادة فهي وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة.
والمعيار التقليدي للدولة هو السيادة، فالذي يميز الدولة عن غيرها من الجماعات هو تمتعها بالسيادة.
وللسيادة مظهران أو وجهان ذكرتهما سابقاً (1) ، وبينت أيضاً أن نظرية السيادة في المفهوم الحديث أصبحت نسبية؛ إذ أن سيادة الدولة صارت خاضعة داخلياً للخير العام القومي وخارجياً للخير المشترك الدولي.
ووجدت نظريات أخرى تحل محل نظرية السيادة المطلقة، منها نظرية
__________
(1) ر : حاشية ف/5.
(لاباند) وأساسها أن ما يميز الدولة هو ما تملكه من قوة للجبر والقهر تباشرها على أشخاص آخرين ، وهذه القوة هي حق خاص للدولة لم تستمده من سلطة أخرى.
ومنها نظرية (بلنيك) وهي تقول: أن ما يميز الدولة هو كونها تملك اختصاص إعطاء الاختصاص، فهي السلطة الوحيدة في الإقليم التي تملك حق وضع دستور ينظم الدولة، ويحدد اختصاص سائر الأشخاص والهيئات الموجودين على إقليمها.
وقال بعض فقهاء القانون الدولي: يمكن وضع معيار آخر مزدوج للدولة يتلخص في أمرين:
1 - عمومية اختصاص الدولة، أي أن الدولة تتمتع باختصاص عام في حدود إقليمها.
2 - الخضوع المباشر للقانون الدولي العام، فتستمد منه حقوقها وواجباتها، وتخضع لما يقيد حريتها في التصرف (1) .
2 - تمييز السيادة عما يشتبه بها :
22 ـ يميز فقهاء القانون الدولي بين السيادة وبين بعض الأنظمة وبعض مظاهر نشاط الدولة التي قد تختلط أو تلتبس بها (2) .
أ ـ التمييز بين السيادة والسلطة الفعلية :
يجب التمييز بين السيادة كحق قانوني وبين مباشرة السلطة الفعلية إذ من الجائز أن تباشر دولة أو هيئة دولية سلطة فعلية في إقليم لا يخضع لسيادتها، ومثالها نظامان:
1 - الإيجار: ومقتضاه أن تؤجر الدولة جزءاً من إقليمها لدولة أخرى، وتتولى الدولة المستأجرة إدارة الإقليم محل الإيجار، واستخدامه مقابل أجر معين تدفعه للدولة المؤجرة، كاستئجار أمريكا لمدة (90) عاماً بعض مناطق في نيوفوندلند وبرمودا من إنجلترا بموجب اتفاقية سنة (1941م).
2 - الإدارة: ومقتضاه أن تتنازل دولة عن إدارة جزء من إقليمها إلى دولة أخرى، وتتولى الدولة المديرة إدارة الإقليم نيابة عن الدولة الأولى، ولمصلحة هذه الدولة، كنظام الوصاية الدولية تحت إشراف الأمم المتحدة.
__________
(1) حافظ غانم: ص 128-137، ثروت بدوي: ص 40 وما بعدها، حامد سلطان: ص 150، فؤاد شباط: ص 62، المراجع السابقة.
(2) حافظ غانم، المرجع السابق: ص132 ومابعدها، الشريعة والقانون الدولي، علي منصور ص123.
ب ـ التمييز بين السيادة والملكية :
23 ـ للسيادة في القانون الدولي مدلول قانوني مبناه اعتبار الدولة أعلى سلطة في داخل إقليمها، واعتبار هذا الإقليم النطاق الذي تباشر الدولة سلطتها فيه، ولا يمكن تشبيه سلطات الدولة واختصاصاتها بالملكية الخاصة لفرد من الأفراد. فالقانون الداخلي لكل دولة يختص بتنظيم ملكية الأفراد أو الملكية العامة بتأثير مبادئ ونظريات معينة، وملكية الدولة لبعض الأموال في داخل إقليمها أو في أقاليم دولة أخرى شيء مختلف عن السيادة الإقليمية.
بعد هذا التمهيد أذكر أموراً ثلاثة:
أولاً ـ فكرة السيادة في الدولة الإسلامية :
24 ـ تتمتع الدولة الإسلامية بصفة السيادة في النطاقين الداخلي والخارجي بدءاً من الحكومة النبوية في المدينة وما تلاها من عهود مستقلة. ففي النطاق الداخلي: للدولة الهيمنة التامة على جميع الأشخاص والهيئات القائمة في دار الإسلام. فتلتزم الرعية بالطاعة والسمع ضمن حدود الشرع. قال النبي صلّى الله عليه وسلم : (لا طاعة في معصية الله ، إنما الطاعة في المعروف) (1) . وقال الماوردي: بعد أن ذكر ما يلزم الإمام من الأمور العامة: (وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: (الطاعة والنصرة) ما لم يتغير حاله. والذي يتغير به حاله، فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته. والثاني: نقص بدنه. فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين: أحدهما: ما تابع فيه الشهوة، والثاني: ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح: وهو ارتكاب للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيماً للشهوة وانقياداً للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها...الخ) (2) .
وفي موضوع تقليد الإمارة على الجهاد، قال الماوردي أيضاً: وأما ما يلزمهم -أي الجيش في حق الأمير عليهم - فأربعة أشياء:
ـ أحدها: التزام طاعته والدخول في ولايته، لأن ولايته عليهم انعقدت وطاعته بالولاية وجبت.
ـ والثاني: أن يفوضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره، حتى لاتختلف آراؤهم فتختلف كلمتهم، ويفترق جمعهم.
ـ والثالث: أن يسارعوا إلى امتثال الأمر والوقوف عند نهيه وزجره، لأنهما من لوازم طاعته.(4/19)
__________
(1) رواه مسلم من حديث علي (شرح مسلم للنووي: 226/12 وما بعدها).
(2) الأحكام السلطانية: ص 15، وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 8، 30.
ـ والرابع: أن لا ينازعوه في الغنائم إذا قسمها ويرضوا منه...) (1) .
وأما مظهر السيادة في المجال الدولي أو الخارجي فإن ذلك واضح مما قرره القرآن الكريم من مبدأ توفير العزة والاستقلال الكامل لدولة الإسلام دون السماح لأية سلطة أخرى بانتقاصه أو محاولة التسلط عليه، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] . وقال سبحانه: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:63/8] . والعزة تقتضي ـ كما ذكر سابقاً ـ الاستقلال ومن مستلزمات ذلك أوجب الفقهاء على الإمام (تحصين الثغور والحدود بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرق ينتهكون بها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً) (2) .
ثانياً ـ نصاب الحاكمية أو حدها الأدنى في التحقق، والفرق بينه وبين الحد الأدنى في تطبيق الأحكام لتحقق مفهوم دار الإسلام :
25 ـ إن السيادة الثابتة للدولة الإسلامية بالمعنى السابق لا تتقيد إلا بقيود أو حدود الشرع أو بالتعبير الحديث (مبدأ سيادة القانون)، لأن من أولى واجبات الدولة الإسلامية (حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة) (3) ، والحد الأدنى المطلوب شرعاً لتحقيق سيادة الشرع أو كون الحاكمية لله تعالى يتوافر بما يأتي:
1 - إقرار عقيدة التوحيد: إن أول مظهر للإسلام هو إعلان أصول عقيدته
__________
(1) المرجع السابق: ص 45.
(2) الماوردي، المرجع السابق: ص 14، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 11.
(3) الماوردي: ص 14، أبو يعلى: ص 11.
المعروفة: وهي الإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره حلوه ومره من الله تعالى (1) .
2 - التزام الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة أو التي ثبتت بدليل قطع الثبوت قطعي الدلالة، كوجوب الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج، وتحريم جرائم الحدود: وهي الزنا والقذف والسرقة وشرب الخمر والمحاربة (أوقطع الطريق) وإيجاب العقاب المقرر لها وللقتل العمد العدوان، وتحريم الربا، والميسر، وزواج المحارم، وزواج المسلمة بغير المسلم،وإيجاب الكفارات المقدرة للإيمان أو انتهاك حرمة بعض الأنظمة أوالفروض الدينية (2) .
3 - إنفاذ الأحكام الشرعية المنصوص عليها صراحة في القرآن الكريم أو في السنة أو في الإجماع كنظام المواريث والأسرة ومبادئ التعامل من رضا واختيار ونحوهما. وطرق الإثبات والقضاء، ونظم السلم والحرب، ونحو ذلك مما يتصل بالتزام الأوامر واجتناب النواهي.
4 - احترام مبادئ الإسلام السياسية والمدنية والاقتصادية: كمبدأ الشورى والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوفاء بالعهود والعقود والالتزامات، والحفاظ على الحقوق، وتحقيق الأمن، ودفع الأذى والضرر ومنع الظلم وجهاد الأعداء، وسد الذرائع إلى الفساد، وحماية الأنفس والأموال
__________
(1) القدر: لا شر فيه بوجه من الوجوه، فإنه علم الله وقدرته وكتابته ومشيئه، وذلك خير محض وكمال من كل وجه، ليس إلى الرب تعالى بوجه من الوجوه، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، وإنما يدخل الشر الجزئي الإضافي في المقضي المقدر، ويكون شراً بالنسبة إلى محل وخيراً بالنسبة إلى محل آخر، وقد يكون خيراً بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه، كما هو شر له من وجه، بل هذا هو الغالب. وهذ ما يحقق معنى التكامل في الحياة (راجع العقيدة الواسطية لابن تيمية).
(2) انظر كتب أصول الفقه ـ باب الاجتهاد.
والأعراض، وإقرار المسؤولية الفردية وضمان الاعتداء أو الضرر، وتحريم الاحتكار والغش والتدليس والتطفيف في الكيل والميزان (1) ، وعدم إهدار حرمة الملكية الخاصة مع مراعاة كونها ذات وظيفة اجتماعية، وتقييد جمع المال وإنفاقه بالقيود المشروعة.
وأما ما عدا ذلك من الأمور غير المنصوص عليها صراحة في الشريعة، فللعلماء المختصين الاجتهاد فيها، عملاً بأن الأصل في الأشياء النافعة هو الإباحة، وفي الأشياء الضارة هو الحظر أو المنع، ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» (2) ، ولكن بشرط ألا يصادم الاجتهاد مبدأ أساسياً من مبادئ الإسلام أوأصلاً من أصول الشريعة، أي أنه لا بد لصحة الاجتهاد وسلامته من أن يكون متجاوباً مع روح الشريعة وأصولها ومقاصدها التشريعية، كما هو معروف في علم أصول الفقه.
والخلاصة: إن الحد الأدنى لحاكمية الله ، هو تطبيق الأحكام القطعية والمجمع عليها وإقامة الحدود، وأما بقية الأحكام الفرعية الثابتة فهي مكملة لهذه الحاكمية، إلا أن الإخلال بتطبيق الحد الأدنى لتلك الحاكمية لا يمكننا من الإسراع بالحكم بالتكفير وإزالة وصف الإسلام، لأن الحكم بالتكفير والتبري ليس بالهين ويحتاج إلى احتياط كما قرر الفقهاء، ولأن التكفير لا يكون إلا بالترك، اعتقاداً بعدم الصلاحية أو مجاهرة بإعلان الكفر صراحة.(4/20)
26 - ويلاحظ أن هذا الحد الأدنى للحاكمية القانونية يختلف عن الحد الأدنى المطلوب لتحقيق مفهوم دار الإسلام، إذ يكفي لتحقيق مدلول دار الإسلام
__________
(1) الحسبة لابن تيمية: ص 29 و 45 وما بعدها، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 63 وما بعدها و143 وما بعدها، 155 وما بعدها، المحلى لابن حزم: 440/9 م/1772.
(2) أخرجه مسلم عن أنس وعائشة (شرح مسلم: 118/15).
لتتميز عن دارا لحرب: إقامة شعائر الدين أو غالبها فيها، أو التمكين من أدائها، مثل إقامة صلاة الجمعة والجماعة والأعياد وإعلان الأذان (1) .
أما كون الحاكمية أو السيادة القانونية لله فمعناه تطبيق شريعته وإطاعة أوامره، واجتناب نواهيه، والتزام الأحكام الواضحة الصريحة في القرآن الكريم والسنة النبوية لقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب:36/33] {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/4] ، إذ بذلك يتحقق المقصود من إنزال الشرائع السماوية وتوفير النظام الصالح للبشرية.
ثالثاً ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء بلاد الإسلام؟
27 - إن الأصل العام المقرر عند علماء الأشاعرة والمعتزلة والخوارج أن الإمامة والسلطة السياسية في دار الإسلام في المشرق والمغرب الإسلامي واحدة (2) لأن الإسلام دين الوحدة، ولأن المسلمين أمة واحدة، رائدها التعاون والتضامن، وعدوها التفرق والتنازع والتمزق، قال الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} [الأنبياء:92/21] {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/49] {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...} [آل عمران:103/3] {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران:105/3].
ويؤكد الرسول صلّى الله عليه وسلم على مبدأ الوحدة هذا، فيقول: «المسلم أخو المسلم لا
__________
(1) ر : بحث دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف: ف/48.
(2) البحر الزخار: 386/5، أصول الدين للبغدادي: ص 274.
يظلمه ولا يخذُله ولا يكذِبه» (1) «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (2) «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (3) «إن المؤمن من أّهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» (4) .
وأجمع الصحابة يوم السقيفة لانتخاب خليفة بعد النبي صلّى الله عليه وسلم على أنه لا يجوز إمامان في وقت واحد، بدليل ما أجاب به عمر بن الخطاب الحُبَاب بن المنذر الأنصاري رضي الله عنهما حينما قال: (منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش): فقال: (سيفان في غمد إذن لا يصلحان).
وقرر الفقهاء إنه لا يجوز إمامان في بلد واحد، حتى وإن كانت الجهات متباينة لقيام العمال مقام الإمام الآخر في المقصود ولفعل الصحابة (5) الذين امتثلوا أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (6) «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (7) «إنه لا نبي بعدي، وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول، ثم أعطوهم حقهم، وسلوا الله الذي لكم، فإن الله
__________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة (الأربعين النووية).
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري (الفتح الكبير والجامع الصغير).
(3) رواه مسلم وأحمد في مسنده عن النعمان بن بشير (المرجعان السابقان).
(4) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 87/8).
(5) البحر الزخار، المكان السابق، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري: 133/2، ف/180، وانظر للتفصيل في الموسوعة الفقهية: إمامة.
(6) أي أبطلوا البيعة الأخيرة، قال في النهاية: أي أبطلوا دعوته واجعلوه كمن مات، رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم للنووي: 242/12).
(7) رواه مسلم من حديث عرفجة بن شريح (شرح مسلم: 242/12).
سائلهم عما استرعاهم» (1) .
قال الماوردي وتبعه أبو يعلى: (إذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم فجوزوه) (2) .
وقال ابن حزم: (ولا يحل أن يكون في الدنيا إلا إمام واحد، والأمر للأول بيعة) (3) وأضاف أيضاً: (واتفقوا ـ أي الفقهاء ـ أنه لا يجوز على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين، ولا في مكان واحد) (4) .
28 - وأجاز قوم تعدد الأئمة عند تباعد الديار، وكمال الغرض المقصود بهم وهؤلاء القوم: هم (إمام الحرمين وصاحب المواقف وأبو منصور البغدادي، والكرَّامية وأبو الصباح السمرقندي وأصحابه، والإمامية والزيدية، والجاحظ، وعبَّاد الصيمري، والناصر، والإمام يحيى بن حمزة بن علي الحسيني، والمؤيد في قول له من آل البيت) (5) .
وعباراتهم هي ما يأتي:
قال إمام الحرمين:والذي عندي أن عقد الإمامة لشخصين في صقع (6)
__________(4/21)
(1) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة (شرح مسلم: 231/12 ، جامع الأصول: 443/4).
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 7، ولأبي يعلى: ص 9.
(3) المحلى: 439/9، ف/1770.
(4) مراتب الإجماع: ص 124.
(5) الإرشاد لإمام الحرمين: ص 425، ط الخانجي، المواقف وشرحها للإيجي والجرجاني: 353/8، أصول الدين للبغدادي، ص 274، الفصل في الملل والنحل: 88/4، الملل والنحل للشهرستاني: 113/1، البحر الزخار: 386/5.
(6) الصقع: بضم الصاد: الناحية.
واحد متضايق الخطط والمخالف (1) غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه، وأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع (2) النوى، فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع (3) .
وقال صاحب المواقف: (ولا يجوز العقد لإمامين في صقع متضايق الأقطار، أما في متسعها بحيث لا يسمع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد).
وقال البغدادي: (لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان واجبا الطاعة... إلا أن يكون بين البلدين بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى الآخر، فيجوز حينئذ لأهل كل واحد منهما عقد الإمامة لواحد من أهل ناحيته).
وذكر الشهرستاني عن الكرامية: (إنهم جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين، وغرضهم إثبات إمامة معاويةفي الشام باتفاق جماعة من أصحابه، وإثبات أمر المؤمنين علي بالمدينة والعراقين باتفاق جماعة من الصحابة...).
وأبان ابن حزم في كتابه: (الفِصَل في الملل والنحل) والبغدادي أن (محمد ابن كرام السجستاني وأبا الصبح السمرقندي وأصحابهما أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد، واحتج هؤلاء بقول الأنصار، أو من قال منهم يوم السقيفة: «منا أمير ومنكم أمير» واحتجوا أيضاً بأمرعلي والحسين مع معاوية رضي الله عنهم.
ونقل المرتضى صاحب البحر الزخار رأي الباقين القائلين بجواز تعدد الأئمة مع تباعد الدار، ثم قال عن مذهب الزيدية: والأصح الجواز مع تباين الديار لكمال المصلحة (4) .
وقال الأشعري في مقالات الإسلاميين: (وقال قائلون: يجوز أن يكون إمامان في وقت واحد، أحدهما صامت والآخر باطن، فإذا مات الباطن خلفه الصامت وهذا قول الرافضة. وجوز بعضهم ثلاثة أئمة في وقت واحد، أحدهم صامت، وأنكر أكثرهم ذلك).
وسيأتي في بحث (زوال الدولة الإسلامية) أحكام الأجزاء المنفصلة عن السلطة الأصلية ليعرف مصيرها وصفتها: هل هي دولة إسلامية أو لا؟).
__________
(1) جمع مخلفة بوزن متربة: وهي الموضع.
(2) الشسوع: البعيد.
(3) أي الأدلة القاطعة التي تفيد اليقين بوجوب وحدة الأمة.
(4) وانظر كتاب الشافعي ـ للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: ص 99.
المطلب الثاني ـ نشأة الدولة الإسلامية :
وفيه تمهيد وثلاثة فروع:
تمهيد :
مبدأ نشوء الدولة بمجرد تكامل أركانها :
29 - تنشأ الدولة الحديثة باستكمال عناصر مادية مكونة لها وهي (الشعب والإقليم والسلطة السياسية الحاكمة) وباعتراف المجتمع الدولي بها.
والدولة هي الصورة الحديثة للجماعة السياسية، فالجماعات السياسية الأخرى لها نفس المقومات الأساسية التي للدولة الآن، فهي لا تختلف عنها في الطبيعة والكُنْه، وإنما الفروق التي بينها هي فروق كيفية لا تمس الجوهر، لذلك تقوم الدولة كغيرها من المجموعات السياسية على أساس وجود مجموعة كبيرة من الناس يقطنون في إقليم معين، ويخضعون لتنظيم سياسي معين (1) . فإذا وجدت هذه العناصر أو الأركان نشأت الدولة.
وقد عرف التاريخ القديم دولاً بمعنى الكلمة كالدولة المصرية القديمة والدولة الفارسية والدولة الرومانية.
وقامت على هذا النحو في الجزيرة العربية دولة إسلامية بزغ فجرها بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة سنة (622م) (2) ، كان فيها الرسول صلّى الله عليه وسلم يباشر أعمال الحاكم في ضوء رسالة الإسلام، ثم تتابع على حكم هذه الدولة الخلفاء الراشدون، فالأمويون، ثم العباسيون...إلخ، أي أن نشأة الدولة الإسلامية في صدر الإسلام تمتد بطريقة تدريجية على أساس البيعة والعهد، لأن سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم وتعاليمه الدينية أوجدت نظاماً اجتماعياً معيناً، وهذا النظام الاجتماعي هو الذي أوجد نظام الحكومة (3) .
__________
(1) ثروت بدوي: المرجع السابق: ص 28.
(2) تاريخ الإسلام السياسي للدكتور حسن إبراهيم: 100/1.
(3) بحث الدكتور محمد عزيز أحمد عن (مفهوم الدولة في الإسلام) المنشور في مجلة (المسلمون) ـ المجلد الرابع ـ العدد السادس ـ ص 59.
يبدو من ذلك أن الدولة الإسلامية (1) تنشأ كغيرها من الدول باجتماع العناصر المكونة لها عادة من إقليم وسكان وتنظيم سياسي، فالإقليم هو دار الإسلام والسكان هم المسلمون وأهل الذمة (2) ، والتنظيم السياسي: هو السلطة الإسلامية العليا (أو الخلافة أو الإمامة) أي أن للدولة المسلمة تنظيمها الحكومي الخاص.
الفرع الأول ـ طرق نشأة الدولة الإسلامية :
30 - إن نشأة الدولة الإسلامية بتوافر العناصر المادية السابقة يتم على إحدى صورتين كغيرها من الدول (3) .(4/22)
آ ـ نشوء جديد كلية: قد تنشأ الدولة من عناصر جديدة إما بامتلاكها عنوة أو سلماً أو بهجرة مجموعة من الناس واستقرارها على إقليم غير مأهول أو مسكون بقبائل متأخرة أو بشعب ضعيف، وتوفر الرغبة لديهم في تكوين تنظيم سياسي مستقل.
__________
(1) يلاحظ أن اصطلاحات الدين والدولة والعقيدة والسياسة ونحوها عند الغربيين يجمعها عندنا كلمة (الدين الإسلامي) الذي يشمل كل هذه المصطلحات متلازمة، غير منفصلة ولا متباعدة، فالعبادة والمعاملات التجارية والقضاء والإدارة والحكم والحرب والسلم كلهاتلتقي في ظل نظام واحد هو نظام الإسلام، وتنبع من عقيدة واحدة هي عقيدة الإسلام.
(2) أهل الذمة: هم الطوائف الأخرى غير المسلمة التي تقيم في دار الإسلامي بموجب عقد الذمة.
(3) حافظ غانم، المرجع السابق: ص 266 وما بعدها، الشريعة والقانون الدولي، علي منصور: ص159 وما بعدها.
وهذه ظاهرة تاريخية يمكن إرجاع نشوء أغلب الدول القديمة إليها، ومنها الدولة الإسلامية الأولى في المدينة وما جاورها، ثم امتدادها بطريق الفتح إلى أنحاء الجزيرة العربية والبلدان الإسلامية المفتوحة، فقد هاجر المسلمون إلى المدينة، ثم فتحوا بلدان الجزيرة العربية وغيرها، وكونوا لأنفسهم حكومة ونظاماً سياسياً خاصاً يعتمد على أسس جديدة من حراسة الدين وسياسة الدنيا.
ب ـ نشوء الدولة من عناصر قديمة: وهذا يكون إما بالانفصال أو بالاتحاد، وقد حدثت الحالة الأولى باستقلال الدول المنفصلة عن الخلافة العباسية، وتكوين دول مستقلة في الأندلس والمغرب ومصر وإيران. ويمكن حدوث الحالة الثانية باتحاد دولتين أو أكثر من دول العالم الإسلامي الحاضرة إما في شكل دولة واحدة كما كان عليه الوضع أثناء نظام الخلافة السابق، وإما في شكل اتحاد فعلي، أو دولة تعاهدية، ويتم التعاهد إما بالاتفاق الاختياري أو الصلح مع أهل بلد كبير على عقد الذمة مثلاً.
الفرع الثاني ـ الاعتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي :
ماهية مبدأ الاعتراف ومسوغاته :
31 - إن تنظيم المجتمع الدولي الحاضر تنظيم حديث لم يكن على هذا النحو وقت ظهور الإسلام وفي عصور دوله المتتابعة كما هو معروف، لذا كان مرجع تفصيل الأحكام الدولية إلى القانون الدولي العام، إلا أن المبادئ الأصلية والأخلاق الدولية السائدة مقررة بوضوح في الإسلام.
فمن أنظمة القانون الدولي الحديث التي يشترطها لنشوء الدولة بعد استكمال عناصرها المادية المكونة لها هو إصدار اعتراف دولي بوجودها، والاعتراف بالدولة هو من جملة الأحكام السلمية في العلاقات الدولية.
وبما أن الإسلام ينشد في الحقيقة الوصول إلى سلم مستقرة في علاقاته مع الشعوب الأخرى على أساس أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام، أو المعاهدة والأمان، فإن الاعتراف بوجود الدولة الأخرى غير المسلمة (دارا لحرب) أمر لا مانع منه استصلاحاً في مبدأ الإسلام وفقهه المتمثل في تقسيم العالم إلى دارين: دار إسلام ودار حرب، لأن دار الحرب تشمل كل الدول غير المسلمة التي كانت في الأصل غير مسالمة للمسلمين ولا متعاهدة معهم، فإذا تمت المعاهدة السلمية بين الدولة الإسلامية وغيرها من دول دار الحرب، أو التزمت هذه الدول كلها ميثاقاً واحداً ينص على احترام السلم والأمن الدوليين، وتحريم التدخل في شؤون الدول الأخرى كان ذلك اعترافاً ضمنياً من الدولة الإسلامية بغيرها، فضلاً عن أن الاعتراف يصدر في الغالب صراحة بإرادة حرة.
وهذا موافق لقوله تعالى: {وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله ، إنه هو السميع العليم} [الأنفال:61/8] ، وموافق أيضاً لرأي الفقهاء القائلين بأن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم (1) .
وبناء عليه يجوز للدولة المسلمة الاعتراف بدولة غير مسلمة اعترافاً علنياً أو ضمنياً حقوقياً أو واقعياً بحسب الحال.
وكون الدعوة الإسلامية ذات نزعة عالمية من طريق الحكمة والموعظة الحسنة، وبالتالي امتداد سلطان الدولة الإسلامية مع انتشارها في المعمورة: لا يعني تجاهل ظروف الإمكان وضرورات الواقع ومصلحة السلام التي تجعل من دولة الإسلام إحدى دول هذا العالم التي تتبادل بينها أمر الاعتراف لفض منازعاتها على أساس سلمي يتمشى مع منطق الإسلام ووحي رسالته.
ويؤكد هذه المسوغات للاعتراف أنه عند الفقهاء الدوليين الآن عمل حر تقر بمقتضاه دولة أو مجموعة من الدول وجود جماعة لها تنظيم سياسي في إقليم معين مستقلة عن كل دولة أخرى، وقادرة على الوفاء بالتزامات القانون الدولي العام وتظهر الدول بالاعتراف نيتها في اعتبار هذه الدولة عضواً في الجماعة الدولية (2) .
__________
(1) ر : جهاد أو حرب فيما سبق.
(2) حافظ غانم، المرجع السابق: ص 268.
أنواع الاعتراف :
32 ـ للاعتراف أنواع ثلاثة حسبما يقرر فقهاء القانون الدولي الحديث، وهي: الاعتراف الكامل، والاعتراف الناقص، والاعتراف بحالة الحرب (1) .
أولاً - الاعتراف الكامل :(4/23)
لا يكفي لنشوء الدولة الجديدة ـ كما تقدم ـ توافر وقائع مادية فقط (وهي الشعب والإقليم والسلطة الحاكمة) وإنما لا بد من أن يصاحب هذا النشوء إجراء قانوني هو الاعتراف بالدولة، ومقتضاه التسليم من جانب الدول القائمة بوجود هذه الدول وقبولها كعضو في المجتمع الدولي، وذلك يتم بإحدى صورتين:
أ ـ الاعتراف بالدولة: يوجد هذا الاعتراف عادة بظهور دولة جديدة مستقلة وهو يتضمن الاعتراف بكل حكومة شرعية تقوم فيها، ويتم إما صراحة أوعلناً بالنص عليه في معاهدة أو في وثيقة دبلوماسية، وإما ضمناً بطريق التعامل مع الدولة الجديدة كتبادل التمثيل السياسي أو القنصلي، أو إبرام معاهدات معها أو دعوتها لحضور المؤتمرات باعتبارها دولة مستقلة.
ب ـ الاعتراف بالحكومة: محل هذا الاعتراف هو حكومة جديدة وجدت في دولة قديمة نتيجة ثورة شعبية، أو انقلاب عسكري (2) يؤدي إلى تغيير نظام الحكم فيها، وإحلال حكومة جديدة محل الحكومة القديمة (3) .
__________
(1) لا مانع في الإسلام من اختيار الحاكم العمل بإحدى هذه الصور في ضوء تقديره للمصالح العامة ومقتضيات السياسة الشرعية مادام كون مبدأ الاعتراف مسلّماً به بحسب قواعد الإسلام كما تقدم.
(2) تنعقد الإمامة عند فقهاء الإسلام بوجهين: أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد (أي بالبيعة أو الانتخاب) والثاني: بعهد الإمام من قبل أو يجعل شورى بين قوم. وروي عن الإمام أحمد وغيره: أنها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد، وعبارة الحنفية في ذلك: تنعقد الخلافة باستيلاء رجل جامع للشروط على الناس وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد النبوة. ثم إن استولى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالعة، لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا بحروب ومضايقات وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة. وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهم، فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً، وهذا من قبيل التسليم بالواقع اضطراراً منعاً للفوضى مع مخالفة مبدأ الشورى المقرر في الإسلام (راجع المنهاج ومغني المحتاج: 130/4 - 132، الأحكام السلطانية للماوردي: ص4 و 8-9، ولأبي يعلى: ص 6-7، حجة ال البالغة: 111/2، وانظر إمامة أو خلافة في الموسوعة الفقهية) وإقرار الفقهاء لحالات الإمامة الاستثنائية يدل على جواز إقرار حالات واقعية مماثلة.
(3) حافظ غانم: ص 277، علي منصور: ص 162 و 166، المرجعان السابقان.
ثانياً ـ الاعتراف الناقص أو التمهيدي :
33 - إذا لم تستكمل الدولة عناصرها، فمن الجائز إصدار اعتراف تمهيدي بالجماعة التي تسعى عن طريق ثورة أو حركة انفصالية (1) إلى إنشاء دولة مستقلة، ويتضمن هذا الاعتراف إقرار الحالة القائمة فعلاً بين جماعة الثورة والدولة الأصل.
ولهذا الاعتراف عند فقهاء القانون صور ثلاث (2) :
__________
(1) لا يجوز الاعتراف في الإسلام بالجماعة الثائرة في وجه الدولة الإسلامية، كما حدث عندما انفصلت الأندلس عن الشرق لم يعترف بها خلفاء بغداد مطلقاً، لأنهم جماعة بغاة ينبغي عدم الإعانة على انشقاقهم أو إنجاح ثورتهم، وعليه فلم يكن الأمويون في الأندلس والأدارسة في المغرب الأقصى إلا بغاة يجب إخضاعهم وردهم إلى التزام طاعة الخليفة أو الإمام.
(2) حافظ غانم : ص 271 وما بعدها، علي منصور: ص 164 وما بعدها، الحقوق الدولية العامة، فؤاد شباط: ص 175-178.
أ ـ الاعتراف بالأمة: هذا النوع من الاعتراف خطوة في سبيل الاعتراف بالدولة، ويتم عادة من الدول أصحاب المصالح مع بعض الشعوب الموالية لها عن طريق الاعتراف بلجنة قومية تشكلت في الخارج، وتتعامل معها بعض الدول الأجنبية، كأنها تمثل (الأمة) التي تنتسب إليها، وذلك مثل اعتراف الدول العربية وبعض الدول الصديقة بمنظمة التحرير الفلسطينية لتمثيل الشعب الفلسطيني.
ب ـ الاعتراف بالثورة: وهو يحصل إذا ما نشبت ثورة في داخل دولة ما بقصد انفصال جزء من إقليمها عنها، ويقصد بالثورة: الهياج المسلح الذي لا يبلغ في الجسامة مبلغ الحرب الأهلية.
جـ ـ الاعتراف بالحكومة في الخارج (حكومة المنفى ) : وهذا مثل الاعتراف بالأمة يتم باعتراف بعض الدول الأجنبية بحكومة تدعي أنها ذات الصفة الشرعية
تتكون خارج إقليم الدولة نتيجة وقوع انقلاب عسكري يتسلم فيه زعيم الانقلاب مقاليد السلطة في داخل البلاد، وذلك تمهيداً لدخول تلك الحكومة إلى البلاد لطرد جماعة الانقلاب، وممارسة الحكم فيها بالسيطرة على الإقليم والشعب ومباشرة سائر الاختصاصات المتعلقة بالحكم.
ثالثاً ـ الاعتراف بحالة الحرب :
34 - وهو يحصل إذا ما اتخذت الثورة شكل الحرب الأهلية، وأصبح للثوار حكومة منظمة تباشر سلطاتها على إقليم معين، وجيش يتبع قواعد الحرب، ويترتب على اعتبار حالة الحرب قائمة بما يتبعها من آثار فيما يتعلق باتباع قواعد الحرب الدولية، والتزام الدولة المعترفة بمراعاة جانب الحياد حتى يتقرر مصير الحرب الدائرة، وينتهي النضال لصالح الإقليم الثائر أو دولة الأصل (1) .(4/24)
وهذا الوضع يشبه في الفقه الإسلامي حالة البغاة أو دار البغي، فإذا تعذر على الحاكم الأصلي إخضاع البغاة، وظلوا مسيطرين على الأماكن التي أعلنوا فيها سلطانهم كان معنى ذلك إمكان صدور اعتراف بهم من الآخرين على أساس الأمر الواقع، مع تقدير أن الاعتراف يسيء إلى الدولة الأصل.
الفرع الثالث ـ شخصية الدولة الإسلامية :
35 - تتمتع الدولة الإسلامية بشخصية مستقلة تعرف حديثاً بالشخصية المعنوية أو الاعتبارية (2) وقد أقر فقهاء الإسلام مدلول هذا الاصطلاح بدليل ما قرروه من نتائج أو خصائص بالنسبة للدولة ونحوها وهي:
__________
(1) حافظ غانم، وعلي منصور، المرجعان السابقان.
(2) عرف الفقه الدولي الغربي في منتصف القرن العشرين هذا الاصطلاح الذي فرضه لبعض الجهات أو المؤسسات العامة، واعتبر أن الدولة تتمتع بالشخصية المعنوية، ورتب عليها النتائج الآتية:
أ ـ تعد الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام.
ب ـ حقوق الدولة تظل قائمة مدة بقائها وإن تبدل ممثلوها، والتزاماتها التي تتعهد بها ومعاهداتها واتفاقاتها التي تبرمها تبقى نافذة فيها، وملتزمة بها بالرغم من تغير ممثليها، أو انقراض الأشخاص الذين تعاقدوا باسمها.
جـ ـ تظل القوانين التي تصدرها الدولة قائمة ما دامت لم تلغ أو تعدل صراحة أو ضمناً (حافظ غانم : ص 140 وما بعدها، ثروت بدوي: ص 52 وما بعدها، موجز القانون الدستوري للدكتور عثمان خليل والدكتور سليمان الطحاوي: ص12 ومابعدها، حامد سلطان، المرجع السابق: ص 185، محاضرات في النظرية العامة للحق للدكتور شمس الدين وكيل: ص113).
أ ـ إنهم عرفوا فكرة الدولة مستلقة عن أشخاص الحكام، فكان الحاكم أو الخليفة يعد بمثابة أمين على السلطة يمارسها بصورة مؤقتة، ونيابة عن الأمة، كما يتضح من الخطب السياسية التي كان يلقيها الخلفاء الراشدون بمجرد انعقاد البيعة لهم (1) ، والتي يبدو منها أنهم كانوا يمارسون السلطة من أجل مصلحة الجماعة الإسلامية لا من أجل مصالحهم الشخصية، فالخليفة يعتبر نفسه وكيلاً عن الأمة في أمور الدين وفي إدارة شؤون الدولة بحسب شريعة الله ورسوله (2) ، وهو لهذا يستمد سلطانه من الأمة، ولها حق نصحه وعزله من منصبه إن وجد ما يوجب العزل (3) .
وكان العمال أو الموظفون لا ينعزلون بموت السلطان الذي عينهم، وكذا نائب القاضي لا ينعزل بعزل القاضي ولا بموته؛ لأن القاضي الذي استناب غيره في
__________
(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ص 16و 50.
(2) تاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم: 203/1 وما بعدها، وقال صلّى الله عليه وسلم واصفاً الإمارة: «إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» رواه مسلم عن أبي ذر (شرح مسلم للنووي: 209/12).
(3) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 15 وما بعدها، حجة ال البالغة: 112/2، نظام الحكم في الإسلام، يوسف موسى: ص 124.
القضاء إنما يعمل بولاية الأمة وفي حقوقها، لا بولاية شخصية من السلطان ولا في حقه الخاص؛ لأن الخليفة أو السلطان بمنزلة رسول معبر عن الأمة (1) .
1/35 ـ ب ـ وتظل حقوق الدولة الإسلامية ثابتة لها، وإن تغير حكامها بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبقى الأراضي المفتوحة على ملكية أهلها، على أن يدفعوا خراجاً دائماً (2) . وأكد معظم الفقهاء هذا المعنى، فقرروا أنها وقف لجماعة المسلمين.
فقال مالك: تصير الأراضي التي استولى عليها المسلمون عنوة وقفاً على المسلمين حيث غنت.
وقال أبو حنيفة: الإمام فيها بالخيار بين قسمتها بين الغانمين، فتكون أرضاً عشرية، أو يعيدها إلى أيدي المشتركين بخراج يضربه عليها، فتكون أرض خراج ويكون المشركون فيها أهل ذمة، أو يقفها على جميع المسلمين.
وقال الحنابلة في الأرجح عندهم: إن الإمام يفعل ما يراه الأصلح من قسمة هذه الأراضي، ووقفها مقابل خراج دائم يقرر عليها كالأجرة.
وكذلك الأراضي المملوكة عفواً لانجلاء أهلها عنها خوفاً: تصير بالاستيلاء عليها وقفاً. وأيضاً الأراضي المستولى عليها صلحاً على أن ملك الأرض لنا، تصير بهذا الصلح وقفاً من دار الإسلام، ولايجوز بيعها ولا رهنها (3) .
__________
(1) البدائع: 16/7، و 37/6 وما بعدها، المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي للأستاذ الزرقاء: ص 262، ف186/.
(2) شرح السير الكبير: 254/3، الخراج لأبي يوسف: ص 24 و 27 و 35، القسطلاني شرح البخاري: 200/5، الأموال: ص 58، فتوح البلدان للبلاذري: ص 275.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 132 وما بعدها، ولأبي يعلى: ص 130 وما بعدها، وانظر للتفصيل بحث: أموال الحربيين للمؤلف: ف/84-88.
وقال الفقهاء أيضاً: (بيت المال وارث من لا وارث له) (1) أي أن هذا حق ثبت له، وبديهي أن بيت المال من أخص حقوق الدولة، بل ومن أهم مقومات وجودها. ومن الأحكام الفقهية: لبيت المال حق الأخذ بالشفعة بسبب الشركة في ملكية العقار المبيع إن وجد في ذلك المصلحة له (2) .(4/25)
2/35 - وأما بالنسبة لالتزامات الدولة، فقال عنها فقهاؤنا: تظل قائمة، ففي بحثهم المعاهدات مثلاً قالوا: تبقى المعاهدة نافذة يلزمنا الوفاء بها حتى تنقضي مدتها، أو ينقضها العدو، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (3) [ المائدة 1/5]، وقوله صلّى الله عليه وسلم : «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك» (4) ، فلو مات الإمام الذي عقد الهدنة أو عزل لم ينتقض العهد، وعلى من بعده الوفاء به، لأن العقد السابق كان باجتهاد، فلم يجز نقضه باجتهاد آخر، كما لم يجز للحاكم نقض أحكام من قبله باجتهاد جديد، بدليل إتمام علي كرم الله وجهه ما عقده لأهل نجران (5) . وهذا يدل على أن الدولة شخص اعتباري يمثله الإمام ويتعاقد باسمه.
ويشير إلى ذلك أيضاً أن أمان الواحد من المسلمين رجلاً أو امرأة يسري على المسلمين جميعاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم،
__________
(1) يترك مال من لا وارث له في بيت المال باتفاق المذاهب الأربعة، غير أن الحنفية والحنابلة يقولون: إن هذا ليس بطريق الإرث، وإنما هو من باب رعاية المصلحة على أنه مال ضائع فيصرف في سبيل المصالح العامة. وقال متأخرو المالكية، والراجح عند الشافعية: يكون بيت المال وارثاً بشرط كونه منتظماً (شرح السراجية: ص 11، نظام المواريث للشيخ عبد العظيم فياض: ص 20، ط الثانية).
(2) أسنى المطالب: 265/2، منْح الجليل للشيخ عليش: 584/3.
(3) المائدة: 1.
(4) رواه الحاكم عن أنس وعائشة (الفتح الكبير) ورواه الترمذي عن عمرو بن عوف « المسلمون على شروطهم..» (نيل الأوطار: 254/5).
(5) الدر المختار: 25/3، البدائع: 16/7، القوانين الفقهية: ص 155، مغني المحتاج: 261/4، المغني: 462/8، البحر الزخار: 450/5 و 455.
وهم يد على من سواهم» (1) ، هذا الحديث يدل على وجود شخصية اعتبارية لجماعة المسلمين يمثلها أحدهم ويعتبر الأمان الصادر منه ملزماً لهم.
ومن الأحكام الفقهية في هذا الشأن ما قاله فقهاؤنا: (إن على بيت المال نفقة من لا عائل له من الفقراء) (2) .
وقالوا في نطاق المسؤولية المدنية والجنائية: إذا أتلف الحاكم شيئاً في غير حالة تطبيق العقوبات الشرعية أثناء قيامه بمصلحة من المصالح العامة، فضمان المتلفات على الدولة باعتبارها شخصية معنوية يمثلها الحاكم نياية عن جماعة المسلمين، قال عز الدين بن عبد السلام: «إن الإمام أو الحاكم إذا أتلف شيئاً من النفوس أوالأموال في تصرفهما للمصالح، فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم والإمام، ودون عواقلها على قول الشافعي، لأنهما لما تصرفا للمسلمين، صار كأن المسلمين هم المتلفون، ولأن ذلك يكثر في حقهما، فيتضرران به، ويتضرر عواقلهما) (3) .
وذكر فقهاء الحنفية: إذا أخطأ القاضي في حق من حقوق الله تعالى الخالصة له (أي من حقوق المجتمع) كأن قضى بحد زنا أو سرقة أو شرب خمر، واستوفى الحد، ثم ظهر أن الشهود ساقطو العدالة، كأن كانوا محدودين في قذف، فالضمان في بيت المال، لأن القاضي عمل في ذلك لعامة المسلمين لعود منفعتها إليهم: وهو الزجر، فكان خطؤه عليهم، فيؤدى (أي تدفع الدية) من بيت مالهم، ولا يضمن القاضي في ماله الخاص (4) .
يظهر من كل ذلك أن الدولة لها أهلية وجوب كاملة وذمة مستقلة عن أفرادها المكونين لها (5) وهذا هو المراد بالشخصية الاعتبارية للدولة.
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً. وفي الصحيحين ومسند أحمد عن علي: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم).. (نيل الأوطار: 27/7 وما بعدها).
(2) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 51، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 122، المهذب: 167/2.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 165/2، ط الاستقامة. وانظر للتفصيل: نظرية الضمان للدكتور وهبة الزحيلي: ص 337.
(4) البدائع: 16/7، رد المحتار: 355/4، ط الحلبي.
(5) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ الزرقاء: ص 263، المرجع السابق.
===============
المبحث الثاني ـ خصائص الدولة الإسلامية ومقارنتها بالدولة الحديثة
الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 457)
المبحث الثاني ـ خصائص الدولة الإسلامية ومقارنتها بالدولة الحديثة
المطلب الأول- خصائص الدولة الإسلامية :
وفيه فرعان:
أولاً ـ كونها دولة فكرة ومبادئ لإصلاح الحياة البشرية :
36 - إن نظرية الدولة في الإسلام تقوم أساساً على أنها دولة فكرية (أي ذات منهج إلهي) مؤسسة على مبادئ وغايات محددة واضحة (1) تنشد إصلاح الحياة البشرية قاطبة على وفق منهج العقيدة الإسلامية ومستلزماتها ونظمها التشريعية التي لاتتأثر بأهواء الواضعين، ولا بحدود إقليمية ضمن نطاق أرضي معين.
وإنما دستور الإسلام شامل لكل من آمن به من بني الإنسان دون اعتبار لميزات الجنس والعنصر والقوم والوطن بالمعنى الضيق، كما أن الدعوة إلى إقامة دولة في ظل الإسلام لا تعتمد على الروابط العنصرية والأواصر التاريخية التي تعتمد عليها الدول والقوميات في بنائها الحاضر.
__________(4/26)
(1) نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 47 وما بعدها، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور له أيضاً: ص 71 وما بعدها.
فدولة الإسلام إذن دولة ذات فكرة ومنهج موضوعي ورسالة دائمة مهمتها نشر العقيدة الإسلامية وتصحيح مفاهيم الناس نحو عالم الغيب وعالم الشهادة بتقديم الحلول السليمة ووضع المناهج السديدة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية على نمط يحقق الخير والرفاه والسعادة للفرد والجماعة.
تتضح بذلك الغاية السامية للمسلمين أمام الشعوب: وهي أن الإسلام يريد لها النمو والازدهار والمحافظة على كرامتها والإبقاء على خيراتها ومقدراتها بأيدي أهلها الأصليين، على النقيض تماماً مما تفعله دول الاستعمار الحاضرة، إذ أن الرغبة في نشر فكرة الإسلام لا تنشئ شيئاً من الشر الذي تنشئه الرغبة في نشر نفوذ بقصد الاستغلال الذي يسمونه (الاستعمار) (1) ، فالفكرة إذن هي الإسلام، وفكرة الإسلام التي تقوم مقام فكرة الوطن في معناها الطيب لا ينشأ عنها حب استغلال أرض الآخرين، أو طائفة أخرى من الناس.
ثانياً ـ كون غاية الدولة أداء رسالة الإسلام وجوباً اعتقادياً :
37 - إن الغاية الجوهرية للحكم الإسلامي هي أن تقوم الدولة بمختلف أجهزتها بنشر رسالة الإسلام، وحفظ الدين والدفاع عنه، حتى إن الفقهاء صرحوا بأن المقصود بالجهاد ليس قتل الناس أو إكراههم على الدين، وإنما هو الهداية وما سواها من الشهادة بالطريق الحسنى وبالاقتناع الحر (2) .
__________
(1) نحو مجتمع إسلامي للمرحوم الأستاذ سيد قطب: ص 97.
(2) مغني المحتاج: 210/4، بجيرمي المنهج: 227/4.
قال الماوردي وأبو يعلى: إن أول الأمور التي تلزم الإمام هو (حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبيَّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل) (1) .
وقال الدهلوي: (إن أمهات المقاصد أمور: منها: حفظ الملة بنصب الخطباء والأئمة والوعاظ والمدرسين) (2) .
وقال ابن تيمية: (إن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56/51] وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء:25/21]. وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (:3) [النحل:36/16].
وقال ابن تيمية أيضاً: المقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه، ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، ويقيموا بينكم دينكم.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 14، ولأبي يعلى: ص 11.
(2) حجة الله البالغة: 132/2.
(3) الحسبة: ص 4، ط المدينة.
فلما تغيرت الرعية من وجه، والرعاة من وجه تناقضت الأمور، فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان، كان من أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله ، فقد روي: يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة (1) .
من ذلك يتبين أن غاية الدولة الإسلامية إصلاح الدين والدنيا وإقامة العدل وإعلاء كلمة الله تعالى ، (أي تطبيق تعاليمه في القرآن والسنة) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبهذا تحقق الحكومة الإسلامية المثل الأعلى الذي ينشده الإسلام للبشرية. وهو تنفيذ أحكام الشريعة، وتمكين المسلم من أن يحيا طبقاً لمتطلباتها؛ لأن الدين الإسلامي هو أساس كل التنظيمات في الحياة، فكلمة (دين) تشمل جميع نواحي النشاط الإنساني، سواء في مجال التنظيم السياسي للجنس البشري، أم في مضار الأخلاق والاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والتربية التي يتضمنها كلها القرآن الكريم (2) . وبكلمة إجمالية: إن مهمة الدولة الإسلامية هي نشر الحضارة ذات الطابع الإنساني الرفيع.
المطلب الثاني- مقارنة الدولة الإسلامية بالدولة الحديثة :
وفيه فرعان:
الفرع الأول ـ بيان مدى ارتباط الدولة الحديثة بالمبادئ والأديان :
38 ـ لا نجد الآن تقسيماً للدول بحسب أديانها، ولا يهتم القانون الدولي
__________
(1) السياسية الشرعية: ص 24، ط دار الكتاب العربي بمصر.
(2) بحث مفهوم الدولة في الإسلام، الدكتور محمد عزيز أحمد المنشور في مجلة (المسلمون) المجلد الرابع، العدد السادس: ص 59.
العام بشأن دين الدولة، وإنما يعترف بالدولة الموزعة في العالم على أساس إقليمي، لكن من المعروف أن الدول بحسب الدين أربع مجموعات رئيسية: (1)
المجموعة الأولى: الدول النصرانية.(4/27)
المجموعة الثانية: الدول اللادينية (العلمانية) والدول الملحدة.
المجموعة الثالثة: الدول البوذية والهندوكية والبرهمية.
المجموعة الرابعة: الدول الإسلامية.
أما المجموعة الأولى: فلا تكتفي بتعيين دينها، بل هي تصرح في دساتيرها بمذهبها أيضاً، فهناك دول بروتستانية، ودول كاثوليكية، ودول أرثوذكسية. وقد صرحت دساتير معظم الدول الحديثة ولا سيما دساتير أمم الغرب بأنها تعطي لدين الأكثرية وثقافتها مكاناً ممتازاً، وتعمل على حمايتهما وتطورهما (2) . ففي إنجلترا: نصت المادة (7) من وثيقة الحقوق على أنه يسمح لرعايا الكنيسة البروتستانية بحمل السلاح لحماية أرواحهم في حدود القانون. وفي المادة (8) من الوثيقة المذكورة لكاثوليكي أن يرث أو يعتلي العرش البريطاني. وفي المادة (3) من قانون التسوية: على كل شخص يتولى الملك أن يكون من رعايا كنيسة انجلترا ولا يسمح بتاتاً لغير المسيحيين ولا لغير البروتستانيين أن يكونوا أعضاء في مجلس اللوردات ويعتبر ملك بريطانيا حامياً للكنيسة البروتستانية في العالم.
وفي اليونان: تنص المادة (1) من دستورها على أن المذهب الرسمي لأمة اليونان هو مذهب الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. وفي المادة (47) من الدستور: كل من يعتلي عرش اليونان يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
وفي الدانمرك تنص المادة (2) البند (5) على أنه يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة الانجيلية اللوثرية. وفي المادة (1) البند (3) : إن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها في الدانمرك.
وفي إيرلندة: ينص الدستور على أن الدولة تعطي مكاناً خاصاً للكنيسة الرسولية الكاثوليكية المقدسة.
__________
(1) انظر بحث (مكان الإسلام في مفهوم الدولة) للأستاذ عبد الرحمن خضر المنشور في مجلة (المسلمون) المجلد الخامس ـ العدد الأول ـ ص 67 وما بعدها.
(2) راجع بحث (عنصر العقيدة في الدستور) للأستاذ ظفر أحمد الأنصاري المنشور في مجلة (المسلمون) المجلد الخامس ـ العدد السابع: ص 59-64.
وفي النرويج: ينص البند الثاني من المادة (12) على أنه ستظل الكنيسة الانجيلية اللوثرية هي الكنيسة الرسمية في الدولة، وفي الفقرة الثانية من البند الأول: يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة المذكورة.
وفي السويد: في البند الثاني من المادة ( 4 ): يجب أن يكون الملك من أتباع المذهب الإنجيلي الخالص، وفي المادة (4) من الدستور: يجب أن يكون أعضاء المجلس الوطني من أتباع المذهب الإنجيلي.
وفي كولومبيا: تنص المادة (53) من الدستور على ضرورة تحسين العلاقات بين الحكومة والكنيسة الكاثوليكية.
وفي جمهورية كوستاريكا: تنص المادة (66) من الدستور على أن المذهب الكاثوليكي هو المذهب الرسمي للدولة.
وفي جمهورية السلفادور: تقرر المادة (12) من الدستور: أن الدولة تعترف بالشخصية القانونية للكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها غالبية السكان. وفي إسبانيا: تنص المادة (9) على أنه يجب أن يكون رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية. وفي المادة (6) : على الدولة رسمياً حماية اعتناق وممارسة شعائر المذهب الكاثوليكي باعتباره المذهب الرسمي لها.
وفي البرتغال: تقول المادة (24) البند (2) : لما كانت الجماعات البشرية البرتغالية التي ترعاها الكنيسة الكاثوليكية عبر البحار تعتبر أداة لنشر المدنية والنفوذ القومي ومراكز لتدريب الرجال للخدمة في تحقيق الغايات، فإن الدولة تعترف لها بالشخصية القانونية، وعليها حمايتها ومساعدتها باعتبارها مراكز ثقافية هامة.
وفي جمهورية البارجوراي: تنص المادة (3) من الدستور على أن المذهب الرسمي للدولة: هومذهب الكنيسة الكاثوليكية الرسولية. ويجب أن يكون رئيس الجمهورية من أتباع الكنيسة المذكورة.
وفي الأرجنتين: تنص المادة (2) على: أن على الحكومة الفدرالية أن تحمي الكنيسة الرسولية.
وفي بورما: تنص المادة (1) من الدستور على أن الدولة تعترف بالمكانة الخاصة للديانة البوذية باعتبارها دين الأكثرية الساحقة.
وفي بلاد التايلاند: تنص المادة 7 من الدستور على أن الملك يعتنق الديانة البوذية ويقدس شعائرها (1) .
1/38 - وأما المجموعة الثانية: الدول العلمانية، فهي قسمان :
القسم الأول: ما يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) لا دينية، أي تقول بلزوم فصل الدين عن الدولة، مثل فرنسا التي كانت أول من ابتدعت هذه البدعة أثر ثورة 1789 م، وتبعتها في ذلك تركيا على يد مصطفى كمال. ومن هذا القسم حكومة الهند.
والقسم الثاني: هو الدول الملحدة: وهي الدول التي لا يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) بل يمنع التبشير بالدين، ويجعل الدعاية ضد الأديان حقاً من الحقوق العامة. وأول من أقدم على ذلك اتحاد جمهوريات روسيا السوفياتية. وقد انهار في عام 1989م.(4/28)
2/38 - وأما المجموعة الثالثة: الدول البوذية والكونفوشية والهندوكية، فهي كاليابان وحكومة الصين القديمة. وأما الهند فهي خليط من الهندوس والمجوس وسائر الأديان ومختلف المذاهب. وبعد الاستقلال نص دستور الدولة الهندية على أن الدولة علمانية، ونص دستور الباكستان على أنها من الحكومات الإسلامية.
__________
(1) علق على هذه الظاهرة الأمير شكيب أرسلان، فقال في مجلة (المسلمون) المجلد الخامس العدد الثالث: ص51-54: (خرافة فصل الدين عن السياسة في أوربا التي لايزال يتشدق بها بعض المضللين في الشرق: ليس لها أصل إلا بالمعنى الإداري الذي هو جار أيضاً في بلاد الإسلام، فالحكومات الكاثوليكية بأجمعها مرتبطة أشد الارتباط بالدين الكاثوليكي إلا فرنسا، بل إن الدولة الإفرنسية التي يزعم بعضهم أنها حكومة لا دينية هي أشد الدول حماية للنصرانية عموماً وللكثلكة خصوصاً. وأما الدول البروتستانية فكلها تعلن أن ثقافتها مسيحية وأن مدنيتها إنجيلية، وأنها لاتحيد عن هذا الطريق.
3/38 - وأما المجموعة الرابعة فهي الدول الإسلامية: والملحوظ من هذه التسمية أن مبادئ الإسلام تحكمها، دون أن يكون هناك طبقة دينية لها اختصاصات معينة في الحكم، وإنما يشترك في إدارتها كل مسلم كفء للإدارة.
الفرع الثاني - مقارنة الدولة الإسلامية بالدولة الشيوعية :
39 - تلتقي الدولة الإسلامية والدولة الاشتراكية ـ الشيوعية في طبيعة واحدة هي أنهما تقومان على أساس فكرة ودعوة، لا على أساس مصالح مادية أو الارتباط بحدود جغرافية إقليمية، أورابطة قومية عنصرية. فكل من الدولتين تتوخى نشر فكرتها في أرجاء العالم، ولا مانع بالنسبة لمن يؤمن بتلك الفكرة أن يكون موالياً لدولة أخرى، أي أن هناك بالنسبة للشخص صاحب الفكرة ازدواجاً في الولاء.
المبحث الثالث ـ وظيفة دولة الإسلام(1)
تمهيد: في تعريف وظيفة الدولة الإسلامية :
40 - امتاز الإسلام عما كان سائداً في الجاهلية العربية بحمايته نوعين من المصالح اللذين بهما انتظام الملة والمدن، وقد بعث النبي صلّى الله عليه وسلم لأجلهما، والإمام نائبه، فهو مسؤول عنهما (2) .
لذلك تختلف وظيفة الدولة الإسلامية عن سائر الدول الدستورية البرلمانية في أن مهمتها الحفاظ على أمور الدنيا والدين، وأنه لا فصل بين الدين والدولة كما فعل أتباع الدين المسيحي (3) ، وأن الخليفة أو الإمام كما أنه يلي سلطات التشريع والقضاء والتنفيذ وسائر الشؤون الدنيوية، فإن له أيضاً إمامة الصلاة وإمامة الحج والإذن بإقامة الشعائر في المساجد، والخطبة في الجمع والأعياد وغير هذا من الشؤون الدينية، باعتبار أن الغاية من إقامته أن يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا (4) .
__________
(1) أكتفي هنا بذكر المبادئ العامة، وأحيل بالنسبة للتفاصيل على موضوعات في الموسوعة الفقهية: إمامة، حقوق الإنسان، الذميون، المستأمنون، ونحو ذلك من البحوث الدستورية والقضائية والاجتماعية.
(2) حجة الله البالغة للدهلوي: 112/2، ط أولى.
(3) قال السيد المسيح عليه السلام: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ).
(4) الماوردي وابن خلدون، المرجعان الآتيان، السياسة الشرعية للأستاذ خلاف: ص 58 ومابعدها.
41 - ويعرف هذا الواجب من تعاريف العلماء للخلافة، ومنها ما يأتي (1) :
قال الدهلوي: الخلافة هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة، وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء، وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (2) .
وقال في البحر الزخار: الإمامة: رياسة عامة لشخص مخصوص بحكم الشرع ليس فوقها يد (3) .
وقال الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (4) .
وقال السعد التفتازاني في المقاصد: الإمامة: هي رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (5) . وهذا فيما يبدو خير التعاريف.
وزاد فخر الدين الرازي قيداً آخر في التعريف، فقال: هي رياسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص، وقال: هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه (6) .
__________
(1) ر : للتفصيل في الموسوعة الفقهية إمامة ـ الإمامة الكبرى.
(2) نقلاً عن ( إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة) لصديق حسن خان ص 23.
(3) ر : حـ 374/5.
(4) الأحكام السلطانية: ص 3.
(5) يلاحظ أن الخلافة والإمامة الكبرى وإمارة المؤمنين ألفاظ مترادفة بمعنى واحد (النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 92-103، ط الثانية).
(6) المواقف: 345/8، ط المغربي سنة 1907، الخلافة لرشيد رضا: ص 10، السياسة الشرعية للشيخ محمد البنا: ص 14.(4/29)
واعترض الإيجي على هذا التعريف بأنه قد ينطبق على مقام النبوة، فهي (رياسة عامة في هذه الأمور لشخص واحد) (1) وقال: الأولى أن يقال: (هي خلافة الرسول صلّى الله عليه وسلم في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة، بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة) (2) .
وذكر ابن خلدون: أن الخلافة هي (حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها)، إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة: خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (3) .
وقال بعض العلماء المتأخرين: الخلافة هي الرياسة العظمى والولاية العامة الجامعة القائمة بحراسة الدين والدنيا (4) .
وخلاصة المقال: إن وظيفة الدولة الإسلامية أو وظيفة الخليفة في الماضي أمران: إقامة الدين الإسلامي، وتنفيذ أحكامه، والقيام بسياسة الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام. أو بعبارة أخرى: الوظيفة واحدة: هي إقامة الإسلام. والإسلام كما هو معروف دين ودولة في اصطلاح العصر.
__________
(1) المواقف، المكان السابق.
(2) الفائدة في هذا التعريف أنه بعد بالإمامة عن الناحية الشخصية، وعاد إلى وجهه نظر الماوردي، وهو لم يختلف عنه إلا في أنه وضع كلمة (إقامة) بدل (حراسة) الدين وربما كانت كلمة (إقامة) أقوى، لأنها تدل على التنفيذ لا مجرد الحفظ، إلا أنه لم يفصح في مسألة سياسية الدنيا (النظريات السياسية الإسلامية، المرجع السابق: ص 116).
(3) مقدمة ابن خلدون: ص 191، ط التجارية.
(4) التراتيب الإدارية للأستاذ عبد الحي الكتاني: 2/1، ط الأهلية بالرباط.
تفصيل واجبات الحاكم أو وظائف الدولة :
42 ـ أوضح الماوردي وأبو يعلى وظائف الدولة أو واجبات الإمام وحدداها بعشرة أمور وهي: (1)
1 - حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، ليكون الدين محروساً من الخلل، والأمة ممنوعة من الزلل.
2 - تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم، حتى تظهر النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
3 - حماية البيضة ( الكيان ) والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين.
4 - إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
5 - تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا يظفر الأعداء بغرَّة ينتهكون بها محرماً، ويسفكون فيها دماً لمسلم أو معاهد.
6 - جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
7 - جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف.
8 - تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
9 - استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأمور لتكون الأعمال مضبوطة والأموال محفوظة.
10 - أن يباشر مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة ، ولايعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص:26/38] فلم يقتصر سبحانه وتعالى على التفويض دون المباشرة.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماردي: ص 14، ولأبي يعلى: ص 11، وانظر هذه الواجبات أيضاً في حجة الله البالغة للدهلوي: 132/2. وقد عبر الماوردي عن هذه الواجبات بعبارة أخرى وحصرها في سبعة أمور (راجع له أدب الدنيا والدين مع شرحه منهاج اليقين لخان زاده: ص234-236).
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته» (1) .
هذه هي أهم وظائف الدولة الإسلامية، فالأولى هي الوظيفة الدينية والثالثة والخامسة والسادسة هي الوظيفة الدفاعية، والثانية والرابعة هي الوظيفة القضائية، والسابعة والثامنة هي الوظيفة المالية، والتاسعة والعاشرة هي الوظيفة الإدارية.
ويمكن تصنيف هذه الوظائف على نحو آخر وتقسيمها إلى وظيفتين: داخلية وخارجية كما سيبين في البحثين التاليين:
الوظيفة الأولى ـ وظيفة الدولة في الداخل
هذه الوظيفة تقتضيها إما الضرورات الاجتماعية بتأمين المرافق العامة للمجتمع، وإما الغايات الأساسية التي تتوخاها الدولة صاحبة الرسالة.
ويبحث ذلك في المطلبين الآتيين:
أولاً ـ تأمين مصالح المجتمع :
43 - لا تختلف وظيفة الدولة الإسلامية عن وظائف الدولة الحديثة كما لاحظنا فيما يلزم الإمام من الأمور العشرة السابق ذكرها، والتي يهمنا منها هنا بكلمة إجمالية النظر في أمور الدنيا وتدبيرها، وهذه الوظائف تشبه حديثاً ما تختص به السلطتان التنفيذية والقضائية في الوقت الحاضر:
ومن المعروف أن للسلطة التنفيذية حقوقاً سياسية وإدارية وحربية وقضائية (2) .(4/30)
فالحقوق الإدارية (3) : هي المتعلقة بتنفيذ القوانين وإدارة الدولة ومختلف مرافقها العامة مع ما يتبع ذلك من حق تعيين وعزل الموظفين. وهذه الحقوق تعرّض فقهاؤنا لها فيما ذكره الماوردي من وظائف (الإمام) العشرة، ولا سيما الأخيرتان منها. قال الدهلوي: ( إن أمهات المقاصد أمور، منها: تدبير المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء وإقامة الحدود والحسبة. ومنها: منافع مشتركة ككري الأنهار وبناء القناطر ونحو ذلك) (4) .
والحقوق القضائية كحق العفو الخاص والعام، وكحق التصديق على بعض الأحكام، وهذا من حيث المبدأ قد ذكره الماوردي في الوظيفة الثانية والرابعة، إلا
__________
(1) رواه مسلم عن ابن عمر (شرح مسلم للنووي: 213/12).
(2) موجز القانون الدستوري للأستاذين الدكتورين عثمان خليل وسليمان الطماوي: ص 243 ط الرابعة.
(3) المبحث هنا مخصص لوظائف الدولة الداخلية، لذا فإن الكلام عن الحقوق السياسية والحربية محله في المبحث الآخر المخصص لوظائف الدولة الخارجية.
(4) حجة الله البالغة: 132/2.
أن الفقهاء فصلوا في الأمر، فقال الحنفية: لا يجوز شرعاً للحاكم بعد رفع الأمر إليه العفو عن العقوبات المقدرة (الحدود) ولا الشفاعة فيها (1) . أما العقوبات التعزيرية فيجوز للحاكم العفو عنها حسبما يرى من المصلحة في حال عفو صاحب الحق عنها، أو كون الحق فيها للجماعة. وبعبارة أخرى: يجوز للإمام ترك التعزير إذا لم يتعلق به حق لآدمي (2) ، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود » (3) .
وأما السلطة القضائية فهي التي تفسر القانون وتطبقه على الوقائع التي تعرض عليها في الخصومات. وهذه هي مهمة القاضي في الإسلام حيث إنه يقوم بتنفيذ أحكام الشريعة بكل دقة وأمانة، وقد بلغ تنظيم القضاء في عهد الإسلام شأواً رفيعاً لم يسبق إليه.
وسأفصّل الكلام هنا في أهم وظائف الدولة الداخلية الإدارية والقضائية وهي ما يأتي:
1 - المحافظة على الأمن والنظام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
44 - كان من اختصاص رجال الشرطة الإدارية في العهد الإسلامي أمور منها (4) :
__________
(1) المبسوط: 113/9، فتح القدير: 197/4، البدائع: 56/7، الدر المختار ورد المحتار: 189/4.
(2) الدر المختار: 204/3.
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال العقيلي: له طريق وليس فيها شيء يثبت ( التلخيص الحبير: ص 361، جامع الأصول: 344/4، مجمع الزوائد: 282/6، نيل الأوطار: 135/7 ).
(4) عبقرية الإسلام في أصول الحكم للدكتور منير العجلاني: ص 370، ط الثانية.
أ ـ حفظ النظام: وذلك بمنع الفوضى والتجمعات في الطرق والأماكن العامة، والسهر على المواكب، ومرافقة الأمير أو صاحب السلطان في تنقلاته لإظهار هيبته ودفع الناس عنه وتلقي أوامره.
ب ـ حفظ الأمن: وذلك بمراقبتهم الأشرار والدعار واللصوص، وطلبهم في مظانهم، وأخذهم على يد كل من يرتكب عدواناً على غيره، أو يقدم على عمل من شأنه إثارة الناس وتهييج الفتنة.
قال الماوردي: القاعدة الرابعة من القواعد التي تصلح بها الدنيا: أمن عام تطمئن إليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، وقد قال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش (1) .
45 - ولكن لا يقتصر دور الدولة الإسلامية على مجرد توفير وضمان الأمن والطمأنينة للأفراد وصيانة حياتهم وأموالهم ودفع العدوان الداخلي والخارجي عنهم، والإشراف على إطاعة الأنظمة والأحكام، وإنما على الدولة والأفراد أن يخطوا خطوة إيجابية بالتضامن والتكافل معاً (2) نحو إيجاد باعث شخصي على احترام حقوق الآخرين، والإذعان للنظام المتبع، وذلك بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتحقق المقصد الأساسي للشريعة: وهو إصلاح المجتمع، أي الحياة الاجتماعية إصلاحاً جذرياً على نحو يستقر فيه الأمن العام
__________
(1) أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 247، ط تركيا.
(2) مثَّل الرسول صلّى الله عليه وسلم في حديث السفينة هذا الواجب التكافلي بين الفرد والجماعة بالنهي عن المنكر أروع تمثيل، فقال - فيما رواه البخاري والترمذي - عن النعمان بن بشير: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» (جامع الأصول: 340/4، الترغيب والترهيب: 235/3).
والعدل بين الناس، وصيانة الحريات الأساسية بدافع ذاتي ومحبة خالصة لمصالح الآخرين. وكل فرد يعتبر مسؤولاً بنفسه عن الأمر بالمعروف، فإن قصر فهوآثم مخطئ، ويكفل هذا الأصل اليوم ما يسمى بحرية النقد، ويقال له في الاصطلاح الحديث حق الدفاع الشرعي العام (1) .(4/31)
لكن الإسلام اعتبر ذلك واجباً، وبين أن النقد له حدود تقيده في الإسلام حتى يكون نقداً بناء غير هدام. قال النووي في المنهاج: ( ومن فروض الكفاية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وعلق الشارح بقوله: يجب على الإمام أن ينصب محتسباً (2) يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (3) . وقال الماوردي: أكد الله زواجره بإنكار المنكرين لها، فأوجب الأمر بالمعروف ـ الواجب ـ والنهي عن المنكر ـ الحرام (4) . هذا الحكم بالوجوب باتفاق الفقهاء، إلا أن جمهورهم قالوا: هو فرض كفاية كالجهاد. وقال بعضهم: هو فرض عين على المستطيع كالحج (5) .
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عودة: 86/1 و 491.
(2) يميز بين الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن الثاني واجب ديني، وأما الحسبة فهي نظام واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم يقوم بالرقابة والضبط والردع، وله قواعد وأصول ثابتة في الإسلام غايته تحقيق واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( ر : الأحكام السلطانية للماوردي: ص231 ومابعدها، ولأبي يعلى: ص 268 حيث قال كلاهما: الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، الحسبة لابن تيمية: ص 8، إحياء علوم الدين: 274/2، ط العثمانية ـ عبقرية الإسلام في أصول الحكم: ص 335 وما بعدها).
(3) المنهاج مع مغني المحتاج: 211/4، الحسبة لابن تيمية، المكان السابق.
(4) أدب الدنيا والدين، المرجع السابق: ص 156.
(5) المحلى: 440/9، تفسير الكشاف: 340/1، تفسير ابن كثير: 390/1، تفسير الرازي: 19/3، تفسير الألوسي: 21/4، إحياء علوم الدين: 869/2، أحكام الجصاص: 35/2 وما بعدها و 592، ط البهية المصرية، تفسير الطبري: 38/4، ط الثانية، الحلبي، تفسير القرطبي: 165/4 طبعة مصورة.
46 - والأمر بالمعروف: هو الترغيب في كل ما ينبغي قوله،أو فعله طبقاً لقواعد الإسلام. والنهي عن المنكر: هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه، أو تغيير ما ينبغي تغييره طبقاً لما رسمه الإسلام (1) .
والمعروف: هو كل قول أو فعل ينبغي قوله أوفعله طبقاً لنصوص الشريعة الإسلامية، ومبادئها العامة وروحها (2) ، كالتخلق بالأخلاق الفاضلة والعفو عند المقدرة، والإصلاح بين المتخاصمين وإيثار الآخرة على الدنيا، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وإقامة المعاهد والملاجئ والمستشفيات ونصرة المظلوم والتسوية بين الخصوم في الحكم، والدعوة إلى الشورى، والخضوع لرأي الجماعة وتنفيذ مشيئتها، وصرف الأموال العامة في مصارفها، إلى غير ذلك (3) .
__________
(1) الإسلام وأوضاعنا السياسية للاستاذ عودة: ص 71.
(2) وبعبارة أخرى: المعروف: هو كل هذه الأصول الكلية التي فرضها الإسلام لصالح المجتمع الإسلامي، وكل ما يُبنى علىها مما تعرفه العقول الراجحة والفطر السليمة (ر : تفسير المنار: 27/4، التفسير الواضح: 30/9 و 61/10 و 58/14، نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الله العربي: ص45 و 61).
(3) التشريع الجنائي الإسلامي: 492/1.
والمنكر: هو كل معصية حرمتها الشريعة سواء أوقعت من مكلف أم غير مكلف (1) ، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب خمراً فعليه أن يمنعه ويريق خمره، ومن رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة، فعليه أن يمنع ذلك (2) ، وعرف الغزالي المنكر: بأنه كل محذور الوقوع في الشرع (3) .
__________
(1) وبعبارة أخرى: المنكر: هو كل مانهت عنه أصول الشرع الكلية، وكل ما يقاس عليها في إلحاق الأذى بالمجتمع مما تنكره العقول والفطر السليمة (الدكتور العربي، المكان السابق).
(2) التشريع الجنائي، المكان السابق.
(3) إحياء علوم الدين للغزالي: 285/2، ط العثمانية. قال الغزالي: وعدلنا عن لفظ المعصية إلى هذا (أي محذور الوقوع) لأن المنكر أعم من المعصية، إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه، وكذا إن رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه.
47 - وقد أوجب الله على الحكومة والأفراد القيام بواجب الأمر والنهي، لأن في ذلك إقامة أمر الله وهدم كل ما يخالف الإسلام، ومن أهم واجبات الدولة ـ كما ذكر الماوردي وغيره ـ إقامة الإسلام بالقضاء على الشرك ومظاهره، والتمكين لدين الله الحنيف،قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/3] {الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور} [سورةالحج:41/22] {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } [آل عمران:110/3] {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة:78/5-79].
وحرض القرآن الكريم أيضاً على ضرورة تعاون المؤمنين في القيام بهذا الواجب، فقال سبحانه: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة:71/9].(4/32)
وأيدت السنة النبوية ذلك المفهوم، فقال صلّى الله عليه وسلم : «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته» (1) ، «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (2) «إن
__________
(1) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر (جامع الأصول: 444/4، الفتح الكبير، مجمع الزوائد: 207/5).
(2) رواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري (جامع الأصول: 228/1).
الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» (1) ، «أفضل الجهاد كله حق عند سلطان وأمير جائر» (2) ، «والذي نفسي بيده لتأمرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» (3) .
هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تدل على أن غاية الدولة الإسلامية ليست سلبية، وإنما لها غاية إيجابية أيضاً، أي ليس من مقاصدها المنع من العدوان، وحفظ حرية الناس فقط، بل إن هدفها الأسمى هو نظام العدالة الاجتماعية الذي جاء به كتاب الله ، وغايتها في ذلك النهي عن جميع أنواع المنكرات التي منعها الله تعالى. قال ابن تيمية: إن صلاح المعاش والمعاد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس (4) .
48 - ووسائل دفع المنكر كثيرة ،منها التعريف والبيان، والوعظ والإرشاد ، والدعوة والتبليغ، والتربية والتعليم، والتعنيف، والتغيير باليد، والتهديد بالضرب والقتل، والاستعانة بالغير، والقوة السياسية، والرأي العام والنفوذ
__________
(1) رواه الترمذي وأبو داود من حديث قيس بن أبي حازم عن أبي بكر (جامع الأصول: 233/1) وذكره ابن تيمية في السياسة الشرعية: ص 75 بلفظ ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه).
(2) رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري واللفظ لأبي داود(جامع الأصول: 235/1).
(3) رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان وقال: «حديث حسن غريب» ورواه ابن ماجه من حديث حديث عمرو بن أبي عمرو (جامع الأصول، المكان السابق، تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للعراقي: 270/2 وما بعدها).
(4) السياسة الشرعية: ص 73.
الاجتماعي بحسب الظروف والأحوال (1) .
وعلى الدولة المساهمة البناءة في هذا المضمار، فتخصص لإزالة المنكر ما يعرف في الإسلام بالمحتسب، وهو المسلم المكلف (البالغ العاقل) القادر على الأمر بالمعروف ودفع المنكر ورفع الظلم مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأّهل الديوان ونحوهم (2) . قال ابن تيمية: (وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة وولاية الحكم، أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين، وولاية الحسبة (3) ).
وهناك مسألة فلسفية بحثها العلماء وهي أنه هل وجوب النهي عن المنكر بالعقل أو بالشرع(4).
__________
(1) إحياء علوم الدين: 277/2، ط العثمانية، مختصر منهاج القاصدين: ص 127 وما بعدها، ط الثانية، التشريع الجنائي الإسلامي: 505/1 وما بعدها، نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 45 وما بعدها.
(2) إحياء علوم الدين: 274/2، الأحكام السلطانية للماوردي وأبي يعلى ، المكان السابق، التراتيب الإدارية للكتاني: 284/1، منير العجلاني: ص 342.
(3) الحسبة له: ص 8.
(4) قال بعض المتكلمين: (وجب ذلك بالعقل وقال آخرون: وجب ذلك بالشرع دون العقل) (ر : للتفصيل أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 158 وما بعدها).
2 - تنظيم القضاء وإقامة العدل :
49 - إن غاية الدولة الإسلامية هي تحقيق مصالح الناس ورفع الضرر عنهم، وذلك بإقامة التوازن والعدل فيما بينهم، ومنع تعدي بعضهم على بعض.
وبما أن تنظيم القضاء ونصب القضاة مظهر من مظاهر إقامة العدل، كان من
أعظم الواجبات التي اهتم بها فقهاء الإسلام وخلفاؤه، فأبانوا شروطه، ووضعوا خطته وحددوا طرق الفصل بين الناس تحديداً دقيقاً، وكان اختيار الخليفة للقاضي مثلاً فذاً من أمثلة الحفاظ على مصالح الناس (1) ، لأن غاية القضاء التي يمتاز بها في الإسلام هي إقامة العدل باعتبار أن العدل هوقوام العالمين، لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به (2) ، فكان العدل هو شعار فض الخصومات والمنازعات بين الناس. ومن أهم ضوابط العدل هو تنفيذ أحكام شريعة الله دون تفرقة بين الحاكم والمحكومين، لأن الكل خاضعون لحكم الله .(4/33)
فمن تنظيمات القضاء الإسلامي أنه خصص للنظر في محاكمة أصحاب النفوذ والولاة وعمال الدولة ما يعرف المظالم (3) التي تشبه (مجلس الدولة) في بعض اختصاصاته الآن (4) . قال المرجاني في وفية الإسلام (5) : النظر في المظالم وظيفة أوسع من وظيفة القاضي ممتزجة من السطوة السلطانية، ونصفة القضاء، بعلو بيِّن، وعظيم رغبة تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المتعدي، ويمضي ما عجز القضاة ومن دونهم عن إمضائه، ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد القرائن والإمارات وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق وحمل الخصم على الصلح، واستحلاف الشهود، وكان الخلفاء يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي بالله ، وربما سلموها إلى قضاتهم. وعلق الأستاذ الكتاني على ذلك بقوله: هذه الوظيفة كان يليها المصطفى صلّى الله عليه وسلم بنفسه؛ لأنه كان ينتقد أحكام قضاته وعماله ويناقشهم (6) .
__________
(1) ر : السياسة الشرعية لابن تيمية: ص: 20 و 152، وباب القضاء في كتب الفقه.
(2) المرجع السابق: ص 156.
(3) قال الماوردي في الأحكام السلطانية: ص 73: نظر المظالم: هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة.
(4) التراتيب الإدارية للكتاني: 266/1، النظريات السياسية الإسلامية للدكتور الريس: ص 67.
(5) ص: 366.
(6) التراتيب الإدارية، المكان السابق.
وقال الماوردي: «والذي يختص بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام، فالقسم الأول: النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة، فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي لا يقف على ظلامة متظلم، فيكون لسيرة الولاة متصفحاً، وعن أحوالهم مستكشفاً ليقويهم إن أنصفوا، ويكفهم أن عسفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا» (1) .
50 - إلا أنه لم يكن للقضاة في الإسلام غير النظر في المسائل المدنية (أو نظام الأموال) والأحوال الشخصية. أما القضاء الجزائي في الجرائم وإقامة الحدود والنظر في المظالم، فكان من اختصاص الخلفاء والأمراء إلا في عهد معاوية حيث تخلى عن حق النظر في بعض المسائل الجزائية المحدودة إلى قاض خاص.
ولا مانع شرعاً من وضع نظام للسلطة القضائية يحدد اختصاصاتها ويكفل تنفيذ الأحكام، ويضمن لرجالها حريتهم في إقامة العدل بين الناس (2) . وهو أمر ضروري في كل عصر يقل فيه الورع، وتكثر الأهواء وتزداد الخصومات، وتراعى فيه تطورات الزمن.
51 - ومن المعلوم أن القرآن والسنة النبوية أكدا على ضرورة التزام العدل المطلق في كل الأحكام العامة والخاصة وفي مختلف أحوال الحكم والإدارة، لا في مجال القضاء فقط،قال الله عز وجل: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90/16] {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/4] {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام:152/6] {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هوأقرب للتقوى} [المائدة:8/5].
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 76، ولأبي يعلى: ص 61.
(2) السياسة الشرعية للأستاذ خلاف: ص 49 وما بعدها، عبقرية الإسلام في أصول الحكم لمنير العجلاني: ص 440 وما بعدها.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم : «أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً: إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله تعالى، وأبعدهم منه مجلساً: إمام جائر» (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير مُتَعْتَع» (2) «يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة» (3) .
وقال الماوردي : اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير جميع أحوالها منتظمة، وجملة أمورها ملتئمة ستة أشياء هي قواعدها وأصولها وإن تفرعت، وهي دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح (4) .
والخلاصة: أن العدل هو جِمَاع واجبات الدولة والغاية العامة للحكم الإسلامي، حتى مع الأعداء، قال الفخر الرازي: (اجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل) (5) ، واستشهد بالآيات المذكورة ونحوها، والعدل ـ كما أجمع العلماء ـ هو تنفيذ حكم الله .
__________
(1) رواه الترمذي والطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري (جامع الأصول: 447/4).
(2) رواه الطبراني ورجاله ثقات من حديث معاوية بن أبي سفيان (مجمع الزوائد: 209/5).
(3) رواه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن عباس، قال الهيثمي: وفيه سعد أبو غيلان الشيباني ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات وله ألفاظ أخرى (ر: التلخيص الحبير: 183/4، مجمع الزوائد: ص 193/5).
(4) أدب الدنيا والدين مع شرحه منهاج اليقين للعلامة أويس وفا الأرزنجاني العريف بخان زاده ص 226، وقال في الشرح المذكور: ص 240، العدل مصدر بمعنى العدالة: وهو الاعتدال والاستقامة والميل إلى الحق. وفي الشريعة عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينه، وفي اصطلاح الفقهاء: من اجتنب الكبائر ولم يصر على الصغائر وغلب ثوابه، واجتنب الأفعال الخسيسة كالأكل في الطريق والبول.
(5) التفسير الكبير: 355/3.
3 - إدارة المرافق العامة :(4/34)
52 - إن طريقة إدارة المرافق العامة في الإسلام كالمساجد والمدارس والمشافي والجسور والبريد والدفاع والعشور (الجمارك) والري وتوريد المياه ونحوها: تلتقي مع الطريقة المتبعة الآن وهي طريقة الاستغلال المباشر. ومقتضاها أن تقوم الدولة نفسها (أو المديرية والمدينة الآن، أو الإمارة أو الولاية في الماضي) بإدارة المرافق العامة مستعينة بأموالها وموظفيها، ومستخدمة في ذلك وسائل القانون العام، وهذه هي الطريقة التي تدار بها جميع المرافق العامة الإدارية في الوقت الحاضر (1) .
والإدارة الإسلامية كانت في الماضي كما تقدم على طريقة جعل الوزارة قسمين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ (2) . والإمارة على البلاد نوعين: إمارة خاصة، وإمارة عامة (3) .
أما وزارة التفويض: فهي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأموربرأيه وإمضاءها على اجتهاده . وكان وزير التفويض يوجه سياسة الدولة ويولي الموظفين ويعزلهم ويجبي الأموال وينفقها، ويسير الجيوش ويجهزها، ويجلس للمظالم ويفصل فيها (4) .
وأما وزارة التنفيذ أو بالمعنى الأدق (إدارة التنفيذ): فهي لتنفيذ ما يصدر عن الإمام لتدبير سياسة الدولة في الداخل والخارج، ويعتبر وزير التنفيذ وسيطاً بين السلطان وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر، وينفذ ما طلب، ويمضي ما حكم،
__________
(1) مبادئ القانون الإداري للدكتور سليمان الطماوي: ص 65، ط 1955م.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 20-26، ولأبي يعلى: ص 13-15.
(3) الماوردي المرجع السابق: ص 27-30، وأبو يعلى: ص 17-21.
(4) منير العجلاني، المرجع السابق: ص 226.
ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش والحماة، ويعرض عليه ماورد منهم وتجدد من حدث ملمّ ليعمل فيه بما يؤمر به:
وأما الإمارة الخاصة: فهي لتدبير الجيوش وسياسة الرعية والدفاع عن كيان الدولة، وحماية حدود البلاد.
وأما الإمارة العامة فهي نوعان: إمارة استكفاء، وإمارة استيلاء. فإمارة الاستكفاء تعقد برضا الخليفة واختياره، وصاحبها ينظر في سبعة أمور: هي النظر في تدبير الجيش والأحكام وتقليد القضاة والحكام، وجباية الخراج، وقبض الصدقات وتقليد العمال، وحمايةالحريم والدفاع عن البلاد ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل، وإقامة الحدود في حق الله تعالى ، وحقوق الناس خاصة، والإمامة في الجمع والجماعات، وتسيير الحجيج.
وتختص دواوين الدولة أو إدارة المصالح بقضاء مصالح الناس الذين يعيشون في ظل سلطان الدولة. وأول من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه (1) .
53 - ويلاحظ أن أهم ما يميز إدارة المرافق العامة في الإسلام ملازمتها للصبغة الدينية، فكان الوالي مسؤولاً عن رعاية أركان الإسلام، بل إن ولاية الأمراء كانت تسمى (إمارة الصلاة والخراج) أو(الإمارة على الصلاة) ولم يكن القصد من ذلك إمامة الناس في الصلوات فقط، وإنما كانت تعني الولاية عليهم في جميع الأمور، فعندما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يرسل شخصاً إلى القبائل ليفقهها في أمور الدين ويعلمها القرآن، كان يعني بذلك إدارة مصالح القبيلة في كل شؤونها (2) .
__________
(1) الماوردي: ص 191-211، أبو يعلى: ص 221-241.
(2) منير العجلاني، المرجع السابق: ص 282، النظم الإسلامية للدكتور صبحي الصالح: ص 308.
4 - الإعداد لحماية الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع الأسلحة :
54 - إن من أول واجبات الدولة ـ كما ذكرت (عند الماوردي وغيره) فيما عرضته ـ هو الدفاع عن كيان الدولة وتحصين الثغور، وحماية الرعية، وإعداد العدة الملائمة والقوة الضاربة وتدريب المقاتلة، وتعلم فنون الحرب وكيفية استخدام السلاح المناسب للزمان والمكان، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم بوصفه القيادي أو كونه حاكماً بالإضافة إلى كونه رسولاً مبلغاً عن الله يقوم بإعداد المسلمين لخوض معارك القتال، مما مكنه من تحقيق النصر المؤزر على الأعداء في غالبية المعارك التي اشترك فيها أو أعد لها.
وعني المسلمون الأوائل من أجل الجهاد بأسلحة الحرب وآلات القتال كالسيوف والرماح والنبال والدروع والمغافر ونحوها مما كان في الماضي تدرباً وتمرساً واقتناء وتعلماً.
وكان الخلفاء يحضون الناس على التدرب على مختلف فنون الحرب وآلاتها، ويحصنون الثغور من أجل الحفاظ على الأمة ورد العدوان عنها، كما هومعروف من تاريخ الفتوحات الإسلامية.
والإسلام دستور المسلمين يفرض دائماً التزام الحذر من العدو، والاستعداد للقائه وإعداد الجنود والأسلحة الملائمة للإرهاب وخوض المعارك، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثُباتٍ أو انفروا جميعاً} [النساء:71/4] {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال:60/8].(4/35)
فهذه الآية أمر إيجابي بالإعداد الملائم لكل القوى المادية والمعنوية التي يتحقق بها إرهاب العدو. وقد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالتدرب على فنون القتال واستعمال السلاح، قال سلمة بن الأكوع: «مرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون (1) بالسوق، فقال: ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان...» (2) . وعن عقبة بن عامر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» وقال: «من علم الرمي ثم تركه، فليس منا» (3) .
55 - وأمر عليه الصلاة والسلام أيضاً بصناعة السلاح وحث عليه، فقال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله ، والذي يرمي به في سبيل الله .. » (4) .
وشجع الرسول صلّى الله عليه وسلم كل أنواع السباق الحربي والرياضة الحربية فقال: «لاسَبْق إلا في خف أو نصل أوحافر» (5) .
واتفق الفقهاء على جواز السباق على جُعْل من غير المتسابقين كالإمام يجعله للسابق، وقال جمهور الفقهاء: يجوز الجُعل أيضاً من إحدى المتسابقين (6) . واعتبر الفقهاء تعلم مختلف الحرف والصنائع، ولا سيما صناعة الأسلحة من
__________
(1) أي يترامون.
(2) رواه أحمد والبخاري عن سلمة بن الأكوع (نيل الأوطار: 84/8).
(3) رواهما أحمد ومسلم عن عقبة (نيل الأوطار: 85/8).
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عقبة بن عامر (نيل الأوطار، المكان السابق).
(5) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة ولم يذكر فيه ابن ماجه: أو نصل (نيل الأوطار: 77/8).
(6) البدائع: 206/6، مغني المحتاج: 313/4 وما بعدها، المهذب: 415/1 وما بعدها. المغني: 654/8 وما بعدها، نيل الأوطار: 78/8.
فروض الكفايات على جماعة المسلمين (1) . قال ابن تيمية: (ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم من أمور الولايات والإمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه؛ وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب) (2) .
فدل ذلك كله على أنه على المسلمين تعلم كل ما يؤدي إلى التقوية والتفوق العسكري بحسب متطلبات كل زمان ومكان من تسابق في آلات الحرب وإنتاجها، وتهيئة عُدَد القتال، وتمرن على استعمالها، وحمل الأسلحة بمختلف أنواعها، وإنشاء الصناعات الحربية، ومداومة على التدرب، ونحو ذلك من كل ما فيه إعداد يرهب الأعداء، ويوفر القوة الكافية للمسلمين، قال صلّى الله عليه وسلم : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» (3) .
ثانياً ـ الالتزام بخصائص الدولة الإسلامية وتحقيق أهدافها :
تمهيد :
56 - عرفنا أن الدولة الإسلامية دولة فكرية ذات ارتباط وثيق بالعدل الإلهي، ويمكن إجمال خصائصها الأولية في ثلاثة (4) .
__________
(1) مغني المحتاج: 213/4، نهايةا لمحتاج: 194/7، رد المحتار على الدر المختار: 40/1، ط الأميرية، غاية المنتهى: 441/1، الطرق الحكمية لابن قيم ص: 247، ط أنصار السنة المحمدية، الشرح الكبير للدردير: 174/2.
(2) السياسة الشرعية: ص 21.
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة (شرح مسلم: 215/16).
(4) نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 31 و 44 وما بعدها.
1 - الحاكم الحقيقي فيها هو الله عز وجل، والسلطة الحقيقية مختصة بالذات العلية، وليس لأحد من الناس نصيب من الحاكمية، وإنما الحاكم هم رعايا الله ينوبون عن الأمة في تنفيذ شريعة الإله التي ارتضاها للناس دستوراً دائماً وحكماً فصلاً كما قال تعالى: {إن الحكم إلا لله } [الأنعام:57/6] {ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين} [الأنعام:62/6].
2 - ليس لأحد من دون الله وظيفة تشريعية بغير ما شرع الله للمسلمين لقوله سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44/5].
3 - وظيفة الدولة تقتصر على تنفيذ شريعة الله ، والحكم بما أنزل الله وتطبيق ما جاء به النبي من عند ربه، واستحقاقها الطاعة مرهون بذلك لقوله تعالى: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } [النساء:105/4].
وغاية الدولة الإسلامية وهدفها الأسمى هو تحقيق نظام العدالةالاجتماعية الذي أمر به الله تعالى، أي إقامة نظام الإنسانية العادل على أساس ما أنزل، وأبانه رسول الله ، قال عليه السلام: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله» (1) .
ومجمل القول: إن الدولة الإسلامية مقيدة بشريعة الله القائمة على العدل والخير والقوة والنظام والدعوة إلى الإقرار بعقيدة التوحيد، والإيمان بجميع الرسل والأنبياء. قال عليه السلام: «إن أحسن الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها...» (2) .
والدولة من أجل ذلك تلتزم بالواجبات الآتية:
__________(4/36)
(1) أخرجه مالك في الموطأ بلاغاً (جامع الأصول: 186/1).
(2) أخرجه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه (جامع الأصول: 197/1).
1 - تقوية وحدة الأمة وتعاونها وأخوة أبنائها :
57 - علمنا مما سبق أن المسلمين إخوة وأمة واحدة مهما نأت بهم الديار، ومقتضى ذلك أنه يجب عليهم جميعاً المشاركة في الآلام، والسعي لتحقيق الآمال الكبرى، والتعاون البناء في سبيل خير الجماعة، والحفاظ على وحدة الأمة، وتنمية الروابط المشتركة فيما بينها، وعلى الدولة التي تمثل المسلمين أن تسعى دائماً لشد أزر عُرَى التضامن الأخوي، ودعم وحدة الأمة وتعاون أفرادها في شتى الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية تنفيذاً لقوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} [الأنبياء:92/21] {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران:103/3] {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/49] {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح:29/48].
فبالوحدة تتوصل الدولة المسلمة إلى نهضة حيوية شاملة في جميع مرافق الحياة وتصبح عزيزة الجانب مرهوبة السلطان.
ولقد حذر الإسلام من التفرق والفتن والاختلاف، وذكَّر المسلمين في كل آونة بأنهم إخوة في السراء والضراء للحفاظ على الوحدة المنشودة، فقال: «المسلم أخو المسلم لايظلمه، ولايخذله، ولايكذبه، ولايحقره..» (1) « المؤمن للمؤمن
__________
(1) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 609/3 ومابعدها، شرح مسلم: 139/6) وفي رواية أخرى لمسلم عن الزهري عن سالم عن أبيه: « المسلم أخو المسلم لايظلمه ولايُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة » ( شرح مسلم: 134/16).
كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (1) «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره» (2) .
ومن زاوية التاريخ نرى أنه قد انتصر الإسلام في جميع عهوده التي كان المسلمون فيها متحدين متآخين، فبدأ الرسول صلّى الله عليه وسلم بالمؤاخاة الفعلية بين المسلمين (3) ، ثم حقق لهم معنى الإخاء الأكبر الدائم فيما بينهم، وصار العرب بفضل الإسلام كتلة واحدة بعد أن كانوا في الجاهلية قبائل متفرقة تمزقهم العداوات والأحقاد والإحن القديمة: {وألَّف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألَّف بينهم، إنه عزيز حكيم} [الأنفال:63/8].
ولم يتمكن المسلمون من القضاء على أعدائهم بعد النبي عليه السلام إلا بوحدة الصف وتوحيد الهدف، كما حصل مثلاً في وقعة اليرموك وفي حرب المغول والتتر وانتصار المسلمين في موقعة عين جالوت، وفي معركة حطين وطرد الصليبيين من بلاد المشرق وفتح بيت المقدس.
ومن مزايا الإخاء والاتحاد الإسلامي أنه يحقق للمسلمين تسامياً فوق الاعتبارات الإقليمية الضيقة. أما الدول الحاضرة مثلاً فإنها تسعى لتحقيق ما يعرف بالوحدة الوطنية المقيدة داخل نطاق أرضي معين، وتحت شعار قومية واحدة، مع وجود فجوات وحزازات داخلية متعددة.
__________
(1) رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري (الفتح الكبير).
(2) رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس (الفتح الكبير) وانظر شرح مسلم: 138/16.
(3) مجمع الزوائد: 171/8.
2 - تحقيق المصالح الأساسية التي تدور عليها الشريعة :
58 - إن من أول واجبات الدولة رعاية المصالح أو المقاصد التي تقوم عليها الشريعة وتستهدف تحقيقها: وهي المحافظة على الأصول الكلية الخمسة المعروفة بالضروريات، والتي لم تبح في ملة من الملل: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وسميت بالضروريات لأنه يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت، اختل نظام الحياة في الدنيا وضاع النعيم، واستحق العقاب في الآخرة.
وقد حافظت الشريعة على هذه الأصول من ناحيتين:
الأولى: تحقيقها وإيجادها.
الثانية: المحافظة على بقائها.
فتحقيق مبدأ الدين مثلاً بالإتيان بأركان الإسلام الخمسة، والمحافظة عليه بمجاهدة من يريد إبطاله، وعقوبة المرتد عنه بالقتل إن لم يتب .
والنفس تتحقق وتوجد بالتزاوج الذي يؤدي إلى بقاء النوع الإنساني، والمحافظة على بقائها تكون بفرض العقوبة على قاتلها وهو القصاص. فقد شرع القصاص للحفاظ على النفوس والدماء، لأن القصاص مقررللحياة التي هي من أجلّ المنافع.
والعقل إذا وهبه الله للإنسان يحافظ عليه بإباحة كل ما يكفل سلامته، وتحريم ما يفسده أو يضعف قوته كشرب الخمر والمسكرات وتعاطي المخدرات، وإقامة الحد على الشارب وتعزير متناول الحشيشة والأفيون ونحوهما لغير حاجة طبية.
والنسل شرع لإقامته استحلال البُضْع (1) بطريق مشروع، وللمحافظة عليه شرع حد الزنى وحد القذف لصيانة الأعراض والكرامات.
__________(4/37)
(1) البضع، بضم الباء جمعه إبضاع: يطلق على الفرج والجماع ويطلق على التزويج أيضاً كالنكاح يطلق على العقد والجماع (ر: المصباح المنير).
والمال شرع لإيجاده السعي في طلب الرزق والمعاملات بين الناس، وللمحافظة عليه شرع حد السرقة بقطع اليد، وتحريم الغش والربا وضمان المتلفات عند أخذ المال بالباطل (1) .
قال الغزالي جامعاً المقاصد المذكورة ( إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهي مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة)( 2) .
وعلى هذا فإن المحافظة على هذه الحقوق الأساسية للأفراد تعتبر من الدعائم الأولى للحكم الإسلامي التي تتضمن قواعد تنظيم الحياة المدنية، قال الرسول صلّى الله عليه وسلم في خطبته بحجة الوداع: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» (3) «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (4) .
59 - وبالمناسبة أبيِّن أنه للدولة دور مهم في تحقيق التوازن بين المصالح الفردية والجماعية عند التعارض في سبيل الحصول على الحقوق المادية أو التوصل إلى المال، إذ أن الإسلام راعى مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وأقام توازناً فعالاً بين المصلحتين على وجه يحقق التضامن والتكافل الاجتماعي، فلم يسمح الإسلام للفرد في الحالات العادية بالطغيان على حساب المجموع أو يتعدى حدوده، ولا للجماعة أن تسحق مصلحة الفرد لحساب المجتمع.
__________
(1) ر : الموافقات للشاطبي: 8/2 وما بعدها، فواتح الرحموت شرح مسلَّم الثبوت: 63/3 التقرير والتحبير: 144/3، شرح العضد على مختصر المنتهى: 240/2، روضة الناظر: 414/1، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 137، شرح الإسنوي: 63/3، الإبهاج شرح المنهاج: 38/3.
(2) المستصفى: 140/1، ط التجارية، وانظر مثل ذلك في الإحكام للآمدي: 54/3-55 أعلام الموقعين: 14/3.
(3) رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث جابر بن عبد الله ـ أطول الأحاديث (ر: شرح مسلم: 182/8، 167/11، مجمع الزوائد: 265/3 جمع الفوائد: 472/1 وما بعدها).
(4) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه (شرح مسلم: 120/16، الترغيب والترهيب: 309/3 وما بعدها).
كذلك لا تضيع في نظام الإسلام شخصية الفرد، ولا تهدر مصلحة الجماعة، لأن غاية حياة الإنسان حقيقة في الإسلام هي غاية الجماعة بعينها، أي تنفيذ القانون الإلهي في الدنيا وابتغاء وجهه في الآخرة كما ذكرت. وبهذا يتحقق التوازن المطلوب إسلامياً بين الفردية والجماعية رعاية للمصلحتين معاً حتى يقوى الفرد ويدعم بالتالي الجماعة العامة.
ودليل ذلك أن الإسلام حرم كل ما يؤدي إلى الاستغلال والإخلال بتوازن الثروات مثل الربا والاحتكار والميسر والغش والرشوة والتغرير والغبن والتدليس (1) وإنقاص المكيال والميزان واكتناز الذهب والفضة ونحو ذلك.
وألزم الأغنياء بالإنفاق على الفقراء، وأجاز للدولة في مال الأغنياء فرض ما يكفي من التكاليف المالية لتأمين حاجيات الدفاع عن البلاد.
ومنع تعدي المالك على الناس وإلحاق الضرر بهم، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام،وقال عليه الصلاة والسلام: «من ضارّ أضر الله به،ومن شاقَّ شاق الله عليه» (2) .
وطلب من ولي الأمر الاهتمام بأمر الرعية كما كان يفعل سيدنا عمر بالتنقل
__________
(1) نيل الأوطار: 189/5، 212، 220، سنن أبي داود: 270/2 ط الحلبي.
(2) رواه أبو داود عن أبي صِرْمة (سنن أبي داود: 283/2).
في الأمصار والطواف بالليل (1) ومشاطرة الولاة والعمال أموالهم التي جمعوها بدون حق (2) .
وأجيز لولي الأمر التدخل في الملكيات الخاصة لدفع الضرر أو لجلب مصلحة عامة كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم بأمر مالك النخل بقلع نخلة من بستان الأنصاري لإيذائه قائلاً له: «أنت مضار» (3) ، وكما فعل عمر بالسماح لرجل يقال له الضحاك بن خليفة بإمرار خليج من الماء في أرض محمد بن مسلمة قائلاً له: «والله ليمرن به ولو على بطنك» (4) .
3 - عمارة الأرض :
60 - إن الله سبحانه استخلف البشر في الأرض بقصد عمارة الكون وإنمائه واستغلال كنوزه وثرواته، والناس في ذلك شركاء، والمسلمون ينفذون أمر الله ومقاصده، قال الله تعالى {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61/11] والاستعمار: معناه التمكين والتسلط، كما هو واضح من قوله سبحانه: {ولقد مكنَّاكم في الأرض، وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون} [الأعراف:10/7]. وقوله عز شأنه {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2] {وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} [الجاثية:13/45] {الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء} [البقرة:22/2]. {الذي جعل لكم الأرض مهداً، وسلك فيها سُبلاً،وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} [طه:53/20] {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه، وإليه النشور} [الملك:15/67].(4/38)
واللام في (لكم) تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع للمخاطبين، أي أن ذلك مختص بكم، مما يدل على أن الانتفاع بجميع مخلوقات الأرض، وما فيها من خيرات مأذون فيه، بل مطلوب شرعاً.
__________
(1) سيرة عمر بن الخطاب للأستاذ علي الطنطاوي وأخيه: 201/1، 309، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 141.
(2) التلخيص الحبير: ص 254، السياسة الشرعية لابن تيمية ص 45 وما بعدها.
(3) رواه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين، وأخرجه أبو داود عن سمرة بن جندب (سنن أبي داود: 283/2، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 285).
(4) الموطأ: 218/2 وما بعدها.
واعتبر الفقهاء تعلم أصول الحراثة والزراعة ونحوها مما تتم به المعايش التي بها قوام الدين والدنيا من فروض الكفاية (1) ، لأن كل فرد من الأفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه (2) . وخصصوا باباً معيناً للكلام عن (إحياء الموات) أو بتعبيرنا (استصلاح الأراضي المتروكة) كما فصلوا في بحث (الزكاة) أحكام المعادن الجامدة والسائلة والركاز، ووضع الإمام أبو يوسف كتابه (الخراج) لهارون الرشيد أبان فيه كيفية استثمار الأرض وطرق الري من الأنهار الكبرى وموارد بيت المال من خراج ونحوه (3) .
__________
(1) رد المحتار: 40/1 الطرق الحكمية لابن قيم ص 247، غاية المنتهى: 441/1، الشرح الكبير للدردير: 174/2.
(2) سمع النبي صلّى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه يقول: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك، فقال: لا تقل هكذا، ليس من أحد إلا وهو محتاج إلى الناس، قال: فكيف أقول؟ قال: قل: اللهم لاتحوجني إلى شرار خلقك. قلت : يا رسول الله ومن شر خلقه؟ قال: الذين إذا أعطوا أمنوا، وإذا منعوا عابوا. وسمع صلّى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه يقول: اللهم إني أسألك الصبر. فقال: سألت الله البلاء، فسله العافية. وسمع الإمام أحمد بن حنبل رجلاً يقول: اللهم لاتحوجني إلى أحد من خلقك. فقال: هذا رجل تمنى الموت (مغني المحتاج: 213/4).
(3) انظر فيه مثلاً: ص 91-102 و 109 وما بعدها.
وحض الإسلام عموماً على الضرب في الأرض (أي السفر التجاري) والسعي الحثيث في مناكبها، والتنقيب عن موارد الرزق في البر والبحر، والإنشاء والتعمير وتوفير أسباب المعيشة والتنافس المشروع في كسبها، والتسابق في الخيرات كلها دنيوية أم أخروية؛ لأن معنى استخلاف الله للبشر وخلافتهم عن الله في الأرض يتطلب إطاعة المستخلف إطاعة كاملة، ولأن السيطرة على الأرض بتمكين الله للبشرتقتضي استغلال كل أوجه الخير فيها من استنبات الزرع، وإحياء الضرع، وتشجير الأشجار، واستخراج المعادن والزيوت، واستثمار المناجم والمحاجر والمقالع وإقامة المساكن والمصانع والقرى والمدن حتى يعرف بكل ذلك ونحوه عظمة الله وقدرته لأنه هو مانح الحياة لكل الموجودات.
61 - وذلك على النقيض تماماً من الاتجاه المادي القاتم الذي يوجه الناس نحو الشعور بألوهية الإنسان لسيطرته على الطبيعة ومواردها، ولتقدمه العلمي والتقني والفني، مما يؤدي إلى عبادة المادة ويورث الإنسانية كثيراً من القلاقل والاضطرابات، والعداوة والبغضاء والحروب المدمرة.
لذا فإن عمارة الأرض واستغلالها يتقيدان في الإسلام بإطاعة الله والاهتداء بهديه والامتناع عما نهى عنه، والاعتقاد بأن الناس جميعاً شركاء في منتجات الطبيعة المباحة، فكان لا بد لهم من التراحم والتعاون في العمل والنتاج (العطاء) بدون تخصيص، أو تمييز البشر في الجنس أو اللون أو العنصر بل والدين أيضاً.
ومن ثم فليس في الإسلام مجال للحقد أو الاستئثار أو الاستعمار بالمعنى الشائع اليوم، أو حجر الآخرين عن الانتفاع الحر بالأرض، لأن البشر هم خلق الله، وأحب خلق الله إلى الله أنفعهم لعياله (1) . فلا معنى لاستغلال جنس من
__________
(1) قال عليه الصلاة والسلام «الخلق كلهم عيال الله ، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» رواه البزار والطبراني (مجمع الزوائد: 191/8، الفتح الكبير) وهو ضعيف.
الأجناس، أو بلد من البلدان لجنس آخر أو بلد آخر، قال تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} [الروم:20/30] . {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان، إنه لكم عدو مبين} [يس:60/36].
قال الماوردي: (القاعدة الخامسة من القواعد التي تصلح بها الدنيا: خصب دار تتسع النفوس به في الأحوال وتشترك فيه ذوو الإكثار والإقلال، لكون الأسعار رخيصة فيقل في الناس الحسد، وينتفي عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس في التوسع وتكثر المواساة والتواصل، وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدنيا، وانتظام أحوالها، ولأن الخصب يؤول إلى الغنى، والغنى يورث الأمانة والسخاء) (1) .
4 - صيانة الآداب الإسلامية :(4/39)
62 - إن صيانة مقاصد الشريعة الأساسية السابق ذكرها تتطلب من الدولة حماية دائمة لها في المجتمع، لأن للأخلاق السائدة تأثيراً كبيراً على الأشخاص وانعكاساً مباشراً في السلوك والتصرفات، لذا كان الدين والخلق أمرين متلازمين في الإسلام، قال صلّى الله عليه وسلم «الخلق وعاء الدين» (2) وذلك حتى يتكاتف الدين والخلق في تكوين الشخصية المسلمة المستقيمة، وإلا فسدت الجماعة، وأصابها الوهن والانحلال، واختل الأمن واضطراب النظام.
ومن أصول الأخلاق الإسلامية: إباحة كل وسائل الفضيلة والمعروف، وتحريم كل ذرائع الفساد والشر. قال ابن تيمية: (إن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة..، والشر والمعصية ينبغي حسم
__________
(1) أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 249.
(2) رواه الحكيم الترمذي عن أنس بن مالك (الفتح الكبير).
مادته، وسد ذريعته (1) ودفع ما يفضي إليه، إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة.. (2) وقال القرافي: (إن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج (3) .
وتلزم الدولة الإسلامية شرعاً بالحفاظ على الآداب وحماية الأخلاق، ومنع المعاصي وردع الفساق وقمع المنكرات وتأديب العصاة حتى تكون الحياة الإسلامية نظيفة من الشوائب بعيدة عن المكدرات وأسباب الفوضى والانحراف. قال الماوردي: (الذي يلزم الإمام إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عبادة من إتلاف واستهلاك) (4) ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا بد للناس من إمارة برَّة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل،ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء) (5) .
5 - إقامة العدالة الاجتماعية :
63 - على الدولة أيضاً تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس، لأنها مسؤولة عن الرعية وعن ضرورة إقامة العدل ومنع الظلم وغيره، وتحقيق التعاون على البر والتقوى من استيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ونحوه (6) ، قال النبي صلّى الله عليه وسلم : «المؤمن
__________
(1) الذريعة: الوسيلة.
(2) السياسة الشرعية: ص 68 و 140 وما بعدها.
(3) الفروق: 33/2 وانظر أيضاً أعلام الموقعين لابن قيم: 147/3.
(4) الأحكام السلطانية ص 14 وقد سبق ذكره.
(5) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 63 وما بعدها.
(6) المرجع السابق: ص 47.
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (1) . «من ترك كَلاًّ أو ضَياعاً فأنا وليه» (2) «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره يجوع إلى جنبه» (3) «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً، ويعذبهم عذاباً أليماً» (4) «أيما أهل عَرْصة ـ بقعة ـ أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» (5) .
64 - ووسائل الدولة لتأمين معيشة رعاياها كثيرة أهمها: تهيئة سبل الكسب المشروع، ووسائل العمل الشريف مع تكافؤ الفرص، وتحقيق الحاجات الأساسية من مسكن ومأكل وملبس أولاً. ومن عجز عن العمل فنفقته على أقاربه الموسرين، فإن لم يوجدوا فعلى بيت المال، كما هو معروف عند الفقهاء.
قال الماوردي: (القاعدة الثالثة مما يصلح به حال الإنسان في الدنيا: المادة الكافية؛ لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى منها بشر، قال الله تعالى في الأنبياء:
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه البخاري ومسلم ورواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب بلفظ «من ترك كلا فإلي» ورواه أحمد والبيهقي بلفظ «ومن ترك كلاً فإلى الله ورسوله» (صحيح البخاري: 273/8 جامع الأصول 384/10، شرح مسلم 61/11، الفتح الكبير).
كلاً: أي ثقلاً فيشمل الدين والعيال. والضياع: اسم ما هو في معرض أن يضيع إن لم يتعهد كالذرية الصغار والزمنى الذين لا يقومون بحاجة أنفسهم.
(3) رواه البيهقي عن ابن عباس وكذا رواه الطبراني وأبو يعلى عنه ورجاله ثقات (مجمع الزوائد: 167/8).
(4) رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وروي على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أشبه (الترغيب والترهيب: 538/1، مجمع الزوائد: 62/3).
(5) رواه أحمد والحاكم وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة، والأول مختلف فيه، والثاني قال عنه ابن حزم: إنه مجهول، وقال غيره: معروف ووثقه ابن سعد وروى عنه جماعة واحتج به النسائي (نيل الأوطار: 221/5).
{وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وماكانوا خالدين } [الأنبياء:8/21]. فإذا عدم المادة التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة، ولم تستقم له دنيا، وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في نفسه والاختلال في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه؛ لأن الشيء القائم بغيره يكمل بكماله، ويختل باختلاله) (1) .
وقد أطلق القرآن للإنسان حرية الاستمتاع بالطيبات المباحة، قال تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [طه:81/20] {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة:87/5].(4/40)
ويعبر الفقهاء عن واجب الدولة بتأمين العاجزين عن العمل بدفع ضرر المسلمين إلى حد الكفاية، قال النووي: (من فروض الكفاية: دفع ضرر المسلمين ككسوة عار، وإطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال) وتساءل شارح المنهاج (هل يكفي سد الضروة، أم يجب تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة؟ قال: فيه وجهان: قيل: ما يسد الرمق ، والأوجه ما يحقق الكفاية) (2) . وقال ابن حزم: (فرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة) (3) .
فعلى الحاكم إذن تحقيق العدالة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء رعاية للمصلحة العامة، وله أن يتوصل لهذه الغاية بما يفرضه من تكاليف وضرائب على
__________
(1) أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 363.
(2) المنهاج مع مغني المحتاج: 212/4.
(3) المحلى: 452/6، م 725.
الأغنياء بحسب الحاجة بالإضافة إلى فريضة الزكاة (1) . لقوله صلّى الله عليه وسلم : «إن في المال حقاً سوى الزكاة» (2) وليس هنا مجال التفصيل (3) .
وهذا المبدأ في الإسلام شامل لكل المواطنين، سواء أكانوا مسلمين أم ذميين كما أوضح الفقهاء (4) بدليل أن سيدنا عمر بن الخطاب أسقط الجزية عن شيخ من أهل الذمة، وفرض له من بيت المال ما يكفيه، وقال للخازن: (انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم) (5) . وجاء في كتاب خالد بن الوليد لأهل الحيرة: (وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طُرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام) (6) .
__________
(1) الاعتصام للشاطبي: 121/2، المستصفى للغزالي: 140/1-142 ط التجارية، تفسير القرطبي: 232/2.
(2) رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس، وقال: إسناده ليس بذاك، وروى ابن حزم عن ابن عمر أنه قال: (في مالك حق سوى الزكاة) ثم قال: وصح عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة، ثم ذكر أنه لا خلاف في هذا إلا عن الضحاك بن مزاحم وهو ليس بحجة (التلخيص الحبير: ص 177، أحكام القرآن للجصاص: 153/1، سنن الترمذي باب الزكاة: 21/3 ط حمص).
(3) ر : زكاة، ضريبة.
(4) مغني المحتاج، المكان السابق، نهاية المحتاج: 194/7.
(5) منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 309/2 ، الخراج لأبي يوسف: ص 126.
(6) الخراج: ص 144.
6 - تحقيق الحياة الطيبة للأفراد بالنظر الإسلامي :
65 ـ إن من أهم أصول النظام الاجتماعي الإسلامي هو تحقيق الحياة الطيبة الكريمة للناس، الجامعة بين خيري الدنيا والآخرة، والقائمة على أساس العمل الصالح مادياً ومعنوياً ؛ إذ أن صلاح العمل يرتد أثره بالخير الكامل والسعادة والنعيم على الفرد والمجتمع، بدليل قوله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل:97/16] . والمقصود بالحياة الطيبة: توفر السعادة والرخاء والقناعة والغنى عن الغير والاتجاه إلى ا لله سبحانه، والبعد عن الضنك والتعب، قال عبد الله التستري: (الحياة الطيبة: هي أن ينزع عن العبد تدبيره، ويرد تدبيره إلى الحق)وقيل: هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق.
قال ابن كثير في تفسير الآية السابقة: (هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت (1) .
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً» (2) وقال صلّى الله عليه وسلم : «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً» (3) .
66 - وطريق تحقيق الحياة الطيبة في الدنيا يتجلى من خلال النظرة إلي المال والعمل. أما نظرة الإسلام إلى المال فهو أنه مال الله . وأما نظرته إلى العمل فهو
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: 585/2.
(2) رواه مسلم وأحمد (فيض القدير والفتح الكبير).
(3) رواه مسلم وأحمد وابن عدي والترمذي عن أبي هريرة (كشف الخفا للعجلوني).(4/41)
وسيلة القادر عليه لتحصيل الرزق، وقد حث القرآن عليه في قوله تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} [الملك:15/67] وطالبت السنة بإتقان الأعمال: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (1) وبضرورة الحفاظ على الكرامة الشخصية وعزة النفس، جاء في الأحاديث: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق خير له من أن يسأل الناس» (2) « اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير» (3) «اليد العليا خير من اليد السفلى» (4) «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» (5) «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سوي» (6) .
وأما المقصود من الزهد المرغب فيه في الإسلام، فمعناه العمل الإيجابي لنفع الآخرين ولو بترك السعادة الشخصية أو هو الاقتصار على السبل المشروعة المتميزة بالقناعة عند اصطدام المساعي وتنازع المصالح، قال شراح حديث: «ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» (7) : الزهد: هو الإعراض عن الشيء لاستصغاره وارتفاع الهمة عنه لاحتقاره، لقوله تعالى: {قل متاع
__________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة، قال السيوطي: حديث ضعيف (فيض القدير شرح الجامع الصغير).
(2) رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 592/1).
(3) ذكره تمام في فوائده وابن عساكر في تاريخه عن عبد الله بن بسر (فيض القدير شرح الجامع الصغير والفتح الكبير).
(4) رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر: (شرح مسلم: 124/7، الترغيب والترهيب: 585/1).
(5) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة (الترغيب المرجع السابق: 589/1).
(6) رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه ابن لهيعة وفيه كلام (مجمع الزوائد: 91/3).
(7) حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي (الأربعين النووية).
الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} [النساء:77/4] قيل للزهري: ما الزهد؟ قال أما إنه ليس تشعيث اللِّمة ولا قشف الهيئة، ولكنه صرف النفس عن الشهوة. وقال ابن السَّماك: الزاهد: هو الذي إذا أصاب الدنيا لم يفرح، وإذا أصابته لم يحزن، يضحك في الملا، ويبكي في الخلا، أي عند ذكر الله في الخلوة (1) .
67 - ودور الدولة في تحقيق الحياة الطيبة يظهر في محاولتها توفير الرفاه والرخاء الاقتصادي بتشجيع وسائل الإنتاج من صناعة وتجارة وزراعة التي هي أفضل المكاسب في الإسلام، كما أنها تفتح مجالات الأمل والعمل لاستنزاف البطالة، وتوسع دائرة التعليم والتثقيف الديني ـ الأخلاقي، وتوفر للمواطنين الثقة والأمن والطمأنينة بردع العدو وتأديب العصاة، وتحد من سلطان الأطماع الطاغية وتحارب الوسائل غير المشروعة، وتزيل كل منافذ الفتنة والإغراء والانحراف، وتقمع كل طرق الشر والفساد، كما يتجلى ذلك في سيرة الخلفاء الراشدين وعهود القوة والازدهار في الدول الإسلامية المتتابعة.
7 - تحقيق المجتمع الخير (Welfare state):
68 - إن من أهم وظائف الدولة الخيرة الدعوة إلى الخير، والعمل الإيجابي على تحقيق مقتضيات الخير للمجتمع، وتحقيق الفلاح له في كل آفاق الحياة. وهذا ما يحاول الفقه السياسي في الغرب أن يصل إليه بما يسميه( دولة الفاهية ) قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} [آل عمران:104/3] {فاستبقوا الخيرات} [البقرة:148/2] {ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات} [آل عمران:114/3] {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا
__________
(1) تذكرة الدعاة للبهي الخولي: ص 145.
خاشعين} [الأنبياء:90/21]. ونطاق العمل الإيجابي في سبيل خير الرعية لا حدود له، فهو يشمل مثلاً حماية الرعية من كل عدوان في الداخل والخارج، والعمل على بث العمران في أرجاء الدولة بكل ما يتطلبه من مرافق، وتنمية عناصر الثروة القومية في سبيل القضاء على الفقر الذي يبغضه الإسلام، وتأهيل الناس كافة للعمل والنتاج، تحقيقاً لتكافؤ الفرص في الكسب، ثم بعد ذلك كفالة كل عاجز عن الكسب صوناً لآدميته وكرامته الإنسانية، والعمل على بث مصادر الثروة في ثنايا المجتمع حتى لا تنحصر في أيدي فئة قليلة تتداولها فيما بينها ، كما جاء في التوجيه القرآني: {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/59]، وغير ذلك من كل ما دعا إليه القرآن من وجوه الخير التي تتناسب مع الاحتياجات المتطورة للبشرية (1) .
8 - العمل المستمر على تحقيق الأفضل في جميع نواحي الحياة البشرية :(4/42)
69 - لا يقتصر دور الدولة المسلمة على إصلاح النواحي الاقتصادية أو الاهتمام بمطالب الحياة المادية فحسب كما تقول الشيوعية، وإنما مهمتها شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية الفكرية والنفسية والسياسية والخلقية، لأن الإسلام دين الفطرة (2) والفطرة البشرية تتطلب العناية بجميع هذه النواحي متضامنة مع بعضها كي تزدهر الحضارة، وتحفظ الحياة الكريمة ويزداد العمران وترتاح النفوس بتقوية العنصر الأخلاقي الذي يحمي القيم الاقتصادية وغيرها، لأن الحقائق والقيم الذاتية في تقدير الإسلام ليست أشياء منفصلة عن المظاهر المادية للحياة الإنسانية،
__________
(1) انظر في ذلك نظام الحكم في الإسلام للدكتور محمد عبد الله العربي: ص 60.
(2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، ثم يقول: اقرؤوا { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيم} رواه مسلم والموطأ والترمذي وأبو داود (جامع الأصول: 178/1).
ولأن المقصد من رسالة الإسلام هوإيجاد المجتمع الصالح الذي لا يكتفي بتوفير وسائل العيش أورفع مستوى المعيشة فقط، وإنما لا بد للدولة من العمل على ترقية الوجدان والحياة الخلقية لتقويم سلوك الأفراد، وتسديد نشاطهم العملي الذي يبوئهم خيري الدنيا والآخرة مع الشعور بالارتياح والطمأنينة لا بالقهر والقسر.
وعلى الدولة ـ باعتبارها حكومة القرآن ـ أن تسعى دائماً لتحقيق الأفضل والأصلح لمواطنيها في مختلف جوانب الحياة الإنسانية المادية والأدبية، فتقيم أركان الإسلام وتنشر الأمن وتدفع خطر الأعداء، وتسارع إلى إحراز التفوق في كل مجالات التقدم والمدنية والسبق العلمي وإشاعة الرخاء الاقتصادي، وتطوير الإنتاج والصناعة وأساليب الحياة الحديثة حتى يتحقق المجتمع الفاضل الذي يريد الإسلام إقامته من الناحيتين الدينية والدنيوية، قال الله عز وجل {وابتغ فيماآتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:77/28].
وجاء في الأثر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» (1) .
__________
(1) فيض القدير: 12/2.
9 - إعداد الدعاة لنشر الدعوة في الداخل والخارج :
70 - إن الغاية السامية التي تعمل من أجلها الدولة الفاضلة: هي توحيد الله عز وجل وجمع الناس على الإيمان به، وتطهير الأرض من كل رجس وشرك، حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله . ويجب على الدولة تحقيق ذلك بكل الوسائل وإقامة النظم ا لسياسية والتشريعية والعملية التي تكفل استقرار الناس في ظلال هذه الغاية (1) . والوصول إلى تلك الغاية بتنظيم الدولة طرق الدعوة إلى الإسلام، وإعداد الدعاة الأكفياء المزودين بالعلم والأخلاق قياماً بمهمة الأنبياء، واقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه رسالة السماء، قال تعالى مبيناً تلك المهمة: {إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد } [الرعد:7/13] {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجاد لهم بالتي هي أحسن} [النحل:125/16] {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته، والله يعصمك من الناس} [المائدة:67/5].
والسبب في إيجاب القيام بالدعوة هوأن الإسلام رسالة اجتماعية إصلاحية ودعوة عالمية كبرى بعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتكون نظام الإنسانية الكامل في حياتها الروحية والمادية، في كل زمان ومكان (2) . فالناس جميعاً مخاطبون بتعاليمها والاستجابة لنظامها (3) ، بدليل قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} [سبأ:28/34] {وما أرسلناك إلارحمة للعالمين} [الأنبياء:107/21] {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} [الأعراف:158/7].
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو بها إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم، وكان بعد تفقيه أصحابه وتعليمهم يرسل الدعاة والمعلمين لشرع الله إلى مختلف القبائل التي تُسلم لإرشادها إلى قواعد الإسلام ولتفقيهها في أمور الدين. هذا.. بالإضافة إلى القضاة والفقهاء لتولي الولايات والبلدان الكبرى (4) .
__________
(1) تذكرة الدعاة للبهي الخولي: ص 42، ط دار الكتاب العربي: 1951.
(2) تذكرة الدعاة للخولي: ص 14.
(3) أعلام الموقعين: 211/2، تحقيق محي الدين عبد الحميد، تفسير المنار: 467/6.
(4) تفسير ابن كثير: 254/2 وما بعدها، ط الحلبي، سيرة ابن هشام: المجلد: 590/2، ط الحلبي، التراتيب الإدارية للكتاني: 194/1 وما بعدها.
وفي آخر مراحل حياته عليه الصلاة والسلام أشهد ربه في حجة الوداع وغيرها على قيامه بواجب التبليغ، وأمر أن يبلِّغ الشاهد الغائب.(4/43)
وبما أن الرسول صلّى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، فكان لزاماً على المسلمين حكاماً ورعية القيام بتبليغ الدعوة الإسلامية وإعداد الدعاة لها سواء في داخل إقليم الدولة أم في خارجه، وذلك بتخصيص فئة متعلمة تدرس الشريعة، وتتمثلها، وتصبح القدوة الصالحة ثم تتعلم اللغات الأجنبية، ثم ترسل إلى سائر البلاد للدعوة في سبيل الله (1) مع دعمها بكتب ومنشورات مبسطة عن الإسلام في عقائده وعباداته، وأحواله المدنية والشخصية، وقانونه الجزائي والدولي، وهذا من فروض الكفاية على الأمة الإسلامية، كما أرشد القرآن إليه في قوله عز شأنه: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران:104/3] والخير: هو الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده، {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة:122/9].
قال النووي: (ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحجج وحل المشكلات في الدين، وبعلوم الشرع كتفسير وحديث، والفروع ـ الفقهية ـ بحيث يصلح للقضاء) (2) . فإذا لم تقم جماعة بهذا الواجب الكفائي أثم كل المسلمين كما هو معروف، لأن المخاطب بالآيات القرآنية السابقة هم كل المسلمين، فهم المكلفون أن يختاروا منهم طائفة تقوم بهذه الفريضة، فهنا فريضتان: إحداهما على جميع
__________
(1) سأتكلم عن واجب نشر الدعوة خارج الدولة في المبحث ا لثاني.
(2) المنهاج مع مغني المحتاج: 210/4 وانظر مثل ذلك في غاية المنتهى عند الحنابلة: 441/1 والشرح الكبير للدردير عند المالكية: 174/2، تفسير القرطبي: 165/4، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، تفسير الطبري: 38/4، ط الثانية الحلبي.
المسلمين الذين تمثلهم دولتهم، والثانية على الجماعة التي يختارونها للدعوة. وقال الماوردي ـ فيما سبق ذكره ـ: إن أول واجبات الخليفة حفظ الدين والدعوة إليه (1) . وقال الحنفية : (إن الجهاد الذي هو فرض كفاية هو الدعاء إلى الدين الحق والقتال مع من امتنع عن القبول) (2) .
71 - والمقصود من الدعوة في العرف: هو حث الناس على الخير والهدى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليفوز بسعادة الدنيا والآخرة، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: دعوة الأمة المحمدية جميع الأمم إلى الإسلام وأن يشاركوهم فيما هم عليه من الهدى ودين الحق. وهذا واجب هذه الأمة بمقتضى جعلها خير أمة أخرجت للناس، وبحكم وصف المؤمنين الذين أذن لهم في القتال في قوله تعالى: {الذين إن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج:41/22].
النوع الثاني: دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى الخير، لقوله سبحانه: {فلولا نفَر من كل فرقة منهم طائفة..} [التوبة:122/9] الآية.
النوع الثالث: ما يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض بالدلالة على الخير والترغيب فيه والنهي عن الشر والتحذير منه (3) ، لقوله عز وجل: {والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر:1/103-3] {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } [فصلت:33/41] أي إلى دين الله .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 14 ولأبي يعلى ص 11.
(2) العناية بهامش شرح فتح القدير: 279/4 وانظر أحكام القرآن للجصاص: 35/2، 592 ط البهية المصرية.
(3) راجع تفسير المنار: 27/4 وما بعدها، هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ: ص 17 ط العثمانية المصرية.
72 - وكيفية إعداد الدولة الدعاة تعرف مما ذكره العلماء عن أوصاف وآداب ووظائف المرشد المعلم والمحتسب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهي خمس عشرة صفة (1) .
1 - العلم بالقرآن والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالح. وبالقدر الكافي من الأحكام الشرعية، وأسرار التشريع مع الصدق في نشرها.
2 - العمل بعلمه، فلا يكذب فعله قوله، ولا يخالف ظاهره باطنه، بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أول عامل به.
3 - الحلم وسعة الصدر، فكمال العلم بالحلم، ولين الكلام مفتاح القلوب.
4 - الشجاعة، حتى لا يهاب أحد في الجهر بالحق، ولا تأخذه في نصرة الله لومة لائم .
5 - العفة واليأس مما في أيدي الناس.
6 - القناعة في الدنيا والرضا منها باليسير (2) .
7 - قوة البيان وفصاحة اللسان وإلا كان النفع بعيداً.
8 - الإلمام بالآتي:
__________
(1) تفسير الكشاف: 340/1 ، تفسير المنار: 26/4-48، الإحياء للغزالي: 49/1 وما بعدها و274/2 وما بعدها، أدب الدنيا والدين ص 108-119، منهاج القاصدين: ص15 وما بعدها و130 وما بعدها، هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ: ص 12-104، تذكرة الدعاة للخولي: ص 35 وما بعدها و 249.
(2) من الصعب في وقتنا تحقيق الزهد بالدنيا بالمعنى الشائع لأننا محاطون بزينة الدنيا ومغرياتها من المال والنساء والجاه والأبناء وغير ذلك، وقد قرر الرسول صلّى الله عليه وسلم هذه الحقيقة الواقعية فقال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون فيها» (تذكرة الدعاة: ص 148).(4/44)
العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطبائع بلادهم وأخلاقهم أو ما يعبر عنه في العرف بحالتهم الاجتماعية، ومعرفة التاريخ العام، وعلم النفس، وعلم تقويم البلدان، وعلم الأخلاق، ومعرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم، والعلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها وعلى الاجتماع الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها على نحو ما في مقدمة ابن خلدون.
9 - قوة الثقة بالله في وعده وكمال الرجاء في حصول الفائدة، مهما طال به العلاج وعظمت المصاعب.
10 - التواضع ومجانبة العجب.
11 - أن لا يبخل بتعليم، ولا يمتنع من إفادة ما يعلم، فإن البخل به ظلم ولؤم، والمنع منه حسد وإثم.
12 - الوقار والرزانة بالإمساك عن فضول الكلام، وعن كثرة الإشارة والحركة فيما يستغنى عن الحركة فيه، والإصغاء عند الاستفهام، والتوقف عند الجواب، وعدم التسرع والمبادرة في جميع الأمور.
13 - أن يكون كبير الهمة عالي النفس يستصغر ما دون النهاية من معالي الأمور.
14 - الصبر في مقام الدعوة إلى الله تعالى، فهو وصف الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
15 - التقوى والأمانة والتحرز بطاعة الله تعالى عن مساخطه،ويعبر عن ذلك في العرف: العدالة والقدوة الحسنة.
==============
الوظيفة الثانية ـ وظيفة الدولة الخارجية :
الفقه الإسلامي وأدلته - (ج 8 / ص 509)
الوظيفة الثانية ـ وظيفة الدولة الخارجية :
تمهيد :
73 - إن اختصاص الدولة الإسلامية في نطاق العلاقات الخارجية يشبه في كثير من الوجوه اختصاص الدولة الحديثة، لأنها دولة ذات فكرة إنسانية سامية تنشد تحقيقها على صعيد مفتوح وفي ظل من الأمن والسلم، وعلى أساس من الاستقلال الداخلي والخارجي ضمن إطار التعاون الواجب مع الدول الأخرى في سبيل خير البشرية (1) .
ومنهج الإسلام في علاقاته الدولية يقوم على مبدأ التوفيق بين ضرورات الواقع وبين مثالية المبدأ والمسعى الذي يحقق الغاية المنشودة من رسالته، فهو لا يستطيع تجاهل ظروف وضرورات الحياة الدولية لما لها من ثقل تفرض به نفسها على الأحداث والمتطلبات الداخلية، ولا يمكنه أصلاً التخلي عن واجب التبليغ ونشر المبادئ والتضحية في سبيل المبدأ وإثبات الخصائص الذاتية التي يتمتع بها، وإعلام الناس بمحتواها، ومحاولة تنفيذها وتحقيق الأهداف المطلوبة بالسياسة والحكمة والأناة ، ومواتاة الفرصة المناسبة.
والبحث هنا يتناول وظيفتين أساسيتين للدولة الإسلامية وهما الوظيفة المتجاوبة مع ضرورات الحياة الدولية، والوظيفة الأصلية التي تحقق أهداف الدولة وخصائصها الذاتية، وذلك في مطلبين:
__________
(1) ر : جهاد.
المطلب الأول ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات الحياة الدولية :
74 ـ لا تصادم بين الفكرة الإسلامية المتطلعة إلى الامتداد أو الانتشار وبين المبادئ الدولية القائمة الآن على أساس الاعتراف بحرية الدولة في تصرفاتها المشروعة، ومساواتها بين الدول في المبادئ الأخلاقية أو السلمية، وعدم خضوعها للقضاء الأجنبي والدفاع عن نفسها للحفاظ على وجودها وحماية أراضيها وشعبها من أي خطر يتهددها.
وتتجلى وظائف الدولة المسلمة في هذا المضمار في النواحي الآتية:
1 - الدفاع عن أراضي الإسلام وتحرير شعوبه وحماية أقلياته :
75 - هذا حق طبيعي ومنطقي لكل دولة من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها، لما لها من حق الحياة والبقاء كالأشخاص العاديين تماماً، ولما يفرضه الواجب من حماية الأتباع والرعايا ولو في خارج إقليم الدولة.
ووسيلة الإسلام في حماية وجوده وأهله هو الجهاد الذي يستخدم من أجل أغراض ضرورية تفرضها الأحداث وأهمها: (1) .
أ ـ دفع العدوان عن الدين والنفس والعرض والمال أو الدولة وأراضي الوطن أي دار الإسلام، قال تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة:190/2] ، {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير} [الأنفال:39/8] {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة:193/2] ، { أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير} [الحج:39/22].
الجهاد حق وعدل وواجب مقدس، ومن تركه أو تخلف عن واجبه في الدفاع عن بلاده وأهله وإعلاء كلمة الله (أي كلمة الإسلام والمسلمين) فهو منافق
__________
(1) ر : للتفصيل والمقارنة في الموسوعة الفقهية: جهاد.
في شرعة القرآن، قال تعالى { وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا (1) ، قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} [آل عمران:167/3].
ومن واجبات الدولة كما أبنت سابقاً الإعداد دائماً للجهاد وعدم التقاعس عنه إذا وجدت مقتضياته، وتهيأت إمكاناته، وقد ذكرت سابقاً عبارة الماوردي وغيره في هذا الشأن حيث جعل من واجبات الإمام تحصين الثغور وحماية البلاد، وجهاد الأعداء بعد الدعوة إلى الإسلام.(4/45)
ب ـ نصرة المظلوم فردا أو جماعة من المؤمنين، أو إغاثة المستضعفين المسلمين، أو حماية الأقليات في بلاد أخرى من العسف وانتقاص الحقوق، وذلك عند القدرة والإمكان، قال الله عز وجل: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} [النساء:75/4] {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} [الأنفال:8/72].
2 - دعم التعاون بين أقاليم الدولة الإسلامية :
76 - يتطلب الواجب السابق بالدفاع عن الإسلام والمسلمين ضرورة التعاون البنَّاء بين جميع بلاد الإسلام، كما كان عليه حال الأمة الإسلامية في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم وما تلاه من عهود موحدة ، وذلك في مختلف المجالات السياسية والعسكريةوالاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ إن روابط الإخاء والوحدة في عقيدة الإيمان يتمخض عنها الحب والمساواة والتعاون على الخير في السراء والضراء.
وبهذا وحده يتحقق للمسلمين العزة والمنعة والتفوق والسيادة، وترتد آثاره الحميدة على البلاد بالخير والسعادة وتحقيق الأماني والآمال المرجوة وتوفير سبل الحياة الحرة الكريمة لكل بلد. وبغير ذلك تسوء الأحوال وتؤول الأوضاع إلى الضياع والوهن والتخلف الذي نعاني الآن من ويلاته بسبب التقاطع والتدابر والتمزق والتفرق.
ومن المعروف أن الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وأن الأواصر القائمة بينهم أعظم حافز على التضامن والتكاتف، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/5] {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} [آل عمران:103/3] {ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال:46/8] .
__________
(1) أي دافعو ا عن النفس والأهل والوطن (ر : التفاسير).
فبالتعاون يتمكن المسلمون في العالم من تجاوز الحدود والقيود الضيقة والعصبيات المغلقة المورثة للمنازعات والخلافات الجزئية؛ لأن رابطة الأخوة القائمة بينهم أقوى وأصلب من العلاقات الجنسية ( التجنس ) ومضايقات العنصرية، ولأن مصيرهم وأهدافهم في الحقيقة واحد.
77 - وهذا في الدرجة الأولى من وظائف الدولة، لأن الأوامر السابقة في القرآن الموجبة للتعاون تخاطب ولاة الأمر والأفراد على حد سواء (1) ، وما يتحقق عن طريق الدولة أهم وألزم لتحصيل المقاصد وتأمين المصالح.
ومن صور التعاون في المجالات التي ذكرناها قيام أجزاء البلاد بتوحيد الجهد لإنشاء المشاريع الصناعية والإنتاجية والزراعية والمساهمة في تثقيف الجيل ومحو الجهل والأمية، وتنسيق الخطط الفنية والعلمية والسياسية إزاء مشكلة من المشكلات التي تمس مصالح المسلمين.
وفي أوقات الشدة والمحن تتعاون البلاد في رد العدوان ودفع الأخطار، وتسوية المنازعات وترميم الأحداث والتغلب على الكوارث الطبيعية والاقتصادية ونحو ذلك، ففي ماضي المسلمين كان تجهيز الجيوش وإمداد المقاتلة، يتم بالتعاون بين أقطار الإسلام، كما كان توزيع الغنائم شاملاً للمسلمين.
__________
(1) هذا هو المفهوم من عموم الخطاب فيها، فآية المائدة مثلاً صدرت بقوله سبحانه: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام} [المائدة:2/5] وذلك موجه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم القائد وللمؤمنين، ثم قال سبحانه: {وتعاونوا على البر...} [المائدة:2/5] أي أن الله يأمر المؤمنين ولاسيما أصحاب السلطة بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم (تفسير ابن كثير: 6/2).
3 - دعم السلام العالمي :
78 ـ استأصل الإسلام جذور الأحقاد والعداوات البشرية، فقضى على الفوارق الجنسية ( التجنس ) والعصبية وتناحر الطبقات، وأحل محلها روح المحبة والإنسانية والتعاون والتسامح، كما أنه انتزع من فكرة القومية تلك (الأنانية) الطاغية التي من شأنها أن تخلق منافسة بين القوميات المتباينة (1) ، وبالتالي نشوب حروب طاحنة بسبب التنازع على الاستئثار بخيرات الأرض. ثم دعا الإسلام بعدئذ، ليس إلى إقامة سلام عالمي فحسب، بل إلى تعايش ودي يدعم السلام، ويتجاوز حدود المسالمة إلى المودة والمصاهرة، والاشتراك في القرابات واختلاط الدماء، وإيجاد زمالة عالمية في ظل المبدأ الإنساني الرفيع: وهو اعتبار الجنس البشري من أب وأم واحدة، وأنهم أبناء أسرة واحدة ينبغي التراحم بين أفرادها، وشيوع الألفة والعدالة في أوساطها للعمل من أجل خير المجموع.
79 - وهذا ما قرره القرآن الكريم بأجلى بيان في قوله سبحانه: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير } [الحجرات:13/49].(4/46)
وتتوارد الآيات القرآنية في الدعوة إلى السلم ونبذ العدوان كما في قوله عز وجل: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها،وتوكل على الله } [الأنفال:61/8] {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين} [البقرة:208/2]. {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام: لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا} [النساء:94/4]. {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} [النساء:4/90] {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8/60].
__________
(1) نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الله العربي: ص 56.
ويؤكد القرآن أن هذه الحقائق في حال النزاع، فينهى عن العدوان في قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولاتعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/2] وفي هذا إشارة إلى تحريم العدوان والاقتصار على حدود الضرورة بالدفاع عن النفس (1) .
وفي السنة النبوية تحديد واضح لغاية القتال، ومطالبة بالحرص على السلام، قال النبي صلّى الله عليه وسلم : « أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» (2) . «تألفوا الناس، وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت من مدر
__________
(1) ر : للتفصيل في الموسوعة الفقهية جهاد.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد (شرح مسلم: 46/12، جامع الأصول: 185/3، منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 323/2).
ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم، وتقتلوا رجالهم» (1) «الخلق كلهم عيال الله ، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» (2) .
80 - وعلى الدولة المسلمة التقيد بهذه التعاليم لحماية ودعم مبدأ السلام العالمي، سواء أكان التهديد قريباً من حدودها أم بعيداً عن أراضيها، لأن انفجار الحرب ـ لا سيما في عصرنا الحاضر ـ يعرِّض العالم كله إلى هزات عنيفة، ويبعد أن تكون دولة فيه بمأمن من لظاها وآثامها، ولأن الإسلام يكره إراقة الدماء في أي مكان وبالنسبة لكل إنسان إلا للضرورة كما يبين من كلام فقهائنا في الواجب الآتي عند بحث حماية الكرامة الإنسانية.
4 - دعم مبادئ كرامة الإنسان والعدالة والحرية والمساواة في العالم أجمع :
81 - الإسلام ـ كما هو معروف ـ نظام عام للبشرية في أصل رسالته السماوية حتى تتحقق به الحياة الطيبة، وتتوافر للناس سعادة الدنيا والآخرة، لذا فإنه يقيم نظامه الاجتماعي على أسس ثابتة أهمها ما يأتي:
أ ـ حماية الكرامة الإنسانية: أعلن الإسلام مبدأ كرامة الإنسان، فهو أكرم مخلوق على الأرض، والكرامة حق طبيعي لكل إنسان، فلا يجوز إهدار كرامته، أو إباحة دمه وشرفه سواء أكان محسناً أم مسيئاً، مسلماً أم غيرمسلم، لأن العقاب إصلاح وزجر، لا تنكيل وإهانة، ولا يحل شرعاً السب والشتم والاستهزاء
__________
(1) شرح السير الكبير: 59/1.
(2) رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن مسعود (مجمع الزوائد 191/8) وقد سبق تخريجه وفيه عمير، وهو أبو هارون القرشي متروك.
وقذف الأعراض، كما لا يجوز التمثيل (1) بأحد ولو من الأعداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها، ويحرم التجويع والإظماء والنهب والسلب، لقوله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} [الإسراء:70/17].
وقال الرسول صلّى الله عليه وسلم : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (2) «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة» (3) «ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم» (4) .
ولقد قرر فقهاؤنا أن الأصل في الناس حقن الدماء، فقال الحنفية: (الآدمي معصوم ليتمكن من حمل أعباء التكاليف وإباحة القتل عارض سمح به لدفع شره) وقال مالك: (لا ينبغي لمسلم أن يهريق دمه إلا في حق، ولا يهريق دماً إلا بحق) (5) . وقال الحنابلة: (إن الأصل في الدماء الحظر إلا بيقين الإباحة) (6) وقال الشافعية (7) : (قتل الآدمي عمداً بغير حق أكبر الكبائر بعد الكفر، وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد).
__________
(1) قال عليه الصلاة والسلام «ولاتمثلوا» رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث بريدة (جامع الأصول: 201/3).
(2) سبق تخريجه (مجمع الزوائد: 284/6).
(3) رواه ابن ماجه بسند لين عن ابن عمر، ولابن أبي شيبة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة فقال: «ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمسلم أعظم حرمة منك، قد حرم الله دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء» (كشف الخفا للعجلوني).
(4) رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو، وهو حديث غريب جداً (تفسير ابن كثير: 52/3).
(5) اختلاف الفقهاء للطبري ـ تحقيق شخت: ص 195.
(6) القواعد لابن رجب: ص 338.(4/47)
(7) مغني المحتاج: 2/4 و 210 قال صلّى الله عليه وسلم : «لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا وما فيها» رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ب ـ مبدأ العدالة :
82 - إن العدالة المطلقة في الإسلام مبدأ من مبادئ نظام الحكم الإسلامي، وأساس كل علاقة إنسانية سواء بين الأصدقاء أم الأعداء؛ لأن العدل قوام العالمين في الدنيا والآخرة، وبالعدل قامت السموات والأرض، والعدل أساس الملك، وأما الظلم فهو طريق خراب المدنيات وزوال السلطان، قال تعالى : {إن الله يأمر بالعدل والإحسان } [النحل:90/16] وقال صلّى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا» (1) .
ومن أخص الحالات التي ينبغي فيها العدل: حالة الحكم والشهادة والقضاء بين الناس، وفي ميدان الحكم والإدارة وفرض الضرائب وجباية المال وصرفه في مصالح الناس (أي في الميدان الدستوري والإداري والمالي) وفي نطاق الأسرة والتربية والتعليم، وقال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/4] {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8/5] {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء:135/4].
جـ ـ الحرية :
83 - الحرية: هي أعلى ما يشعر به المرء في هذا الوجود، فهي ملازمة لكرامته الإنسانية، وقد أقر الإسلام مبدأ الحرية في أعدل مظاهرها، قال عمر بن الخطاب لواليه عمرو بن العاص: (متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) (2) وأعلن القرآن حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية القول.
فمن أجل تقرير حرية الاعتقاد منع الإكراه على الدين: {لا إكره في الدين، قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256/2] وجعل قبول اعتناق الإسلام منوطاً بالاختيار الحر والاقتناع الذاتي بعد استخدام الفكر والعقل السليم وتجنب التقليد ومحاكاة الآخرين بدون حجة، عملاً بقوله تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم} [الروم:8/30] {قل: انظروا ما ذا في السموات والأرض } [يونس:101/10] {وما يذكّرُ إلا أولو الألباب} [آل عمران:3/7].
وتحريضاً على التفكير والنظر الطليق ندد الله سبحانه بالتقليد في العقائد وتعطيل العقول فقال: {وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله ، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} [البقرة:170/2] {أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46/22].
__________
(1) رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي ذر الغفاري (الأربعين النووية).
(2) سيرة عمر بن الخطاب للأستاذ الطنطاوي وأخيه: 240/1.
والنقد البناء ليس حقاً فقط، وإنما هو واجب ديني أحياناً لا سيما عند المساس بالمصالح العامة والأخلاق ، قال صلّى الله عليه وسلم : «الدين النصيحة. قلنا : لمن؟ قال:لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (1) واعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإسلام كما تقدم، وأن الشورى أساس الحكم والإدارة السياسية والحربية، وأن الاجتهاد في أمور الدنيا حق مطلق، وأما في القضايا الدينية فهو مقيد في حدود القرآن والسنة الصحيحة، يعني أن للفرد الحرية في الأمور الدنيوية بإبداء ما شاء من الآراء فيها، وأما الأمور ذات الصبغة الدينية (أو الشرعية) فلكل مجتهد ـ في غير موضع النص ـ أن يجتهد برأيه في حدود أصول الدين الكلية.
__________
(1) رواه مسلم عن أبي رقية تميم بن أوس الداري ( الأربعين النووية ).
د ـ المساواة الكاملة بين الناس :
84 - إن مبدأ المساواة في الإسلام عام شامل دون قيود ولا استثناءات، وأساس في نظام الحكم الإسلامي، وكان ذلك المبدأ جديداً بالنسبة للعرب، بل وكان يتعارض مع الشعور القبلي السائد (1) ، فقررت الشريعة المساواة التامة في الحقوق والواجبات وأمام القانون والقضاء وفي المسؤوليات العامة والحقوق السياسية بين الأفراد، والجماعات، والأجناس، وبين الحاكمين والمحكومين، لا فضل لرجل على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح ، ودون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو الطبقة (أي في الغنى والفقر) أو القوة والضعف، أو الحسب والنسب. الناس جميعاً في الشريعة متساوون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، كما هم متساوون في وحدة الأصل البشري (2) و بدليل قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/49] وهذا المفهوم أكده الرسول صلّى الله عليه وسلم في قوله: «الناس سواء كأسنان المُشط» (3) . «أيها الناس ، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد،كلكم لآدم وآدم من تراب، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى» (4) «كرم الرجل: دينه، ومروءته، وعقله وحسبه وخلقه» (5) .
__________(4/48)
(1) مبادئ نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الحميد متولي: ص 822. (2) تفسير ابن كثير: 218/4، تفسير الخازن: 190/6، التشريع الجنائي الإسلامي : 316/1، الديمقراطية الإسلامية للدكتور عثمان خليل ص 35، مبادئ نظام الحكم، المرجع السابق: ص 827.
(3) أخرجه ابن لال والديلمي عن سهل بن سعد، والحسن بن سفيان وأبو بشر الدولابي والعسكري في الأمثال عن أنس (كشف الخفا للعجلوني وغيره).
(4) رواه البيهقي عن جابر بن عبد الله وقال: في إسناده بعض من يجهل، ولأحمد عن أبي نضرة في معناه (الترغيب والترهيب: 612/3، مجمع الزوائد: 266/3-273).
(5) رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة (مجمع الزوائد: 251/10).
وطبق الرسول عليه الصلاة والسلام المبدأ أولاً على نفسه، فأعد نفسه للقوَد (القصاص) ممن جلده أو شتمه أو أخذ منه ماله بغير حق (1) ، وكذلك فعل أبو بكر وعمر وبقية الخلفاء الراشدين، وكان الخليفة الراشدي يعلن مبدأ المساواة بصراحة في أول خطبة سياسية يلقيها بعد توليه الخلافة. وكان هذا المبدأ أهم المبادئ التي جذبت قديماً نحو الإسلام الكثير من الشعوب الأخرى، كما لاحظ بعض المستشرقين (2) .
ولا شك أن تحقيق ا لمساواة منوط باختصاص الحكومات لا باختصاص الأفراد، لاحتياج المبدأ إلى سلطان يقرره وقوة تحميه وتنفذ محتواه دون تحيز، ومع تجرد عن الأهواء والغايات الشخصية، قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ما يزع السلطان أكثر مما يزعهم القرآن) (3) .
85 - والخلاصة: أن الإسلام يحرص على حماية حقوق الإنسان سواء في دار الإسلام أم في دارالحرب، ويحترم في الواقع مفاهيم الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة والإخاء والتعاون والمساواة بين كل الناس، فتتعاون الدولة الإسلامية مع غيرها عند الدخول في علاقات تجارية ونحوها مع البلدان الأخرى، أو أثناء الإقامة بدار الحرب، أو وقت الاحتكاك بالشعوب أثناء الفتوح، أو عند اجتياز الحربيين لبلادنا وتمتعهم بالأمان فيها.
وهذا على عكس ما عليه الوضع الدولي الحاضر عند النظر إلى الواقع الملموس، فقد فقدت المبادئ المذكورة كثيراً من معانيها، وأصبحت معاييرها مضطربة، وصار وجودها في المواثيق والأذهان مقصوراً على الناحية النظرية والمزايدات الإعلامية أو الدعائية في هيئة الأمم وتوابعها. أما في الواقع فإن مصالح الدول الكبرى أو الطرف الأقوى دائماً هي القائمة فعلاً، بل إن بعض تلك الدول تمارس أبشع ألوان التمييز العنصري في داخل بلادها أو في مستعمراتها في إفريقية.
__________
(1) هذا معنى حديث رواه الفضل بن عباس (الكامل لابن الأثير: 154/2).
(2) الدكتور عبد الحميد متولي، المرجع السابق: ص 823.
(3) أخرجه رزين عن يحيى بن سعيد رحمه الله (جامع الأصول: 469/4) ويزع: يردع.
المطلب الثاني: وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة الإسلامية وأهدافها :
تمهيد :
86 - إن حفاظ الإسلام على السلم العالمي ودعمه، وحرصه على نشر دعوته السلمية، وفكرته عن وحدة البشرية تجعل منه نظاماً عالمياً صالحاً للاهتداء بتعاليمه في المجتمع، إذ إن نظرته الإنسانية للناس تتخطى حدود القوميات الضيقة، وعصبيات الجنس واللون والوطن، ولأن اعتقاده بوحدة الدين في أصل الرسالات السماوية يشيع جواً ودياً من التسامح.
وأما تشريع الجهاد فيه فهو في حدود الضرورة أو الحاجة كالدفاع عن حرية العقيدة والدعوة والعبادة، أو دفع الظلم عن المستضعفين، أو إزالة الفتنة والفساد في الأرض، لذا فإن الإسلام يقاوم حروب العدوان أو حروب الاستعمار من أجل فتح مناطق النفوذ أو السيطرة على أسواق العالم.
وعلى الدولة المسلمة أن تتعاون مع غيرها من الدول المخلصة في كل مجال يخدم سعادة الإنسان ويحقق الخير للبشرية.
ويتجلى ذلك من كلامنا عن وظائف الدولة الآتية في النطاق الخارجي:
1 - التعاون مع المخلصين من غير المسلمين :
87 - لا حرج في الإسلام من قيام الدولة المسلمة بالتعاون مع المخلصين من غير المسلمين، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم أتباع الديانات الأخرى، وذلك من أجل تحقيق الخير المشترك والدفاع عن المصالح العامة، والتعاون على إقامة العدل، ونشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك، ولو على شروط يبدوفيها بعض الإجحاف، عملاً بالمثل الرائع الذ ي وضعه لنا الرسول صلّى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: «والله لا تدعوني قريش إلى خُطة يسألوني فيها صلة الرحم ويعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» (1) .(4/49)
والدليل أن القرآن حدد لنا أسلوب الدعوة ومنهاجها، فجعلها دعوة بالحجة والبرهان في قوله تعالى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل:125/16] وطالبنا بحماية المشركين عبدة الأوثان ورعايتهم حين إقامتهم بدار الإسلام، وانتقالهم إلى مأمنهم في قوله سبحانه: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة:6/9] . وكذلك حدد القرآن علاقة المسلمين بغيرهم فجعلها مبادلة سلم بسلم قي قوله تعالى: {وإن جنحوا للسَّلْم فاجنح لها وتوكل على الله } [الأنفال:61/8]. {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلَم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} [النساء:90/4].
بل ندب القرآن المسلمين إلى أن يكون موقفهم من غير المسلمين موقف بر ورحمة وعدل وقسط قي قوله عز وجل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8/60].
__________
(1) نيل الأوطار: 34/8، سنن أبي داود: 113/3.
88 - ومما يلقي الضوء على أنه لا مانع شرعاً من التعاون مع غير المسلمين تحديد موقف الإسلام من الديانات الأخرى. وخلاصة القول: إن علاقته بالديانات السماوية إما علاقة تصديق وإقرار كلي في صورتها الأولى، أو علاقة تصديق في بعض أجزائها وتصحيح لما طرأ عليها في صورتها الحالية. وهذا هو شأنه أمام كل رأي وعقيدة، وكل شريعة وملة، حتى الديانات الوثنية تتحدد علاقة الإسلام بها بطابع الإنصاف والتبصر والمحاجة والإقناع والتحليل كما هو شأن القرآن معها (1) .
إن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يلتقون مع المسلمين في وحدة المصدر الديني وأصول العقيدة كما جاء في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...} [الشورى:13/42] قال الدهلوي: (اعلم أن أصل الدين واحد اتفق عليه الأنبياء عليهم السلام، وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج...الخ) (2) .
وقال صلّى الله عليه وسلم : «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (3) .
__________
(1) انظر بحث الدكتور محمد عبد الله دراز (موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها) الذي قدمه إلى الندوة العالمية للإسلاميات في لاهور ـ باكستان في يناير (كانون الثاني) عام 1958 وهو منشور في مجلة (لواء الإسلام) العدد الحادي عشر. السنة الحادية عشرة.
(2) حجة الله البالغة: 68/1.
(3) رواه البخاري عن أبي هريرة (صحيح البخاري: 25/5).
وانطلاقاً من وحدة الأصل الديني سارع بعض أهل الكتاب إلى الإيمان كما حكى القرآن: {بلى من أسلم وجهه لله ، وهو محسن، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} [البقرة:112/2] . {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} (:1) .
وبالرغم من أن الإسلام أو القرآن جاء {مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} [المائدة:48/5] فإنه لا يكرَه أحد من أهل الكتاب وغيرهم على الإسلام لقوله تعالى: {قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، فإن تولوا فقولوا، اشهدوا بأنا مسلمون} (2) .
89 - وأما غير أهل الكتاب فتحدد علاقة الإسلام بدياناتهم باستبقاء ما فيها من عناصر الحق والخير والسنة الصالحة. وتنحية ما فيها من عناصر الباطل والشر والبدعة.
ويمكن التعاون معهم سلمياً بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل المعاهدة معهم وعاملهم معاملة أهل الكتاب، فقال عن المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (3) واستعان الرسول صلّى الله عليه وسلم أثناء هجرته إلى المدينة بعبد الله بن أرقط (أو أريقط) وهو من المشركين، بأن استأجره ليرشده مع صاحبه أبي بكر على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأن إليه (4) . وكذلك طلب الرسول عليه الصلاة والسلام من سراقة بن
__________
(1) البقرة: 62 ـ ومثلها في في آل عمرن: 113-114.
(2) [آل عمران:64/3] وآيات أخرى مثل: { لا إكراه في الدين } [البقرة:256/2].
(3) رواه الشافعي عن عمر رضي الله عنه (نيل الأوطار: 56/8).
(4) سيرة ابن هشام: المجلد الأول: 488.
مالك بن جُعْشم أن يعمي الخبر عنه وعن صاحبه لقاء الأمان الذي أمنه عليه، والاستغفار الذي سأله منه (1) .
واستعار الرسول صلّى الله عليه وسلم أيضاً يوم حنين أدرعاً من من صفوان بن أمية وهو يومئذ مشرك (2) واستعان كذلك في هذه المعركة للاشتراك في الجهاد بجماعة من المشركين تألَّفهم من الغنائم (3) .(4/50)
وبناء عليه أجاز فقهاء الحنفية والشافعية والزيدية والهادوية الاستعانة بالكفار والمشركين في القتال (4) مستدلين باستعانته صلّى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع وأنه رضخ لهم (5) ، وباستعانته صلّى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين، وبإخباره صلّى الله عليه وسلم أنه ستقع من المسلمين مصالحة الروم، ويغزون جميعاً عدواً وراء المسلمين.
وأجمع الفقهاء على جواز الاستعانة بالمنافقين والفساق، لاستعانته صلّى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وأصحابه (6) .
والخلاصة: إن الإسلام لا يتوانى لحظة واحدة عن سعيه لإقامة علاقات طيبة مع غير المسلمين لتحقيق التعاون البنَّآء في سبيل الخير والعدل والبر والأمن وحماية الحرمات ونحو ذلك.
__________
(1) المرجع السابق: ص 489.
(2) المرجع السابق: 440/2.
(3) سبل السلام: 50/4.
(4) ر : للتفصيل / جهاد، علماً بأن السيادة والراية تكون للمسلمين لا لغيرهم.
(5) أخرجه أبو داود في المراسيل وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلاً (نيل الأوطار: 223/7) والرضخ: العطية القليلة بشيء من الغنيمة.
(6) نيل الأوطار: 223/7 وما بعدها، سبل السلام: 49/4، البدائع: 101/7، مغني المحتاج: 222/4، البحر الزخار: 389/5، الميزان للشعراني: 181/2، الإفصاح لابن هبيرة: ص 438.
2 - الدعوة إلى الإسلام :
90 - ليس الإسلام فاتراً ولا منطوياً على نفسه، كما زعم بعض الكتاب الغربيين، وإنما الدعوة إلى الحق والخير وعقيدة التوحيد ركن أصيل من أركان الإسلام، والنشاط في هذه الدعوة فريضة مستمرة في كل زمان ومكان، فيأمر الله نبيه بتبليغ رسالته، كما تبين في وظيفة إعداد الدعاة (1) ، وبأن يبذل جهده في هذا التبليغ، فقال سبحانه: {وجاهدهم به جهاداً كبيراً} [الفرقان:52/25] وكان برسل الدعاة إلى الآفاق كما أوضحت، والقرآن يحرِّض المؤمنين على هذه الدعوة: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } [فصلت:33/41] بل يجعل الفلاح في الدار الآخرة وقفاً على هؤلاء الدعاة: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/3] {والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر:1/103-3].
91 - وواجب الدولة الإسلامية أصيل أيضاً في هذا المجال، باعتبار أن ولي الأمر يمثل جانب الخلافة عن الرسول عليه السلام في هذا الشأن، كما كان يفعل الخلفاء الراشدون ومن بعدهم. خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال في خطبته: (إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي، أقصه منه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدَّب بعض رعيته، أتقصه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده إلا أقُصُّه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقص من نفسه) (2) .
__________
(1) ر : ف/70.
(2) جامع الأصول: 467/4، سيرة عمر بن الخطاب: 226/1.
وقال ابن قيم: الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين وأتباعه من العالمين، كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف:12/ 108] (1) .
وهناك آية أخرى توضح واجب الدعوة على أتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم من الحكام والأفراد لعموم الخطاب فيها، وهي قوله عز شأنه: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام:19/6]. أي لأنذركم وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم، فالإنذار مباشرة للسامع ولمن بلغه السامع، ويؤكده قول النبي صلّى الله عليه وسلم : «نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فأداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (2) فمهمة الفقيه الخطيرة تتمثل في الدعوة والتبليغ عن وعي وإدراك، لذا قال عليه الصلاة والسلام: «ما عُبد الله بشيء أفضل من الفقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد، وعماد الدين الفقه) (3) .
3 - دفع شبهات أعداء الإسلام :
92 - إن من أهم واجبات ولاة الأمور هو المحافظة على الدين وعقائده، وإيضاح الشبهات وحل المشكلات ورد المفتريات وتزييف البدع، كما ذكر الماوردي في واجبات الإمام التي بينتها سابقاً.
وطريق ذلك إعداد العلماء المختصين وبث الدعاة في بلاد الإسلام قياماً بالواجب الكفائي. قال النووي في منهاجه: (ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحجج العلمية (1) وحل المشكلات في الدين ودفع الشبهة) (2) وأضاف الشارح: وأما الآن وقد ثارت البدعة ولا سبيل إلى تركها تلتطم، فلا بد من إعداد مايدعى به إلى الملك الحق، وتحل به الشبهة، فصار الاشتغال بأدلة المعقول وحل الشبهة من فروض الكفايات .
__________
(1) أعلام الموقعين: 8/1، ط السعادة.
(2) حديث متواتر رواه الترمذي وغيره من أصحاب السنن عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره (النظم المتناثر من الحديث المتواتر للعلامة جعفر الحسني الكتاني).(4/51)
(3) رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة (الفتح الكبير).
---------------
(( قلت : هناك خلط كبير في فقه الجهاد عند الدكتور ، وقد رددت عليه بكتاب مطول ))
==============
مفهوم دار الإسلام ودار الحرب وحكم الهجرة منها
ساهم فى كتابته مشرف الموقع
Saturday, 30 September 2006
ما المقصود بدار الحرب، ومتى يُطلق على منطقة بأنها دارُ حربٍ، وهل تُقام فيها الحدود؟ ومتى تجب الهجرة؟
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:جاء في كتاب "بيان للناس الصادر عن الأزهر " أنَّ تقسيم البلاد إلى دار كُفْرٍ وإسلامٍ أمر اجتهاديٌّ من واقع الحال في
زمان الأئمة المجتهدين، وليس هناك نصٌّ فيه من قرآنٍ أو سنةٍ.
والمحقُّقون من العلماء قالوا: إن مدار الحكم على بلدٍ بأنه بلدُ إسلامٍ أو بلد حرب هو الأمن على الدين، حتى لو عاش المسلم في بلد ليس له دين، أو دينه غير دين الإسلام، ومارس شعائر دينه بحريَّةٍ
فهو في دار إسلام، بمعنى أنه لا تجب عليه الهجرة منها.
وذكر المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة في رسالة عن نظرية الحرب في الإسلام رأيين للفقهاء في دار الإسلام ودار الحرب. ثم اختار رأيَ أبي حنيفة وهو : أن مدار الحكم هو أمن المسلم، فإن كان آمنًا بوصف كونه مسلمًا فالدار دار
إسلام، وإلا فهي دار حرب. وقال: إنه الأقرب إلى معنى الإسلام، ويوافقُ الأصلَ في فكرة الحروب الإسلامية وأنها لدفع الاعتداءِ . انتهى.وبخصوص الحدود قال فريق من الفقهاء منهم أبو حنيفة: إذا غَزَا أمير أرض الحرب
فإنه لا يُقيم للحد على أحد من جنوده في عسكره، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبه ذلك، فيقيم الحدود في عسكره، وحجَّتهم أن إقامتها في دار الحرب قد تحمل المحدود على الالتحاقِ بالكفر.وقد نصَّ على
عدم إقامتها أحمد وإسحاق بن راهويهِ والأوزاعيُّ وغيرهم، وعليه إجماع الصحابة، وكان أبو محجن الثقفيّ لا يُطيق الصبر عن شرب الخمر، فشربها بالقادسية فحبسه أمير الجيش سعد بن أبي وقاص وأمر بتقييده، ثم طلب من امرأة سعد أن تُطْلِقَه ليشترك في المعركة
وتعهد بالعودة إلى الحبس، وكان ذلك، ولما عرف سعد بلاءه في الحرب عفا عنه، فتاب عن الخمر.ورأى جماعة آخرون عدم الفرق بين إقامة الحدود في دار الإسلام وغيرها، ومنهم مالك والليث بن سعد.
وبعد، فهذا سؤال تقليديٌّ عن الحدود قضت به ظروفً كان المسلمون فيها أصحاب قوةٍ وسلطان يفتحون البلاد بالإسلام، فهل يمكن في ظروفنا الحاضرة أن يكون لنا هذا الوضع؟
هذا، ويثار هنا سؤال عن حكم إقامة المسلم في بلاد المشركين، ورأى الإسلام في الجاليات الإسلامية.
روى أبو داود والترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " أنا برئ من كل مسلم يُقيم بين أَظْهُرِ المشركين". وهذا الحديث يلتقي مع الآيات التي تحثُّ على الهجرة من مكةَ إلى المدينة، وتنعي على
من يستطيعون الهجرة ولا يهاجرون، ومنها قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (سورة النساء : 97).والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باقيةٌ إلى يوم القيامة، لكن هل هي واجبةٌ أم مندوبةٌ؟ قال العلماء:
إن خاف المسلم على دينه وخُلُقِهِ أو على ماله وَجَبَ أنْ يُهاجرَ، وإنْ لم يَخَفْ لم تَجِب الهجرة، وتكون سُنَّةً. لكنْ قال المحققون: إذا وَجَدَ المسلم أن بقاءَهُ في دار الكفر يُفيد المسلمين الموجودين في دار
الإسلام، أو يُفيد المسلمين الموجودين في دار الكفر بمثلِ تعليمِهِمْ وقضاءِ مصالحهم، أو يُفيد الإسلامَ نفسَهُ بنشرِ مبادئِهِ والرد على الشُّبَهِ الموجهَّةِ إليه ـ كان وُجُودُهُ في هذا المجتمع أفضلَ من هجره، ويتطلب
ذلك أن يكون قويَّ الإيمانِ والشخصيةِ والنفوذِ حتى يُمْكِنَهُ أنْ يَقومَ بهذه المهمة. وقد كان لبعض الدعاةِ والتجار في الزمن الأوَّلِ أَثَرٌ كبير في نشر الإسلام في بلاد الكفر .ويقول فضيلة الشيخ فيصل مولوي نائب رئيس
المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء :إنّ دار الحرب مصطلح فقهي استعمله الفقهاء في مرحلة معيّنة من التاريخ الإسلامي للدلالة على بلاد خارج دار الإسلام وليس بينها وبين دار
الإسلام عهد، وبناء على ذلك فإنّ دار الحرب من الناحية الواقعية لا يمكن أن توجد إلاّ بعد وجود دار الإسلام. وفي هذه الحالة فإنّ الحاكم المسلم في دار الإسلام هو الذي يحدّد دار
الحرب ودار العهد.ومن ناحية ثانية فإنّ بلاد المسلمين تتفاوت اليوم في اعتبارها دار إسلام أو لا. فالقليل منها كما هو معروف يحتكم إلى الشريعة الإسلامية في أكثر تشريعاته. وأكثرها يحصر التزامه بالأحكام الشرعية في(4/52)
مسائل الأحوال الشخصية منها. وهناك عدد آخر ولو كان قليلاً يرفض الخضوع للأحكام الشرعية حتّى في مجال الأحوال الشخصية، وبالتالي فإنّ دار الإسلام بالمعنى الفقهي لا تنطبق على كثير من
الدول الإسلامية.لكنّنا نميل إلى اعتبار جميع البلاد الإسلامية، وهي البلاد التي تقطنها أكثرية إسلامية، نميل إلى اعتبارها دار إسلام بحيث يجب إنزال أحكام دار الإسلام عليها والسعي
لدى الحكّام إلى تطبيق جميع الأحكام الشرعية. وانطلاقاً من هذا الواقع فإنّنا نعتقد أنّ الدول الإسلامية، أي الحكّام، هم الذين من شأنهم أن يحدّدوا دار الحرب أو دار العهد. وقد اتفق جميع حكّام
المسلمين بعد دخولهم في مواثيق الأمم المتحدة على اعتبار دول العالم كلّها دولاً معاهدة وليست دار حرب.والله أعلم المصدر : موقع إسلام أون لاين
الإسلام في الغرب
http://www.islaminthewest.n
=============
هل تجوز له الهجرة إلى أوربا إذا لم يستطع إظهار دينه في بلده ؟
سؤال:
في بلدنا تمنع السلفية ويمنع التمسك بالأحكام الشرعية كاللحية وتقصير الثياب والصلاة في المسجد وخاصة الفجر والكلام بما يخالف المذهب المعمول به هنا وغير ذلك أريد أن أسأل عن الهجرة شروطها ومتى تجب ؟ وما هي الأماكن التي يهاجر إليها والتي لا يهاجر إليها ؟ وهل تجوز الهجرة إلى أوروبا وأمريكا ؟ كما أن البلدان العربية والإسلامية لا تسمح بالهجرة إليها .
الجواب:
الحمد لله
أولا :ذكر أهل العلم أن من أقسام الهجرة المشروعة : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، ومن دار البدعة إلى دار السنة ، ومن الأرض التي يغلب عليها الحرام ، والهجرة فرارا من الأذى في البدن أو المال أو الأهل .
قال ابن العربي المالكي رحمه الله : " الهجرة وهي تنقسم إلى ستة أقسام :
الأول : الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرها من أنواعها ، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان .
الثاني : الخروج من أرض البدعة ، قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : لا يحل لأحد أن يقيم ببلد يسب فيها السلف .
وهذا صحيح ، فإن المنكر إذا لم يقدر على تغييره نزل عنه ، قال الله تعالى : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) الأنعام/68 .
وقد كنت قلت لشيخنا الإمام الزاهد أبي بكر الفهري : ارحل عن أرض مصر إلى بلادك فيقول : لا أحب أن أدخل بلادا غلب عليها كثرة الجهل وقلة العقل ، فأقول له : فارتحل إلى مكة أقم في جوار الله وجوار رسوله ، فقد علمت أن الخروج عن هذه الأرض فرض لما فيها من البدعة والحرام ، فيقول : وعلى يدي فيها هُدَى كثير وإرشاد للخلق وتوحيد وصد عن العقائد السيئة ودعاء إلى الله عز وجل .
الثالث : الخروج عن أرض غلب عليها الحرام ؛ فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم .
الرابع : الفرار من الإذاية في البدن ، وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه ، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور ، وأول من حفظناه فيه الخليل إبراهيم عليه السلام لما خاف من قومه قال : ( إني مهاجر إلى ربي ) العنكبوت/26 ، وقال : ( إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) الصافات/99 وموسى قال الله سبحانه فيه : ( فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ) القصص/21
الخامس : خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة ، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاء حين استوخموا المدينة أن يتنزهوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا ، وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
السادس : الفرار خوف الأذية في المال ، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، والأهل مثله أو آكد " انتهى من "أحكام القرآن" (1/611) باختصار . ولا شك أن هذه المقاصد متفاوتة في الحكم بحسب حال الشخص ، فقد تجب وقد تستحب .
والمتحصل من كلام أهل العلم أن الهجرة تجب على من عجز عن إظهار دينه ، واستطاع الهجرة . وأما من قدر على إظهار دينه ، فلا تجب عليه الهجرة ، وكذلك من عجز عن إظهار دينه وعجز عن الهجرة ، فقد عذره الله تعالى .
قال ابن قدامة رحمه الله مبينا أصناف الناس في حكم الهجرة : " فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب :(4/53)
أحدها: من تجب عليه , وهو من يقدر عليها , ولا يمكنه إظهار دينه , ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار , فهذا تجب عليه الهجرة ; لقول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) . وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب . ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه , والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته , وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
الثاني: من لا هجرة عليه . وهو من يعجز عنها , إما لمرض , أو إكراه على الإقامة , أو ضعف ; من النساء والولدان وشبههم , فهذا لا هجرة عليه ; لقول الله تعالى : ( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) . ولا توصف باستحباب ; لأنها غير مقدور عليها .
والثالث : من تستحب له , ولا تجب عليه . وهو من يقدر عليها , لكنه يتمكن من إظهار دينه , وإقامته في دار الكفر , فتستحب له , ليتمكن من جهادهم , وتكثير المسلمين , ومعونتهم , ويتخلص من تكثير الكفار , ومخالطتهم , ورؤية المنكر بينهم . ولا تجب عليه ; لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة . وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه " . انتهى من "المغني" (9/236).
ثانيا :علم مما تقدم أنه إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه ، فإنه تجب عليه الهجرة عند القدرة ، فإن لم يستطع لعجزه أو مرضه أو عدم وجود جهة تسمح بانتقاله إليها ، فهو معذور ، وفرضه أن يتقي الله ما استطاع ، ويجتهد في أداء ما يستطيعه من أمور دينه ؛ قال الله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة/286، وقال : ( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) الأنعام/152.
وإذا لم توجد بلد يمكن فيها إظهار الدين كاملا - ممن تسمح بالهجرة إليها - ، فإنه يُبحث عن الأمثل فالأمثل ، وهذا من تقوى الله تعالى ، وامتثالِ أوامره ، وفعلِ الممكن المستطاع .
ثالثا :إذا لم توجد دولة إسلامية يمكن الانتقال إليها ، وكان العيش في أوروبا أو أمريكا ، مما يمكّن المسلم من إظهار دينه ، أو ينجو فيه من الأذى المتوقع على بدنه أو أهله أو ماله ، بحيث يكون العيش فيها آمن من العيش في بلده الأصلي ، فلا حرج في ذلك ، على أن يقتصر على الإقامة دون أخذ الجنسية ، لما يترتب على أخذها من محظورات كبار ، وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء سؤالا نصه:
كثير من المسلمين الذين يقدمون إلى هذه الديار ينوون الإقامة وكذلك يحصلون على الجنسية الأمريكية فهل يجوز لهم ذلك علما بأنها ديار كفر وشرك وانحلال فكيف يعطون ولاءهم لحكومتها بالتنازل عن جنسية بلادهم الإسلامية وقبول جنسية هذه البلاد فما حكم الإسلام في ذلك علما بأنهم يبررون ذلك بنشر الإسلام؟
فأجابت: "لا يجوز لمسلم أن يتجنس بجنسية بلاد حكومتها كافرة ، لأن ذلك وسيلة إلى موالاتهم والموافقة على ما هم عليه من الباطل.
أما الإقامة بدون أخذ الجنسية فالأصل فيها المنع لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرا. إلا المستضعفين...) النساء/97، 98.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين المشركين ) ولأحاديث أخرى في ذلك، ولإجماع المسلمين على وجوب الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام مع الاستطاعة. لكن من أقام من أهل العلم والبصيرة في الدين بين المشركين لإبلاغهم دين الإسلام ودعوتهم إليه، فلا حرج عليه إذا لم يخش الفتنة في دينه، وكان يرجو التأثير فيهم وهدايتهم "انتهى" .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي..... عبد الله بن قعود
"فتاوى اللجنة الدائمة" (2/69).
وجوَّزَ بعض أهل العلم أخذ الجنسية في حالة الاضطرار ، كالمطارد الذي لا يجد مأوى إلا في هذه البلاد ، قال الشيخ ابن جبرين حفظه الله : " من اضطر إلى طلب جنسية دولة كافرة كمطارد من بلده ولم يجد مأوى فيجوز له ذلك بشرط أن يظهر دينه ويكون متمكنا من أداء الشعائر الدينية ، وأما الحصول على الجنسية من أجل مصلحة دنيوية محضة فلا أرى جوازه.
والله أعلم" وللأهمية يراجع جواب السؤال رقم ( 13363)
نسأل الله تعالى أن يظهر دينه ، ويعلي كلمته ، ويحفظنا وإياكم والمسلمين بحفظه
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
===============
حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم؟
سؤال:
ما حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم الذي يأتي للبلاد الأوروبية فارّاً بدينه من الظلم الذي وقع عليهه في بلده الأصلي،، وفقد فيه هويته، وفقد أمل الرجوع إلى وطنه .
الجواب:(4/54)
الحمد لله
للجواب على هذا السؤال يلزم بيان أمرين :
الأول : كون الإقامة في بلد الكفار جائزة .
الثاني : قيام الحاجة إلى أخذ الجنسية . تفصيل الأمر الأول : الإقامة في بلاد الكفار لا تجوز إلا بالشروط الآتية :
1- وجود الحاجة الشرعية المقتضية للإقامة في بلادهم ولا يمكن سدّها في بلاد المسلمين ، مثل التجارة ، والدعوة ، أو التمثيل الرسمي لبلد مسلم ، أو طلب علم غير متوفر مثله في بلد مسلم من حيث الوجود، أو الجودة والإتقان ، أوالخوف على النفس من القتل أو السجن أو التعذيب ، وليس مجرد الإيذاء والمضايقة ، أو الخوف على الأهل والولد من ذلك، أوالخوف على المال .
2- أن تكون الإقامة مؤقتة ، لا مؤبّدة ، بل ولا يجوز له أن يعقد النية على التأبيد ، وإنما يعقدها على التأقيت؛ لأن التأبيد يعني كونها هجرة من دار الإسلام إلى دار الكفر، وهذا مناقضة صريحة لحكم الشرع في إيجاب الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام . ويحصل التأقيت بأن ينوي أنه متى زالت الحاجة إلى الإقامة في بلد الكفار قطع الإقامة وانتقل .
3- أن يكون بلد الكفار الذي يريد الإقامة فيه دار عهد ، لا دار حرب ، وإلا لم يجز الإقامة فيه . ويكون دار حرب إذا كان أهله يحاربون المسلمين .
4- توفر الحرية الدينية في بلد الكفار، والتي يستطيع المسلم بسببها إقامة شعائر دينه الظاهرة .
5- تمكنه من تعلم شرائع الإسلام في ذلك البلد . فإن عسر عليه لم تجز له الإقامة فيه لاقتضائها الإعراض عن تعلم دين الله .
6- أن يغلب ظنه بقدرته على المحافظة على دينه، ودين أهله وولده . وإلا لم يجز له؛ لأن حفظ الدين أولى من حفظ النفس والمال والأهل . فمن توفرت فيه هذه الشروط -وما أعسر توفرها- جاز له أن يقيم في بلاد الكفار ، وإلا حرم عليه؛ للنصوص الصريحة الواضحة التي تحرم الإقامة فيها، وتوجب الهجرة منها ، وهي معلومة ، وللخطورة العظيمة الغالبة على الدين والخلق ، والتي لا ينكرها إلا مكابر .
ثانياً : تحقق الحاجة الشرعية لأخذ الجنسية ، وهي أن تتوقف المصالح التي من أجلها أقام المسلم في دار الكفار على استخراج الجنسية ، وإلا لم يجز له ، لما في استخراجها من تولى الكفار ظاهراً ، وما يلزم بسببها من النطق ظاهراً بما لا يجوز اعتقاده ولا التزامه، كالرضا بالكفر أو بالقانون ، ولأن استخراجها ذريعة إلى تأبيد الإقامة في بلاد الكفار وهو أمر غير جائز - كما سبق - فمتى تحقق هذان الأمران فإني أرجو أن يغفر الله للمسلم المقيم في بلاد الكفار ما أقدم عليه من هذا الخطر العظيم ، وذلك لأنه إما مضطر للإقامة والضرورة تتيح المحظورة ، وإما للمصلحة الراجحة على المفسدة ، والله أعلم .
الشيخ: خالد الماجد عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة في جامعة الإمام مححمد بن سعود الإسلامية) .
=============
هل تجوز السرقة من الكفار ؟
سؤال:
هل يحرم على المسلم المقيم في بلاد الكفار أن يسرقهم ؟ وبالطبع ، فإن الشخص الذي أتحدث عنه لا يعاني من الجوع الشديد ، كما أنه لا يحتاج للأغراض التي يسرقها ، وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن أن يأمن إلى حد ما ، أي فرد يعيش كمسلم في هذا البلد ، كما أن الاضطهاد فيه ليس قويّاً .
الجواب:
الحمد لله
لا يجهل أحدٌ أن السرقة من كبائر الذنوب ، وقد جعل الله تعالى حدَّها قطع اليد ، ولم تفرق الشريعة بين مال الذكر ومال الأنثى ، ولا بين مال الصغير ومال الكبير ، ولا بين مال المسلم ومال الكافر ، ولم تستثن الشريعة إلا أموال الكفار المحاربين للمسلمين .
والواجب على المسلم أن يكون مثالاً حسناً للأمانة والوفاء بالعهد وحسن الأخلاق ، وقد كان اتصاف المسلمين بهذه الصفات سبباً لدخول الكثير من الكفار في الإسلام لمّا رأوا محاسن الإسلام وحسن خلق أهله .
وإن المسلم الذي يستحل مال الكفار سواء كان في بلاد المسلمين أم في بلادهم ليقدِّم للكفار خدمة جليلة لتشويه الإسلام والمسلمين ، وهو يعين بذلك أصحاب الحملات التي تطعن في الإسلام .
والمسلم إذا دخل بلاد الكفار فإنه يدخلها بعهد وأمان - وهي التأشيرة التي تعطى له لتمكنه من دخول بلادهم - فإذا أخذ أموالهم بغير حق فإنه يكون بذلك ناقضاً للعهد فضلاً عن كونه من السارقين .
والمال الذي سرقه منهم محرم فعن المغيرة بن شعبة أنه كان قد صحب قوماً في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الإسلام أقبلُ ، وأما المال فلستُ منه في شيء " ، ورواية أبي داود : " أما الإسلام فقد قبلنا ، وأما المال فإنه مال غدرٍ لا حاجة لنا فيه ".
رواه البخاري ( 2583 ) وأبو داود ( 2765 ) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود ( 2403 )
قال الحافظ ابن حجر :(4/55)
قوله " وأما المال فلستُ منه في شيءٍ " أي : لا أتعرض له لكونه أخذه غدراً ، ويستفاد منه : أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً ؛ لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة ، والأمانة تؤدَّى إلى أهلها مسلِماً كان أو كافراً ، وأن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة ، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان أن يسلم قومه فيرد إليهم أموالهم .
" فتح الباري " ( 5 / 341 ) .
قال الشافعي - رحمه الله - : وإذا دخل رجل مسلم دار الحرب بأمان .. وقدر على شيء من أموالهم لم يحل له أن يأخذ منه شيئاً قلّ أو كثر؛ لأنه إذا كان منهم في أمان فهم منه في مثله، ولأنه لا يحل له في أمانهم إلا ما يحل له من أموال المسلمين، وأهل الذمة ، لأن المال ممنوع بوجوه :
أولها إسلام صاحبه .
والثاني مال من له ذمة .
والثالث مال من له أمان إلى مدة أمانه وهو كأهل الذمة فيما يمنع من ماله إلى تلك المدة .
" الأم " ( 4 / 284 ) .
وقال السرخسي - رحمه الله - : أكره للمسلم المستأمِن إليهم في دينه أن يغدر بهم لأن الغدر حرام، قال صلى الله عليه وسلم : " لكل غادر لواء يركز عند باب أسته يوم القيامة يعرف به غدرته "، فإن غدر بهم وأخذ مالهم وأخرجه إلى دار الإسلام كرهت للمسلم شراءه منه إذا علم ذلك لأنه حصله بكسب خبيث ، وفي الشراء منه إغراء له على مثل هذا السبب وهو مكروه للمسلم ، والأصل فيه حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حين قتل أصحابه وجاء بمالهم إلى المدينة فأسلم ، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمس ماله ، فقال : " أما إسلامك فمقبول ، وأما مالك فمال غدر فلا حاجة لنا فيه " .
" المبسوط " ( 10 / 96 ) .
والله أعلم.
الإسلام سؤال وجواب
=============
هل تقام صلاة الجمعة في دار الحرب ؟ أو دار الكفر ؟
سؤال:
لو قلنا إن بلداً من البلاد دار حرب أو دار كفر ، فهل تجب الجمعة فيها ؟ أو بمعنى آخر هل يجب أن نجمع لصلاة الجمعة في دار الحرب أو الكفر ؟.
الجواب:
الحمد لله
فرض الله تعالى صلاة الجمعة على المسلمين المستوطنين في مدينة أو قرية ، ونهى عن التشاغل عنها ببيع أو شراء أو نحوهما ، لعموم قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) الجمعة/9 ، ولما ثبت من حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ، أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره : ( لينتهن أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين ) مسلم 2/591 . ولإجماع الأمة على ذلك وليس في الشريعة دليل صحيح يدل على اختصاص افتراضها بدار الإسلام دون دار الحرب فوجب على المسلمين المستوطنين في دار الكفر أن يؤدوا صلاة الجمعة إذا توافرت شروطها عملاً بعموم نصوص الكتاب والسنة الدالة على أنها فرض عين على المسلمين بشروطها المعتبرة شرعاً .
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 8/186
=============
من عقوبات ترك الجهاد في سبيل الله
سؤال:
هل هناك عقوبة معينة يستحقها من ترك الجهاد في سبيل الله ؟.
الجواب:
الحمد لله
ورد في الأمر بالجهاد في سبيل الله ، والترهيب من تركه الكثير من الآيات والأحاديث .
وإذا ترك المسلمون الجهاد في سبيل الله ، وآثروا حياة الدعة والراحة ، وركنوا إلى الدنيا ، أصابهم الذل والهوان ، وفسدت أمورهم ، وعرضوا أنفسهم لمقت الله تعالى وغضبه . وتعرض الإسلام للضياع ، وطغيان الكفر عليه . ولذلك كان ترك الجهاد من كبائر الذنوب .
قال ابن حجر في "الزواجر" :
(الكبيرة التسعون والحادية والثانية والتسعون بعد الثلاثمائة ترك الجهاد عند تعينه ، بأن دخل الحربيون دار الإسلام أو أخذوا مسلماً وأمكن تخليصه منهم . وترك الناس الجهاد من أصله . وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين) اهـ .
ولذلك صار معلوما ومقررا عند الصحابة أنه لا يقعد عن الجهاد إذا كان فرض عين إلا ضعيف معذور أو منافق ، وهذا ما يحكيه كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن تبوك : (فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ) . رواه البخاري (4066) ومسلم (4973) .
وقد بينت تلك الأدلة بعض ما يترتب عليه من عقوبات ، فمنها :
1- ترك الجهاد سبب للهلاك في الدنيا والآخرة .
أما في الدنيا فإن الجبان الرعديد يكون ذليلاً مستعبداً تابعا غير متبوع . وأما في الآخرة فترك الجهاد سبب لعذاب الله تعالى .
قال الله تعالى : (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة/195 .(4/56)
روى الترمذي (2972) عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ : كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ! فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلامَ ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإِسْلامَ ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ وَإِصْلاحِهَا ، وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ . فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. وصححه الألباني في صحيح الترمذي .
قال في "تحفة الأحوذي" :
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِإِلْقَاءِ الْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الإِقَامَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكُ الْجِهَادِ اهـ .
2- ترك الجهاد سبب للذل والهوان .
روى أبو داود (3462) عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ) . صححه الألباني في صحيح أبي داود .
ولقد صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فإن الناظر إلى أحوال المسلمين اليوم يرى أنهم قد فرطوا في دينهم تفريطا عظيما . . فأكلوا الربا ، وركنوا إلى الدنيا ، وتركوا الجهاد في سبيل الله . فماذا كانت النتيجة ؟!! ألزمهم الله الذل في أعناقهم ، فهم يلجأون إلى الشرق أو الغرب خاضعين ذليلين يطلبون منهم النصر على الأعداء ، وما عرف أولئك أن الذل لا يرفع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
وصدق الله العظيم : ( بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) النساء/138-139 .
3- وترك الجهاد سبب لنزول العذاب في الدنيا والآخرة .
روى أبو داود (2503) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ لَمْ يَغْزُ ، أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا ، أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ ، أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . حسنه الألباني في صحيح أبي داود .
والقارعة هي الدَاهِيَة المُهْلِكَة التي تأتي فجأة , يقال : قَرَعَهُ أَمْرٌ إِذَا أَتَاهُ فَجْأَة .
وقال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38) إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التوبة/38-39 .
"وليس العذاب الذي يتهددهم هو عذاب الآخرة فقط ، بل عذاب الدنيا والآخرة ، عذاب الذل الذي يصيب القاعدين عن الجهاد ، عذاب الحرمان من الخيرات التي يستفيد منها العدو الكافر ويحرمها أهلها ، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الجهاد ، ويقدمون على مذابح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء ، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة أضعاف ما كان يتطلبه منها جهاد الأعداء" اهـ . الظلال (3/1655) .
وقال السعدي رحمه الله ص (532) :(4/57)
(يا أيها الذين آمنوا) ألا تعملون بمقتضى الإيمان ، ودواعي اليقين ، من المبادرة لأمر الله ، والمسارعة إلى رضاه ، وجهاد أعدائه لدينكم ، فـ ( مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض ) أي : تكاسلتم ، وملتم إلى الأرض والدعة والكون فيها .
( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) أي : ما حالكم إلا حال من رضي بالدنيا ، وسعي لها ، ولم يبال بالآخرة فأنه ما آمن بها .
( فما متاع الحياة الدنيا ) التي مالت بكم ، وقدمتموها على الآخرة ( إلا قليل ) أفليس قد جعل الله لكم عقولاً ، تزنون بها الأمور وأيها أحق بالإيثار ؟
أفليست الدنيا ـ من أولها إلى آخرها ـ لا نسبة لها في الآخرة .
فما مقدار عمر الإنسان القصير جداً من الدنيا ، حتى يجعله الغاية ، التي لا غاية وراءها فيجعل سعيه ، وكده وهمه وإرادته لا يتعدى الحياة الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار المشحونة بالأخطار .
فبأي رأي رأيتم إيثارها على الدار الآخرة ، الجامعة لكل نعيم التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وأنتم فيها خالدون . فوالله ما آثر الدنيا على الآخرة من وقر الإيمان في قلبه ، ولا من جزل رأيه ، ولا من عُدَّ من أولى الألباب ، ثم توعدهم على عدم النفير فقال :
(إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً )
في الدنيا والآخرة ، فإن عدم النفير في حال الاستنفار من كبائر الذنوب الموجبة لأشد العقاب ، لما فيه من المضار الشديدة فإن المتخلف قد عصى الله تعالى ، وارتكب لنهيه ، ولم يساعد على نصر دين الله ، ولا ذَبَّ عن كتاب الله وشرعه ، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوهم ، الذي يريد أن يستأصلهم ، ويمحق دينهم ، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان ، بل ربما فَثّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء الله ، فحقيق بمن هذا حاله أن يتوعده الله بالوعيد الشديد ، فقال : (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً ) فإنه تعالى متكفل بنصرة دينه وإعلاء كلمته ، فسواء امتثلتم لأمر الله أو ألقيتموه وراءكم ظهرياً .
( والله على كل شيء قدير ) لا يعجزه شيء أراده ، ولا يغالبه أحد اهـ .
نسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً . وأن يرفع عنهم الذل والهوان .
والله تعالى أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
=============
رد الأموال المسروقة إلى أصحابها الكفار
سؤال:
بدأت الصلاة مؤخرًا وأسعى إلى التوبة من أعمالي السيئة التي اقترفتها في الماضي . وأعلم أن من شروط التوبة رد المظالم إلى أصحابها المسلمين . فماذا عن غير المسلمين ؟ قالوا لي إن مثلهم رفض الإسلام وبالتالي لا كرامة لهم . فإذا كنت قد سرقت من شخص غير مسلم ، فهل يجب رد الحق إليه علمًا بأني قد أتعرض بسبب هذا إلى مضايقات جنائية من قِبل غير المسلمين ؟ وماذا ينبغي أن أفعل مع هذه الأشياء التي اغتصبتها من غير المسلمين ؟.
الجواب:
الحمد لله
أولاً : نهنئك بمحافظتك على الصلاة وسعيك إلى التوبة ، ونبشرك بأن الله تعالى يقبل توبة من تاب إليه ويغفر ذنبه ، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) رواه الترمذي وحسنه الألباني .
ثانياً : لا شك أن السرقة كبيرة من كبائر الذنوب وقد رتب الله عليها الحد في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة .
قال الله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ ) المائدة/38 . وقال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ ) . رواه البخاري (6783) ومسلم (1687) .
والسرقة حرام سواء كان المسروق منه مسلماً أم كافراً معصوم الدم والمال ، أما الكافر المحارب للمسلمين فيجوز أخذ ماله ، لأن ذلك في حالة الحرب يعتبر غنيمة ولا يعتبر سرقة .
ثالثاً : أما أخذ أموال الكفار على سبيل الغدر والخيانة فهو محرم ، لأن الغدر محرم في الإسلام سواء مع المسلم أم مع الكافر .
روى البخاري (2583) عن المغيرة بن شعبة أنه كان قد صحب قوماً في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الإسلام أقبلُ ، وأما المال فلستُ منه في شيء " ، ورواية أبي داود (2765) : " أما الإسلام فقد قبلنا ، وأما المال فإنه مال غدرٍ لا حاجة لنا فيه ) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
قال الحافظ ابن حجر : " قوله ( وأما المال فلستُ منه في شيءٍ ) أي : لا أتعرض له لكونه أخذه غدراً ، ويستفاد منه : أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً ؛ لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة ، والأمانة تؤدَّى إلى أهلها مسلِماً كان أو كافراً ، وأن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة ، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان أن يسلم قومه فيرد إليهم أموالهم . فتح الباري ( 5 / 341 ) .(4/58)
ومن أمثلة الغدر أن يكون الكافر قد دخل بلاد المسلمين بأمان ، أو دخل المسلم بلاد الكفار بأمان (كالتأشيرة) فإن مقتضى هذه التأشيرة أنهم يؤمنونه على نفسه وماله ، وفي هذه الحال يكونون هم أيضاً في أمان منه على أنفسهم وأموالهم ، فلا يجوز له الاعتداء عليهم أو غصب أموالهم أو سرقتها .
قال الشافعي رحمه الله فيمن دخل بلاد الكفار واستطاع أن يأخذ شيئا من أموالهم : ": وإذا دخل رجل مسلم دار الحرب بأمان .. وقدر على شيء من أموالهم لم يحل له أن يأخذ منه شيئاً قلّ أو كثر؛ لأنه إذا كان منهم في أمان فهم منه في مثله، ...، ولأن المال ممنوع بوجوه : أولها : إسلام صاحبه . والثاني : مال من له ذمة . والثالث : مال من له أمان إلى مدة أمانه". الأم ( 4 / 284 ) .
وقال السرخسي : :" أكره للمسلم المستأمِن إليهم في دينه أن يغدر بهم لأن الغدر حرام . . . فإن غدر بهم وأخذ مالهم وأخرجه إلى دار الإسلام كرهت للمسلم شراءه منه إذا علم ذلك لأنه حصله بكسب خبيث ، وفي الشراء منه إغراء له على مثل هذا السبب وهو مكروه للمسلم ، والأصل فيه حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه . . . ثم ذكر الحديث السابق". المبسوط ( 10 / 96 ) .
فإذا وفق اللهُ المسلمَ للتوبة من أخذ أموال الناس بغير حق ، فمن شروط هذه التوبة إرجاع الحقوق إلى صاحبها وإن كان كافرا، فإن كان هناك خوف من الفضيحة أو مضايقات جنائية في رد الحقوق إلى أهلها فإنه يجوز له أن يبحث عن الطريقة المناسبة التي تحفظ له كرامته ويُرجع فيه الحق لأهله من غير أن يحرج نفسه بأن يرسل له المبلغ بالبريد أو يوكل أحدا بإبلاغه دون أي يذكر اسمه وسرقته وذلك لأنه لا يشرط على من أراد أن يرجع الحقوق لأهلها أن يكشف عن نفسه وهويته ؛ إذ المقصود هو رجوع الحق إلى صاحبه .
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله : "… فإذا سرقتَ من شخصٍ أو من جهة ما سرقة : فإن الواجب عليك أن تتصل بمن سرقت منه وتبلغه وتقول إن عندي لكم كذا وكذا ، ثم يصل الاصطلاح بينكما على ما تصطلحان عليه ، لكن قد يرى الإنسان أن هذا الأمر شاق عليه وأنه لا يمكن أن يذهب - مثلاً - إلى شخص ويقول أنا سرقت منك كذا وكذا وأخذت منك كذا وكذا ، ففي هذه الحال يمكن أن توصل إليه هذه الدراهم - مثلاً - من طريق آخر غير مباشر مثل أن يعطيها رفيقاً لهذا الشخص وصديقاً له ، ويقول له هذه لفلان ويحكي قصته ويقول أنا الآن تبت إلى الله - عز وجل - فأرجو أن توصلها إليه". فتاوى إسلاميَّة ( 4 / 162 ) .
ويراجع للأهمية جواب سؤال رقم ( 7545 ) ( 14367 ) ( 31234 ) من هذا الموقع .
الإسلام سؤال وجواب
============
حكم شراء بيت بالربا في بلاد الكفر
سؤال:
أنا امرأة متزوجة ومنذ فترة تحسن عمل زوجي كثيرا والحمد لله ولكن بدلا من أن يشكر زوجي -هداه الله- الله عز و جل على هذه النعمة يصر على شراء بيت عن طريق الأقساط الربوية لقوله إن كثيراً من العلماء أجازوا ذلك لمن يعيش في بلد غير مسلم ، فهل أطلب الطلاق أم أبقى مع زوجي والإثم عليه وحده ؟ وهل أكون آثمة إذا قمت باختيار بيت غالي الثمن لكي يشعر زوجي بأنه غير قادر على دفع أقساط عالية ويرتدع عن شراء بيت ربوي؟ أرجوكم لا تهملوا هذا السؤال لأنه مهم جدا . ماذا أفعل هل أطلب الطلاق أم ماذا؟ أرجوكم انصحوني فأنا حائرة جدا لأنه عندنا ولد.
الجواب:
الحمد لله
أولا :
لا يجوز شراء بيتٍ أو غيره عن طريق الربا ، سواء كان ذلك في بلاد إسلامية أو غير إسلامية ؛ لعموم الأدلة التي تحرّم الربا وتلعن آكله وموكله ، وهذا مذهب جمهور أهل العلم .
وذهب الحنفية إلى أنه يجوز أخذ الربا من الحربيين في دار الحرب، وتصحيح كل عقد أو معاملة تعود على المسلم بنفع ما دامت قائمة على التراضي، وليس فيها غش ولا خيانة.
قال الكاساني في "بدائع الصنائع" (7/132) : " وعلى هذا إذا دخل مسلم أو ذمي دار الحرب بأمان , فعاقد حربيا عقد الربا أو غيره من العقود الفاسدة في حكم الإسلام جاز عند أبي حنيفة , ومحمد - رحمهما الله - وكذلك لو كان أسيرا في أيديهم أو أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا , فعاقد حربيا ... وجه قولهما: أن أخذ الربا في معنى إتلاف المال , وإتلاف مال الحربي مباح , وهذا لأنه لا عصمة لمال الحربي , فكان المسلم بسبيلٍ من أخذه إلا بطريق الغدر والخيانة , فإذا رضي به انعدم معنى الغدر " انتهى .
وقال ابن الهمام في "فتح القدير" (7/39) : " الظاهر أن الإباحة تفيد نيل المسلم الزيادة , وقد التزم الأصحاب في الدرس أن مرادهم من حل الربا والقمار ما إذا حصلت الزيادة للمسلم نظرا إلى العلة " انتهى .
وينظر : تبيين الحقائق (4/97)، العناية شرح الهداية (7/38)، حاشية ابن عابدين (5/186).
وقد تبين من هذا أن الحنفية يجيزون أخذ الربا من الكافر الحربي - في دار الحرب - ؛ لأن ماله مباح أصلا ، فيجوز أخذه برضاه عن طريق الربا .
وأما أن يدفع المسلم الربا للكافر ، فهذا لا يجوز .
وبهذا يتبين خطأ من يفتي المسلمين بدفع الربا في بلاد الكفر ، اعتمادا على مذهب الحنفية .(4/59)
والحق أن الربا كله محرم ، لا فرق بين أن يكون بين مسلمَيْن ، أو بين مسلم وكافر ، وآكل الربا وموكله كلاهما متوعَّد بالوعيد الشديد ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) البقرة/278-279 .
وروى مسلم (1598) عن جابر رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء .
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (4/47) : " ويحرم الربا في دار الحرب , كتحريمه في دار الإسلام . وبه قال مالك , والأوزاعي , وأبو يوسف , والشافعي , وإسحاق ...
لقول الله تعالى : ( وحرم الربا ). وقوله : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) . وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ) . وقوله صلى الله عليه وسلم ( : من زاد أو ازداد فقد أربى ). عام , وكذلك سائر الأحاديث . ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب , كالربا بين المسلمين " انتهى باختصار .
ثانيا :
إذا أصر زوجك على التعامل بالربا ، فإن الإثم يلحقه هو ، ولا يضرك ذلك ما دمت كارهة لعمله ، ولهذا لا ينبغي أن تطلبي الطلاق ، ولكن استمري في نصحه وتحذيره من الوقوع في هذه الكبيرة العظيمة ، وذكريه بأن ما عند الله خير وأبقى ، وأن سكن الإنسان بالأجرة ولو كانت مرتفعة خير له من امتلاك منزل عن طريق الربا .
ولا حرج في استعمال الحيلة التي ذكرت ، من التظاهر بالرغبة في شراء بيت غالي الثمن ، لا يتمكن من دفع أقساطه ، لينصرف عن الربا .
نسأل الله لكما التوفيق والسداد ، والرضا والقناعة ، وأن يصرف عنكما الربا وإثمه وهمّه وسوء عاقبته .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
=============
تمنع من لبس الحجاب فكيف تخرج للعمل وقضاء الحوائج؟
سؤال:
سؤالي حول الحجاب فالمرأة عندنا ممنوع عليها لبس الحجاب وتعامل معاملة سيئة إضافة إلى أنه مرفوض دخولها إلى شغلها وإلى عديد الأماكن مثل مركز الشرطة ...إلا ولا بد أن تخلع حجابها فما الحل وخاصة عندما نكون مجبرات لقضاء مصلحتنا وخاصة في العمل ؟
الجواب:
الحمد لله
أولا :
لبس المرأة للحجاب أمام الرجال الأجانب فريضة محكمة دل عليه الكتاب والسنة والإجماع ، فلا يجوز لأحد أن يأمر بخلاف ذلك ، ولا أن يمنع من أرادت امتثال ذلك ، وإلا كان مضادا لله تعالى في أمره ، محادا له في شرعه ، قال الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) الأحزاب/36 ، وقال سبحانه : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) النساء/115، وقال عز وجل : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء/65 .
ثانيا :
لا يجوز للمرأة أن تتهاون في هذه الفريضة ، ولا أن تخرج من بيتها كاشفة عن شيء من بدنها ، إلا أن تضطر لذلك اضطرارا يبيح الحرام ، كأن تُستدعى لمقر الشرطة ، ولا يمكنها التخلف عن الحضور لما يترتب على ذلك من مفسدة معتبرة في نفسها أو مالها .
وأما الخروج للعمل ، فإذا كانت غير مضطرة إليه ؛ لوجود الكفاية بنفقة زوجها أو والدها أو من تلزمه نفقته من قريب غيره ، فلا يجوز له الخروج للعمل إذا كان سيترتب عليه خلع الحجاب .
وعلى المسلمين أن يتعاونوا في هذا الأمر ، وأن يغنوا المسلمات عن الاضطرار لهذا الخروج المشتمل على المعصية ، وذلك بدعوة الآباء والأقارب للإنفاق والبذل ، وتوفير بعض الأعمال النافعة التي يقوم بها النساء من داخل بيوتهن ، وإغناؤهن عن الخروج لأي مطلب يترتب عليه نزع حجابهن وتعرضهن للأذى بلبسه .
وهذا يتوقف على اقتناع الرجال بفريضة الحجاب ، وإلا فكثير منهم لا يبالي بذلك ، ولا يهتم به ، ومنهم من يحرص على إخراج زوجته وبنته للعمل ، ومنهم لا يقبل الزواج إلا ممن تعمل ، ولو كان عملها يقتضي ترك الحجاب ، وهذا الجهل والتقصير من الرجال يعتبر من أكبر أسباب المشكلة ، وأسباب التقصير في علاجها ، فينبغي السعي في نشر هذا العلم ، والتذكير به ، والتربية عليه ، حتى يحرص كل رجل على صيانة أهله ومن يعول ، ويعلم أنه مسئول غدا عن هذه الأمانة ، أحفظ أم ضيّع ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ) رواه البخاري (7150) ومسلم (142).(4/60)
بل يتعين على المسلمين السعي في إزالة هذا المنكر ، واتخاذ كافة الوسائل المتاحة في ذلك ، عن طريق الهيئات والمجامع والنقابات وغيرها ، لترفع الفتنة والمحنة عن نسائهم ، وتتمكن كل مسلمة من ارتداء حجابها ، ولا ينبغي اليأس أو التقاعس عن هذا الواجب ، فكم من حقوق مسلوبة عادت لأهلها بالصبر والمجاهدة والمثابرة .
ثالثا :
من ضاقت عليها السبل ، ولم تجد بدا من الخروج للعمل لكونها لا تجد من ينفق عليها ، وتضطر مع ذلك لخلع الحجاب ، فإن قدرت على الهجرة إلى بلد تتمكن فيه من إظهار دينها ، والتزام أمر ربها ، وجب عليها ذلك .
فقد ذكر ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/612) :
"أن الهجرة واجبة من دار الكفر إلى دار الإسلام .
ومن الأرض التي انتشرت بها البدعة ، قال الإمام مالك رحمه الله : "لا يحل لأحد أن يقيم ببلد يُسب فيها السلف" .
ومن الأرض التي غلب عليها الحرام ، فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم".
والهجرة قد لا يستطيعها كل أحد ، ولا تعتبر حَلاًّ لجميع المسلمات .
فمن كانت في حاجة ملحة للخروج من بيتها للعمل أو إنهاء بعض الإجراءات ونحو ذلك وكان الأمر مقصورا على كشف الوجه فقط ، فنرجو أن لا يكون عليها في ذلك حرج .
والواجب السعي الجاد لحل هذه المشكلة حلا كاملا ، كما سبق ، وذلك بمناصحة المسئولين ، ومطالبتهم بهذا الحق الديني والشخصي ، وعلى الدعاة إلى الله وأهل العلم أن يبينوا للناس أن الحجاب فريضة محكمة فرضها الله تعالى على نساء المسلمات .
والعجب كل العجب أننا نرى تلك الحرب الضروس على الحجاب ، رمز العفة والطهارة ، وفي الوقت ذاته نرى فتح الباب على مصراعيه أمام الماجنات والعاهرات .
فصبراً أيتها المؤمنات ، فإن سلعة الله غالية ، وليأتين اليوم الذي يظهر فيه دين الله على سائر الأديان (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون) التوبة/33 ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
نسأل الله تعالى أن يبرم لأمته أمرا رشدا يعز فيه أهل الطاعة ، ويذل فيه أهل المعصية ، وأن يوفقك وسائر المسلمات إلى التمسك بالحجاب ، وترك التبرج والسفور .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
===============
إذا وجد كنزا أو ركازا في دار الكفر
سؤال:
أعيش في دولة غير إسلامية وعثرت على مالٍ كان مدفونا بالتراب بمنطقة ألعاب ، ويبدو أن المال كان هناك منذ أعوام . فما الذي يجب عليَّ القيام به؟
الجواب:
الحمد لله
المال المدفون إذا كان عليه علامة تدل على أنه للكفار ، ومن ذلك عملاتهم التي يتداولونها ، فهذا يسمى : الركاز ، وقد اختلف الفقهاء فيمن وجد الركاز في دار الكفر ، وقد دخلها بأمان :
1- فذهب بعضهم إلى أنه يملكه ، ولا يلزمه فيه شيء ، وهذا مذهب الحنفية .
2- وذهب آخرون إلى أنه يملكه ، ويخرج الخُمس ، وهذا مذهب الحنابلة وابن حزم .
3- وذهب آخرون إلى أنه لا يملكه بل يرده على أهل البلد ، وهذا مذهب الشافعية .
قال في "الهداية" من كتب الحنفية : " ومن دخل دار الحرب بأمان فوجد في دار بعضهم ركازا رده عليهم ، تحرزا عن الغدر ; لأن ما في الدار في يد صاحبها خصوصا ، وإن وجده في الصحراء فهو له ; لأنه ليس في يد أحد على الخصوص فلا يعد غدرا ولا شيء فيه " انتهى.
قال ابن الهمام في شرحه : " قوله : ( في الصحراء ) أي أرض لا مالك لها " انتهى من "فتح القدير" (2/238).
وينظر : المبسوط (2/215) ، تبيين الحقائق (1/290).
ونقل النووي في "المجموع" (6/51) عن الرافعي أنه قال : " أما إذا دخل دار الحرب بأمان فلا يجوز له أخذ الكنز لا بقتال ولا بغيره . كما [ أنه ] ليس له خيانتهم في أمتعتهم , فإنه يلزمه رده " انتهى .
وينظر : روضة الطالبين (2/289) ، شرح البهجة الوردية (2/144) .
وقال ابن حزم في "المحلى" (5/385) : " ومن وجد كنزا من دفن كافر غير ذمي - جاهليا كان الدافن , أو غير جاهلي - فأربعة أخماسه له حلال , ويقسم الخمس حيث يقسم خمس الغنيمة , وسواء وجده في فلاة في أرض العرب , أو أرض عَنْوة [ أي : فتحها المسلمون بالقوة ] , أو أرض صلح ; أو في داره , أو في دار مسلم , أو في دار ذمي , أو حيث ما وجده حكمه سواء كما ذكرنا " انتهى مختصرا .
وانظر : "شرح منتهى الإرادات" (2/147)
والذي يظهر والله أعلم هو رجحان القول الأخير ، فمن وجد ركازا في دار الإسلام أو غيرها ، فهو له ، مع إخراج الخمس ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ ) رواه البخاري (1499) ومسلم (1710).
وهذا الخمس يصرف في مصرف الفيء وهو المصالح العامة للمسلمين ، ويُعطى منه للمساكين واليتامى وأبناء السبيل وأقارب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم بنو هاشم .
وبناء على ذلك ، فيلزمك إخراج خمس هذا المال ، وما بقي فهو لك .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
=============
دار الكفر ودار الإسلام وقاطنيها
[الكاتب: أبو محمد المقدسي](4/61)
ونقول بقول الفقهاء عن الدار إذا علتها أحكام الكفر وكانت الغلبة فيها للكفار وشرائعهم؛ إنها دار كفر.
ولكننا نعتقد؛ بأن هذا اصطلاح لا دخل له في الحكم على قاطني الديار في ظل غياب دولة الإسلام وسلطانه، وتغلب المرتدين وتسلطهم على أزمة الحكمة في بلاد المسلمين، فإن هذا المصطلح يطلق على الدار إذا علتها أحكام الكفر، وإن كان أكثر أهلها مسلمين، كما يطلق مصطلح "دار الإسلام" على الدار التي علتها أحكام الإسلام، وإن كان أكثر أهلها كفار، ما داموا خاضعين لحكم الإسلام - ذمة -
فلا نؤصل على هذه المصطلحات أصولاً فاسدة، كما يفعل غلاة المكفرة، كمقولة؛ "الأصل في الناس اليوم الكفر مطلقاً"، ولا نتبنى شيئاً من ذلك، بل نعامل كل امرىء بما ظهر منه ونكل سرائرهم إلى الله، فنعامل من أظهر الإسلام به، ونحكم عليه بالإسلام، ونقول إن الأصل فيمن أظهر شرائع الإسلام؛ الإسلام، ما لم يتلبّس بناقض، وكذلك نعامل من أظهر الكفر والشرك، وتولى المشركين وظاهرهم على الموحدين؛ بما أظهر، حتى يؤمن بالله وحده، ويوحّد في عبادته، وينخلع عما هو فيه من كفر ويبرأ منه.
وحلق اللحى أو التشبه بالكفار ونحوه من المعاصي مما عمت به البلوى وانتشر في هذا الزمان؛ لا يصلح وحده أدلة للتكفير، فليست هذه أسباباً صريحة للتكفير، فلا نستحل بمثلها الدماء والأموال - كما يفعل غلاة المكفرة - "فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر عظيم، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم".
=================
في شروط وموانع وأسباب التكفير
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
هذا واعلم رحمنا الله تعالى وإياك أن لهذا الحكم الشرعي الخطير … شروطاً وموانع وأسباباً يجب عليك مراعاتها والإنتباه إليها ومعرفتها فقد قصر في فهمها وتعلمها واعتباراها أقوام ، فأعملوا سيوف التكفير وأسنته في أمة محمد صلى الله عليه وسلم … ولم يميزوا بين برها وفاجرها وكافرها ..
مع أنه من المعلوم المقرر عند العلماء المحققين ، ( أن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك ، لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين ، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع ..)(1)
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ( أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولاً يطلق ، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية ، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله ، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم ، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير ، وتنتفي موانعه ..) أهـ .من مجموع الفتاوي (35/101)
وقد ذكر رحمه الله تعالى (12/266) أصلين عظيمين في باب التكفير :
- أحدهما : أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن خلاف ذلك كفر على الإطلاق ، فنفي الصفات كفر ، والتكذيب بأن الله يُرى في الآخرة ، أو أنه على العرش أو أن القرآن كلامه أو أنه كلم موسى أو أنه اتخذ ابراهيم خليلا؛ كفر…
- والأصل الثاني : أن تكفير العام - كالوعيد العام - يجب القول بإطلاقه وعمومه ، وأما الحكم على المعين بأنه كافر ، أو مشهود له بالنار ، فهذا يقف على الدليل المعين ، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه ، وانتفاء موانعه …) أهـ
كما ذكر رحمه الله تعالى نزاع المتأخرين في كفر الجهمية ونحوهم ، هل هو كفر ناقل عن الملة أم لا ، ونزاعهم في خلودهم في النار .. ثم قال : ( وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشرع، كلما رأوهم قالوا : ( من قال كذا فهو كافر ) اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين ، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع ، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه …)
ثم ذكر مباشرة الإمام أحمد للجهمية الذين فتنوا الناس على القول بخلق القرآن ، و ذكر تعذيبهم له ولغيره .. ثم بين دعاء الإمام أحمد للخليفة واستغفاره لمن ضربه وحبسه .. قال : ( ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الإستغفار لهم ، فإن الإستغفار للكفار لا يجوز …) إلى قوله :
(… وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية ، الذين يقولون القرآن مخلوق ، وإن الله لا يرى في الآخرة ، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوماً معينين ، فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر .
أو يحمل الأمر على التفصيل ، فيقال من كفره بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير ، وانتفت موانعه ، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه ،(2) هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم ) أهـ مجموع الفتاوى (12/261-262) .
ثم شرع في سرد الأدلة على بعض موانع التكفير ..(4/62)
أضف إلى هذا أن الشارع قد ربط الأحكام الشرعية – ومن ذلك التكفير- بأسبابها الظاهرة المنضبطة وجوداً وعدماً .. فالحكم في الشريعة يدور مع علته أو سببه حيث دار ، ولا يوجد إلا بوجوده ..
ولكي تكون على البينة من دينك في هذا الأمر الخطير ، فها أنا أسرد لك هنا شروط وموانع وأسباب التكفير على وجه الإجمال ، وسيأتي المزيد من التفصيل والتمثيل لذلك في فصل أخطاء التكفير ، إذا هو تطبيق وتفصيل لذلك .
شروط وموانع التكفير
• أولاً : الشروط :
- الشرط شرعاً : (هو ما لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، لكن يلزم من عدمه عدم المشروط ).
أو قل ، هو في موضوعنا ، ما يتوقف وجود الحكم بالتكفير على وجوده ، فلا يلزم من وجوده وجود الحكم ، ولكن يلزم من عدمه عدم الحكم بالتكفير أو بطلانه .
فالإختيار مثلاً ، شرط من شروط التكفير ، (وهو يقابل مانع الإكراه ) ، فإذا عدم الإختيار عدم الحكم بالتكفير ، ولا يلزم من وجود الإختيار أن يقع المرء بالكفر ويختاره .
وتنقسم شروط التكفير ، ثلاثة أقسام :
- القسم الأول : شروط في الفاعل ؛ وهي أن يكون :
1- مكلفاً (بالغاً ،عاقلاً )
2- متعمداً قاصداً لفعله .
3- مختاراً له بإرادته .
وهذا القسم سيأتي الكلام عليه فيما يقابله من الموانع ، إذا الموانع تقابل الشروط كما سيأتي .
القسم الثاني : شروط في الفعل (الذي هو سبب الحكم وعلته)
ويجمعها ؛ أن يكون الفعل مكفراً بلا شبهة :
1- أن يكون فعل المكلف أو قوله صريح الدلالة على الكفر .
2- وأن يكون الدليل الشرعي المكفر لذلك الفعل أو القول صريح الدلالة على التكفير أيضاً ..
وهذا القسم بشرطيه سيأتي بيانه وذكر أمثلة عليه في ( أخطاء التكفير ) في التكفير بالمحتملات .
- القسم الثالث : شروط في إثبات فعل المكلف ، وذلك بأن يثبت بطريق شرعي صحيح ، لا بظن ، ولا بتخرص ولا بالاحتمالات أو بالشكوك ..
- ويكون ذلك :
- أما بالإقرار ، أي الإعتراف .
- أو بالبينة : شهادة عدلين .
وسيأتي الكلام عليه في أخطاء التكفير أيضاً
• ثانياً : الموانع :
- فالمانع وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده عدم الحكم ، ولا يلزم من عدمه وجود الحكم أو عدمه )
- فالإكراه مانع من موانع التكفير ، فيلزم من وجوده –أي إن أكره المرء على الكفر – عدم الحكم بالكفر أو بطلانه ، ولا يلزم من عدم وجود الإكراه أن يوجد ، أو لا يوجد الكفر .. أي : لا يلزم في حال اختيار المكلف وعدم وقوعه تحت الإكراه ، أن يفعل أو لا يفعل الكفر ، بل قد يفعل أو قد لا يفعل .
وبتعبير آخر ، المانع ( هو الوصف الوجودي الظاهر المنضبط الذي يمنع ثبوت الحكم )(3)
- والموانع ضد الشروط ، أو مقابلة لها ، فيجوز أن يكتفى في الذكر بالموانع وحدها ، أو بالشروط وحدها، فما كان عدمه شرطاً فوجوده مانع .
- فعدم الشرط مانع من موانع الحكم ، وعدم المانع شرط من شروطه ، هذا عند جمهور الأصوليين.(4)
- ولذلك فالموانع أيضاً تنقسم كالشروط إلى ثلاثة أقسام ، تقابل تماماً أقسام الشروط :
• القسم الأول : موانع في الفاعل :
وهي ما يعرض له فيجعله لا يؤاخذ بأقواله وأفعاله، وهي التي تعرف (بعوارض الأهلية ) وهي قسمان :
-أ – عوارض يسمونها سماوية لأنها لا دخل للعبد في كسبها ، كالصغر والجنون والعته والنسيان، فهذه العوارض ترفع الإثم والعقوبات عن صاحبها لارتفاع خطاب التكليف عنه بها .
وإنما يؤاخذ بحقوق العباد ، كقيم المتلفات والديات ونحوها ، لأنه من خطاب الوضع.
ويقابل هذه العوارض أو الموانع من الشروط :
شرط البلوغ ويقابل عارض الصغر
وشرط العقل ويقابل الجنون والعته
وشرط العمد ويقابل النسيان .
-ب- عوارض مكتسبة : وهي التي للعبد نوع اختيار في اكتسابها :
(1) الخطأ : بما يؤدي إلى سبق اللسان ( أي : انتفاء القصد) فينطق بالكفر وهو لا يقصد ولا يريد القول أو العمل المكفر نفسه ، بل يقصد شيئاً غيره .
وهذا العارض أو المانع يبطل ما يقابله من شرط العمد .
ودليله قوله تعالى (( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن ما تعمدت قلوبكم)) (50) الأحزاب ، ويدل عليه أيضاً حديث الرجل الذي أضل راحلته في أرض قفر ، فلما وجدها قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك) ( أخطأ من شدة الفرح) كما قال صلى الله عليه وسلم .(5)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين – وإن أخطأ وغلط- حتى تقام عليه الحجة ، وتبين له المحجة ، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ) أهـ مجموع الفتاوي (12/250)(4/63)
وقد تكلم ابن القيم رحمه الله تعالى في اعلام الموقعين (3/65-66) عن هذا المانع وقرر أن انتفاء القصد مانع من موانع التكفير المعتبرة ، واستدل بقول حمزة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : ( هل أنتم إلا أعبد لأبي )(6) قال : ( وكان نشواناً في الخمر ، فلم يكفره صلى الله عليه وسلم بذلك ، وكذلك الصحابي الذي قرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون ) وكان ذلك قبل تحريم الخمر (7) . ولم يعد بذلك كافراً لعدم القصد ، وجريان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه .
فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه ، فتجني عليه وعلى الشريعة وتنسب إليها ما هي بريئة منه .) أهـ ص66
وقال أيضاً فيه (3/117) : ( ولم يرتب { أي الشارع } تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها ولم يحط بها علماً ، بل تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل به أو تكلم به ، وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة به ، إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة إليه ، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم ، هذه قاعدة شرعية وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته ) أهـ
• فائدة : يمكن أن يستدل لمانع (انتفاء القصد ) أيضاً بما هو ثابت من اغتفار ما صدر عن بعض نساء النبي صلى الله عليه و سلم بحقه بدافع الغيرة ؛ من أقوال لا يجوز لأحد إطلاقها بحقه صلى الله عليه وسلم.
- فمن ذلك ما رواه البخاري في باب ( هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد ) من كتاب النكاح ، وفيه أنه لما نزل قوله تعالى (( ترجي من تشاء منهن )) : قالت عائشة : ( يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك ) .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ( أي في رضاك ، قال القرطبي هذا القول أبرزه الدلال والغيرة وهو من نوع قولها : (ما أحمدكما ولا أحمد إلا الله ) وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تحمل على ظاهره لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يفعل بالهوى . ولو قالت إلى مرضاتك لكان أليق ، ولكن الغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك ) أهـ .
- ومثله ما رواه أيضاً في كتاب الهبة وفضلها ، باب (من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض ) وفيه قول زينب بنت جحش للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إن نساءك ينشدنك الله ، العدل في بنت أبي قحافة …) فليس هذا من جنس الطعن والأذى الذي كان دافعاً لذي الخويصرة لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إعدل ) .
بل الدافع هنا فرط محبة النبي صلى الله عليه وسلم والغيرة التي جبلت عليها النساء .. والشح بحظهن منه .
قال الحافظ : ( طلبت العدل مع علمها بأنه أعدل الناس ولكن غلبت عليها الغيرة ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاق ذلك ) أهـ .
وقد حكى القاضي عياض في الإكمال عن مالك وغيره ، إن المرأة إذا رمت زوجها بالفاحشة ، على جهة الغيرة لا يجب عليها الحد ، قال واحتج بذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : ( وما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله ) أهـ من الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص61 .
ويتبع هذا المانع ( إنتفاء القصد ) قول الكفر على سبيل الحكاية عن الغير .
- كمن يقرأ كلام الكفار الذي قصه الله تعالى في كتابه ، وقد أمر الله بتلاوة كتابه ، فلا يكفر قارئ ذلك قطعا بل يؤجر .
- وكنقل الشاهد ما سمعه من كفر للقاضي أو غيره .
- وكنقل مقالات الكفار لبيان ما فيها من الفساد أو للرد عليها ، فكل ذلك جائز أو واجب لا يكفر قائله ، ولهذا يقال : (ناقل الكفر ليس بكافر ) بخلاف من حكاه ونقله على سبيل النشر أو الإشاعة على سبيل الإستحسان والتأييد فهذا كفر لا ريب .
قال القاضي عياض تعليقاً على حديث مسلم في الذي انفلتت منه ناقته وعليها طعامه وشرابه في مهلكة ، ثم لما ردها الله عليه ( أخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ) قال : ( فيه أن ما ناله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به ، وكذا حكايته عنه على طريق علمي ، وفائدة شرعية ، لا على الهزل والمحاكاة والعبث ، ويدل على ذلك حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولو كان منكراً ما حكاه والله اعلم)أهـ (9)
وقرائن الحال لها دخل في التفريق والتميز بين هذه الأحوال .
قال القاضي عياض ( أن يقول القائل ذلك حاكياً عن غيره وأثراً له عن سواه ، فهذا ينظر في صورة حكايته مقالته ويختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه : الوجوب ، والندب ، والكراهة ، والتحريم ) أهـ الشفا(2/997-1003)(4/64)
وقال ابن حزم : ( الإقرار باللسان دون عقد القلب لا حكم له عند الله عز وجل ، لأن أحدنا يلفظ بالكفر حاكياً وقارئاً له في القرآن ، فلا يكون بذلك كافراً حتى يقر أنه عقده . قال : فإن احتج بهذا أهل المقالة الأُول - يعني المرجئة والجهمية – وقالوا هذا يشهد بأن الإعلان بالكفر ليس كفرا ، قلنا له وبالله تعالى التوفيق : قد قلنا إن التسمية ليست لنا ، وإنما هي لله تعالى ، فلما امرنا تعالى بتلاوة القرآن ، وقد حكا لنا فيه قول أهل الكفر ، وأخبرنا تعالى انه لا يرضى لعباده الكفر ؛ خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عز وجل والإيمان ، بحكايته ما نص الله تعالى .
{ و لما أمر الله تعالى } (10) بأداء الشهادة بالحق فقال تعالى : ((إلا من شهد بالحق وهم يعلمون )) خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره عن أن يكون بذلك كافرا ؛ إلى رضى الله عز وجل والإيمان … ) أهـ. من الفصل ( 3/249-250)
- ومن ذلك أيضاً أن يتكلم الإنسان بكلام أو ينطق لفظاً لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بذلك حتى يعرف فيتكلم به قاصداً بمعناه بعد قيام الحجة ..
ففي (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ) للعز بن عبد السلام ( فصل فيمن أطلق لفظاً لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه ) قال رحمه الله : ( فإذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو إيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤاخذ بشيء من ذلك ، لأنه لم يلتزم مقتضاه ولم يقصد إليه ، وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه ، فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك ، لأنه لم يريده فإن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون ، وإن قصد العربي بنطق شيء من هذه الكلم مع معرفته بمعانيها نفذ ذلك منه ، فإن كان لا يعرف معانيها ، مثل أن قال العربي لزوجته أنت طالق للسنة أو للبدعة وهي حامل(11) بمعنى اللفظين ، أو نطق بلفظ الخلع أو غيره أو الرجعة أو النكاح أو الإعتاق وهو لا يعرف معناها مع كونه عربياً فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك ، إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصد إلى اللفظ الدال عليه ) أهـ .(2/102).
وانظر أيضاً لابن القيم في إعلام الموقعين (3/75):( لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لم يكفر) .
حيث قال وهو يتكلم في إطلاق ألفاظ الطلاق وأهمية وجود القصد فيها لنفاذ الطلاق : ( وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها مريدا لموجباتها ،كما أنه لا بد أن يكون قاصداً للتكلم باللفظ مريداً له ، فلا بد من إرادتين :
- إرادة التكلم باللفظ اختياراً (12)
- وإرادة موجبه ومقتضاه . (13)
بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ ، فإنه المقصود ، واللفظ وسيلة ، وهو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام ) ، إلى قوله : ( وقال أصحاب أحمد لو قال الأعجمي لامرأته أنت طالق وهو لا يفهم معنى هذا اللفظ ، لم تطلق ، لأنه ليس مختاراً للطلاق ، فلم يقع طلاق كالمكره ، قالوا : فلو نوى موجبه عند أهل العربية(14) لم يقع أيضاً لأنه لا يصح منه اختيار ما لا يعلمه ، وكذلك لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لا يكفر. وفي مصنف وكيع أن عمر بن الخطاب قضى في امرأة قالت لزوجها: سمني ، فسماها الطيبة ، فقالت : لا ، فقال لها ماذا تريدين أن أسميك ؟ قالت: سمني (خلية طالق) . فقال لها : أنت خلية طالق ، فأتت عمر بن الخطاب فقالت : إن زوجي طلقني ، فجاء زوجها فقص عليه القصة ، فأوجع عمر رأسها ، وقال لزوجها : خذ بيدها وأوجع رأسها .
وهذا هو الفقه الذي يدخل على القلوب بغير استئذان ، وإن تلفظ بصريح الطلاق وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) أخطأ من شدة الفرح ، لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر ، لكونه لم يرده ) أهـ (3/76) وانظر أيضاً (4/229)
• تنبيه :
ومن هذا تعرف أننا لا نعني بانتفاء القصد كمانع ما يشترطه كثير من مرجئة العصر كشرط تعجيزي للتكفير ، يعتذرون به لكل طاغوت وزنديق ومرتد ، وهي دعوى ان الإنسان لا يكفر حتى وإن اتى فعلاً أو قولاً مكفراً –عامداً – حتى ينوي ويقصد بذلك الخروج من الدين والكفر به .
وإنما نعني بمانع انتفاء القصد ؛ ( الخطأ ) الذي يقابل العمد في شروط التكفير ، أو عدم إرادة الفعل أو القول المكفر نفسه ، وإرادة شيء آخر غيره … كحكايته والتحذير منه، أو يقوله وهو لا يعرف مدلوله ونحو ذلك مما تقدم ..
أما إرادة الخروج من الدين ، والكفر بذلك الفعل أو القول ، فقّل من يريده أو يصرح به أو يقصده ، حتى اليهود والنصارى ، لو سئلوا ؛ هل يريدون الكفر ويقصدونه بقولهم إن المسيح أو العزيز ابن الله ، أو نحو ذلك من كفرياتهم ؟ لأنكروا ذلك ولنفوا إرادتهم للكفر ..
وكذلك حال كثير من الكفار الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا .. فأكثر الطواغيت وأنصارهم اليوم ، إذا ما عددنا عليهم كفرياتهم ، أنكروا ذلك ، وأبوا أن يقروا بالكفر أو بإرادته أو بقصد الخروج من الدين ، بل يبادرون بتأكيد انهم مسلمون ، ويحتجون بأنهم يصلون ويشهدون أن لا إله إلا الله …(4/65)
وكذلك شأن كفار قريش ، لم يقروا قط بكفرهم ، أو بإرادتهم للكفر بعبادتهم للأوثان بل قالوا ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) .. وعلى العكس ، فقد كانوا يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على دينه بالكفر ، فسموه (الصابئ ) وهكذا حال أكثر الكفار إلا ما شاء الله ..
-كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول ص177-178 : (وبالجملة فمن قال وفعل ما هو كفر ، كفر بذلك ، وإن لم يقصد أن يكون كافراً ، إذا لا يقصد الكفر أحداً إلا ما شاء الله ) أهـ .
وقال أيضاً فيه ص(370) : ( والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب ، فكذلك تتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة ، كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية ؛ وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه ، كما لا ينفع من قال الكفر أن لا يقصد الكفر ) أهـ .
وقد اخبر الله تعالى عن اكثر الكفار أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، بل يرون أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا .
فمن ذلك قوله تعالى : (( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا)) (103-105) الكهف .
- يقول ابن جرير الطبري في تفسيره : ( وهذا من أدل الدلائل على خطأ من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته ..)
إلى قوله : ( ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعة مثابين مأجورين عليه ، ولكن القول بخلاف ما قالوا ؛ فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة ) أهـ ص 44-45 .(ط . دار الفكر )
- وقال رحمه الله تعالى في تهذيب الآثار بعد أن سرد بعض الأحاديث التي تذكر الخوارج: ( فيه الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالماً ) أهـ نقلاً عن فتح الباري ( كتاب استتابة المرتدين ..) (باب من ترك قتال الخوارج..)
- وقال ابن حجر في الباب نفسه : ( وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ، ومن غير أن يختار ديناً على الإسلام ) أهـ
وسيأتي مزيد كلام على هذا في فصل أخطاء التكفير .
- والخلاصة هنا ؛ أن العبرة في اشتراط العمد والقصد وانتفاءه كمانع من موانع التكفير أن يقصد إتيان الفعل المكفر ، لا أن يقصد الكفر به .
(2) التأويل :
والمراد به هنا وضع الدليل الشرعي في غير موضعه باجتهاد ، أو شبهة تنشأ عن عدم فهم دلالة النص ، أو فهمه فهما خاطئا ظنه حقا ، أو ظن غير الدليل دليلا ، كالاستدلال بحديث ضعيف ظنه صحيحا ، فيقدم المكلف على فعل الكفر وهو لا يراه كفرا ، فينتفي بذلك ؛ (شرط العمد ) ، ويكون الخطأ في التأويل مانعاً من التكفير ، فإذا أقيمت الحجة عليه وبين خطؤه فأصر على فعله كفر حينئذ .
ودليل هذا إجماع الصحابة على اعتبار هذا النوع من التأويل من باب الخطأ الذي غفره الله تعالى بالأدلة المتقدمة – وذلك في حادثة قدامة بن مظعون حيث شرب الخمر مع جماعه مستدلاً بقوله تعالى :(( ليس على الذين أمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين )) 93 المائدة ، كما روى ذلك عبد الرزاق في مصنفه … وكان قدامة قد استعمله عمر على البحرين ، فلما شهد عليه أبو هريرة وغيره وشهدت معهم امرأة قدامة أيضاً أنه شرب الخمر أحضره عمر وعزله ، ولما أراد أن يحده استدل بالآية المذكورة فقال عمر : أخطأت التأويل ( أخطأت استك الحفرة )… قال ابن تيمية في الصارم : ( حتى أجمع رأي عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو وأصحابه ، فإن أقروا بالتحريم جلدوا وإن لم يقروا به كفروا ) أهـ ص530 … ثم إن عمر بين له غلطه وقال له : ( أما إنك لو اتقيت لاجتنبت ما حرم عليك ، ولم تشرب الخمر ..)
فرجع ، ولم يكفره بذلك ، بل اكتفى بإقامة حد الخمر عليه ، ولم يخالفه أحد من الصحابة بذلك .
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك ، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك ، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم فإن أصروا كفروا حينئذ ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل ) أ هـ . مجموع الفتاوي (7/609-610)
ويقول أيضاً : ( فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر ، بل قد جعل الله لكل شيء قدراً ) أهـ مجموع الفتاوي (3/180)
فمذهب السلف عدم تكفير المتأولين من أهل القبلة ..
أهل القبلة يدخل فيهم اضافة إلى المسلم السني ؛ الفاسق الملي أهل الأهواء أهل التأويل ..(4/66)
اما الخوارج والمعتزلة ومن سار على دربهم كالزيدية وبعض المتكلمين كالشهرستاني في الملل والنحل فلا يدخلون المتأولين في أهل القبلة .
وقد تقدم ما نقله القاضي عياض في (فصل تحقيق القول في إكفار المتأولين ) من كتابه الشفا (2/277) عن العلماء المحققين قولهم : ( إنه يجب الاحتراز من التكفير في أهل التأويل ، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر ... ) وستأتي الإشارة إلى ما ذكره أيضا في الشفا عمن لا يكفر من أضاف إلى الله ما لا يليق به لا على جهة السب والردة ، ولكن على طريق التأويل أونفي الصفة بدعوى التنزيه ونحوه ..
ويقول ابن الوزير : ( قوله تعالى في هذه الاية الكريمة (( ولكن من شرح بالكفر صدراً )) يؤيد أن المتأولين غير الكفار ، لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعا أو ظناً ، أو تجويزاً أو احتمالاً )اهـ . إيثار الحق على الخلق ص (437)
وأما ما يدفع به بعض الزنادقة والملاحدة ، كفرهم الصريح من سفسطة وتمويه وتلاعب بالدين ، فهو وإن سماه بعض الجهلة تأويلاً .. إلا انه مردود وغير مستساغ ولا مقبول ، وذلك لصراحة كفرهم ووضوحه .. والعبرة للمعاني والحقائق ، لا للأسماء والألفاظ التي يتلاعب بها كثير من أهل الأهواء .. فكم من باطل زخرفه أصحابه ليعارض به الشرع .
ولذلك نقل القاضي عياض في الشفا قول العلماء : ( إدعاء التأويل في لفظ صراح لا يقبل ) أهـ (2/217)
ونص عليه شيخ الإسلام في الصارم المسلول ص (527)
فمن عرفت واشتهرت زندقته وتلاعبه بأدلة الشرع ، أو كان يتعاطى من أسباب الكفر ما هو صريح وواضح ولا يحتمل التأويل ، لم تقبل منه دعوى التأويل فليس ثم إجتهاد وتأويل يسوغ تعاطي الكفر الصريح .. فإنه لا تخلو حجة كافر من الكافرين من تأويلات فاسدة يرقع بها كفره ..
ولذا قال ابن حزم: ( ومن بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من طريق ثابتة ، وهو مسلم فتأول في خلافه إياه ، أو ربما بلغه بنص آخر ، فلم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك ، وفي الأخذ بما أخذ فهو مأجور معذور ، لقصده إلى الحق ، وجهله به ، وإن قامت عليه الحجة في ذلك فعاند ، فلا تأويل بعد قيام الحجة ) أهـ الدرة (414)
ويقول : ( وأما من كان من غير أهل الإسلام من نصراني أو يهودي أو مجوسي ، أو سائر الملل ، أو الباطنية القائلين بإلاهية إنسان من الناس ، أو بنبوة أحد من الناس ، بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يعذرون بتأويل أصلاً ، بل هم كفار مشركون على كل حال ) أهـ الدرة فيما يجب اعتقاده ص (441) .
فيجب التنبه إلى أن قدامة الذي عذر بالتأويل ، كان الأصل فيه الإسلام والصلاح ، فقد كان صحابياً بدرياً ، وهو خال عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين ، وكانت تحته صفية بنت الخطاب أخت عمر ، روى ابن عبد البر في الاستيعاب (3/341) بإسناده عن أيوب بن أبي تميمة قال : ( لم يحد في الخمر من أهل بدر إلا قدامة بن مظعون ) أهـ
ولذلك قال شيخ الإسلام بعد ما ذكر حديث الرجل الذي أوصى بنيه عند موته بحرق جثمانه قال : ( والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من المغفرة من مثل هذا ) أهـ (3/148)
وقد ذكر القاضي عياض في الشفا (2/272وما بعدها ) خلاف السلف في تكفير من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به لا على طريق السب والردة ،بل على طريق التأويل والاجتهاد والخطأ المفضي إلى الهوى والبدعة .
والصواب ما فصله العلماء في ذلك بين التأويل الذي له مسوغ في لغة العرب ، كأن يؤول صفة اليد لله تعالى بالنعمة أو القوة ، فهذا لا يوجب الكفر ، رغم مخالفته للحق الذي كان عليه السلف ، لأن في لغة العرب إطلاق القوة والنعمة على اليد ؛ لذلك عذر المتأول فيه رغم خطئه وانحرافه عن ظاهر نصوص الشرع ، وبين التأويل الذي لا مسوغ له ، كمن أوّل قوله تعالى (( بل يداه مبسوطتان)) مثلاً ، بالحسن والحسين أو بالسماوات والأرض ، فهذا يوجب الكفر لأنه لا يصح في لغة العرب إطلاق اليد على مثل ذلك .
وليس ثم نص شرعي يوجب نقل الحقيقة اللغوية إلى حقيقة شرعية خاصة .. فهو على ذلك من التلاعب في دين الله والإلحاد في أسمائه سبحانه ، وليس من التأويل الذي يعذر صاحبه في شيء .
فتأمل التفريق فإنه مهم ..
وعلى هذا فما كان من التأويل ناشئاً عن محض الرأي والهوى ، دون استناد إلى دليل شرعي ، ولا هو بمستساغ في لغة العرب ، فإنه ليس من الاجتهاد في شيء ، بل هو من التأويل الباطل المردود الذي لا يعذر صاحبه ، إذ هو تلاعب بالنصوص ، وتحريف للدين ، عبر عنه بمسمى التأويل، ولذا قال ابن الوزير : ( لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم ؛ بالضرورة للجميع ، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله ، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى ، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار ) أهـ إيثار الحق على الخلق ص(415) .(4/67)
ومن ذلك قطعاً أصل التوحيد ، الذي يتضمن تجريد العبادة لله وحده بكافة أنواع العبادة ، فنقض هذا الأصل بدعوى التأويل الذي يسوغ الإشراك بالله تعالى واتخاذ الأنداد معه من أوضح الباطل ؛ الذي بعثت الرسل كافة بإبطاله وإنكاره ..
وقد نص العلماء على أن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل شرعي ، ليس من التأويل المستساغ بحال ، إذ بذلك تسلط المتأخرون على النصوص ، وقالوا نحن نتأول ، فسموا التحريف تأويلاً ، تزييناً وزخرفة ليقبل منهم (15)… وقد ذم الله تعالى من يزخرف الباطل ويزينه ليلبس أمره على الناس فقال تعالى :
((وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)) الأنعام (112).
• وعلى كل الأحوال فإن الخطأ في التأويل يسقط كمانع من موانع التكفير ، بإقامة الحجة على المتأول .
(3) مانع الجهل :
وإنما يكون مانعا وعذرا إن كان من الجهل الذي لا يتمكن المكلف من دفعه أو إزالته …
أما ما كان متمكناً من إزالته ، فقصر وأعرض ولم يفعل فهو جهل من كسبه غير معذور به ، ويعتبر كالعالم به حُكماً ، وإن لم يكن عالماً في الحقيقة .. فإن هذا هو حال المعرض عن دين الله ، وهو من بلغه كتاب الله الذي علقت به النذارة ، فأعرض عن تعلمه أو النظر فيه ، لمعرفة أهم المهمات التي خلقه الله من أجلها … قال تعالى (( فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة )) وقال تعالى : ((وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ))
فمن بلغه القرآن ، ووصلته التذكرة فأعرض عن التوحيد ، وارتكس في حمأة الشرك والتنديد ، فهذا لا يعذر بجهله لأنه هو الذي كسبه بإعراضه .. والعلماء متفقون على عدم عذر المعرض إن تمكن من العلم ، وإنما الخلاف بينهم في عذر من لم يتمكن من ذلك ، وهو خلاف عديم الجدوى فيما نحن فيه ، لأن دين الله قد بلغ الآفاق ، وكتاب الله بل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبينه له ، محفوظان ، ومظنة تعلم ذلك كله موجودة ميسرة لكل أحد ، فلم يبق والحال كذلك إلا جهل الإعراض ، خصوصاً فيما اشتهر من دين الإسلام وعرف وذاع وشاع ليس بين المسلمين فقط ، بل وحتى بين اليهود والنصارى وغيرهم ؛ كالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام وقطب رحاه .
ولذلك نص العلماء في قواعدهم الشرعية كما قال القرافي (684هـ) : ( ان كل جهل يمكن المكلف دفعه ، لا يكون حجة للجاهل ) أنظر الفروق (4/264) وأيضاً (2/149-151) .
ويقول ابن اللحام:( جاهل الحكم إنما يعذر إذا لم يقصر أو يفرط في تعلم الحكم،أما إذا قصر أو فرط فلا يعذر جزماً ) أهـ القواعد والفوائد الأصولية ص (58) .
هذا واعلم أن مانع الجهل فيه تفصيل يطول ، وقد صنف فيه أهل عصرنا المصنفات ، ما بين إفراط وتفريط ، وقد نفاه أقوام بالكلية ، فأخطأوا ، وكفّروا من لم يكفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
ووسعه آخرون فتعدوا حدود الله فيه ، حتى عذروا المرتدين المعاندين ، والكفرة المعرضين عن دين الله ، أولئك الذين جهلوا دين الله بكسبهم وإعراضهم عنه ، واستحبابهم الحياة الدنيا وزخرفها .. فتراهم أعلم الناس في كل ما دق وجل من أمورها وقشورها ، بينما لا يرفعون رأساً بتعلم أهم وأول ما افترض الله على ابن آدم تعلمه ، هذا مع توفر مظنة العلم ، والكتاب والسنة بين أيديهم –كما قلنا- فهم ممن قال الله تعالى عنهم (( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون )) .
• وإنما الذي يعذر ويعتبر في حقه هذا المانع كمانع من موانع التكفير ، من كان عنده أصل التوحيد لكن خفيت عليه بعض المسائل التي قد تشكل أو تخفى أو تحتاج إلى تعريف وبيان ، ومن جنس ذلك باب أسماء الله وصفاته ، فقد دلت أدلة الشرع على عذر المخطئ فيها من أهل التوحيد ، وعدم جواز تكفيره إلا بعد إقامة الحجة بالتعريف والبيان ..
• كما في حديث الرجل الذي أسرف على نفسه فلم يعمل خيراً قط إلا التوحيد(16) ، فأوصى بنيه ، عند موته أن يحرقوه ويذروا رماده ، وقال لإنْ قدر الله علي ليعذبني عذباً لا يعذبه أحد من العالمين .
وفيه جهله بسعة قدرة الله وأنه سبحانه قادر على بعثه حتى وإن احترق وتفرقت أجزاؤه ، ومع هذا فقد غفر الله له لتوحيده وخشيته لله ، فدل ذلك على أن الخطأ والجهل في مثل هذا الباب يعذر فيه الجاهل إن كان من أهل التوحيد ..
ولذلك نص شيخ الإسلام ابن تيمية في مناظرته على (العقيدة الواسطية ) التي جلها في باب الأسماء والصفات ، وذلك لما اعترض بعض المناظرين على قوله فيها (هذا اعتقاد الفرقة الناجية ) قال رحمه الله : ( وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً ، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة ) أهـ الفتاوى (3/116)
• ومن هذا الباب أيضاً اعتبار مانع الجهل في حديث العهد بالإسلام أو من نشأ في بادية بعيدة يتعذر وصول تفاصيل الشرع إليها ونحو ذلك .. فإنه يعذر فيما خفي عليه ما دام من أهل التوحيد مجتنباً للشرك الأكبر والتنديد .(4/68)
• وقد قدمنا لك في أول هذا الفصل تفريق شيخ الإسلام في الفتاوى (35/101) بين تكفير المطلق وتكفير المعين ، وأن تكفير المعين لا بد فيه من تبين الشروط والموانع … ثم ضرب على ذلك أمثلة فقال : ( مثل من قال : إن الخمر والربا حلال ، لقرب عهده بالإسلام ، أو لنشوئه في بادية بعيدة ، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد انه من القرآن ولا انه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها ، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومثل الذي قال : إذا أنا مت فاسحقوني ، وذروني في اليم ، لعلي أضل عن الله ، ونحو ذلك فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة ، كما قال الله تعالى ((لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) وقد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان ) أهـ .
يقول ابن حزم : ( ولا خلاف في ان امرءاً لو أسلم – ولم يعلم شرائع الإسلام- فاعتقد أن الخمر حلال ، وأن ليس على الإنسان صلاة ، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى لم يكن كافراً بلا خلاف يعتد به ، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر ) أهـ المحلى (13/151)
وقال أيضاً في الفصل (4/105) : ( ومن لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه ، وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم ، بأرض الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع ، فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلاً ، لانقطاع الطريق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة ، وبقوا كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئاً ، إذا عملوا بالحرام وتركوا المفروض ) أهـ
وقال ابن قدامة في المغنى (كتاب المرتد ) (مسألة : ومن ترك الصلاة ) : ( لا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحداً لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك ، فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث العهد بالإسلام والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم ، لم يحكم بكفره ، وعرّف ذلك ، وتثبت له أدلة وجوبها فإن جحدها بعد ذلك كفر ، وأما إذا كان الجاحد لها ناشئاً في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحدها ، وكذلك الحكم في مباني الإسلام كلها …) أهـ .
وقد استدل العلماء لذلك أيضاً بما روي في سنن الترمذي عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط ، فقلنا يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر إنها السنن ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسى ، اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، قال إنكم قوم تجهلون ، لتركبن سنن من قبلكم )
فاستدل من صحح هذا من العلماء على ( أن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي فانتهى لا يكفر )(17) وليس فيه عذر المشركين بالشرك الأكبر كما يستدل به مرجئة العصر للطواغيت وأنصارهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لطلب الصحابة وأنكره عليهم لكنه عذرهم ولم يكفرهم …
بينما لم يعذر المشركين في اقترافهم للشرك ..
فالصحابة طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم جهلاً منهم ، لأنهم كانوا حدثاء عهد بكفر ، ظناً منهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم له أن يجعل لهم شجرة يعكفون عندها يعبدون الله .. ولم يقترفوا شركاً ، ولا ذريعة من ذرائعه ، فيجب الوقوف بالدليل عند حدوده ودلالاته التي يحتملها ، بأن يعذر به الجاهل ما لم يقترف الشرك الأكبر أو الكفر الواضح المستبين .(4/69)
وذلك لأن الأدلة الشرعية قد دلت على أن نقض أصل التوحيد بالكفر البواح أو بالشرك الصراح الواضح المستبين المعلوم بالضرورة إنكاره في دين المسلمين ، والذي لا يخفى على صبيان المسلمين ، وحتى اليهود والنصارى يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بإبطاله وهدمه ، فهذا لا يعذر الجاهل في مثله ، خصوصاً مع إتمام الله نعمته على الأمة بحفظ كتابه الذي علق سبحانه النذارة فيه وببلوغه ،فمن بلغته النذارة ونقض أصل التوحيد بالكفر أوالشرك الصراح الواضح المستبين فهو كافر بل ومعذب في الآخرة ولا يصلح الاعتذار له بالجهل لأن جهله والحال كذلك جهل إعراض لا جهل من لم يتمكن من العلم ، ويدل على ذلك دلالة واضحة قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سأله عن أبيه : ( إن أبي وأباك في النار)(18) مع أن هؤلاء الآباء من القوم الذين قال الله تعالى فيهم :(( لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون )) وقال : ((لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون )) ، فهؤلاء لم يعذروا بالشرك الأكبر مع انهم ما أتاهم نذير خاص بهم .. وما ذلك إلا لأن الشرك الأكبر الصراح، قد أقام الله على الإنذار والتحذير منه حججه البالغة الواضحة ، وأرسل كافة رسله منذرين ومحذرين منه ، وأنزل جميع كتبه من أجل هدمه والتحذير منه .. ثم جعل خاتمها كتاب لا يغسله الماء تكفل بحفظه وعلق النذارة به ، فمن باب أولى أن لا يعذر بمثل ذلك من جاؤوا بعد ذلك .
قال القاضي عياض في الشفا (2/231) في معرض كلامه على ساب النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الكفر الصريح الذي لا يعذر الجاهل به .
قال : ( أو يأتي بسفه من القول أو قبيح من الكلام ونوع من السب في جهته وإن ظهر بدليل حاله أنه لم يتعمد ذمه ولم يقصد سبه إما لجهالة حملته على ما قاله أو ضجر أو سكر اضطره إليه ، أو قلة مراقبة وضبط للسانه وعجرفة وتهور في كلامه ؛ فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول القتل دون تلعثم إذ لا يعذر أحد بالكفر بالجهالة ) أهـ .
أي الكفر الصريح الذي هو من قبيل سب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فقد تقدم قول القاضي نفسه في وجوب الإحتراز في إكفار المتأولين من المصلين الموحدين .
(4) مانع الإكراه :
ويقابله في الشروط أن يكون المكلف مختاراً لفعله.
ويدل عليه قوله تعالى : ((من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )) وقد ذكر العلماء شروطاً لصحة تحقق مانع الإكراه منها (19) :
- أن يكون المكرِه (بكسر الراء ) قادراً على إيقاع ما يهدد به ، والمكرَه عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار .
- أن يغلب على ظن المكرَه ، انه إذا امتنع أوقع به ما يهدد به.
- أن لا يظهر على المكرَه ما يدل على تماديه ، بأن يعمل أو يتكلم زيادة على ما يمكن أن يزول به عنه البلاء .
- واشترطوا فيما يهدد به في الإكراه على كلمة الكفر ، أن يكون مما لا طاقة للمرء به ، ومثلوا بالإيلامات الشديدة وتقطيع الأعضاء ، والتحريق بالنار والقتل وأمثال ذلك .. وذلك لأن الذي نزلت بسببه آيات إعذار المكره وهو عمار ، لم يقل ما قال إلا بعد أن قتل والديه وكسرت ضلوعه ، وعذب في الله عذاباً شديداً .
- واشترطوا أن يظهر إسلامه متى زال عنه الإكراه ، فإن أظهره فهو باق على إسلامه وإن أظهر الكفر ، حكم أنه كفر من حين نطق به(20) .
• ومع هذا فيجدر التنبيه إلى أن العلماء قد نصوا على أن من قامت عليه بينة أنه نطق بكلمة الكفر وكان محبوساً عند الكفار مقيداً عندهم في حالة خوف ، لم يحكم بردته(21) لأنه في مظنة الإكراه ما دام في سلطانهم مقيداً أو محبوساً ويقدرون على إنفاذ ما يريدون به .(22)
وإن شهد عليه انه كان آمناً حال نطقه بها حكم بردته (23)
• ومن المهم هنا التنبيه إلى أن الإكراه الذي يتحدث عنه العلماء هو النطق بكلمة الكفر أو فعله ، ثم العودة إلى إظهار الإسلام كما تقدم .. أما الإكراه على الإقامة على الكفر والبقاء عليه .. فهذا لم يعتبروه ولم يجيزوه وفرقوا بينه وبين ما يعذرون به في أبواب الإكراه ..
• ( فروى الأثرم عن أبي عبد الله – وهو الإمام احمد - أنه سئل عن الرجل يؤسر ، فيعرض على الكفر ويُكره عليه،أله أن يرتد ؟ فكرهه كراهة شديدة ، وقال : ما يشبه هذا عندي الذين أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاءوا ، وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر وترك دينهم(24) . وذلك لأن الذي يكره على كلمة يقولها ثم يخلى ، لا ضرر فيها ، وهذا المقيم بينهم يلتزم بإجابتهم إلى الكفر المقام عليه واستحلال المحرمات وترك الفرائض والواجبات وفعل المحظورات والمنكرات ، وإن كان امرأة تزوجوها واستولدوها أولاداً كفاراً وكذلك الرجل ، وظاهر حالهم المصير إلى الكفر الحقيقي والانسلاخ من الدين الحنيفيي .) أهـ من المغنى (كتاب المرتد )(فصل : ومن اكره على كلمة الكفر فالأفضل له أن يصبر ولا يقولها …)
• القسم الثاني من الموانع :-
موانع في الفعل (أي سبب التكفير ) :
1- ككون القول أو الفعل غير صريح في الدلالة على الكفر .(4/70)
2- أو أن الدليل الشرعي المستدل به غير قطعي الدلالة على كون ذلك القول أو الفعل مكفراً .
وسيأتي -إن شاء الله- الكلام على هذا في أخطاء التكفير … في الخطأ السادس والسابع .
• القسم الثالث : موانع في الثبوت :
( وهي الجانب القضائي في الموانع) وتتأكد ويشدد فيها عند ترتيب لوازم التكفير عليه كاستباحة الدماء والأموال ونحوها .
- وذلك بأن لا يكون ثبت الكفر على قائله أو فاعله الثبوت الشرعي الذي هو الاعتراف ( والإقرار ) أو شهادة شاهدين عدلين، سواء بنقصان نصاب الشهادة فيها والذي نص الجمهور على انه شاهدان عدلان –كما سيأتي – بأن يشهد رجل واحد فلا يؤخذ بها، كما لم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بشهادة زيد بن الأرقم وحده لما شهد عليه بأنه قال ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل(25) ).
- أو بأن يكون أحد الشهود غير مقبول الشهادة في هذا الباب لكونه كافراً ، أو مجنوناً أو صبياً أو غير ذلك ، أو أنه خصم للمشهود عليه أو مقدوح في عدالته ، مع إنكار المتهم لما نسب إليه ، ودفعه له ورده بالأيمان ، وسيأتي الكلام على هذا في أخطاء التكفير .
وقد اشترط العلماء في قبول شهادة الشاهد أربعة شروط : ( الإسلام والبلوغ والعقل والعدالة )(26) واستدلوا بأدلة؛ منها قوله تعالى: ((وأشهدوا ذوي عدل منكم )) (282) البقرة. وبما رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وغيرهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ، ولا ذي غِمرٍ على أخيه ) قال الحافظ في (التلخيص) (4/198) : وسنده قوي .وذو غمر : أي حقد وعداوة .
ولذلك فمذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور عدم قبول شهادة العدو على عدوه، وخالفهم أبو حنيفة ، ذكر ذلك الشوكاني في نيل الأوطار ثم قال : ( والحق عدم قبول شهادة العدو على عدوه لقيام الدليل على ذلك ، والأدلة لا تعارض بمحض الأراء ، وليس للقائل بالقبول دليل مقبول ) أهـ كتاب الأقضية والأحكام (باب من لا يجوز الحكم بشهادتهم ) .
• وقد ذكر العلماء في البينات إضافة إلى الإقرار والشاهدين ؛ الإستفاضة ، وهو اشتهار الأمر وظهوره ومعرفته بين الناس بحيث يكون ذلك في بعض الأحيان أقوى من شهادة الشاهدين .
لكن هذا فيه تفصيل يجب مراعاته ، حيث اعتبره العلماء في أبواب ولم يعتبروه في أخرى . أنظر المغنى كناب الشهادات (مسألة : وما تظاهرت به الأخبار.. ) وانظر فتاوى شيخ الإسلام (35/241-242) وسيأتي ذلك ، وانظر أيضاً فيها : (15/179).
تنبيهات حول موانع التكفير
(1) تبين الموانع إنما يجب في المقدور عليه ، ولا يجب في الممتنع أو المحارب :
واعلم بعد هذا أن تبين هذه الموانع إنما يجب في حق المقدور عليه دون الممتنع ..
* والامتناع يرد على معنيين :
- الأول امتناع عن العمل بالشريعة جزئياً أو كلياً .
- الثاني امتناع عن القدرة ، أي قدرة المسلمين أن يوقفوه ويحاسبوه ويحاكموه لشرع الله .
ولا تلازم بين النوعين فقد يكون الممتنع عن العمل بالشريعة ؛ مقدوراً عليه في دار الإسلام كمن امتنع عن الزكاة وهو فرد مقدور عليه في دار الإسلام .
وقد يجتمعان ، فيمتنع الممتنع عن الشريعة بدار كفر أو بشوكة وطائفة وقانون وسلطان دولة ، بحيث لا يتمكن المسلمون من إنزاله على حكم الله تعالى وإقامة حد الله عليه ..
- والممتنع عن القدرة ، قد يكون محارباً باليد ، وقد يكون محارباً باللسان فقط ، وانظر الصارم المسلول ص 388
- وقد نص العلماء على أن الممتنع عن القدرة لا تجب استتابته ، فمن باب أولى المحارب الذي داهم ديار المسلمين واحتلها وتسلط على مقاليد الحكم فيها .
• ويراد بالاستتابة معنيان أيضاً :
الأول : طلب التوبة ممن حكم عليه بالردة .
الثاني : تبين الشروط والموانع قبل الحكم عليه بالردة ، وهذا هو الذي نريد التنبيه عليه هنا .
فالممتنع عن شرائع الإسلام والممتنع عن النزول على حكم الله ، والمحارب للمسلمين الخارج عن قدرتهم وحكمهم ، سواء امتنع بدولة الكفر أو بقوانينها أو بجيوشها ومحاكمها ، هذا قد جمع بين نوعي الامتناع، فلا يجب تبين الشروط والموانع في حقه قبل التكفير والقتال .. إذ هو لم يسلم نفسه للمسلمين ، ولا سلم بشرعهم وحكمهم حتى ينظر له في ذلك .. فلا يقال قي حق من كانوا كذلك ، أنهم لم تقم عليهم الحجة ، كما يهذر به بعض من يهرف بما لا يعرف ، خصوصاً إذا كانوا محاربين مقاتلين لنا في الدين ، وقد تسلطوا على ديار الإسلام وامتنعوا بشوكتهم عن شرائعه ، وأقاموا وفرضوا شرائع الكفر والطاغوت ..(4/71)
يقول محمد بن الحسن الشيباني : ( ولو أن قوماً من أهل الحرب الذين لم يبلغهم الإسلام ولا الدعوة أتوا المسلمين في دارهم ، يقاتلهم {المسلمون} بغير دعوة ليدفعوا عن أنفسهم ، فقتلوا منهم وسبوا وأخذوا أموالهم فهذا جائز … ) أهـ . من السير الكبير ، وما بين المعكوفين زيادة أثبتها السرخسي في شرحه ، ثم قال : ( لأن المسلم لو شهر سيفه على مسلم حل للمشهور عليه سيفه قتله للدفع عن نفسه ، فها هنا اولى ، والمعنى في ذلك أنهم لو اشتغلوا بالدعوة إلى الإسلام فربما يأتي السبي والقتل على حرم المسلمين وأموالهم وأنفسهم فلا يجب الدعاء ) أهـ.
ويقول ابن القيم : ( ومنها أن المسلمين يدعون الكفار –قبل قتالهم- إلى الإسلام هذا واجب إن كانت الدعوة لم تبلغهم ، ومستحب إن بلغتهم الدعوة ، هذا إذا كان المسلمون هم القاصدين للكفار، فأما إذا قصدهم الكفار في ديارهم فلهم أن يقاتلوهم بغير دعوة لأنهم يدفعونهم عن أنفسهم وحريمهم ) أحكام أهل الذمة ( 1/5) .
فهذا من تفريق العلماء بين جهاد الطلب وجهاد الدفع ..
وقد فرق شيخ الإسلام أيضاً في مواضع عديدة من كتبه بين (المرتد ردة مغلظة -وهو الذي يضيف إلى ردته الامتناع أو المحاربة والقتل أو القتال- فيقتل بلا استتابة وبين المرتد ردة مجردة فيقتل إلا أن يتوب(27) .
وقال في الصارم المسلول ص 322 : ( المرتد لو امتنع بأن يلحق بدار الحرب ، أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام ، فإنه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد ) أهـ .
وقال أيضا فيه ص325 –326: ( على أن الممتنع لا يستتاب وإنما يستتاب المقدور عليه ) أهـ .
(2) أعذار يتعذر بها المرتدون وغيرهم ، وليست من موانع التكفير (28) :
بعد أن عرفت شروط وموانع التكفير ، بقي أن تتنبه إلى قاعدة شرعية مهمة في هذا الباب وهي : أن ( المانعية والشرطية ، وكذلك السببية لابد لإثباتها واعتبارها دليل شرعي )(29) فالموانع والشروط والأسباب ، كل ذلك من الأحكام الشرعية الوضعية التي وضعتها الشريعة بتوقيف ..
وما لم يكن كذلك فلا يعتبر ، فمن ادعى سببية أو شرطية أو مانعية شيء لشيء ، فلا بد له من إثبات ذلك بدليل ، وإلا كان تقولاً على الله بلا علم ، فلا يجوز ابتداع أسباب أو شروط أو موانع للتكفير ما أنزل الله بها من سلطان ، ومن فعل ذلك فهو داخل تحت عموم قوله تعالى : ((أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) وقوله سبحانه: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )).. فحذار من ذلك ..
حتى إن( أكثر الأصولين منعوا القياس في الشروط والأسباب والموانع )(30) - هذا وقد خاض كثير من الخوالف في هذا العصر ، في أعذار وموانع التكفير ، فصار كثير منهم يعتذر للكفار والمرتدين ، بموانع وأعذار مبتدعة - لا تخطر حتى على بال أولئك المرتدين – بعضها ما انزل الله به من سلطان ، وبعضها قد نص الله سبحانه على إبطاله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم .
فمن ذلك :
1- الخوف مما يهدد به بعضهم من قطع راتب أو الطرد من الوظيفة أو مصادرة بعض حظوظ دنياهم أو منعهم من بعض قشورها ، فهذا ليس بمانع من موانع التكفير ولا يعذر به من دفعه ذلك إلى الكفر برب العالمين ، وتول المشركين ومظاهرتهم على المسلمين ، ونصرة قوانين المشركين ، بل هو من تزيين الشياطين وإمدادهم لأوليائهم بالغي ، وأزِّهم إلى الكفر أزَّا ، إذ التخويف بمثل هذه الأمور ليس من الإكراه في شيء .
وقد قال تعالى : ((ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله )) .
وقال تعالى ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين أمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين أمنوا من يرتد منكم عن دينه …الآيات) المائدة .
ففي هذه الآيات بيان ردة من دفعتهم الخشية المجردة إلى تولي الكفار ، والتصريح بأنهم قد حبطت أعمالهم ، وهذا لا يكون إلا بالكفر ..
فلم يعذر الله في اقتراف الكفر (كتولي المشركين أو قوانينهم) ، بالخشية المجردة ، ولم يجعل ذلك مانعاً من موانع التكفير ،ولم يجعله من الإكراه كما يظن كثير من الجهَّال ..
يقول الشيخ حمد بن عتيق في (سبيل النجاة والفكاك من مولاة المرتدين وأهل الإشراك ) ص62 حين ذكر أحوال الناس المظهرين لموافقة الكفار فذكر فيهم(31) من يوافقهم في الظاهر مع دعوى مخالفته لهم في الباطن وهو ليس في سلطانهم ، قال : ( وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة أو مال أو مشحّة بوطن أو عيال أو خوف مما يحدث في المال ، فإنه في هذه الحالة يكون مرتداً ولا ينفعه كراهته لهم في الباطن(32) .
وهو ممن قال الله فيهم : ((ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، وإن الله لا يهدي القوم الكافرين )) .(4/72)
وأخبر انه لم يحملهم على الكفر الجهل ، ولا بغض ( الحق ) ، أو محبة الباطل ، وإنما هو أن لهم حظاً من حظوظ الدنيا آثروه على الدين …
قال : وهذا معنى كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى .
وأما ما يعتقده كثير من الناس عذراً فإنه من تزيين الشيطان وتسويله ، فذلك أن بعضهم إذا خوفهم أولياء الشيطان خوفاً لا حقيقة له ، ظن انه يجوز له إظهار الموافقة للمشركين والانقياد لهم ) أهـ .
ثم ذكر كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية في صفة الإكراه على كلمة الكفر ، وأنه لا يكون إلا بالضرب والتعذيب والقتل ، لا بمجرد الكلام ولا بالتخويف بالحيلولة دونه ودون زوجته أو ماله أو أهله …
وقد نقل السيوطي في مقدمة تاريخ الخلفاء عن القاضي عياض قال : سئل أبو محمد القيرواني الكيزاني من علماء المالكية عمن أكرهه بنو عبيد يعني ( حكام) مصر على الدخول في دعوتهم ، أو يقتل ؟
قال : يختار القتل ، ولا يعذر أحد في هذا الأمر، كان أول دخولهم قبل أن يعرف أمرهم ، وأما بعد فقد وجب الفرار فلا يعذر أحد بالخوف بعد إقامته ، لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز ، وإنما أقام من أقام من الفقهاء على المباينة لهم ، لئلا تخلو للمسلمين حدودهم ، فيفتنوهم عن دينهم ) أهـ (ص13) .
ويصدق هذا ويدل عليه قوله تعالى: ((إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، قالوا فيم كنتم قالوا: كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا)) [ النساء : 97 ]
فإنها نزلت في أناس كانوا قد أسلموا ولكنهم قصروا في الهجرة ، فبقوا في مكة بين المرتدين مشحّة أن يتركوا المساكن والأزواج والأموال والأوطان ، فلما كان يوم بدر ، أخرجهم المشركون في صفوفهم ، فكان المسلمون إذا رموا بسهم وقع في بعضهم ، فقالوا : قتلنا إخواننا ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات من سورة النساء ، فلم يعذرهم تعالى بدعواهم الإستضعاف وإخراج المشركين لهم في الصف كرهاً ، لأنهم قصروا أول مرة في الهجرة والخروج من بينهم حين كانوا في سعة حال القدرة عليه ، وإنما عذر- كما في الآية التي بعدها – المستضعفين حقاً الذين لا يتمكنون من الهجرة ولا يستطيعونها إما لحبسهم وقيدهم وإستضعافهم الحقيقي ، أو لأنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيل الهجرة ، كالنساء والولدان ونحوهم ..
فدل هذا كله على أن المكثر لسواد الكفار والمشركين المظهر موافقتهم ونصرتهم على المسلمين لا يعذر بمجرد دعواه الخوف على الأموال والمشحة (بالتقاعد) والمساكن ونحوها من متاع الدنيا وقشورها ..
فكيف بمن أظهر نصرة الشرك نفسه وحمى وحرس قوانين الكفر وخرج مختاراً لنصرتها ونصرة أهلها على الموحدين ..؟؟ ثم تعذر بأمثال تلك الأعذار ..
لا شك أن هؤلاء أولى بذلك وأولى ..
2- ولذلك فليس من موانع التكفير أيضاً كون المرتدين وأنصارهم يتعذرون بالاستضعاف وأنهم لا حيلة لهم مع حكامهم ، فالاستضعاف لو كان موجوداً معتبراً في حقهم فإنه لا يسوغ لهم نصرة الشرك والكفر أو نصرة أهله على المسلمين ، إذ لا أحد يجبرهم على ذلك ، ولا على تولي الوظائف التي فيها جنس ذلك .. بل هم يستميتون في الحصول عليها .. ويلتمسون الشفاعات والوساطات لنيلها والوصول إليها ..
وأعجب من ذلك ما سمعته من بعض من طمس الله على بصائرهم وأعماهم عن نور الوحي ، يعتذرون للحكام المعطلين لشرع الله المشرعين لقوانين الكفر المحكمين لها والممتنعين بها ، بأنهم مستضعفون عند أمريكا ولا يستطيعون تحكيم الشرع بسبب ذلك ..!! وكنت أسألهم : فمن ذا الذي يجبرهم على البقاء في الحكم والتشبث بكرسيه بالنواجذ وأصابع الأيدي والأرجل ، كيف وقد وصل أكثرهم إلى هذه الكراسي على ظهور الدبابات ، وبكل ما يقدرون عليه من وسائل القتل والغدر والخسة ، فمنهم من قتل والده ، ومنه من نفاه ، ومنهم من أباد قرى ومدن كاملة من أجل ذلك .. ثم يقول أولئك العميان ؛ أنهم مستضعفون لأمريكا .. بل فليسموا الأشياء بأسمائها الحقيقية وليقولوا : هم أذنابها وإخوانها وأحبابها ..
وعلى كل حال ، فالمستضعف عموماً لا يحل له اقتراف قول أو فعل مكفر .. وإنما يرخص له فقط في مداراة الكفار والتقية ، وهي ترك الإنكار عليهم باليد واللسان ، مع بقاء كراهيتهم وإنكار باطلهم في القلب ، وترك إظهار عداوتهم مع بقاء أصلها بالقلب ، دون أن يتابعهم على كفر أو يرضى به ، كما في الحديث ( إلا من رضي وتابع )
فالله لم يعذر المتابعين للكفار على كفرهم وشركهم بحجة الاستضعاف ، كما هو بين واضح في آيات كثيرة …
منها قوله تعالى : ((وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إن كنا لكم تبعاً فهل انتم مغنون عنا نصيباً من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد )) غافر .(4/73)
وقال تعالى: ((ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا ، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) سبأ .
ونحوها من الآيات ..
فتأمل تخاصمهم بعد فوات الأوان وإسرارهم الندامة لما رأوا العذاب ..
وقولهم لساداتهم الذين قادوهم إلى الهلاك : ((بل مكر الليل والنهار إذا تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً ..)) .
فالاستضعاف ليس عذراً في مثل هذا ، وإنما يعذر المستضعف باستضعافه ، في ارتكاب بعض المحرمات ؛ أو التقصير في بعض الواجبات ، كترك الهجرة إلى المسلمين والتقصير في نصرتهم ونحو ذلك مما يعجز عنه في استضعافه ، ما لم يرتكب مكفراً صريحا باختياره إذ الاستضعاف شيء غير الإكراه الذي تقدمت صورته والذي يمنع من تكفير من ارتكب شيئا من أسباب الكفر الظاهرة ، وقلبه مطمئن بالإيمان ..
ولذلك وصف الله المستضعفين من المؤمنين بأنهم يسعون جاهدين ويدعون الله مخلصين أن يخرجهم من بين الكفار ، ولا يطمئنون لواقع الاستضعاف، أو يتخذونه ذريعة وعذراً لبيع الدين بالدنيا .
كما هو حال من يتعذر به اليوم من المفتونين .. فقال تعالى ((.. والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا )) 75 النساء .
3- وليس من موانع التكفير كون المرتدين وأنصارهم أو غيرهم من الكفار يعتقدون انهم مؤمنون أو أنهم على حق فيما يرتكبونه من المكفرات ..
فقد وصف الله تعالى كثيراً من الكفار بذلك ، ولم يجعل ذلك مانعاً من تكفيرهم ..
فقال سبحانه ..(( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)) [ الكهف : 104 ]
وقال تعالى ((إنهم اتخذوا الشياطين أولياء لهم من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون )) [الأعراف : 30 ]
وهكذا شأن أكثر الكفار في كل زمان ، ففرعون طاغوت مصر كان يقول لقومه : ((ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )) .
وقال تعالى عن غيره: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون )) .
وهكذا الكفار في كل زمان ، وحتى اليهود والنصارى يعتقدون أنهم مهتدون وأنهم هم المؤمنون وأصحاب الجنة الفائزون .
كما قال تعالى (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه.. ))
وقال سبحانه ((وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ))
وهكذا سائر الكفار ..
ومعلوم أن ذلك ليس بنافعهم عند الله ولا وهو بمانع من تكفيرهم في الدنيا ..
وعلى كل حال ، فتقييد التكفير بالاعتقاد هو مذهب غلاة المرجئة الذين يرون الإيمان اعتقاد القلب وحده فقط ومن ثم فلا يكون الكفر في مذهبهم إلا بالاعتقاد .. وانظر تفصيل هذا في كتابنا (إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر)
أضف إلى هذا أن الاعتقاد أمر مغيب في القلب غير ظاهر ولا يمكن ضبطه ما دام كذلك .. ولذلك لم يعتبره الشارع كمانع من موانع التكفير في أحكام الدنيا فقد تقدم في تعريف المانع : ( انه وصف وجودي ظاهر منضبط يمنع ثبوت الحكم ) فما لم يكن كذلك ، فليس بمانع من موانع التكفير ولا دخل لنا به في أحكام الدنيا ..
4- وليس من موانع التكفير، كون من كفر بسبب من أسباب الكفر أو ناقض من نواقض الإسلام يلتزم بعض شرائع الإسلام كالصلاة أو الإقرار بالشهادتين أو نحوهما(33) ..
فهذا لا يمنع من تكفيره لأنه لم يكفر من جهة الامتناع عن شيء من الشرائع المذكورة .. وإنما كفر بسبب أخر غير ذلك ..
وقد ذكر الله تعالى في كتابه أن للمشركين أعمالاً ، وأن بعضهم عنده من شعب الإيمان أشياء لم تنفي عنه الشرك كما قال : ((وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ))
وبين في موضع آخر أن الشرك محبط لجميع تلك الأعمال فقال تعالى : (( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون )) .
ومعلوم ان الإنسان يدخل الإسلام بالإقرار بالشهادتين ثم لا يستمر إسلامه ولا تدوم عصمته إلا بالمحافظة على مجموع شعب هي أصل الإيمان .. بينما يحبط ذلك كله بسبب واحد من أسباب الكفر .
ومن الأدلة الواضحة على أن هذا الأمر ليس من الأعذار المقبولة عند الله تعالى ولا هو من موانع التكفير ..
قوله تعالى ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) [ التوبة 65-66] .(4/74)
فإنها نزلت في شأن أناس كانوا من المصلين المقرين بالشهادتين قد خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدين في غزوة هي من أشهر وأعسر غزوات المسلمين .. ثم لما قالوا ما قالوا من أسباب الكفر وهو الاستهزاء بالنبي وأصحابه من حملة القرآن ؛ كفرهم الله بهذا السبب ، ولم يمنع من تكفيرهم إقراراهم بالشهادتين ولا الصلاة ولا الجهاد ولا غيره من شعب الإيمان التي كانت عندهم ..
وعلى هذا فلو نطق المرتد الذي كفر بسبب نصرته للشرك والمشركين للشهادتين حال قتاله، لم يعصم ذلك دمه ولم يمنع من قتله لأنه لم يكفر بالامتناع عن الإقرار بها كي يقاتل عليها، وحتى يكون حكمه حكم من قتله أسامة بن زيد لما قالها .. بل هو يقولها ويقر بها ليل نهار ،وربما كان من المصلين ، فليس هذا سبب كفره الذي قوتل عليه ، و إنما سبب كفره الذي قوتل عليه هو تولي ونصرة القوانين وأهلها على الموحدين ، فلا يصير مسلماً حتى ينخلع ويبرأ من هذا السبب ويتوب منه ، فبذلك يرجع إلى الإسلام ، إذ هذا هو الباب الذي خرج منه ، فمنه يرجع ما دام مقراً بسائر الأبواب ..
وهذا أمر واضح معلوم من سيرة الصحابة مع المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أصنافاً،( قوم ارتدوا عن الدين بالكلية ، وقوم ارتدوا عن بعضه ، فقالوا : نصلي ولا نزكي ، وقوم ارتدوا عن إخلاص الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا مع محمد بقوم من النبيين الكذابين كمسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وغيرهما) فجاهدهم الصديق رضي الله عنه وسار فيهم سيرته في المرتدين ، فمن كان منهم يصلي ويقر بالشهادتين وارتد بمنع الزكاة قاتله حتى أداها .. ومن كانت ردته بالإيمان بمسيلمة ،قاتله على البراءة من مسيلمة والكفر بنبوته .. وهكذا ..
ولما أشكل ذلك بادي الرأي على الفاروق وسأله: كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله … الحديث ) قال له أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة … ) فهذا يوضح أن ممن قاتلهم أبو بكر في حروب الردة من كان يصلي ويشهد الشهادتين.. وإنما ارتد من أبواب أخرى فقوتل عليها ..
5- وليس من موانع التكفير كون من ارتكب سبباً من أسباب الكفر الواضح المستبين مضللاً بتلبيس الأحبار والرهبان أو السادة والحكام .. أو غيرهم ..
فقد قدمنا لك أن مانع الجهل يعتبر في الأمور الخفية والمشكلة التي تحتاج إلى تعريف وبيان ، فلا بد قبل التكفير فيها من إقامة الحجة .. وسيأتي المزيد منه في أخطاء التكفير ..
لكن هذا لا يجب في أمور هي أظهر من الشمس في رابعة النهار ، كهدم أصل التوحيد أو مقارفة ما يناقضه من الكفر البواح والشرك الصراح الذي لا يخفى على صبيان المسلمين ، بل إن اليهود والنصارى يعرفون أنه مناقض لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ..
وسيأتي حديث عدي بن حاتم في عدم إعذار اليهود والنصارى بإضلال أحبارهم ورهبانهم لهم ، في صرف التشريع- الذي هو عبادة - إلى غير الله تعالى .. مع أنهم لم يكونوا يعرفون أن الطاعة في ذلك عبادة كما صرح بذلك عدي ، وكفر اليهود والنصارى أكثره كفر تقليد ولذلك قال تعالى فيهم ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله …. الآيات ))
وكذلك كفر أكثر الكفار .. قال تعالى (( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول . قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون )) المائدة
وفي الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه يقول النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر : ( وأما الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه …. الحديث ) .
هذا وقد بين الله في كتابه أن الضعفاء والمقلدين يتبرؤون يوم القيامة من ساداتهم الذين كانوا سببا في إضلالهم ، وأن ذلك ليس بعذر لهم ينجيهم ، ولا هو بمانع من موانع التكفير ..
فمن ذلك قوله تعالى : ((وبرزوا لله جميعا ، فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ، قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص )) * إبراهيم
وقال تعالى : ((إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا )) الأحزاب .
والآيات في هذا المعنى كثيرة …
هذا وقد ذكر العلامة ابن القيم في كتابه ( طريق الهجرتين ) في سياق ذكره لمراتب المكلفين ( الطبقة السابعة عشر ) وهم : ( طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين معهم تبعا لهم يقولون : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على أسوة بهم ……. )(4/75)
قال : (وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالا مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار ، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة ، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم ، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة )(34) ، وهذا المقلد ليس بمسلم ، وهو عاقل مكلف ، والعاقل المكلف ، لا يخرج عن الإسلام أو الكفر ….. ) إلى قوله :
( والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به ، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم ، وإن لم يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهل .
فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا …)
ثم ساق الآيات التي تذكر عذاب المقلدين المتابعين غيرهم على الكفر .. وأن التابع والمتبوع في النار جميعا .. نحو قوله تعالى : ((وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ، قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد )) [ غافر : 48 ]
ثم قال : ( فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين ، اشتركوا في العذاب ولم يغن عنهم تقليدهم شيئا ، وأصرح من هذا قوله تعالى : (( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا )) [ البقرة : 166-167 ] …) أهـ.
6-وليس من موانع التكفير كون المرتد من أهل العلم ، أو من أهل اللحى أو من الجماعة الإسلامية الفلانية ، أو كونه يحمل دكتوراه !! في الشريعة أو نحو ذلك مما يتوهمه البعض ..
فقد قال تعالى في بعض من كان أعلم أهل زمانه ( من كبار العلماء ) : ((واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين )) وقال تعالى في حق خيرة خلقه وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم : ((ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون * أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة … الآيات )) الأنعام .
ويدل على هذا أيضا قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي كان من كتبة الوحي ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد على عقبيه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ولو وجدوه متعلقا بأستار الكعبة .. ثم انه تاب ورجع إلى الإسلام عام الفتح ، أحضره عثمان بن عفان – وكان أخاه من الرضاعة – إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه .. وقصته برواياتها المختلفة بسطها وتكلم على فوائدها شيخ الإسلام في الصارم المسلول ، والشاهد منها أن كونه من كتبة الوحي عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع من كفره وردته .. لما أتى بسببها..
• لكن يفرق في هذا الباب بين ما كان كفراً صراحاً مخرجاً من الملة فهو على ما ذكرنا ..
وبين ما ليس بكفر من الاجتهاد الخاطئ الذي يؤجر صاحبه على اجتهاده، أو العثرات التي قد يقع بها بعض أهل العلم أو طلبته ، فلا ينبغي أن يساء الأدب معهم لأجلها ، أو يتطاول عليهم بسببها ، أو يزهد بعلمهم أو ينفر الشباب عن كتبهم بها .. خصوصاً إن كانوا من أنصار الدين القائمين به المتبرئين من الطواغيت والمرتدين ..
- ففي صحيح البخاري (كتاب مناقب الأنصار) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ( اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ) وذكر فيه أحاديث منها حديث أنس في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار وفيه قوله : (أوصيكم بالأنصار …) إلى قوله : ( فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ) ..
- فأنصار الدين الذين هم من أهل الطائفة القائمة بدين الله ، الذين يفنون أعمارهم ويبذلون مهجهم في نصرة دين الله وتوحيده ، لهم نصيب من هذه الوصية النبوية في كل زمان ..
فلتحفظ وصيته صلى الله عليه وسلم فيهم ، وحذار من تسليط السفهاء وتطاول الرعاع عليهم ، فإن في ذلك إقرار أعين أعداء الله ، وأعداء هذه الدعوة المباركة .. ولا يقدم على مثل هذا عاقل أو فقيه ..
7- وليس من موانع التكفير في سبب معين من أسباب الكفر كون من سيكفرون به كثر .. فدين الله لا يحابي أحداً، وقد قال تعالى : ((وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد )) .
وقال تعالى : ((وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )) وقال سبحانه : (( وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون )) .
وفي الحديث الذي يرويه أبو داود وابن ماجه عن ثوبان مرفوعاً : ( … ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً )) .
قال : ( ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا فيه أفواجاً ) ، ويروى موقوفا على أبي هريرة .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (7/217) ؛ أن أتباع مسيلمة الكذاب نحو مائة ألف أو أكثر .(4/76)
8- وليس من موانع التكفير باتفاق أهل العلم ؛ قول الكفر على سبيل الهزل واللعب واللهو والمزاح ، ودليله قوله تعالى : ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)) .. فلم يعذرهم الله تعالى بهذا العذر ، مع أنهم كانوا خارجين في غزوة العسرة للقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا تلك الكلمات على سبيل الهزل وشغل الوقت في السفر ، ( حديث الركب نقطع به الطريق) كما جاء في أسباب النزول ..
- يقول أبو بكر ابن العربي (543هـ) : ( الهزل بالكفر كفر ، لا خلاف فيه بين الأمة ، فإن التحقيق أخو العلم والحق ، والهزل أخو الجهل والباطل ) أهـ أحكام القرآن (2/964) وانظر القرطبي (8/197)
- ويقول ابن الجوزي (597هـ) : ( الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء ) أهـ زاد المسير (3/465) .
- ويقول النووي (676هـ) : ( والأفعال الموجبة للكفر ، هي التي تصدر عن عمد واستهزاء بالدين صريح ) أهـ روضة الطالبين (10/64) .
- ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول عند قوله تعالى : (( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) : ( لم يقل {الله تعالى} قد كذبتم في قولكم ((إنما كنا نخوض ونلعب)) فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر لو كانوا صادقين ، بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب ) أهـ (517)
أي أنه كفرهم سبحانه وتعالى رغم عذرهم المذكور الذي أدلوا به ، ولم يكذبهم بوجوده سبحانه ، بل أنكر اعتباره ، فدل على عدم اعتبار هذا العذر من موانع التكفير .
- وقال ابن القيم في إعلام الموقعين بعد كلام له تقدم في اشتراط القصد لصحة الأحكام ، قال بعد أن ذكر خبر الذي قال لما وجد راحلته ، بعد أن أضلها : (أللهم أنت عبدي وأنا ربك ) أخطأ من شدة الفرح ؛ ( ولم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر ، لكونه لم يرده ، والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم ارادته ، بخلاف المستهزئ والهازل ، فإنه يلزمه الطلاق والكفر ، وإن كان هازلاً لأنه قاصد للتكلم باللفظ ، وهزله لا يكون عذراً له بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه ، والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود ، فهو متكلم باللفظ مريد له ، ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل ، والهزل لم يجعله الله ورسوله عذراً صارفاً ، بل صاحبه أحق بالعقوبة ، ألا ترى أن الله تعالى عذر المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان ، ولم يعذر الهازل بل قال تعالى : ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)) أهـ (3/76) .
- ويقول ابن نجيم الحنفي (1005هـ) : ( ان من تكلم بكلمة الكفر هازلاً ، أو لاعباً كفر عند الكل ، ولا اعتبار باعتقاده ) أهـ . ( البحر الرايق شرح كنز الدقائق ) . (5/134)
9- وليس من موانع التكفير المعتبرة كون المكفِرين لا يقدرون على ترتيب آثار الكفر على من كفروه .. كإقامة حد الردة أو تغير الحاكم الكافر ونحوه .. فهذه شبه يطنطن بها مرجئة العصر .. وقد تقدمت الإشارة إلى أقاويل بعض شيوخهم في ذلك ، في الفصل الأول .. وقد تعلق بذلك وقلدهم به سفهاؤهم وجهالهم ، وهي من سفسطتهم وجدالهم بالباطل ، إذ لو التزموا ذلك لأبطلوا به جميع الأحكام الشرعية ..
- إذ يلزمهم ما دمنا عاجزين عن إقامة حد الزنا ، على من ثبت عليه الزنا بالبينة أو الاعتراف أو نحوه أنه ليس بزانٍ ، وليبحث له عن أخرى !!
- وما دمنا عاجزين عن إقامة حد القتل على القاتل فإنه ليس بقاتل ، ومن ثم فلا دية عليه ولا كفارة ولا توبة .. !!
- وما دمنا عاجزين عن إقامة حد القطع على السارق فلا يحل لنا أن نسميه سارقاً ، إذ ما الفائدة من ذلك –كما يقولون-؟! فلنسمه إذن أميناً ولنسلطه على أموال الناس !!
- وما دمنا غير قادرين على تغيير المنكرات الظاهرة ، فلا يحل لنا أن نعرّف بها أو نحذر منها أو نسميها منكراً ، وما لم تكن منكراً فهي حتماً معروف .. وهكذا …
وفي هذا من الباطل ما يلزم منه فتح أبواب الفساد والإلحاد ، وتسويغه وتهوينه على العباد ..
والحق والصواب في هذا هو ما أمرنا الله تعالى به في محكم كتابه بقوله : ((فاتقوا الله ما استطعتم )) وقال تعالى عن شعيب : ((إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت..))
ومنه وضع الفقهاء قاعدتهم الفقهية المعروفة في أن ( الميسور لا يسقط بالمعسور)(4/77)
فإذا عجز المسلمون في وقت من الأوقات عن الخروج على الحاكم الكافر وتغييره ، فلا يعني هذا أن يتركوا تكفيره ، بل هذا حكم شرعي يستطيعونه فيجب عليهم أن يتقوا الله فيه .. وفي غيره مما هو من آثار تكفير الحكام ويستطيعونه ، فيجتنبوا نصرته وتوليه والتحاكم إلى أحكامه الكفرية ، ولا يولونه أمر دينهم ، ولا يجعلون له عليهم سبيلا ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ولا يدخلوا في بيعته أو يقاتلوا تحت رايته ، أو يعينوه على باطله أو يظاهروه على مسلم .. إلى غير ذلك مما يملكون فعله ويقدرون عليه ، وأيضاً فإن معرفة كفر الحاكم ، مدعاة إلى العمل الجاد والإعداد الذي يمكن في يوم من الأيام من تغييره ..
بخلاف من كان الحاكم عنده مسلماً ، فإنه لن يرفع بذلك رأساً، ولن يفكر يوماً ما بالإعداد الجاد لتغييره كما هو واقع مرجئة العصر في هذا الزمان ..
فاختلاف الحكم على الحاكم عند كل فريق ؛ هو الفرقان والميزان الذي يزن سلوك كل فريق ويميز توجهه وصبغته ، ما بين موحد كافر بالطاغوت معادٍ له ، أو مجتنب على أقل الأحوال ..
وما بين مبايع له مناصر ، أو مجادل عن باطله مهون من كفرياته .. وواقعنا وواقع خصوم هذه الدعوة أكبر شاهد على هذا .. فليتدبر المنصف أحوال الموحدين وسلوكهم ودعوتهم ومنهاجهم في واقع اليوم ..
ثم لينظر في واقع الخوالف الذين ناموا في أحضان الطواغيت ورضعوا من ألبانهم ، وسلطوا ألسنتهم وأقلامهم على كل من خرج عليهم أو نازعهم ، بلسانه أو سنانه..
10 – وليس من موانع التكفير المعتبرة ؛ سوء تربية المقترف للكفر ، كما زعمه بعض من يقتدى بهم ويشار إليه بالبنان في موانع تكفير ساب الرب أو الدين أو الرسول ، فإن أكثر الكفار والمشركين قد كفروا ونشأوا في الشرك لسوء التربية والتنشئة كما اخبر بذلك الصادق المصدوق فقال صلى الله عليه وسلم : ( يولد المولود على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو يشركانه ) رواه مسلم وغيره .
فلم يمنع ذلك من تكفيرهم .
11- وليس من موانع التكفير أيضاً ، اقتراف شيء من أسباب الكفر الظاهرة الصريحة ، بحجة الاستحسان أو الاستصلاح أو ما يسمونه بمصلحة الدعوة ..!! فليس ثم مصلحة معتبرة في الشرك أو الكفر ، لأنه أعظم ذنب عصى الله به في الوجود ، ولذلك قال تعالى : ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم ؛ أي الذنب أعظم ؟ فقال : ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) ..
فهو أعظم المفاسد في الوجود على الإطلاق ، ولذلك كان محبطا لسائر الأعمال قال تعالى : ((ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين )) . وكل مصلحة مزعومة أومدعاة في الشرك أو الكفر فهي مصلحة باطلة ملغاة شرعا ، لم يجعل الشارع لها اعتبارا ..
نعم قد يكون في الشرك مصالح دنيوية وشهوانية لبعض الناس ، يغطونها بمصلحة الدين ، والدين منها براء ..
فالله قد بعث كافة رسله وأنزل جميع كتبه كما هو معلوم لإبطال الشرك وهدم الكفر .. ومن ثم إخلاص العبادة لله وحده .. وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا .. والمقاصد الشرعية المطهرة ، لا يجوز شرعا أن يتوصل إلى تحقيقها إلا بوسائل شرعية مطهرة صحيحة ، تماما كما لا تزال النجاسة ويتطهر منها بنجاسة أخرى ، وكما لا يستنجى من البول بالبول .. فلسنا ميكافيليين(35) تبرر الغاية عندنا الوسيلة .. حتى نختار ما نشتهي من وسائل ، بل قد سد الله جميع الطرق ، ولم يبق لنا إلا طريقا واحدا موصلا إليه وإلى جنته ومرضاته ونصرة دينه وتحقيق سعادة الدارين ؛ ألا وهو الطريق الشرعي التي بعث بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من أهم معاني شهادة أن محمدا رسول الله . وقد بين الله ضلال سعي من يستصلحون الكفر ، وخسارة من يستحسنون صنعته ، فقال : ((قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا )) الكهف .
ورحم الله السلف الذين كانوا يسمون مثل هذه الإستصلاحات التي يلصقها أهلها بالدين : ( خديعة إبليس ) ، يطلقون ذلك على من داهن الأمراء وتقرب إليهم في أزمنة الخلافة والفتوحات ..
كما قال سفيان الثوري رحمه الله لبعض من يناصحه : ( إياك والأمراء أن تدنو منهم أو تخالطهم في شيء من الأشياء ، وإياك ويقال لك لتشفع عن مظلوم أوترد مظلمه ، فإن ذلك خديعة إبليس ، وإنما اتخذها فجار القراء سلما … ) أهـ.(36)
فتأمل إبطاله استصلاح واستحسان بعض الفقهاء الدخول على الأمراء والدنو منهم بحجة تخفيف الظلم ودرء الفساد .. !! ويسمي ذلك ( خديعة إبليس ) ، وفي أي وقت يقول ذلك .. في أوائل خلافة بني العباس قبل المعتصم وقبل المأمون ونحوهم ممن أظهروا بدعهم وامتحنوا الناس .. وكانت عزة الخلافة وهيبتها قائمة ، وفتوحات المسلمين وجحافلهم تدك حصون الكفر شرقا وغربا ..(4/78)
فكيف به رحمه الله لو رأى خوالف زماننا الذين لم يتقربوا إلى الطواغيت والمرتدين وحسب .. بل دخلوا في دينهم وأقسموا على احترام دساتيرهم الشركية وشاركوا في تشريع قوانينهم الكفرية وصاروا لهم جندا محضرين وأنصارا مخلصين .. ؟؟
ثم لا يستحيون من أن يلصقوا ذلك الكفر البواح والشرك الصراح كله بالدين .. فيقولون : هي مصلحة الدعوة ونصر الدين !! بل هي مصلحة القروش والكروش .. ورحم الله سفيان إذ يقول : ( إني لألقى الرجل أبغضه ، فيقول لي : كيف أصبحت ؟ فيلين له قلبي ، فكيف بمن أكل ثريدهم ، ووطيء بساطهم ؟؟ ) أهـ من تذكرة الموضوعات ص 25 .
فلا غرابة بعد هذا أن لا يكتفي أصحاب هذه الإستصلاحات الفاسدة الكفرية بالدفع بها عن شركياتهم التي خلطوها بالدين .. فقد تعدوا ذلك ، إلى الدفع والإعتذار بها عن طواغيت الحكم وأنصارهم .. فمن الأعذار المضحكة في هذا الباب ما زعمه نائب ( مشرع ) إخواني ، زارنا في السجن برفقة وزير الداخلية ومساعديه ، وانزعج هو ومن معه لما أبينا السلام عليهم وواجهناهم بكفرهم ، وأظهرنا براءتنا منهم ومن قوانينهم وحكمهم ، ورفضنا - بفضل الله تعالى وتثبيته – أن نتقدم إليهم بأية مطالب ، لما عرضوا ذلك .. وأنكرنا على ذلك النائب ما افتراه علينا في الصحافة من دعوى تكفير الناس ، وبينا له ولمن معه أن ذلك محض افتراء ، فنحن لا نكفر الناس بالعموم ، فليست معركتنا مع عوام الناس ، وإنما مع النظام المحارب لدين الله ، وأننا إنما نكفره ونكفر من نصر قوانينه الكفرية وحرسها أو شارك في تشريعها .. وأننا ندعوهم دوما ليتركوا حراسة القوانين ويصيروا حراسا للشريعة وأنصارا للدين .. إنبرى ذلك النائب يدفع عن تكفير المذكورين بدعوى أنهم ينصرون الدين بمناصبهم هذه ؛ فهم بزعمه يهيئون ويمهدون بمراكزهم ومناصبهم ، لقيام الخلافة التي ستواجه أمريكا – كذا قال – ولم يستحي طرفة عين أن يقول ذلك على مسامعهم – وكان حاضرا يومها أعلى رتب في الأمن العام وأخبثهم وأشدهم حربا للدين – ممن لم يخطر ببال واحد منهم في يوم من الأيام ما زعمه هذا الزاعم وادعاه لهم من الأعذار التي لا يذكرونها هم أبدا ، بل لو تلفظوا بها أو ادعوها فلربما يحاكمون عليها أو يطردون .. ولكن هذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من كلام النبوة الأولى : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )(37) أما هو فقد دفع عن نيابته التشريعية الشركية ، مرة بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم لحلف الفضول ، ولما قلنا له : إن حلف الفضول الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم إنما قام على نصرة المظلوم بالقوة المادية ، فالتزم هذا ودع عنك التشريع ، فر وهو يصيح : لا ، العمل المادي لا ، نحن مستضعفون ولا عمل مادي في العهد المكي !! قلت : إذن قد سقط استدلالك فلا تعود إلى هذا الدليل ..!
ولذلك استدل هذه المرة علينا لحظة مغادرته للمكان ؛ بفعل نعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب .. فلما سألناه : وهل أقسم نعيم بن مسعود على احترام الدساتير الوضعية ؟ أم هل شرع ، لما خذل الأحزاب عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ، أم هل ارتكب كفرا بواحا أو شركا صراحا كما تفعلون .. ؟ لم يحر جوابا ، وولى مدبرا ..
فصدق سفيان : ( فكيف بمن أكل ثريدهم .. ووطىء بساطهم ) ؟؟
• ثالثاً : أسباب التكفير :
السبب الشرعي عند الأصوليين : ( هو وصف ظاهر منضبط يثبت الحكم به من حيث أن الشارع علقه به )(38) أو( هو ما يلزم من وجوده وجود المسبب ومن عدمه عدمه )
أو ( هو جعل وصف ظاهر منضبط مناطا لوجود حكم ، أي يستلزم وجوده ) (39)
وبتعبير آخر هو ما جعله الشارع علامة على مسببه وربط وجود المسبب بوجوده وعدمه بعدمه ، ولهذا قال العلماء ( الحكم يدور مع علته وجودا وعدما )
والعلة والسبب مترادفان عند أكثر أهل الأصول ، قال في( مراقي السعود) :
ومع علة ترادف السبب ... ... والفرق بعضهم إليه ذهب (40)
ولما كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة ذو أركان ثلاثة ؛ هي الاعتقاد والقول والعمل ..
فإن أسباب الكفر تقابل ذلك فهي : إما قول مكفر ، أو فعل مكفر ويدخل فيه (الترك المكفر ) ، أو شك أو اعتقاد مكفر .
- يقول ابن حزم (456هـ) في تعريف الكفر : ( وهو في الدين: صفة من جحد شيئاً مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه ، بقلبه دون لسانه ، أو بلسانه دون قلبه ، أو بهما معاً أو عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان ) أهـ الإحكام في أصول الأحكام (1/45)
- ويقول تاج الدين السبكي (771هـ) : ( التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية أو الوحدانية أو الرسالة ، أو قول أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جاحداً ) أهـ فتاوى السبكي (2/586) .
- ويقول الشربيني الشافعي (977هـ) في (مغني المحتاج) : ( الردة هي قطع الإسلام بنية ، أو قول ، أو فعل ، سواء قاله استهزاءا ، أو عناداً ، او اعتقادا ) أهـ (4/133) .(4/79)
- ويقول منصور البهوتي الحنبلي ( 1051هـ) : ( المرتد لغة : هو الراجع ، قال تعالى : ((ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين )) [المائدة : 21 ] . وشرعاً : الذي يكفر بعد إسلامه ، نطقاً أو اعتقاداً ، أو شكاً ،أو فعلاً . ) أهـ .(كشاف القناع عن متن الاقناع ) (6/136)
وأقاويل العلماء في بيان ذلك كثيرة ..
وفيها أن أسباب الكفر أو الردة كما قدمنا هي : إما قول مكفر ، أو فعل مكفر ، أو اعتقاد أو شك مكفر ..
وهذه أسباب الكفر عموماً ..
أما أسباب التكفير ، التي تعمل في أحكام الدنيا فتنحصر في : الفعل أو القول المكفر فقط ، وقد ذكرنا الأدلة على أن من الأعمال والأقوال ما هو كفر مجرد مخرج من الملة ، دون شرط ارتباط ذلك باعتقاد فاسد أو جحد أو استحلال في كتابنا (إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر ) وأطلنا فيه النفس هناك ، فراجعه فإن ذلك محله .
وقد حصرت الشريعة أسباب التكفير في الدنيا بذلك وحده ..
لأن الاعتقاد والشك أسباب غير ظاهرة ولا منضبطة في أحكام الدنيا ، لذلك لم يعلق به الشارع أحكام الدنيا أو يجعلها أسباباً للتكفير فيها ، وإنما جعل ذلك للذي يعلم السر وأخفى ، فهي لأجل ذلك أسباب للكفر أخروية ، لا علاقة لأحكام الدنيا بها .. ولذلك كان من أبطن الكفر ولم يظهره ، بل أظهر شرائع الإسلام منافقاً يعامل في أحكام الدنيا معاملة المسلمين ، أما في أحكام الآخرة ، فيحاسبه الله على ما أبطن من أسباب الكفر فيكون مصيره الدرك الأسفل من النار ..
وقد تقدم قول شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول ص177-178 : ( وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر ، كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً ، إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله ) أهـ .
فحصر أسباب الكفر بالقول والفعل المكفر – لأن ذلك هو المعتبر في الدنيا ، ولم يتعرض للأسباب الباطنة الخفية لأنها لا دخل لها في أحكام الدنيا .. وانظر قريبا منه في الصارم ص (370)
وتقدم الكلام على قوله ( وإن لم يقصد أن يكون كافراً ) ، وذلك لأن الشارع ربط الأسباب مع مسبباتها (فإذا وجد السبب وتوافرت الشروط وانتفت موانعه ترتب عليه مسببه حتماً )
( لأن المسبب لا يتخلف عن سببه شرعاً ، سواء أقصد من باشر السبب ترتب المسبب عليه أم لم يقصده ، بل يترتب ولو قصد عدم ترتبه ) (41)، ( فليس للمكلف أن يحل الإرتباط الذي ربط به الشارع المسببات بأسبابها ) ولا يقدر عليه أصلاً ، ولو تمنى على الله الأماني ..
وعلى هذا فإذا ارتكب المكلف سبباً من أسباب الكفر الظاهرة ، قول أو فعل مكفر ، وتوفرت الشروط وانتفت موانعه ،كفر، وإن زعم أنه لم يرد بذلك الكفر والخروج من الدين .. فهذا لا يقصد إليه أحد إلا ما شاء الله ، وحتى النصارى ، لو قيل لهم ، هل تريدون الكفر بقولكم إن المسيح ابن الله .؟ لنفوا ذلك وأنكروه .
• تنبيه حول أسباب التكفير :
اعلم أنه إذا ما ارتكب المكلف سبباً من أسباب الكفر الظاهرة ، وانتفت في حقه موانع التكفير ، كفر ، ولا يلزم أن يجمع أكثر من سبب كي يكفر ، بل تعدد أسباب الكفر أو علله يغلظ الكفر ويزيده ، فالكفر دركات كما أن الإيمان درجات .. وانظر في هذا (فصل مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتها) من كتاب (طريق الهجرتين ) لابن القيم، ويدل عليه قوله تعالى : (( إنما النسيء زيادة في الكفر ))، والنسيء سبب زائد من أسباب الكفر أضافه مشركوا قريش إلى كفرياتهم الأخرى ، وقال تبارك وتعالى أيضاً ((الأعراب أشد كفراً ونفاقاً)) [التوبة : 93 ]
ففيه أن بعض الكفر أشد من بعض ، وهذا ظاهر ، فمن جمع بين عدد من أسباب الكفر فارتد بترك الإقرار بالشهادتين وترك الصلاة ، وضم إلى هذا الطعن في دين الله وشتم رسوله صلى الله عليه وسلم والتأليب عليه والسعي في حربه كعبد الله بن سعد بن سرح وعبد الله بن خطل ونحوهم ، ممن عددهم وذكر أخبارهم شيخ الإسلام في الصارم المسلول ، لا شك أن ردتهم أشد وأغلظ ممن كفرهم الله تعالى بسبب واحد من أسباب الكفر كالذين استهزءوا بالقراء في غزوة تبوك ، وكالذين ارتدوا بالامتناع عن الزكاة وحدها دون أن يمتنعوا عن الصلاة أو سائر أركان الإسلام ومبانيه ..
والخلاصة أن تعليل حكم الكفر بأكثر من علة أو سبب ليس بشرط للتكفير، وإنما يزيد ذلك حكم التكفير تأكيداً فيكون الكفر فيه أشد وأغلظ ..
كما قد يعلل التحريم أحياناً بعلتين لتأكيد تحريمه ، كما في تحريم نكاح الربيبة(42) ، إذا كانت محرمة بالرضاع إضافة إلى كونها ربيبة ، واستدل العلماء لذلك بحديث أم حبيبة في الصحيحين أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إننا نتحدث أنك ناكح درة بنت أم سلمة ، فقال صلى الله عليه وسلم : (إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي ، لأنها بنت أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة مولاة أبي لهب ).
وقد كان الإمام احمد يقول في بعض ما يغلظ تحريمه: ( هذا كلحم خنزير ميت ) يقول ذلك لتغليظ التحريم وتقويته ، ومثل تأكيد قتل من قتل وارتد وزنى وكان محصناً .. وهكذا (43)(4/80)
ومن هذا الباب كفر طواغيت الحكام في هذا الزمان ، فإنه كفر مغلظ زائد ، لأنهم قد جمعوا أسباباً عديدة للكفر فخرجوا من الدين من أبواب شتى .. كالتشريع مع الله ما لم يأذن به الله ، والحكم بغير ما أنزل الله ، واتباع وابتغاء غير دين الله من مناهجهم الكفرية المبتدعة كالديمقراطية ونحوها .. وتولي اليهود والنصارى ومظاهرة إخوانهم المرتدين من طواغيت الدول المختلفة على المجاهدين الموحدين ، وفتح أبواب الاستهزاء بالدين والترخيص لوسائله المرئية والمسموعة والمقروءة .. وغير ذلك مما يضيق المقام عن حصره وتعداده …
(1) عن مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (10/215)
(2) أو يفرق بين الداعية وغيره كما سياتي عنه ذلك، وهذا يندرج تحت الإحتمال الثاني لأن الداعية مظنة للعلم ، وانتفاء مانع الجهل ونحوه ..
(3) أنظر في هذا إرشاد الفحول للشوكاني ص 25 والواضح لمحمد سليمان الأشقر ص 31 .
(4) وخالف بعضهم في ذلك ، منهم القرافي ، ورد عليه فيه العلامة ابن القيم ، أنظر بدائع الفوائد (4/12)
(5) رواه مسلم وقد ألحق بعض العلماء في مانع انتفاء القصد بالخطأ من شدة الفرح ، الخطأ من شدة الغضب ( الإغلاق ) بحيث لا يعقل المرء ما يقول .. أنظر اعلام الموقعين (4/50) : ( لو بدرت منه كلمة الكفر في الغضب الشديد لم يكفر ..) وفي ذلك خلاف ، وعلى كل حال فيجب التفريق عند من يقول بذلك بين من اعتاد الهجوم على المكفرات في حال الغضب والرضى ، وبين من كان أصله الصلاح والتقى .
(6) أنطر صحيح البخاري كتاب المغازي وغيره .
(7) ولذلك اختلف العلماء بمن نطق بكلمة الكفر حال السكر ، فرأى بعضهم أن السكران الطافح الذي لا يعلم ما يقول لا عبرة بأقواله ردة وإسلاماً ، قال شيخ الإسلام : ( لا يحكم بكفره في أصح القولين كما لا يقع طلاقه في أصح القولين . وإن كان النزاع في الحكم مشهوراً ) أهـ (10/39)
وانظر إعلام الموقعين (5/49) واستدل من قال بذلك بحديث حمزة المذكور أعلاه وبقوله تعالى ( حتى تعلموا ما تقولون …) فمفهومه أن السكران الطافح لا يقصد أقواله وأفعاله .. وفصل بعضهم بين ما كان من خطاب التكليف وبين ما كان من خطاب الوضع ، وأنت ترى أن أدلة المعتبرين لهذا المانع كلها قبل تحريم الخمر ولذلك رجح القاضي عياض في الشفا عدم اعتباره (2/232) ونقل عن بعض أهل العلم القول بقتل شاتم النبي صلى الله عليه وسلم في سكره وألزمه الطلاق والعتاق والقصاص والحدود …. (2/231-232) وانظر أيضاً المغنى لابن قدامة (كتاب من ارتد وهو سكران ..) .
(9) عن فتح الباري كتاب الدعوات (باب التوبة )
(10) ما بين المعكوفين زيادة ليست في طبعة دار الجيل يقتضيها السياق .
(11) كذا في الأصل في ط . دار المعارف ، ولعل الصواب هنا : ( وهو جاهل ) والله أعلم .
(12) أي إرادة اختيار اللفظ ، وهو الاختيار الذي يقابل مانع الإكراه .
(13) أي إرادة المعنى ، وهو القصد والعمد الذي نتكلم فيه هنا ، والذي يقابل مانع الخطأ أو انتفاء القصد .
(14) أي نوى مراد أهل العربية بهذا اللفظ وهو لا يعرف مرادهم ما هو .
(15) أنظر شرح العقيدة الطحاوية لأبن أبي العز الحنفي ، عند كلامه حول رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة .
(16) سيأتي الحديث وكلام أهل العلم فيه في أخطاء التكفير ، وزيادة ( إلا التوحيد ) معلومة من دين الله ضرورة ، ومع هذا فقد رواها الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعة ومن حديث ابن مسعود موقوفا .
(17) عن تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ، ص185.
(18) رواه مسلم عن أنس مرفوعا ، ومثله ما رواه الإمام أحمد (4/11) : ( إن أمي وأمك في النار ) . وفي صحيح مسلم ( استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي … )
(19) أنظر فتح الباري (كتاب الإكراه ) .
(20) وانظر المغني لابن قدامة كتاب المرتد ( فصل ومن أكره على الكفر …)
(21) انظر المغني لابن قدامة كتاب المرتد ( فصل ومن أكره على الكفر …)
(22) أنظر ( سبيل النجاة والفكاك ) للشيخ حمد بن عتيق ص 62 ( الحالة الثالثة : أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن وهو على وجهين : أحدهما أن يفعل ذلك لكونه في سلطانهم مع ضربهم وتقييدهم له وتهديده بالقتل ، فإنه والحالة هذه يجوز له موافقتهم في الظاهر مع كون قلبه مطمئن بالإيمان كما جرى لعمار، قال تبارك وتعالى : ((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )) . ) أهـ وسيأتي كلامه على الوجه الثاني قريبا ..
(23) أنظر المغني الموضع السابق نفسه .
(24) كأن هذا هو آخر كلام الإمام أحمد وما بعده شرح صاحب المغني والله تبارك وتعالى أعلم .
(25) الحديث أصله في الصحيحين .(4/81)
(26) أنظر على سبيل المثال المغني ( كتاب القضاء ) مسألة : ( وإذا شهد عنده من لا يعرفه …) ، والمراد من هذا هنا ما يتعلق بالشهادة على الردة و التكفير ، أما في سائر أبواب الفقه الأخرى ، فمعلوم أن فيها تفصيل ، ففي الزنا لا تثبت الشهادة بأقل من أربعة شهداء ، وفي الدين والرجعة شهادة عدلين ، وثبت قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحقوق والأموال بالشاهد الواحد واليمين عند تعذر الشاهدان ، وفي الوصية في السفر تقبل شهادة كافرين إذا لم يوجد المسلمان العدلان كما في سورة المائدة ، وهو من مواضع الحاجات التي راعتها الشريعة ، ومثلها ما جوزه العلماء من شهادات الصبيان على بعضهم في الجراحات التي تكون بينهم ولا يحضرها غيرهم ، وشهادة النساء منفردات على بعضهن في المواضع التي لا يوجد فيها غيرهن ، وانظر في ذلك وفي نصاب الشهادة وبعض الفوائد المتعلقة فيها ؛ اعلام الموقعين (1/91) فصاعدا .
(27) أنظر على سبيل المثال الفتاوى (20/59) .
(28) وانظر في أمثال ذلك أيضا كتابنا ( إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر ) و ( ملة إبراهيم ) و( كشف شبهات المجادلين عن عساكر الشرك وأنصار القوانين ) وانظر أيضا كتاب ( الجامع في طلب العلم الشريف ) للشيخ عبد القادر بن عبد العزيز حفظه الله ، ولا بد لي من أن أنوه هنا ، أنني قد استفدت منه واختصرت من بعض مباحث الجزء الثاني منه بتصرف ، فقد يسر الله تعالى إدخاله إلى السجن خفية عن طريق أخوة أفاضل طلبوا مني أن أنصح لهم في الكتاب ، فكتبت عليه بعض التنبيهات ، سميتها : ( النكت اللوامع في ملحوظات الجامع ) ، وأذكر ذلك هنا من باب نسبة الفضل إلى أهله ، كما قد قال مصنف الجامع نفسه ص 858 نقلا عن ابن عبد البر وأنه ( من بركة العلم ) .
(29) أنظر الواضح في أصول الفقه لمحمد سليمان الأشقر ص 32
(30) مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص 282 ، وانظر إرشاد الفحول ،( الفصل الخامس ) ( فيما لا يجري فيه القياس ) ص 375.
(31) هذا هو الوجه الثاني من حال المذكورين أعلاه ، وتقدم كلامه في الوجه الاول في الهامش في مانع الإكراه ، وهو الذي يكون في سلطانهم مع ضربهم وتقيدهم له وتهديده بالقتل .
(32) لأنه وافقهم على إظهار الكفر دونما إكراه حقيقي ، وإنما تنفع كراهية الباطن المكره على كلمة الكفر إكراها حقيقيا ، أو المستضعف الذي يكتم إيمانه إذا لم يظهر منه ما يناقضه .
(33) فكيف بما هو دون ذلك من القشور وسفاسف الأمور التي يعتبرها البعض موانع من تكفير الطواغيت المحاربين للملة ؛ كتسمية الشوارع أو المدارس أو المعارك بأسماء الصحابة أو نحو ذلك من الأسماء الإسلامية ، وهو الشيء اعتبره الشيخ الألباني مانعا من موانع تكفير طاغوت العراق لما سئل عنه في بعض فتاواه المسجلة صوتيا .
(34) أخرجه مسلم في (كتاب الإيمان ) حديث ( 178)
(35) نسبة إلى نقولا ميكافيلي صاحب كتاب الامير الذي اودع فيه خلاصة تجاربه بين الأمراء ودون فيه نصائحه التي تضمن لهم حفظ عروشهم ، وأشهرها " الغاية تبرر الوسيلة " .
(36) سير أعلام النبلاء (13/586) ولنا في هذا الباب رسالة لطيفة بعنوان ( القول النفيس في التحذير من خديعة إبليس) أوردنا فيها فتوى لشيخ الإسلام حول رجل من اهل السنة قصد إلى هداية جماعة من قطاع الطرق بأن أقام لهم سماعا بدف بشعر مباح واستدرجهم بذلك حتى اهتدى منهم جماعة صاروا يتورعون عن الشبهات بعد أن كانوا لا يتورعون من الكبائر ، فأبطل شيخ الإسلام هذه الطريقة البدعية رغم ما فيها من مصلحة ظاهرة وبين أن هذا الشيخ جاهل بالطرق الشرعية أو عاجز عنها وأن في الطرق الشرعية غنية عن أمثال هذه الطرق البدعية ، أنظرها في مجموع الفتاوى ( 11/337) جزء التصوف ، فكيف به رحمه الله تبارك وتعالى لو رأى استحسانات واستصلاحات من دخلوا في الكفر في زماننا بحجة مصلحة الدعوة والدين ؟
(37) رواه البخاري وغيره من حديث أبي مسعود البدري .
(38) انظر الواضح في أصول الفقه لمحمد سليمان الأشقر ص 31
(39) أنظر إرشاد الفحول للشوكاني ص 24 والمناط : من ناط الشيء أي علقه ، ومنه ( ذات أنواط ) ويطلق المناط على العلة أو السبب لأن الحكم يعلق به .
(40) أنظر مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص 42 ، ومن فرق بينهما لم يخالف في أن كلا من العلة والسبب علامة على الحكم أو أن كلا منهما بني الحكم عليه وربط به وجودا وعدما ، فالعلة والسبب في ذلك كله مترادفان ، وإنما فرق من فرق بينهما في حكمة الربط بين ما ربط به الحكم ، فإن كانت الحكمة والمناسبة في هذا الربط معلومة تدركه عقولنا فهو علة وسبب ، وإن كانت مما لا تدركه عقولنا سمي سببا فقط ، ولا يسمى علة ، فالسفر عندهم علة وسبب لقصر الصلاة ، والزوال سبب لا علة لإيجاب صلاة الظهر ، فكل علة سبب وليس كل سبب علة عند هؤلاء المفرقين ، من هذه الحيثية فقط .(4/82)
ومن جهة أخرى قسم البعض العلة إلى علة تامة وعلة غير تامة ، فالعلة التامة : هي التي تستلزم الحكم ويدور معها وجودا وعدما بحيث إذا وجدت وجد الحكم ولا يتخلف عنها ، فيدخل في لفظ العلة على هذا توفر الشروط وعدم الموانع ، أما غير التامة : فهي ما يقتضي الحكم ، لكن يتوقف على توفر الشروط وانتفاء الموانع ، وهذه يسميها من يقسم هذا التقسيم بالسبب .
فالأولى ما لا يتخلف الحكم عنها ، والثانية ما يحتمل تخلفه لقيام مانع أو عدم شرط .. فالمسألة اصطلاحية تبعا لارتباط العلة أو السبب بالشروط والموانع .. وانظر الفتاوى (21/204) .
(41) أنظر اصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص118 ومثلوا لذلك بمن طلق زوجته رجعيا بثبوت الرجعة له ولو قال عند الطلاق : ( لا رجعة لي ) أو بمن سافر في رمضان بأنه يباح له الفطر سواء أقصد إلى الإباحة أم لم يقصد ..الخ ، فالأحكام كما تقدم تدور مع عللها وأسبابها وجودا وعدما .
(42) الربيبة : بنت الزوجة من غير الزوج الذي معها .
(43) انظر في موضوع تعليل الحكم بعلتين أو أكثر وتفريعاته كتب الأصول المختلفة ، وانظر أيضا مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (20/94) فصاعدا .
================
التكفير بناء على قاعدة (الأصل في الناس الكفر) لأن الدار دار كفر
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
ومن الأخطاء الشنيعة في التكفير؛ التكفير بناء على قاعدة (الأصل في الناس الكفر) لان الدار دار كفر ومعاملتهم واستحلال دماءهم وأموالهم وأعراضهم بناء على هذه القاعدة ، التي أصلوها تفريعاً على أن الدار دار كفر ، وهذا أمر منتشر بين كثير من الغلاة ، وقد تحمله بعض الجهال عنهم دون أن يعرفوا أصله وتبعاته ، ونحن ولله الحمد والمنة لم نقل بهذا التأصيل ولا تبنيناه في يوم من الأيام ، بل كنا -ولازلنا- من أشد المنكرين له ، حتى كفرني بعض غلاة المكفرة ، لما خالفتهم فيه ، وناظرتهم في إبطاله ، ويومها لم أجد عندهم ما يحتجون به لتأصيلهم هذا ، إلا عبارة مبتورة لشيخ الإسلام ابن تيمية اقتطعوها من فتوى له حول بلدة ماردين ، وهي قوله فيها : ( ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ) وقد حرفوها فجعلوها ( دار الكفر التي أهلها كفار ) فخرجوا من ذلك أن كل دار كفر - ولو كانت طارئة حادثة لا أصلية - فأهلها كلهم كفار ، إلا من عرفوا تفاصيل معتقده .. وقد بينت لهم يومها أن هذه اللفظة - خصوصا في ماردين وأمثالها من دور الكفر الطارئة - ما هي إلا اصطلاح للفقهاء للدار التي غلب عليها الكفار وعلتها أحكامهم .. ولا دخل لقاطنيها بوصف الكفر إلا من ارتكب سببا من أسباب التكفير .. وذكرت لهم بعض التفصيل الآتي ، ولكنهم لم يرفعوا بذلك رأسا ، وأصروا على التمسك بتلك العبارة .. فعجبت كيف يقلب الهوى الموازين ، ويجعل من يقر بعدم حجية قول الصحابي ولا يقبل قول غيره من أهل القرون الثلاثة المفضلة في فرع من الفروع ، يحتج بقول مبتور مقتطع من كلام عالم في القرن السابع ، وفي مسألة هي من أخطر أبواب الدين ، عندما يظن أن ذلك القول يوافق هواه ، أو يحقق رغبته وحاجته .. !! مع أنهم يقرون بأن جميع الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتج لكلامهم ولا يحتج به ، ويحتاج إلى الدليل والبرهان وليس هو وحده بدليل ولا برهان ..
وقد بين الله عز وجل بعض دوافع النفس وأهوائها ، في الاندفاع نحو التكفير والتسرع فيه أحيانا ، في قوله تعالى : (( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا )) ؛ فقال : ((تبتغون عرض الحياة الدنيا )) .. وكذلك كانت رغبات أولئك الأغرار الذين كنت أناظر بعضهم ، فقد كانوا يتحينون أسهل وأقرب فرصة لانتهاب أو سرقة ما يقع تحت أيديهم من أموال وممتلكات من حكموا عليهم بالكفر ، حتى وإن كانوا من الدعاة والمجاهدين ، أو من المسلمين المستضعفين ، فأموالهم عندهم غنائم ، وقد شاهدت من ذلك أمثلة ، وفي آخر الأمر اقتتلوا هم فيما بينهم واختلفوا على بعض الأموال ..!!
أسأل الله تعالى أن يهديهم سواء السبيل ، وأن يجنب شباب المسلمين هذه الفتن المضلة .. إذ الجرأة على تكفير المسلمين وإباحة دماء الموحدين وأموالهم من غير موجب شرعي ، لا تقدم عليه إلا النفوس المريضة التي لم تشم رائحة الورع والتقوى ..
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ).
وقال أيضا فيما يرويه البخاري ومسلم : ( لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ) رواه البخاري من حديث ابن عمر
وفيه : وقال ابن عمر : ( إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله )
وفي البخاري أيضا سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك ، قال : يا أبا حمزة ، ما يحرم دم العبد وماله ؟
فقال : ( من شهد أن لا إله إلا الله ، واستقبل قبلتنا ، وصلى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم ، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم )(4/83)
وتقدم ما ذكره القاضي عياض في الشفا (2/277) عن العلماء المحققين قولهم : ( إن استباحة دماء المصلين الموحدين ، خطر ، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد ) أهـ .
ونقل عن القابسي قوله : ( ولا تهراق الدماء إلا بالأمر الواضح ، وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء .. ) أهـ . (2/262) .
ولو انشغل هؤلاء في طلب العلم الشرعي وتقليب كتب العلماء ومطالعة الأصول والفروع ، لعرفوا أن دون إباحة الدم والمال وإن صدر القول أو الفعل المكفر ؛ مراحل وشروط وموانع قد تمنع من التكفير فضلا عن الإباحة .. خصوصا في أمثال من تسلطوا عليهم من المستضعفين أو الدعاة والمؤمنين غير الممتنعين بشوكة الطواغيت أو أنظمتهم وقوانينهم .. وأنه لا يلزم من الحكم على الفعل أو القول بالكفر ، تكفير المعين - كما تقدم - ومن ثم فلا تترتب على الحكم آثاره التي يهوونها ويشتهونها ويبتغونها ..
أضف إلى هذا أن جمهور العلماء ، بل ذكر ابن المنذر إجماعهم ؛ على أن مُلك المرتد لا يزول بمجرد ردته(1) إذا كانت ردته غير مغلظة ولا كان ممتنعا ، فإنه يستتاب والحالة كذلك ، وقد يرجع إلى الإسلام .
وكل من تأمل فتوى شيخ الإسلام التي اجتزؤوا منها حجتهم ، وجدها من أولها إلى آخرها حجة عليهم ، فقد سئل رحمه الله عن بلدة ماردين التي احتلها التتار وتغلبوا عليها وفيها أناس مسلمون …. فأجاب رحمه الله : ( الحمد لله دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها … والمقيم بها إن كان عاجزا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه ، وإلا استحبت ولم تجب … ) إلى قوله : ( ولا يحل سبهم عموما ورميهم بالنفاق ، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم(2) وأما كونها دار حرب أو سلم ، فهي مركبة : فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيه بما يستحقه ، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه ) أهـ . مختصرا من مجموع الفتاوى (28/135).
فهو يقرر:
- أن دماء المسلمين وأموالهم ، الأصل الأصيل فيها ؛ هو الحرمة والعصمة حيث كانوا ، ولا دخل للدار أو البلدة في ذلك ، بل مناط تلك العصمة إظهار المرء للإسلام ، لا إظهار الدار للإسلام .
- وأنه لا يحل رمي المسلمين بشيء من صفات النفاق ونحوها ، لمجرد كون الدار قد صارت تحت غلبة الكفار ، دون أن يحدث أولئك المسلمون أمرا .
- وأن الدار التي سئل عنها وأمثالها ، وإن كان ينطبق عليها وصف الفقهاء لدار الكفر لغلبة الكفار عليها ، إلا أنها بالنسبة للحكم على أهلها مركبة .
فليست هي كدار الإسلام الأصلية التي يتميز فيها أهل الكتاب بالغيار ( أي اللباس الذي يميزهم ) ولا يقر المرتد فيها بحال .. فالأصل في كل من عدا أهل الكتاب من ساكنيها ، أنه من المسلمين ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلم المرء في مثلها على من يعرف ومن لا يعرف(3) .. ولذلك نص الفقهاء واستدلوا كثيرا في فروع الفقه بمقولة : ( الأصل في دار الإسلام الإسلام ) ..
ولا هي أيضا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ولم تكن يوما دار إسلام ولا كان جمهور أهلها مسلمين .. فهي إذن ليست دار كفر أصلية ، بل قد كانت قبل تغلب الكفار عليها دار إسلام وجمهور أهلها من المسلمين .. ولذلك لم ينط الحكم على أهلها ومعاملتهم تبعا لشيء من تلك الاصطلاحات لعدم انضباطها ، بل من أظهر الإسلام عصم ماله ودمه وعومل معاملة المسلمين ، ومن خرج عن شريعة الإسلام عومل بما يستحقه .. فكلامه رحمه الله واضح لا لبس فيه ..
ولكن الأمر كما ذكر رحمه الله في موضع غير هذا .. أن اجتماع الشهوة مع الشبهة يقوي الدافع إلى الشبهة ويورث فساد العلم والفهم ..
والقوم وجدوا في ذلك الفهم السقيم ، ما يثبت شبهاتهم ويسوغ شهواتهم ( الغنائمية) فتمسكوا بقوله ( ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ) ؛ فجعلوا الكفر هو الأصل في أهل كل دار تدخل تحت اصطلاح دار الكفر ولو كان وصف الكفر فيها طارئا لغلبة الكفار على أحكامها .. فكفروا أهلها كلهم ولو كان جمهورهم من المنتسبين للإسلام .. وتمسكوا بذلك وأصروا عليه ..
هذا وقد كنت تتبعت قديما مصطلح دار الكفر ودار الإسلام وجمعت أقوال كثير من العلماء وتعريفهم للدار ، ونظرت في أثر هذا الاصطلاح عندهم على قاطنيها ، فلم أجد عند أحد من العلماء المحققين شيئا من هذا الذي رامه هؤلاء ..خصوصا في دار الكفر الطارئة التي كان جمهور أهلها مسلمين ..
نعم وجدت شيئا شبيها بمقالاتهم .. عند بعض طوائف الخوارج الضلال ..
فالأزارقة أصحاب (نافع بن الأزرق) قالوا : ( إن من أقام في دار الكفر فهو كافر ، لا يسعه إلا الخروج ) ، ومعلوم أنهم يرون أن دار مخالفيهم من المسلمين دار كفر .
والبيهسية والعوفية قالوا : ( إذا كفر الإمام كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد ) وهذا كله من سخفهم وجهلهم ، وسنأتي على ذكره في الفصل الرابع من هذا الكتاب ..(4/84)
أما العلماء المحققين ، فقد تدبرت أقوال كثير منهم ، فلم أجد عندهم شيئا من هذه الإطلاقات ؛ ولا يعكر على إطلاقي هذا ما ورد في أحكام القرآن للجصاص وغيره ، مما قد يظنه المتعجل شبيها بذلك ، فليس هو من هذا الباب ، وذلك لكونه ورد في أرض العدو التي يعنون بها دار الحرب أو الكفر الأصلية ، وفي ظل وجود دار إسلام وجماعة المسلمين الذين يقدر المسلم على التحول إليهم ثم هو يفرط في ذلك ويبقى مكثرا لسواد أهل الشرك .
أما إطلاق تلك القاعدة وذلك الاصطلاح وإعماله مطلقا في قاطني الدار التي طرأ عليها الكفر مع أن جمهور أهلها من المنتسبين للإسلام ، دون اعتبار لاستضعاف المسلمين وعدم وجود دار إسلام يهاجر ويأوي إليها المسلم ، ودون أن يتواطأ المسلم أو يعين على كفر ، فهذا ما لم أجده بحال ، وأعجبني في خاتمة المطاف قول الشوكاني في السيل الجرار : ( اعلم أن التعرض لذكر دار الإسلام ودار الكفر قليل الفائدة جدا ، لما قدمنا لك في الكلام على دار الحرب ، وأن الكافر الحربي مباح الدم والمال على كل حال ما لم يؤمّن من المسلمين ، وأن مال المسلم ودمه معصومان بعصمة الأسلام في دار الحرب وغيرها ) أهـ. (4/576).
فهذا الذي يهمنا من ذلك ، وهو موافق لخلاصة كلام شيخ الإسلام في أهل ماردين وغيرهم ..
والعلماء جميعهم على ذلك .. فأنت تخرج من تتبع تعريفاتهم لدار الكفر ودار الإسلام ، بأن هذه المسميات اصطلاح فقهي لا أثر له في الحكم على من أمكن معرفة دينه من قاطني الديار ، وأن من أظهر الإسلام ولم يأت بناقض من نواقضه الظاهرة معصوم الدم والمال حيث كان ..
وتعريفاتهم وإن تفاوتت بعض التفاوت ، فجمهورهم على أن هذا المصطلح يطلق تبعا للأحكام والغلبة التي تعلو الدار، فإن كانت تعلو الدار أحكام الكفر أو أن الغلبة فيها للكفار فقد اصطلحوا على تسميتها دار كفر، وإن كان أكثر أهلها من المسلمين .. وإن كانت الغلبة فيها والأحكام للمسلمين فهي دار إسلام وإن كان أكثر قاطنيها من الكفار، كما يكون الحال في البلاد التي يسكنها أهل الذمة ويحكمها المسلمون ..
قال ابن حزم (456هـ) : (وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين " إنما عنى بذلك دار الحرب ، وإلا فقد استعمل عليه السلام عماله على خيبر وهم كلهم يهود ، وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم فلا يسمى الساكن فيهم لإمارة عليهم أو لتجارة بينهم كافرا ولا مسيئا بل هو مسلم محسن ، ودارهم دار إسلام لا دار شرك ، لأن الدار إنما تنسب للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لها ) أهـ المحلى (11/200).
وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي(458هـ) : ( كل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي دار كفر ) أهـ. المعتمد في أصول الدين ص(276).
وقال ابن القيم(751هـ) : ( ما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها ، فهذه الطائف قريبة إلى مكة جدا ولم تصر دار إسلام بفتح مكة ) أهـ أحكام أهل الذمة (1/366).
وقال الشوكاني (1250هـ) في السيل الجرار (4/575) : (الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام ؛ فهذه الدار دار إسلام ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم ، كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية ، وإذا كان الأمر بالعكس فالدار بالعكس ) أهـ.
وقال سليمان بن سحيمان (1349هـ) شعراً :-
إذا ما تغلب كافر متغلب على ... ... دار إسلام وحل بها الوجل
وأجرى بها أحكام كفر علانيا ... ... وأظهرها فيها جهاراً بلا مهل
وأوهى بها أحكام شرع محمد ... ... ولم يظهر الإسلام فيها وينتحل
فذي دار كفر عند كل محقق ... ... كما قال أهل الدراية بالنحل
وما كل من فيها يقال بكفره ... ... فرب امرئ فيها على صالح العمل
فأنت ترى من مطالعة هذه التعريفات وغيرها أنهم اصطلحوا على هذا المصطلح كدلالة على نوع الغلبة والأحكام التي تعلوا الدار ، وينبهون كما رأيت غالباً على أن المسلم معصوم الدم والمال حيث كان وأنه لا أثر لقاطني الديار ، إسلام أكثرهم أو كفرهم في الحكم على الدار ، كما وأنه لا أثر للحكم على الدار وحده في إسلامهم أو كفرهم .. خصوصا إذا كانت دار كفر حادثة طارئة ، لا أصلية ..
وما كل من فيها يقال بكفره ... ... فرب امرئ فيها على صالح العمل
كما قال ابن سمحان ..
• ولقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر عام 7هـ ، وكان أهلها كلهم يهود فأقرهم صلى الله عليه وسلم فيها وصالحهم على زراعتها، فصارت بغلبة المسلمين وعلو أحكامهم عليها ، دار إسلام ، وجازت السكنى والإقامة فيها والاستيطان ، فكان له صلى الله عليه وسلم فيها عمال ..(4/85)
• وفي المقابل لما ادعى الأسود العنسي النبوة في اليمن وارتد قوم من أهلها واتبعوه حتى غلب على صنعاء - وذلك في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا – فقتل الأسود واليها شهر بن باذان الذي كان قد أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، وفر بعض عمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لما استشرى أمر العنسي ، وارتد خلق معه (وعامله المسلمون هناك بالتقية )(4) فلم يكفروا ببقائهم في دار الردة وعدم فرارهم، بل كان منهم فيروز الديلمي وأصحابه الذين ثبتوا واحتالوا حتى قتلوا الأسود العنسي وعادت الغلبة في اليمن للمسلمين ..
فهاهي صنعاء صارت دار كفر بغلبة المرتدين والكفار عليها بعد أن كانت دار إسلام أي أنها صارت دار ردة ، وبقيت تحت غلبة الأسود الذي ادعى النبوة لمدة أربعة أشهر أو قريباً منها .. ولم يمنع ذلك من وجود مسلمين صالحين فيها ، يأخذون بالتقية ، ويعملون لإعادة الغلبة للمسلمين ، حتى تمكنوا في آخر أمرهم من قتل الأسود وإعادة اليمن إلى حكم المسلمين ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك (5) ، ولا قال أنهم كفروا ببقائهم في صنعاء وعدم فرارهم إذ صارت دار كفر بتغلب الكفار عليهم .. وهذا مع وجود دار الإسلام وجماعة المسلمين .
• وأيضا بعد ذلك لما سقطت مصر ، بأيدي العبيديين الكفرة من بني عبيد القداح واستولوا عليها وتغلبوا على الحكم فيها صارت دار كفر وردة بعد أن كنت دار إسلام وجمهور أهلها من المسلمين ، فبقيت تحت حكم العبيديين نحو مائتي سنة أظهروا فيها رفضهم وكفرهم وزندقتهم ، حتى ألّف ابن الجوزي كتابه ( النصر على مصر ) .. ومع ذلك لم يقل أحد من العلماء المحققين أن حكم الكفر هذا الذي أطلق على الدار وعلى المتغلبين عليها ، قد شمل أهلها المستضعفين ..
بل قد كان فيهم علماء وفقهاء وصالحون كثير ، فمنهم من كان مستخفيا ولا يقدر على إظهار عقيدته في بني عبيد ، بل ولا حتى التحديث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يقتل ( كما حكى إبراهيم بن سعيد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد أنه امتنع من رواية الحديث خوفا أن يقتلوه ) (6)
ومع هذا فعموم المسلمين كانوا يضمرون بغض بني عبيد ، والبراءة منهم ، وربما أظهر ذلك بعضهم بطريقة لا يناله فيها بطشهم ، كما ذكر السيوطي في مقدمة تاريخ الخلفاء عن ابن خلكان أنه قال في العبيديين : ( وقد كانوا يدعون علم المغيبات ، وأخبارهم في ذلك مشهورة ، حتى إن العزيز صعد يوما المنبر فرأى ورقة مكتوب فيها :
بالظلم والجور قد رضينا ... ... وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أعطيت علم الغيب ... ... بين لنا كاتب البطاقة.
وكتبت إليه امرأة قُصة فيها : بالذي أعز اليهود بميشا ، والنصارى بابن نسطور ، وأذل المسلمين بك ، إلا نظرت في أمري ) أهـ (7) .
فمَنْ من العلماء المحققين ، لا من الفشارين المتهورين .. قال بتكفير هؤلاء لمجرد إقامتهم في دار الكفر ما داموا لم يظهروا سببا من أسباب الكفر ؟؟ هذا مع وجود در إسلام يهاجر إليها في ذلك الوقت ، فكيف مع عدمها في زماننا ؟؟
وقد كان العبيديون شرا على ملة الإسلام من التتر كما ذكر الذهبي ، فمنهم من كان يظهر سب الأنبياء .. أما سب الصحابة فحدث ولا حرج – فقد ذكر السيوطي عن أبي الحسن القابسي : ( أن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه من العلماء والعباد أربعة آلاف رجل ليردوهم عن الترضي عن الصحابة فاختاروا الموت ، قال : فيا حبذا لو كان رافضيا فقط ، ولكنه زنديق ) تاريخ الخلفاء ص 13 .
فأنت ترى أنه كان في مصر آنذاك فقهاء ، كما قدمنا أيضا في كلام أبي محمد القيرواني الكيزاني قوله :( إنما أقام من أقام من الفقهاء على المباينة لهم لئلا تخلوا للمسلمين حدودهم فيفتنوهم عن دينهم ) أهـ .
فكان منهم من يستخفي ومنهم من يظهر دينه فيقتل .. كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني : ( كان المهدي عبيد الله باطنيا خبيثا حريصا على إزالة ملة الإسلام ، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق ) أهـ . تاريخ الخلفاء ص 12 .
وممن واجههم بكفرهم من العلماء الشهيد – نحسبه كذلك – أبو بكر النابلسي الذي أحضره المعز: ( فقال له : بلغني عنك أنك قلت : لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين بسهم ، فقال ما قلت هذا ، فظن أنه رجع عن قوله ، فقال كيف قلت ؟ قال : قلت : ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر . قال: ولم ؟ قال : ( لأنكم غيرتم دين الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الإلهية ، وادعيتم ما ليس لكم ) فشهره ثم ضربه بالسياط ثم جاء بيهودي فأمره بسلخه فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن ، قال اليهودي : فأخذتني رقة عليه ، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات ..) البداية والنهاية ( 11/284) مختصرا وانظر سير أعلام النبلاء (16/148) .(4/86)
والشاهد من هذا كله أن أحوال المسلمين تحت حكم المتغلبين الكفار في كل زمان تغلبوا فيه على بعض ديار الإسلام ، كانت تتفاوت بين مستضعف مستخف أو آخذ بالتقية أو مجاهد قائم بدين الله تبارك وتعالى ، ولم يكن العلماء يطلقون الكفر على أحد من هؤلاء ما داموا لم يتلبسوا بشيء من نواقض الإسلام وأسباب الكفر الظاهرة، وإنما كفروا من نصر الكفار أو المرتدين أو أظهر موالاتهم أو صار من أهل دولتهم وحكمهم الكفري كما نقل ابن كثير في البداية والنهاية ( 11/284) عن القاضي الباقلاني قوله في العبيديين : ( إن مذهبهم الكفر المحض واعتقادهم الرفض وكذلك أهل دولته من أطاعه ونصره ووالاه قبحهم الله وإياه ) أهـ.
..و الأمثلة من جنس هذا في التاريخ كثيرة …
والشاهد منه أن الأصل في كل منتسب للإسلام أو مظهر لخصائصه ؛ الإسلام ، ما لم يظهر سببا من أسباب الكفر ، والأصل فيه أنه معصوم الدم والمال والعرض حيث كان ..
-وقد قال تبارك وتعالى : (( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم )) .
فسماهم مؤمنين مع أنهم كانوا في مكة حين كانت دار كفر ، ورغم أنهم كانوا مستخفين لا يعلمهم المؤمنون.
قال في روضة الطالبين (10/282) : ( فرع : المسلم إن كان ضعيفا في دار الكفر لا يقدر على إظهار الدين ، حرم عليه الإقامة هناك ، وتجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام ، فإن لم يقدر على الهجرة ، فهو معذور إلى أن يقدر ، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر سقط عنه الهجرة ، وإن كان يقدر على إظهار الدين ، لكونه مطاعا في قومه ، أو لأن له هناك عشيرة يحمونه ، ولم يخف فتنة في دينه ، لم تجب الهجرة ، لكن يستحب لئلا يكثر سوادهم ، أو يميل إليهم ، أو يكيدوا له ، وقيل ؛ تجب الهجرة ، حكاه الإمام ، والصحيح الأول ) أهـ.
وقال الماوردي : ( فإن صار له بها – أي دار الكفر – أهل وعشيرة وأمكنه إظهار دينه لم يجز له أن يهاجر لأن المكان الذي هو فيه قد صار دار إسلام )
قال رشيد رضا تعليقا على ذلك : ( هذا قول باطل لأن مجرد إظهار الرجل لدينه لا يجعل الدار دار إسلام والأحكام فيها غير إسلامية ، فإن جميع بلاد أوروبة لا يعارض أحد فيها إذا أظهر دينه أو دعا إليه حتى في حال محاربتهم للمسلمين ولأن الهجرة من دار إسلام إلى أخرى جائزة بالإجماع ، ولو قال لا تجب عليه الهجرة في تلك الحالة لكان قريبا ، ولعل هذا هو الأصل ، ووقع الغلط في النقل . ) أهـ من شرح الأربعين النووية ، ص13 ضمن ( مجموعة الحديث النجدية )
- وقال سبحانه وتعالى في تفاصيل قتل المؤمن خطأ: ((وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ..))
فسماه تبارك وتعالى مؤمنا ، وجعل في قتله خطأ كفارة ؛ مع انه مقيم مع أعدائنا في دار الحرب ، على قول طائفة من السلف والفقهاء والمفسرين كما في تفسير ابن جرير وغيره .. وانظر روضة الطالبين ( 9/381) .
وقال الشوكاني في فتح القدير (1/498) : ( و هذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم ثم أسلم ولم يهاجر وهم يظنون أنه لم يسلم وأنه باق على دين قومه ، فلا دية على قاتله ، بل عليه تحرير رقبة مؤمنة ، واختلفوا في وجه سقوط الدية، فقيل وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية ، وقيل وجهه أن هذا الذي آمن حرمته قليلة .. لقول الله تبارك وتعالى : (( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير )) ..) أهـ .
وتأمل وصف الله لهم بالذين آمنوا مع أنهم لم يهاجروا من دار الكفر في ظل وجود دار إسلام كانت الهجرة واجبة إليها .
وقد ذكر الشوكاني بعد ذلك أن بعض أهل العلم أوجب ديته ولكن لبيت المال، ويستأنس لهذا القول ، ولما نحن بصدده أيضا بما رواه أبو داود (2642) والترمذي من حديث جرير بن عبد الله قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم ، فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل، قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا : يا رسول الله لم ؟ قال : لا ترايا { تراءى} ناراهما )
وقد أعلّ الحديث بالإرسال حيث لم يذكر جرير في رواية جماعة ، لكن صححه بعض العلماء بمجموع طرقه .
وقد ذكر الخطابي وبعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر لهم بنصف العقل بعد علمه بإسلامهم ، لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار ، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره ، فسقط بذلك حصة جنايته فلم يكن له إلا نصف العقل ( أنظر عون المعبود ) (7/218)(4/87)
وهذا كله من الدلائل على أن مثل هذا لا يكفر رغم تقصيره في الهجرة ، وعصيانه بالمقام بين ظهراني المشركين ، وليس أظهر في الدلالة على ذلك تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالمسلم وعدم رفع هذه الصفة عنه ، ولا يعكر على ذلك براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه وكون البراءة الكلية لا تكون إلا من الكافر لان المراد بالبراءة هنا براءة الذمة من عقله كاملا (8)، كما قد فسر في الحديث نفسه ، ومن ذلك أيضا قصور حقه في النصرة لتقصيره في الهجرة ، فهذه قرائن صارفة للبراءة المكفرة ، إلى براءة من نوع ثان فسرتها السنة وذكرها الله تعالى في قوله : ((والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير )) .
اللهم إلا أن يضم إلى إقامته في دار الكفر وتقصيره بالهجرة الواجبة إلى دار الإسلام ؛ مظاهرته للمشركين ومحاربته للمسلمين ، فحينئذ تكون البراءة منه براءة كلية مكفرة ..
قال ابن حزم بعد أن ذكر الحديث أعلاه : ( وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر . قال تبارك وتعالى ((المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )) ، ثم قال ؛ ( فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من وجوب القتل عليه متى قدرعليه ، ومن اباحة ماله ، وانفساخ نكاحه وغير ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم ، وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه ، ولم يحارب المسلمين ، ولا أعان عليهم ، ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه لأنه مضطر مكره ) . أهـ المحلى ( 13/138-139)
وهو صريح في أن اللحوق بدار الكفر إنما يكون كفرا ، إذا ما انضاف إليه محاربة المسلمين وإعانة الكفار ومظاهرتهم عليهم ، فهو يتنزل على أنصار الشرك المحاربين للدين أو من ظاهر المشركين والكافرين على الموحدين لا على عموم المقيمين في دار الكفر .
ثم قال ابن حزم : ( وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازما على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه ، وهو كان الوالي بعد هشام فمن كان هكذا فهو معذور .
وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم من المسلمين ، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر أو لقلة مال أو لضعف جسم أو لامتناع طريق فهو معذور .
فإن كان هنالك محاربا للمسلمين معينا للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر.) أهـ
وإياك أن تفهم من قوله : (معينا للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر ) ، التكفير بمجرد إعانة الكفار بمطلق الخدمة أو الكتابة ، كما يطلقه بعض الغلاة ، فقد رأيت كيف ربط ابن حزم هذه الإعانة بحرب المسلمين ، فهذا هو الكفر ، أعني حرب المسلمين ومظاهرة الكفار ونصرتهم عليهم في حربهم ولو بالكتابة ونحوها ، لا مطلق خدمتهم والكتابة لهم ، فهذا فيه تفصيل سيأتي في تفصيل العمل عند الكفار .
ثم قال رحمه الله : (وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها وهو كالذمي لهم وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم فما يبعد عن الكفر وما نرى له عذرا ونسأل الله العافية .
وليس كذلك من سكن في طاعة أهل الكفر من الغالية ومن جرى مجراهم لأن أرض مصر والقيروان ( يشير إلى العبيديين ) وغيرهما فالإسلام هو الظاهر وولاتهم على كل ذلك لا يجاهرون بالبراءة من الإسلام بل إلى الإسلام ينتمون وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفارا .
وأما من سكن في أرض القرامطة مختارا فكافر بلا شك لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام ونعوذ بالله من ذلك .
وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر ، فهو ليس بكافر لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال من التوحيد والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين غير الإسلام وإقامة الصلاة وصيام رمضان وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان ، والحمد لله رب العالمين . ) أهـ .
ومعلوم أن هذا كله في ظل وجود دار إسلام ..
وتأمل اعتبار ابن حزم لظهور شرائع الإسلام وخصائصه العظام كتوحيد الله والإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهار الصلاة وصيام رمضان وانتساب الولاة للإسلام وعدم براءتهم منه – رغم كفرهم ؛ تأمل اعتباره لذلك في تسويغ إقامة المسلم – أو على الأقل عدم تكفيره – لإقامته في دار كفر هكذا وصفها وهكذا حال ولاتها .. ولا يماحك في شبه هذا لحال بلاد المسلمين اليوم إلا مكابر .
وكذا الحديث المذكور في براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن أقام بين ظهراني المشركين ؛ فقد قيل في ظل وجود دار إسلام ، بل قد قيل في وقت كانت الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم واجبة قبل فتح مكة، ومع هذا لم يكفر أمثال هؤلاء بمجرد إقامتهم بين المشركين ، وإن أثموا وعوقبوا بنقصان حرمتهم ، وضعف وقصور ولايتهم ..(4/88)
فإذا ما عدمت دار الإسلام التي يهاجر المسلم إليها فإنه بإقامته بدار الكفر معذور إذا ما اتقى الله واجتنب الشرك ، وإعانة أهله على المسلمين ، إذ لا سبيل إلى دار إسلام يهاجر إليها حتى يأثم بتقصيره في ذلك ، فضلا عن أن يكفر !! .
فكيف إذا كانت إقامته في دار الكفر والحالة كذلك ، لأجل نصرة دين الله وإظهار التوحيد ومقارعة الشرك والتنديد ؟ لا شك أن مثل هذا المسلم محسن مأجور قائم بدين الله تبارك وتعالى ..
وفي الحديث المتواتر المروي عن بضع عشر صحابيا بألفاظ متقاربة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على أمر الله لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله ) .
ومثله الحديث الآخر : ( الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ) وهو في صحيح البخاري ..
فهذان الحديثان يدلان على وجود المسلمين الصادقين والمجاهدين إلى يوم القيامة ، واستمرار وجودهم في كل الظروف ، في ظل وجود دار الإسلام وفي حال عدمها ..
بل قد قرر العلماء وجوب إقامة المسلم في دار الكفر ، إذا أمكنه السعي في تحويلها إلى دار إسلام ؛ كما جاء في ( مغني المحتاج ) للشربيني (4/239) : ( ولو قدر على الامتناع بدار حرب والاعتزال وجب عليه المقام بها ، لأن موضعه دار إسلام ، فلو هاجر لصار دار حرب ، فيحرم ذلك، نعم إن رجا نصرة المسلمين بهجرته ، فالأفضل أن يهاجر ، قاله الماوردي – وقد تقدم – ثم في إقامته يقاتلهم على الإسلام ، ويدعوهم إليه إن قدر.. وإلا فلا ) أهـ .
ونقل في روضة الطالبين (10/282) عن صاحب ( الحاوي ) قوله : ( فإن كان يرجو ظهور الإسلام هناك بمقامه ، فالأفضل أن يقيم ، قال : وإن قدر على الامتناع في دار الحرب والاعتزال ، وجب عليه المقام به ، لأن موضعه دار إسلام ، فلو هاجر لصار دار حرب ، فيحرم ذلك ، ثم إن قدر على قتال الكفار ودعائهم إلى الإسلام لزمه ، وإلا فلا ، والله أعلم .) أهـ
فتأمل إيجابهم المقام بدار الكفر في مثل هذه الحال ، فأين المتنطع المكفر بذلك ، من هذا ! ؟.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح : ( وفيه – أي حديث الخيل – بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة ، لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون ، وهو مثل الحديث الآخر ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ) أهـ . من كتاب الجهاد والسير ( باب الجهاد ماض مع البر والفاجر )
وقريب من هذا المعنى حديث حذيفة المتفق عليه : ( فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ) ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) .
ففيه أنه لا أثر لغياب جماعة المسلمين أو إمامهم- وهذه مقومات دار الإسلام - ولا علاقة لذلك في إسلام المرء أو كفره ، وإنما المناط الذي يتعلق ذلك به هو إظهاره لسبب من أسباب الكفر ..
فهذا كله يدل على أن المسلم إذا كان في دار الكفر ولم يهاجر منها إلى دار الإسلام لعجز أو مانع منعه أو لتمكنه من إظهار دينه فيها ، أو لقيامه بالجهاد ونصرة الدين .. فهو مسلم معصوم الدم والمال ..
فمن باب أولى أن يبقى المسلم كذلك في حال عدم وجود دار إسلام يهاجر إليها أصلا ..
فإن الله تبارك وتعالى لم ينط أحكام التكفير بأمور قاهرة لا كسب للعباد فيها .. وإنما أناطها سبحانه وتعالى بأسباب ظاهرة منضبطة – كما تقدم – تنحصر بقول او فعل مكفر من كسب المكلف .. وما لم يظهر المرء شيئا من ذلك ، فلا سبيل إلى تكفيره ، بأمور خارجة عن إرادته ما دام عنده أصل الإسلام ..
والخلاصة ان مصطلح دار الكفر لا اثر له في الحكم على قاطني الدار ، خصوصا في وقت قد أمست الأرض كلها فيه دار كفر إما أصلية ، أو طارئة لغلبة الكفار وأحكامهم على جميع البلاد ..
ويتأكد ذلك إذا كانت الدار الموصوفة بهذا المصطلح دار كفر طارئ ، أي أنها كانت قبل ذلك دار إسلام ولا زال جمهور أهلها ينتسبون للإسلام ، وهذا أمر غفل أو تغافل عنه كثير من المتحمسين ، فلم يفرقوا بين دار الكفر الأصلية التي يغلب الفقهاء حكمها في حكمهم بالتبعية في بعض المسائل ، وبين دار الكفر الحادثة ، أي التي كانت للمسلمين فغلب عليها الكفار ، فإن الفقهاء يؤصلون فيها لمجهول الحال الذي لا سبيل إلى معرفة حاله – كالميت واللقيط والمجنون – بالإسلام والعصمة ، احتياطا لحرمة المسلمين وعصمة لدمائهم ولو لم يبق فيها إلا مسلم واحد ، لان الإسلام يعلو ولا يعلى ، بل أصّل بعضهم بالإسلام لمثل ذلك ولو لم يظهر فيها مسلم لاحتمال أن يكون فيها مؤمن يكتم إيمانه .(9)
نقل النووي عن الرافعي في روضة الطالبين قوله في سياق كلامه عن اللقيط يوجد في الدار والحكم له بالتبعية ، أن دار الإسلام ثلاثة أضرب :
أحدها : دار يسكنها المسلمون ’ فاللقيط الموجود فيها مسلم ، وإن كان فيها أهل ذمة ، تغليبا للإسلام .(4/89)
الثاني : دار فتحها المسلمون وأقروها في يد الكفار بجزية ، فقد ملكوها ، أو صالحوهم ولم يملكوها ، فاللقيط فيها مسلم إن كان فيها مسلم واحد فأكثر ، وإلا فكافر على الصحيح ، وقيل مسلم لاحتمال أنه ولد مَنْ يكتم إسلامه منهم .
الثالث : دار كان المسلمون يسكنونها ثم جلوا عنها وغلب عليها الكفار ، فإن لم يكن فيها من يعرف بالإسلام ، فهو كافر على الصحيح ، وقال أبو اسحاق : مسلم ،لاحتمال أن فيها كاتم إسلامه ، ,إن كان فيها معروف بالإسلام فهو مسلم ..
هذا في أحوال دار الإسلام ، أما في دار الكفر الأصلية فقال : ( دار الكفر ، فإن لم يكن فيها مسلم ، فاللقيط الموجود فيها محكوم بكفره ، وإن كان فيها تجار مسلمون ساكنون ، فهل يحكم بكفره تبعا للدار ، أو بإسلامه تغليبا للإسلام ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني . )
فتأمل احتياط العلماء وتغليبهم للإسلام عند الإشكال حتى في دار الكفر الأصلية ، احتراما لحرمة المسلمين ، واحتياطا في عصمة دمائهم ؛ فمن باب أولى في دار الكفر الطارئة التي ينتسب جمهور أهلها للإسلام .
وعلى كل حال فما دام هذا المصطلح إنما أطلقه الفقهاء للدلالة على أن الغلبة والهيمنة في الدار للكفار وأحكامهم ، فلا يصح والحال كذلك تأصيل قاعدة (الأصل في الناس الكفر) على هذا المصطلح خصوصا في دار الكفر الطارئة التي ينتسب جمهور أهلها للإسلام ويظهرون خصائصه ..
إذ ما دام المصطلح غير مناط ولا معلق بقاطني الديار ونوع ديانتهم ، فكيف يصح التأصيل لديانتهم عليه .. فالتأصيل معناه ؛ استصحاب حكم الأصل .. فلو كان هذا الاصطلاح مرتبط بديانة جمهور أهل الدار لصار للتأصيل مدخل .. ولذلك فإن الفقهاء إذا تكلموا في دار الإسلام التي يلزم فيها أهل الكتاب بالغيار ولا يقر فيها المرتد بحال – أو إذا تكلموا في دار الكفر الأصلية التي لم يدخلها الإسلام ولا كان جمهور أهلها مسلمين .. تراهم يستعملون التبعية للدار في بعض المجالات الضيقة حيث يعدم الظاهر والسيما ، ويتعذر تبين حال الإنسان ، كاللقيط أو المجنون أو الميت الذي لايبين عن نفسه – يوجد في أحد الدارين ولا يعرفه أحد ولا علامة مميزة تدل على دينه .. فألحقوهم بالدار في مثل هذه الأحوال .. أي أنهم اعتبروا في هذا واستصحبوا فيه ديانة أهل الدار ، لا مجرد الاصطلاح التابع للغلبة والحكم فقط كما يفعله أولئك الغلاة وفي دار الكفر الطارئة..
وعلى كل حال فموضوع الحكم بالتبعية الذي تعرض له الفقهاء لا دخل له بما نحن في صدد رده ، فليس هو فيمن أظهر شيئا من علامات الإسلام وخصائصه ومع هذا يكفر ؛ كما يكفره من يكفره من الغلاة طبقا لهذه القاعدة .. بل ينحصر ذلك في مجهول الحال الذي يتعذر تبين حاله لانعدام السيما ولصغره أو موته أو ذهاب عقله ، وليس هناك من يدعيه من والد أو أولياء ليلحق بهم.. ولذلك فقد نص الفقهاء على أنه متى ظهرت عليه علامة تدل على دينه أو ادعاه أحد ما .. قدم هذا الظاهر على ذلك الاستصحاب .. ولذلك قدموا التبعية للوالدين على التبعية للدار (10).
وذلك لان الاستصحاب كما قد قرر علماء الأصول أضعف الأدلة ولا يصار إليه إلا عند التعذر عن إثبات ظاهر ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (الظاهر يقدم على الاستصحاب وعلى هذا عامة أمور الشرع ) .
وقال في الموضع نفسه: ( التمسك بمجرد استصحاب حال العدم أضعف الأدلة مطلقا ، وأدنى دليل يرجح عليه .. ) إلى قوله : ( ولا يجوز الإخبار بانتفاء الأشياء وعدم وجودها بمجرد هذا الاستصحاب من غير استدلال بما يقتضي عدمها ، ومن فعل ذلك كان كاذبا ، متكلما بلا علم .. )
(فعدم علمه ليس علما بالعدم ) .. ( وما دل على الإثبات من أنواع الأدلة فهو راجح على مجرد استصحاب النفي ) أهـ مختصرا من مجموع الفتاوى (23/ص13) .
وقال أيضا : (فقد اجمع المسلمون ، وعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، أنه لا يجوز لأحد ان يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة ، إذا كان من أهل ذلك ، فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مغير لهذا الاستصحاب ، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن أهل لذلك ) أهـ . مجموع الفتاوى (29/90)
وقال ابن القيم : (شهادة العدل رجلا كان أو امرأة أقوى من استصحاب الحال ، فإن استصحاب الحال من أضعف البينات ، ولهذا يدفع بالنكول تارة وباليمين المردودة وبالشاهد واليمين ، ودلالة الحال ) أهـ اعلام الموقعين (1/96)
تأمل هذا .. مع أن الفقهاء إنما استعملوا ذلك الاستصحاب أو التأصيل في المجال الضيق الذي عرفته حيث يعدم تمييز القرائن ومعرفة الظاهر .. ومع هذا ، فتأصيلهم واستصحابهم ضعيف ، يغيره أدنى دليل أو سيما أو ظاهر أو شهادة أو نحوها ..
فكيف بتلك القاعدة وذلك التأصيل الذي أطلقه أولئك الغلاة المتهورون في عموم أهل الإسلام ، ولم يعتبروا فيها ما يظهره الصالحون منهم أو المجاهدون أو المستضعفون من شعائر الإسلام وخصائصه ..؟؟(4/90)
فقدموا ما أصلوه وقعدوه مستندا إلى حكم اصطلاحي لا دخل له بديانة الناس ، على الظاهر البين والمعلن من أقوال الناس وأعمالهم وشعائرهم الإسلامية .. والدار دار كفر طارئة ليست دار كفر أصلية ..
فلا شك أن تأصيلهم هذا ، أضعف وأضعف وأضعف .. فكيف إذا أضافوا إليه وبنوا عليه استحلال الدماء والأموال والأعراض فهو باطل محض نبرأ إلى الله منه ..
• تنبيه : إلى أن قاعدة (الأصل في جيوش الطواغيت وأنصارهم الكفر) لا غبار عليها : -
يجدر بنا التنبيه هنا إلى أننا وأن كنا ننكر التأصيل سابق الذكر ، إلا أن كلامنا وإنكارنا هذا لا ينطبق على جيوش الطواغيت وأنصارهم ؛ فإن القاعدة عندنا ( أن الأصل فيهم الكفر ) حتى يظهر لنا خلاف ذلك ، إذ أن هذا التأصيل قائم على النص ودلالة الظاهر لا على مجرد التبعية للدار ، فإن الظاهر في جيوش الطواغيت وشرطتهم ومخابراتهم وأمنهم أنهم من أولياء الشرك وأهله المشركين .
- فهم العين الساهرة على القانون الوضعي الكفري ، الذين يحفظونه ويثبتونه وينفذونه بشوكتهم وقوتهم .
- وهم أيضا الحماة والأوتاد المثبتين لعروش الطواغيت والذين يمتنع بهم الطواغيت عن التزام شرائع الإسلام وتحكيمها .
- وهم شوكته وأنصاره الذين يعينونه وينصرونه على تحكيم شرائع الكفر وإباحة المحرمات من ردة وربا ، وخمر وخنا ، وغير ذلك .
- وهم الذين يدفعون في نحر كل من خرج من عباد الله منكرا كفر الطواغيت وشركهم ، ساعيا لتحكيم شرع الله ونصرة دينه المعطل الممتهن ..
فهذه حقيقة وظيفتهم ومنصبهم وعملهم ؛ يتلخص في سببين من أسباب الكفر صريحين وهما :
- نصرة الشرك (بتولي القانون والتشريع الكفري الطاغوتي)(11)
- ونصرة أهله وتوليهم ومظاهرتهم على الموحدين .
والنصوص الدالة على أن هذان سببان من أسباب الكفر البواح ظاهرة متضافرة ، وقد فصلناها في غير هذا المقام ، وليس مقصودنا هاهنا تفصيل هذا ، وإنما التنبيه إلى الأصل المذكور .
فقد أصل الله سبحانه وتعالى لنا في أنصار الكفار وأوليائهم عموما ، أصلا محكما في قوله تبارك وتعالى : ((الذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت )) ، وقوله سبحانه : ((ومن يتولهم منكم فإنه منهم )) فالأصل في كل من أظهر تولى الكفار ونصرتهم أو قاتل في سبيل الطاغوت أو كان في عدوته وحدّه وأظهر نصرته باللسان أو السنان ؛ أنه من جملة الذين كفروا ..
ولذلك كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته مع الكفار المحاربين وفي أنصارهم وأوليائهم وأحلافهم الذين ينصرونهم على المسلمين؛ على هذا الاصل .
أنظر على سبيل المثال معاملته صلى الله عليه وسلم للعباس معاملة الكفار رغم دعواه الإسلام لما أسر في صفوف المشركين يوم بدر ، وانظر مثل هذا أيضا ما رواه مسلم في كتاب النذور (1008) من المختصر من حديث عمران بن حصين في قصة الرجل من بني عقيل حلفاء ثقيف ، لما أسره المسلمون بجريرة حلفائه لما نقضت ثقيف عهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم .. ولم يطلقه النبي صلى الله عليه وسلم رغم ادعائه الإسلام بل عامله معاملة الكفار فغنم ناقته وفداه برجلين من المسلمين .
وعليه كانت سيرة أصحابه صلى الله عليه وسلم من بعده في كل ذوي منعة وشوكة يخرجون عن شريعة الله تبارك وتعالى .
أنظر سيرتهم في خلافة أبي بكر في أنصار مسيلمة الكذاب ونحوهم من المرتدين كأنصار طليحة الأسدي فقد كفروهم جميعا وساروا فيهم سيرة واحدة ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة .
ولذلك أطلق العلماء المحققين القول بإباحة دم ومال المحاربين وأنصارهم وجعلوا حكم الردء فيهم حكم المباشر منهم (12).. وفي المغني (كتاب الجهاد ) ( فصل من أسر فادعى أنه كان مسلما ، لم يقبل قوله إلا ببينة ، لأنه يدعي أمرا الظاهر خلافه ..) أهـ ( 8/261) وذكر فيه قصة سهل بن بيضاء في غزوة بدر وستأتي .
فتأمل كيف جعل الأصل فيمن أظهر الانحياز لجيش الكفار حتى أسر في صفهم ، الكفر ، بحيث لا تقبل الدعوى بخلافه – كما في قصة أسر العباس أيضا – حتى تقوم بينة تغير هذا الأصل الظاهر .(4/91)
ولأجل ذلك كان الأصل عندنا في كل من انتسب إلى هذه الأجهزة والوظائف ، التي حقيقتها ، نصرة الشرك وأهله ؛ الكفر . فنحكم على كل واحد منهم بالكفر ونجري عليه أحكام الكفر بما أظهروه من أسباب الكفر ، ما لم يتبين لنا خلاف ذلك من قيام مانع معتبر من موانع التكفير في حق المنتسب للإسلام منهم فنستثنيه .. وقد قدمنا أن تبين الموانع في حق الممتنعين المحاربين ، غير واجب لامتناعهم ومحاربتهم ، لكن إن ظهر لنا شيء من ذلك في حق بعضهم لم نكفره ، وما لم يظهر ذلك فالأصل الظاهر عندنا منهم هوالكفر، وحقيقة أمر باطنهم إلى الله تبارك وتعالى ، وليس إلينا ، وقد أمرنا بالأخذ بالظاهر ، ولم نؤمر أن نشق عن صدور الناس ولا عن بطونهم ، ولأن أصل هذه الوظائف وظاهرها ما قد عرفت فنحن نعاملهم ونؤصل لهم على هذا الظاهر حتى يظهر لنا خلافه ، بخلاف غير ذلك من الوظائف والأعمال التي ليس أصل طبيعتها وحقيقتها نصرة الشرك أو أهله ؛ ولذلك فلا نقول أن الأصل في الأطباء مثلا الكفر ، حتى يتبين لنا خلاف ذلك ، ولا أن الأصل في المدرسين الكفر ، أو أن الأصل في تولي وظائف الدولة الكافرة كلها الكفر .. كلا فهذه الوظائف كما سيأتي لنا فيها تفصيل ، وليست حقيقة جميعها وطبيعتها نصرة الشرك وأهله ، نعم قد يوجد فيمن يتولى هذه الوظائف من هو من أنصار الشرك وأهله ولكن هذا ليس مختصا بحقيقة الوظيفة وماهيتها، كما قد يوجد من هو من أنصار الشرك وأهله من غير الموظفين ..
والخلاصة : أن هذا التأصيل إذا كان في وظيفة أو عمل حقيقته أنه سبب من أسباب الكفر الظاهرة ، كنصرة الشرك وأهله ، أو التشريع وفقا لنصوص الدستور الكفري ، ونحو ذلك من المكفرات الصريحة الظاهرة ، فلا حرج فيه عندنا ، ومعناه : إجراء حكم الظاهر على أصحاب هذه الوظيفة ، وإرجاء ما بطن من الأحكام إلى الله تبارك وتعالى.
(1) أنظر المغني ( كتاب المرتد ) ، (فصل : ولا يحكم بزوال ملك المرتد بمجرد ردته .. )
(2) أي أن مناط تلك الصفات ليس هو الدار ، بل وجود تلك الصفات أو موجبها في الشخص نفسه في أي بلد كان .
(3) حديث ( تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) متفق عليه .
(4) أنظر البداية والنهاية (6/308) .
(5) بل روي أنهم فعلوا ذلك عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بعث إليهم يأمرهم بالقيام على دينهم والنهوض في الحرب والعمل في الأسود . أنظر تاريخ الطبري وغيره وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على فيروز لما جاءه خبر قتله للأسود وهو في مرض موته صلى الله عليه وسلم .
(6) مجموع الفتاوى ( 35/ 85) .
(7) تاريخ الخلفاء ص 13 ، وكان ميشا اليهودي عاملا بالشام ، وابن نسطور النصراني بمصر .
(8) وفي رواية للبيهقي (9/12-13) وغيره وفيها عنعنة الحجاج بن أرطأة : ( من أقام مع المشركين ، فقد برئت منه الذمة )
(9) أنظر على سبيل المثال ، المغني ( كتاب اللقيط ) ( فصل ولا يخلو اللقيط من أن يوجد في دار إسلام أو في دار كفر ..) ، وانظر روضة الطالبين ( 5/433-434) .
(10) أنظرعلى سبيل المثال المغني ( كتاب المرتد ) ( مسألة : وكذلك من مات من الأبوين على كفره ..)
(11) وقد نصت قوانينهم نفسها على ان طبيعة وظيفة هذه الأجهزة ومهمتها الرئيسة ؛ حفظ القوانين وتنفيذها ومولاة أهلها .
(12) انظر المغني (8/297) وتأمل تعليله لاستواء الردء بالمباشر في أحكام المحاربة ؛ بكون الحرابة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة ، فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء
================
الإرهاب في الإسلام
المصطلحات تحمل معاني محددة ممن صدرت عنه، والواجب فهمها وتفسيرها على مراد من صدرت عنه ، ولا يجوز لغيره أن ينسب إليه معنى آخر لم يرده صاحب ذلك المصطلح من مصطلحه، وإذا أراد ذلك الغير أن يعبر عن معنى غير ذلك المعنى ليكون مصطلحا خاصا له فليفعل ولا مشاحة في الاصطلاح، ولكن يجب أن ينسبه إلى نفسه وليس إلى صاحب المصطلح الأول.
مثال: الصلاة في الإسلام لها معناها الخاص الذي فصلته أبواب (صفة الصلاة) في كتب الحديث والفقه، والصلاة عند اليهود أو النصارى لها عندهم معنى خاص، فإذا أراد المتحدث في حديثه أو الكاتب في كتابته أو المترجم في ترجمته، أن يبين للناس معنى الصلاة في الإسلام، وهو يخاطب غير المسلم، كاليهودي والنصراني-مثلا-فعليه أن يوضح ذلك، حتى لا يفهم السامع أو القارئ أن المراد الصلاة التي هو يفهمها، والعكس أيضا صحيح، وهكذا يقال عن الصوم والحج والإيمان والمعروف والمنكر وغيرها.
ومن المصطلحات التي يكثر ذكرها هذه الأيام مصطلح
(الإرهاب) الذي يكاد يجمع على محاربته وذمه سكان الكوكب الأرضي، بما فيهم المسلمون، ومعنى هذا أن الإرهاب عند محاربيه غير مشروع، بل هو جريمة مهما كان الهدف منه ومن أي جهة صدر، وأجمعت على ذلك أجهزة الإعلام الأجنبية والعربية، وعقدت لمكافحته المؤتمرات على مستويات متنوعة، واتفقت كل تلك المؤتمرات على محاربته، هكذا بدون تفصيل.(4/92)
ولقد أفزعني إطباق كثير من علماء الإسلام الغيورين على دين الله، والكتاب المسلمين المثقفين من صحفيين وغيرهم-فيما اطلعت عليه من كتاباتهم في موضوع الإرهاب-على عدم مشروعية الإرهاب في الإسلام دون أن يبينوا للناس حكم الإرهاب في القرآن والسنة والسِّيَر ، أي متى يكون الإرهاب مشروعا، ومتى يكون محظورا؟.
وأصبحوا- فقط- يدافعون عن الإسلام بأنه لا إرهاب فيه، وأن الإرهاب كما يوجد من بعض المسلمين يوجد من غيرهم، ويتكلمون على إرهاب الدول في الشرق وفي الغرب، وإذا أرادوا أن يسَوِّغوا دفاع المسلمين عن أنفسهم عندما يُعتَدَى عليهم قالوا: إن الدفاع المشروع ليس بإرهاب !
وقد اغتنم أعداء الإسلام استسلام بعض العلماء والدول والكتاب والصحفيين في البلدان الإسلامية للإقرار بأن الإرهاب كله شر، وأخذوا منهم جميعا-قاصدين أو غير قاصدين-شهادة بأن الإسلام لا إرهاب فيه، ومع ذلك لم يكف أعداء الإسلام عن رمي الإسلام بما ينفيه عنه أهله، وأصبحت أجهزة الإعلام في كل بلدان المسلمين تردد في دفاعها عن الإسلام أنه لا إرهاب فيه !.
وإن المصطلحات الإسلامية لا يجوز التفريط فيها ونفي ما ثبت منها في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إثبات ما نفياه، لما في ذلك من تضليل أجيال الأمة وتجهيلها وجعلها تعتقد غير ما جاء في دينها.
ولست هنا في مقام كتابة بحث لأدلل على ما أريد الحديث عنه، وإنما أريد أن أنبه العلماء على خطر عدم التَّنَبُّه للمصطلحات التي تنفى عن الإسلام أو تُثْبَت فيه، لأن الأمة تثق فيهم فإذا نفوا شيئا أو أثبتوه أصبح أمرا مسلما عندها، وقد يترتب عليه من الأخطار ما يصعب تلافيه، لذلك يجب على العلماء التصدي لكل مصطلح يحدث ويرجعوا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويبينوا موقف الإسلام من ذلك المصطلح نفيا أو إثباتا، وماذا يعني بالضبط حتى لا يختلط بغيره، وحتى يبقى معناه ثابتا عند المسلمين.
أقوال العلماء في الإرهاب وحكمه:
أبو عبد الله القرطبي: (أمر بإعداد القوة للأعداء....) ترهبون به عدو الله وعدوكم (يعني تخيفون به) عدو الله و (عدوكم من اليهود وقريش وكفار العرب). [الجامع لإحكام القرآن (8/ 35، 38].
أبو السعود الحنفي: (توجيه الخطاب-يعني وأعدوا- إلى كافة المؤمنين، لأن المأمور به من وظائف الكل...) ما استطعتم من قوة (من كل ما يُتَقَوَّى به في الحرب....) ترهبون به (أي تُخَوِّفون). [تفسير أبي السعود (2/ 504، 505]
أبوجعفر الطبري: (يقول تعالى ذكره: وقوله:) ترهبون به عدو الله وعدوكم (... تخزون به عدو الله وعدوكم، يقال منه: أرهبت العد ورهبته، فأنا أُرهِبه وأُرَهِّبُه إرهابا وترهيبا...) [جامع البيان عن تأويل القرآن (10/ 29-37] .
أبو محمد البغوي: () ترهبون به (تخوفون) [معالم التنزيل (2/ 259 ].
السيد محمد رشيد رضا: (القاعدة الأولى الواجب إعداد الأمة كل ماتسنطيعه من قوة لقتال أعدائها، فيدخل في ذلك عَدَد المقاتِلَة، والواجب أن يستعد كل مكلف للقتال، لأنه قد يكون فرضا عينيا في بعض الأحوال..
(القاعدة الثالثة: أن يكون القصد الأول من إعداد هذه القُوَى والمرابطة إرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على بلاد الأمة أو مصالحها أو على أفراد منها أو متاع لها حتى في غير بلادها، لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها، مطمئنة على أهلها ومصالحها وأموالها، وهذا ما يسمى في عرف هذا العصر بالسلم المسلح وتدعيه الدول العسكرية فيه زورا وخداعا، ولكن الإسلام امتاز على الشرائع كلها بأن جعله دينا مفروضا، فقيَّد الأمر بإعداد القوى بقوله:) ترهبون به عدو الله وعدوكم (. [تفسير المنار (10/167-168].
الفخر الرازي: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة....) اعلم أنه تعالى لما أوجب على رسوله أن يشرد من صدر منه نقض العهد، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النقض، أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار.... قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو... ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء، فقال:) ترهبون به عدو الله وعدوكم (وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات، خافوهم، وذلك الخوف يفيد أمورا:
أولها: أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام.
وثانيها: أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية.
وثالثها: أنه ربما صار ذلك داعيا لهم إلى الإيمان.
ورابعها: أنهم لايعينون سائر الكفار .
وخامسها: أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام.) [التفسير الكبير (15/ 185-195]ُ
ابن كثير:(( وأعدوا لهم ما استطعتم )) أي مهما أمكنكم..
ترهبون (تخوفون) به عدو الله وعدوكم (أي من الكفار). [تفسير القرآن العظيم (2/ 355-356].
الجصاص: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل (أمر الله المؤمنين في هذه الآية بإعداد السلاح والكراع قبل وقت القتال، إرهابا للعدو) [أحكام القرآن (3/ 68).](4/93)
أبو بكر ابن العربي: (( ترهبون به عدو الله وعدوكم ) يعني تخيفون بذلك أعداء الله وأعداءكم من اليهود وقريش وكفار العرب..) [أحكام القرآن (2/ 875 ]
ابن عاشور: (والإعداد التهيئة ولإحضار، ودخل في) ما استطعتم من (كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة.. والإرهاب جعل الغير راهبا خائفا، فإن العدو إذا علم إذا علم استعداد عدوه لقتاله خافه ولم يجرأ عليه، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمنا من أن يغزوهم أعداؤهم، فيكون الغزو بأيديهم، يغزون الأعداء متى أرادوا، وكان الحال أوفق لهم، وأيضا إذا رَهِبوهم تجنبوا إعانة الأعداء عليهم.) تفسير التحرير والتنوير [6/55-57 ]
سيد قطب: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )إنه لابد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان.. وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها، فلا يُصَدوا عنها بعد اعتناقها.. والأمر الثاني: أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على دار الإسلام التي تحميها تلك القوة. والمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي وهو ينطلق لتحرير الإنسان كله في الأرض كلها. والأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية فتحكم الناس بشرائعها، ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده...) [في ظلال القرآن (10/1543]
وقد اكتفيت ببعض أقوال علماء التفسير في الآية، مع مراعاة أخذ ما يتعلق بالموضوع فقط، خشية التطويل.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
==============
التطبيع.. صلح مقبول أم تفريط مرفوض
محمد بن شاكر الشريف(4/94)
أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الكتب حتى يعرف الناس ربهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا فيعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئا, وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة, فختم الله تعالى به الرسالات فكان ذلك إيذانا أنه لا نجاة لأحد إلا بالإيمان بهذا النبي والدخول تحت لوائه, وقد فرض الله على رسوله ومن آمن به دعوة الناس إلى الله ربهم وتبصيرهم بحالهم ومآلهم, وبذل الجهد والطاقة في ذلك, وقد خاض المسلمون في سبيل دعوة الناس إلى ربهم أهوالا جمة وتجشموا في سبيل ذلك كثيرا من العنت والشدة, رجاء رحمة الله ورضوانه والعمل على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، لكنهم لم يقوموا بذلك لإكراه الناس على الدخول في دين المسلمين؛ فإن إدخال الناس في الدين حقا ليس مقدورا لأحد كما قال الله تعالى: وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، وقال تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وفي الوقت نفسه فإن إكراه الناس على الإسلام ليس مشروعا في الدين كما قال الله تعالى : لا إكراه في الدين، وقد نفذ المسلمون أوامر ربهم فلم يكرهوا أحدا على الدخول في دينهم, ويدل لذلك أوضح الدلالة وجود اليهود والنصارى وغيرهم في بلاد المسلمين منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين إلى يومنا هذا، فكان الجهاد والقتال من المسلمين لعدوهم من الكافرين لمنع إكراه الناس على الكفر؛ إذ لا يسوغ منع الناس من الإكراه على الإسلام بينما يتركون لإكراههم على الكفر, فقد كان هدف القتال والجهاد في سبيل الله أن يكون وسيلة للتحرر من سلطان الطواغيت الذين يصدون الناس عن عبادة الله وحده وذلك حتى لا يصد أحد أو يمنع عن الدخول في دين الله, وهذا لا يكون إلا بأن يكون الإنسان مختارا في البقاء على دينه أو التحول إلى دين الإسلام، وكيف تتأتى الحرية في الاختيار في ظل حكومة كافرة مشركة ترى في التمسك بالكفر والبقاء عليه حماية لها ولمصالحها ولمكانتها, ومن هنا يتبين أن من مقاصد الجهاد في سبيل الله تعالى منع تحكم الرؤساء والكبراء في العامة بحيث يجبرونهم أو يكرهونهم على الكفر "وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء"وأيضا " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا" ولا يتأتى ذلك إلا بمنع الكفار من تولي القيادة والإمرة في أرض الله, وهذا لا يعد تدخلا في حريات الناس واختياراتهم لأن ذلك تشريع من رب الناس الذي خلقهم ورزقهم وليس من تشريعات البشر, فهو سبحانه وتعالى وحده الذي ينبغي أن يحكم فيهم بشرعه, وما على الخلق غير الطاعة، ولو عصى الكفار ربهم فلا يكون كفر الكافرين وتمردهم على ربهم مسوغا للمؤمنين الطائعين أن يتركوا ما أمرهم ربهم به من عدم تمكين الكافرين من الحكم في خلق الله، وذلك أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وفعل المسلمون من ذلك ما قدروا عليه وما وسعته طاقتهم, وقد وجد من الكفار من يقبل ذلك, لكن علامة هذا القبول أن يدخل الكفار في ذمة المسلمين: بأن تجري عليهم أحكام الإسلام فيقروا بدفع الجزية عن يد دلالة على الرضوخ لأحكام الشريعة, وإيذانا بانتقال الحكم بين الناس إلى شرع الله العلي الكبير، ولذلك جاءت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمراء الجند: (...وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم, ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم, ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين, فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين, يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين, ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين, فإن هم أبوا فسلهم الجزية, فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم, فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ) وقال المغيرة بن شعبة لعامل كسرى عندما خرج المسلمون لقتال الفرس زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية) فإذا بقي الكفار على دينهم لكن قبلوا بخضوعهم لحكم الإسلام ودفع الجزية صارت دارهم بخضوعها لحكم الإسلام دار إسلام، فإن رفضوا صاروا محاربين، وإزاء إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين وامتناعهم من الدخول في حكم الإسلام انقسمت البلدان إلى دارين: دار يأرز إليه الإيمان وهي دار الإسلام التي تظهر فيها شرائعه وأعلامه ويحكم فيها بشرع الله، ودار للكفر وهي التي تغلب فيها شرائع الكفر ويحكم فيها بحكم الطاغوت، وقد كانت العلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب ذات شقين: فمن جانب المسلمين كانت علاقة الدعوة إلى دين الله والقتال من جانب المسلمين لمنع تسلط الكافرين على خلق الله، ومن جانب الكفار الحربيين كانت علاقة القتال للصد عن سبيل الله والسعي في إطفاء نور الله، غير أن هذه العلاقة قد تتخللها في بعض الفترات الزمنية حالات وأوضاع(4/95)
يحتاج فيها المسلمون إلى الصلح أو الهدنة إما لأسباب تعود إلى المسلمين( كضعف أو استعداد وتقوية ونحو ذلك ) وإما لأسباب تعود إلى الكافرين(كحسن ظن في المسلمين, وقرب هداية ونحو ذلك) والصلح فيه تفصيلات كثيرة، لكن يضبط هذه التفصيلات أمران لا بد من تحققهما: الأول: أن يكون الصلح مما يوافق أحكام الشريعة في أصله وتفصيلاته، فلا يشتمل في أصله أو تفاصيله على ما يضاد أو يناقض الأحكام الشرعية، الثاني: أن يكون مبناه على ارتياد ما هو في مصلحة الإسلام والمسلمين، فالصلح الذي يجلب على المسلمين الضرر سواء في دينهم أو دنياهم وكذلك الصلح الذي لا يجلب نفعا، هو صلح لم يقم على قاعدة ارتياد الأصلح، وكل عهد أو صلح بين المسلمين وبين الكفار لم يحقق هذين الأمرين أو أحدهما فهو صلح لا يعتد به شرعا, وهو صلح باطل لأنه أسس على غير التقوى ومن هذا العموم الذي تقدم ننتقل إلى التفاصيل: تعريف الصلح: يراد بالصلح بين المسلمين وبين الكافرين الحربيين هدنة أو موادعة أو معاهدة يتفق عليها الطرفان لتحقيق بعض المصالح التي يهدف إليها كل طرف من وراء المعاهدة، ومن شروط هذه الهدنة أو الموادعة أو المصالحة أو المعاهدة المعتبرة شرعا ما يلي: أن تكون على النظر لصالح المسلمين كأن تنزل بهم نازلة، أو أن المسلمين يرجون إسلام المشركين أو أن المشركين يقبلون بإعطاء الجزية بلا مؤونة، أما الهدنة التي لا تكون على النظر لصالح المسلمين بل يتحقق من خلالها مصالح المشركين: كرواج تجارتهم وتصدير سلعهم ومنتجاتهم الصناعية وغيرها إلى بلاد المسلمين، أو حصولهم على المواد الخام من بلاد المسلمين بأسعار رخيصة، أو كان يترتب على ذلك تدخل الكفار في ثقافة الشعوب الإسلامية, والتأثير في مناهج التعليم فيغيرون منها أو يحذفون ما فيها من النصوص الشرعية التي تتحدث عن الأحكام التي ينبغي أن تكون بين المسلمين والكافرين ( أحكام الموالاة والمعاداة) فإن هذا الصلح لم يقم على قاعدة ابتغاء مصلحة المسلمين وإنما قام على ضرر المسلمين, ومن القواعد المقررة في فقه السياسة الشرعية أن تصرف الإمام منوط بالمصلحة فما لم يكن فيه مصلحة بل مفسدة فهو تصرف باطل؛ لأن الشرع لا يأمر بالفساد، قال الشافعي رحمه الله تعالى : (وإذا سأل قوم من المشركين مهادنةً, فللإمام مهادنتهم على النظر(4/96)
للمسلمين رجاء أن يسلموا أو يعطوا الجزية بلا مؤونة، وليس له مهادنتهم إذا لم يكن في ذلك نظر) وقال: ( وإن صالحهم الإمام على ما لا يجوز فالطاعة نقضه) وقال الماوردي الشافعي: ( وإذا لم تدع إلى عقد المهادنة ضرورة لم يجز أن يهادنهم) وقال ابن العربي المالكي: " إذا كان المسلمون على عِزَّة , وفي قوة ومنعة , ومقانب عديدة , وعدة شديدة : فلا صلح حتى تُطعن الخيلُ بالقنا, وتُضرب بالبيض الرقاقِ الجماجمُ , وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يُجلب به, أو ضر يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه , وأن يجيبوا إذا دعوا إليه " وقال ابن قدامة الحنبلي: (ومعنى الهدنة , أن يعقد لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدة , بعوض وبغير عوض . وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة , وذلك جائز , بدليل قول الله تعالى : " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين " . وقال سبحانه وتعالى : " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " ... ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف , فيهادنهم حتى يقوى المسلمون . ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين ; إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم , وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم , أو في أدائهم الجزية , والتزامهم أحكام الملة , أو غير ذلك من المصالح) وقال صاحب الهداية الحنفي: (وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقا منهم , وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به لقوله تعالى : " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله " ووادع رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل مكة عام الحديبية , على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين , ولأن الموادعة جهادٌ معنى إذا كان خيرا للمسلمين, لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به , ... بخلاف ما إذا لم يكن خيرا ; لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى) فقيد ذلك بكونه مصلحة للمسلمين، وجعل الموادعة إذا حققت الخير بمنزلة الجهاد من حيث المعنى، أما إذا كانت الموادعة لم تحقق الخير أو المصلحة كان ذلك تركا للجهاد وهذا لا مصلحة فيه، ومن الشروط الفاسدة التي لا مصلحة فيها للمسلمين مصالحتهم على (إعطائهم شيئا من سلاحنا أو من آلات الحرب) قال ابن قدامة بعدما ذكر هذه وأشياء أخر: (فهذه كلها شروط فاسدة لا يجوز الوفاء بها) ويلحق بإعطاء السلاح أو آلات الحرب الموافقة على الامتناع من استخدام بعض أنواع السلاح في الوقت الذي يمتلك فيه الكفار هذا النوع من السلاح ولا يمتنعون عن استخدامه عند الحاجة إليه مثل ما يعرف في وقتنا الحاضر بأسلحة الدمار الشامل، فإنه لو تمت المصالحة أو المعاهدة على أن يمتنع المسلمون من تملك هذا النوع من الأسلحة أو صناعته, بينما الكفار لا يمتنعون عن تملكه وصناعته كان هذا من الشروط الفاسدة التي لا يحل الموافقة عليها، لأنه شرط يضعف المسلمين مقابل أعدائهم كما أنه يخالف الإعداد المأمور به في قوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، فتكون نتيجة ذلك تجريد المسلمين من الأسلحة القوية التي يتحقق عن طريقها ردع العدو بإذن الله تعالى وتحقيق النصر, ومن شروط الهدنة الصحيحة عدم مخالفة الشريعة أو معارضتها: و تحدث المخالفة بأن تؤسس المعاهدة في أصلها أو في تفاصيلها على ما يخالف الشريعة, وهذا قد يأخذ صورا متعددة فمن ذلك: التعاهد على أن يكون التصالح أبديا لأن التأبيد يتضمن التعاهد على ترك الجهاد في سبيل الله تعالى, وهو من فرائض الدين الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ولا يمكن أن تقبل الشريعة فكرة أن يتعاقد الناس ويتعاهدون على تجاوز الأحكام الشرعية, فالغاية من الجهاد أمران: الأول: نشر الإسلام في أرض الله, وإزالة تحكم الكفار في خلق الله، وهذا يعرف بجهاد الطلب, والثاني: الدفاع عن دار الإسلام ضد عدوان المعتدين من الكفار والمشركين وأضرابهم وهذا يعرف بجهاد الدفع، وقد أتفق أهل العلم على أنه لا يجوز أن تكون المعاهدة أبدية, وهم بعد اتفاقهم على عدم التأبيد على قولين في توقيت المعاهدة: القول الأول: فالجمهور على أن المعاهدة ينبغي أن توقت بوقت, وأطول وقت يمكن اعتباره للمعاهدة هو عشر سنوات, وهي المدة التي صالح عليها رسول الله المشركين في مكة, وإن كان هناك من أهل العلم من يجعل المدة مرتبطة بالمصلحة فقد تزيد عن ذلك وقد تنقص بشرط ألا تكون أبدية، والقول الثاني: بجواز أن تكون المعاهدة مطلقة أي من غير تحديد فترة زمنية تنتهي عندها المعاهدة, بل تكون مطلقة عن قيد الزمن, وأن من أراد نبذها فله ذلك بعد إعلام الطرف الثاني حتى لا يكون هناك غدر, وبعض أهل العلم يرفضون هذه الصورة من أجل خشيتهم أن يؤدي إطلاق المدة إلى تأبيد المعاهدة, وهذا التعاهد المؤبد يتضمن مفاسد أخرى حيث يستروح المسلمون لتلك المعاهدة المؤبدة فيقصرون في الاستعداد حتى يصلوا إلى مستويات متدنية في القوة والتجهيزات, وحينئذ ينقض عليهم العدو الذين لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة, وحينئذ لا ينفع الندم ولا يفيد ما يقوله النادمون وقتها: يا ليتنا ويا ليتنا، ونحن هنا لا نتكلم من قبيل الفروض الذهنية وإنما نتكلم من قبل إخبار من هو بكل شيء عليم(4/97)
ومن يعلم ما تخفي الصدور، فقد نبأنا الله من أخبار المشركين والكفار أنهم : "ودوا ما عنتم"، وأنهم "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر"، وأنهم: "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم"، وعندنا من الواقع القريب فها هي أمريكا قد عَدَتْ على أفغانستان ثم العراق من بعدها بلا مسوغ حقيقي إلا مسوغ قدرتها على شن الحرب من غير أن يتمكن أحد من الوقوف في وجهها أو معاقبتها, والمتتبع لقضية حرب أمريكا على العراق يتبين له أن أمريكا ظالمة في ذلك إلى أبعد حدود الظلم ومع ذلك لم يتمكن العالم من منعها من عدوانها ولا حتى الأمم المتحدة التي زعموا إنشاءها من أجل مثل هذه الأمور، بل رغم اعتراف الأمم المتحدة بعدم شرعية حرب أمريكا على العراق ومع ذلك يستمر احتلالها للعراق، وعلى ذلك فما كان من المعاهدات يشترط فيه أن تكون معاهدة أبدية دائمة فهذا شرط فاسد لا يجوز، وليس هذا تشوفا إلى الحرب والقتال وحبا له أو رغبة فيه, بل التشوف إلى نشر الإسلام لأن هذا أمانة ائتمن الله عليها الصالحين من عباده فهو يقول لهم: بلغوا رسالتي للناس, وأقيموا عليهم الحجة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولا تقصروا في ذلك وابذلوا جهدكم وقاتلوا من يصد الناس عن الدين، أو من يحكم فيهم بغير ما شرع الله تعالى، كما أن المسلم ليس شخصية أنانية لا يعتني إلا بمصلحة نفسه فلا يهمه هلاك العالم وضلالهم إذا كان هو مهتديا، بل هم كما قال الله عنهم : "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، فهم خير الناس للناس يسعون في هدايتهم ويتحملون ما يصيبهم في سبيل ذلك من أذاهم، قال الشافعي رحمه الله: " أحب للإمام إذا نزلت بالمسلمين نازلة وأرجو أن لا ينزلها الله عز وجل بهم إن شاء الله تعالى, مهادنة يكون النظر لهم فيها , ولا يهادن إلا إلى مدة , ولا يجاوز بالمدة مدة أهل الحديبية كانت النازلة ما كانت, فإن كانت بالمسلمين قوة قاتلوا المشركين بعد انقضاء المدة فإن لم يقو الإمام فلا بأس أن يجدد مدة مثلها أو دونها , ولا يجاوزها من قبل أن القوة للمسلمين والضعف لعدوهم قد يحدث في أقل منها, وإن هادنهم إلى أكثر منها فمنتقضة ; لأن أصل الفرض قتال المشركين حتى يؤمنوا, أو يعطوا الجزية, فإن الله عز وجل أذن بالهدنة فقال : " إلا الذين(4/98)
عاهدتم من المشركين " فلما لم يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدة أكثر من مدة الحديبية لم يجز أن يهادن إلا على النظر للمسلمين, ولا تجاوز ( قال ) وليس للإمام أن يهادن القوم من المشركين على النظر إلى غير مدة, هدنةً مطلقةً , فإن الهدنة المطلقة على الأبد, وهي لا تجوز لما وصفت, ولكن يهادنهم على أن الخيار إليه حتى إن شاء أن ينبذ إليهم, فإن رأى نظرا للمسلمين أن ينبذ فعل" , وقال الماوردي في بيان أن أقصى مدة للهدنة عشر سنوات: " فإن هادنهم أكثر منها بطلت المهادنة فيما زاد عليها" وقال ابن قدامة: " الهدنة , فإنها لا تجوز إلا مقيدة ; لأن في جوازها مطلقا تركا للجهاد" وقال :" ولا يجوز عقد الهدنة إلا على مدة مقدرة معلومة ; لما ذكرناه . قال القاضي : وظاهر كلام أحمد , أنها لا تجوز أكثر من عشر سنين . وهو اختيار أبي بكر , ومذهب الشافعي ; لأن قوله تعالى : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " . عام خص منه مدة العشر لمصالحة النبي صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية عشرا, ففيما زاد يبقى على مقتضى العموم " ، وليس المقصود هنا مناقشة كم المدة الجائزة أو أقصى مدى لها إذ القصد بيان أن الصلح المؤبد لا يصلح لأنه أولا: يفضي إلى إبطال الجهاد وهذا فيه تغيير للشريعة، وثانيا:فإن الكفار لا يحافظون عليه بل سينقضونه لأنهم ليسوا من "الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" بل ينبغي توقيته بوقت زمني، حتى لا يتعطل الجهاد الذي مضمونه رحمة الله بالعباد في تيسير سبل الهداية لهم كما قال الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، ومن شروط الهدنة الصحيحة عدم جواز إقرار الكافر على ما غلب عليه من دار الإسلام بحيث يُعترف له بأحقيته في تملك تلك الأرض وفي حكمها بما يخالف حكم الله وشرعه، وإقامة العلاقات المتنوعة معه، وهذا مما لاشك في مخالفته لدين المسلمين فإن أهل العلم من جميع المذاهب قد اتفقت كلمتهم على أن الكفار إذا نزلوا بدار المسلمين فقد وجب جهادهم وتعين على أهل هذه البقعة فإذا لم تكن لديهم القدرة على صدهم وإخراجهم من دار الإسلام فإن الوجوب يظل يشمل قطاعات من البلدان المجاورة حتى تتحقق بهم الكفاية في دفع الكفار، ولو لم تتيسر الكفاية إلا بقيام المسلمين جميعهم بذلك لتعين الجهاد على الأمة بأسرها، قال البابرتي: " إن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع تخرج المرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن المولى لأنه صار فرض عين" وقال ابن قدامة: " ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع ..الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم" وقال ابن تيمية: " وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة , وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم , ونصوص أحمد صريحة بهذا وهو خير مما في المختصرات . لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية كلام أحمد فيه مختلف، وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَمُوا، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد (برأي) أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون (أهل) الدين الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا (برأي) أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا والرباط أفضل من المقام بمكة إجماعا" فإذا كانت النفوس تبذل في سبيل دفع الكفار عن أرض الإسلام وعن حريمهم وعن عيالهم، فلا يمكن أن يُقبل شرعا صلح على شرط التنازل عن بعض أو جزء من دار الإسلام وتسليمها للكفار والتسليم لهم بحكمها، في مقابل حصول المسلمين على جزء آخر منها ، وعلى ذلك فلا يصح مقايضة أرض الإسلام بشيء, فدار الإسلام ليست ملكا لأحدنا حتى يمكنه التنازل عنها وإنما هي لله سبحانه وهو يحكم فيها بما شاء، وقد قضى سبحانه أن الأرض للمسلمين كما قال: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" والصالحون هم المسلمون، فإذا كانت المصالحة أو المعاهدة ليست على النظر لصالح المسلمين(على النحو الذي تقدم ذكره) أو كان الصلح مؤبدا ( ما يعني تعطيل الجهاد) أو كان بقبول التنازل عن جزء من دار الإسلام لصالح الكفار والاعتراف بسلطانهم الدائم عليها وإقامة العلاقات الدائمة معهم ( ما يعني الإقرار والقبول بأن تتحول بقعة من دار الإسلام إلى دار كفر) فإن ذلك الصلح ليس بصلح مشروع بل هو تضييع وتفريط، وهذا هو التطبيع المعروض الآن على المسلمين من اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين واحتلوها أكثر من نصف قرن من الزمان : أن يسالمهم المسلمون ويقروهم على ما اغتصبوه من أرض المسلمين(4/99)
ويعترفوا لهم بأحقيتهم في الاستيلاء عليه وتملكه وحكمه، وأن يقيموا معهم العلاقات المتنوعة: السياسية والاقتصادية والثقافية وأن يزيلوا من مناهجهم الدراسية كل ما يتعارض مع هذا التطبيع، ولا شكك أن هذا من الهوان الذي نُهينا عنه قال الله تعالى: "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" ولا يسوغ الاحتجاج على جواز ذلك بقوله تعالى : "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" أو بمصالحة الرسول صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش في صلح الحديبية أو غيرها من معاهدات الصلح مع أهل الكتاب، لأن المنازعة ليست في جواز الصلح عند الاحتياج إليه ووجود دواعيه، فإن ذلك مما لا ينازع فيه أحد من أهل العلم المعتبرين، وإنما الكلام في الشروط المرتبطة به والنتائج المترتبة عليه، فلا ينبغي الدعوة إلى المصالحة أو قبولها على خلاف أحكام الشرع لأن ذلك من ظن السوء بالله تعالى, وهو من تصرفات أهل الجاهلية والشرك وليس من تصرفات المسلمين الذين يحسنون ظنهم في ربهم ودينهم، وأن الله ناصرهم ومؤيدهم إذا اعتصموا به واتبعوا شريعته، قال الله تعالى: "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية"، وقال : "وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا"، وإذا كان بالمسلمين ضعف فالحل لا يكمن في معصية الله، ومخالفة أمره، والركون إلى الكفار والاعتصام بهم والتودد إليهم والمسارعة فيهم فإن ذلك لا يزيدهم إلا ضعفا على ضعف وقد عدَّ الله المسارعة في الكفار بزعم الضعف من علامات مرض القلب فقال تعالى:" فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة"، فإذا كان بالمسلمين ضعف فلا يجوز الركون إليه والاستسلام له والتعويل عليه، بل عليهم السعي في الأخذ بإزالة أسباب ضعفهم، لأن الاستسلام له حكم بالموت على المسلمين في واقع الحياة والقدرة على التأثير فيها، وسيظل المسلمون رهينة لهذا الضعف، كل يوم ينتقص شيء من دينهم وشيء من أراضيهم وممتلكاتهم, ثم يُسوَّغ ذلك بالحجة نفسها حجة الضعف، والذي يستقيم مع أحكام الشريعة في ظل الظروف التي تحياها الأمة الإسلامية أنه يجوز المصالحة أو المعاهدة على وضع الحرب عشر سنوات أو أكثر أو أقل حسب ما يُرى من تحقيق المصلحة في ذلك، من غير التسليم بأحقية الكفار في الاستيلاء على ما غلبوا عليه من دار الإسلام، ويقوم ولاة أمور المسلمين بالأخذ
بأسباب القوة من التمسك بالشريعة الإسلامية وتحكيمها بمعناها الشامل الكامل (لا بمعنى الاقتصار على جزء منها كالعبادات أو إقامة بعض الحدود) ومن العناية بتحصيل أسباب القوة المادية سواء بالشراء أو التصنيع امتثالا لقوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل..الآية وتشجيع البحث العلمي ورصد المكافآت له وإقامة مراكز الأبحاث والعناية بها وليس ببعيد على المسلمين مع توفيق الله لهم أن يتمكنوا من تحصيل أسباب القوة في فترة عشر سنوات إذا جدوا واجتهدوا، تمكنهم من استرداد حقوقهم المسلوبة، أو تمكنهم من إقامة صلح من مركز قوة تراعي فيه الشروط الشرعية المتقدمة، بدلا من الهرولة والمسارعة إلى صلح ليس لهم منه إلا الاسم الأجوف، بينما الحقيقة رضوخ واستسلام في ظل الهوان .
================
حكم سفر المرأة من غير مَحْرَم
الشيخ صالح بن محمد الأسمري
السؤال : ـ
ما حكم سفر المرأة من غير مَحْرَم ؟
الجواب :
سفر المرأة من غير محرم له ثلاث حالات :
{ الحالة الأولى : أن تسافر من بلد لا تستطيع فيه إظهار دينها الواجب وما إليه. فهذه الحال لا يُشْتَرط للمرأة فيها مَحْرم اتفاقاً . قال ابن الملقن رحمه الله في : "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (6/79) : "أما سفر الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام فاتفق العلماء على وجوبه ، وإن لم يكن معها أحد من محارمها"أ.هـ. وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله في : "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/450) : "اتُّفِق على أنه يجب عليها ـ أي : المرأة ـ أن تسافر مع غير ذي محرم إذا خافت على دينها ونفسها ، وتهاجر من دار الكفر كذلك" أ.هـ. وذلك (لأن القيام بأمر الدين واجب ، والهجرة من ضرورة الواجب ، وما لا يتم الواجب إلا به واجب) قاله في : "مطالب أولي النهى" (3/433) .
{ والحالة الثانية : أن تسافر المرأة للحج الواجب . فهذه الحال مُخْتَلف في اشتراط المَحْرميَّة لها على قولين مشهورين :(4/100)
ـ أولهما : أن المحرم شرط فيها . (وممن ذهب إلى هذا : إبراهيم النخعي، والحسن البصري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق وأبو ثور) قاله ابن عبد البر رحمه الله في : "التمهيد" : (21/50) . وقال أبو العباس في : "المفهم" (3/449) : "وقد رُوي ذلك عن النخعي والحسن ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحاب الرأي ، وفقهاء أصحاب الحديث" . وقال العيني رحمه الله في : "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (7/126) : "وبه قال النخعي والحسن البصري والثوري والأعمش" . إلا أن أبا حنيفة جعل ذلك شرطاً في السفر الطويل كما في : "بدائع الصنائع"(2/124) و"حاشية ابن عابدين" (2/464) ، وقال ابن الملقن في "الإعلام" (6/80) : "واشترط أبو حنيفة المحرم لوجوب الحج عليها ـ أي : المرأة ـ إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاثة مراحل" أ.هـ المراد . وبِشَرط أبي حنيفة قال جماعة . قال ابن عبد البر رحمه الله في : "التمهيد" (21/54) : "هذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ، وهو قول ابن مسعود" . وجعله البدر العيني رحمه الله قول : النخعي والحسن البصري والأعمش ـ وسبق ـ .
ـ والثاني : أن المحرم ليس بشرط فيها . قال أبو العباس في : "المفهم" (3/449) : "وذهب عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والأوزاعي ومالك والشافعي إلى أن ذلك ليس بشرط ، ورُوي مثله عن عائشة رضي الله عنها" أ.هـ. وقال ابن الملقن في : "الإعلام" (6/79) : " فالمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يُشترط المحرم ...وبه قال عطاء وسعيد ابن جبير وابن سيرين ، ومالك والأوزاعي" .
والمختار عدم اشتراط المَحْرَميَّة في ذلك ، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، قال ابن مفلح رحمه الله في : "الفروع" (3/236) : " وعند شيخنا ـ أي : ابن تيمية ـ : تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم . وقال : إن هذا مُتوجِّه في كل سفر طاعة ، كذا قال ـ رحمه الله ـ " أ.هـ . وكذا عنه في : "الإنصاف" (8/79) . وفي : "الاختيارات" (ص/171) للبعلي قوله : "وتَحُجُّ كل امرأة آمنة مع عدم محرم . قال أبو العباس : وهذا مُتوجِّه في سفر كل طاعة " أ.هـ. وجعله جماعة قول الجمهور والأكثر ، قال ابن بطال رحمه الله في : "شرح صحيح البخاري" (4/532) : " هذه الحال ترفع تَحْريج الرسول عن النساء المسافرات بغير ذي مَحْرم .كذلك قال مالك والأوزاعي والشافعي : تخرج المرأة في حجة الفريضة مع جماعة النساء في رفقة مأمونة ، وإن لم يكن معها محرم . وجمهور العلماء على جواز ذلك ، وكان ابن عمر يحج معه نسوة من جيرانه . وهو قول عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن البصري . وقال الحسن : المسلم مَحْرَم ـ أي : الصالح التقي كالمحرم الحقيقي في كونه مأموناً على المرأة ـ ، ولعل بعض من ليس بمحرم أوثق من المحرم " أ.هـ.
ويدل على صحة ذلك شيئان :
ـ أولهما : ما أخرجه البخاري في : "صحيحه" (برقم : 1860) من حديث إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال : ( أَذِن عمر رضي الله عنه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حَجّة حَجَّها ، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف" . وفيه (اتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك) قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله في : "فتح الباري" (4/91) .
فائدة: ـ
قال البدر العيني رحمه الله في : "عمدة القاري" (10/219) :
"وفي الحديث المذكور : ما خرجت أزواج النبي صلى الله عليه و آله وسلم إلى الحج إلا بعد إذن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لهن وأرسل معهن من يكون في خدمتهن . وكان عمر رضي الله تعالى عنه متوقفاً في ذلك أولاً ، ثم ظهر له الجواز؛ فأذن لهن وتبعه على ذلك جماعة من غير نكير . وروى ابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر قال : منع عمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة . وروى أيضاً من طريق أم دُرَّة عن عائشة رضي الله عنها قالت :منعنا عمر الحج والعمرة حتى إذا كان آخر عام فأذن لنا" أ.هـ وبنحوه في : "الفتح" (4/88،89).(4/101)
ـ والثاني : القياس على الحال الأولى المتفق عليها ، وهي : عدم اشتراط المحرمية للمرأة التي تنتقل من بلد لا تستطيع إظهار دينها الواجب فيه . ويَعْضده ما حكاه الحافظ في : "الفتح" (4/91) بقوله : "وقد احتج له بحديث عَدِيّ بن حاتم مرفوعاً: "يوشك أن تخرج الظعينة من الحِيْرة تؤم البيت لا زوج معها" الحديث . وهو في البخاري . وتُعقِّب بأنه يدل على وجود ذلك على جوازه. وأجيب بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام ، فيُحمل على الجواز" أ.هـ. وكذلك ما حكاه ابن الملقن في : "الإعلام" (6/82) بقوله : "قال ابن بزيزة : والصحيح عندنا أن فريضة الله لازمة والمؤمنون إخوة ، وطاعة الله واجبة ، وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" ، والمسجد الحرام أجل المساجد فكان داخلاً تحت مقتضى هذا الخبر" أ.هـ. لكنه قال : "ولا يَتَّجه ذلك لكونه عاماً في المساجد ، فيمكن أن يخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السفر في الخروج إليه بحديث النهي"أ.هـ. وبنحوه في "الفتح" (4/91) .وكذلك قول ابن عبد البر في : "التمهيد" (21/52): "ليس المَحْرَم عند هؤلاء من شرائط الاستطاعة ، ومن حجتهم : الإجماع في الرجل يكون معه الزاد و الراحلة ـ و فيه الاستطاعة ، ولم يمنعه فساد طريق ولا غيره ـ أن الحج عليه واجب . قالوا : فكذلك المرأة ؛ لأن الخطاب واحد ، والمرأة من الناس" أ.هـ.
تنبيه: ـ
للقول بعدم شرطية المحرم في الحج الواجب ـ شرط ، وهو الأمن على المرأة ، لكن اختُلِف بما يقع ، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في : "المغني" (5/31) : "قال ابن سيرين : تَخْرج مع رجل من المسلمين لا بأس به . وقال مالك : تخرج مع جماعة النساء . وقال الشافعي : تخرج مع حُرَّة مسلمة ثقة. وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول ، تَتَّخذ سُلَّماً تصعد عليه وتنزل. ولا يقربها رجل ، إلا أنه يأخذ رأس البعير وتضع رجلها على ذراعه" أ.هـ المراد. وقال النووي رحمه الله في: "شرح مسلم" (9/148) : "وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه : لا يشترط المحرم، بل يشترط الأمن على نفسها . قال أصحابنا : يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات ، ولا يلزمها الحج عندنا إلا بأحد هذه الأشياء ، فلو وجدت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها ، لكن يجوز لها الحج معها ، هذا هو الصحيح . وقال بعض أصحابنا : يلزمها بوجود نسوة أو امرأة واحدة ، وقد يكثر الأمن ولا تحتاج إلى أحد ، بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة . والمشهور من نصوص الشافعي وجماهير أصحابه هو الأول" أ.هـ.
والمقصود وجود الأمن على المرأة في ذلك كما سبق ، ويكفي ظن وقوعه بلا شَرْط العلم ، كسفر المرأة للحج الواجب مع جَمْعٍ من النساء في (حملة حجٍ) رسميَّة؛ لأنها رفقة مأمونة عادة ، قال ابن الملقن رحمه الله في : "الإعلام" (6/82) : "والذين لم يشترطوه ـ أي : المحرم ـ قالوا : المشترط الأمن على نفسها مع رفقة مأمونين رجالاً أو نساء" أ.هـ. المراد . وكذا أمن الطريق ، وهو ظاهر ، وأشار الحافظ في : "الفتح" (4/91) إليه بقوله : "جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات إذا أمن الطريق" أ.هـ.
فائدة :ـ
حديث : "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها حُرْمة" ـ أي : ذو مَحْرَميَّة ـ " وقد خَرَّجه البخاري (رقم:1088) ومسلم (رقم : 1339) . وفي لفظ : "لا تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم" ـ أي : فيَحِلّ ـ : قد أُجيب عنه بأجوبة ، منها قول أبي العباس القرطبي في : "المُفْهِم" (3/450) : "إن المنع في هذه الأحاديث إنما خرج لما يُؤدِّي إليه من الخلوة، وانكشاف عوراتهن غالباً . فإذا أُمِن ذلك ، بحيث يكون في الرفقة نساء تنحاش إليهن ، جاز . كما قاله الشافعي ومالك"أ.هـ.
وَصْلٌ : الظاهر إلحاق الأسفار الواجبة بالحج ، وهو المشهور . قال ابن بطال في : "شرح صحيح البخاري" (4/533) : "ألا ترى أن عليها أن تهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا أسلمت فيه ـ بغير محرم ، وكذلك كل واجب عليها أن تخرج فيه" أ.هـ المراد .
{ وثالث الحالات : أن تسافر المرأة سفراً غير واجب ، كعمرة مستحبة أو زيارة لذوي رحم . فهذه الحال السفر فيها يأتي على ضربين :(4/102)
ـ أولهما : أن يكون السفر قصيراً ، فمذهب الحنفية جوازه من غير اشتراط محرم ـ كما في : "بدائع الصنائع" (2/124) ، و"حاشية ابن عابدين" (2/464،465) ـ ، خلافاً للجمهور فلا فرق بين سفر طويل وقصير عندهم ، وهو مذهب المالكية ـ كما في : "إرشاد السالك" (1/165) ، ومذهب الشافعية ـ كما في : "المجموع" (7/69ـ70) و"الإيضاح مع حاشية الهيتمي" (ص/102) ـ ، ومذهب الحنابلة ـ كما في : "الإنصاف" (3/410،411)ـ والخلاف فيه مشهور. قال العكبري رحمه الله في : "رؤوس المسائل الخلافية" (2/591) : "يعتبر المحرم في سفر المرأة الطويل والقصير . خلافاً لأبي حنيفة في قوله : (يُعْتَبر في الطويل)" . إلا أنه اختُلِف في تحديد السفر الطويل ، فمذهب الحنفية ثلاثة أيام فصاعداً ـ كما في : "حاشية ابن عابدين" (2/464) ـ ، وبه قال جماعة . قال ابن الملقن في : "الإعلام" (6/80،81) : "واشترط أبو حنيفة (المحرم) لوجوب الحج عليها ، إلا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاثة مراحل ـ أي : أيام ، ووافقه جماعة من أصحاب الحديث والرأي . وحُكِي أيضاً عن الحسن البصري والنخعي والشعبي والحسن بن حُيَي … وقال سفيان : إن كانت من مكة على أقل من ثلاث ليال فلها أن تحج مع غير ذي حرم أو زوج ، وإن كانت على ثلاث فصاعداً : فلا . قال ـ لعله : ابن بزيرة ـ : والذي عليه جمهور أهل العلم أن الرفقة المأمونة من المسلمين تنزل منزلة الزوج أو ذي المحرم . وذَكَر ـ لعله : ابن بزيرة ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم ، وقالت : ليس كل النساء تجد محرماً!" أ.هـ. وقال ابن عبد البر في : "التمهيد" (21/54) : "وقال آخرون: لا يقصر المسافر الصلاة إلا في مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً ، وكل سفر يكون دون ثلاثة أيام : فللمرأة أن تسافر بغير محرم . هذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه ، وهو قول ابن مسعود" أ.هـ.
وحجة الحنفية في التفريق لخصها الحافظ في : "الفتح" (4/90) بقوله : "وحجتهم : أن المنع المقيد بالثلاث مُتَحَقِّق ، وما عداه مشكوك فيه ، فيؤخذ بالمُتَيَقَّن" أ.هـ. وهي كذلك في الصلاة ، قال ابن بطال في : "شرح صحيح البخاري" (3/79) : "واحتج الكوفيون بحديث ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا مع ذي محرم" . وقالوا : لما اختلفت الآثار والعلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، وكان الأصل الإتمام لم يجب أن ننتقل عنه إلا بيقين ، واليقين ما لا تنازع فيه ، وذلك ثلاثة أيام" أ.هـ.
إلا أن حجة الحنفية نَقَضها جماعة ، قال الحافظ في : "الفتح" (4/90) : "ونوقض : بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر ، فينبغي الأخذ بها وطرح ما عداها ؛ فإنه مشكوك فيه ، ومن قواعد الحنفية : تقديم الخبر العام على الخاص ، وترك حمل المطلق على المقيد. وقد خالفوا ذلك هنا" أ. هـ. وأما اختلاف ألفاظ الحديث فقال عنه النووي في : "شرح مسلم" (9/10) : "قال العلماء : اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن ، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد" أ.هـ.
تنبيه: ـ
قال الحافظ في : "الفتح" (2/660) : "الحكم في نهي المرأة عن السفر وحدها متعلق بالزمان ، فلو قطعت مسيرة ساعة واحدة مثلاً في يوم تام لتعلَّق بها النهي، بخلاف المسافر فإنه لو قطع مسيرة نصف يوم مثلاً في يومين لم يَقْصر، فافترقا . والله أعلم" أ.هـ. وعليه لو قيل : إن ثلاثة أيام عند القائلين بها، المقصود منها ألا تَبْقى المرأة في سفرها مدة ثلاثة أيام ، لكن لو قطعت مسافة مسيرة ثلاثة أيام في يومٍ لجاز لها السفر ، وعلى القول به : فيجوز السفر للمرأة إلى مشارق الأرض ومغاربها بالطائرة ؛ لأن السفر فيها تُقطع فيه المسافات في أقل من ثلاثة أيام عادة!
ـ والثاني : أن يكون السفر طويلاً . فاختلف فيه على قولين :
ـ أولهما : جواز السفر مع غير محرم مع شرط الأمن ـ وسبق ـ ، وهو وجه عند الشافعية وقول محكي عن مالك رحمه الله . قال النووي في: "المجموع" (7/70) : "(فرع) هل يجوز للمرأة أن تسافر لحج التطوع؟ أو لسفر زيارة وتجارة ونحوهما مع نسوة ثقات ؟ أو امرأة ثقة ؟ فيه وجهان ، وحكاهما الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي وآخرون من الأصحاب في : (باب الإحصار) . وحكاهما القاضي حسين والبغوي والرافعي وغيرهم . أحدهما: يجوز كالحج . والثاني : وهو الصحيح باتفاقهم ، وهو المنصوص في (الأم)" أ.هـ المراد . وقال ابن الملقن في : "الإعلام" (6/81) : "فإن كانا ـ أي : الحج والعمرة ـ تطوعين، أو سفر زيارة أو تجارة ، ونحوها من الأسفار التي ليست واجبة . فقال الجمهور : لا تجوز إلا مع زوج أو محرم . وقال بعضهم: يجوز لها الخروج مع نسوة ثقات لحجة الإسلام . وفي مذهب مالك ثلاثة أقوال عند عدم الولي" أ.هـ المراد .(4/103)
ـ والثاني : عدم جواز السفر إلا بمحرم . وهو مذهب الجمهور ـ كما سبق ـ ، وحكاه بعضهم اتفاقاً . قال ابن الملقن في : "الإعلام" (6/82) : "قال القاضي عياض : واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم إلا الهجرة من دار الحرب"أ.هـ. وكذا حكاه النووي في : "شرح مسلم" (9/148) عن عياض .
وقد اسْتَوْجَه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول الأول ، حكاه عنه ابن مفلح في : "الفروع" (3/236) بقوله ـ وسبق ـ : "وعند شيخنا : تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم . وقال : (إن هذا مُتَوَجِّه في كل سفر طاعة) كذا قال ـ رحمه الله ـ "أ.هـ. وفي بعض ما ذُكِر سابقاً من أدلة دلالة على صحة هذا القول، ويؤكِّده أنه جاء في الخبر ـ وسبق ـ فعل عائشة رضي الله عنها له. قال البدر العيني في : "عمدة القاري" (7/128) : "روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنها كانت تُسَافر بغير محرم ، فأخذ به جماعة وجَوّزوا سفرها بغير محرم" أ.هـ المراد . وقال الحافظ في : "الفتح" (4/88) : "واستُدِلّ به على جواز حج المرأة بغير محرم" أ.هـ.
ودليل الجمهور حديث : "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم" ونحوه . لكن قال ابن عبد البر في :"الاستذكار" (27/274) : "والذي جَمَعَ معاني آثار الحديث ـ على اختلاف ألفاظه ـ أن تكون المرأة تُمْنَع من كل سفر يُخْشى عليها فيه الفتنة ، إلا مع ذي محرم أو زوج، قصيراً كان السفر أو طويلاً . والله أعلم" أ.هـ. وبنحوه في : "التمهيد" (21/55) .
متممات :ـ
1ـ قال أبو العباس القرطبي في : "المفهم" (3/449) : "وسبب هذا الخلاف ـ أي : في اشتراط المحرم للمرأة في الحج الواجب ـ : مخالفة ظواهر هذه الأحاديث لظاهر قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيل} . وذلك أن قوله : { من استطاع } ظاهره الاستطاعة بالبدن ، كما قررناه آنفاً ، فيجب على كل من كان قادراً عليه ببدنه . ومن لم تجد مَحْرماً قادرة ببدنها، فيجب عليها فلما تعارضت هذه الظواهر : اختلف العلماء في تأويل ذلك" أ.هـ.
2ـ قال القاضي عياض رحمه الله في : "إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم" (4/446) : " قال الباجي : وهذا عندي ـ يعني : اشتراط المحرم ـ في الانفراد ـ أي : عندما تسافر المرأة مُنْفردة لوحدها ـ ، والعدد اليسير ، فأما في القوافي ـ لعله : القوافل ـ العظيمة فهي عندي كالبلاد ، يَصِح فيها سفرها دون نساء وذوي محارم . قال غيره : وهذا في الشابة ، فأما المُتَجَالَّة ـ وهي الطَّاعِنة في السن ـ فتسافر كيف شائت للفرض والتطوع مع الرجال ودون ذوي المحارم " أ.هـ. لكن رَدّه النووي في : "شرح مسلم" (9/149) : "وهذا الذي قاله الباجي لا يوافق عليه ؛ لأن المرأة مظنة الطمع فيها ، ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة . وقد قالوا : لكل ساقطة لاقطة . ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها ؛ لغلبة شهوته ، وقلة دينه ومروءته ، وخيانته، ونحو ذلك والله أعلم " أ.هـ. وكلام الباجي الذي ذكره القاضي عياض هو في : "المنتقى" (7/304) للباجي رحمه الله . إلا أن أبا العباس القرطبي في : "المفهم" (3/450) فَنّده بأحسن من مقول النووي ، حيث قال : " وفيه بُعْدٌ ؛ لأن الخَلْوة بها تحرم ، وما لا يطلع عليه من جسدها غالباً عورة ، فالمظنة موجودة فيها . والعموم صالح لها ، فينبغي ألا تخرج منه . والله تعالى أعلم" أ.هـ.
3ـ قال النووي رحمه الله في : "شرح مسلم" (9/149ـ150) : "(إلا ومعها ذو محرم) فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن جميع المحارم سواء في ذلك، فيجوز لها المسافرة مع محرمها بالنسب ، كابنها وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها وعمها ، ومع محرمها بالرضاع ، كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن اختها منه ونحوهم ، ومع محرمها من المصاهرة ، كأبي زوجها وابن زوجها، ولا كراهة في شيء من ذلك . وكذا يجوز لكل هؤلاء الخلوة بها ، والنظر إليها من غير حاجة ، ولكن لا يحل النظر بشهوة لأحد منهم . هذا مذهب الشافعي والجمهور ، ووافق مالك على ذلك كله إلا ابن زوجها : فكره سفرها معه ؛ لفساد الناس بعد العصر الأول ، ولأن كثيراً من الناس لا يَنْفرون من زوجة الأب نفرتهم من محارم النسب . قال : والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله تعالى النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب . وعموم هذا الحديث يرد على مالك . والله أعلم" أ.هـ. وَردّه ابن دقيق العيد رحمه الله في : "إحكام الأحكام" (3/48) وجماعة .(4/104)
4ـ أخرج البخاري (رقم 3006) ومسلم (رقم : 1341) عن ابن عباس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بقول : "لا يَخْلُونَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تُسافِر امرأة إلا مع ذي مَحْرم" فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجتْ حَاجَّة وإني اكتُتبتُ في غزوة كذا وكذا . قال : انطلق فحُجّ مع امرأتك" . قال أبو العباس القرطبي في: "المفهم" (3/453) : " قوله : صلى الله عليه وسلم للرجل : "انطلق فحج مع امرأتك" هو فَسْخ لما كان التزم من المُضِيّ للجهاد . ويدل على تأكُّد أمر صيانة النساء في الأسفار" أ.هـ. المراد .
===============
الحب في الله والبغض في الله
فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد .
فإن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان ، وتحقيقه في واقعنا هو المقياس الشرعي السديد تجاه الناس بشتى أنواعهم ، والحب في الله والبغض في الله هو الحصن الحصين لعقائد المسلمين وأخلاقهم أمام تيارات التذويب والمسخ كزمالة الأديان والنظام العالمي الجديد والعولمة ونحوها .
ومسائل هذا الموضوع كثيرة ومتعددة ، وقد عُني العلماء قديماً وحديثاً بتحريرها وتقريرها ، لكن ثمت مسائل مهمة - في نظري - تحتاج إلى مزيد بحث وتحقيق وإظهار .
منها : أن الحبّ في الله تعالى والبغض في الله متفرع عن حب الله تعالى ، فهو من لوازمه ومقتضياته ، فلا يمكن أن يتحقق هذا الأصل إلا بتحقيق عبادة الله تعالى وحبّه ، فكلما ازداد الشخص عبادة لله تعالى وحده ازداد تحقيقاً للحبّ في الله ، والبغض في الله ، كما هو ظاهر في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام ، وهو أظهر في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ومنها: أن الحبّ في الله والبغض في الله له لوازم ومقتضيات ، فلازم الحب في الله : الولاء ، ولازم البغض في الله : البراء ، فالحب والبغض أمر باطن في القلب ، والولاء والبراء أمر ظاهر كالنصح للمسلمين ونصرتهم والذب عنهم ومواساتهم ، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وترك التشبه بالكفار ، ومخالفتهم ، وعدم الركون والثقة بهم ، فإذا انتفى اللازم - الولاء والبراء - انتفى الملزوم - الحب والبغض - هذا التلازم بين الحب والبغض ، وبين الولاء والبراء يتسق مع التلازم بين الظاهر والباطن في الإيمان .
ومنها : أن الحب في الله والبغض في الله من أعظم أسباب إظهار دين الإسلام ، وكف أذى المشركين ، بل إن تحقيقه سبب في إسلام الكافرين ، وهاك بعض الأحداث التي تقرر ذلك ، فقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية جملة مما ذكره الواقدي في معازيه وغيره .
فمن ذلك أن اليهود خافت وذلت من يوم قتل رئيسهم كعب بن الأشراف على يد محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - 1
ويقول شيخ الإسلام : ( وكان عدد من المشركين يكفون عن أشياء مما يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان بن ثابت ، حتى إن كعب بن الأشراف لما ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة ، فيخرجونه من عندهم ، حتى لم يبق بمكة من يؤويه ) 2
ولما قتل مُحيَّصة - رضي الله عنه - ذلك اليهودي فزجره أخوه حويصة ، قال مُحيَّصة : ( والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربتُ عنقك فقال حويصة : والله إن ديناً بلغ منك هذا لعَجَبُ ن ثم أسلم حويصة ) 3
ولعل هذه الرسالة المختصرة تحقق شيئاً من هذا الأصل الكبير عموماً ، وتظهر جملة من المسائل المذكورة خصوصاً ، وبالله التوفيق .
المبحث الأول
أهمية الموضوع
قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم- : (( أوثق عرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله )) وفي حديث آخر قال- صلى الله عليه وسلم- : ((من أحق في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله ؛ فقد استكمل الإيمان)) 4 إذاً الحب في الله والبغض في الله ليس إيماناً فحسب ، بل هو آكد وأوثق عُرى الإيمان ، فحري بنا أن نحرص على هذا الأمر .
كان- صلى الله عليه وسلم- يبايع على هذا الأمر العظيم ، فقد جاء عن جرير بن عبد الله البجلي- رضي الله عنه- أنه قال : أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يبايع فقلت : يا رسول الله ، أبسط يدك حتى أبايعك ، واشترط علىّ وأنت أعلم . فقال : (( أبايعك على أن تعبد الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتُناصح المسلمين ، وتفارق المشركين )) 5 .
هذا هو الشاهد ، فهو- صلى الله عليه وسلم- بايع جرير بن عبد الله على أن يناصح المسلمين وهذا هو الحب في الله ، ويفارق المشركين وهذا هو البغض في الله , تفارق المشركين بقلبك وقالبك . بقلبك بأن تبغضهم وتعاديهم كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله ، وتفارقهم بجسدك كما سيأتي الإشارة إلى الهجرة وهي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا لم يكن الشخص مستطيعاً أن يظهر دينه في بلاد الكفر وكان قادراً على الهجرة ؛ فإذا اجتمع الأمران تعيّن عليه الهجرة والانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام .(4/105)
جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- لما سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن آيات الإسلام ، فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم- : (( أن تقول أسلمت وجهي لله عز وجل وتخليت، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ثم قال : " كل مسلم على مسلم حرام أخوان نصيران ، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين)) 6
فتأمل رحمك الله كيف أنه صلى الله عليه جعل ذلك شرطاً في قبول العمل ، ولا شك أن هذا مقتضٍ البغض في الله لأعداء الله عز وجل من الكافرين والمرتدين . قال شيخ العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله عليهم- : ( فهل يتم الدين أو يقام علمُ الجهاد أو علمُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله ، والمعاداة في الله والموالاة في الله ، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غيرعداوة ولا بغضاء لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل ، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) 7
الحب في الله والبغض في الله من مكملات حب الله عز وجل وحب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن حب الله وحب الرسول من أعظم الفرائض والواجبات وآكدها ، وفي المقابل فإن بغض رسوله أو بغض شيء مما جاء عن الله أو صحّ عن رسول الله فهو من أنواع الردة والخروج عن الملة .
الناظر إلى واقع المسلمين الآن يجد أنهم قد ضيّعوا هذا الأصل ، فربما كان الحب من أجل شهوات فيتحابون من أجل المال ، ويتباغضون من أجل المال ، ويتحابون من أجل القبيلة والعشيرة ويتباغضون من أجلها ، فإذا كان الشخص من قبيلتهم أحبوه ولو كان كافراً ولو كان تاركاً للصلاة مثلاً ، والشخص يبغضونه إن لم يكن منهم أو من عشيرتهم ولو كان أفضل الناس صلاحاً و تقي ، وربما حصل الحب من أجل وطن أو من أجل قومية ، وكل ذلك لا يجدي على أهله شيئاً ، ولا تنفع هذه الصلاة وتلك المودات ؛ فلا يُبتغى بها وجه الله ولا قيمة لها عند الله .
وقد أشار إلى هذا ابن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن فيما معناه : [" من أحب في الله وأبغض في الله ، ووالى في الله وعادى في الله ؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك "] أي إذا أردت أن تكون ولياً من أولياء الله عليك بهذا الأمر .
ثم قال ابن عباس : [" ولن تجد أحدٌ طعمَ الإيمان إلا بذلك ، وقد صارت عامة
مؤاخاة الناس لأجل الدنيا ، وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً "] وصدق- رضي الله عنه- ،فهذا في كتاب الله عز وجل ، قال تعالى : (( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)) (البقرة:166) .
قال ابن عباس ومجاهد : ( المراد بالأسباب هنا : المودات والصلات التي ليست لأجل الله تعالى ) ز
لماذا ؟ لأن الحب في الله والبغض في الله يراد به وجه الله ،والله تعالى هو الباقي سبحانه الدائم ، فلهذا ما كان لله يبقى ، أما ما لم يكن لله فهو يضمحل، فالشخص الذي يحب آخر من أجل الدنيا هذه الرابطة تنتهي وتفني وتتقطع وتجد أن هؤلاء يتعادون .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- : ( والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضاً، وإن كانوا فعلوا بتراضيهم ).
قال طاووس : ( ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلاَّ تفرقا عن تقال، إلى أن قال : فالمخالة إذا كانت على غير مصلحة الاثنين كانت عاقبتها عداوة ، وإنما تكون على مصلحتها إذا كانت في ذات الله ) 8 .
وهذا واقع ؛ فنجد الذين يجتمعون على شر أو فساد - مثلاً - سرعان ما يتعادون وربما فضح بعضهم الآخر .
قال أبو الوفاء بن عقيل ( 513هـ ) رحمه الله : ( إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك ، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة ) .
ثم قال رحمه الله : (عاش ابن الراوندي والمعري عليهم لعائن الله ينظمون وينثرون كفراً ، عاشوا سنين وعُظمت قبورهم واشترت تصانيفهم ، وهذا يدل على برودة الدين في القلب ) .
والآن أيها الإخوة تجدون كثيراً من المجلات والصحف والمؤلفات الساقطة التي تحارب دين الله عز وجل ؛ ومع ذلك ترى الكثير من أهل الصلاة قد انكبوا على شرائها أو الاشتراك فيها .
نحن في زمان حصل فيه تلبيس وقلب للمفاهيم ؛ فتجد بعض الناس إذا تحدث عن الحب في الله والبغض في الله قال : هذا يؤدي إلى نفرة الناس ، يؤدي إلى كراهية الناس لدين الله عز وجل .(4/106)
وهذا الفهم مصيبة ، فالناس يقون في المداهنة والتنازلات في دين الله عز وجل باسم السماحة ، ولا شك أن هذا من التلبيس، فالحب في الله والبغض في الله ينبغي أن يتحقق ، وينبغي أن يكون ظاهراً ؛ لأن هذا أمر فرضه الله علينا ، ولهذا يقول ابن القيم- رحمه الله- عن مكائد النفس الأمارة بالسوء : [" إنَّ النفس الأمارة بالسوء تُرى صاحبها صورة الصدق وجهاد من خرج عن دينه وأمره في قالب الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم ، وأنه يعرض نفسه للبلاء ما لا يطيق ، وأنه يصير غرضاً لسهام الطاعنين وأمثال ذلك من الشبه "] 9
فبعض الناس يقول : لو أحببنا هذا الشخص في الله وأبغضنا فلاناً الكافر أو المرتد لأدّى هذا إلى العداوة وإلى أنه يناصبنا العداء . وهذا من مكائد الشيطان ، فعلى الإنسان أن يحقق ما أمر الله به وهو سبحانه يتولى عباده بحفظه كما قال تعالى : (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) (الزمر:36) وقال عز وجل : (( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)) (الطلاق:3) .
المبحث الثاني
معنى الحب في الله والبغض في الله
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه ( قاعدة في المحبة ) : ( أصل الموالاة هي المحبة كما أن أصل المعادة البغض ، فإنَّ التحاب يوجب التقارب والاتفاق ، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف ) 10
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن- رحمة الله عليهم- : ( أصل الموالاة : الحب ، وأصل المعاداة : البغض ، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة ؛ كالنصرة والأنس والمعاونة وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال ) 11 .
وسئل الإمام أحمد- رحمه الله- عن الحب في الله ، فقال : ( ألا تُحبه لطمع في ديناه) 12
فمن خلال أقوال هؤلاء الأئمة ونحوهم يتبيّن لنا أن الحب والبغض أمر قلبي ، فالحب محله القلب ، والبغض محله القلب، لكن لا بد لهذا العمل القلبي أن يظهر على الجوارح ، فلا يأتي شخصٌ يقول : أنا أبغض فلاناً في الله ثم تجد الأنس والانبساط والزيارة والنصرة والتأييد لمن أبغضه في الله ! فأين البغض في الله . ... فلا بد أن يظهر على الجوارح ، فلو أبغضنا مثلاً أعداء الله من النصارى ومن اليهود فهذا البغض محلهُ القلب لكن يظهر على الجوارح من عدم بدئهم بالسلام – مثلاً – كما قال- صلى الله عليه وسلم- : (( لا تبدءوا اليهود والنصارى باليهود بالسلام)) أو من خلال عدم المشاركة في أعيادهم ؛ لأن هذه المشاركة من التعاون على الإثم والعدوان ، والله يقول : ((وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم)) (المائدة: من الآية2)
وكذلك الحب في الله ، فإذا أحببنا عباد الله الصالحين وأحببنا الأنبياء والصحابة وغيرهم من أولياء الله تعالى ، فهذا الحب في القلب لكن له لوازم وله مقتضيات تظهر على اللسان وعلى الجوارح ، فإذا أحببنا أهل الإسلام أفشينا السلام كما قال عليه الصلاة والسلام : (( ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم )) كذلك النصيحة فعند ما أرى أخاً لي من أهل الإسلام يُقصر في الصلاة كأن يخل بأركانها أو واجباتها فأنصحه فهذا من مقتضى الحب في الله ، فإذا عُدم ذلك فهذا يدل على ضعف الإيمان، فلو وجدنا رجلاً يقول : أنا أحب المؤمنين لكنه لا يسلّم عليهم ، ولا يزور مريضهم ، ولا يتبع جنائزهم ، ولا ينصح لهم ، ولا يشفق عليهم ؛ فهذا الحب لا شك أن فيه دخن ونقص لا بد أن يتداركه العبد .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في فتاويه (( إن الله عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم ، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى ومجوس ومشركين وملحدين ومارقين وغيرهم من ثبت في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم . وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين . وكل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية فإنه تجب محبته وموالاته ونصرته ، وكل من كان بخلاف ذلك فإن يجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة ، فالولاء والبراء تابع للحب والبغض ، والحب والغض هو الأصل ، وأصل الإيمان أن تحبّ في الله أنبياءه وأتباعهم ، وأن تبغض في الله أعداءه وأعداء رسله )) 13
وقد بيّن أهلُ العلم أن المؤمن تحبُ محبته وإن أساء إليك ، والكافر يجب بغضه وعداوته وإن أحسن إليك .
فالمسلم وإن قصّر في حقك وظلمك فيبغض على قدر المظلمة ؛ لكن يبقى حق الإسلام وحق النصرة وحق الولاية .
ماذا يجب علينا تجاه المسلمين من خلطوا عملاً صالحاً وأخر سيئاً ، فهم ليسوا من أولياء الله الصالحين ، وليسوا من أعداء الله الكافرين ؟
الواجب في حقهم أن نحبهم ونواليهم بقد طاعتهم وصلاحهم ، وفي نفس الوقت نبغضهم على قدر معصيتهم وذنبهم .(4/107)
فمثلاً : جارك الذي يشهد الصلوات الخمس عليك أن تحبه لهذا الأمر، لكن لو كان هذا الجار يسمع ما حرم الله من الأغاني مثلاً، أو يتعاطى الربا فعليك أن تبغضه على قدر معصيته ، وكلما ازداد الرجل طاعة ازددنا له حبّاً ، وكلما زاد معصية ازددنا له بغضاً .
وقد يقول قائل : وكيف يجتمع الحب والبغض في شخص واحد ؟ كيف أحب الشخص من جانب وأبغضه من جانب ؟
أقول : هذا ميسر ، فهذا الأب ربما ضرب ابنه وآلمه تأديباً وزجراً ، ومع ذلك يبقى الأصل أن الأب يحب ابنه محبة جبلية . فيجتمع الأمران .
وكذلك المعلم مع تلاميذه أو الرجل مع زوجته إذا زجرها أو هجرها إذا كان الأمر يقتضي ذلك لكن يبقى الأصل في ذلك محبتها والميل إليها . فإذا كان الشخص يجتمع في إيمان مع ارتكاب محرمات أو ترك واجبات – مما لا ينافي الإيمان بالكلية – فإن إيمانه يقتضي حبّه ونصرته ، وعصيانه يقتضي عداوته وبغضه – على حسب عصيانه .
ومما يبيّن هذا الأمر ما جاء في هدى النبي صلى الله عليه وسلم فقد حقق عليه السلام الأمرين ، والدليل ذاك الرجل الذي يشرب الخمر في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واسمه عبد الله ، وكان كثيراً ما يؤتى به فيجلد ، فأتي به في أحد المرات فقال أحد الحاضرين : لعنه الله ما أكثر ما يُؤتى به ، فقال عليه السلام : (( لا تلعنه ، أما علمت أنَّه يحب الله ورسوله )) أو كما ورد في الحديث – فمقتضى العداوة والبغضاء أن أقام عليه الحد فجلده ، وفي نفس الوقت أيضاً مقتضى الحب والولاء له أن دافع عنه- عليه الصلاة والسلام- فقال : ((لا تلعنه))
معاودة الكافرين :
هذه المسألة تغيب في هذا الزمان بسبب جهل الناس وتكالب قوى الكفر على إلغاء الولاء والبراء وإلغاء ما يسمى بالفوارق الدينية .
قال الشيخ حمد بن عتيق (ت 1301هـ ) : [" فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أنَّ الله أوجب ذلك وأكد إيجابه ، وحرّم موالاتهم وشدد فيه ، حتى أنه ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر وأبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده "] .
وقال في موضع آخر : " وهنا نكتة بديعة في قوله : (( إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )) (الممتحنة: من الآية4) وهي أن الله قدم البراءة من المشركين العابدين غير الله ، على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله ، لأن الأول أهم من الثاني ، فإنه قد يتبرأ من الأوثان ، ولا يتبرأ ممن عبدها ، فلا يكون آتياً بالواجب عليه ، وأما إذا تبرأ من المشركين ، فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم " 14
فإذا علم هذا تبين خطأ وانحراف كثير من الناس عند ما يقولون : نتبرأ من الكفر ونتبرأ من عقيدة التثليث عند النصارى ونتبرأ من الصليب ، لكن عند ما تقول لهم تبرؤوا من النصارى . يقولون : لا نتبرأ منهم ولا نواليهم .
لوازم الحب في الله والبغض في الله .
أشرنا إلى أن الحب في الله والبغض في الله عملان قلبيان لكن لهذا الحب لوازم مثل : النصح للمسلمين ، والإشفاق عليهم ، الدعاء لهم ، والسلام ، وزيارة مريضهم ، وتشييع جنائزهم ، وتفقد أحوالهم .
أما لوازم البغض فمنها : ألا نبتدئهم بالسلام ، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وعدم التشبه بهم ، وعدم مشاركتهم في الأعياد – كما هو مبسوط في موضعه .
المبحث الثالث
أحوال السلف الصالح في تحقيق عقيدة الولاء والبراء
يقول أبو الدرداءِ- رضي الله عنه- : ( ما أنصف إخواننا الأغنياء، يحبوننا في الله ويفارقوننا في الدنيا، إذا لقيته قال : أحبكَ يا أبا الدرداء ، فإذا احتجت إليه في شيءٍ امتنع مني ) 15
ويقول أيوب السيختياني- رحمه الله- : " إنَّه ليبلغني عن الرجل من أهل السنة أنَّه مات، فكأنما فقدتُ بعض أعضائي " .
وكان أحمد بن حنبل- رحمه الله- إمام أهل السنة، [ إذا نظر إلى نصراني أغمض عينيه ، فقيل له في ذلك، فقال- رحمه الله- : ( لا أقدرُ أن أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه ) 16 .
فانظر - يا رعاك الله – كيف كان تعظيم الله وتوقيره في قلب الإمام أحمد يجعله لا يطيق النظر إلى من افترى على الله وكذب عليه ، وأي افتراء أعظم من مقالة النصارى أن لله ولد – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – قال عمر بن الخطاب في شان النصارى : " أهينوهم ولا تظلموهم ، فإنهم سبُّوا الله تعالى أعظم المسبة " .(4/108)
وهذا بهلول بن راشد- رحمه الله- من أصحاب مالك بن أنس- رحمه الله- دفع إلى بعض أصحابه دينارين ليشتري به زيتاً ، فذُكر للرجل أن عند نصراني زيتاً أعذب ما يوجد . فانطلق إليه الرجل بالدينارين وأخبر النصراني أنه يريد زيتاً عذباً لبهلول بن راشد ، فقال النصراني : نتقرب إلى الله تعالى بخدمة بهلول كما تتقربون أنتم إلى الله بخدمته . وأعطاه بالدينارين من الزيت ما يعطى بأربعة دنانير، ثم أقبل الرجل إلى بهلول وأخبره الخبر، فقال بهلول : قضيت حاجةً فاض لي الأخرى ، رُدَّ علىّ الدينارين فقال : لم ؟ قال: تذّكرت قول الله تعالى : (( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) (المجادلة: من الآية22) .
فخشيت أن آكل زيت النصراني فأجد له في قلبي مودة فأكون ممن حاد الله ورسوله على عرض من الدنيا يسير 17
وسئل الإمام أحمد عن جار رافضي ؟ فقال : ( لا تسلم عليه ، وإذا سلم لا يُرد عليه ) 18 .
وكان ابن رجاءٍ من الحنابلة، يهجرُ من باع لرافضي كفنه ، أو غسله ، أو حمله 19
ولما كان العزُّ بن عبد السلام في دمشق، وقعَ فيها غلاءٌ فاحش، حتى صارت البساتينُ تباع بالثمن القليل ، فأعطتهُ زوجته ذهباً وقالت : اشرِ لنا بستاناً نصيّف فيه، فأخذ الذهبَ وباعهُ، وتصدق بثمنه، فقالت: يا سيدي اشتريت لنا ؟ قال : نعم بستاناً في الجنة. إنِّي وجدتُ الناس في شدةٍ، فتصدقتُ بثمنه، فقالت المرأة : جزاك الله خيراً 20
وهذا محمد بن عبدوس المالكي، من علماءِ المالكية، كان في غايةِ النصحِ والإشفاقِ على المسلمين، ففي أحدَ المرات ذهبَ إلى أحدِ أصحابه وعليه جُبَّةَ صوف، وكانت ليلةً شاتيةً، فقال له : ما نمتُ الليلةَ غمّاً لفقراءِ أمة محمد ، ثم قال : هذه مائةُ دينار ذهبا،ً غلةُ ضيعتي هذا العام، أحذر أن تُمسي وعندك منها شيء وانصرف .
دخل أبو الوليد الطرطوشي- رحمه الله- على الخليفة في مصر، فوجدَ عنده وزيراً راهباً نصرانياً، قد سلّم إليه القيادة، وكان يأخذُ برأيهِ، فقال الطرطوشي:
يا أيها الملك الذي جودهُ يطلبهُ القاصدُ والراغب
إنَّ الذي شرفت من أجله يزعمُ هذا أنَّه كاذب 21
فعندئذٍ اشتد غضبُ الخليفة، فأمرَ بالراهبِ فسُحبَ وضُرب ، وأقبل على الشيخِ فأكرمهُ وعظَّمهُ بعد ما كان قد عزم على إيذائه .
يقول القرافي معلقاً على هذه القصة : " لما استحضر الخليفةُ تكذيب الراهبِ للرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو سببُ شرفه ، وشرفَ آبائهِ وأهل الأرض ، بعثهُ ذلك عن البعدِ عن السكونِ إليه والمودة، وأبعدهُ عن منازلِ العزِّ إلى ما يليقُ به من الذلِ والصغار 22
المبحث الرابع
تنبيهات
علينا أن نفرق بين بغض الكفار ومعاداتهم، وبين البرِ والاقساط ، فبعض الناس يخلطُ بين الأمرين، فيجعل البرَ والعدل مع الكفار محبةً لهم ، وعكسَ بعضُ الناس المسألة، فربما ظلمَ الكافر باسم العداوة له .
فالمتعين أن نبغض الكفار؛ لأنَّ الله أمرنا أن نبغضهم، ولكن لا نظلمهم، فقد قال تعالى : (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الممتحنة:8)
وقال تعالى في الحديث القدسي : (( يا عبادي ، إنِّي حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )) .
يقولُ القرافي في كتابه (الفروق ) لما فرقَ بين مسألةِ بُغضهم، ومراعاةُ البرِ والإقساط قال : " وسرُّ الفرق أنَّ عقد الذمة يوجبُ حقوقاً علينا لهم ؛ لأنَّهم في جوارنا ، فيتعين علينا برُّهم في كل أمرٍ لا يكونُ ظاهرهُ يدل على مودةٍ في القلب، ولا تعظيمِ شعائرِ الكفر، فمتى أدَّى إلى أحد هذينِ، امتنع وصار من قبل ما نهى عنه في الآية " 23
بعض الناس يقول : نحن إذا بغضنا النصارى وعاديناهم – مثلاً – هذا يُؤدي إلى نفرتهم عن الإسلام وبغضهم له .
وليس الأمرُ كذلك ، فإنَّ الله تعالى أرحمُ الراحمين ، وهو سُبحانه وتعالى أحكمُ الحاكمين، حيثُ شرعَ بُغض الكفارِ وعداوتهم ، فلا يتوهم أن تحقيق شعيرةِ البراءةِ من الكافرين يؤولُ إلى النفرة عن الإسلام ، بل إنَّ الالتزامَ بهذه الشعيرة – وسائر شعائرِ الإسلام – سببٌ في ظهورِ الإسلام وقبوله، كما وقعَ في القرون المفضلة ، " جاء في سيرةِ ابن هشام أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : (( من ظفر به من رجال يهود فاقتلوه)) فوثب مُحيصةَ بن مسعودِ على ابن سُنَينَة ، رجلٌ من تجارِ اليهود يبايعهم ، فقلتهُ، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم ، وكان أسنّ من محيصة ، فلما قتلهُ جعل حويصةُ يضربهُ ويقول : أي عدوَّ الله أقتلته ؟ أما والله لربَّ شحمٍ في بطنك من ماله ، قال محيصة : فقلتُ له : واللهِ لقد أمرني بقتلهِ من لو أمرني بقتلكَ لضربتُ عُنُقك ، قال : فو الله إن كان لأوّل إسلام حويصة ، قال : آلله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني ؟ قال نعم ، والله لو أمرني بضربِ عنقك لضربتها، قال : والله إنَّ ديناً بلغَ بك هذا لَعجَبٌ ، فأسلم حويصة " 24(4/109)
وها نحنُ نرى الكثير من المسلمين – في هذا العصر – وقد ارتموا في أحضانِ الكفار ، وأحبُّوهم وداهنوهم ، ولم يكن ذلك سبباً في إسلامهم ، بل امتهن الكفارُ أولئك القوم ، وزادوا عتوّاً ونفوراً عن الإسلام وأهله .
وأمرٌ آخر : أنَّ تحقيق هذا الأصلِ سببٌ في إسلامهم، كما كان اليهودُ والنصارى يدفعون الجزية للمسلمين عن صغارٍ وذلة، فكان هذا سبباً في أن ينظروا إلى الإسلام، ويسلموا من أجلِ أن تسقط عنهم الجزية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( مثل الآصارِ والأغلالِ التي على أهلِ الكتاب ، وإذلالَ المسلمين لهم، وأخذ الجزية منهم ، فهذه قد تكونُ داعياً له إلى أن ينظرَ في اعتقادهِ، هل هو حقٌّ أو باطل، حتى يتبينَ له الحق ، قد يكونُ مُرغباً له في اعتقادٍ يخرج به من هذا البلاء ، وكذلك قهرَ المسلمين عدوهم بالأسرِ، يدعوهم للنظرِ في محاسن الإسلام ) 25
البعضُ يقول : إنَّ الكفار تغيّروا، فليسوا كالكفار الأوائل ، نقولُ : هذا غير صحيح، فالكفارُ هم الكفار، وهم أعداؤنا في القديم والحديث ، والله تعالى ذكر في ذلك حكماً عاماً فقال : (( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً )) ٍ(التوبة: من الآية10) وقال : عز وجل : (( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً)) (التوبة: من الآية8) .
البعضُ يحبُ في الله، ويبغضُ في الله، لكن تكونُ هناك شائبة، فعند ما يتفقدُ نفسهُ يجدها تحبُّ لأجل دنيا أو تبغض لأجل دنيا.
مثال: رجلٌ يقول: أنا أبغضُ فلاناً النصراني في الله، لكن عند ما تبحث في أصلِ البغض تجدهُ يبغضهُ لأجل حظٍ أو أثرةٍ. فينبغي أن يمحصَ الحبُّ في الله والبغضُ في الله، بأن يكون خالصاً لله وحده .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- : ( من أحبَّ إنساناً لكونهِ يعطيهِ فما أحب إلاَّ العطاء ، ومن قال إنَّهُ يحبُ من يعطيهِ لله فهذا كذبٌ ومحالٌ وزورٌ من القول ، وكذلك من أحبَّ إنساناً لكونه ينصرهُ إنما أحب النصر لا الناصر ، وهذا كله من اتباع ما تهوى الأنفس ، فإنَّه لم يحب في الحقيقة إلاَّ ما يصلُ إليه من جلب منفعةٍ أو دفع مضرةٍ ، فهو إنما أحبَّ تلك المنفعة ودفع المضرة ، وليس هذا حباً لله ولا لذاته المحبوب ، وعلى هذا تجري عامةُ محبة الخلقِ بعضهم مع بعض ، لا يُثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم ، بل رُبما أدَّى هذا للنفاقِ والمداهنةِ، فكانوا في الآخرة من الأخلاءِ الذين بعضهم لبعض عدو إلاَّ المتقين . وإنما ينفعهم في الآخرة الحبُّ في الله ولله وحده. وأمَّا من يرجو النفعَ والضر من شخصٍ ثُمَّ يزعمُ أنَّهُ يحبهُ لله، فهذا من دسائسِ النفوسِ ونفاقِ الأقوال "] 26
المبحث الخامس
التحذير من مشاركة الكافرين في أعيادهم
إن الكثيرين من المسلمين الذين ابتلوا بمخالطة الكفار سواء في بلاد الكفر أو في أعمال ربما شاركوا الكفار في أعيادهم البدعية ، إما في حفلاتهم أو في التهنئة ، وهذا أمر خطير جداً ، فمشاركة الكفار في أعيادهم لا شك في تحريمها على أقل الأحوال وربما أفضت إلى الكفر بالله عز وجل . وقد تحدث أهل العلم عن ذلك وحذروا وأنذروا .
قال تعالى في وصف عباد الرحمن : (( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) (الفرقان: من الآية72)) والزور كما قال بعض المفسرين هو : أعياد المشركين .
والرسول- صلى الله عليه وسلم- لما قدم إلى المدينة وجد أنهم يلعبون ، فسال عن ذلك فقالوا هذا يومان كنا نلعب في الجاهلية فقال- صلى الله عليه وسلم- : ((قد أبدلكم الله خيراً من ذلك عيد الفطر وعيد الأضحى )) 27
وكذلك ما جاء في الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - على أهل الذمة وهو ألا يظهروا أعيادهم ؛ لأن الأعياد من جملة العبادات ، فكما لا يجوز أن يظهروا صليبهم ونحو ذلك أيضاً لا يجوز أن يظهروا أعيادهم .
ولهذا تجد أهل العلم في غاية التحذير من هذا الأمر حتى إن بعض علماء الأحناف قال : " من أهدى لمجوسي بيضة في يوم النيروز فقد كفر " .
يقول ابن القيم رحمه الله ( في أحكام أهل الذمة ) : ( وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق ؛ مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول : عيد مبارك عليك ، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات ، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثمناً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس ونحوها . وكثير مما لا قدر للدين عندهم يقع في ذلك ولا يدري قبل ما فعل . فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه) 28
المبحث السادس
آثار وثمار الحب في الله والبغض في الله
تحقيق أوثق عرى الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله )) .
تذوق حلاوة الإيمان كما جاء في حديث أنس مرفوعاً : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان " وذكر منها صلى الله عليه وسلم " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله )) 29(4/110)
أن من حقق هذا الأصل يرجى أن ينال الوعد الكريم في الحديث : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " وذكر صلى الله عليه وسلم : " رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه " .
نيل ولاية الله ، فالعبد لا يكون وليا لله إلا إذا حقق ذلك كما مرّ معنا في قول ابن عباس :[ " من أحب في الله وأبغض في الله ، ووالى في الله وعادى في الله ؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك "] . وقال الله تعالى في الحديث القدسي : (( وما تقرب عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه)) .
السلامة من الفتنة والدليل قوله تعالى : (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)) (لأنفال:73)
قال ابن كثير في تفسيره : " أي تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس ، وهو التباس واختلاط المؤمنين بالكافرين ، فيقع في الناس فساد كبير منتشر عريض طويل " 30
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله عز وجل ، فيكون حبه لله ولما يحبه لله وبغضه لله ولما يبغضه لله ، وكذلك موالته ومعاداته " 31
حصول النعم والخيرات والرخاء ، والدليل قوله تعالى عن الخليل عليه السلام : (( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً ، وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً)) (مريم:49 ، 50) . فهذه النعم العديدة ما تحققت لإبراهيم عليه السلام إلا بعد ما حقق هذا الأصل ، فهذا ظاهر أن اعتزال الكفار سبب لهذه النعم كلها ولهذا الثناء الجميل 32
خاتمة
وفي ختام هذا الموضوع أؤكد على ضرورة العناية بهذا الأصل علماً وعملاً والتواصي بتحقيقه وتربية الأمة على ذلك ، وأن يجتهد في ببان لوازم الحب في الله بين المسلمين ومظاهره ، وتطبيق تلك اللوازم في حياة المسلمين مثل : تعليم الجاهل ، وتنبيه الغافل ، وإحياء التكافل بين أهل الإسلام ، والتعاون على البر والتقوى ، ونصرة المسلمين وتفريج كُربهم ، والأخذ على أيدي سفهائهم .
كما يجب الحذر من موالاة الكفار بشتى صورها ومظاهرها ، مثل نصرة الكفار وتأييدهم أو محبتهم ، أو الركون إليهم ، أو تقريبهم ، أو التعويل عليهم أو إكرامهم أو اتباع أهوائهم .
إن عقيدة الولاء والبراء هي أكبر ضمان في حفظ الأمة من الذوبان والانجراف في تيار الأمم الكافرة ، لا سيما في هذا الزمان الذي صار العالم قرية واحدة ، فظهرت أنواع المؤثرات والاتصالات كالفضائيات وشبكات ( الانترنت ) ونحوها ، فإن عقيدة الولاء والبراء أعظم حاجز في درء الفتن والسلامة من فتن التغريب والتنصير وسائر الشبهات والشهوات ، ألا ترى أصحاب هذه العقيدة الراسخة - أعنى الولاء والبراء - أنهم أعظم الناس استعلاء بإيمانهم ، وأظهر النفوس عزة كما هو ظاهر في سير الأنبياء عليهم السلام والصحابة رضي الله عنهم والأئمة من بعدهم .
إن أصحاب هذه العقيدة لا يرد عليهم بأي حال من الأحوال الانبهار بالكفار أو التشبه بهم أو الإعجاب بأخلاقهم وأفكارهم ، فأنى للأعلى أن يتشبه بالأدنى !
فأما الذين خلت قلوبهم من هذا الولاء والبراء فهم أصحاب أهواء متبعة وشهوات مستبعدة ، فتراهم ينظرون إلى الكفار بكل استحسان وإكبار كما ينظر الطفل الصغير إلى أبيه ، ألا ترى أولئك الشباب الذين أشربوا حب الكرة وغفلوا عن شعيرة الولاء والبراء أنهم من أجل الكرة يحبون ويوالون ، ومن أجلها يبغضون ويعادون ، فهذا لاعب أو مدرب لفريقهم فهم يحبونه حبّاً جمّاً ،وربما حملوه على أعناقهم ، وتنافسوا في التودد له وإكرامه والاحتفاء به ، وذاك الآخر ليس من فريقهم فربما أبغضوه وكرهوه أشد من اليهود والنصارى !
تأمل حال هؤلاء المنهزمين وانظر حال السلف الصالح الذين كانوا يُعلّمون أولادهم حبّ الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وتأمل حال أبناء السلف الصالح الذين كانوا يرمون جنازة بشر المرسي المبتدع بالحجارة 33
نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ، ويذل فيه أهل معصيته ، والله المستعان .
===============
واجب العلماء
الأسئلة التي تتردد هذه الأيام عن الإرهاب وما المشروع منه وما الممنوع.
أقدم شيئا منها إلى علمائنا الأفاضل في العالم الإسلامي-بدون تخصيص-الأسئلة الآتية:
السؤال الأول: هل يفهم من آية الأنفال الآتي نصها:
((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) [الأنفال: 60] أن إرهاب المسلمين لأعدائهم المتربصين بهم مشروع؟
السؤال الثاني: ما حكم هذه المشروعية؟(4/111)
السؤال الثالث: هل بذل المسلمون القادرون اليوم وسعهم في إيجاد وسائل القوة التي ترهب عدوهم؟
السؤال الرابع: هل يجوز أن يكون غير المسلمين هم الذين يُرهِبون المسلمين حكومات وشعوبا وجماعات وأحزابا وأفرادا، بما يملكون من وسائل الإرهاب كالسلاح النووي الذي يستأثرون به و يَحظرونه على غيرهم، فيبيحونه-مثلا- لليهود والهنود، ويحرمونه على الباكستانيين وغيرهم من المسلمين، فيبقى اليهود والنصارى مُرْهِبين، والمسلمون مرهبين.؟
السؤال الخامس: هل يعد إرهاب المسلم عدوه الكافر الذي اعتدى على دينه ووطنه وماله وعرضه ، إرهابا غير مشروع، يستحق أن تتفق دول العالم في بلاد المسلمين وغيرها على استئصاله ومضايقته حتى يستسلم لعدوه الكافر؟
السؤال السادس: هل يعد مسلمو كشمير الذين يعتصمون بمساجدهم احتجاجا على ظلمهم وانتهاك حرماتهم، و المجاهدون السيشان الذين دمرت بلادهم وأبيد سكانها من مدنيين وعسكريين، و المجاهدون الفليبينيون الذين وقعوا معاهدات متكررة مع الحكومة الفليبينية، ولم توف بعهودها منذ عشرين سنة هل يعد دفاع هؤلاء كلهم عن دينهم وأرضهم وعرضهم وحرماتهم إرهابا غير مشروع؟!
السؤال السابع: هل يجوز للمظلومين من المسلمين الذين لا يجدون ناصرا لهم على عدوهم الكافر أن يدافعوا عن دينهم وعرضهم ووطنهم وإخوانهم الذين يفتنهم عدوهم في السجون والمعتقلات، ويقتدوا في ذلك بما فعله الصحابي الجليل أبو بصير وإخوانه؟
السؤال الثامن: هل يجوز للمسلمين أن يرهبوا من احتل دار الإسلام من الكفار العسكريين والمدنيين الذين تدربوا على أنواع الأسلحة، ويعدون جيشا احتياطيا يجيب الدعوة للهجوم على المسلمين في دورهم أي لحظة؟
السؤال التاسع: هل يتفق معنى الحديث الصحيح (نصرت بالرعب) مع الآية الكريمة؟
الؤال العاشر: هل يعد دفاع الحكومة الأفغانية (حركة الطلبة) ضد أمريكا وما حشدت من الأحزاب، دفاعا مشروعا، أو هو إرهاب؟؟؟ (هذا السؤال جديد وضع لمناسبة الحرب اليهودية الصهيونية والصليبية الغربية المعاصرة)
السؤال العاشر: هل ما قاله العلماء القدامى أو المعاصرون-الذين ذكرتُ أقوال بعضهم فيما يأتي-في تفسير آية الأنفال السابقة كله صحيح أو توجد لدى علمائنا الأفاضل ملحوظات على بعضها؟
هذا وإنني أنبه-هنا -أنني أقصد من احتل الكفار بلادهم وسفكوا دماءهم وقتلوهم في مساجدهم وهدموا منازلهم وأخرجوهم من بلادهم، ولا أقصد ما يحدث من اغتيالات في بلدان المسلمين، فهذا له بحث آخر.
وحيث إن الله قد أخذ على العلماء الميثاق في بيان هداه والأمة الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى هذا البيان، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، فقد أحسست أن من واجبي التنبيه والاستفسار، ولست مقررا وإنما أنا سائل مستفيد، والله حسبنا ونعم الوكيل.
القسم الثاني من الأسئلة: ما قول علمائنا في أقوال العلماء الآتية في هذا الموضوع: (الإعداد لإرهاب الأعداء)؟
أقوال العلماء في الإرهاب وحكمه:
أبو عبد الله القرطبي: (أمر بإعداد القوة للأعداء....) ترهبون به عدو الله وعدوكم (يعني تخيفون به) عدو الله و (عدوكم من اليهود وقريش وكفار العرب). [الجامع لإحكام القرآن (8/ 35، 38].
أبو السعود الحنفي: (توجيه الخطاب-يعني وأعدوا- إلى كافة المؤمنين، لأن المأمور به من وظائف الكل...) ما استطعتم من قوة (من كل ما يُتَقَوَّى به في الحرب....) ترهبون به (أي تُخَوِّفون). [تفسير أبي السعود (2/ 504، 505]
أبوجعفر الطبري: (يقول تعالى ذكره: وقوله:) ترهبون به عدو الله وعدوكم (... تخزون به عدو الله وعدوكم، يقال منه: أرهبت العد ورهبته، فأنا أُرهِبه وأُرَهِّبُه إرهابا وترهيبا...) [جامع البيان عن تأويل القرآن (10/ 29-37] .
أبو محمد البغوي: (( ترهبون به (تخوفون) [معالم التنزيل )2/ 259 ].
السيد محمد رشيد رضا: (القاعدة الأولى الواجب إعداد الأمة كل ماتسنطيعه من قوة لقتال أعدائها، فيدخل في ذلك عَدَد المقاتِلَة، والواجب أن يستعد كل مكلف للقتال، لأنه قد يكون فرضا عينيا في بعض الأحوال..
(القاعدة الثالثة: أن يكون القصد الأول من إعداد هذه القُوَى والمرابطة إرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على بلاد الأمة أو مصالحها أو على أفراد منها أو متاع لها حتى في غير بلادها، لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها، مطمئنة على أهلها ومصالحها وأموالها، وهذا ما يسمى في عرف هذا العصر بالسلم المسلح وتدعيه الدول العسكرية فيه زورا وخداعا، ولكن الإسلام امتاز على الشرائع كلها بأن جعله دينا مفروضا، فقيَّد الأمر بإعداد القوى بقوله:) ترهبون به عدو الله وعدوكم (. [تفسير المنار (10/167-168].(4/112)
الفخر الرازي: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة....) اعلم أنه تعالى لما أوجب على رسوله أن يشرد من صدر منه نقض العهد، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النقض، أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار.... قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو... ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء، فقال:) ترهبون به عدو الله وعدوكم (وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات، خافوهم، وذلك الخوف يفيد أمورا:
أولها: أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام.
وثانيها: أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية.
وثالثها: أنه ربما صار ذلك داعيا لهم إلى الإيمان.
ورابعها: أنهم لايعينون سائر الكفار .
وخامسها: أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام.) [التفسير الكبير (15/ 185-195]ُ
ابن كثير:( وأعدوا لهم ما استطعتم ) أي مهما أمكنكم..
ترهبون (تخوفون) به عدو الله وعدوكم (أي من الكفار). [تفسير القرآن العظيم (2/ 355-356].
الجصاص: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل (أمر الله المؤمنين في هذه الآية بإعداد السلاح والكراع قبل وقت القتال، إرهابا للعدو) [أحكام القرآن (3/ 68).]
أبو بكر ابن العربي: () ترهبون به عدو الله وعدوكم (يعني تخيفون بذلك أعداء الله وأعداءكم من اليهود وقريش وكفار العرب..) [أحكام القرآن (2/ 875 ]
ابن عاشور: (والإعداد التهيئة ولإحضار، ودخل في) ما استطعتم من (كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة.. والإرهاب جعل الغير راهبا خائفا، فإن العدو إذا علم إذا علم استعداد عدوه لقتاله خافه ولم يجرأ عليه، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمنا من أن يغزوهم أعداؤهم، فيكون الغزو بأيديهم، يغزون الأعداء متى أرادوا، وكان الحال أوفق لهم، وأيضا إذا رَهِبوهم تجنبوا إعانة الأعداء عليهم.) تفسير التحرير والتنوير [6/55-57 ]
سيد قطب: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) إنه لابد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان.. وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها، فلا يُصَدوا عنها بعد اعتناقها.. والأمر الثاني: أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على دار الإسلام التي تحميها تلك القوة. والمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي وهو ينطلق لتحرير الإنسان كله في الأرض كلها. والأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية فتحكم الناس بشرائعها، ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده...) [في ظلال القرآن (10/1543]
وقد اكتفيت ببعض أقوال علماء التفسير في الآية، مع مراعاة أخذ ما يتعلق بالموضوع فقط، خشية التطويل.
ذو القعدة، 1416-25 March, 1996
نشر في مجلة المجتمع الكويتية، عدد: (1196)
28-من ذي القعدة 4 من ذي الحجة 1416هـ
-16-إبريل 1996م 22
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
===============
حكم زواج المسلم بالكتابية
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مصل له، ومن يضلله فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران 107]
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) [النساء 1]
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أموالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) [الأحزاب 70، 71]
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الحياة الدنيا لعمارة الأرض، وفقا لشريعته واهتداء بنورها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وخلق هذا الإنسان فيها ليقوم بعمارتها ويستغل ما منحه الله من خيراتها، وما أودع الله فيها من كنوز، وما أكرمه به من بركات السماء، فكانت عمارتها تقتضي وجود هذا الإنسان إلى أن تقوم الساعة.
ولما كانت مشيئة الله تعالى قد اقتضت أن تكون الأعمار محدودة - بحيث لا يمر في الغالب مائة عام قبل انقضاء الجيل الذي يعيش فيها - فقد كان حفظ النسل واستمراره ضرورة من ضرورات الحياة.
وقد أودع الله في الحيوانات كلها دوافع التناسل، باجتماع ذكورها وإناثها، اجتماعا يثمر التوالد، ولولا ذلك لانقطع النسل الحيواني في فترة قصيرة جدا من عمر الحياة الدنيا، وإن كان الله قادرا على إيجاد ما شاء من المخلوقات الحيوانية، ليخلف كلُّ نوع مثيلَه بلا سبب، ولكنه جلت قدرته ربط الأسباب بالمسببات، وجعل المسبب مترتبا على سببه، والنتائج مترتبة على مقدماتها، وإن كانت كلها بمشيئته وإرادته.
الفرق بين تناسل الإنسان وسائر الحيوان(4/113)
وفرق سبحانه في كيفية التوالد بين الإنسان والحيوان، كما فرق بينهما بتكليف الإنسان القيام بعبادة الله وتطبيق شريعته، لما منحه من آلة صالحة لأن تكونَ مناطا لذلك التكليف، وهي العقل.
فترك الحيوانات تتوالد بما أودع الله فيها من غريزة - وإن اختلفت أجناسها في أساليب تلك الكيفية وإشباع تلك الغريزة - فكان لكل جنس طريقته في اتصال ذكره بأنثاه بحسب ما فطر عليه، دون تغيير، وكان ذلك كافيا في استمرار تناسل جميع أجناس الحيوانات، وقد يتصارع الذكور على أنثى واحدة، فإذا غلب عليها أحدها، اتجهت بقية الذكور إلى أنثى غيرها، لا فرق بين أن تكون الأنثى أما أو أختا أو غيرهما للذكور، فالمطلوب لهما جميعا قضاء شهوة مؤقتة فحسب، أما محافظتها على أولادها بعد ولادتها، فتلك فطرة أخرى فطرها الله عليها.
وأما الإنسان، فهو بخلاف ذلك، فقد كلفه الله تعالى تكليفات محددة، وقيده بنظام معين لحياته، يضبطه بشريعة شرعها له، ومن ذلك أسلوب توالده الذي هو ضرورة لحياته وبقائه، وأفضل لتناسله. [فصل الكاتب ما يتعلق بالضرورات الخمس - ومنها حفظ النسل - في كتابه:الإسلام وضرورات الحياة، وقد طبع مرتين _ نشر دار المجتمع في جدة]
والمقصد الشرعي الرئيس من تناسل الإنسان، أن يقوم بعمارة هذا الكون العمارة الصالحة النافعة، ويحفظها من الفساد، مَن يُسلِم نفسَه ووجهه في جميع تصرفاته لخالقه، يعبده وحده ولا يشرك به شيئا، ويطبق شريعته ويلتزم بها منهاجا لحياته كلها، ويُحَكِّم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شئون حياته، ويجاهد في سبيله لإعلاء رايته في الأرض، فلا يقر الشرك به في الأرض، ولا الفسق ينتشر فيها، ماكان قادرا على دفع ذلك وإزالته، وإذا لم يكن قادرا على ذلك في زمنٍ، عبد الله بما يقدر عليه من ذلك، وأعد العدة لمقارعة الباطل وأهله في زمن تال.
يعادي من عادى الله ورسوله وعباده المؤمنين ودينه الحق وشريعته السمحة، ويوالي الله ورسوله وعباده المؤمنين وشريعته الغراء، فتكون بذلك الأمة الإسلامية التي ترضي ربها بامتثال أمره واجتناب نهيه، تنفي الخبث من الأرض وتطرد عناصر الفساد من صفها، من أجل أن تحيى حياة سعيدة في الدنيا، وتنجو من سخطه وأليم عذابه في العقبى، وتنال من الله الثواب الجزيل في جنة الخلد التي يحل الله عليها رضوانه فلا يسخط عليها بعده أبدا.
تتعاون في حياتها على البر والتقوى، ويحرص كل فرد فيها على مجالسة عباد الله الصالحين، والبعد عن رفقاء السوء من الكفار والفاسقين، يتآمرون بالمعروف ويزينونه، ويتناهون عن المنكر ويقبحونه، مخالفة لغيرهم من أعداء الله الذين يتآمرون بالمنكر ويتناهون عن المعروف، كما قال تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } [التوبة 71]
وقال تعالى: { المنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون } [التوبة 67]
وبذلك تحقق هذه الأمة - بأفرادها وأسرها ودولها - الولاء والبراء المشروعين.
يوالي بعضهم بعضا، وإن تباعدت أنسابهم، ويعادون من عادى الله ورسوله وحارب دينه وعباده المؤمنين، ولو كان أقرب المقربين إليه، كما قال تعالى: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله الا إن حزب الله هم الغالبون } [المجادلة 22]
عناية الإسلام بالأسرة
ولما كانت الأسرة هي نواة الأمة وأساسها، فقد عُنِيَ الإسلام بها عناية فائقة، تحفظ كيانها، وتجعلها متماسكة متجانسة، قوية الإيمان محكمة البناء، محاطة بقواعد متينة من أحكام دينه وآدابه، وذلك لا يتأتى إلا بزوجين صالحين، يختار كل منهما الآخر على أساس من الدين والتقوى والخلق القويم، وبهما تبدأ الأسرة المسلمة الصالحة التي ترضي ربها، بأداء الحقوق والقيام بالواجبات، ومن ذلك التنشئة الصالحة على دين الله وطاعته.
الأسرة في أول البعثة النبوية:
عندما نزل القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، كان للناس الذين بعث فيهم عادات ومعاملات يتعاطونها فيما بينهم، وكان المسلمون مرتبطين بالمجتمع الجاهلي ارتباطا أسريا واجتماعيا واقتصاديا، وكان من الصعوبة بمكان أن يطلب منهم فك ذلك الارتباط جملة واحدة.(4/114)
والله تعالى يعلم ما جبلت عليه النفوس، من حب العوائد والتمسك بها والدفاع عنها، ويعلم تعالى أن التكليف بالأحكام الشرعية التي لم يألفها الناس، يحتاج إلى تدرج، وأن السبيل إلى قبولهم ذلك التكليف – سواء كان فعلا لم يألفوه، أو ترك فعل قد ألفوه – إنما يكون بغرس الإيمان الصادق القوي بالله في قلوبهم، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته، والإيمان باليوم الآخر، وبالتدرج في التشريع، فإذا ما ثبت ذلك في نفوسهم أذعنوا لأمر الله ونهيه وانقادوا، فأطاعوا الأمر، وتركوا النهي، طمعا في رضا الله تعالى.
ولهذا بدأ الإسلام بهذا الأساس، فنزل القرآن يدعو الناس إلى الإيمان بالغيب الذي يشمل الإيمان بالله تعالى وعبادته، والإيمان برسوله وطاعته، وعدم طاعة كل من خالفه، والإيمان بالوحي المنزل من عند الله الذي هو منهج حياة البشر، والإيمان باليوم الآخر الذي فيه البعث والعرض والجزاء والحساب والثواب والعقاب، ودخول الجنة أو النار.
واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى هذا الأساس، وترك كل ما يخالفه ثلاثة عشر عاما، ولم يكن يدعو إلى أحكام شرعية أخرى إلا القليل منها، مما يعتبر أصولا عامة للأحكام التفصيلية الكثيرة التي شُرِعت فيما بعد، ومن الآداب والأخلاق العامة التي اتفقت على حسنها الأمم، كالصدق والأمانة وصلة الأرحام.
لذلك كان الناس يتعاملون فيما بينهم بما ألفوا واعتادوا من عادات اجتماعية واقتصادية وغيرها.
ومن ذلك الزواج، فكان المسلم يتزوج الكافرة والمشركة، والكافر يتزوج المسلمة الطاهرة، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون لحم الميتة، ويتعاملون بالربا، ويتعاطون الميسر، وبقي كثير من تلك العادات والمعاملات على حالها، حتى هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.
وقد ذكر العلماء أن ذلك من حكمة الله تعالى في إنزاله القرآن منجما على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزله دفعة واحدة، كما قال تعالى: ((وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)) [الإسراء (106)]
[يراجع كتاب تاريخ التشريع، للشيخ مناع بن خليل القطان، رحمه الله، من صفحة 52إلى صفحة 57 الطبعة العاشرة]
وقد أشارت عائشة رضي الله عنها إلى هذه الحكمة، فقالت: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لجارية ألعب: ((بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر)) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده" [البخاري ، رقم 4707]
وهنا في المدينة النبوية، صار للمسلمين أرض يعيشون عليها أعزة، جمع الله فيها كتيبتي الإسلام من المهاجرين و الأنصار، فأصبحوا قوة تتولى شئون الدولة الإسلامية الناشئة، ينفذون أمر الله.
وبدأ القرآن الكريم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بالأحكام الشرعية في تدرج إلى أن أكمل الله دينه الذي ارتضاه لنا.
تحريم زواج المسلم بالكافرة وتحريم زواج الكافر بالمسلمة
ومن تلكم الأحكام التي نزلت، تحريم التناكح بين الملمين والمشركين، فلا يجوز لمسلم أن ينكح مشركة ابتداء، ولا أن يمسكها في عصمته استدامة، كما لا يجوز لمسلمة أن تتزوج كافرا كذلك. قال تعالى: { ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } [الممتحنة: 10]
قال القرطبي رحمه الله: "والمراد بالعصمة هنا النكاح، يقول: من كانت له امرأة فقد انقطعت عصمتها … وكان الكفار يتزوجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك في هذه الآية" [الجامع لأحكام القرآن (18/65)] وكان هذا بعد صلح الحديبية [نفس المرجع (18/61)]
وقال تعالى: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تُنكِحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } [البقرة 221]
وفي هذا التحريم تحقيق لأمرين:
الأمر الأول: المفاصلة بين عباد الله المؤمنين وأعدائهم الكافرين في تكوين نواة الأمة وهي الأسرة، لأن النواة الفاسدة تثمر نباتا فاسدا.
الأمر الثاني: تأكيد الولاء بين المسلمين وتقويته في أساس الأمة، وهي الأسرة.
وقد تواترت نصوص الكتاب والسنة والتطبيق العملي الذي سار عليه السلف الصالح، من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته على هذين الأمرين.(4/115)
وقد اتفق العلماء على تحريم زواج المسلمين من غير أهل الكتاب – وهن اليهوديات والنصرانيات – وفي المجوسيات والصابئيات خلاف، وحديث (سنوا بهم [أي المجوس] سنة أهل الكتاب) ضعفه العلماء، ومع ضعفه حملوه على أخذ الجزية منهم، لا على نحاح نسائهم. يراجع نصب الراية (3/170)]
قال ابن قدامة رحمه الله: "وسائر الكفار غير أهل الكتاب، كمن عبد ما استحسن من الأصنام والأحجار والشجر والحيوان، فلا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم، وذلك لما ذكرنا من الآيتين [يعني آية الممتحنة وآية البقرة السابقتين] وعدم المعارض لهما.
والمرتدة يحرم نكاحها على أي دين كانت، لأنه لم يثبت لها حكم أهل الدين الذي انتقلت إليه في إقرارها عليه، ففي حلها أولى. " [المغني (7/121)].
وإذا خرجت الكتابية عن دينها إلى عبادة الأوثان، صار حكمها حكم الوثنية، لا يجوز نكاحها للمسلم، وإن ادعت أنها من أهل الكتاب، وكذلك إذا ألحدت، فأنكرت الدين مطلقا، كما هو حال الشيوعيين في هذا العصر.
قال الخرقي رحمه الله: "وإذا تزوج كتابية، فانتقلت إلى دين آخر من الكفر غير دين أهل الكتاب، أجبرت على الإسلام، فإن لم تسلم حتى انقضت عدتها انفسخ نكاحها" [نفس المرجع (7/122)]
وإذا لم يجز استدامة نكاحها، فابتداؤه أولى بعدم الجواز.
وينبغي أن يعلم أن المسلمة لا يجوز –ولا يصح- أن ينكحها كافر مطلقا، سواء كان كتابيا أو غير كتابي، وعلى ذلك إجماع العلماء في قديم الزمان وحديثه، وبهذا يعلم شناعة ما نقل من فتوى عن بعض من يدعي الاجتهاد في هذا العصر، من جواز بقاء امرأة مسلمة تزوجت جهلا بنصراني، بدعوى أن الضرورة اقتضت تلك الفتوى !!!
لكن إذا أسلمت الزوجة، وبقي الزوج على دينه، ثم دخل في الإسلام قبل انتهاء عدتها، فهما على نكاحهما الأول، على الصحيح، وقيل يفسخ نكاحهما بمجرد إسلامه. [راجع المغني لابن قدامة (7/118)]
حكم الزواج بالكتابية.
أما زواج المسلم بالمرأة الكتابية – وهي اليهودية والنصرانية فقط، على الصحيح من أقوال العلماء، فالكلام فيه ينحصر في الفصول الثلاثة الآتية:
[وقد رأى بعض العلماء، ومنهم ابن حزم رحمه الله، كما في المحلى (9/445) بأن حكم المجوسية حكم الكتابية، وهو رأي الإمام الشوكاني رحمه الله، كما في السيل الجرار (2/252-254). و راجع المغني لابن قدامة رحمه الله (7/130-131)]
الفصل الأول:
حكم
الزواج بالكتابية في دار الإسلام.
تمهيد:
ورد النهي صريحا في نكاح المشركات وعدم حلهن للمسلمين، في آية البقرة: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ، وآية الممتحنة { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وظاهر النهي العموم في كل كافرة ومشركة.
وورد الإذن بحل طعام أهل الكتاب ونسائهم للمسلمين، على وجه الخصوص في قوله تعالى: { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } [المائدة: 5]
وعندما نزلت هذه الآيات الحاظرة أو المبيحة، كانت الأرض تنقسم قسمين:
القسم الأول: دار الإسلام التي ترتفع فيها راية الإسلام، ويقام بها هذا الدين، وتنفذ فيها أحكام الشيعة.
القسم الثاني: دار الحرب التي بينها وبين المسلمين حرب لا يوقفها إلا دخول أهلها في الإسلام، أو خضوعهم لنظامه العام ودفع الجزية، مع بقائهم على دينهم، فيكونون بذلك أهل ذمة تدخل أرضهم في دار الإسلام.
ولم يكن المسلمون يسكنون في دار الحرب، لأن الله تعالى أمرهم بالهجرة منها إلى دار الإسلام، ونهاهم عن المقام بين ظهراني المشركين، لا فرق بين أهل مكة – قبل فتحها – وغيرها، والأصل أن الهجرة من بلاد الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة.
والمقصود من ذكر هذا التمهيد هنا، أن يعلم أن كلام علماء المسلمين في جواز نكاح الكتابية أو عدم جوازه، إذا أطلق يراد به نكاحها في دار الإسلام، أما دار الحرب، فإنهم يصرحون بذكر حكم الزواج فيها، ولم يكن يدخلها من المسلمين إلا الأسير، أو التاجر، أو الرسول، كما سيأتي الكلام على ذلك.
مذاهب العلم في زواج المسلم بالكتابية في دار الإسلام:
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الإسلام:
المذهب الأول: مذهب الجمهور.
ومنهم الأئمة الأربعة: وهو جواز نكاح الكتابية في أرض الإسلام، مع الكراهة.
قال السرخسي رحمه الله: "ولا بأس أن يتزوج المسلم الحرة، من أهل الكتاب لقوله تعالى: { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } [المائدة 5 المبسوط (4/210)].
[لم أتغرض لحكم الأمة الكتابية، لانقراض ذلك في هذا العصر، بخلاف الحرائر]
وقال علاء الدين الكاساني رحمه الله: "ويجوز أن ينكح الكتابية لقوله عز وجل: { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } " [بدائع الصنائع (3/1414)].
وقال في تنوير الأبصار: "وصح نكاح كتابية" وقال شارحه في الدر المختار: "وإن كره تنزيها" [حاشية رد المحتار (3/45)].(4/116)
وقال في الشرح الصغير على الدردير: "وحرمت الكافرة" أي وطؤها، حرة أو أمة بنكاح أو ملك" إلا الحرة الكتابية "فيحل نكاحها"بِكُرْهٍ"عند الإمام".
وقال محققه: "وإنما حكم مالك بالكراهة في بلد الإسلام، لأنها تتغذى بالخمر والخنزير وتغذي ولدها به، وزوجها يقبلها ويضاجعها، وليس له منعها من التغذي ولو تضرر برائحته، ولا من الذهاب إلى الكنيسة، وقد تموت وهي حامل، فتدفن في مقبرة الكفار، وهي حفرة من حفر النار " [الشرح الصغير (2/420) بتحقيق الدكتور كمال وصفي]
وقال النووي رحمه الله: "ويحرم نكاح من لا كتاب لها … وتحل كتابية، لكن تكره حربية، وكذا ذمية على الصحيح". وقال المحشي: [وكذا] " تكره ذمية على الصحيح" [لما مر من خوف الفتنة] [المنهاج (3/187) وراجع روضة الطالبين (7/135-137)]
وقال الخرقي رحمه الله: "وحرائر نساء أهل الكتاب وذبائحهم حلال للمسلمين" وقال ابن قدامة رحمه الله – بعد أن ذكر أقوال العلماء وناقشها: "إذا ثبت هذا فالأولى أن لا يتزوج كتابية" [المغني (7/129)]
وقد استدل الجمهور لما ذهبوا إليه من الجواز بالكتاب والأثر والمعقول:
أما الكتاب، فقوله تعالى: { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } كما مضى، ورأوا أن هذه الآية – وهي آية المائدة – إما مخصصة لعموم قوله تعالى في سورة البقرة { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ، وإما ناسخة لها، لأن نزول سورة المائدة متأخر عن نزول سورة البقرة، وإما أن لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتاب. [راجع في هذا المغني لابن قدامة (7/129) والسيل الجرار (2/252) ومجموع الفتاوى لابن تيمية (22/178) وجامع البيان عن تأويل القرآن لابن جرير (2/326) والجامع لأحكام القرآن (3/69)]
وأما الأثر فما ورد في نكاح الصحابة الكتابيات من اليهوديات والنصرانيات، منهم طلحة بن عبيد الله، وحذيفة بن اليمان، وعثمان بن عفان، رضي الله عنهم. [جامع البيان عن تأويل القرآن (2/332-376) وأحكام القرآن للجصاص (1/332/336)]
وأما المعقول، فإن الكتابية – وقد آمنت -في الجملة- بالله وبعض كتبه واليوم الآخر - وبعض الرسل – قد تميل إلى الإسلام إذا عرفت حقيقته، فرجاء إسلامها أقرب من رجاء إسلام الوثنية، كما قال الكاساني: "إلا أنه يجوز نكاح الكتابية لرجاء إسلامها، لأنها آمنت بكتب الأنبياء والرسل في الجملة، وإنما نقضت الجملة بالتفصيل، بناء على أنها أخبرت عن الأمر على خلاف حقيقته. فالظاهر أنها متى نبهت على حقيقة الأمر تنبهت، وتأتي بالإيمان على التفصيل، على حسب ما كانت أتت به في الجملة، وهذا هو الظاهر من حال التي بُنِيَ أمرها على الدليل دون الهوى والطبع، والزوج يدعوها إلى الإسلام وينبهها على حقيقة الأمر، فكان في نكاح المسلم إياها رجاء إسلامها، فيجوز نكاحها لهذه العاقبة الحميدة، بخلاف المشركة، فإنها في اختيارها الشرك، ما ثبت أمرها على الحجة، بل على التقليد بوجود الآباء على ذلك …" [بدائع الصنائع (3/1414)]
وقال في حاشية المنهاج للنووي: "وقد يقال باستحباب نكاحها، إذا رجي إسلامها، وقد روي أن عثمان رضي الله عنه، تزوج نصرانية فأسلمت وحسن إسلامها، وقد ذكر القفال أن الحكمة في إباحة الكتابية ما يرجى من ميلها إلى دين زوجها، إذ الغالب على النساء الميل إلى أزواجهن وإيثارهم على الآباء والأمهات، ولهذا حرمت المسلمة على المشرك " [المنهاج مع الحاشية (3/187)]
المذهب الثاني: تحريم الزواج بالكتابية على المسلم في دار الإسلام.
واشتهر هذا المذهب عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال السرخسي رحمه الله: "ولا بأس أن يتزوج المسلم الحرة من أهل الكتاب، لقوله تعالى: { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } الآية. وكان ابن عمر لا يُجَوِّز ذلك، ويقول: الكتابية مشركة". [المبسوط (4/210)]
وقال ابن حزم رحمه الله: "وروينا عن ابن عمر تحريم نساء أهل الكتاب جملة، – ثم ساق بسنده عن نافع – أن ابن عمر سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية؟ فقال: إن الله تعالى حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئا أكثر من أن تقول المرأة: ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله عز وجل" [المحلى (9/445)]
ونقل ابن جرير رحمه الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ما يدل على عدم صحة نكاح المسلم الكتابية، فقال: "وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر غضبا شديدا، حتى هم بأن يسطوَ عليهما، فقالا: نحن نُطَلِّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صغرة قماء "! [يعني صغارا وذلة]
ثم رد ابن جرير رحمه الله ما نقل عن عمر من التفريق بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما بالإجماع على خلافه، وذكر أنه قد نقل عن عمر خلاف ذلك بإسناد أصح [جامع البيان (2/376)](4/117)
كما ذكر ابن جرير رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، يفهم منها أنه يقول بالتحريم، فقال: "بل أنزلت هذه الآية – يعني آية البقرة – مرادا بها كل مشركة، من أي أصناف الشرك كانت، غير مخصوص منها مشركة دون مشركة، وثنية كانت أو مجوسية أو كتابية، ولا نسخ منها شيء. – ثم ذكر بسنده عن ابن عباس – يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرم كل ذات دين غير الإسلام، و قال الله تعالى: { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } [نفس المرجع]
ومن الذين حرموا نكاح الكتابية الإمامية، كما نص على ذلك في متن الأزهار، فذكر من المحرمات في النكاح "المخالفة في الملة" وقد أطال الشوكاني رحمه الله في الرد عليهم بمخالفة كتاب الله في ذلك. [راجع السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (2/252-254) وستأتي أدلة هذا المذهب ومناقشتها في الحلقة الآتية]
أدلة القائلين بتحريم زواج المسلم الكتابية:
استدل القائلون بهذا المذهب بأدلة:
الدليل الأول: من القرآن الكريم.
وفيه آيتان صريحتان في النهي عن زواج المسلم المشركات، والكتابيات مشركات، والنهي عن إمساك المسلمين نساءهم الكوافر، وقد كان هذا مسكوتا عنه في أول الإسلام.
الآية الأولى: آية البقرة، وهي قوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } [البقرة 221]
وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى نهى عن نكاح كل امرأة مشركة، وجعل غاية النهي عن ذلك إيمانهن، والإيمان إذا أطلق في القرآن والسنة هو الإيمان الشرعي الذي نزل به القرآن والسنة، فكل مشركة داخلة في هذا العموم، والكتابيات مشركات، بدليل وصف الله تعالى أهل الكتاب بالشرك، كما في قوله تعالى: { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا سبحانه وتعالى عما يشركون } [التوبة: 30، 31 وراجع كتاب أضواء البيان (1/204-205) لشيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله]
فقد وصف اليهود والنصارى بأنهم يشركون به تعالى. وعلى هذا القول تعتبر آية البقرة ناسخة لآية المائدة – على عكس ما ذهب إليه أهل المذهب الأول.
وقد ذكر ابن حيان قولا لابن عباس: "أن آية البقرة هذه عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير دين الإسلام، ونكاحهن حرام، والآية محكمة على هذا ناسخة لآية المائدة، و آية المائدة متقدمة في النزول على هذه الآية في سورة البقرة، وإن كانت متأخرة في التلاوة، ويؤيدها قول ابن عمر في الموطأ: ولا أعلم شركا أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى …. " [التفسير الكبير (2/164) وراجع فتح الباري (9/416-417)]
ومعنى هذا أن سورة المائدة، وإن كانت من أخر سور القرآن نزولا، فلا يمنع ذلك من أن تكون بعض آياتها متقدمة على بعض آيات سور نزلت قبلها، ومنها سورة البقرة، إلا أنه يشكل على ذلك عمل عامة الصحابة والتابعين بعدهم بحكم آية المائدة، إذ لو كانت منسوخة لكان عمل عامة المسلمين على خلافها، وهذا بعيد.
ولهذا قال ابن حيان – بعد ذكره ما تقدم: "ويجوز نكاح الكتابيات، قاله جمهور الصحابة والتابعين: عمر وعثمان وجابر وطلحة وحذيفة، وعطاء وابن المسيب والحسن وطاووس وابن جبير والزهري، وبه قال الشافعي، وعامة أهل المدينة والكوفة. قيل أجمع علماء الأمصار على جواز تزويج الكتابيات، غير أن مالكا وابن حنبل كرها ذلك مع وجود المسلمات والقدرة على نكاحهن …"
وأجيب عن دعوى نسخ الآية بآية البقرة بأمرين:
الجواب الأول: عدم وجود دليل على تأخر آية البقرة على آية المائدة، ودعوى نسخ آية البقرة بأية المائدة أولى، لأن سورة المائدة متأخرة عن سورة البقرة باتفاق بين العلماء [راجع مجموع الفتاوى (32/178) وما بعدها، لابن تيمية رحمه الله]
وعلى فرض عدم تأخر آية المائدة على آية البقرة، فإن الأولى المصير إلى الأمر الثاني الآتي.
الأمر الثاني: أن الجمع بين النصين – إذا أمكن - أولى من إعمال أحدهما وإهمال الأخر، والجمع هنا ممكن، وهو ما ذهب إليه الجمهور من اعتبار آية البقرة عامة تشمل جميع المشركات، بما فيهن الكتابيات، وآية المائدة خاصة استثنت الكتابيات من النهي فبقين على الجواز.
الآية الثانية، وهي قوله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [الممتحنة 10] لفظها عام يتناول كل كافرة، فلا تحل كافرة بوجه من الوجوه، ولا عبرة بخصوص سبب نزولها في نساء المسلمين من مشركات مكة، بل العبرة بعموم لفظها.
وأجيب عنها بما أجيب به عن سورة البقرة، بأن الكتابيات مستثنيات بأية المائدة، ودل على ذلك عمل الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتابعين. [راجع الجامع لأحكام القرآن (18/65) للإمام القرطبي رحمه الله]
الدليل الثاني على تحريم الزواج بالكتابية:(4/118)
ما ورد من الآثارعن بعض الصحابة رضي الله عنهم من النهي عن زواج المسلم بالكتابيات، كما مضى عن عمر وابنه عبد الله وابن عباس، رضي الله عنهم. فقد نهى عمر رضي الله عنه طلحة وحذيفة عن إمساك امرأتيهما الكتابيتين، وغضب غضبا شديدا عليهما بسبب ذلك الزواج، وهم أن يسطو عليهما، وعندما قالا له: نحن نطلق ولا تغضب، قال لهما: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صغرة قماء، وهذا يدل على أن نكاح الكتابيات باطل من أصله عند عمر.
ونقل ابن جرير عن ابن عباس ما يدل على تحريم نكاح الكتابيات، كغيرهن من الوثنيات.
وأما ابن عمر فقد صرح بأنه لا يعلم شركا أعظم من قول النصرانية: ربها عيسى وهو عبد الله. فهذه الآثار واضحة في دلالتها على التحريم.
وأجاب الجمهور عن هذا الدليل، فقالوا: إن عمر رضي الله عنه، إنما كره زواج المسلم بالكتابية، ولم يحرمه، وقد صرح بعدم التحريم عندما أمر حذيفة أن يفارق امرأته اليهودية، فكتب إليه حذيفة: أحرام هي؟ فكتب إليه عمر: لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهن. [أحكام القرآن (1/333) للجصاص]
وذكر ابن جرير رحمه الله عن ابن عباس رواية أخرى، تدل على أنه يرى جواز نكاح المسلم الكتابية، فقد روى بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن: } ثم استثنى أهل الكتاب فقال: { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } حل لكم { إذا آتيتموهم أجورهن } .
وذكر ابن جرير كذلك عن عمر رضي الله عنه القول بالجواز، فروى بسنده عن زيد ابن وهب، قال: قال عمر: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة. ثم قال – ابن جرير: وإنما كره لطلحة وحذيفة - رحمة الله عليهم – نكاح اليهودية والنصرانية، حذرا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، فأمرهما بتخليتهما.
ثم روى – ابن جرير – بسنده عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه خل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. [جامع البيان عن تأويل آي القرآن (2/376-378)]
فهذه الروايات تدل على أن غاية ما قصده عمر وابن عباس، هي الكراهة، ولم يريدا التحريم، وبذلك يُجمَع بين الروايات عنهما.
وأما ابن عمر، فقد روي عنه الكراهة، كما روى عنه نافع أن كان لا يرى بأسا بطعام أهل الكتاب، وكره نكاح نسائهم، ولما سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية، قال: إن الله حرم المشركات على المسلمين قال: فلا أعلم من الشرك شيئا أكبر – أو قال -: أعظم من أن تقول ربها عيسى وهو عبد ممن عباد الله.
قال الجصاص: رحمه الله – بعد أن ساق الروايتين -: فكرهه في الحديث الأول ولم يذكر التحريم، وتلا في الحديث الثاني الآية ولم يقطع فيها بشيء، وإنما أخبر أن مذهب النصارى شرك، ثم ذَكَر عنه رواية أخرى استنبط منها أن ابن عمر رضي الله عنهما كان متوقفا في الحكم، فروى بسنده عن ميمون بن مهران قال: قلت لابن عمر: إنا بارض قوم يخالطنا فيها أهل الكتاب، فننكح نساءهم ونأكل طعامهم، قال: فقرأ عليَّ آية التحليل و آية التحريم. قال: قلت: إني أقرأ ما تقرأ، فننكح نساءهم ونأكل طعامهم، فأعاد عليَّ آية التحليل وآية التحريم. ثم قال الجصاص: قال أبو بكر: عُدُولُه بالجواب بالإباحة والحظر إلى تلاوة الآية دليل على أنه كان واقفا في الحكم، غير قاطع فيه بشيء.
وما ذكره عنه من الكراهة يدل على أنه ليس على وجه التحريم، كما يكره تزويج نساء أهل الحرب من الكتابيات. [أحكام القرآن (1/332-333)]
تلك هي الآثار التي استدل بها القائلون بالتحريم، وهذه أجوبة من رأى الإباحة.
وبهذا يعلم أنه لم يوجد دليل يقوى على معارضة آية المائدة الدالة على الإباحة.
تنبيه:
حَمْلُ النحاسِ كلامَ ابنِ عمرَ على الكراهة التنزيهية، أو على التوقف، خلاف ظاهر كلامه، ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقال أبو عبيد: المسلمون اليوم على الرخصة، وروي عن عمر أنه كان يأمر بالتنزه عنهن من غير أن يحرمهن، وزعم ابن المرابط تبعا للنحاس وغيره، أن هذا مراد ابن عمر أيضا، لكنه خلاف ظاهر السياق، ولكن الذي احتج به ابن عمر يقتضي تخصيص المنع بمن يشرك من أهل الكتاب، لا من يوحد، وله أن يحمل آية الحل على من لم يبدل دينه منهم " [فتح الباري (9/416-417)]
هذا وقد يستدل مستدل على تحريم زواج المسلم بالكتابية، بالنصوص الدالة على وجوب معاداة المسلمين للكفار وعدم موالاتهم، وبخاصة ما ورد في معاداة أهل الكتاب، كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة: 51]
والموالاة تشمل المحبة والنصرة، والزوج لا بد أن يحب امرأته، وقد يميل إلى بعض ما تهوى مما لا يقره الإسلام، ولكن الاستدلال بهذا بعيد لأمور:(4/119)
الأمر الأول: أن الله تعالى الذي نهى المسلمين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، هو الذي أحل نساء أهل الكتاب للمسلمين، وهو يعلم تعالى ما يترتب على ذلك، والمؤمن مأمور أن يتقي الله ما استطاع.
الأمر الثاني: أن محبة الزوج لامرأته، هي من نوع المحبة الطبيعية التي لا تدخل في المحبة المنهي عنها، وهي المحبة الدينية أي أن يحبها لدينها وأخلاقها وعاداتها التي تخالف سريعة الإسلام، فلا يضره أن يحب امرأته المحبة الطبيعية.
وحكم امرأته الكتابية التي أحلها الله له، كحكم أمه وأبيه وأقاربه المشركين، الذين قال الله تعالى في شأنهم: { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } [الممتحنة 7-9] والبر هو الصلة الدنيوية.
الأمر الثالث: أن الأصل في المسلم الذي يتزوج الكتابية، أن يجتهد في دعوتها إلى الإسلام، لأن من أهم أهداف حلها له، أن يرغبها في الإسلام لتدخل فيه ن كما قال علاء الدين الكاساني "فكان في نكاحه إياها رجاء إسلامها، فيجوز نكاحها لهذه العاقبة الحميدة، بخلاف المشركة.. " [بدائع الصنائع (3/1414) وراجع حاشية منهاج النووي (3/187)]
والخلاصة: أن زواج المسلم بالكتابية التي لم تخرج عن دينها إلى الوثنية أو الإلحاد، جائز مع الكراهة، إذا تزوجها في دار الإسلام – وهي الذمية –
وبهذا يعلم أن الراجح هو مذهب الجمهور لما مضى من الأدلة.
وسبب القول بالكراهة خشية تأثير الكتابية على زوجها المسلم وأسرته وأولاده، بمعتقدها أو عاداتها وأخلاقها التي تخالف الإسلام.
والله أعلم.
الفصل الثاني:
حكم زواج المسلم
بالكتابية في دار الحرب
تمهيد
الآية التي دلت على جواز زواج المسلم بالكتابية، لم تفرق بين أن يتزوجها في دار الإسلام أو في دار الحرب.
ولكن دار الحرب تختلف عن دار الإسلام، بأن السيطرة في دار الإسلام للمسلمين الذين هم أهل الحل والعقد، يحكمون بشريعة الله التي أنزلها في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتظهر فيها شعائر الإسلام، واحتمال ميل الزوجة إلى دين زوجها المسلم وارد، كما أن احترامها لآداب الإسلام، وعدم مجاهرتها بما يخالفها أقرب، إرضاءً لزوجها الذي يغيظه مخالفة دينه في الأخلاق وارتكاب المحرمات، وإن تساهل فيه مراعاة لمعتقدها الذي تزوجها مع علمه به.
وهذا بخلاف دار الحرب التي تكون الهيمنة والسيطرة فيها للكفار الذين هم أهل الحل والعقد، والحكم فيها إنما يكون بقوانينهم التي تخالف الإسلام، كما أن الشعائر الظاهرة فيها هي شعائر الكفر، وليست شعائر الإسلام، والأخلاق السائدة فيها هي أخلاق الكفار.
ولهذا تكون الزوجة الكتابية في بلاد الحرب، أكثر تمسكا بدينها وأخلاقها وعاداتها، وأقل ميلا إلى دين زوجها وأخلاقه … بل إنه ليخشى على زوجها المسلم أن يتأثر بمحيط الكفر الذي يعيش فيه، ويخشى أكثر على ذريته من التدين بدين أمهم التي تربيهم عليه.
ولهذا اختلف العلماء الذين أجازوا زواج المسلم بالكتابية في دار الإسلام، في زواجه بها في دار الحرب.
فقد ذكر القرطبي رحمه الله: أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا؟ فقال: " لا يحل – وتلا قوله تعالى: { وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله تعالى { وهم صاغرون } " [التوبة 29] قال المتحدث: حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه – يعني أن إبراهيم يقول بالتحريم – وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير. اهـ [ الجامع لأحكام القرآن 3/69 ]
فمذهب ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي، تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، ويحتمل أن تكون كراهة الإمام مالك رحمه الله لذلك، كراهة تحريم.
وسبب التحريم أن المسلم مأمور بقتال الكفار المحاربين، وفي زواجه بالحربية في دار الحرب ركون إلى تلك الدار، وداع إلى سكناه بها وبقائه فيها، وذلك يعود إلى معنى قتاله مع إخوانه المسلمين بالنقض، بل إن في بقائه في دار الحرب مع ذريته، تكثير لسواد الكفار المحاربين على المسلمين.
كما أن امرأته الحربية قد تنشئ أولاده وتربيهم على النصرانية وبغض المسلمين، وغير ذلك من المفاسد المترتبة على زواجه بالحربية في دار الحرب.
أقوال العلماء في حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب.
وقد صرحت كتب المذاهب الفقهية بكراهة الزواج بالكتابية في دار الجرب، إلا أن بعضهم يفسرون الكراهة بكراهة التحريم، وبعضهم يفسرونها بكراهة التنزيه.(4/120)
قال السرخسي رحمه الله: "بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن سئل عن مناكحة أهل الحرب من أهل الكتاب؟ فكره ذلك، وبه نأخذ، فنقول: يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية في دار الحرب، ولكنه يكره، لأنه إذا تزوجها ثمة، ربما يختار المقام فيهم وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم مع مشرك، لا تراءى ناراهما [رواه أبو داود (3/ 105) ولفظه: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) قالوا: يا رسول الله لِمَ؟ قال: (لا تراءى ناراهما)] ولأن فيه تعريضَ ولده للرق، فربما تحبل فتسبى، فيصير ما في بطنها رقيقا، وإن كان مسلما، وإذا ولدت تخلق الولد بأخلاق الكفار، وفيه بعض الفتنة، فيكره لهذا. " [المبسوط (5/50) وراجع مجمع الأنهر في شرح مرتقى الأبحر (1/328) وكتاب السير الكبير (5/1838) للإمام محمد بن حسن الشيباني]
ورجح الفقيه الحنفي محمد أمين المشهور بابن عابدين رحمه الله أن الكراهة هنا كراهة تحريمية، وليست كراهة تنزيه، فقال: "وفيه أن إطلاقهم الكراهة في الحربية يفيد أنها تحريمية، والدليل عند المجتهد على أن التعليل يفيد ذلك، ففي الفتح: ويجوز تزوج الكتابيات، والأولى أن لا يفعل … وتكره الكتابية الحربية إجماعا، لافتتاح باب الفتنة، من إمكان التعليق المستدعي للمقام معها في دار الحرب، وتعريض الولد على التخلق بأخلاق أهل الكفر، وعلى الرق، بأن تسبى وهي حبلى، فيولد رقيقا، وإن كان مسلما اهـ. [حاشية رد المحتار على الدر المختار (3/45) وصرح الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته (7/145) أن الحنفية يحرمون الزواج بالحربية في دار الحرب]
فقوله: "والأولى ألا يفعل" يفيد كراهة التنزيه في غير الحربية، وما بعده يفيد كراهة التحريم في الزواج بالحربية في دار الحرب.
وقال في الشرح الصغير – في المذهب المالكي – " وتأكد الكره – أي الكراهة – إن تزوجها بدار الحرب، لأن لها قوة بها لم تكن بدار الإسلام، فربما ربت ولده على دينها، ولم تبال باطلاع أبيه على ذلك … [الشرح الصغير (2/420)]
وقال النووي رحمه الله: "وتحل كتابية، ولكن تكره حربية، وكذا ذمية على الصحيح" وقال في الحاشية: "لكن الحربية أشد كراهة منها" [المنهاج مع حاشيته (2/187)]
وقال الخرقي رحمه الله: "ولا يتزوج في أرض العدو، إلا أن تغلب عليه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها، ولا يتزوج منهم، ومن اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج، وهو في أرضهم" وقال ابن قدامة – معلقا على ذلك: " يعني والله أعلم من دخل أرض العدو بأمان، فأما إن كان في جيش المسلمين فمباح له أن يتزوج، وقد روي عن سعيد بن أبي هلال أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوج أبا بكر أسماء بنت عميس وهم تحت الرايات. أخرجه سعيد، لأن الكفار لا يَدَ لهم عليه، فأشبه من في دار الإسلام.
أما الأسير فظاهر كلام أحمد أنه لا يحل له التزوج ما دام أسيرا، لأنه منعه من وطء امرأته إذا أسرت معه، مع صحة نكاحهما، وهذا قول الزهري، فإنه قال: لا يحل للأسير أن يتزوج ما دام في أرض المشركين " [المغني (9/292-293)]
وقال ابن القيم رحمه الله: "وإنما الذي نص عليه أحمد، ما رواه ابنه عبد الله، قال: كره أن يتزوج الرجل في دار الحرب، أو يتسرى، من أجل ولده، وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: لا يتزوج ولا يتسرى الأسير، ولا يتسرى بمسلمة، إلا أن يخاف على نفسه، فإذا خاف على نفسه لا يطلب الولد …" [أحكام أهل الذمة (2/420)]
وبهذا يظهر أن مذهب الإمام أحمد، أكثر صراحة في تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، بل لا يبيح له وطء أمته المسلمة أو امرأته في دار الحرب إلا للضرورة، مع توقي إنجاب الولد. ويلي مذهب الإمام أحمد في الصراحة بالتجريم المذهب الحنفي.
أسباب تحريم العلماء زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب.
والذي دعا العلماء إلى القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب أو كراهته، يتلخص في ثلاثة أمور رئيسة:
الأمر الأول: الخوف على ذرية المسلم المولودين في دار الحرب.
من أن يربوا على غير دين أبيهم، فيكون بذلك قد غرس لأعداء الإسلام غرسا يكثر به سوادهم، ويخسر بذلك المسلمون الذين هم أولى بتكثير سوادهم، وقد علم أن حفظ النسل ضرورة من ضرورات الحياة التي يجب حفظها وحمايتها.
والمقصد الأساسي من حفظ النسل البشري في الأرض، أن يكون النسل محققا لعبادة الله، لأن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى " { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات 56 ]
وبعبادة الله تعالى يُعْمَر الكونُ عمارة ترضيه، وتحقق للبشرية السعادة في الدنيا والآخرة، والمسلم الذي يلقي نطفته في رحم يعلم أو يغلب على ظنه، أن ذريته المتناسلة من ذلك الرحم سيكونون في عداد الكفار الذين يصدون عن دين الله، يكون قد أضاع نسله، ولم يحفظه الحفظ الذي يترتب عليه المقصد الأساسي منه.(4/121)
ولهذا نص بعض العلماء على أن المسلم لا يتزوج في دار الحرب وإن خاف على نفسه. وبعضهم أجاز له أن يتزوج بمسلمة ويعزل عنها ز وبعضهم أجاز له التزوج بالحربية ولا يقصد الولد، ولا يطأ جاريته في فرجها. كل ذلك من أجل الخوف على ولده من الكفر.
الأمر الثاني: الخوف من اختيار المسلم المقام بين ظهراني الكفار الحربيين، لما في ذلك من المفاسد:
مفاسد الزواج بالكتابية في دار الحرب
المفسدة الأولى: مخالفة الأمر بالهجرة إلى بلاد الإسلام.
وفي ذلك تعريض المسلم نفسه لعذاب الله وسخطه، وإذلال نفسه لعدوه، كما قال تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا }
قال القرطبي رحمه الله: "المراد بها جماعة من أهل مكة، كانوا قد أسلموا، وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار، فنزلت الآية …" [الجامع لأحكام القرآن (5/345)]
فالمسلم الذي يقيم في بلاد الحرب وهو قادر على الهجرة إلى بلاد الإسلام معرض لسخط الله.
المفسدة الثانية: تكثير سواد الكافرين، وتقليل سواد المسلمين.
وفي ذلك تقوية للكفار، وإضعاف للمسلمين.
المفسدة الثالثة: تعريض ذريته للكفر، أو الاسترقاق، ولو كانوا مسلمين، ذلك أن امرأته قد يأسرها المسلمون وهي حامل، فيكون ولدها رقيقا.
المفسدة الرابعة: ما قد يتعرض له المسلم من المنكر.
ومن ذلك تعاطي المحرمات التي قد لا يستطيع الإفلات من تعاطيها، ومشاهدة المنكرات الكثيرة التي تجعله يألفها ولا ينكرها قلبه، بل قد يموت قلبه فيرضى بها لكثرتها.
المفسدة الخامسة: ما تمارسه امرأته من منكرات.
فقد تمارس أنواعا كثيرة من تلك المنكرات، وقد يميل مع طول الوقت والمعايشة، إلى كثير من تلك المنكرات المخالفة لدينه، إن سلم من الارتداد عنه.
ومن هنا يبدو رجحان القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، لأن زواجه بالكتابية في دار الإسلام مباح مع الكراهة، ومعلوم أن تناول المباح إذا أدى إلى مفاسد تفوق المصلحة من تناوله، غلب جانب المفسدة الراجحة فيدخل في الحرام بذلك، ومفاسد نكاح الكتابية في دار الحرب تفوق المصالح المترتبة عليه كما هو واضح مما تقدم، و الله تعالى أعلم
الفصل الثالث:
حكم زواج المسلم بالكتابية
في دار الكفر اليوم
هذا الموضوع هو أصعب موضوعات هذه الرسالة، وسبب صعوبته أن أحوال بلدان المسلمين وبلدان الكفر قد تغيرت.
فقد كانت الأرض في العصور الإسلامية السابقة، تنقسم إلى بلاد إسلام يطبق فيها شرع الله، وأهل الحل والعقد فيها هم المسلمون، وترفع بها راية الإسلام، وتبعث منها كتائب الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وبلادِ كفرٍ أهلُها يحاربون الإسلام، حربا مباشرة، ولا يخرجها عن كونها بلاد حرب، إلا المعاهدات التي تعقد بين زعماء المسلمين وزعماء تلك البلدان.
أما الآن فإن كثيرا من بلدان المسلمين التي كل سكانها أو غالبهم مسلمون، قد تربع على كراسي حكمها من يحاربون الإسلام وتطبيق شريعته، أشد من كثير من الكفار الحربيين.
ومن أمثلة ذلك بعض الشعوب الإسلامية التي حكمها شيوعيون ملحدون، لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر ولا بالوحي، بل يعدون الإيمان بالغيب الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، خرافة تجب محاربتها والقضاء على من يعتقدها ويؤمن بها.
وكذلك العلمانيون الذين يرون إقصاء الإسلام عن حياة الناس، ويسندون رأيهم بالقوة، ويرون أن قوانين البشر أنفع لحياة الناس من أحكام القرآن والسنة، وقلما تَخْلُو من أحد هذين الصنفين بلادٌ من بلدان المسلمين، وإن كانوا في بعض الشعوب لا يجرؤن على الظهور بمظهر الدعوة إلى إقصاء الإسلام علنا، لعلمهم بأن الظروف غير مناسبة لذلك.
فبماذا نحكم على هذه البلدان التي يحكمها أمثال هؤلاء؟
أهي بلاد إسلام، نظرا لأن كل سكانها، أو أغلبهم مسلمون _ وإن كان الحل والعقد فيها لغير المسلمين – أم هي بلاد كفر، لأن الأحكام التي تنفذ فيها هي أحكام القوانين التي تعارض نصوص القرآن والسنة التي أجمعت الأمة على وجوب الحكم بها؟
وتعريف بعض علماء الإسلام لبلاد الإسلام وبلاد الكفر يرجح اعتبارها دار كفر، وليست دار إسلام، فقد قال علاء الدين الكاساني رحمه الله: "إن دار الكفر تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها … وإن دار الإسلام تصير دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها " [ بدائع الصنائع 9/4374.. ](4/122)
وقد سألت بعض العلماء المعاصرين عن تعريفهم لدار الكفر ودار الإسلام، فلم يجبني إلا سماحة رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق في المملكة العربية السعودية الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله، وهذا نص جوابه: "نفيدكم أن العبرة بمن كانت له الولاية والحل والعقد والتصرف في البلد، فإن كان ذلك للمسلمين، فهي دولة إسلامية، وإن وجد بها كفار، وإن كان الحل والعقد والتصرف والولاية للكفار، فتعتبر الدولة كافرة، وإن كثر فيها المسلمون" [ في خطاب خاص بعث به إلي برقم (422/1 وتاريخ 7/3/1401هـ ]
يلاحظ أن الشيخ اختار لفظ " الدولة " ولم يختر لفظ " الدار " ولعله لا يريد أن يسمي الدار دار كفر، لأن بعض بلدان المسلمين يحكمها من لا يؤمن بالإسلام.
ولقد ابتلي المسلمون بهذا الوضع الشاذ في كثير من بلدانهم، ولو طبقنا تعريف بعض العلماء لبلاد الكفر، لما سلم من هذا الوصف كثير منها، وفي ذلك من الأخطار ما فيه، إذ يترتب عليه ألا يتزوج المسلم في بلاده التي تلك صفتها بالمسلمة، فضلا عن الكتابية، خشية من أن يصبح أولاده شيوعيين أو علمانيين يحاربون الإسلام، وإذا اضطر إلى ذلك لا يقصد الولد.
لهذا لا أريد الخوض في هذا الأمر، وعلى المسلمين أن يتقوا الله ما استطاعوا في بلدانهم، وأن يصبروا على التمسك بدينهم، وعلى تنشئة أولادهم عليه، حسب قدرتهم ووسعهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ولندع بلدان المسلمين، وننتقل إلى الكلام عن بلدان الكفر، لنعرف كيف تغيرت أحوالها هي أيضا، لأنها هي المقصودة في هذا الموضع.
حكم زواج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر اليوم.
والكلام فيها يتلخص في ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: صفة بلاد الكفر اليوم.
المسألة الثانية: حالة المسلمين في بلاد الكفر اليوم.
المسألة الثالثة: حكم زواج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر اليوم.
المسألة الأولى: صفة بلاد الكفر اليوم.
لقد كانت الخلائق في آخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن القيم رحمه الله ثلاثة أقسام: "مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، ومحارب" [ زاد المعاد 3/160 ] والمراد بالمسالم له الآمن أهل الذمة.
وأما الأرض فكانت قسمين: أرض الإسلام، وهي التي يدين أهلها بالإسلام، أو يخضعون لحكمه بأداء الجزية، وأرض الكفر، وهي التي يسيطر عليها الكفار المحاربون.
وهكذا استمرت الأرض في عهد أصحابه، رضي الله عنهم، إما بلاد إسلام وإما بلاد حرب، والبلدان التي كانت تعقد هدنة مؤقتة مع المسلمين، هي بلاد حرب مالم يؤد أهلها الجزية ويخضعوا لحكم الإسلام.
أما الآن فإن بلدان الكفار إذا تأملت واقعها، وجدتها تنقسم قسمين:
القسم الأول: بلدان يعلن أهلها الالتزام بالسلم ونبذ الحرب، مع الشعوب الإسلامية وغيرها، وهي في الحقيقة ذات صفتين:
صفة تبدو بها أنها ليست بلاد حرب، وهي صفة المعاهدات والاتفاقات الدولية، التي يترتب عليها تبادل السفراء، والمعاملات التجارية والاقتصادية والصناعية والثقافية، وغيرها من المنافع، فهي بهذه الصفة شبيهة ببلاد العهد في العصور الإسلامية السابقة، إلا أن العهد في هذا العصر يتخذ صفة الدوام، وليس على أسس إسلامية، كما كان في السابق، وغالب المعاهدات والاتفاقات تكون المصالح الراجحة فيها لأهل الكفر وليست لأهل الإسلام، لأن أهل الكفر - وبخاصة البلدان الغربية - عندهم من القوة ما يجعلهم يسيطرون على من سواهم.
ومن الأمثلة على ذلك: أمريكا وبعض دول أوربا وغيرها …
وصفة تبدو بها دار حرب، وذلك من ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: أنها تساعد الدول المحاربة للمسلمين بالمال والسلاح والغذاء والخبراء والإعلام، وكل ما تحتاج إليه الدولة المحاربة، كما تفعل أمريكا مع اليهود ضد المسلمين في فلسطين والدول العربية المجاورة، وكما تفعل مع الفليبين ضد المسلمين في الجنوب …
الجانب الثاني: أن أساطيلها البحرية وأسراب طائراتها الجوية، وجحافل جيوشها البرية، تجوب البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، وهي على استعداد في أي وقت لمهاجمة أي دولة من دول الشعوب الإسلامية، إذا خرجت على مخططاتها الظالمة، كما فعلت أمريكا نفسها مع السودان، عندما هاجمت مصنع الشفاء، وكما فعلت في أفغانستان في نفس الفترة، وقد زاد عدوانها على العالم، وبخاصة المسلمين، بعد حادث مبنى التجارة العالمي في نيويورك يوم 11 سبتمبر 2001م
الجانب الثالث: أنها تسعى لإيجاد أحزاب تواليها وتؤيدها في داخل الشعوب الإسلامية، لمحاربة الإسلام والمسلمين، وتقوم بإمداد تلك الأحزاب بالمال والعتاد والخبراء، وبالوسائل الإعلامية، وتدفع تلك الأحزاب للقيام بانقلابات في داخل الشعوب الإسلامية، إذا لزم الأمر، من أجل القضاء على الحركات الإسلامية، كما حاولت ذلك – ولا زالت تحاول – في السودان - حيث دعمت الدول المجاورة، بالمال والسلاح، ودعمت الأحزاب السودانية الشمالية الموجودة في خارج السودان، لفتح جبهات قتالية، كما دعمت الحركات النصرانية والوثنية في جنوب السودان، لنفس الغرض.
وهذه الجوانب الثلاثة كافية لعد تلك الدول الكافرة دول حرب، وبلدانها بلدان حرب.(4/123)
وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم قريشا – في مدة الهدنة بينه وبينهم – حربا على المسلمين، بسبب إعانتهم بني بكر الذين دخلوا في عهدهم بالسلاح، على خزاعة الذين دخلوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. [راجع في ذلك تفسير الإمام البغوي 2/266]
وإذا كانت الشعوب الإسلامية غير قادرة في الوقت الحاضر ـ بسبب ما هي فيه من ضعف وتفرق، وبسبب المعاهدات والاتفاقات الدولية التي لا طاقة لهم بمخالفتها ـ أن تعامل تلك الدول المعتدية عليها معاملة الحربيين بكثير من الأحكام الشرعية، كدعوتها لأحد أمرين: الدخول في الإسلام، أو أداء الجزية، فإن أبوا فإعلان الجهاد في سبيل الله، كما كان ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومضى عليه السلف الصالح، عندما كانوا متمسكين بالإسلام، فيجب أن يعد المسلمون العدة المعنوية، وهي تقوية إيمانهم، والتقرب الصادق والإخلاص الكامل لله عز وجل، والعدة المادية، من اقتناء العتاد وصنعه، وتدريب الشعوب الإسلامية ليوم اللقاء المرتقب.
القسم الثاني: دار إسلام من حيث الأصل، ولكها أصبحت دار حرب، بسبب استيلاء أعداء الإسلام من اليهود عليها، وهي أرض فلسطين التي انتزعها اليهود بمناصرة النصارى في البلدان الغربية، وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فهي من حيث هذا الاستيلاء دار حرب.
والأصل أنه لا فرق في الحكم بين دار الحرب في الماضي، ودار الحرب في هذا الزمان، من حيث عدم جواز زواج المسلم بالكتابية فيها، لما مضى من الأدلة القاضية بذلك.
أما زواج المسلم بالمسلمة في هذا البلد، فلا يمكن تطبيق حكم دار الحرب عليه، فلا يمنع المسلم من الزواج بالمسلمة، بحجة تعريض الولد للكفر وأخلاق الكفار، أو تكثير سواد الحربيين، لأن الزواج وقصد الأولاد والإكثار من النسل، هو في مصلحة المسلمين الذين يجب عليهم أن يتخذوا كل الأسباب التي تحرر الأرض المباركة وقبلة المسلمين الأولى، من أيدي العدو اليهودي المغتصب، وكثرة النسل يعين المسلمين على كثرة المجاهدين، والإعداد لطرد اليهود منها، ولا يجوز للمسلمين الهجرة هن بلادهم، بحجة أنها دار حرب، لأنالمحارب معتد طارئ الوجود في البلد، ولأن في هجرة المسلمين من بلادهم، يتيح لأعداء الإسلام الاستئثار بها، وخسارة المسلمين لأرضهم.
والواجب على المسلمين المجاورين لأرض فلسطين، أن ينصروا المجاهدين الفلسطينيين، حتى تتحرر أرضهم، وإذا لم يكف هؤلاء وهؤلاء، وجب على من يليهم في البلدان الإسلامية أن ينضموا إليهم، حتى لو لم يكف لجهاد لأعداء الله من اليهود إلا جميع المسلمين، لوجب عليهم عينا القيام بذلك، وإلا كان كل قادر منهم على الاشتراك هذا الجهاد آثما إذا لم يقم به.
حالة المسلمين المقيمين في بلاد الكفر اليوم
إن أغلب المسلمين الذين ينتقلون من بلادهم إلى بلاد الكفر، ويسكنون فيها، إنما يفعلوا ذلك لنيل مصالح خاصة، وهي: طلب الرزق بالحصول على أجور معينة على الأعمال التي تتاح لهم، أو تجارة لطلب الربح، وبعضهم يهاجرون إليها لطلب علم معين، ومنهم من يهاجر إليها هربا من الظلم الذي يصبه عليهم حكامهم، وقليل جدا من يبقى في بلاد الكفار من أجل الدعوة إلى الإسلام
[تنبيه: هذا كان في الفترة التي كتبت فيها هذا البحث، أما اليوم فقد كثرت المراكز الإسلامية والمساجد والمدارس، بل بدأ المسلمون ينشئون جامعات في بلدان الغرب، وقد يفرغ بعض الدعاة والعلماء للقيام بتعليم المسلمين ودعوة غيرهم إلى الإسلام].
هذا من حيث مقاصد المسلمين المقيمين في بلاد الكفر.
أما حالتهم في تلك البلدان، فإن المصالح التي تعود إلى الكفار منهم أعظم من المصالح التي تعود على المسلمين، فغالب المسلمين هم من ذوي الأعمال البدنية ذات الجهود الشاقة، والأجور الزهيدة، وثمار أعمالهم عائدة إلى الكفار، الذين يعدون العدة للإضرار بالمسلمين عند الحاجة، فالمسلمون العاملون في البلدان غير الإسلامية، يساعدون أهل تلك البلدان بطريق مباشر أو غير مباشر – بغير قصد في الغالب - ضد المسلمين في بلدانهم.
وكذلك المتخصصون المهرة في أي علم من العلوم الكونية والإنسانية، كالطب والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والاقتصاد، والقانون، والسياسة، والعلوم العسكرية … كل جهود هؤلاء تعود ثمارها بالفائدة على بلاد الكفر.
وقد سمعت من بعض المسلمين المتخصصين في بعض تلك العلوم الذين اضطروا إلى البقاء في تلك البلدان، أنهم نادمون ندما شديدا على مشاركتهم في بناء بلاد الكفر بجهودهم، وحرمان بلادهم من تلك الجهود، مع العلم أن ما يجنونه من أجور على تلك الجهود لا يعد شيئا يذكر، ولو أتيحت لهم فرص العمل في تخصصاتهم بأقل من ذلك، لفضلوا العمل في بلدانهم على العمل في تلك البلدان.
وقد يظن بعض الناس أن المسلمين يستفيدون فائدة معنوية في بلدان الكفر، لا يجدونها في بلدانهم، تلك الفائدة هي حرية التدين، وحرية الكلمة، والدعوة إلى الإسلام، وإقامة الشعائر الدينية.(4/124)
وهذا الظن صحيح في ظاهر الأمر، أما الواقع فإن خسارة المسلمين في بلاد الغرب التي توجد فيها حرية لا توجد في أكثر بلاد المسلمين، خسارة فادحة.
فالحرية الموجودة في تلك البلاد، يتمتع بها أهل البلاد أنفسهم، لأنهم هم الغالبية العظمى التي لها عقائدها، وعاداتها، وأخلاقها، ونظمها وقوانينها، ووسائل إعلامها وتعليمها.
أما الوافدون المسلمون من خارج تلك البلاد، فهم قلة قليلة يعدون في تلك البيئة كقطرة ماء صاف عذب، ألقيت في محيط من القاذورات، ترى هل تؤثر تلك القطرة في ذلك المحيط، أو تذوب فيه فتصبح كالعدم؟
وما ذا عسى أن يصنع آحاد المسلمين في المصانع بين آلاف الكافرين؟ وما ذا عسى أن يصنع مسلم واحد، أو أسرة واحدة في منزل بحي من الأحياء التي يسكنها ملايين من الكفار؟ وما ذا سيحدث مركز إسلامي صغير لا يوجد به دعاة فقهاء في الدين بين آلاف الدعوات المضادة للإسلام، المسندة بقوة الدولة والشعب؟
لهذا تجد الوافد الجديد على البلدان غير الإسلامية التي بها تلك الحرية، ممن يفقدون الحصانة الإيمانية والفقه في الدين يذوبون – غالبا – في بوتقة البيئة الغربية، وتذوب من باب أولى ذريتهم، ولو بقيت أسماؤهم إسلامية.
طفل مسلم صغير يجهل أبواه الإسلام، يدفع به في رياض الأطفال، ثم في المراحل لدراسية الأخرى، يختلط بزملاء غير مسلمين، لهم عقائدهم وأخلاقهم وعاداتهم، ومدرسين غير مسلمين، يوجهونه إلى محبة عاداتهم واعتقادهم وأخلاقهم، ويرى كل ذلك في سلوكهم، كيف ينجو من الكفر وآثاره في مراحل دراسته من الروضة إلى الجامعة، إلى الدراسات العليا؟ كيف ينجو الشاب من مخالطة الخليلات، وكيف تنجو الشابة من الخلان والأخدان؟ كيف يفلت المسلم والمسلمة من شرب المسكرات وتناول لحم الخنزير، كيف ينجو من دخول الكنيسة وأداء الطقوس النصرانية الكافرة؟ كيف ينجو من الضلال والارتداد عن دينه بسبب ما تلقى عليه من الشبهات المشككة في الإسلام؟
ثم لو فرض وجود أبوين مسلمين حريصين على تربية أولادهما تربية إسلامية، فعصاهما الأولاد بعد بلوغهم سنا معينة – كالثامنة عشرة مثلا – فاختاروا الكفر على الإسلام، والكنيسة على المسجد، والفسق على الطاعة، فما سلطة الأبوين على أولادهما، والقانون يحول بينهما وبين منع أولادهما من تلك الأمور، تحقيقا للحرية الموجودة في البلد؟
الفتاة المسلمة لها الحق أن تتزوج بالرجل الكافر، ولا حق لأبويها في الاعتراض على ما تختار ومن تختار، تحقيقا للحرية السائدة في البلد، ولا يستطيع المسلم المقيم في ديار الكفر أن يستنجد بأي دولة من دول الشعوب الإسلامية، لتنقذه من القوانين المنفذة في بلاد المهجر، بل على العكس من ذلك لو استنجد أحد الكفار بدولته الكافرة وهو في بلد مسلم، لحصل على النجدة التي تنقذه من سلطة الدولة التي يوجد بها، ولو كان مجرما، على خلاف ما كان عليه المسلمون في الماضي.
هذه هي حال المسلمين في بلاد الكفر في هذا الزمان، إنهم شبيهون في ضياع دينهم وأسرهم بالأسرى في دار الحرب لشدة الضغوط الاجتماعية والقانونية، في الشئون الأسرية التي يتعرضون لها في تلك البلدان – وإن كانت القوانين المتعلقة بالمعاملات الأخرى أقل عنتا وعسرا.
شواهد وتجارب تدل على خطر زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر
إنك لا تذهب إلى أي بلد من بلدان الكفر، إلا وجدت كثيرا من المسلمين يشكون أشد الشكوى من ارتداد مسلمين عن دينهم، وتشرد كثير من أبنائهم وهربهم عن أسرهم، بتأييد من سلطات تلك الدول التي استوطنوها، عن طريق القانون والضمان الاجتماعي الذي يوفر للشاب والشابة المسكن والنفقة بعيدا عن أسرته.
وأقلهم خطرا من لا يزال يدعي الإسلام وهو لا يفهم من الإسلام شيئا، يمارس أغلب المنكرات التي يمارسها الكفار، وفي مقابل ذلك تجد قلة ممن يدخلون في الإسلام من أهل الكتاب، أكثرهم بعيدون عن فهم حقيقة الإسلام، وعن تطبيق مبادئه تطبيقا سليما، بسبب قلة من يتابعهم من الدعاة إلى الله الذين يفقهون الإسلام فقها صحيحا، ويمثلون للناس القدوة الحسنة.
بل قد وجدنا من دخل في الإسلام وأصبح زعيما للمسلمين، وامرأته نصرانية تجمع التبرعات من المسلمين ومن النصارى لرفع شأن الكنيسة !
وما ذا عسى أن يجد أبناؤه من تربية، وأمهم لا يهدأ لها بال إلا في النشاط الكنسي، وإذا ذهبت إلى الكنيسة، فهل ستدع أولادها في المنزل، أو تبعثهم إلى المسجد الذي لا يعرفه أبوهم إلا في المناسبات.(4/125)
وقد أخبرنا بعض المسلمين في مدينة "بْرِزْبِن" وهي من المدن الأسترالية الشرقية في يوم السبت 29/من شهر شوال عام 1404هـ، أن بعض المسلمين من أفغانستان والهند الذين جاءت بهم بريطانيا للعمل هناك لاستخدامهم في الأعمال الشاقة، كانوا متمسكين بدينهم، وبنوا لهم مسجدا صغيرا من الخشب في منطقة تسمى "كويزلند" سنة 1908م يقيمون فيه شعائر دينهم، وتزوجوا من نصرانيات وأنجبوا ذرية، أصبحوا بعد انقراض آبائهم نصارى، ولا يزالون يسكنون في نفس المنطقة ويقفون بقرب المسجد ينظرون إلى المسلمين وهم يصلون ويدرسون أبناءهم، ويحملون أسماء آبائهم المسلمين، وقد حاول إمام المسجد وبعض المسلمين دعوتهم للرجوع إلى الإسلام دين آبائهم، فلم يستجيبوا لذلك.
وكان سبب ذوبانهم في دين أمهاتهم جهلهم بدينهم، وتنشئتهن لهم على دينهن.
[وقد بنى المسلمون مكان هذا المسجد الصغير مركزا إسلاميا، يشتمل على مسجد ومدرسة ومكتبة، لتدريس أبنائهم، وقد زرنا هذا المركز، أنا والشيخ عمر فلاتة رحمه الله، في نفس التاريخ المذكور 2/شوال عام 1404هـ]
هذا في أستراليا، وفي وقت مبكر نسبيا.
وفي يوم السبت 25 شوال عام 1405هـ أخبرنا – أنا والشيخ عمر فلاتة أيضا – إمام المركز الإسلامي الثقافي في في مدينة "شيكاغو" الأمريكية، واسم الإمام: "مصطفى إبراهيم سرك" وهو متخرج من كلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية سنة 1978م، أن فتاة يوغسلافية كانت تسكن مع أسرتها في هذه المدينة، ثم ذهبت إلى ولاية كاليفورنيا، وانتظمت في إحدى المدارس، واتصلت ببعض المسيحيين، واشتكت بأنها تجد نفسها حزينة في بعض الأوقات، فقالوا لها: إن عيسى – عليه السلام – " Jesus " هو الذي سيحل لها مشكلاتها، إذا هي آمنت به، وقالوا لها: إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان مجنونا، وأن أتباعه كانوا فقراء متخلفين، فآمنت بالمسيحية وارتدت عن الإسلام.
وعندما رجعت إلى أسرتها، غضبوا عليها وأمرها أبوها أن تعود إلى الإسلام، فرفضت، وقالت: إنها مستعدة أن تموت من أجل إيمانها بالمسيحية، مؤكدة بذلك شدة أيمانها بها، وهي الآن خارج منزل أسرتها.
ولا يغرن إخواننا الدعاة المتجولين في العالم، ما يرزن من نشاط إسلامي طلابي أو غيره في بعض دول الكفر، كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبعض دول أوربا، فإنهم لو اختلطوا بالجاليات المسلمة في تلك البلدان، وتعرفوا على كثير من الأسر المسلمة، لرأوا البون الشاسع بين ربح النشاط الإسلامي والخسارة الفادحة التي تصيب تلك الأسر في دينها وسلوكها، وبعد أبنائها الذين يدرسون في مدارس البلدان الكافرة عن مبادئ الإسلام.
هذه نبذة موجزة عن حالة المسلمين في البلدان غير الإسلامية، ومن أراد أن يعرف الحقيقة المرة عن تلك الحال، فليشد الرحال إلى تلك البلدان، ويختلط بالجاليات والأسر الإسلامية في منازلهم، وليزر أبناءهم في المدارس الرسمية، وفي النوادي الرياضية والثقافية والاجتماعية ليرى ما لم يدر في حسبانه.
كيف والمنصرون يخرجون أبناء المسلمين من دينهم إلى الدين النصراني في عقر دارهم. [راجع كتاب " غارة تبشيرية جديدة على إندونيسيا " لأبي هلال الإندونيسي. طبع دار الشروق]
حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر اليوم
سبق أن جمهور العلماء يرون جواز زواج المسلم بالكتابية في دار الإسلام مع الكراهة، وبعض العلماء يرى جواز ذلك في دار الحرب، مع الكراهة الأشد، وبعضهم يرى تحريم ذلك في دار الكفر.
وأن بعض السلف يرى تحريم الزواج بالكتابية، في دار الإسلام ودار الكفر على السواء.
وسبق أن دار الكفر في هذه الأزمان ليست دار حرب محضة، كما كانت دار حرب في الماضي، وليست دار عهد محضة، بل كثير منها تعتبر بلاد حرب غير مباشرة، كما هو الحال بالنسبة للدول التي تساعد اليهود ضد المسلمين بالمال والسلاح وغيرهما، وهي مستعدة للحرب المباشرة في أي لحظة تشعر فيها بالخطر على مصالحها أو مصالح اليهود، كأمريكا وبعض دول أوربا، أو بالرجال، مثل الاتحاد السوفييتي (سابقا) وبعضها دار حرب مباشرة كحال الاتحاد السوفييتي (سابقا) في حرب أفغانستان – كان هذا قبل أن تغادر القوات السوفييتية أرض أفغانستان)- وأنكى من ذلك وأشد أن تلك الدول تحارب المسلمين في بلدانهم، حربا سياسية، بدعم الأحزاب الموالية لها بالسلاح لضرب بعضها بعضا، واقتصاديا كذلك …
وكثير من الاتفاقات الدولية المبرمة بين دول الكفر وحكومات الشعوب الإسلامية، تكون في صالح دول الكفر أكثر من كونها في صالح المسلمين، بل إن الضرر الذي يلحق الشعوب الإسلامية من تلك الاتفاقات، أكثر من النفع الذي تحصل عليه منها.
كما أن بعض المعاهدات تخالف مقاصد الإسلام، ومن أهمها إبطال معنى الجهاد في سبيل الله، الذي هدفه الأول هو الدعوة إلى الله، ودخول الناس في هذا الدين، أو خضوعهم لنظامه العام بدفع الجزية، وإلا قوتلوا، كما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن تبعهم من السلف الصالح، وهو الحكم الشرعي الباقي إلى يوم الدين.(4/126)
وسبق بيان حالة المسلمين في ديار الكفر، وأنهم معرضون للذوبان في المجتمع الكافر، وأن بعضهم يرتد عن الإسلام، وبعضهم يبقى مسلماً بالاسم والانتساب، وهو قد ضاع في تلك المجتمعات الكافرة، والناجون من ذلك قليل.
فإذا نظرنا إلى ديار الكفر من جهة ما تقوم به من حرب مباشرة ضد المسلمين، أو غير مباشرة، فإن القياس يقتضي تحريم زواج المسلم بالكتابية فيها قياساً على تحريم ذلك عند بعض العلماء في دار الحرب، وإذا نظرنا إليها من جهة ما بينها وبين حكام الشعوب الإسلامية من معاهدات واتفاقات، فالقياس يقتضي إباحة الزواج بالكتابية في ديار المسلمين – وإن كانت لا تعتبر ذمية ولا حربية – أما الزواج بها في ديار الكفر التي فيها شَبَهٌ بدار الحرب المحضة، وشَبَهٌ بدار العهد فإن فيه إشكالاً، لأن هذه الدار التي هذه صفتها جديدة لم تكن موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه لأن الديار كلها كانت إما دار إسلام – ويدخل فيها أهل الذمة –، وإما دار حرب - ويدخل فيها دار العهد المؤقت – وعندما كان المسلمون يتزوجون بالكتابيات، إنما كانوا يتزوجون بهن في ديار الإسلام، وديار الإسلام كانت محكومة بشريعة الله، والمجتمع فيها كان مجتمعاً إسلامياً، والكتابية ذمية وليست حربية، وإسلام الكتابية التي يحيط بها المجتمع الإسلامي، الذي تطبق فيه أحكام الإسلام في المنزل والمسجد والشارع مأمول، وتربية أبنائها على الإسلام وتنشئتهم على مبادئه وآدابه هي الأساس، لأن البيئة كلها تساعد على ذلك: الأسرة، والجيران، والمسجد، ودور العلم، والمجتمع كله، لأن القوة في كفة الإسلام والمسلمين، والمرأة أقرب إلى التأثر بالإسلام من التأثر في ولدها بالكفر وعاداته.
ولو فرض أنها حاولت التأثير فيه فإنها ستفشل، وإذا علم الزوج وأسرته أو أي مسلم بذلك يبادر إلى إحباط تلك المحاولة، ولو تقدمت بشكوى إلى القضاء تطلب فيها الاستقلال بتربية أولادها، فإن الشرع الإسلامي لا يبيح لها ذلك، بل يحكم بالإشراف على الأولاد وتربيتهم لمن في إشرافه وتربيته مصلحتهم في دينهم، ولا يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
وإذا فرض أن زوج الكتابية تساهل معها في تربية أولاده، فإن المسلمين لا يسكتون عن ذلك، لتمسكهم بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما من قبل المحتسبين من المجتمع، وإما من قبل الحاكم المسلم هذا بالنسبة لدار الإسلام.
المفاسد المترتبة على زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر
أما دار الكفر في هذا الزمان، فإن الزواج بالكتابية فيها يترتب عليه مفاسد كثيرة، ومنها ما يأتي:
المفسدة الأولى: إقامة المسلم في دار الكفر.
وذلك مخالف لحكم الهجرة من دار الكفر إلى الإسلام، كما هو معروف.
المفسدة الثانية:
إعانة المسلم المقيم في بلاد الكفر للكافرين على المسلمين، لما يبذله من جهد وطاقة في تقويتهم بعمله معهم، سواء كان الجهد بدنياً في المصانع وغيرها، أو عقلياً في شتى العلوم المهمة، كالطب والهندسة الفلك وغيرها، ويدخل في ذلك تقصيره في قتال الكفار المحاربين للمسلمين وهي مفسدة عظيمة لا يجوز إغفالها [ أحكام القرآن للجصاص (1 / 366) ].
المفسدة الثالثة:
تعرض المسلم لعادات أهل الكفر وأخلاقهم ومعاملاتهم التي يكون كثير منها محرماً في دينه، وقد لا يقدر على ترك ذلك لاضطراره إلى الاختلاط بهم في المنازل وأماكن العمل والتنقلات، ويخشى عليه إن كان جاهلاً ضعيف الإيمان، أن يترك دينه ويدخل في دين الكفر وهذا وقع.
المفسدة الرابعة:
فَقْدُ معنى الولاء والبراء الذي أمر الله به المؤمنين، كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء يعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)) [ المائدة: 51 ]
وقوله تعالى: ((إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين)) [ المائدة: 55 – 57 ].
وقوله تعالى: ((قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده..) [ الممتحنة: 4 ].
والغالب أن المسلم الذي يخالط الكفار ويؤاكلهم ويشاربهم ويصاهرهم يذهب من قلبه العداء لهم، ويقل في قلبه ولاؤه لله ولرسوله ولعباده المؤمنين.
المفسدة الخامسة:
الرضا بالمنكر الذي يراه يتكرر أمام ناظريه في كل وقت: من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير والكفر بالإسلام ووسائل الزنا، بل والزنا نفسه، وقد يقع هو نفسه في تلك المعاصي، لأن إحساسه بمفاسدها وكونها من مساخط الله تعالى يضعف في نفسه لتكرارها وبقائها في محيط أهلها.
المفسدة السادسة:(4/127)
تأثير امرأته الكتابية عليه بعاداتها وأخلاقها، أكثر من تأثيره هو عليها، لأن المحيط الذي يعيش فيه هو محيطها والبيئة بيئتها، وهي تأكل لحم الخنزير وتشرب الخمر وتختلط بالأجانب من الرجال أمامه، محارم وغير محارم وهي كاشفة أغلب جسمها، وقد تصافحهم، وقد تراقصهم وهو يرى ذلك كله ويسكت عنه فيألف الدياثة، وقد ينالون منها ما وراء ذلك كله، وهو يدري أو لا يدري، كما أنه هو قد يختلط بقريباتها وصديقاتها اختلاطا فيه مفاسد كثيرة على دينه وخلقه، وكيف ينجو من التأثر بذلك وهو في محيطه وبيئته؟!
شرط مفقود في الغالب
ولابد هنا من التأكيد على صفة الإحصان التي أباح الله بها للمسلم أن يتزوج الكتابية في قوله تعالى: ((والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب)) [ المائدة: 5 ] فإن اشتراط هذه الصفة، يدل على عدم جواز زواج المسلم بالكتابية التي لا توجد فيها صفة الإحصان، وقد اختلف في صفة الإحصان هذا على قولين:
القول الأول: أن المراد بها العفة، فإذا كانت الكتابية عفيفة لم تقارف الفاحشة جاز نكاحها، وممن فسر الإحصان بالعفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه عندما كتب إليه حذيفة بن اليمان: "أحرام هي – يعني الكتابية – كتب إليه عمر قائلاً: لا، ولكني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن، قال أبو عبيدة: يعني العواهر …"
وقال مطرف عن الشعبي في قوله تعالى: ((والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)) قال: (إحصان اليهودية والنصرانية: أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها..) [ أحكام القرآن للجصاص (2 / 324) ]، وممن قال بذلك: السدي، ومجاهد وسفيان.
القول الثاني: أن المراد بالإحصان هنا الحرية، أي يجوز نكاح الكتابية الحرة – دون الأمة – وإن كانت قد أتت بفاحشة إذا تابت منها، بشرط أن تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده أن يجبر على الكفر.
وقد رجح هذا القول ابن جرير الطبري، وذكر القائلين به في تفسيره جامع البيان عن تأويل آي القرآن (6 / 107-2-108) ] وعلى كلا القولين فإن الكتابية التي في دار الكفر – وليست في دار الإسلام – يرجح جانب الحذر منها، لما في بيئتها من الفساد الواضح، وكيف تكون عفيفة من توصم بالعار والأمراض النفسية إذا بلغت سناً معيناً، ولم تجد من يعيش معها معيشة غير مشروعة، كما يعيش الزوج مع زوجته؟ وكيف لا يخشى من عدم عفة امرأة تختلط بالأجانب في الخلوة كالجلوة كما مضى؟
المفسدة السابعة:
أن امرأته وهي لا تلتزم بأمر الله ونهيه، قد تنجب ذرية من غيره وينسبون إليه، ويترتب على ذلك أحكام كثيرة فاسدة: فيورثون إذا بقوا على دينه – ولو في الظاهر – ويختلطون بأبنائه وبناته على أنهم محارم، وكذلك أخواته وإخوانه، مع أنهم في الواقع ليسوا أولاده.
المفسدة الثامنة:
أنها قد تُنَشِّئ أولاده على الكفر وعادات الكفار وأخلاقهم، وتأخذهم معها إلى الكنيسة والمراقص والمسارح وأماكن اللهو، وتفسد قلوبهم، ولا يستطيع هو أن يحول بينها وبين ذلك، وقد اشترط ابن جرير رحمه الله في جواز الزواج بالكتابية "أن تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده، أن يجبر على الكفر" [ جامع البيان عن تأويل آي القرآن (6 / 108) ].
وليس من شرط الإجبار على الكفر أن يكون بالقهر المادي كالتهديد بالقتل، أو الحبس أو الضرب، بل قد يكون الإجبار على الكفر بالضغوط الاجتماعية والتعليمية والثقافية والسياسية وتشويه الإسلام، وهذا كله واقع في بلاد الكفار.
المفسدة التاسعة:
أن القانون الأسري في مصلحتها في بلادها، فلو أراد أن يطلقها فإن القانون يجبره على مغادرة منزله وتركه لها ولأولادها، ويحكم لها بالأولاد ما داموا دون سن معينة كالثامنة عشرة، فيخسر أولاده وتربيهم هي كما تريد، وهو يشاهد ذلك فلا يقدر على حمايتهم من ذلك، بل إن المرأة الكافرة التي يتزوجها المسلم وينقلها إلى بلاده في أي شعب من شعوب المسلمين، إذا كرهته تستطيع أن تذهب في غفلة منه إلى سفارة بلادها في ذلك الشعب بأولادها، فتصبح بذلك كأنها في بلاد الكفر تحميها دولتها وقوانينها وتنقلها مع أولادها إلى بلادها، ولا تستطيع دولة الشعب المسلم أن تفتكَّها ولا تفتكَّ أولادها.
المفسدة العاشرة:
ترك المسلم التزوج بالمسلمة، وإيثار التزوج بالكتابية، وفي ترك التزوج بالمسلمة الموجودة في بلاد الكفر تعريض المسلمات للفتنة، إما بالزنا الصريح أو باستباحة زواجهن بالكفار الذين لا يحل لهم أن يتزوجوا المسلمات، وهذا الأمر موجود في بلاد الكفر، فقد وجدنا كثيرا من المسلمين يشكون من هذه الحالة، ويتمنون أن يجدوا لبناتهم أزواجاً مسلمين من نفس البلد الذي يتزوج فيه المسلمون الكافرات لأغراض دنيوية، كالحصول على الإقامة أو التجنس أو الوظيفة.(4/128)
وقد ذكر العلماء أن من أسباب كراهية بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعمر رضي الله عنه، الزواج بالكتابية الذمية في دار الإسلام زهد المسلمين في الزواج بالمسلمات، كما قال ابن جرير رحمه الله: "وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة – رحمة الله عليهم – نكاح اليهودية والنصرانية، حذراً من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني فأمرهما بتخليتهما" [ جامع البيان عن تأويل آي القرآن (2 / 378) ].
وإذا كان هذا السبب يؤدي إلى كراهة الزواج بالكتابية في دار الإسلام، خشية من الزهد في الزواج بالمسلمات اللاتي لا يجدن الأزواج الراغبين فيهن غالباً، فإنه – أي هذا السبب – صالح لتحريم الزواج بالكتابية في دار الكفر، إذا أدى إلى ترك الزواج بالمسلمة وافتتانها بالزنا أو الزواج بالكفار، وهو محرم عليها كالزنا، من باب أولى.
وإذا كان زواج المسلم بالكتابية مباحاً، والمسلمون إنما تعاطوه في دار الإسلام، ومع ذلك وجد من يرى تحريمه من السلف وعامة أهل العلم كرهوه، وكثير منهم حرموه في دار الحرب، وإذا علمنا تلك المفاسد التي تترتب عليه في دار الكفر فما حكمه؟!.
إن كثيرا من هذه المفاسد ليست مفروضة فرضا، وإنما هي واقعة مع كثير من المسلمين المقيمين في دار الكفر ممن يتزوجون الكافرات، وقد تكون هناك مفاسد كثيرة يعرفها أولئك المسلمون الذين يقعون في شراك الاستيطان في بلاد الكفر.
ولو لم يكن من تلك المفاسد إلا خشية وقوع المسلم نفسه في الارتداد عن دينه، أو التخلق بأخلاق الكفار التي لا يقرها الإسلام، وكذلك مفسدة تنشئة نسله على الكفر وعادات الكفار، لو لم يكن من تلك المفاسد كلها إلا هاتان المفسدتان لكانتا كافيتين في القول بتحريم زواج المسلم الكتابية في بلاد الكفر، فكيف بها إذا اجتمعت كلها؟!.
إذا أفضى المباح إلى محرم صار محرما
ومعلوم أن المباح هو ما استوى طرفاه، أي: فعله وتركه، فهو ليس مطلوبَ الفعل ولا مطلوب الترك شرعاً من حيث هو مباح، فإذا كان وسيلة إلى مندوب صار مطلوب الفعل ندباً، وإن كان وسيلة إلى مكروه صار مطلوبَ الترك كراهة، فإذا كان ذريعة إلى محرم صار مطلوب الترك تحريماً.
وإن كان وسيلة إلى واجب، صار مطلوب الفعل وجوباً؟ ونكاح المسلم الكتابية مباح من حيث هو، فإذا صار ذريعة إلى تلك المفاسد التي كل مفسدة محرمة وحدها، فإنه يصير مطلوب الترك تحريماً لذلك.
هذا هو الحكم الذي اطمأنت إليه النفس بالنسبة لزواج المسلم بالكتابية في ديار الكفر، ما دامت تلك المفاسد تترتب عليه، فإذا ادَّعَى مدع أن تلك المفاسد لا تترتب على ذلك وأثبت حجة على دعواه، فالأمر عندئذ يختلف، وما إخال أحداً يثبت ذلك اللهم إلا في مسائل فردية نادرة، والعبرة بالغالب وليس بالنادر.
ولا أظن أن الذي توصلت إليه في هذه المسألة يخالف ما ذهب إليه علماء الإسلام قديماً، فإن تحريم الزواج بالكتابية في دار الكفر في هذه الأيام أكثر شبهاً بدار الحرب في الماضي، وقد حرم الزواج بالكتابية في دار الحرب: الخليفة الرابع علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما، ورجح ذلك بعض علماء المذهب الحنفي، وكرهه آخرون منهم، كما كرهه كراهة شديدة الإمام مالك، وهو كذلك في المذهب الشافعي، وصرح بتحريمه علماء الحنابلة [ راجع الفصل الثاني من هذا المبحث ] وعللوا ذلك بمسألة ركونه إليها وسكناه في دار الحرب، وتنشئة أولاده على الكفر ومحبة أهله.
وهذه المفاسد وغيرها موجودة في دار الكفر في هذه الأيام.
ما يفضي إلى المفسدة أربعة أقسام:
ذكر ابن القيم أن ما يفضي إلى المفسدة أربعة أقسام:
القسم الأول: وسيلة موضوعة للإضافة إلى مفسدة.
القسم الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوصل إلى مفسدة.
القسم الثالث: وسيلة موضوعة للمباح، لم يقصد التوصل بها إلى مفسدة، لكنا مفضية إليها غالباً، ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
القسم الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
ثم قال: "فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم واستحبابه أو إيجابه، بحسب درجاته في المصلحة، وجاءت بالمنع في القسم الأول، كراهة أو تحريماً بحسب درجاته في المفسدة.
بقي النظر في القسمين الوسط، هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما، فنقول الدلالة على المنع من وجوه.."
وساق تسعة وتسعين وجهاً مستدلاً بها على المنع [راجع إعلام الموقعين (3 / 136-159)].
ومعنى هذا: أن المباح الذي وضع وسيلة، ولم يقصد به التوسل إلى مفسدة لكنه يفضي إليها غالباً، ومفسدته أرجح من مصلحته يكون محرماً، والزواج بالكتابية في ديار الكفر من هذا النوع كما هو واضح.
ومعلوم أن مدار الشريعة الإسلامية ومبناها على مصالح العباد، كما قال ابن القيم رحمه الله: "فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليس من الشريعة" [ نفس المرجع ].(4/129)
وهناك قاعدة شرعية عظيمة، وهي أن الدين من الضرورات التي يجب حفظها، والزواج بالكتابية في دار الكفر قد يعود على هذه الضرورة بالنقض، إما دين الزوج المسلم وإما دين ذريته، وإما دينه ودين ذريته. [ راجع أول الجزء الثاني من كتاب الموافقات ].
الضرورة تقدر بقدرها
إذا كان حكم زواج المسلم بالكتابية في دار الكفر هو التحريم لما مضى من المفاسد المترتبة عليه، فما حكم المشقة المترتبة على تحريمه بالنسبة، لمن يضطر إلى السكن في دار الكفر من أصناف المسلمين الآتية؟
صنف السفراء والموظفين التابعين لهم الذين تندبهم حكوماتهم للقيام بمصالحها في تلك الدول.
صنف الطلبة: الذين يبتعثون لأخذ العلوم التي لا غنى لبلادهم عنها، وهي لا توجد في بلادهم.
صنف بعض المسلمين الذين يؤذَونَ في بلادهم: بالاعتداء على دينهم أو أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم أو تلك الأمور مجتمعة، من قِبَل حكام بلادهم الظلمة بسبب مخالفتهم لهم في بعض تصرفاتهم المخالفة للإسلام، أو بسبب بعض الاتجاهات السياسية المختلفة، ولا يجدون من يأذن لهم بالهجرة إلى بعض البلدان الإسلامية، فيضطرون إلى الانتقال إلى بعض بلاد الكفر التي يحصلون فيها على أمن نسبي، كما هو الحال في بلدان الغرب، كالدول الأوربية الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية وكندا ونحوها.
صنف المسلمين الذين هم أصلاً: من بلاد الكفر.
صنف التجار: الذين يحتاجون إلى البقاء في بلاد الكفر.
والجواب: أن الضرورة تقدر بمقدارها.
فإذا خاف هؤلاء الأصناف من الوقوع في جريمة الزنا، بسبب المغريات والسبل الداعية إليه في تلك البلدان، فعليهم أن يتزوجوا مسلمات صالحات من بلادهم ويسافروا بهن معهم، وأن يحاولوا إيجاد مساكن متقاربة لهم في البلد الذي ينزلون فيه، لتكون أسرهم متجاورة حتى يحصل بينهم التزاور والتعاون على الخير، ليعيشوا عيشة إسلامية حسب الاستطاعة.
وهذا ممكن للسفراء والموظفين التابعين لهم، وكذلك بالنسبة للطلاب الذين يتمكنون من الدخول في جامعة واحدة، وكذلك الجاليات الإسلامية التي عندها مقدرة على شراء مساكن متجاورة في حارة واحدة واستئجارها، فإن هؤلاء يبقون مدداً طويلاً في تلك البلدان، وعليهم أن يتقوا الله في تربية أسرهم ويحافظون عليها قدر استطاعتهم، وإذا وصل أولادهم إلى سن يتمكنون معها على الدراسة، فإن عليهم أن يبعثوا أولادهم إلى بلدانهم، ويجب على حكام شعوبهم أن يسهلوا لهم وسائل التعليم والإشراف على تربيتهم في مدارس خاصة بها أقسام داخلية، إلا إذا كان لهم أقارب يشرفون على تربيتهم، أو تقوم حكومات الشعوب الإسلامية بإنشاء مدارس خاصة في بلدان الكفر، تتولى إعداد مناهجها ومدرسيها وإدارييها من المسلمين، وتكون بها أقسام داخلية تتولى الإشراف على الطلاب وتربيتهم تربية إسلامية شاملة، حتى لا يقعوا في أحضان الكفار الذين يخشى منهم إفسادهم بالعقائد الكافرة وعادات الجاهلية.
وهذه الحالة تشمل الطلاب والسفراء ومن يتبعهم من الموظفين وبعض الجاليات التي يتمكن أفرادها، من بعث أولادهم إلى بلدانهم أو إيجاد مدارس إسلامية خاصة بهم في بلاد الكفر.
وكذلك الذي يدخل في الإسلام من أهل تلك البلدان، إذا تمكن من الحصول على زوجة مسلمة صالحة ومجاورة الأسر المسلمة، ليتعاون معها على تربية أسرته وأولاده.
وقد وجدنا يعض المسلمين، تمكنوا في بعض المدن الولايات المتحدة الأمريكية، من استئجار منازل لأسرهم متقاربة، وهم من الطلاب، وكذلك بعض الجاليات الإسلامية، كما في مدينة ديربورن التي تسمى: القرية العربية.
أما المسلم الذي يحتاج إلى البقاء في تلك البلدان فترات قصيرة للتجارة ونحوها، فعليه أن يصبر ويتقي الله في ترك المحرمات، وإذا رأى أنه يخاف على نفسه فليصطحب معه أهله وبعض محارمها لمرافقتها عند انشغاله، فإذا قضى حاجته رجع إلى بلاده.(4/130)
وكل من يقدر على ترك السكنى في بلاد الكفر، فلا يجوز له البقاء فيها خشية الفتنة على نفسه وأسرته، ومن اضطر إلى البقاء فيها - والله أعلم بالمضطر - ولم يجد مسلمة يحصن بها نفسه وخاف على نفسه الزنا فيجوز له - من باب الاضطرار - أن يتزوج الكتابية - اليهودية أو النصرانية التي ما زالت تعترف بدينها ولم تتنكر له بالإلحاد - ولكن يجب عليه أن يتخذ الوسائل التي تمنعها من الإنجاب له، لأنه إذا أنجبت له أولاداً خاف عليهم من إفسادهم بتنشئتهم على الكفر وعادات الكفار، فإنه شبيه بالأسير في بلاد الحرب والتاجر، وقد مضى بأنهما لا يتزوجان الكتابية ولا يطآن زوجاتهما المسلمات، خشية من اعتداء الكفار عليهن وإنجابهن أولادا ليسوا من أزواجهن المسلمين [كما مضى في الفصل الثاني] إلا أنني أرى أن الزوجة المسلمة يمكن لزوجها أن يطأها وينجب منها إذا كانت صالحة، وغلب على ظنه تمكنه من تربية أولاده منها في بلاده، أو في مدرسة إسلامية في نفس البلاد التي يعيش فيها كما مضى، وإنما قلنا بوجوب اتخاذ الوسائل التي تمنع الإنجاب من الكتابية، لما مضى من المفاسد المترتبة على الزواج بها في بلاد الكفر، ومن ذلك تنشئة الأولاد على الكفر وأخلاق الكفار، فإذا غلب على ظنه تنشئتهم على الإسلام، فلا يجب عليه حينئذ أن يتخذ وسائل عدم الإنجاب، وهذا يشمل المسلم الوافد إلى بلاد الكفر والذي يدخل في الإسلام من أهل ذلك البلد.
النتائج
وبعد فإن الصحيح ما عليه جمهور علماء المسلمين من جواز زواج المسلم بالكتابية في بلاد المسلمين - وهي الذمية التي تخضع لأحكام الإسلام العامة - وأن الأفضل - مع الجواز - ترك ذلك وقد كرهه أغلب العلماء.
وأنه لا يجوز للمسلم الزواج بالحربية، وهي الكتابية التي تعيش في بلاد الحرب، على الصحيح من أقوال العلماء.
وأن بلاد الكفر اليوم حكمها حكم بلاد الحرب في هذا الحكم بالذات، لأن المفاسد التي تترتب على زواج المسلم بالكتابية في بلاد الحرب، تترتب على زواج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر اليوم.
وإذا دعت الضرورة أن يتزوج المسلم بالكتابية في بلاد الكفر وغلب على ظنه أن ذريته ستنشأ تنشئة إسلامية، فلا يجب عليه أن يتخذ الوسائل التي تمنع الإنجاب، وإن غلب على ظنه عكس ذلك وجب عليه اتخاذ ذلك.
أما إذا غلب على ظنه فتنته هو في دينه أو فتنة أولاده منها أو من غيرها، فإنه لا يجوز له أن يتزوج بها مطلقاً، وعليه أن يتقي الله ويبتعد عن الحرام ويبحث عن زوجة مسلمة صالحة.
هذا ما ظهر لي في هذا البحث، فإن كان صواباً فالله هو الذي وفقني للوصول إليه، وإن كان خطأ فأستغفر الله وأتوب إليه، وفي كلا الأمرين أسأل الله ثوابه فإني ما قصدت إلا رضاه.
فرغت من هذا البحث في الساعة السادسة من صباح يوم السبت الموافق 8/2/1407 هـ في المدينة المنورة …
وقد أكملت مراجعته، وتصحيحه، مع إضافات جديدة إليه، في الساعة الواحدة، بعد منتصف ليلة الثلاثاء 25/7/1423هـ ـ 1/10/2002م
في منزلي بالمدين النبوية الكائن في حي الأزهري، شمال طريق أبي بكر الصديق.
[ وأصل هذا البحث محاضرة عامة، ألقيت في قاعة المحاضرات العامة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في 10/2/1407هـ ]
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
===============
اللغة العربية التحديات والمواجهة
للأستاذ/ سالم مبارك الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
اللغة العربية : التحديات والمواجهة
الحمد لله الذي رفع هذه اللغة و أعلى شأنها , حيث أنزل بها خير كتبه و أفضلها , والصلاة و السلام على أفصل الأنبياء و خاتم المرسلين , نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :ــ
إن لغتنا العربية هي ركن ثابت من أركان شخصيتنا , فيحق لنا أن نفتخر بها , و نعتز بها و يجب علينا أن نذود عنها و نوليها عناية فائقة . و يتمثل واجبنا نحوها في المحافظة على سلامتها و تخليصها مما قد يشوبها من اللحن و العجمة و علينا أن لا ننظر إليها بوصفها مجموعة من الأصوات و جملة من الألفاظ والتراكيب بل يتعين عينا أن نعتبرها كائناً حياً , فنؤمن بقوتها و غزارتها و مرونتها وقدرتها على مسايرة التقدم في شتى المجالات كما تعد مقوماً من أهم مقومات حياتنا وكياننا، وهي الحاملة لثقافتنا ورسالتنا والرابط الموحد بيننا والمكون لبنية تفكيرنا، والصلة بين أجيالنا، والصلة كذلك بيننا وبين كثير من الأمم .
إن اللغة من أفضل السبل لمعرفة شخصية أمتنا وخصائصها، وهي الأداة التي سجلت منذ أبعد العهود أفكارنا وأحاسيسنا. وهي البيئة الفكرية التي نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. إنها تمثل خصائص الأمة واستطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أمم شتى كان العرب نواتها الأساسية والموجهين لسفينتها .
ما اللغة :-(4/131)
لقد اختلف العلماء في تعريف اللغة و مفهومها , وليس هناك اتفاق شامل على مفهوم محدد للغة و يرجع سبب كثرة التعريفات و تعددها إلى ارتباط اللغة بكثير من العلوم , فانتقاء تعريف لها ليس بالعملية اليسيرة منها على سبيل المثال لا الحصر :ــ
1. يعرفها ابن جني 1 بقوله : (( أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم )) .
2. اللغة نظام من الرموز الصوتية الاعتباطية يتم بواسطتها التعارف بين أفراد المجتمع ، تخضع هذه الأصوات للوصف من حيث المخارج أ والحركات التي يقوم بها جهاز النطق ومن حيث الصفات والظواهر الصوتية المصاحبة لهذه الظواهر النطقية2 .
3. ظاهرة اجتماعية تستخدم لتحقيق التفاهم بين الناس 3.
4. صورة من صور التخاطب سواء كان لفظياً أو غير لفظي .
5. اللغة كما يقول ( أوتو يسبرسن ) : نشاط إنساني يتمثل من جانب في مجهود عضلي يقوم به فرد من الأفراد ، ومن جانب آخر عملية ادراكية ينفعل بها فرد أو أفراد آخرون .
6. اللغة نظام الأصوات المنطوقة .
7. اللغة معنى موضوع في صوت أو نظام من الرموز الصوتية 4.
8. ادوارد سابيير : اللغة وسيلة إنسانية خالصة , وغير غريزية إطلاقا , لتوصيل الأفكار والأفعال والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إرادية 5 .
9. انطوان ماييه : إن كلمة ( اللغة ) تعني كل جهاز كامل من وسائل التفاهم بالنطق المستعملة في مجموعة بعينها من بني الإنسان بصرف النظر عن الكثرة العددية لهذه المجموعة البشرية أو قيمتها من الناحية الحضارية .
10 . اللغة نشاط مكتسب تتم بواسطته تبادل الأفكار والعواطف بين شخصين أو بين أفراد جماعة معينة , وهذا النشاط عبارة عن أصوات تستخدم وتستعمل وفق نظم معينة .
واللغة نعمة من الله عزّ وجل للإنسان مثله مثل كل الحيوانات التي تمتلك نظاما من الرموز والإشارات للتفاهم فيما بينها . فيقال : لغة الحيوان ، ولغة الطير ، ولغة النبات ، قال تعالى :( ( وعلمنا منطق الطير )) النمل / 16. .. ولكن لغة الإنسان تتميز بأنها ذات نظام مفتوح بينما الحيوانات الأخرى نظامها التعارفي نظام مغلق .
وظائف اللغة :- 6
يتفق أغلبية علماء اللغة المحدثين على أن وظيفة اللغة هي التعبير أو التواصل أو التفاهم رغم أن بعضهم يرفضون تقييد وظيفة اللغة بالتعبير او التواصل ؛ فالتواصل إحدى وظائفها إلا انه ليس الوظيفة الرئيسة .
(( وقد حاول " هاليداي " halliday تقديم حصر بأهم وظائف اللغة فتمخضت محاولاته عن الوظائف الآتية :
1. الوظيفة النفعية ( الوسيلية ) :ـ
وهذه الوظيفة هي التي يطلق عليها " أنا أريد " فاللغة تسمح لمستخدميها منذ طفولتهم المبكرة أن يشبعوا حاجاتهم وأن يعبروا عن رغباتهم ..
2. الوظيفة التنظيمية :ــ
وهي تعرف باسم وظيفة " افعل كذا .... ولا تفعل كذا " من خلال اللغة يستطيع الفرد ان يتحكم في سلوك الآخرين , لتنفيذ المطالب أو النهي و وكذا اللافتات التي نقرؤها وما تحمل من توجيهات وإرشادات ...
3. الوظيفة التفاعلية :
وهي وظيفة " أنا و أنت " تستخدم اللغة للتفاعل مع الآخرين في العالم الاجتماعي باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع الفكاك من أسر جماعته , فنستخدم اللغة في المناسبات , و الاحترام , و التأدب مع الآخرين .
4. الوظيفة الشخصية :
من خلال اللغة يستطيع الفرد أن يعبر عن رؤاه الفريدة , ومشاعره و اتجاهاته نحو موضوعات كثيرة , وبالتالي يثبت هويته وكيانه الشخصي ويقدم أفكاره للآخرين .
5. الوظيفة الاستكشافية :ـ
وهي التي تسمى الوظيفة " الاستفهامية " بمعنى انه يسأل عن الجوانب التي لا يعرفها في البيئة المحيطة به حتى يستكمل النقص عن هذه البيئة .
6. الوظيفة التخيلية :ــ
تتمثل فيما ينسجه من أشعار في قوالب لغوية ، كما يستخدمها الإنسان للترويح , أو لشحذ الهمة والتغلب على صعوبة العمل , وإضفاء روح الجماعة , كما هو الحال في الأغاني والأهازيج الشعبية ...
7. الوظيفة الإخبارية ( الإعلامية ) :ــ
باللغة يستطيع الفرد أن يتقل معلومات جديدة ومتنوعة إلى أقرانه , بل ينقل المعلومات والخبرات إلى الأجيال المتعاقبة , وإلى أجزاء متفرقة من الكرة الأرضية خصوصاً بعد الثورة التكنولوجية الهائلة . ويمكن أن تمتد هذه الوظيفة لتصبح وظيفة تأثيرية , اقناعية ؛ لحث الجمهور على الإقبال على سلعة معينة أو العدول على نمط سلوكي عير محبب .
8. الوظيفة الرمزية :ــ
يرى البعض ان ألفاظ اللغة تمثل رموزاً تشير إلى الموجودات في العالم الخارجي , وبالتالي فان اللغة تخدم كوظيفة رموزية . )) 7
واللغة كالكائن الحيّ ، فهي تنمو وتترعرع وتشب وتشيخ وقد تموت إذا لم تتوفر لها عوامل الديمومة والاستمرار , مرهونة في ذلك بتنوع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية فعندما يتطور المجتمع حضارياً وإنتاجيا تتطور اللغة والعكس ... فهي في الطور البدوي تختلف عنها في المدنية والحضارة ، وهي في أهل الصحراء خلافها في الجبال والسهول .
نشأة اللغة :-(4/132)
أما حول أصل نشأة اللغة وما يتصل بهذه النقطة من موضوعات فكرية لن نخرج منها بكثير فائدة بله أن تشتت أفكارنا فقد تصدى للبحث فيها كثير من الفلاسفة والمتكلمين واللغويين , وذهبوا في البحث مذاهب شتى : فهذا يقول مصدرها التوقيف من الله , وذلك يقول مبدؤها الطبيعة , وآخر يقول منشؤها الاصطلاح والتواطؤ ــ ويكفينا هنا أن نعلم أن هناك نظريات متعددة حول نشأة اللغة ، أشهرها أربع نظريات :
(1)/ نظرية التوقيف : قال بها أفلاطون وأبو علي الفارسي ، وابن حزم ، وابن قدامة , وأبو الحسن الأشعري , و الآمدي , وابن فارس ومعظم رجال الدين ، ويستدلون بقوله تعالى
: (( وعلّم آدم الأسماء كلها )) " البقرة /31". وبما جاء في سفر التكوين (( وجبل الربّ الإله كل حيوانات البرية ، وكل طيور السماء ، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها ، فكل ما دعا به آدم من ذات نفس حيّة فهو اسمها . فدعا آدم بأسماء جميع البهائم و طيور السماء ، وجميع حيوانات البرّيّة )) ، الإصحاح الثاني عشر آية (19/20).
(2)/ نظرية المواضعة والاصطلاح : قال بها سقراط ، وديمقريط ، وآدم سميث ، ومن العرب أبو الحسن البصري ، وأبو إسحاق الاسفراييني ، والسيوطي ، وابن خلدون .
(3)/ نظرية المحاكاة: تعني أن يحاكي الإنسان ما حوله في الطبيعة من الظواهر , وأول من أشار إلى ذلك ابن جني في الخصائص ثم قال: (( وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل 8 )) , ولكنه لم يستقر على هذا الرأي أيضاً بعد أن ناقش الرأيين السابقين , والأسلم ألا ننسب الرجل إلى مذهب بعينه من المذاهب الثلاثة .
(4)/ نظرية الغريزة : يريدون أن الله زوّد الإنسان بآلة الكلام ، وبجهاز للنطق ، فهو حتما سينطق شاء أم أبى .
والحديث في أصل نشأة اللغة ـــ على رأي حجة الإسلام الإمام الغزالي ـــ فضول لا أصل له وكأنه يدعو إلى الانصراف عنه إلى معالجة اللغة بوصفها حقيقة واقعية في وضعها الراهن , وهذا التوجه من الإمام الغزالي ينسجم تماماً مع توجه علم اللغة المعاصر الذي أخرج هذه القضية من نطاق مباحث علم اللغة ...
وبعد هذه التوطئة البسيطة عن ماهية اللغة ، ووظائفها . ننتقل إلى معنى لفظة ( العربية)
ما هي العربية :-
متى كانت العربية ؟؟ علم ذلك عند الله , ولكنه سبحانه لم يصادر حريتنا في أن نحاول معرفة أي شيء يمكن أن يبلغه قدراتنا بالقطع , أو بالحدس والتخمين . يقال إن العربية تنحدر من اللغة الآراميّة , وهي التي تكلم بها آرام بن سام بن نوح عليه السلام
واللغة العربية أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة. ونظراً لتمام القاموس العربي وكمال الصرف والنحو فإنها تعد أمّ مجموعة من اللغات تعرف باللغات الأعرابية أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب ، أو العربيات من حميرية وبابلية وآرامية وعبرية وحبشية وعلماء اللغة حديثاً يصنفون كل السلالات اللغوية والعودة بها إلى لغة ( أم ) أطلقوا عليها ((اللغة السامية )) و أول من أطلق هذه التسمية هو العالم النمساوي شولتزر عام 1781م وواضح أنها تسمية عنصرية اقتبسها من نص من نصوص التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار(العهد القديم) (الأصحاح 10 سفر التكوين) في ظل تقسيم وهمي للأجناس البشرية مستمد من أبناء نوح وهم : سام وحام و يافث , فكيف ينشأ ثلاثة أخوة في بيت واحد ويتكلمون ثلاث لغات ؟
أصبح يقينا لدى الباحثين المنصفين، أن وصفنا لحركة المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة العربية في القرن السابع بالفتح والفتوحات الإسلامية أصبح تعبيرا خاطئا, فهو لم يكن فتحا بل كان تحريرا للعرب من الحكم الأجنبي كهدف سياسي, وهو توحيد للعرب في الموقع المكاني بمعناه الجغرافي كهدف قومي, كما انه من الخطأ القول بأن العرب ساميون والصحيح هو القول ان الساميين عرب.
السامي والسامية والساميون، تعريف يطلق على التجمعات والكيانات البشرية التي تواجدت في فلسطين وغور الأردن وجنوب العراق وشبه الجزيرة العربية, باعتبار أن كل هذه المناطق، تشكل وحدة جغرافية واحدة, والمعروف أن الجميع جاؤوا من شبه الجزيرة العربية وبالتالي فقد ذهبوا إلى أطراف شبه الجزيرة العربية, في هجرات عدة متتالية, وقد استحالت لغة وألسنة هذه الأقوام إلى اللغة العربية واللغة العبرية واللغة السريانية, والسامية أيضا هي مصطلح يطلق على كل الشعوب والأمم والقبائل قديما وحديثا مرورا بالعصور الوسطى التي تنتسب إلى سام بن نوح, ومن المعروف ان التوراه أول من أشار بالنص إلى ذلك التقسيم كما سبق وأسلفنا.(4/133)
بعض العلماء نسب الصفة العربية إلى مدينة (عربة) في بلاد تهامة, وقيل أنها نسبة إلى يعرب بن يشجب بن قحطان وهو أبو العرب العاربة، أول من تكلم العربية على صورتها المعروفة وقيل أيضا أنهم سموا كذلك نسبة إلى فصاحة لسانهم في الإعراب , وقد وردت تسمية (( العربية منذ منتصف القرن التاسع قبل الميلاد , إذ وردت في نصوص شلمناصر الثالث الآشوري 9))... والأقوام الذين تكلموا العربية لا يحصي عددهم إلا الله : منهم العرب البائدة : وهم قبائل طسم ، وجديس ، والعماليق ، وأهل الحجر ، وقوم هود وصالح عليهما السلام وغيرهم. وهولاء لم يصل لنا شيء من أخبارهم لا من قريب ولا من بعيد ... وهناك العرب العاربة : وهم القحطانيون ومن ينحدر منهم .. وأخيرا العرب المستعربة وهم أبناء إسماعيل العدنانيون .
إن الموروث الكتابي العربي أعمق جذوراً مما يظن حتى الآن ، فلو أضفنا إليه موروث الكتابة العربية كما كتبها الأكاديون ( بابليون و آشوريون ) بالخط المسماري وما كتبه الكنعانيون على سواحل الشام ،، وكذلك مخطوطات أوغاريت ــ وتل العمارنة ــ ومخطوطات البحر الميت لاتصل تاريخ كتابة العربية ببضع آلاف قبل الميلاد 10.
وتأسيسا على ذلك فالعرب هم في شبه الجزيرة العربية التي تشتمل على جنوب العراق وجنوب الشام وفلسطين وشبه جزيرة سيناء , و العربية وليدة واقعها المعيش أخذ العرب ألفاظها من الطبيعة المحيطة بهم فجاءت مفعمة بالصور ومشحونة بالأحاسيس والمشاعر .
إن الشخصية العربية تقوم على تشابه أذواق العرب وملكاتهم ، وهذا التشابه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتراثنا الثقافي العريق , ويرتبط بعمالقة الشعر والأدب بخاصة الذين سجلوا مثلنا العليا 11,, ويرتبط باللغة العربية التي نعتز بالحديث بها .. ولهذا فإهمال الأدب القديم ـــ والاتجاه أكثر إلى الأدب الحديث يساعد من يروج للفصل بين الآداب القديمة (( حيث امتداد أخلاق الآباء والسلف)) وبين الآداب الحديثة ولسنا بحاجة إلى التأكيد على دور اللغة في بناء الأمة وصناعة وجدانها وتكوين هويتها وثقافتها وضمان تماسكها وتواصل أجيالها .
العربية لغة مقدّسة :-
العربية لغة القرآن الكريم ، وهو مهيمن على ما سواه من الكتب الأخرى , وهذا يقتضي أن تكون لغته مهيمنة على ما سواها من اللغات الأخرى . وهي لغة خاتم الأنبياء والمرسلين أرسله الله للبشرية جمعاء ، واختار الله له اللغة العربية ، وهذا يعني صلاحيتها لأن تكون لغة البشرية جمعاء ، ينبغي أن ندرك أبعاد هذه المسألة .
قال تعالى : (( إنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ))(الشعراء/193ــ 195) فلما وصفها الله بالبيان علم أن سائر اللغات قاصرة عنها ، وهذا وسام شرف وتاج كلل الله به مفرق العربية ، خصوصاً حين ناط الله بها كلامه المنزل ، قال تعالى :-(( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ))( الزخرف/ 3 ) وقال تعالى :- (( كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون )) " فصلت / 3" . وقال (( قرآناً عربياً غير ذي عوج )) ( الزمر/28) ومن هنا قال حافظ على لسان العربية :-
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به و عظات
فهو يشير إلى الطاقات الهائلة والمخزون الضخم الذي تمتلكه العربية التي وسعت هذا القرآن بكل أبعاده و آفاقه . إنها لغة الخلود حيث لا يمكن أن تزول عن الأرض إلا أن يزول هذا الكتاب المنزّل ،، وقد تكفل الله بحفظها ضمنياً في قوله : (( إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون )) " الحجر/9" .
ومن الطريف ما ذكره محمد الخضر حسين : (( كتب " جون فرن" قصة خيالية بناها على سياح يخترقون طبقات الكرة الأرضية حتى يصلوا أو يدنوا من وسطها ، ولما أرادوا العودة إلى ظاهر الأرض بدا لهم هنالك أن يتركوا أثراً يدل على مبلغ رحلتهم فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية ، ولما سئل جون فرن عن اختياره للغة العربية , قال انها : لغة المستقبل , ولاشك أنه يموت غيرها , وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه ) 12.
فضل تعلّم العربية :-(4/134)
يرى كثير من العلماء أن الكلام بغير العربية لغير حاجة قد يورث النفاق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فانه يورث النفاق )) (أخرجه الحاكم في المستدرك) ؛ فلا نعجب إذا علمنا أن من العلماء من أوجب تعلم العربية وإتقانها ، قال عمر بن الخطاب : (( تعلموا العربية فإنها من دينكم , وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم )) , وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يتكلم بغيرها , و قال ابن تيمية : (( إن اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ، لأن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يفهم إلا بالعربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب )), وقال ابن فارس : (( لذلك قلنا أن علم اللغة كالواجب على أهل العلم لئلا يحيدوا في تأليفهم أو فتياهم ))13 . وقال أبو هلال العسكري : (( فعلم العربية على ما تسمع من خاص ما يحتاج إليه الإنسان لجماله في دنياه ، وكمال آلته في علوم دينه )) وفي ما خلفه لنا علماء العربية دليل على فضلها , فما خلفه ابن جني الذي كان متمكناً من اليونانية لأنه رومي , وما خلفه أبو علي الفارسي الذي كان متمكناً من الفارسية مع أن الرومية والفارسية كانتا أزهى لغتين في زمانهما بعد العربية وكذلك كان شأن الكثير من سلف الأمة , حتى أثر عن أبي الريحان البيروني قوله : " لأن أشتم بالعربية خير من أن امدح بالفارسية " و قد قال الشعراء في مدح اللسان واللسن أبياتاً لا تحصى منثورة في كتب الأدب. كما ذكر محاسن العربية أيضاً رجال يعرفون غيرها من اللغات الراقية وشهدوا لها بأنها أقرب اللغات انطباقاً على النظم الطبعية قال المستشرق " أرنست رينان " في كتابه " تاريخ اللغات السامية" : (( من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية , وتصل إلى درجة الكمال عند أمة من الرحل,تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها ..)) وقال المطران يوسف داءود الموصلي : (( من خواص اللغة العربية وفضائلها أنها أقرب سائر اللغات إلى قواعد المنطق، حيث ان عباراتها سلسة طبيعية,يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها عما يريد من دون تصنع وتكلف )) 14.
هكذا فعل سلفنا الصالح في خدمتهم للغة القرآن أحبوها حباً عظيماً , ووهبوا لها نفوسهم , فنقحوها ووضعوا قواعدها وأصلوا نحوها وصرفها حتى بلغت درجة الكمال والصفاء ، أما نحن عرب عصر التكنولوجيا والاختراقات الفضائية و الثورة المعلوماتية فقد فشا فينا التخاذل والتكاسل والتقاعس فكنا كقول أحدهم : فخلف من بعد السلف خلف تنكروا للغتهم واحتقروها ، ونظروا إليها نظرة ازدراء و اتهموها بالعجز والقصور وعدم صلاحيتها للعصر .
واجبنا تجاه العربية :--
إن خدمتك للغة العربية تعني خدمتك للقرآن ولو من وجه بعيد . وإن السلف الصالح ما قصروا في خدمتها حيث جاهدوا بالجهد والمال والوقت لخدمة لغة القرآن ,, عكفوا على تعلمها لما لها من مكانة مقدسة في نفوسهم ,, غاروا عليها ، وغاروا على بيانها المعجز أن تدنسه عجمة الأعاجم ولوثة الإفرنج ... فقضوا سني حياتهم في تقعيدها وإشادة أركانها ورسم أوضاعها ...
ولعل أقل ما نعمل أن ننشر هذه الكتب المخطوطة التي تقبع في متاحف العالم وأن ننفض عنها غبار الزمن ، حيث أن هناك حوالي مليون مخطوطة عربية موزعة في كافة أرجاء العالم (( ففي تركيا 155أ لف مجلد / وروسيا 40 ألف مجلد / والعراق والمغرب 35ألف مجلد / وتونس 25ألف مجلد / وبريطانيا و سوريا 20 أ لف مجلد / والولايات المتحدة 15ألف مجلد / والهند والسعودية 15ألف مجلد / يوغسلافيا فيها 14 ألف مجلد / فرنسا 8500 مجلد / اليمن 10 ألف مجلد / ايطاليا والفاتيكان 7500مجلد . تضاف إلى هذا بلدان تحتفظ بما يقارب 7500 مجلد ليصل الرقم إلى ما يقارب مليون مخطوطة عربية ناجية ما تزال موزعة في أرجاء الكرة الأرضية . ))15 .
كذلك ينبغي إغناء المكتبة العامة بالمؤلفات التي تحث على كيفية تعلم العربية وتسهيل تعلمها للناطقين بها ولغير الناطقين بها , بالإضافة إلى استغلال الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة إلى أقصى حد ممكن لخدمة العربية .
إن من أكبر مصائب الأمة أن يكون تعليمها بغير لغتها , وتفكيرها بغير أدواتها , وقياس حاضرها يكون بمعايير وضوابط حضارية غريبة عنها ,, والحالة هذه من التخاذل والتكاسل والتبعيّة ، واجهت العربية مجموعة من التحديات والمصاعب وقفنا منها موقف المتفرج ، إن لم نكن شاركنا فيها من طرف خفي . وقد آن الأوان أن نفضح خطط الأعداء ونكشف عن نواياهم الخبيثة ونثبت للعالم أن هذه اللغة ثرية غنية باقية فنرعاها حق الرعاية ولا ندعها تتعرض للتقويض والانهيار والغزو اللغوي الشرس من الداخل والخارج ...
التحديات والمواجهات : ــ(4/135)
التحدي الأول :- اتهامها بالعقم والجمود والتحجّر والقصور ، وأنها لم تعد ملائمة لأساليب القرن الحادي والعشرين عصر الثورة المعلوماتية و الاختراقات الفضائية ، فكان منا من نظر إلى تخلف العرب العلمي في عصر الذرة فأعلن أنه لا يرى لهذا سبباً غير تمسك العرب بلغتهم في مراحل التعليم عامة والتعليم العالي منها خاصة , وآخر يلحّ في الدعوة إلى تدريس العلوم الطبية وغيرها بلغة غير عربية ؛ ليظل المسلم عنده إحساس بعجز اللغة العربية لغة القرآن .
المواجهة :ـــ
أولاً :- الكلمات في اللغة العربية لا تعيش فرادى منعزلات بل مجتمعات مشتركات كما يعيش العرب في أسر وقبائل. وللكلمة جسم وروح، ولها نسب تلتقي مع مثيلاتها في مادتها ومعناها , فخاصية الاشتقاق من أعظم ما امتازت به العربية , فبالاشتقاق عملت على زيادة موروثها اللفظي والمعنوي كلما تقدم الزمن ،،(( وهو ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومن ذلك قوله فيما صح عنه : " يقول الله :( أنا الرحمان خلقت الرحم , وشققت لها اسم ) والحديث في مسند الإمام أحمد ))16 ولنأخذ على سبيل المثال مادة (( كتب : كتب - كاتب - مكتوب - كتابة – كتاب ــ مكتبة ....)) : إننا نستخدم هذه الكلمة وعمرها أكثر من 1500عام ، مأخوذة من ( الكَتْب) بسكون التاء ، قال الجوهري : أصله في اللغة للسقاء ، تقول : كتب السقاء ، إذا خرّزه بسيرين ، فهي في معنى / الضم والجمع/ .. ومنه الكتيبة للجيش ، ثم انتقلت اللفظة إلى الكتابة . وإنما قلنا أن أصلها السقاء لأن العرب عرفت السقاء واحتاجت إليه في ترحالها في الصحاري واحتاجت إلى صلاحه قبل أن تعرف الكتابة ،، ولو عرفت ما للسقاء ( القربة ) من الأسماء لهزك العجب . إن خاصة الروابط الاشتقاقية في اللغة العربية تهدينا إلى معرفة كثير من مفاهيم العرب ونظراتهم إلى الوجود وعاداتهم القديمة، وتوحي بفكرة الجماعة وتعاونها وتضامنها في النفوس عن طريق اللغة.
ومن الطريف لمعرفة سعة هذه اللغة ما نقله (( صاحب " المزهر " عن حمزة الأصبهاني : أن الخليل ذكر عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل من غير تكرار وهي اثنا عشر مليون بناء وثلاثمائة وخمسة أبنية وأربعمائة و اثنا عشر ( 12305412 )) 17 و ما ذكره د/ محمد نعمان الدين الندوي في مجلة الأدب الإسلامي قال : (( عدد الألفاظ المستعملة من اللغة العربية خمسة ملايين وتسعة وتسعون ألفاً و أربعمائة لفظ [5,099,400]، من جملة ستة ملايين وستمائة وتسعة وتسعين ألفاً وأربعمائة لفظ [6,699,400] ، بينما نجد الفرنسية لا تحتوي إلا على خمسة وعشرين ألف كلمة(25000) ، والإنجليزية على مائة ألف كلمة(100000) فقط) 18. ويقول الألماني فريتاغ : (( اللغة العربية أغنى لغات العالم )) .
فانظر يا رعاك الله إلى هذا البحر الهائج قال حافظ :-
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
ثانياً :- اللغة العربية تتميز بثبات الأصول ومرونة الفروع ، وثبات أصول الألفاظ ومحافظتها على روابطها الاشتقاقية يقابل استمرار الشخصية العربية خلال العصور، فالحفاظ على الأصل واتصال الشخصية واستمرارها صفة يتصف بها العرب كما تتصف بها لغتهم، إذ تمكن الخاصة الاشتقاقية من تمييز الدخيل الغريب من الأصيل . (( وبهذه المرونة عولجت مسألة المصطلحات , وقد لاحظ ألفرد غيوم هذه الخصائص فعلق عليها بقوله " صلح اللسان العربي للتعبير عن العلاقات بإيجاز أكثر من اللغات الآرية لمرونته وقابليته الاشتقاقية الفائقة في الاسم والفعل ...)) 19 . فاللغات الأوربية تتغير معاجمها بين الحين والحين ولا يمر قرن واحد إلا ويصيبها تغيير أساسي في مفرداتها وقواعدها . بينما للعربية قدرتها الفائقة على استخدام أكثر من طريقة لتثبيت ألفاظ جديدة في قاموسها : كالقلب المكاني ، والنحت ، و التعريب .. وغيرها . ومن مرونتها كذلك ، الظواهر الصوتية من إبدال ، وإدغام , وإظهار , وإخفاء , وروم ، وإشمام , وأيضاً اسم المكان - الزمان - السببية - الحرفة - الأصوات - المشاركة - الآلة - التفضيل ... وغيرها , تلك المرونة التي أتاحت لها أن تغدو لغة الحضارة في القرون الوسطى . ويقول وليم ورك : (( إن للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر. ))
قال حافظ على لسان العربية :-
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به و عظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات(4/136)
ثالثاً :ــ وهي لغة المترادفات إذ يكثر أن يكون للمسمى الواحد أكثر من مفردة لغوية واحدة بل قد تصل إلى العشرات بل المئات ولا ننسى أن كثير من هذه المترادفات نشأ من تعدد اللغات , او من ملاحظة اختلاف دقيق في الأحوال والصفات ، قال ابن فارس في الصاحبي : (( فإن أردت أن سائر اللغات تبين إبانة العربية فهذا غلط، لأنا لو احتجنا أن نعبر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد وكذلك الأسد والفرس ...)) . وقد سمع أن معاني ( العين ) تنيف على المائة ، ومعاني ( العجوز ) تنيف على الثمانين ، ومعاني ( الكرم ) على الثلاثين ،، قال ابن خالويه : جمعت ( للأسد ) خمسمائة اسم ، و ( للحيّة ) مائتين . وذكر صاحب القاموس في مادة ( سيف ) أن للسيف أسماء تنيف على ألف اسم قال : وذكرتها في ( الروض المسوف ). فإذا رجعنا إلى معاجم المعاني وجدنا أموراً عجباً. فتحت المشي الذي هو المعنى العام أنواع عديدة من المشي :
درج , حبا , حجل , خطر , دلف , هدج , رسف , اختال , تبختر , تخلج , أهطع , هرول , تهادى , تأود... لقد ألف اللغويون العرب مؤلفات خاصة بإبراز الفروق بين الألفاظ مثل : الفروق لأبي هلال العسكري، وأدب الكاتب لابن قتيبة ، وفقه اللغة وأسرار العربية للثعالبي ، والمخصص لابن سيده الذي يقع في 17 جزءاً .
رابعاً :ــ علامات الإعراب التي تتميز بها العربية دون غيرها من اللغات الأخرى والتي يحاول أعداء الإسلام أن يطمسوها بدعوى( تبسيط النحو / صعوبة النحو ... الخ ) ولا تعدو أن تكون معولاً يحاول ان يصيب مقتلاً في كيان هذه الأمة , وهي محاولات هدامة تحاول إضعاف العربية كما قال ذلك الشيخ ( ابن باز ) . .
بينما تلزم الكثيرات من اللغات متكلميها بترتيب معين للكلمات يميز الوظائف النحوية فيها , ويضيع هذا التمييز اذا اختل هذا فالإنجليزية مثلا تتبع ترتيب ،، فاعل + فعل + مفعول ،، فإذا أردت أن تقول : أكل زيد طعاماً ، يجب أن تقول : زيد أكل طعاماً . ولا يجوز أن تقول : أكل زيد طعاما ,,, أما في اللغة العربية فأنت تقول : أكل زيد طعاما / وزيد أكل طعاماً / و أكل طعاماً زيد / وطعاماً أكل زيد / وطعاماً زيد أكل ، فتأمل هذا وتدبره . وفي معرض الحركات فإن جملة ( ما أحسن زيد ؟!.) يمكن أن تكون استفهاما وتعجبا وذمّا ؛ وذلك لوجود علامات الإعراب التي تلحق بأواخر الكلمات وتميز الفعل من الفاعل من المفعول ونظام الأعراب هذا يدل على المرونة التي تتميز بها اللغة العربية .
التحدي الثاني :ـ تلك الدعاوى الرامية إلى تفجير العربية وتحويلها إلى ركام من التراكيب والدلالات التي يعجز اللبيب عن إدراك مراميها فضلا عن المثقف العادي . وقد بلغ مداه وأقصاه في ما يسمون أنفسهم ( أهل الحداثة ), والحداثة أمرها محدث وشر الأمور المحدثات , لم يفكروا في حداثة تحافظ على خصوصيتنا وهويتنا وشريعتنا , وتوقف نزيف الكلمة الطيبة التي نحروها على نصب الغموض والرمز وعبث القول (( والحداثة العربية في جميع صورها إنما راجت لسببين أساسين هما:
1- جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف، و لُهاثهم خلف «العصرنة»!!
2 - الخلط بين الحداثة ـ وإن شئت فقل بين الهدم ـ والتجديد.
ولما ظهرت مدارس «اللامعقول» المتنوعة (السوريالية، العبثية، العدمية، الوجودية) كتب النقاد عنها باعتبارها أكبر انقلاب حداثي، وأسمى سارتر مجلته «العصور الحديثة»!!
وفي الستينيات زعمت البنيوية أنها الثورة الحداثية التي لم يشهد التاريخ لها من نظير.
ولكن نقيضها «التفكيكية» سرعان ما ظهر في أواخر العقد نفسه مدعياً الدعوى نفسها.
وفي أمريكا كانت موجة «الهيبيز» آخر صرعة في نظر مفكري ذلك العقد، والآن تلاشت وارتد كثيرون للأصولية الإنجيلية. )) 20 .
وكما أصابت شظايا تفجير اللغة الأدب الشعري فقد امتدت لتطال النثر وخصوصاً النقد : فالناقد يتحدث بأسلوب موغل في الغموض والتعمية وغير مفهوم وبلغة غريبة , سواء في ما ترجم من مؤلفات النقاد أو في كثير من الكتب النقدية , كل ذلك باسم الحداثة وتفجير اللغة .
المواجهة :ـــ إننا لا نرفض الشعر الحديث جملة وتفصيلاً ،، ولكننا أيضا لا نتركه يعبث في أدبنا ويهين مقدساتنا ويخبط فيه خبط عشواء .. لابد من وضع مفتاح نقدي وإطار ومعيار فني تنظم سير الشعر الحديث وتكشف عن جماله فيستمتع به القارىء . أن الحياة فرضت علينا لوناً ولغة جديدة ــ وهذا طبيعي ــ ولكن أريد أن افهم هذه اللغة وأمتع حاستي الفنية من أدبها .(( أما حسب المفهوم الحداثي فالطفل الصغير الذي يلغو بكلمات وتمتمات هائمة لا رابط بينها، والشعرور الذي يخبط في العروض والقوافي ويلفق التراكيب الهشة ويضع كلمة سطراً، وجملة سطراً آخر، وثلاث جمل سطراً، ثم يرجع من جديد حتى يسوِّد مساحة كبيرة من الورق بغثيان لا معنى له.. والنائم الذي يحلم ويهمهم بألفاظ لا نسق يجمعها.. والحشاش... و... ـ كل أولئك حداثيون 21 )) .(4/137)
فحينما ننظر لهذا الركام من حولنا , الذي انتفش , وأصبحت له مؤسسات تعني به وترّوج له , وتكرم الداعين المتسربلين برداء الحداثة حينما ننظر إلى كل هذا نستشعر مدى المسئولية الملقاة على عاتقنا لحفظ اللغة العربية , إنها مسئولية عقدية وأدبية ؛ لأن حماية العربية ــ وهي لغة القرآن ــ من هذا السيل الجارف من الركاكة والرطانة تصبح واجباً دينياً قبل أن يصل ببعض الملاحدة أن يتطاول على أسلوب القرآن المعجز وحلاوته وطلاوته فيتهمه بالدونية والقصور والإخفاق.
التحدي الثالث :- ما يروّج له أعداء الإسلام والعروبة الحاقدون من الدعوى إلى أن نستبدل بالفصحى اللهجات العامية واللغات المناطقية والإقليمية القومية الضيقة أو إحياء لغات قديمة ميتة , وكذلك الدعوة إلى اللاتينية بزعمهم أنها أكثر مرونة واختصارا في النطق .. وقد مشى تيار الهدم هذا في اتجاهين يكمل احدهما الآخر هما الاستشراق والاستغراب :ــ
الأول :- اتجاه المستشرقين الذين أوكلت لهم مهمة التدريس في الجامعات والمدارس فشغلوا مناصب عليا ، وتولوا مهام جسيمة ، وسيطروا على كراسي الدراسة .. فألفوا كتباً في الدين واللغة هي اكبر من علمهم نفثوا فيها سمومهم ودسوا فيها أفكارهم هذا من جهة ، ومن جهة ثانية أنهم غرسوا في الطلاب والكوادر هذه الأفكار فأشربت قلوب العديد من العرب ,, ومن جهة ثالثة
أنشأوا المدارس والجامعات التبشيرية والغربية في بلاد المسلمين وجعلوها أوكاراً لأغراض تجسسية خبيثة كالجامعة الأمريكية في بيروت التي كانت مركزاً للاستخبارات في فترة زمنية .
وقد وجدت تعريفات عديدة تحدد مفهوم الاستشراق وتحاول أن تعطيه أبعاده، و نوه الشيخ بسام عجك إلى أن تعريف الاستشراق مجملاً " هو دراسات وأبحاث قام بها غربيون .. تهدف إلى دراسة العالم الشرقي ولاسيما الإسلامي، ديناً وتاريخياً وحضارة وعادات وشعوباً، بهدف فهم حقيقة الإسلام، وقد نشأت منذ أكثر من ألف سنة في العالم الغربي، ومازالت موجودة حتى يومنا هذا، إلا أنها في الفترات الأخيرة بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في الظهور، باسم مستشارين اقتصاديين أو سياسيين أو لغويين يتبعون وزارات الخارجية والاقتصاد والمال والحربية في العالم الغربي، ومهمة هذه الدراسات فهم طبيعة العالم الإسلامي وتوجهات المسلمين، وذلك من أجل التعامل الغربي معهم".
بداية بلا نهاية :ــ
في فترة العصور الوسطى في أوربا ، و الممتدة من 476م ـــ 1600م ، حدث في الوطن العربي الإسلامي أمران مهمان :-
الأمر الأول : الحروب الصليبية الممتدة من ( 489هـ ــ 690هـ) اي ( 1096م ــ 1291م )
لمدة قرنين كاملين انتهت بالإخفاق ، واليأس من حرب السلاح ، ولكنها تركت في نفس الوقت بصيصاً من التنبّه والتيقظ بسبب احتكاكهم المستمر بحضارة راقية عير عادية .
الأمر الثاني :- وقعت الواقعة في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأول 857هـ / 29مايو1453م
سقطت القسطنطينية عاصمة المسيحية ، ودخلها محمد الفاتح بالتهليل والتكبير ، واهتز العالم الأوربي هزة عنيفة مليئة بالخزي وممزوجة بالحقد والكراهية والغضب . ومنذ ذلك اليوم ، بدأت أوربا تتغير إلى الأمام ، وبدأ العالم الإسلامي يتراجع إلى الوراء ، فكان أول تراجع نحصده هو سقوط الأندلس بعد أربعين عاما فقط من فتح القسطنطينية أي عام 1493م .. ومن يومئذ بدأ الرهبان وتلامذتهم معركة أخرى أقسى من معركة الحرب والسلاح ( معركة العلم والمعرفة ) 22 00
النهضة الموءودة 23:ــ
لقد فتن العالم الشرقي أوربا فتنة لا توصف ، وامتلأت قلوبهم رغبة في امتلاكه ،، وتنبه الملوك والرهبان و عقلاء الرجال إلى سؤال خطير : ما سرّ قوة هذه الحضارة ؟؟ فكان الجواب : إن سرّ قوتها هو في العلم ( علم الدنيا وعلم الآخرة ) .
في ظل هذه الغفلة المطبقة على دار الإسلام ، كانت هناك نهضة هادئة ، سليمة ، بطيئة ، يقوم بها كوكبة من العلماء الذين تنبهوا لضرورتها وأهميتها ، نذكر منهم على سبيل المثال : ــ
البغدادي عبدا لقادر بن عمر ( في مصر ) 1620م ـــ 1683م . صاحب ( خزانة الأدب )
الجبرتي الكبير حسن بن إبراهيم ( في مصر) 1698م ــ 1774م .
محمد بن عبد الوهاب ( في الجزيرة العربية) 1703م ـــ 1792م .
المرتضى الزبيدي ( في الهند ومصر ) 1732م ــ 1790م . صاحب( تاج العروس )
الشوكاني محمد بن علي ( في اليمن ) 1760/ ـــ 1834م .
هذه النهضة السليمة الهادئة لم يعرفها على حقيقتها غير ( المستشرقين ) فهبوا هبة الفزع ، وسارعوا ينقلون كل صغيرة وكبيرة ويضعونها تحت أبصار ملوك المسيحية الأوربية ورؤسائها ويبصرونهم بالعواقب الوخيمة المخوفة من هذه ( اليقظة ) الوليدة إن تمت .(4/138)
و الاستشراق جهاز خبيث جاء متخفياً في عباءة العلم والبحث ، ساح في دار الإسلام في تركيا ، وفي الشام ، ومصر ، وفي الهند ... وفي غفلة أهل دار الإسلام عن حقيقة هذه الأشباح الغربية التي تتجوّل في الطرقات وتسير في الشوارع في كل لباس ، في زى التاجر ، وفي زى السائح ، وفي زى الباحث المنقب ، وفي زى طالب العلم ، وفي زى المسلم البسيط .... الخ . فاكتسب هذا الجهاز مع تطاول السنين خبرة واسعة عن دار الإسلام ( الحصينة) وصاروا يستخرجون كل شيء عن دار الإسلام عن أحوال الخاصة والعامة ، والعلماء والجهلاء ، والملوك والسوقة ، والجيوش والرعية ، والقوة والضعف ، وتدسسوا حتى أخبار النساء في الخدور ، لم يتركوا شيئا إلا وفتشوه وعرفوه ,.. ومضت سنوات طويلة ، والتقارير ترفع إلى ملوك المسيحية بكل ما يعلمونه عن دار الإسلام ،، وما خبروه وشاهدوه عياناً عن الغفلة المطبقة على دار الإسلام .. فنشأ بفضلهم ( طبقة الساسة ) ، أو من سموا بعد ذلك ( رجال الاستعمار ) .. ... و أكدت التقارير الاستشراقية انه ليس للمسيحية خيار سوى العمل السريع والمحكم .. واهتبال الغفلة المحيطة بالمسلمين ،، فقد كان الفرق بيننا وبين ما وصلت إليه أوربا الآن هو خطوة واحدة لمن يصل إليها أولاً .
الاستعمار العسكري¯ ومساوئه :ــ
وفي أواخر القرن السابع عشر الميلادي كان أول من حرّض فرنسا على اختراق دار الإسلام في مصر هو الفيلسوف الألماني ( ليبنتز ) ت/ 1716م .... وفي عام 1/7/1798م تحرك نابليون بجيوشه لاحتلال مصر ،، الذي يسمونه الآن (( عصر النهضة )) وخلف هذا الاستعمار جملة من النتائج السلبية عادت على العرب والعربية منها على سبيل المثال لا الحصر:ـــ
1. سرق المستشرقون المصاحبون للحملة الفرنسية كل نفيس من الكتب ، وكانت القاهرة يومئذ من أغنى بلاد العالم بالكتب ودليل السرقة قائم وموجود في مكتبات أوربا 25، وكان همهم يوم ذاك هو السطو على كتب ( الحضارة ) أولا ، ثم ( التاريخ ) ثم كتب ( الأدب ) فكأن الحملة الفرنسية جاءت لتجريد دار الإسلام في القاهرة ممن أسباب اليقظة المادية المتمثلة في : الكتب ، والمراجع ، وتصفية العلماء ، وإعدام الطلبة .
2. تصفية البلد من رؤوس العلم , ومن طلبة العلم , لأنهم مصدر المقاومة والصحوة (( فقد فعل هذا السفاح ما لم يفعله جنكيز خان ، إذ كان له في كل يوم خمسة أشخاص يقتلهم في القاهرة وحدها ويطوف برؤوسهم في شوارع القاهرة ، وكان يأمر قواه أن يتشبهوا به ،،، ويرشده المستشرقون أن يختارهم من الطلبة النابهين ورثة علم ( الزبيدي ) و( الجبرتي) ليستأ صلوا جذور اليقظة )) .
3. ما كان للاستعمار الغربي بحقده الدفين وخبرته الواسعة .. أن يترك هذه اللغة التي يعرفها معرفة جيدة ويدرك آثارها الاجتماعية والسياسية (( ما كان له أن يدعها تنمو بإيقاعات سريعة تتساوق وإيقاعات النمو الحضاري العام , فأخذ يوجه إليها الضربة تلو الضربة , تارة بقرار سياسي .. وتارة بفتنة عمياء تثير الجدل وتعيق عن العمل .. وتارة باستعمال أبواق لا خلاق لها للترويج للغة مهجورة متخلفة أو للدعوة إلى عامية شائعة ...ففي مصر وجه اللورد كرومر ضربة قوية للعربية ؛ إذ جعل لغة التعليم الرسمي والعالي الإنكليزية ... وفي الجزائر أصدر الفرنسيون عام 1904م قانوناً يمنع أي معلم عربي أن يتعاطى مهنته إلا برخصة وضمن شروط محددة هي :ــ
1. اقتصار التعليم على حفظ القرآن لا غير .
2. عدم التعرض لتفسير الآيات التي تدعو إلى التحرر من الظلم والاستبداد .
5. استبعاد دراسة التاريخ العربي والإسلامي , والتاريخ المحلي وجغرافية القطر الجزائري والأقطار العربية الأخرى .
8. استبعاد دراسة الأدب العربي بجميع فنونه .
ويمكن أن نقول أن ما حدث في مصر والجزائر حدث مثله في سائر الأقطار العربية المستعمرة))26 حيث كان التعليم في البلاد العربية المحتلة يتم كله باللغات الأجنبية ( الإنجليزية في مصر والسودان والعراق ) والفرنسية في (سورية وتونس والجزائر والمغرب)، فقد كانت لحظة النفوذ الأجنبي ترمي إلى :
أولاً : تحويل أبجدية اللغات الإقليمية إلى اللاتينية وكانت تكتب أساساً بالحروف العربية ، كما حدث في إندونيسيا وبعض بلاد إفريقية وآسية .
ثانياً : تقديم اللغات الأجنبية في الأقطار الإسلامية على اللغة العربية .
ثالثاً : تقديم اللهجات واللغات المحلية وتشجيعها والدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية.
رابعاً : ابتعاث الطلاب إلى الغرب لدراسة لغاته، وكان ذلك إيماناً بأن اللغة هي الوجه الثاني للفكر، وأن من يجيد لغة لا بد أن يعجب بتاريخها وفكرها ويصير له انتماء من نوع ما إلى هذه الأمة .
4. محاربة العقيدة الإسلامية ؛ لأن الإسلام يرفض الاعتداء ويحث على محاربة المعتدي (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) .
5. مسك الاستعمار زمام الجانب الاقتصادي , والتعليمي بيده ؛ فكانت النتيجة " الفقر و الجهل و المرض " .(4/139)
حتى إذا انتهى عهد الاستعمار العسكري ــ أو في أثنائه ــ قام ( المستشرقون ) باستكمال بقية المخطط في السنوات التالية , فأخذ نمو العربية يتعثر هنا وهناك في الأقطار العربية كلها ولعل من المناسب هنا أن نذكر أشهر المستشرقين وأهمهم :ــ
لويس ماسينيون كان من أشد الدعاة إلى إحياء اللهجات المحلية وإحلالها محل الفصحى .
دلمور القاضي الإنجليزي , عاش في مصر وألف عام 1902م كتابا أسماه( لغة القاهرة ) .
ويليام ويلكوكس دعا عام 1926م إلى هجر العربية , وترجم الإنجيل إلى اللهجة المصرية يقول : (( إن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لدى المصريين هو استخدامهم اللغة العربية الفصحى في القراءة والكتابة )). وما يزال أحد الشوارع في حي (الزمالك) بالقاهرة يحمل اسمه .
دنلوب قسيس إنجليزي ومبشر خبيث وعات عين في 17 مارس 1897م سكرتيراً عاما لوزارة المعارف ، وكان أول ما فعله هو تفريغ الطلبة من ماضيها المتدفق المرتبط بالعربية ، وإثارة القومية الفرعونية البائدة ، فجعلهم في حيرة بين انتمائين : الثقافة العربية الإسلامية ، والانتماء إلى الفرعونية لغة الأجداد الكفار . وهذا الذي لا تزال تسير عليه مصر في فكرها ولبسها والإعلام المصري خير شاهد على ذلك .
ارنولد توينبي هاجم العربية ورآها لغة دينية لا تصلح إلا للطقوس الدينية فقط كالصلاة والدعاء شأنها شأن العبرية لغة الكتاب المقدّس .
سبيتا مستشرق ألماني دعا عام 1880م إلى العامية بدل الفصحى .
غلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق يقول: (( ما دام هذا القرآن موجوداً فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ، ولا ان تكون هي نفسها في أمان )) .
هاملتون جب يقول : (( إن الغرض من الجهود المبذولة لحمل المسلمين على الحضارة الغربية هو تفتيت حضارة الإسلام وتغيير خصائصها جذرياً عن طريق التعليم ، والإعلام ، والثقافة )).
كيمون مستشرق فرنسي له ( باثولوجيا الإسلام ) قال:ــ(( اعتقد أن من الواجب ابادة خمس المسلمين ، والحكم على الباقين بالأعمال الشاقة ، وتدمير الكعبة ، ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر )) .
جولد زيهر مستشرق يهودي مجري من أخطر المستشرقين وأشدهم هجوما ، وهو عضو بارز من محرري دائرة المعارف الإسلامية ، ولد 1850م وهلك عام 1921م ، درس في مدارس اللغات برلين ، ليبزج ، فينّا ، رحل إلى سوريا عام 1873م ، تتلمذ على يد الشيخ / طاهر الجزائري ، ثم رحل إلى مصر حنى نضلّع في العربية ، له دراسات في القران و الحديث وعلومه ، والفقه وأصوله , ، آراؤه عفنة ، وبحوثه مسمومة ، وهجومه عنيف على المقررات العلمية الثابتة .
يوسف شاخت أحد محرري دائرة المعارف الإسلامية ، له كتب في الفقه أشهرها ( أصول الفقه الإسلامي ) .
عطية سوريال مصري الوطن ، مسيحي العقيدة ، شديد الحقد على الإسلام . كان أستاذا بجامعة الإسكندرية .
فيليب حتي لبناني مسيحي ، كان أستاذا بقسم الدراسات الشرقية ، كبير الدهاء ، واسع الحيل والمكر ، يخفي حقده على الإسلام بالتظاهر بالدفاع عن القضايا العربية ، كان مشرفاً على الدراسات التي يقدمها الطلاب في التاريخ الإسلامي ، واللغات الشرقية .
اللورد كرومر له كتاب ( مصر الحديثة ) وكتاب ( لغة القاهرة ) , جعل لغة التعليم الرسمية هي الإنجليزية , وقد أشار حافظ إبراهيم إلى محاربة كرومر للعربية بقوله :ـ
قضيت على أم اللغات وإنها قضاء علينا أو سبيل إلى الردى
هوارد ويلس رئيس سابق للجامعة الأمريكية ببيروت بقول :ــ(( التعليم في جامعتنا ومدارسنا هو الطريق الصحيح لزلزلة عقائد المسلم ، وانتزاعه من قبضة الإسلام ))، ولقد وصل فعلاً خريجو الجامعة الأمريكية ممن غسلت أدمغتهم إلى المناصب القيادية في أكثر البلاد العربية .
ونحن لا ننكر دور المستشرقين في الدراسات الإسلامية ، ولكننا نرتاب في نواياهم !!!
وللحقيقة العلمية فان سؤالاً يفرض نفسه هو : هل من بين هؤلاء المستشرقين من اتصف بالموضوعية والإنصاف؟
(( وهنا تقول أستاذه التاريخ د. نجاح محمد في موضوعية الاستشراق: " لا نستطيع أن نقول إن الاستشراق موضوعي بمجمله، كذلك لا نستطيع أن نقول بأنه مغرض بمجمله أيضاً، فالاستشراق لنحكم عليه تماماً يفترض أن نضعه ضمن سياقه التاريخي، وعبر هذه الرؤية نجد أنه احتوى على ثلاثة تيارات، الأول هو استعماري مغرض، يرتبط ببحث الاستشراق الاستكشافي، وبما يريده الغرب المستعمر من الشرق، والمصالح المأمول الحصول عليها من الشرق، وقد دخل هذا الغرض الاستعماري في كل ما يتعلق بأمور الشرق ... اما التيار الثاني للاستشراق، وأصحابه ذوو الاتجاهات الموضوعية، وأصنفهم بين تيارين اثنين للاستشراق، الأول: هو التيار المعتدل التو فيقي الذي يوفق بين المصالح القومية، التي أصبحت مهيمنة لبلاده وبين الموضوعية العلمية.(4/140)
أما التيار الثاني: هو الموضوعي تماماً، فالحضارة الإنسانية ترتبط حتماً بالموضوعية، التي تستوجب العقل الحر القادر على إنتاج القيم والأحكام الحرة، غير المرتبطة بمصالح شخصية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية .. وهنا أخص بالذكر المستشرق الفرنسي بيير روسي في كتابه " مدينة ايزيس التاريخ الحقيقي للعرب" ، كما أخص بالذكر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة المختصة بالحضارة الإسلامية والتي قدمت كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب" رسمت فيه صورة رائعة عن الحضارة الإسلامية. ))27 ومنهم المؤرخ الشهير صاحب كتاب " تاريخ الدعوة إلى الإسلام" السير توماس آرنولد .... الخ .
الاتجاه الثاني :- تعرضت العربية لضربات قاصمة من الخارج شدت أزرها فتن محرقة من الداخل أوهت عزيمتها ومزقت جسدها من أولئك الأذناب من المستغربين الذين يفكرون بالإنجليزية أو الفرنسية ثم يترجمونه إلى اللغة العربية مثل طلبة المستشرقين ، وبعض الذين يوفدون للدراسة في الخارج وكل متعصبي نصارى العرب الذين نبتوا في تربة نصرانية على أصول غربية 0 منهم على سبيل المثال لا الحصر :ــ
رفاعة الطهطاوي : أرسل في بعثة محمد علي إلى فرنسا عام 1826م وكان في الخامسة والعشرين من عمره . (( ذكياً نعم ، نابهاً بين أقرانه نعم ، محبا للعلم نعم ، ولكنه مع ذلك في الخامسة والعشرين من العمر .. غريراً ، طري العود ، جاء من أقصى الصعيد حيث البؤس والضنك إلى قلب باريس بحدائقها وميادينها ومباهجها ... وتم تسليمه إلى أخطر مستشرق وأدهاهم ، انه البارون الفرنسي سلفستر دي ساسي ، فتنوه وجعلوه يشاهد أروع المحافل التي تتألق أنوارها ، فتتألق معها مفاتن النساء ،، انتزعوه من بؤس الصعيد وأزقتها المخربة وقضى في باريس (6) سنوات ، تعلم فيها الفرنسية ، ودرس التاريخ ، والجغرافيا ، والفلسفة والآداب الفرنسية ، وقرأ مؤلفات فولتير ، وجان جاك روسو ، ومونتسكيو ، وتعلم فن العسكرية , والرياضيات )) كيف يمكن لست سنوات أن تلم هذه العلوم التي شابت لها نواصي الرجال إلا أن (( تكون خطفاً كحسو الطائر ، وان يكون ما ألفه سطواً على كتب 0 حتى مدرسة الألسن التي أنشأها لم تكن من بنات عبقريته بل بإيعاز ممن درّبوه هناك .. وهذه المدرسة أحدثت صدعاً في ثقافة الأمة وقسمتها إلى شطرين ،، الأزهر في ناحية , و مدرسة الألسن في ناحية , والوظائف طبعا تكون للأخيرة حيث يدرس فيها المستشرقون )) 028
طه حسين :ــ ديكارتي المذهب ، علماني العقل والفكر ،عاش حياته كلها يحاول إقناع المسلمين والعرب بان لليهود فضلاً على أدبهم وتاريخهم وتراثهم . قال في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" : (( إن السبيل الى ذلك واحدة وهي ان نسير سير الأوربيين , ونسلك طريقهم ؛ لنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها حلوها ومرها )) ووصل به الولاء لمن تتلمذ عليهم أن يقول في صراحة أن مصر لم تكن قط جزءاً من الشرق وإنما كانت جزءا من حوض البحر المتوسط, وان روابطها الفكرية والروحية والثقافية كانت دائما مع أمم البحر الأبيض المتوسط وليست مع الشرق .... تتلمذ على يد المستشرق ( مرجيليوث ) وأشرف على رسالته ( في الشعر الجاهلي ) التي احدثت ضجة في الأوساط الأدبية , وشرخا في الثقافة الاسلامية ,, وقد ذكر الشيخ/ محمود محمد شاكر (( أن الدكتور طه ، قد رجع عن أقواله التي قالها في الشعر الجاهلي بما كتبه في جريدة الجهاد ، وبما صارحني به بعد ذلك ، وصارح به آخرين ، من رجوعه عن هذه الأقوال . ولكنه لم يكتب شيئا صريحاً يتبرأ به مما قال أو كتب . وهكذا عادة ( الأساتذة الكبار) يخطئون في العلن ويتبرأون من خطئهم في السرّ )) 29.. شكراً لك يا أبا كلود ـــ اسم فرنسي أطلقه على ابنه ـــ شكراً لك يا مؤلف " الخطوة الثانية وإن غضب الغاضبون " .
ولا تزال آثار السموم الفكرية التي زرعها الاستشراق والاستعمار تبرز على أقلام أتباعهم وأجرائهم المتعاطفين معهم حيث لا فائدة منها سوى الهاء الباحثين عن القضايا الهامة إلى الرد على هذا وتفنيد آراء ذاك . فكم من باحث شغل نفسه ووقته للرد على سعيد عقل مثلاً , أو على أنيس فريحة , او على سلامه موسى , أو على عبد العزيز فهمي وهذا الأخير شغل مجمع اللغة العربية بالقاهرة ثلاث سنين بمناقشات عقيمة حول الكتابة العربية بالحرف اللاتيني كان يمكن استثمارها في قضايا مصيرية مهمة تخدم الأمة واللغة والدين .
المواجهة
الفصحى والعامية تعايش سلمي قديم :
حقيقة كون اللغة واحدة ذات أساس ومرجعية تاريخية ثابتة أما اللهجات الموجودة في الواقع فهي نتيجة طبيعية للعزلة التاريخية والانقسامات الدينية التي رسخت الشرخ الطائفي بين أبناء الأمة الواحدة، واللهجات بشكل عام موجودة في معظم اللغات الحية وفي جميع أصقاع الأرض ولا تخلو لغة من لهجات عامية تختلف من بلد لآخر ويصل الاختلاف أحياناً إلى حد تعذر فهم لغة الشخص الآخر من نفس القومية كما هو الحال في اللغة العربية حيث نجد صعوبة بالغة في فهم اللهجة العربية للجزائري أو المغربي أو الموريتاني أو الصومالي.(4/141)
ففي كل لغة من لغات العالم الحية توجد لغة فصحى وتوجد لهجات عامية محكية ومهما اختلفت اللهجات بحسب المناطق والبلدان فإن المرجعية تكون للفصحى الأساس، ومهما دخلت الشوائب والكلمات الغريبة على اللهجات المحكية فإن الفصحى هي الحصن المنيع والمرجع الأخير لكل الطوائف من أبناء الشعب الواحد.
إن تجاهل كل هؤلاء المستشرقين والمستغربين لمسألة الازدواج اللغوي أي وجود العامية والفصحى في حقيقتها الراهنة في العالم المعاصر ة و إلصاقها بالعربية فقط هو صرف للقضية في غير مسارها الحقيقي ((فالازدواجية ظاهرة عامة لها أصولها ومقوماتها النفسية والاجتماعية وليست ذات صبغة مرضية كما يحاولون تصويرها إذا تكلموا عن العربية , وكأنها انفردت من بين لغات البشر بهذه الازدواجية . وعلى كل حال فان من المبالغة أن نتصور أن هناك ذلك البون الشاسع المتوهم بين عاميتنا وفصحانا خاصة بعد أن خطا التعليم بالناس خطوات واسعة نحو الفصيحة في سائر الدول العربية ... وما حدث تجاه مسألة الازدواجية من تهافت أدلة أولئك الشعوبيين حدث تجاه المسائل الأخرى التي باتت مفضوحة الارتباطات كالدعوة إلى الكتابة باللاتينية التي بلغت حداً من التهافت والسخف جعل أصحابها موضع تندر قبل أن يكونوا جديرين بالرد والنقاش ! ولكن هل انهزم أعداء العربية ؟؟؟ إنهم يعرفون أن هدم ذلك البناء الشامخ غير ممكن ولا ميسر لذلك فانه يكفيهم في كل مرحلة أن يخربوا بعض أطرافه ويقلعوا بعض أحجاره لعله يتاح لهم في المستقبل دك أعمدته وتخريب أساسه ..)) 30 .
لغة مختصرة موجزة : 31
والإيجاز في العربية على أنواع ، فمنها الإيجاز في الحرف، حيث تكتب الحركات في العربية عند اللبس فوق الحرف أو تحته بينما في اللغات الأجنبية تأخذ حجماً يساوي حجم الحرف أو يزيد عليه. وقد نحتاج في اللغة الأجنبية إلى حرفين مقابل حرف واحد في العربية لأداء صوت معين كالخاء (KH) مثلاً ولا نكتب من الحروف العربية إلا ما نحتاج إليه ... وفي العربية إشارة نسميها ( الشدة )، نضعها فوق الحرف لندل على أن الحرف مكرر أو مشدد، أي أنه في النطق حرفان، وبذلك نستغني عن كتابته مكرراً، على حين أن الحرف المكرر في النطق في اللغة الأجنبية مكرر أيضاً في الكتابة على نحو (flapper) و (recommendation) ... ونحن في العربية قد نستغني كذلك بالإدغام عن كتابة حروف بكاملها، وقد نلجأ إلى حذف حروف. فنقول ونكتب ( عَمَّ ) عوضاً عن ( عن ما ) و ( مِمَّ ) عوضاً عن ( من ما ) و (بِمَ) عوضاً عن ( بما ) ومثلها ( لِمَ ) عوضاً عن ( لِما ) .
الإيجاز في الكلمات :/ وبمقارنة كتابة بعض الكلمات بين العربية والفرنسية والإنكليزية نجد الفرق واضحاً :ــ
العربية وحروفها ... الفرنسية وحروفها ... الإنكليزية وحروفها
أم 2 ... mère 4 ... mother 6
أب 2 ... père 4 ... father 6
أخ 2 ... frère 5 ... brother 7
ومن الإيجاز حالي التثنية و الجمع :ــ
الباب البابان - البابين les deux portes the two doors
الباب البابان - البابين les deux portes the two doors
الإيجاز في التراكيب : والإيجاز أيضاً في التراكيب ، فالجملة والتركيب في العربية قائمان أصلاً على الدمج أو الإيجاز . ففي الإضافة يكفي أن تضيف الضمير إلى الكلمة وكأنه جزء منها :
كتابه son livre كتابهم leur livre
وأما في الإسناد فيكفي في العربية أن تذكر المسند والمسند إليه بلا رابطة ملفوظة أو مكتوبة، فنقول مثلاً ( أنا سعيد ) على حين أن ذلك لا يتحقق في اللغة الفرنسية أو الإنكليزية ، ولا بد لك فيهما مما يساعد على الربط فتقول :
( je suis heureux ) ، ( I am happy ) .
فمثلاً سورة ( الفاتحة ) المؤلفة في القرآن من 31 كلمة استغرقت ترجمتها إلى الإنكليزية 70 كلمة .
والنفي أسلوب في العربية يدل على الإيجاز :
العربية : ( لم أقابله ) ، الإنكليزية : ( I did not meet him )
الفرنسية : ( Je ne l’ai pas rencontré )
العربية : ( لن أقابله ) ، الإنكليزية : ( I will never meet him )
الفرنسية : ( Je ne le rencontrerai jamais )
وهكذا نرى أن العربية في عصرنا الراهن عاشت مرحلة صراع دام ضد القوى الخفية والظاهرة ومع ذلك فلا تزال تمارس وظيفتها السياسية والقومية في حفظ الوحدة اللغوية , كما تمارس وظيفتها في الحفاظ على الشخصية العربية والتاريخ العربي والإسلامي .
التحدي الرابع :ــ
الإعلام العربي واللغة العربية
والإعلام : هو التعبير الموضوعي عن عقلية الجماهير ، وروحها ، وميولها ، واتجاهاتها في نفس الوقت (( فهو أولاً وقبل كل شيء يعتبر من أهم مؤسسات التشكيل الثقافي , ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا : بأن جميع مصادر التشكيل الثقافي على تنوعها أصبحت بحوزة الإعلام 32))(4/142)
الاتصال الجماهيري تتسع رقعته يوماً بعد يوم ، فالسماء وما فيها من أقمار صناعية ، والأرض وما فيها من مستقبلات فضائية ، كل يخاطب كلاً ويتصل به (( وقد يكون ميدان الصراع الحضاري الحقيقي اليوم , قد تحول إلى الإعلام , وأصبح التمكن من امتلاك الشوكة الإعلامية , بكل لوازمها ومقتضياتها يضمن الغلبة الثقافية , التي تعتبر ركيزة التفوق الحضاري 33)) حيث ألغى الإعلام كل الحدود الجغرافية والسياسية للدول , فلم تعد الشرائح الاجتماعية تهتم عمّن تتلقى ،، يكفيها أنها تتلقى فحسب .. وهي تنتقل من فضائية إلى أخرى ومن قناة إلى أخرى دون أن تكترث ،، وإن استقرت فإنها تستقر على قناة تعرف لغتها ، لأن العائق اللغوي يلغي مشاهدة أكثر من 70% من المحطات .. والتلفاز هو الوسيلة التي تستهلك اكبر وقت من حياة المشاهدين ، والمذياع في المرتبة الثانية ، ثم الصحف وتليها المجلة .
فإذا افترضنا أن الشرائح الاجتماعية لا تعرف إلا اللغة العربية ، فهذا يعني أنها هي المرشحة للخطاب الإعلامي ، سواء أكانت الفصحى أم العربية الميسرة ( MSA ) . ولكل لغة مستويان على الأقل : المستوى الذي يخاطب الخاصة وهو لغة المثقفين والمتعلمين ، ومستوى حوار العامة في الأسواق والشارع .
هناك شبه إجماع بأن هناك قراراً سياسياً أو إداريا يوجه اعتماد العربية الفصحى لغة للإعلام .
وإدارات الإعلام الرسمية تخطط برامجها على أساس أن الجمهور يقع بين حدين : الأمية ـــ والثقافة ، وما بينهما من درجات ، فتخاطبه بالفصحى ، وباللغة الثالثة ، وبالعامية .
إن أعلى نسبة للفصحى في الإعلام نلاحظها في البرامج التي تعتمد الخطاب الرسمي : كنشرات الأخبار ، والتقارير ، المناسبات السياسية ، والمسلسلات الدينية ... وغيرها ، وأعلى نسبة للعامية نجدها في برامج الأطفال ، والأسرة ، والبرامج المنوعة والترفيهية ، والمسلسلات المعاصرة ، والأغاني بكل لهجاتها .
والتلفاز وسيلة ذات جمهور واسع ، تستغرق اكبر وقت من مشاهدة الناس ، وتجده في كل مكان . كما انه يقدم أنماطاً من السلوك الاجتماعي واللغوي تفتقر إليها وسائل الإعلام الأخرى ، و مما يدل على أهمية هذه الوسيلة الإعلامية ــ رغم أن الصحيفة لها قاعدة عريضة وتستطيع المنافسة إذا أحسن استخدامها وتوجيهها ــ أنه أحكم قبضته على الأسرة واحتل صدر المجالس في الدور بلا منازع ولا منافس وتربع فيها بشموخ منقطع النظير ، وتشير أحدث الإحصاءات أنه فيما بين 600-700 ساعة على الأقل من عمر الإنسان تضيع سنويا في مشاهدة التلفاز ، ويشكل الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدخول إلى المدرسة أوسع شريحة من مشاهدي التلفاز حيث تبلغ ساعات مشاهدتهم حوالي 22.9ساعة في المتوسط أسبوعيا بينما يمضى أطفال المجموعة العمرية من 6-11سنة حوالي 20.4ساعة مشاهدة أسبوعيا ، بل إن دراسات مسحية أخرى بينت أن هناك أوقات مشاهدة أطول تصل إلى 54ساعة أسبوعيا لمشاهدين لم يصلوا إلى السن المدرسية بعد. حيث حول الإعلام بامكاناته الهائلة غرف التعليم التقليدي , بسبوراتها وأقلامها ومقاعدها و وساتلها , إلى ما يشبه المعتقلات التي لا يصدق التلميذ متى يخرج منها ليقعد دون إحساس بالزمن إلى التلفزيون , أو الانترنت , أو الكمبيوتر .
ولذلك فليس بمستغرب أن نجد انتشار ظاهرة تراجع المستوى الدراسي لأطفال التلفاز فضلا عن تدنى قدراتهم العقلية والخبرات الخاصة نتيجة حرمانهم من ممارسة القراءة , يقول برونو بتلهايم: Bruno Bettelheim : التلفاز يأسر الخيال لكنه لا يحرره أما الكتاب الجيد فإنه ينبه الذهن ويحرره في الوقت ذاته ... فتصبح القراءة ممارسة سطحية ، ويرجع السبب إلى الانتباه المسترخي غير المركز ( السلبية العقلية ) المصاحب للمشاهدة التلفازية الذي يعوق نمو قدرة الأطفال على تفسير المادة اللفظية بطريقة ذات معنى مما يجعل عملية القراءة والتحصيل شاقة جدا وفي ذلك يقول واحد من أبرع كتاب أمريكا إ. ب. وايت E.B. White : لست أعرف حقا ماذا يمكننا أن نفعل من أجل القراءة فيما عدا إلقاء جميع أجهزة التلفاز بعيدا ..إننا في حاجة ملحة لأن نقف وقفة حاسمة تجاه التلفاز نحدد فيها ما يمكن أن نشاهده والقدر من الوقت الذي نستغرقه فإذا فشلنا في هذه الوقفة فعلينا أن نختار بين التلفاز أو أطفالنا .(4/143)
يبين أصحاب الخبرات الطويلة في البحث اللغوي أن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها إلى الطبيعة، هو " خلق بيئة فصيحة تنطق بها العربية " ، وان نستمع إليها ونطيل الاستماع ، ثم نحاول التحدث بها ونكثر المحاولات ... فتكمن خطورة طول فترات المشاهدة التلفازية في أنها لا تساعد الطفل على السير في النضوج الطبيعي والخروج من مرحلة التفكير غير اللفظي إلى مرحلة التفكير اللفظي والنمو اللغوي لديه لأن عملية المشاهدة تجربة غير لفظية بصرية لا تقوم بدور ملموس في نمو اللغة عند الطفل كما أنها تصرف الطفل عن مشاركة لغوية متبادلة مع الأفراد المحيطين ومن هنا يفقد الطفل مصدرا هاما للتنبيه اللفظي الذي يساعده في تنمية المراكز اللفظية في قشرة المخ لذلك كانت العلاقة بين مشاهدة التلفاز والنمو اللغوي عند الأطفال علاقة عكسية ، وفي أحدث الدراسات أظهر الأطفال الذين شاهدوا التلفاز بكثرة مستويات لغوية متدنية حيث فقدوا الساحة الأساسية لنمو اللغة عن طريق الحديث الواقعي والإصغاء . فهل يمكن لوسائل الإعلام أن تسهم في إيجاد هذه البيئة .
إننا بحاجة إلى ( تنمية الملكة اللغوية للمجتمع ) أي نقله من مستوى إلى مستوى أفضل ، ومن نمط بال إلى آخر متقدم ، ومن طريقة تعبيرية سوقية إلى أخرى رائعة , إذ ليس من اللائق التستر وراء الشعبية لتسويغ الإسفاف , أو لتسويغ القضاء على الشعب بالجهل الأبدي الذي يقصر إطلاعه على موضوعات لا تعلو بالقارئ عن طاقة الأمية من سقط المتاع , وليس من المقبول كذلك أن تبقى مشكلة الأمية مسوغاً لتدني مستوى لغة الخطاب الإعلامي ، لأننا اذا خاطبنا العامة بلغة الأميين نكون قد أسهمنا في زيادة نشر الأمية ، ولكن إذا خاطبناهم بلغة ارفع نكون قد أفدناهم من جهة ، ولان استمرارنا في ذلك سيجعلهم يتعلمون شيئا ما ، ويقومون باستخدامه في التعبير من جهة أخرى ،، لأن اللغة ضرب من السلوك قبل أن تكون علماً ومعرفة 00
ظواهر سلبية في الإعلام المرئي :ــ
Ok / bravo /
(1) فشو العامية على ألسنة بعض المذيعين ولا سيما في المقابلات والمحاورات ، رغم أن الصحافة المقروءة استطاعت حتى الآن أن تصون نفسها من الانزلاق في اللهجة الدارجة نوعا.
(2) بعض الألفاظ الأجنبية كثيرة الترداد على ألسنة المذيعين مثل: وهذا العيب قلما نجده في الصحافة المقروءة 0
Orbit / art / Lbc / mbc
(3) الإيغال في التفرنج واللهث وراء كل ما يصدر عن الغرب حتى في أسماء القنوات الفضائية من مثل .... والسؤال الذي يفرض نفسه : مادام مضمون برامج التلفزة والإذاعة عربياً وباللغة العربية ، فما المسوغ لهذه الأسماء الأجنبية 0 إن الأجانب بطبيعة الحال لا يلتفتون إلى إذاعاتنا وبرامجنا ، ولا تعنيهم في شيء ، بل لا تحظى بأي قدر من الاهتمام لديهم ، ولا تلامس مشاكلهم ، وبينهم وبينها حاجز اللغة الأصم المنيع .
(4) إن المعول عليه الآن عند توظيف المذيع أن يكون ( فتاة ) يراعى في انتقائها أن تكون حسناء ، يافعة ، رشيقة القد ، مليحة الوجه ، أثيثة الشعر ..... أما ماعدا ذلك من إتقانها اللغة العربية وتجويد أدائها ، وحسن نطق مخارج الحروف .. فهذا أمر لا لزوم للتشديد فيه ، وربما لا يؤبه له . يكفي أن تكون سليمة من عيوب النطق وحبسة اللسان وما عليها في نهاية الأمر ألا أن ترسم ابتسامة على ثغرها 0
(5) ضحالة الأسلوب وضعف الزاد اللغوي لدى المذيعين غالباً ، وسبب ذلك قصور إطلاعهم على أساليب البلغاء وكلام الفصحاء .
(6) لغة الإعلانات :- غلبت الركاكة على اللغة الإعلانية وكثرت فيها الأخطاء والابتذال ، سواء في الصحف أو في التلفاز والإذاعة .. تراها منتشرة في كل مكان ، واللافتات منصوبة على جوانب الطرق ، وفي المحلات التجارية ، والمتاجر عباراتها سوقية عبارات هجينة ، مسفة ..
المواجهة :ـ
(( لذلك لابد أن نجيب في العملية الإعلامية عن السؤال الكبير: " لماذا ؟ " فنجدد نوايانا ونوضح أهدافنا من العمل الإعلامي .. ثم نصل إلى السؤال : " كيف ؟ " فنضع الخطط والبرامج ونحدد الوسائل والأدوات في ضوء امكاناتنا والواقع الذي نتعامل معه , ومن ثم تحديد الإجابة عن : " متى ؟ " وذلك لاختيار الزمن المناسب لأداء العمل )) 34
حلول ومقترحات :ـ
(1)/ أن تستخدم وسائل الإعلام في توعيتها الكلمات الفصحى ، والعبارات سليمة التراكيب التي تجمع بين البساطة في التعبير ،، واحترام قواعد اللغة .
(2)/ قيام وسائل الإعلام بالتوعية المستمرة في حثّ الجماهير على النطق بالعربية الفصحى .
(3)/ ضرورة وجود دائرة من المراجعين المدققين اللغويين ذوي الكفاءة يتتبعون النشرات والتقارير والبرامج الأخرى .
(4)/ تقديم جوائز تشجيعية لكل من يخرج عملاً إعلاميا من لقاء أو مسرحيات أو أغان أو مسلسلات بلغة فصحى مبسطة للجماهير في كل قطر .
(5)/ يجب تقديم دروس تقوية للعاملين بالإعلام ، يكون حضورها إلزامياً في مسائل العربية ونحوها وصرفها .
(6)/ إقامة ندوات لغوية ونحوية للإعلاميين ، وإلقاء محاضرات بين الحين والأخر ، تناقش فيها مختلف القضايا اللغوية والنحوية المتعلقة بوسائل الإعلام .(4/144)
(7)/ إصدار نشرة بأهم الأغلاط الملحوظة ، مع تصويبها وتعميمها على العاملين ليتم تلافيها .
(8)/ عدم قبول أي كادر إعلامي إلا بنجاحه في مادة اللغة العربية ، لأن هذا سيدفعهم للقراءة والمتابعة وتطوير قدراته اللغوية .
(9)/ أن يكون اختيار المذيعين قائماً على جودة اللغة العربية ، وإتقانهم لها ، فكراً وثقافة ، وكتابة موهوبة .
(10)/ زيادة الوقت المخصص للبرامج التثقيفية في اللغة العربية والعمل على رفع مستواها .
(11)/ تعميم لغة مشتركة تقرّب بين اللهجات ثم تلغيها بمرور الوقت .
(12)/ الربط بين الإعلام وأجهزته وبين خطط التعليم والمناهج المدرسية .
(13)/ عرض ترجمات الأفلام والبرامج الأجنبية على المراجعين المدققين اللغويين قبل تسجيلها ، على أن يكون هذا شرطاً لشرائها أو مبادلتها .
(14)/ يفترض في الإعلانات التجارية أن تكون بلغة سليمة ناصعة ، آو على الأقل بلغة وسط بين العامية والفصحى .
(15)/ ينبغي عدم إدخال ألفاظ أجنبية على العربية في لغة الإعلانات ، لأن فيه إهانة لها ، وإنما يتم الترجمة أو التعريب حتى لا يؤدي هذا إلى ازدواجية لغوية .
(16)/ يجب أن تستثمر وسائل الإعلام الدعايات الإعلانية بإلزامها بلغة عربية فصيحة معاصرة ....لأن تأثير الدعاية الإعلانية في الأطفال سريع جداً 0
والله الموفق لما فيه خدمة الإسلام
الأستاذ/ سالم مبارك الفلق
اليمن / حضرموت
alfalagg@yahoo.com
كان الفراغ منه في ليلة 27 رمضان 1425هـ
يوافق : 10 / نوفمبر تشرين
================
الشروط الموجبة لإقامة حد السرقة
إعداد
علي بن عبدالعزيز الراجحي
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله .
قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)( سورة آل عمران آية 102 )
وقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ( سورة النساء آية 1)
وقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ( سورة الأحزاب آية 71،70)
أما بعد :فإن أصدق الحديث كتاب الله جل وعلا، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى قد شرع العقوبات لحكم عظيمة وعبرة كبيرة .
ومن تلك العقوبات التي شرعها الله عز وجل عقوبة السرقة حيث بين سبحانه وتعالى بقوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ( سورة المائدة آية 38)
وقد بين الفقهاء رحمهم الله تعالى الشروط التي إذا توفرت في المسروق أقامه حد السرقة على السارق .
وهذا البحث حول (الشروط الموجبة لحد السرقة)
خطة البحث
فقد قمت بتقسيم البحث على مقدمة وبابين وقائمة للمراجع وفهرس للموضوعات
المقدمة
الباب الأول:ويشمل فصلين:
الفصل الأول: تعريف السرقة لغةً واصطلاحاً .
الفصل الثاني : حكم السرقة وحكمته .
الباب الثاني: ويشمل أربعة فصول :
الفصل الأول: الشروط المتعلقة بالسارق .
الفصل الثاني: الشروط المتعلقة بالمسروق منه.
الفصل الثالث: الشروط المتعلقة بالمال المسروق .
الفصل الرابع: الشروط المتعلقة بفعل السرقة .
قائمة المراجع
وفي الختام : أسأل الله أن يسدد أعمالنا ، ويغفر زلاتنا وتقصيرنا ، وأن ينفع بهذا البحث ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الباب الأول
ويشمل فصلين:
الفصل الأول: تعريف السرقة لغةً واصطلاحاً .
السرقة في اللغة:
يُقال : سرق منه الشيء يسرِق سَرقاً وسَرقة وسرْقاً واسْتَرقَه جاء مستتراً إلى حرز فأخذ مالاً لغيره . وسرق الشيء أخذه منه خفية وبحيلة ( ترتيب القاموس المحيط ج 2 ص 513)
وجاء في مختار الصحاح ( مختار الصحاح ص 296)
: سرق منه مالاً يسرِق بالكسر سرقاً بفتحتين . والاسم السَرِق والسرقة بكسر الراء فيهما ،وربما قالوا سرقة مالاً وسرقة تسريقاً نسبه إلى السرقة وقرىء ( إن ابنك سُرق)( سورة يوسف آية 81 )
ويقول ابن منظور : إن هذه المادة في كلام الله تعالى وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على الاستتار والاستخفاء . ومن ذلك قوله تعالى (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ )( سورة يوسف من الآية 81). أي أخذ شيئاً خفية .
ومنه قوله تعالى (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) ( سورة الحجر آية 18)
أي سمع خفية( لسان العرب ج 10 ص 155)وعلى هذا يتبين مما تقدم :(4/145)
أن السرقة في اصطلاح اللغويين: هي أخذ الشيء من الغير على وجه الخفية والاستمرار .
تعريف السرقة اصطلاحاً عند الفقهاء:
إن المتتبع لتعريف الفقهاء للسرقة على اختلاف مذاهبهم يجد أنها جميعاً قد راعت المعنى اللغوي للسرقة . وهذا ما سنبينه فيما يلي :
عرفتها الحنفية :
بأنها أخذ مكلف نصاب القطع خفية مما لا يتسارع إليه الفساد من المال المتمول للغير من حرز بلا شبهة (ابن عابدين ج 3 ص 265، حاشية سعد حلبي بهامش فتح القدير ج 5 ص354)
وعرفها المالكية :
بأنها أخذ مكلف حراً لا يعقل لصغره ، أو مالاً محترماً لغيره نصاباً أخذه من حرزه بقصد واحد خفية لا شبهة له فيه (الخرشي على خليل ج 5 ص333 ، بداية المجتهد ج 2 ص 408 )
وعرفها الشافعية :
بأنها أخذ المال خفية ظلماً من حرز مثله بشروط ( مغني المحتاج ج 4 ص158، حاشية قليوبي ج 4 ص186)
وعرفها الحنابلة :
بأنها أخذ مال محترم وإخراجه من حرز مثله لا شبهة له فيه على وجه الاختفاء ( كشاف القناع ج 4 ص 77)
وعرفها الظاهرية :
بأنها الاختفاء بأخذ شيء ليس له ( المحلى ج 11 ص395 )
وأنه بالتأمل في هذه التعريف المتقدمة : نرى أن هناك قدراً متفقاً عليه عند الفقهاء جميعاً
وهذا القدر هو قولهم ( بأن السرقة أخذ الشيء من الغير خفية بغير حق )
الفصل الثاني : حكم السرقة وحكمته .
حكم السرقة :المراد بحكم السرقة هنا هو الحكم التكليف إذا أن لها حكمين :
1ـ حكم تكليفي وهو التحريم .
2ـ حكم وضعي : وهو كون السرقة سبباً في وجوب القطع والضمان .
والكلام حول الحكم التكليفي وهو التحريم : وذلك أنها محرمة شرعاً وهي كبيرة من كبائر ، لعن فاعلها وحُدَ، ولقد دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريمها :
أما الدليل من القرآن الكريم قوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ( سورة المائدة آية 38)
فهذه الآية الكريمة تأمرنا ، والأمر صادر من الله سبحانه وتعالى بان نقطع يد السارق . والأصل في الأمر الوجوب ما لم تكن هناك قرينة صارفة إلى غير الوجوب ، ولا قرينة هنا صارفة . فالواجب بهذه الآية قطع يد السارق. فيكون أمره سبحانه وتعالى بقطع يد السارق ووصف هذه العقوبة بالشدة ووسمها بالنكال دليل على فظاعة الجرم وعظم الذنب ، ومثل هذا العقاب لا يكون إلا على فعل محرم . فتكون السرقة محرمة في الكتاب العزيز . وأما دليل تحريمها من السنة النبوية فمنها:
1ـ ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده )( صحيح البخاري ج 6 ص2489 )
. وجه الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد لعن السارق . واللعن لا يكون إلا على الفعل المحرم خاصة
2ـ ما رواته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً) ( صحيح مسلم ج 3 ص1312)
. وجه الدلالة من هذا الحديث أن السارق تقطع يده بشروط منها بلوغ النصاب في المسروق .
3ـ ما رواه ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل لا مريء من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ) ( المستدرك على الصحيحين ج1ص171)
ففي هذا الحديث الدلالة على حرمة مال المسلم إلا ما طابت به نفسه ،والسرقة أخذ مال الغير من غير طيب نفس منه فتكون محرمة .
وأما الإجماع : فقد أجمع الفقهاء من عصر الرسول عليه الصلاة والسلام حتى وقتنا هذا على حرمة السرقة ، كما أجمعوا على قطع يد السارق إذا تحققت سرقته بالكيفية والشروط التي يستحق معها أن يقطع ( الإجماع لابن المنذر ص 110 ، مراتب الإجماع لابن حزم ص 135)
الحكمة من تحريم السرقة
مما لاشك فيه أن ذوي الجد والاجتهاد في العمل إذا ما نظروا إلى أموالهم التي حصلوا عليها بكسبهم الحلال محفوظة ومصانة من عبث العابثين وطمع الطامعين ، ولا تمتد إليها يد البطالة والأغراض الدنيئة ، وأنهم وحدهم هم المنتفعون بها، واصلوا كفاحهم وكدهم وجدهم ، وضاعفوا من إنتاجهم ، ودأبوا على استثمارها وإنمائها .أما لو كانت يد الغير مطلقة في أموالهم دون مؤاخذة وعقاب فإن ذلك يؤدي إلى وهن المجتمع لتقاعس أفراده ، وانتشار بذور العداوة والبغضاء بينهم ، لأن النفس البشرية طبعت بحب المال والاستتار به قال تعالى (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً)( سورة الفجر آية20)
فلذا كانت السرقة جريمة منكرة وكبيرة من الكبائر التي تتنافي مع المروءة والأخلاق الفاضلة . ولهذا لعن الله سبحانه وتعالى فاعلها، فقد جاء في الحديث الصحيح حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) ( صحيح البخاري ج 6 ص2489)
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن )( صحيح البخاري ج 6ص2497 ، صحيح مسلم ج 1ص76 )(4/146)
وكذلك حرم الإسلام السرقة لأنها من الفساد في الأرض قال سبحانه تعالى (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) ( سورة البقرة آية 205 )
وجعل حدها القطع محافظة على أموال الناس من الضياع ومانعاً لأصحاب الأطماع من أخذ مال الغير بغير حق ، وزاجراً لكل معتد أثيم تسول له نفسه أن يمد يده إلى ما ليس من حقه إلا برضى صاحبه وعن طيب نفس .
و إن النصوص القرآنية الكثيرة تدل على أن الفساد ممنوع بحكم الشرع ، وقد وضعت الشريعة الأحكام المنظمة لذلك والعقوبات الحامية لهذه الأحكام
الباب الثاني
ويشمل أربعة فصول : الفصل الأول: الشروط المتعلقة بالسارق
لقد اشتراط الفقهاء شروطاً معينة في السارق ، بعضها اتفقوا عليه ، والبعض الآخر اختلفوا فيه وذلك على النحو الآتي 0
1ـ الشرط الأول:ـ شرط التكليف:أي أن يكون السارق بالغا عاقلاً . وهذا الشريط أجمع عليه الفقهاء،فالصغير والمجنون ليسا أهلا للعقوبة.واستدل الفقهاء على ذلك : بما رواه أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ،وعن الطفل حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يبرأ أو يعقل ) ( مسند أحمد 6/101)
وجه الدلالة من الحديث أن الرسول أخبر أن القلم مرفوع عن الصبي والمجنون ، وفي قطعهما إجراء للحد عليهما ، وهو مخالف للنص لتنافي ذلك مع ما ورد من أنهما غير مكلفين ،فوجب أن يكون السارق مكلفاً ، والذكر والأنثى في ذلك سواء ، لعموم قوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ( سورة المائدة آية 38 )
2ـ الشرط الثاني:ـ أن يكون السارق مختارا في الفعل :أي غير مكره على إتيانه .
وهذا الشرط أختلف الفقهاء فيه على قولين :
القول الأول :جمهور الفقهاء ( شرح فتح القدير ج 5 ص355، حاشية الدسوقي ج 4 ص 404 ،الإقناع في الفقه الشافعي ج 2 ص235، المغني ج 10 ص288 )
. فذهبوا إلى أنّ عدم الإكراه على السرقة شرط لابد منه في السارق لتستوفي العقوبة شروطها ,فلا يقطع المكره على السرقة عندهم , لأنه كالآلة في يد المكره . واستدلوا على ذلك :بما روي ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ( المستدرك على الصحيحين ج21ص216 )
ووجه استدلالهم من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنّ الشخص الذي يفعل شيئا منهيا عنه شرعا في حالة الإكراه لا إثم عليه , ومتى انتفى الإثم عنه فلا عقوبة , والقطع عقوبة فلا يجري على المكره على السرقة , وإنما ينفذ على من أقدم عليها مختاراً .
القول الثاني :ذهب الظاهرية إلى عدم اشتراط ذلك . فالاختيار ليس بشرط عندهم , فلو أكره مكلف على السرقة قطعت يده . قال ابن حزم: والإكراه على الفعل إن كانت لا تبيحه الضرورة – كالقتل والجراح والضرب وإفساد المال – فهذا لا يبيحه الإكراه . فمن اكره على شيء من ذلك لزمه القود والضمان لأنه محرم عليه إتيانه (المحلى ج 9 ص 259 )
الترجيح: هذا وأرجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من اشتراط الاختيار , لأن الإكراه ينفي الاختيار فهما لا يلتقيان أبدً لأن المكره يكون كالآلة في يد المكره , وهذا ما أفاده حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) ( المستدرك على الصحيحين ج 21ص216 )
3ـ الشرط الثالث: أن يكون السارق حراً : أختلف الفقهاء في هذا الشرط على قولين :
القول الأول : وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم اشتراط الحرية في القطع ( شرح القدير ج 5 ص360، حاشية الدسوقي ج 4 ص433، الإقناع في الفقه الشافعي ج 2 ص132، المغني ج 10 ص274 )
وقد استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بالكتاب وعمل الصحابة والمعقول :
فأما الكتاب: فاستدلوا بعموم قوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ( سورة المائدة آية 38)
وجه الدلالة إنّ الله تعالى أوجب قطع السارق من غير تفريق بين حرّ و رقيق ,ذلك أنّ الآية وردت بصيغة العموم , ولم يرد في كتاب ولا سنة ما يخصص هذا العموم , بل ثبت ما يؤيده من عمل بعض الصحابة فيبقى القطع على عمومه .
وأما عمل الصحابة : فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه أتي برقيق لحاطب ابن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها ,فأمر كثيّر بن الصلت أن تقطع أيديهم ,ثم قال عمر: والله إني أراك تجيعهم ولكن لأغرمنك غرماً يشق عليك،ثم قال للمزني كم ثمن ناقتك قال:أربعمائة درهم .قال عمر:أعطه ثمانمائة درهم وكذلك روي أن عبداً أقر بالسرقة عند علي رضي الله عنه فقطعه ( المغني ج10 ص 275)
ووجه الاستدلال بهذا الأثر أنّ كثير بن الصلت قطع أيدي الرقيق في السرقة , وعلم بذلك عمر،ولم ينكر عليه ذلك , كما أن علياً قطع يد العبد الذي أقر عنده بالسرقة , فكان هذا دليلاً على قطع يد العبد إذا سرق , كالحر تماماً . قال ابن قدامة: هذه قصص انتشرت في زمن الصحابة , ولم تنكر فتكون إجماعاً ( المغني ج 10 ص275 )(4/147)
* وأما المعقول: فقالوا إنّه من المتفق عليه: أن حد السرقة يجب توقيعه عند ثبوت موجبه ,حماية للأموال وحفاظاً لها , ولو ما قيل بأن العبد السارق لا تقطع يده لا تنفت هذه القاعدة, ولأدى ذلك إلى ضياع أموال الناس ( فتح القدير ج 5ص360)
القول الثاني : ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنه إلى اشتراط الحرية لإقامة الحد على السارق . فحكي عنه أنّه قال: لا قطع على الرقيق ذكرً كان أو أنثى ( المغني ج 10 ص 274 )
وقد استدل ابن عباس على ما ذهب إليه من اشتراط الحرية بما يلي:
1ـ قياس القطع في السرقة على الرجم في الزنا , بجامع أن كلا منهما حد لا يمكن تصنيفه , فكما أنه لا يجب رجم الرقيق المحصن إذا زنى , كذلك لا يجب قطعه إذا سرق
2ـ إن الرق منقص للنعمة , فيترتب عليه إنقاص العقوبة , لأن الجناية عند توافر النعم أفحش مما يستلزم تغليظ العقوبة . يقول تعالى: (يا نساء النبي من يأتي منكم بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين) (سورة الأحزاب آية 30)
.فلو قيل بإقامة الحد على العبد في السرقة لتساوى مع الحر في ذلك , وهو مالا يجوز لما تقدم .
وقد أجاب جمهور الفقهاء على ما استدل به ابن عباس بما يلي:
1ـ نمنع أن العلة هي إمكان التنصيف , لجواز أن يكون ذلك مع وجود ما يقوم مقام الرجم في دفع مفسدة الزنا , وهو الجلد, بخلاف السرقة .فإنه تعالى لم يجعل لها إلا حداً واحداً , وهو القطع . فلما استحال تصنيف الرجم بالنسبة للعبد المحصن الزاني ,كان الجلد .أما القطع فقد دفعت الضرورة إلى تكميله بسبب استحالة تصنيفه , ولا بديل له , فيكون قياس حد القطع على حد الزنا غير صحيح ( شرح العناية على الهداية ج 5ص360)
2ـ إنّ الضرورة تدفع إلى إقامة حد السرقة على العبد , وتساويه مع الحر في ذلك, لأن إسقاط الحد على الرقيق تعطيل له,وإهدار للمحافظة على الأموال والتي هي إحدى الضروريات التي تحافظ عليها الشريعة الإسلامية( المغني ج 10ص275 )
الترجيح : و إنّي أرجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم اشتراط الحرية وذلك :
لقوة أدلتهم , ومناقشتهم حجة الفريق الثاني , وردّهم لها , ولأن ذلك يؤدي إلى سد الذرائع ودرء المفاسد , لما فيه من حماية للأموال وصيانة لها من الضياع , ذلك أن القطع لو لم يشرع عقوبة للأرقاء على اعتدائهم بالسرقة على أموال الغير , لكانت مهددة بخطر اعتدائهم عليها , فلم تحصل الحكمة المقصودة من شريعة القطع حداً في السرقة .
4ـ الشرط الرابع: الالتزام بأحكام الإسلام : يشترط في السارق حتى توقع عليه عقوبة القطع أن يكون ملتزما لأحكام الإسلام , لأنه لا ولاية للإمام على غير الملتزم للأحكام .لذا أجمع الفقهاء على أن المسلم والذمي يقام عليهما حد السرقة إذا سرقا لأن كل منهما ملتزم بأحكام الإسلام . المسلم بإسلامه , والذمي بعقد الذمة الذي ارتضاه ودفع الجزية بمقتضاه .
واختلفوا في الحربي المستأمن إذا سرق على قولين :
القول الأول: يذهب إلى أنّ الالتزام بالأحكام الإسلامية شرط لإقامة حد السرقة , فلا بد أنّ يكون السارق ملتزما للأحكام حتى يقام الحد عليه .وبناء على هذا الرأي لا يقام الحد على الحربي المستأمن إذا سرق .وأصحاب هذا الرأي هم أبو حنيفة ومحمد( حاشية ابن عابدين ج3ص266) .وأحد قولي الإمام الشافعي( نيل الأوطار ج 7 ص118)
كما أنه قول في مذهب الإمام أحمد بن حنبل( المغني ج10 ص276 )
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1ـ إنّ دخول الحربي المستأمن دار الإسلام ليس للإقامة فيها , وإنما لمجرد المرور , أو لحاجة يقضيها , والاستئمان لا يلزمه بجميع أحكام الشريعة , وإنما يلزمه بما يتفق مع غرضه من دخول دار الإسلام وبما
يعود إلى تحقيق مقصده , إذ أنّه متعلق بحقوق العباد , وبمقتضاه يلتزم بالإنصاف , وكف الأذى في مقابلة الالتزام له بإنصافه وكف الأذى عنه , ولما كان حق الله تعالى غالبا في السرقة فإنها لا تلزم المستأمن ولا يؤاخذ بها بخلاف ما يمس حقوق العباد مباشراً كالقذف , فإنّ المستأمن يؤاخذ به ( فتح القدير ج 5 ص 355 )
وعلى ذلك لا قطع على المستأمن .
2ـ إن المستأمن لم يلتزم بأحكام الشريعة لعدم دخوله فيها , ولعدم قبوله الدخول في عقد الذمة , فيكون إقامة الحد عليه إلزاماً له بما يلتزم به . وعلى هذا لا قطع على المستأمن المحارب .
3ـ إن المستأمن المحارب يأخذ مال المسلم أو الذمي معتقداً إباحته لكونه محارباً . وهذا الاعتقاد شبهة تسقط الحد عنه , كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام (ادرؤوا الحدود بالشبهات )( المحلى ج 8 ص253 ، نيل الأوطار ج7 ص 272 )
ولذا فلا قطع على المستأمن .
القول الثاني: يذهب إلى الالتزام بالأحكام الإسلامية ليس بشرط في إقامة حد السرقة . وبناء على هذا الرأي فإنّ الحربي المستأمن يطبق عليه الحد إذا سرق ,وقد قال بهذا القول المالكية ( شرح الدردير ج4ص405، بلغة السالك ج2 ص 376 )
وأبو يوسف من الأحناف( حاشية ابن عابدين ج3 ص 266)
كما أنّه الرأي الراجح عند الشافعية ( كفاية الاختيار في حل غاية الاختصار ج2 ص 188). والحنابلة ( كشاف القناع ج 4ص 85 )(4/148)
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1ـ إنّ الشريعة الإسلامية يجب تطبيقها بالنسبة لجميع المقيمين في دار الإسلام , لا فرق بين إقامة دائمة أو مؤقتة , لأنها شريعة الله لكل البشر , وقائمة على العدل المطلق وتحقق المصالحة الكاملة
2ـ إنّ أمانة دليل على التزامه الأحكام الإسلامية , فهو كالذمي , ولأنه حد يطالب به , فوجب عليه كحد القذف , فإذا وجب في حقه أحدهما وجب الآخر( المغني ج 10ص 276)
3ـ إنّ الفرق بين إقامة المستأمن وإقامة الذمي: أنّ الأولى مؤقتة ,والثانية دائمة , ويجب أن يكون الالتزام بأحكام الإسلام هكذا لا يختلف إلا في التوقيت مع المستأمن , والدوام مع الذمي .
4ـ إنّ طلب المستأمن الدخول في دار الإسلام والإقامة فيها يعتبر التزاماً بأحكام الإسلام مدة إقامته , لأن منحه حق الدخول والإقامة تم على شرط التزامه لأحكام الإسلام جميعاً
5ـ إن السبب الملزم للمسلم والذمي بأحكام الإسلام موجود في المستأمن ,لأن المسلم التزم بإسلامه, والذمي التزم بعقد الذمّة, والمستأمن مثلهم يلتزم بأحكام الإسلام بسبب عقد الأمان المؤقت الذي أعطاه حق الإقامة المؤقتة في دار الإسلام .
6ـ إن إفساد المال يحصل بسرقة المستأمن ,كما يحصل بسرقة الذمي سواء بسواء , ولذا فالمساواة بينهما في المعاملة درء لمفاسد كثيرة يمكن أن تنتشر لو انتفت هذه المساواة .
الترجيح: إنّ الناظر في القولين وأدلتهما لا يسعه إلا أن يرجح القول الثاني , والقائل بعدم اشتراط الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية لتوقيع حد السرقة, وذلك لقوة أدلتهم , ولأن السرقة مجلبة للفساد في الأرض فلا ينجو مرتكبها أيا كان من إنزال العقوبة به, لأنه يضر بنفسه, كما يضر بالجماعة, كما أن الأمان يعد عقداً مؤقتاً بين المستأمن والمسلمين مما يلزمه بأحكام الإسلام,بلا فرق بينه وبين الذمي الذي يعيش في دار الإسلام, ويلتزم بأحكام الإسلام, وفق عقد الذمة الدائم, وأيضا لأنه يتفق مع عناية الشريعة في المحافظة على الأموال وصيانتها , واعتبار ذلك أحد مقاصدها , فلا تمتد إليها يد مسلم ولا كافر ذميا كان أو حربيا مستأمناً .
مسألة:أختلف الفقهاء فيما إذا سرق المسلم مال الحربي المستأمن:
يرى الحنابلة وجوب قطعه, لأنه سرق مالاً معصوماً من حرز مثله كسارق مال الذميّ ( المغني ج10ص276)
ويرى أبو حنيفة: عدم القطع, لأن دم المستأمن وماله ليسا معصومين مطلقاً بل لمدة محددة. وهذه شبهة تسقط الحد( حاشية ابن عابدين ج3 ص266 )
وقال مالك: إذا سرق مسلم مقدار نصاب من مال ملك لرجل مستأمن يجب القطع على السارق, لأنه مال محرز مملوك للمستأمن فتجري عليه أحكام أهل الذمة وأهل الإسلام,مادام في بلادنا ( الشرح الكبير ج4 ص405 )
وفي مذهب الشافعي ثلاثة أقوال :
أولها: أنه يقطع إن اشترط عليه في العهد القطع في السرقة, فإن لم يشترط عليه القطع فلا قطع.
والقول الثاني: أنه يقطع مطلقا .
و الثالث: أنه لا يقطع مطلقا . وهذا القوال الأخير هو الراجح في مذهب الشافعية( منهاج الطالبين ج4ص196)
الترجيح :وإني أرجح ما ذهب إليه القائلون بالقطع, لأن هذا يتفق مع أحد المبادئ الأساسية في التشريع الإسلامي من المساواة بين البشر في الحقوق والواجبات, فما دام قد سبق وقلنا إن المستأمن إذا سرق مال المسلم فيقطع . فإن هذا الالتزام يقابله حقه في صيانة أمواله, والمحافظة عليها . قال تعالى: ( وإن أحد من المشركين استأجرك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم بلغ مأمنه )( سورة التوبة آية 6 )
.فما دام هؤلاء المعاهدون قد انصاعوا لأحكامنا فلا بد من إبلاغهم أمنهم .
5 ـ الشرط الخامس: أن يكون السارق لا شبهة له في المال المسروق:
أختلف الفقهاء في هذا الشرط على قولين:
القول الأول: اشترط لإقامة الحد انتفاء شبهة السارق في ملكية المال المسروق . فإن كان له شبهة فلا حد عليه . وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء( بلغة السالك ج2ص378، شرح فتح القدير ج5ص376، حاشية قليوبي ج4ص188، المغني ج10ص288)
ويلاحظ أن الجمهور وإن اتفق على هذا الشرط , إلا انهم اختلفوا فيمن ينطبق عليه وجود الشبهة . فاتفق الأئمة الأربعة: على أن الوالد لا يقطع إذا سرق مال ابنه أو ابنته, وكذلك الأم إذا سرقت مال ابنها أو ابنتها( بلغة السالك ج2ص378، شرح فتح القدير ج5ص376، حاشية قليوبي ج4ص188، المغني ج10ص288)
وزاد الشافعية: أن الأجداد والجدات لا يقطعون بسرقتهم مال فروعهم وإن سلفوا.
وقالوا أيضا- عدا مالك- : إنه لا قطع على الولد ولا على البنت فيما سرقاه من مال الوالدات أو الجدات أو الأجداد ( مغني المحتاج ج4ص162،فتح القدير ج5ص380)
ومالك يرى القطع على الابن و الابنة إذا سرقا من مال الوالدين أو الأجداد أو الجدات ( بلغة السالك ج2 ص378)
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا قطع على كل من يسرق مالاً لأحد من رحمه المحرم ( فتح القدير ج5 ص380)
وقد استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بما يأتي:
1ـ ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا )( سنن ابن ماجه ج2ص850)(4/149)
2ـ ما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله , فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) ( المستدرك على الصحيحين ج 4ص 426 ، سنن الدارقطني ج 3 ص84)
3ـ ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرؤوا الحدود بالشبهات)( المحلى ج8 ص 253 ، نيل الأوطار ج 7 ص 272 )
ووجه استدلال الجمهور بهذه الأحاديث أنها تفيد وجوب درء الحدود بالشبهات, ولما كان القطع في السرقة حدا فلا يجب مع وجودها , عملاً بما أشارت إليه هذه الأحاديث .
وقد استدل جمهور الفقهاء على عدم قطع الوالدين بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه )( سنن النسائي ج 7ص 240 ، سنن ابن ماجه ج 2ص 723 ، مسند أحمد ج 6ص 193)
وفي لفظ ( فكلوا من كسب أولادكم )( سنن أبي داود ج 3ص 249 ، مسند أحمد ج 2ص 214)
.كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
وقوله صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك )( سنن ابن ماجه ج 2ص769 ، مسند أحمد ج 2ص 204)
فقالوا: إنه لا يجوز قطع الإنسان بأخذ ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذه , ولا أخذ ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم مالاً مضافاً إليه, ولأن الحدود تدرأ بالشبهات, وأعظم الشبهات أخذ الرجل من مال جعله الشارع له, و أمره بأخذه وأكله ( المغني10ص285)
واستدل من قال بعدم قطع الفروع بسرقة مال الأصول: أن بينهما قرابة واتحادا تمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه, فلم يقطع بسرقة ماله كالأب, ولأن النفقة تجب في مال الأب لابنه حفظا له فلا يجوز إتلافه حفظا للمال, وكذلك فإن مال كل منهما موصد لحاجة الآخر ( منهاج الطالبين ج4ص188) واستدل مالك على قطع الفروع بسرقة مال الأصول بعموم قوله تعالى:(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما )( سورة المائدة آية 38)
وكذا استدل بضعف الشبهة في هذه الحالة لأن الابن يحد إذا وطئ جارية أبيه أو أمه . بخلاف الأب إذا وطئ جارية ابنه فإنه لا يحد لقوة الشبهة, فيقطع الابن لسرقة مال أبيه كالأجنبي ( حاشية الدسوقي ج4ص396 )
وأجاب الجمهور على ذلك بأن عموم الآية خصصته أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .وأما الزنا بجارية أبيه فيجب به الحد, لأنه لا شبهة له فيها, بخلاف المال فإن له فيه شبهة, وهو أنه إذا افتقر أو صار ذا حاجة فإن نفقته تجب على والده .
واستدل الأحناف على عدم قطع ذي الرحم المحرم . بأن الرحم المحرم قرابة تمنع النكاح, وتبيح النظر وتوجب النفقة, فهي أشبه بقرابة الولادة ( شرح فتح القدير ج5ص381)
وأجاب الجمهور عليهم بأنها قرابة تمنع الشهادة, فلا تمنع القطع كقرابة غيره, وفارق قرابة الولادة بهذا( شرح العناية على الهداية بشرح فتح القدير ج5ص381 )
القول الثاني: يرى عدم اشتراط هذا الشرط , فهم لا يشترطون انتفاء الشبهة لوجوب القطع, فيقطع السارق عندهم مطلقا سواء كانت له شبهة في المال المسروق منه أم لم تكن . وهذا ما ذهب إليه أهل الظاهر وبعض الفقهاء كأبي ثور وابن المنذر( المحلى ج11ص415، المغني ج10ص285)
و قد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1ـ بعموم قوله تعالى:( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما )( سورة المائدة آية 38)
فقالوا: إن الله تعالى أوجب القطع على السارق بشكل عام , من غير تفريق بين من لا شبهة في مال المسروق منه , ومن لا شبهة له فيه .
وقد أجاب الجمهور على هذا الاستدلال: بان العموم قد خص بالأحاديث الصحيحة سالفة الذكر والتي سبق الاستدلال بها .
2ـ إن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: ( أنت ومالك لأبيك)( سنن ابن ماجه2ص769 ، مسند احمد ج2 ص 204 )
قد نسخ بآية المواريث إذ فرقت بين مال الأصل ومال الفرع .
وأجاب الجمهور على ذلك: بأن القول بأن هذا الحديث قد نسخ غير صحيح,لأنه لا تعارض بينهما, فالآية تحدد الأنصباء في تركة الميت بالنسبة للورثة الأحياء بينما الحديث يتحدث عن الأحياء .
الترجيح :
وإني أرجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم القطع عند وجود الشبهة, خلافا للظاهرية ومن معهم لقوة أدلتهم, ولأنه أولى بالقبول, ولأن الإطلاق في الآية الكريمة قد قيد بالسنة النبوية التي أثبت وجود الشبهة. وأمرت بدرء الحدود بالشبهات, ولأن القطع عقوبة شديدة فيجب الاتقاء حتى يكون السبب تاماً .
ومع وجود شبهة للسارق في مال المسروق منه لا يتحقق الاعتداء فيكون القطع غير مناسب للجريمة ويكون وجوبه ظلم, وحاشا أن يكون في أحكام الشريعة ظلم .
الفصل الثاني: الشروط المتعلقة بالمسروق منه .
بتتبع آراء الفقهاء بشأن السرقة, نجد أنهم لم يشترطوا شروطا معينة تتعلق بالمسروق منه لإقامة الحد, إلا بالنسبة لشرط واحد ثار بينهم خلاف بشأنه, وهو:
هل مطالبة مالك المال شرط لإقامة الحد أم لا :
اختلف الفقهاء على قولين :
القول الأول:ـ ذهب مالك وابن أبي ليلى إلى عدم اشتراط ذلك, فالحد يقام إذا ثبتت السرقة سواء طالب المسروق منه بماله أم لا ( شرح الخرشي على المختصر الجليل ج5ص334، المغني ج10ص299)(4/150)
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1ـ قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما )( سورة المائدة آية 38 )
) و وجه الاستدلال من الآية أنها أطلقت الحكم بالقطع على السارق من غير قيود, وهذا دليل على أن مطالبة المالك ليست بشرط لإقامة الحد .
2ـ قياس حد السرقة على حد الزنا، فكما أن إقامة حد الزنا لا يحتاج في إقامته لمطالبة أحد, وإنما يقام بمجرد ثبوت الزنا, فكذلك القطع يقام بمجرد السرقة .
3ـ إقامة حد السرقة حق لله تعالى, فإقامته حسبة يثاب عليها أي مسلم يقيمه ولا حاجة إلى مطالبة المالك
القول الثاني :ـ ذهب الأحناف( شرح فتح القدير ج5 ص400)والشافعية,( نهاية المحتاج ج7 ص463) والحنابلة ( المغني ج 10ص 299)
إلى اشتراط ذلك فقالوا: إن مالك المال المسروق منه إذا لم يطالب به, فإن الحد يسقط ولا قطع على السارق .
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1ـ إن حد السرقة إنما شرع صيانة لحق مالك المال في ماله, فيكون للمالك تعلق بإقامة الحد على السارق, ولا يقع من غير أن يطالب به( شرح فتح القدير ج5ص398 )
2ـ من المتفق عليه أن المال يباح بالبذل والإباحة, وأن المالك إذا لم يطالب بإقامة الحد فيكون هناك شبهة في أنه أباحه لأخذه أو وقفه على طائفة الآخذ أو أذن له في الدخول حيث المال أو وقفه على المسلمين عامة .
وما دامت الحدود تدرأ بالشبهات, فلا حد إذا لم يطالب المالك بإقامته. وقد أجاب الحنفية ومن معهم على ما استدل به المالكية: بأن الزنا لا يباح بالإباحة بخلاف المال, فإنه يباح بالإباحة, ولأن القطع أوسع في الإسقاط كما أنه شرع لصيانة مال الآدميين فله بذلك تعلق, فلم يستوف من غير حضور مطالب به, والزنا حق لله تعالى محض فلم يفتقر إلى طلب ( المغني ج10ص300)
الترجيح:
وإني أرجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من ضرورة مطالبة المالك بماله لإقامة الحد على السارق, وذلك لأن كون المسروق مملوكا لغير السارق شرط لإقامة الحد وهذا الشرط لا يتحقق إلا بمطالبة غير السارق بماله لاحتمال أن المسروق منه قد أخرجه من ملكه أو أباحه لغيره أو وقفه على طائفة معينة .فتحقق كون الفعل سرقة شرعاً لا يظهر إلا بهذه المطالبة, فعدم المطالبة يورث شبهة تدرأ القطع, والحدود تدرأ بالشبهات .
الفصل الثالث:الشروط المتعلقة بالمال المسروق.
اشترط الفقهاء في المال المسروق عدة شروط . بعضها أجمعوا عليه والبعض الآخر اختلفوا فيه, وسنبين مذاهبهم في ذلك على النحو التالي:
1ـ الشرط الأول: ـ أن يكون المسروق مالاً:
هذا الشرط قال به جميع الفقهاء: فقد أجمعوا على أن السرقة لا تكون إلا في المال, لأنها لا تتصور إلا فيه, فالإنسان لا يصح أن يكون محلا للسرقة .
مسألة:ـ أختلف الفقهاء إذا كان المسروق طفلا غير مميز أو مجنون:
اختلفوا بشأن المجنون الحر, والطفل غير المميز, هل يتم
إلحاقهما بحكم المال فتجري عليهما السرقة أم لا ؛ على قولين :
القول الأول: يرى أن الطفل غير المميز أو المجنون, لا يصح أن يكون محلاً للسرقة, لأنهما ليسا بمال من أي وجه. وعلى ذلك لا يقطع سارقهما لكونهما يشبهان الكبير النائم, إذ لا قطع في أخذه ؛ وهذا ما ذهب إليه أبو حنيفة( شرح فتح القدير ج5 ص396
والشافعي( نهاية المحتاج ج 7 ص460) وأحمد( المغني ج10ص396)
وقد استدل أصحاب هذا القول : بأن القطع شرع ليزجر السارق عن التعدي على الأموال لتعلق النفوس بها. لأنها من ضروريات الحياة, وغير المال وهو الحر والصغير غير المميز لا تعلق للنفس به, فلا ضرورة لشرع القطع فيه .
القول الثاني: يرى أن الطفل غير المميز والجنون يكونا محلاً للسرقة, ويقطع سراقهما لأنهما في حكم المال . وهذا ما ذهب إليه الإمام مالك ( بلغة السالك ج2ص376 ، حاشية الدسوقي ج 4 ص391) والظاهرية(المحلى ج11ص406)
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1ـ ما روى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم : (أتي برجل يسرق الصبيان ثم يخرج بهم فيبيعهم في أرض أخرى, فأمر به فقطعت يده)( سنن رواه الدارقطني ج 3ص202)
ووجه استدلالهم من الحديث: أن لفظ الصبيان يشمل الأحرار والأرقاء, وليس هناك ما يخصصه بالأرقاء, فسارق الصبيان يقطع سواء كان ما سرقه منهم أحراراً أو عبيداً .
و أجاب الجمهور عن هذا بأن الحديث ضعيف لا يصلح الاحتجاج به, وعلى فرض أنه صحيح فمحمول على الأرقاء .
2ـ إن الحر غير المميز كالمال بجامع تعلق النفوس بكل منهما, فكلما أنه يقطع سارق المال كذلك يقطع سارق الحر غير المميز . وأجيب عن ذلك بأن هذا قياس مع الفارق, فإن المال تتعلق به نفوس أصحابه ونفوس سارقيه بالانتفاع به, بخلاف الحر غير المميز فإن نفوس السارق لا تتعلق به غالبا .
الترجيح : والراجح ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة لقوة دليلهم, ولأن القطع إنما شرع للزجر عما يكثر وقوعه, وسرقة غير المميز الحر قليلة الوقوع فلا ضرورة لشرع القطع فيها, ويمكن للإمام أن يعزز بما شاء في مثل هذه الجرائم النادرة الوقوع, ولما في ذلك من سمو بالإنسان وتكريم له, لأن في عدم تشبيهه بالمال حفظ له من الامتهان .(4/151)
ويلاحظ أن هذا الخلاف إنما هو بشأن المجنون والصبي غير المميز, أما إذا كان صبيا مميزا أو غير مجنون فقد أجمع الفقهاء على أنه لاقطع على آخذه (شرح العناية على الهداية بشرح فتح القدير ج5ص369، 370)
2ـ الشرط الثاني: ـ أن يكون المال منقولاً:
وهذا الشرط قال به جميع الفقهاء(حاشية ابن عابدين ج3ص265، الخرشي على خليل ج5ص333،الإقناع في الفقه الشافعي ج2ص332، كشاف القناع ج4ص77)
فلابد أن يكون المسروق منقولاً , وذلك لأن السرقة يترتب عليها نقل الشيء المسروق وإخراجه من حرزه ,ونقله من حيازة المجني عليه إلى حيازة الجاني ,وكل ذلك لا يمكن أن يحدث إلا بالنسبة للمنقولات ,لأنها هي التي يمكن نقلها من مكان إلى مكان آخر ,بخلاف الحال في العقارات
الثابتة فهذه لا يمكن نقلها بصفتها كعقار. ولا يشترط أن يكون المسروق منقولاً بطبيعته ,بل يكفي أن يصير منقولاً بفعل المجني عليه ,أو بفعل غير الجاني .
3ـ الشرط الثالث ـ أن يكون المال محترماً:
فلابد في قطع السارق من أن يكون المسروق محترماً , ويقصد بالمال المحترم ماله قيمة بصفة مطلقة لا نسبية ,وذلك مثل الدنانير والدراهم ,فإنها مقومة عند جميع الناس ,بخلاف الخمر والخنزير فإنه ليست مالاً ولا قيمة لها بالنسبة للمسلم ,وكذا آلات اللهو وكل مانهى الشارع من الإنتفاع به شرعاً ,لأن غير المحترم ليس معصوماً شرعاً , وغير المعصوم لاتتحقق الجناية المحضة بالاعتداء عليه ,فلا تناسبه العقوبة المحضة . وبهذا قال الأئمة الأربعة (شرح فتح القدير ج5ص371، حاشية قليوبي ج4ص187، مغني المحتاج ج4ص160، بداية المجتهد ج2ص412، المغني ج10ص282 )
مسألة : أختلف الفقهاء في السرقة ما سلط الشارع على كسره ,كآلات اللهو إذا بلغ كسرها نصاباً.
على قولين :
القول الأول : فذهب الأحناف والحنابلة والشافعي في أحد قوليه إلى أن آلة اللهو كالطنبور والمزمار لاقطع فيها ,وإن بلغت قيمتها بعد تكسيرها نصاباً ,لأن هذه الأشياء وأمثالها من وسائل المعصية بالإجماع ,وهي في ذلك كسرقة الخمر فلا قطع في سرقتها ,ولأن له حقاً في أخذها لكسرها ,تطبيقاً لأمر الشارع ( مغني المحتاج ج4 ص160، المغني ج10ص282 )
القول الثاني : ذهب مالك والشافعي في قول آخر له إلى أن آلة اللهو إذا بلغت قيمتها بعد كسرها نصاباً يقطع آخذها ,لأنه سرق ماقيمته نصاباً لاشبهة له فيه ,من حرز مثله ,وهو من أهل القطع فوجب قطعه .(حاشية الدسوقي ج4ص392، حاشية قليوبي ج4ص187)
الترجيح : وأرجح ما ذهب إليه الأحناف والحنابلة من أن آلة اللهو وأشباهها مما سلط الشارع على كسرها إذا بلغت قيمتها بعد كسرها نصاباً لايقطع سارقها وذلك لأن الفقهاء اتفقوا على أنها من أدوات المعصية ,ولا قيمة لها وهي صحيحة منتفع بها فيما أعدت له ,فبالأولى لا تكون لها قيمة بعد إتلافها ,لأنها به تكون قد فقدت كل منافعها فيما أعدت له وفي غيره .
4ـ الشرط الرابع :ـ أن يكون المال متمولاً: يقصد بالمال المتمول: أن يكون عند الناس عزيزاً وخطراً بحيث يضنون به ويعدونه مالاً ,وهذا الشرط اختلف الفقهاء فيه على قولين :
القول الأول :يرى عدم اشتراط هذا الشرط ,وهو ما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة , كماأنه رأي أبي يوسف من الأحناف ( شرح فتح القدير ج5ص366، حاشية قليوبي ج4ص187، مغني المحتاج ج4ص160، بداية المجتهد ج2ص412، المغني ج10ص282)
فالقاعدة العامة عند هؤلاء أن كل مايمكن تملكه ويجوز بيعه وأخذ العوض عنه ,يجب القطع في سرقته ولو كان المسروق مما جنسه مباح في دار الإسلام ,فالتفاهة لا تمنع عندهم من القطع . وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1ـ بعموم قوله تعالى:(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)(سورة المائدة آية 38 )
فقالوا:إن الله قد رتب وجوب القطع على السرقة من غير تفريق بين سرقة ما جنسه مباحاً في دار الإسلام ,وما جنسه ليس مباحاً في دار الإسلام,ولم يوجد مخصص لهذا العموم .
2ـ بقياس ما جنسه مباحاً في دار الإسلام على مالا يوجد جنسه كذلك , بجامع أن كلاً منهما متقوم سرق من حرز مثله لا شبهة للسارق فيه, فكما أنه يجب قطع السارق فيما لا يوجد جنسه مباحاً في دار الإسلام ,فكذلك يجب قطعه فيما يوجد مباحاً فيها .
3ـ أن الشيء مادامت له قيمة متمولة عند الناس ,فهو مال يجب القطع في سوقته حفظاً له ,وهو بماليته لا فرق بينه وبين مال غيرتافه .
القول الثاني: يرى اشتراط هذا الشرط . فيذهب أصحابه إلى أن المال التافه غير المتمول ,لا قطع في أخذه ,فيشترط أن يكون المال متمولاً , وهو رأي أبي حنيفة وصاحبه محمد(شرح فتح القدير ج5 ص365)
واستدل أبو حنيفة ومن معه بما يأتي:1ـ بما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت:(كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه)( الدرية في تخريج أحاديث الهداية ج2ص109، نصب الراية ج3ص360)ووجه الدلالة: أن التافه هو الحقير, وما يوجد جنسه مباحا في الأصول بصورة غير مرغوب فيه, تقل الرغبات, ولا تتطلع إليه النفوس , ولا تضنّ به الطباع, فقلما يوجد آخذه , فلا حاجة إلى شرع الزجر فيه .(4/152)
وأجاب جمهور الفقهاء على هذا الحديث:
أولا: بضعفه, فلا يصح الاستدلال به .
ثانيا: أنه وعلى فرض صحة هذا الحديث, فإن المراد بالتافه ليس هو الحقير . إنما المراد به هو ما دون النصاب, ولو سلم أن التافه هو الحقير فيمنع أن كل ما يوجد جنسه مباح في دار الإسلام حقير, بل منه مل له قيمة .
2ـ الحرز فيما جنسه مباح في دار الإسلام ناقص . فإن الحطب مثلاً يلقى بالأبواب , والطيور في أقفاصها معرضة للانفلات والضياع, فالحرز فيها غير تام, فلا يناسب شرع الزجر .
ويجاب عن ذلك: بأن الحرز غير ناقص, بل هو كامل في كل شيء بحسبه (حاشية الدسوقي ج4ص403 )
.فالحطب بالأبواب محرز عرفاً, وكذلك الطير في الأقفاص, فيقطع سارقه .
3ـ التفاهة شبهة في المال, و ما دامت الحدود تدرأ بالشبهات, فلا تقطع في الشيء التافه( شرح فتح القدير ج5ص366)
وقد أجاب الجمهور على هذا الاستدلال أيضا بأن التفاهة لا تعتبر شبهة تدرأ الحد .
الترجيح: هذا ولا يسع إلا أن يرجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول القائل:
بأن القطع يجب سواء كان المال تافها أو عزيزا ما دام محترما, وذلك لقوة أدلتهم وردهم أدلة الفريق الثاني , ولأن الأموال التي توجد مباحة في أرض الإسلام إذا أحرزت بعد وضع اليد عليها اختص بها من وضع يده عليها, فلا بد من حمايتها من التعدي عليها حتى ينتفع بها من أحرزها ووضع يده عليها, لأن ملكيتها قد آلت إليه بالحيازة .
5ـ الشرط الخامس :ـ أن يبلغ المسروق نصاباً:
اختلف الفقهاء باشتراط النصاب لوجوب القطع, فمنهم من يرى اشتراطه ومنهم من لا يعتبره لإقامة الحد, والقائلون باشتراطه اختلفوا فيما بينهم في مقدار النصاب, كما اختلفوا في القوت الذي تعتبر فيه قيمته . وسوف أوضح آراء الفقهاء في كلٍ مع بيان الراجح ، في المسائل التالية :
المسألة الأولى :اختلاف الفقهاء في اشتراط النصاب:
اختلف الفقهاء في اشتراط النصاب لوجوب القطع على قولين:
القول الأول: يرى أن النصاب شرط لإقامة الحد, وهو مذهب الأئمة الأربعة( حاشية ابن عابدين ج 3 ص366 ، منح الجليل،ج 5 ص516 ، منهاج الطالبين ج 4 ص186، المغني،ج10 ص241)
فالقطع لا يجب عندهم إلا إذا بلغ المسروق نصاباً . وقد استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بالسنة والإجماع :
فأما السنة فقالوا :إن الرسول صلى الله عليه وسلم روي عنه أقوال وأفعال منها :
1ـ. ما رواها بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم :(أنه قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم(صحيح البخاري ج 6ص 2493 ، سنن أبي داود ج 4 ص 136 ،سنن النسائي ج 8ص 76.
أو (قيمته ثلاثة دراهم) على رواية ( صحيح مسلم ج 3ص 1314)
2ـ ما روته عائشة رضي عنه عنها أنها قال )كان رسول صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً)( سنن النسائي ج 8ص76)
وفي رواية أخرى :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن يد المجن ،قليل لعائشة: ما ثمن المجن ؟ قالت :ربع دينار )( سنن النسائي ج 8ص80)
3ـ روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي عنه عنها أنها قالت(لم تكن تقطع يد السارق في أدنى من حجفة أو ترس،كل واحد منهما ذو ثمن)( صحيح البخاري ج 6ص 2492 ،سنن النسائي ج 8ص82 ، صحيح مسلم ج 3ص1313)
ووجه استدلال الجمهور من هذه الأحاديث :أنها دلت بوضوح على اعتبار النصاب شرطاً في وجوب القطع ، وأنه لم يتم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان المسروق بلغ قدراً معيناً ، وذلك ما نقول به .
و أما الإجماع ، فقالوا : إن الصحابة رضي الله عنهم قد اتفقوا على اعتبار النصاب شرطاً لوجوب القطع ، والخلاف بينهم إنما في مقداره ، وإجماع على اعتبار النصاب شرطاً لوجوب القطع .
القول الثاني: يرى عدم اشتراط النصاب لإقامة الحد, وعلى ذلك فقطع اليد عنده يجب إذا ثبتت السرقة في إي مقدار من المال قليلاً أو كثيراً , وهو مذهب الحسن البصري والظاهرية ( المحلى ،ج 11 ص424)
وقد استدل أصحاب هذا القول القائل بعدم اشتراط النصاب بالكتاب والسنة بما يلي:
فأما الكتاب :
فقال تعالى:(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديمها جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم)(سورة المائدة آية 38)
ووجه استدلالهم من الآية أن الله تعالى قد رتب وجوب القطع على السرقة فكانت هي العلة, وذلك يقضي بوجوب القطع متى تحققت علته من غير فرق بين سرقة القليل والكثير, لأن اسم السرقة يطلق على أخذ كل منهما, والنص مطلق لم يحدد مقداراً لما يسرق لإقامة الحد, وهذا يدل على عدم اشتراط النصاب لوجوب القطع.
وأجاب الجمهور على ذلك: بأن عموم الآية قد خصص بالأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في اعتبار النصاب شرطاً لوجوب القطع, وإن قيل بأن الآية لا يصح أن تقيد بهذه الأحاديث, لأن الأحاديث أحاديث آحاد لا تفيد إلا الظن, بينما الآية قطعية والظني لا يقيد القطعي .
فإن ذلك غير صحيح لأن الآية عامة, والعام مختلف في دلالته هل هي ظنية أم قطعية, ومع هذا الخلاف تكون دلالة الآية ظنية, وحينئذ تقيد الأحاديث الآية لأن كليهما ظني .(4/153)
وأما السنة: فقد استدلوا يما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده )( صحيح البخاري ج 6ص 2493 ، صحيح مسلم ج3 ص 1314 )
ووجه استدلالهم بهذا الحديث أنه عام فيوجب القطع مطلقا, لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب القطع على سرقة البيضة كما رتبه على سرقة الحبل , ومعلوم أن من الحبال مالا يساوي دانفا , ومن البيض مالا يساوي فلسا, وتلك أشياء عديمة القيمة, وذلك يفيد القطع في القليل والكثير بدون تحديد مقدار . وقد أجاب الجمهور على هذا الحديث بأنه مردود بثلاثة وجوه :ـ
الأول: إن المارد بالبيضة بيضة الحديد التي تجعل على الرأس في ميدان الحرب, ولا شك أن لها قيمة, وبالحبل ما قيمته ثلاثة دراهم أو أكثر كحبال السفينة, ويدل على ذلك ما قاله الأعشى راوي الحديث: ( كانوا يرون أنه بيض الحديد, والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي ثلاثة دراهم ) وكلاهما يبلغ نصاباً .
الثاني: إن ما جاء في الحديث أن القطع بسرقة البيضة والحبل خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير, كما جاء في معرض الترغيب بالقليل في الكثير كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه قول صلى الله عليه وسلم :(من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)( مسند أحمد ج1ص241 )
الثالث: أن الحديث يقصد به تحقير شأن السارق والتنفير من السرقة وخسارة ما ربحه .
الترجيح : والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من اشتراط النصاب لوجوب القطع, لقوة ما استدلوا به ولردهم أدلة الفريق الثاني , ولأن هذا هو الذي يتفق وفلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية . إذ بمقدار الجريمة تكون العقوبة, والسرقة عقوبتها أغلظ في كل الشرائع قديمها وحديثها من غيرها من وسائل الاعتداء على المال كالغصب والاحتيال, ومن ثم لا ينبغي تنفيذ عقوبة القطع واللجوء إليها إلا إذا بلغ المسروق قدراً معيناً ليكون ذا قيمة تضن به النفوس, ولأن القليل ليس له قيمة فلا يضير النفوس فقده .
المسألة الثانية :اختلاف الفقهاء في مقدار النصاب:
المبدأ العام الذي يتفق عليه جمهور الفقهاء كما سبق أن بينا هو اشتراط النصاب لكي يجب القطع بالنسبة للسارق. غير أنهم اختلفوا فيما بينهم في مقدار النصاب الذي يوجب أخذه القطع وهذا ما سنبينه فيما يأتي:
القول الأول: ذهب الإمام مالك وأصحابه( منح الجليل على مختصر خليل ج4 ص520 ، الشرح الكبير ج4 ص 391،392)
إلى أن النصاب الواجب هو ثلاثة دراهم من الفضة أو ربع دينار من الذهب. فإذا كان المسروق غير ذهب ولا فضة فإنه يقوم بالدراهم وليس بالذهب .
وهذا إذا كانت قيمة الثلاثة دراهم تختلف عن قيمة الربع دينار لاختلاف الصرف, كأن يكون الربع دينار مثلا يساوي في وقت من الأوقات درهمين ونصف . فإذا ساوى المسروق عند المالكية في ربع دينار وإن لم تكن قيمته ثلاثة دراهم, ويقطع في ثلاثة دراهم وإن لم تكن قيمته ربع دينار وهذا هو المشهور .
واستدل المالكية بما يأتي:
1ـ ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم :( قطع يد رجل سرق ترساً من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم )( سنن النسائي ج 8ص 76 ، سنن أبي داود 4ص 136 )
2ـ ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا تقطع يدالسارق إلا في ربع دينار فصاعداً)( مسلم ج 3 ص1312 ، سنن النسائي ج 8ص81 ، سنن ابن ماجه ج 2ص 862 )
، ووجه الدلالة مما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قطع فيما قيمته ثلاثة دراهم, ولم يستفسر عن كون هذه الثلاثة تساوي ربع دينار أو تقل عنه, وذلك يقضي باعتبار القطع في ثلاثة دراهم وإن لم تساوي ربع دينار, كما أن الحديث الثاني دل على أن القطع يكون في ربع دينار وإن لم تكن قيمته ثلاثة دراهم, لأن الحديث محصور بالنفي والاستثناء .
القول الثاني:مذهب الشافعي يتفق مع مذهب الإمام مالك في قيمة النصاب السابق ذكره,ولكنه يفترق عنه فيما إذا كان المسروق غير ذهب أو فضة,فالشافعي يرى أن التقويم يكون بالربع دينار أي بالذهب,وليس بالدراهم من الفضة . فالأصل في التقويم عند مالك هو الدراهم . أما عند الشافعي فالأصل في التقويم هو الدنانير, وهذا هو وجه الخلاف بينهما ( مغني المحتاج ج 4ص158 ، حاشية قليوبي ج4 ص186 )
واستدل الشافعي وأصحابه بما يأتي:
1ـ ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)( سنن النسائي ج 8ص81 ، سنن ابن ماجه ج 2ص862)
2ـ ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن . قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار )( سنن النسائي ج 8ص80 ، سنن الدار قطني ج 3 ص189)
ووجه الدلالة من الحديثين:
أن الأول دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت القطع في ربع دينار ونفاه عما دون ذلك. فدل ذلك على أنه لا قطع في أقل من ربع دينار ( الإقناع ج2 ص232)(4/154)
بينما دل الثاني على أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى فيما ثمنه القطع دون ربع دينار, وأثبته فيما ثمنه ربع دينار بنفيه القطع فيما دون ثمن المجن, وقد بينت عائشة ثمن المجن بأنه ربع دينار, وأن هذا صريح في أن العروض إنما تقوم بالذهب من غير نظر إلى الفضة أصلاً لأن البيان من عائشة في حكم المرفوع, فهو تحديد من الشارع بالنص لا يجوز العدول عنه .
القول الثالث:الإمام أحمد: مذهبه ففي رأيان:
الأول: أن النصاب هو ثلاثة دراهم أو ربع دينار, كما هو المشهور من مذهب مالك.
الثاني: مثل الأول تماماً, ولكن إذا كان المسروق غير ذهب أو فضة قوم بهما معا, وإذا اختلفت قيمتها فإنه يقوم بأقلهما في القيمة ( المغني لابن قدامة ج10 ص242 ).
واستدل الإمام أحمد بما سبق بيانه من أحاديث. وبما رواه انس رضي الله عنه أن سارقا سرق مجنا قيمته ثلاثة دراهم فقطعه أبو بكر, وأتى عثمان برجل سرق أترجه فبلغت قيمتها ربع دينار فقطعه ( مصنف بن ابي شيبة ج 5ص476 ، سنن البيهقي الكبري ج 8 ص262 ، كشاف القناع ج4 ص78 )
ووجه الدلالة لهذه الأحاديث والآثار: أنها تدل على القطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما قيمته تساوي أحدهما, فيقطع السارق في ربع دينار وإن لم يساوي ثلاثة دراهم, كما يقطع في ثلاثة دراهم, كما يقطع في ثلاثة دراهم وإن لم تساوي ربع دينار, ويقطع في سرقة غير النقدين بما قيمته ثلاثة دراهم أو ربع دينار, وتقوم العروض بأيهما شاء .
القول الرابع: يرى الإمام أبو حنيفة ( شرح فتح القدير، ج5 ص355 ، بدائع الصنائع ج7 ص77 )
أن النصاب الذي يوجب القطع هو عشرة دراهم فضة خالصة أو ما يساوي قيمتها, فلا قطع عنده في أقل من عشرة دراهم, ولو كانت قيمته ربع دينار, كما لا قطع في غير الفضة من الذهب أو عروض التجارة بما قيمته أقل من عشرة دراهم, ولو كانت قيمته تساوي ربع دينار .
واستدل الإمام أبو حنيفة على ما ذهب إليه بالأحاديث التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها:
1ـ ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(لا قطع فيما دون عشرة دراهم )( مسند أحمد ج 2ص204)
2ـ ما رواه عامر بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( تقطع اليد في ثمن المجن )( مسند أحمد ج 1ص169 )
3ـ ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن قيمة المجن كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم)( مسند أحمد ج 2ص180)
4ـ ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا قطع فيما دون عشرة دراهم )( مسند أحمد ج 2ص204)
ووجه الدلالة مما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى القطع في أقل من عشرة دراهم أو فيما دون ثمن المجن, وهذا صريح في تحديد النصاب بوجوب القطع في السرقة بعشرة دراهم أو ما قيمته ذلك .
وأجاب الأئمة الثلاثة عما استدل به الحنفية:
بأن الرواة تكلموا في الحديثين الأخيرين وقالوا: إنهما لا يصلحان للاستدلال بهما لأن في إسناد الثاني محمد بن اسحق وقد عنعن ولا يحتاج بمثله إذا جاء الحديث معنعناً, وفي إسناد الحديث الأخير الحجاج بن أرطأة وهو مدلس, ولم يسمع هذا الحديث عن عمرو بن شعيب .
وأجاب الحنفية عن أدلة الأئمة ثلاث المتقدمة بما يأتي:
1ـ إن تقدير أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها للمجن بربع دينار اجتهاد منها, والاجتهاد من الصحابي لا يكون حجة على اجتهاد صحابي آخر ولم ينعقد إجماع بينهم على تقديره بربع دينار .
2ـ إنه قد روي تقدير ثمن المجن بأكثر من ربع دينار . فقد روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال:(لا قطع في أقل من أربعة دراهم )( مصنف بن أبي شيبة ج 5ص475)
ولهذا الاختلاف في تقدير ثمن المجن كان الاحتياط للقطع أن يقدر ثمن المجن بأكبر تقدير روي عن الصحابة , وللاحتياط فإنه يجب التقدير بعشرة , وفوق ذلك فقد ثبت اتفاق الصحابة في القطع لعشرة دراهم, واختلفوا في القطع فيما دونها , وهو أمر لا يثبت إلا بالتوقف, فكان الاحتياط أن يؤخذ بما اتفقوا عليه ويترك ما اختلفوا فيه ( تفسير القرآن الكريم العظيم ج2 ص 56)
الترجيح:
وإني أرجح رأي الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل, وذلك لأمور:ـ
جمعا بين الأحاديث والروايات التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولأننا لو جعلنا النصاب ثلاثة دراهم أو ربع دينار, إنما نعمل في الوقت نفسه بمذهب الإمام أبي حنيفة ومن معه, لأن النصاب عنده عشرة دراهم , فإذا بلغت قيمة المسروق عشرة دراهم تقطع يد السارق .
غاية ما هنالك أنه في حالة عدم بلوغ المسروق عشرة دراهم أو ما قيمتها يكون رائدناً في تقدير النصاب هو رأي الأئمة الثلاثة, وخاصة الإمام الشافعي الذي ذهب إلى أن التقدير يكون بربع دينار , وذلك لأن الفضة تختلف باختلاف الأزمان والدول , بخلاف الذهب فإن له قيمة ثابتة لا تختلف غالبا باختلافهما , والتقدير بما هو ثابت يجعل سبب الحكم متحدا في الأزمان والدول المختلفة . وهذا أقرب إلى العدل والمساواة
المسألة الثالثة:وقت اعتبار النصاب:(4/155)
اتفق الفقهاء على أن الوقت المعتبر لتحقق قدر النصاب هو إخراج الشيء المسروق من حرزه, ولو حدث بعد ذلك نقص في قيمته بسبب تغير في ذات المسروق أو تلف فيها, فتعتبر القيمة في هذه الحالة وقت الإخراج من الحرز لا غيره . أما إذا كان النقص بسبب تغير السعر.
فقد اختلفوا فيما بينهم في الوقت المعتبر لتحقق قدر النصاب على قولين :ـ
القول الأول : فذهب المالكية (بلغة السالك ج2ص377 )والحنابلة (المغني 10ص278)
والشافعية ( الإقناع في الفقه الشافعي ج2ص232)
ومحمد وزفر من الأحناف ( حاشية سعد حلبي بشرح فتح القدير ج5 ص407)
.إلى أن القيمة المعتبرة هي وقت إخراج المسروق من الحرز .واستدلوا بقياس نقص القيمة بتغير السعر بعد إخراجه من الحرز كاملا,على نقص القيمة بتغير الذات بعيب أو تلف فيها بعد إخراجه, كذلك بجامع نقص القيمة في كلاً, فكما أن نقص القيمة بتغير الذات لا يمنع القطع, فكذلك نقص القيمة بتغير السعر لا يكون مانعاً منه . فالمعتبر وقت الإخراج من الحرز لا غير
القول الثاني :ذهب الإمام أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف إلى أن القيمة المعتبرة هي قيمة المسروق وقت القطع, ما دام تغير القيمة كان بسبب نقص السعر . فإذا كانت قيمة المسروق نصاباً وقت الإخراج من الحرز ثم نقصت بتغيير السعر عند الحكم بالقطع فلا يقطع سارقه .واستدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه, بأن نقص القيمة عن النصاب عند القطع بسبب تغير السعر يورث شبهة أن قيمة المسروق وقت إخراجه من الحرز لم تكن نصاباً, لأن العين لم تتغير في شيء, ومن المعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات .وأجيب عن هذا الاستدلال: بأن شبهة نقصان قيمة المسروق وقت الإخراج من الحرز لنقصان قيمته وقت الحكم بالقطع لا تعتبر مانعة منه, لأن الفرض أن المسروق كان نصاباً وقت الإخراج, فنقصانه بعد ذلك لا يصلح مانعاً من سببية السرقة لوجوب القطع . ويلاحظ أن هذا الاختلاف قائم بين الفقهاء سواء أكان التغير في السعر بسبب انتقال المسروق من بلد إلى بلد, أم بتغير السعر في المكان الواحد .
الترجيح : وإني أرجح ما ذهب إليه المالكية ومن وافقهم من أن القيمة المعتبرة للمسروق هي قيمته وقت السرقة, لأن ذلك يصون للأموال حرمتها, ولا يفتح بابا للمحتالين بأن يركنوا إلى شبهة تغير الأسعار لقيمة المسروق, فيفلتوا من العقاب, كما أن تغير السعر بعد تمام السرقة لا يورث شبهة غالبا حيث يعلم التجار قيمة الأشياء يوما بيوم وساعة بساعة, كما وأن ذلك يمنع الإفلات من العقاب ( بدائع الصنائع للكاساني ج7ص77)
6ـ الشرط السادس : ـ أن يكون المسروق مملوكاً للغير :
لا بد لتمام جريمة السرقة أن المال المسروق مملوكاً لغير سارقه ، فإذا كان السارق قد سرق مالاً مملوكاً له ، فلا قطع عليه في هذه الحالة لأنه لا يعتبر سارقاً حتى ولو أخذه خفية . والوقت الذي تعتبر فيه الملكية هنا وقت ارتكاب جريمة السرقة فقط . لا قبل ذلك ولا بعده . فإذا كان السارق مالكاً للمال المسروق ثم خرج المال المسروق من ملكه قبل حصول جريمة السرقة فهو مسؤول عن هذا الفعل ، ويعتبر سارقاً يقام عليه الحد .فإذا لم يكن هذا المال في ملكه ثم دخل ملكه وقت ارتكاب جريمة السرقة، فلا قطع عليه ولا مسؤولية ، كما لو دخل في ملكه عن طريق الميراث أو الهبة أو البيع قبل الخروج من الحرز. وما تقدم بيانه متفق عليه بين الفقهاء (المغني لابن قدامة ج10ص277 ، شرح فتح القدير ج5 ص406 ،حاشية الدسوقي ج4ص394، الإقناع في الفقه الشافعي ج2ص234)
مسألة :حكم ادعاء السارق ملكيته للمال المسروق:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال :ـ
القول الأول : ذهب الإمام مالك إلى أن ادعاء ملكية المال المسروق في ذاته ليس له قيمة ولا يسقط الحد عن السارق إلا إذا أثبت صحة ما يدعيه . فإن أقام دليلا على صحة ادعائه قبل قوله, وإلا حلف المجني عليه أن المال المسروق ملكه . فإن امتنع عن الحلف حلف السارق وأخذ المال ولا قطع عليه ( حاشية الدسوقي ج 4ص 403 ، بداية المجتهد ج 2ص 412)
القول الثاني : يرى الإمام أبو حنيفة بأن الحد يسقط عن السارق لمجرد ادعائه ملكية المال المسروق, دون إلزامه بإقامة دليل على صحة هذا الادعاء .وتكون العقوبة هي التعزير لأن المال المسروق منه قد صار خصما للسارق في ملكية الشيء المسروق والخصومة شبهة تدرأ الحد( شرح فتح القدير ج5ص 408 ، بدائع الصنائع ج7ص71)
القول الثالث: للإمام الشافعي قولان:
الأول: يتفق فيه مع أبي حنيفة في القول بسقوط القطع عن السارق بمجرد ادعائه لملكية المسروق, حتى ولو ثبتت السرقة بالبينة لاحتمال صدقه, فصار شبهة دارئة للحد لأنه صار خصما. ويروي عن الشافعي أنه سماه السارق الظريف ( أي الفقيه ) .
وفي قول آخر للشافعي: أنه يجب القطع لئلا يتخذ الناس ذلك ذريعة لدفع الحد عنهم ( مغني المحتاج ج4 ص 161 ، حاشية قليوبي ج4ص188 ، اسنى المطالب ج4ص139)
القول الرابع: أما الإمام أحمد بن حنبل ففي مذهبه ثلاثة أقوال:
القول الأول: كرأي مالك الذي يقول بأنه لا عبرة بالادعاء المجرد عن دليل .(4/156)
القول الثاني: كرأي الشافعي الذي يقول بأن الحد يسقط بمجرد الادعاء دون حاجة إلى ما يثبت صحة هذا الادعاء. وهو الرأي الراجح في مذهب الإمام أحمد .
القول الثالث: إن كان معروفا بالسرقة لا يلتفت إلى ادعائه ولا يسقط عنه القطع بمجرد ذلك الادعاء . وأما إذا لم يكن معروفا بالسرقة فادعاؤه هذا معتبر ويسقط به عن القطع ( المغني لابن قدامة ج10ص301)
الترجيح :هو ما ذهب إليه الإمام مالك ومن واقفه من أن مجرد الادعاء من قبل السارق لا يسقط عنه الحد المقرر شرعاً وأنه لابد لسقوط الحد من أن يثبت المدعي بالدليل القاطع ملكيته لهذا المال المسروق الذي هو محل الادعاء . لأننا لو قلنا بسقوط الحد لمجرد الادعاء عن دليل مثبت له, لكان ذلك ذريعة لكل سارق, وحيلة سهلة ميسورة يجدها أمامه لينقذ نفسه من إقامة الحد, وتكون النتيجة هي أن تتعطل حدود الله تعالى التي شرعها صيانة لأرواح الناس وأموالهم . وقول بعض الفقهاء بأنه يحتمل أن يكون صادقا في دعواه , واحتمال الصدق شبهة تسقط الحد. فنقول أن الحد لا يسقط بمطلق الاحتمال, ولو أسقطنا الحد بمطلق الاحتمال لتعطلت الحدود
7ـ الشرط السابع :ـ أن لا يكون المسروق مما يتسارع إليه الفساد :
اختلف الفقهاء في هذا الشرط :
القول الأول : قال بهذا الشرط الحنفية عدا أبي يوسف, فعندهم لا قطع على السارق إذا كان المسروق مما يتسارع إليه الفساد من الطعام والبقول والرطبة والفواكه واللبن واللحم ونحوها ( شرح العناية على الهداية ج5 ص 366) واستدلوا بما يأتي:
1ـ ما رواه رافع بن خديج رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:( لا قطع في ثمر ولا كثر)( سنن النسائي ج 8/86 )
فقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى القطع عن سارق الثمر و الكثر, وهما مما يتسارع إليهما الفساد . و لا فرق بين الثمر وغيره من كل ما يتسارع إليه الفساد . ذلك أن الحديث روي مطلقا من غير زيادة .
2ـ قياس ما يتسارع إليه الفساد على التافه, بجامع عدم المالية في كل لأن مالا يحتمل الادخار من سنة إلى أخرى لا يعد مالا فيكون تافها . ولما كان التافه لا قطع فيه بما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت:(كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه) (الدرية في تخريج أحاديث الهداية ج 2ص109، نصب الراية ج 3ص360 )فذلك ما يتسارع إليه الفساد ( بدائع الصنائع للكاساني ج7ص69)
وأما أبو يوسف: فقد أوجب القطع في كل شيء إلا الطين والتراب , وقد روي عنه إلا في الماء والتراب والطين والجص. وحجته في ذلك: أن سوى ما تقدم من الأموال متقومة محرزة, فهي كغيرها من حيث وجوب قطع يد السارق لها ( شرح فتح القدير ج5 ص 366)
القول الثاني :ـ ذهب مالك( بداية المجتهد ج2 ص 412) وأحمد( المغني لابن قدامة ج10ص262 ) والشافعي ( مغني المحتاج ج 4 ص162 )
إلى عدم اشتراط ذلك, فيقطع السارق عندهم ولو كان المسروق مما يتسارع إليه الفساد, وذلك بشرط بلوغ النصاب . واستدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1ـ بعموم قوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما )( سورة المائدة آية 38)
فقالوا إن الآية أوجبت قطع يد السارق مطلقا دون اشتراط ما إذا كان هذا المسروق مما يتسارع إليه الفساد أم لا, ولم يرد مخصص لهذا العموم بشأن هذه الخاصية, فمن ثم يبقى النص على عمومه .
2ـ ما تقدم من الآثار الواردة بوجوب القطع بمجرد بلوغ النصاب إذ أن عمومتها دل على ترتب القطع بمجرد بلوغه,دون شرط ما إذا كان المسروق يتسارع إليه الفساد أم لا
3ـ بقياس ما يتسارع إليه الفساد على مالا يتسارع إليه الفساد: بجامع أن كلاً منهما مال متمول عادة, وتبذل فيه نفائس الأموال. فكما أنه يجب قطع سارق ما لا يتسارع إليه الفساد, كذلك يجب قطع سارق مما يتسارع إليه الفساد .
وأجاب الجمهور على ما استدل به أبو حنيفة ومن معه:
بأن الحديث لم ينف القطع عن سارق الثمر لكونه مما يتسارع إليه الفساد, بل إن نفي القطع كان لعدم الحرز يدل لذلك حديث رافع بن خديج قوله صلى الله عليه وسلم :( لا قطع في ثمر ولا كثر ) كان جواباً لمن سأله عن الثمر المعلق هل يقطع سارقه أو لا؟ فقال عليه الصلاة والسلام:( لا قطع في ثمر ولا كثر .ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع )( سنن النسائي ج 8ص86 )
كما أجابوا عن قياس ما يتسارع إليه الفساد على التافه: بأننا لا نسلم لأن التافه لا قطع فيه على إطلاقه, وإنما ذلك إذا كان دون النصاب, وهذا مالا نختلف فيه, أما إذا بلغ نصابا ففيه القطع لعموم الآثار والآيات الواردة في القطع, كما وأن المراد بالتافه في حديث عائشة ليس هو الحقير وإنما هو ما لم تبلغ قيمته نصاباً .
ويلاحظ أن الخلاف المتقدم بين الفقهاء,إنما هو في حالة ما إذا كانت الأموال المسروقة أموال محرزة مملوكة( شرح العناية على الهداية ج5 ص366)
الترجيح:(4/157)
وإني أرجح ما ذهب إليه الجمهور القائلون بوجوب القطع بتوافر شرط النصاب لقوة أدلتهم وردهم أدلة المخالفين, فما دام أن المسروق مال قد بلغ نصاب القطع فإن القطع يتعين, ولا يمكن أن يعتبر المال الذي بلغ نصاب القطع تافهًا . ذلك أن النصاب هو القدر اللازم لإقامة الحد, فمع توافره لا يكون المال في حكم السرقة تافها, فضلا عن أن من الأموال التي عددها أبو حنيفة ومحمد باعتبارها تافهة أو مما يتسارع إليه الفساد, ما يعتبر عظيم القيمة تضن به الطباع, فلا يكون هناك مع ذلك وجه لدرء الحد في سرقة مثل هذه الأموال .
الفصل الرابع: الشروط المتعلقة بفعل السرقة .
1 ـ الشرط الأول: أن يكون الأخذ خفية:وهذا الشرط قال به جميع الفقهاء( شرح فتح القدير ج5ص354 ، بداية المجتهد ج2ص408 ، حاشية قليوبي ج4ص186 ،المغني لابن قدامة ج10ص239 ،المحلى ج11ص395)
.لأن الأخذ خفية هو الذي يميز السرقة عن غيرها من جرائم الاعتداء على المال.
بيد أن الفقهاء اختلفوا فيما بينهم في اشتراط تمام الأخذ أو أنه يكفي مجرد الشروع فيه على قولين:القول الأول: يرى أنه يجب أن يكون الأخذ تاماً . وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية( بداية المجتهد ج2ص408 ) والحنفية ( شرح العناية على الهداية ج 5 ص354) والشافعية ( مغني المحتاج ج4 ص171) والحنابلة ( المغني لابن قدامة ج10ص262 )
. فعندهم لتمام جريمة السرقة لابد أن يخرج السارق الشيء المسروق من الحرز الذي أعد له , ومن حيازة المجني عليه, وأن يدخله في حيازته. فإذا له تتوافر هذه العناصر الثلاثة, فالأخذ لا يعتبر تاماً بل ناقصاً . وهو ما يعبر عنه بالشروع في السرقة لا يستوجب القطع, واستدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1ـ استدلوا بحديث جابر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس على المختلس و المنتهب والخائن قطع )( سنن النسائي ج 8ص86 )
فقالوا: إن هناك فرقا في المعنى بينهم وبين السارق . ذلك أن السارق يأخذ المال خفية ولا يأتي منعه, فشرع القطع زجراً له, أما المختلس وغيره ممن وردوا بالحديث فلا قطع عليهم, مع أن الاختلاس نوع من الخطف يكون سراً في بدايته, وهذا يعني اشتراط الأخذ في خفية تامة في جريمة السرقة ( مغني المحتاج ج4ص171)
2ـ الأخذ التام هو الذي يتحقق به معنى هتك الحرز, فإذا لم يتحقق هذا الانتهاك تحقيقاً كاملاً لا يثبت القطع, لأن القطع عقوبة كاملة فلا يوقع إلا إذا كانت الجريمة قد ثبتت متكاملة بتحقيق الأخذ والنقل من الحرز وانتهاك الحرمات .
القول الثاني: يرى أن السرقة تحصل بمجرد وضع السارق يده على الشيء المسروق ولو لم يخرجه من حرزه ويضمه إلى حيازته. وهو مذهب أهل الظاهر , وحكي عن عائشة والحسن البصري والنخعي. فهم يرون أن السرقة جريمة تامة لا شروع فيها, تحدث بمجرد وضع اليد على المسروق ولو لم ينقل من مكانه( المغني لابن قدامة ج10ص250 ، المحلى ج 11ص 395 )
.واستدل أصحاب هذا القول بعموم قوله تعالى:(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما )( سورة المائدة آية 38)
الترجيح: وإني أرجح ما ذهب إليه الجمهور أصحاب القول الأول وذلك تمييزاً للسرقة عن غيرها, لأن وضع اليد عام يتحقق في كل جرائم الاعتداء على المال كالاختلاس والغصب والحرابة وغيرها.
2ـ الشرط الثاني:أن يكون الأخذ من حرز:الشروط المتعلقة بفعل الأخذ أن يكون الأخذ من حرز. و لم يرد نص في الشرع ولا في اللغة يعرفه.
وجرى اصطلاح الفقهاء على تعريف الحرز: بأنه الموضع الذي تحفظ فيه الأموال عادة بحيث لا يعد صاحبه مضيعا له بوضعه فيه كالدور والحوانيت وغيرها ( تفسير القرطبي ج6ص162)
وجاء في مختار الصحاح: أن الحرز هو الموضع الحصين . يقال: هذا حرز حريز , ويسمى التعويذ: حرزا. ويقال: احترز من كذا . واحترز منه أي توقاه ( مختار الصحاح ص130)
. وعلى ذلك فالحرز يرجع فيه إلى العرف, وهو يختلف باختلاف الأموال والأحوال, ويتفاوت بتفاوت الأزمان والبلدان . وحكى ابن المنذر إجماع العلماء على اشتراط الحرز ( مغني المحتاج ج4ص164)
وقد اختلف الفقهاء في اشتراط الحرز على قولين:
القول الأول: يرى أنه لابد من أن تكون السرقة من حرز, وهذا قول أكثر أهل العلم, وهو رأي عطاء والشعبي وعمر بن عبد العزيز وأبي الأسود الدؤلي وغيرهم من التابعين, وهو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء من السلف والخلف . (حاشية ابن عابدين ج 3ص267 ، حاشية قليوبي ج 4ص 190، بداية المجتهد ج2ص411 ، المغني لابن قدامة ج 10ص 249 )
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
1ـ ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( لا قطع في ثمر ولا في حريسة جبل . فإذا آواه المراح أو الجرين, فلا قطع إلا فيما بلغ ثمن المجن )( سنن النسائي ج 8ص84)
ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت في هذا الحديث القطع في الثمر إذا سرق من جرينه وفي الحريسة إذا سرقت من مراحها , ونفاه من سرقتها قبل ذلك. فدل هذا على المراح حرز للحريسة ,والجرين حرز للثمر, واعتبار الأخذ من الحرز شرطاً لوجوب القطع, ولا فرق في ذلك بين مال ومال.(4/158)
2ـ ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رجلا من مزينه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها ؟ قال:( فيها ثمنها مرتين وضروب نكال, وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن ) ( سنن ابن ماجه ج 2ص865 ، مسند أحمد ج 2ص180)
ووجه الاستدلال من هذا الحديث:أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت القطع في الحريسة إذا أخذت من العطن, والعطن حرزها . ونفي القطع في أخذها من غير حرزها وهذا يدل على أن الحرز شرط في القطع .
3ـ أنه إذا لم يتحقق الإخراج من الحرز , فلا يقال إن السرقة قد تحققت, لأن النقل من الحرز لم يتحقق وكأن الشيء باق في مكانه .
4ـ من المتفق عليه أنه لابد أن يكون الأخذ خفية, والإخراج من غير حرز لا يتوافر فيه ركن الخفية اللازم لتطبيق حد السرقة, وذلك لأن الإخراج من خفية من غير حرز يتحقق به معنى هتك حمى الحرز الذي به يثبت القطع,كما أبانت السنة ( بدائع الصنائع للكاساني ج7 ص65)
القول الثاني: يرى عدم اشتراط أن يكون الأخذ من حرز, فالسرقة عندهم تتحقق ولو كان الأخذ من غير حرز . وهذا ما ذهب إليه الظاهرية وبعض أهل الحديث ( المحلى ج11ص395 )
وقد استدل الظاهرية ومن وافقهم بالآتي:
1ـ بعموم قوله تعالى :( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ( سورة المائدة آية 38)
ووجه استدلالهم بالآية: أن الله تعالى قد رتب القطع على السرقة, فكانت هي العلة. فمتى تحققت السرقة وجب القطع بنص كلام الله تعالى جزاء لكسبه سواء أخذه من الحرز أم لا .
وقد أجاب الجمهور على هذا الاستدلال: بأن هذه الآية مخصصة بالأحاديث
التي اعتبرت الحرز شرطاً في وجوب القطع, والتي سبق بيانها عند الاستدلال على مذهبهم . كما أنها خصصت بفعله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق سرق ترساً من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم )( سنن النسائي ج 8ص 76 ، سنن أبي داود ج 4 ص 136 )
2ـ إن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بقطع السارق جملة, ولم يخص عليه الصلاة و السلام حرزاً من حرز . و لو أراد الله تعالى ألا يقطع السارق حتى يسرق من حرز ويخرجه من الدار لما أغفل ذلك ولا أهمله .
الترجيح :
وإني أرجح ما ذهب إليه الجمهور أصحاب القول الأول لقوة أدلتهم, وردهم أدلة الفريق الثاني, ولأن هذا هو الذي يتفق وكون الأخذ خفية شرطاً لوجوب القطع, لأن الخفية والاستتار لا يكون إلا بالمحافظة على المال بوضعه في حرز إخراجه منه .هذا كما أن المنطق يقتضي أن يكون هناك فارق بين المال الذي يعتني به صاحبه ويضن به وذلك بتحريزه , وبين المال غير المحرز . وإذ أن القطع في الأول واجب لحماية صاحبه له وحفظه عن الكافة, بينما في الثاني ينتفي القطع لأن المحرز ضائع بتقصير مالكه .
قائمة المراجع
* القرآن الكريم
أولاً:كتب التفسير :
1ـ تفسير القرآن الكريم العظيم : عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي ، طبعة دار إحياء الكتب العلمية ، طبع ونشر عيسى البابي الحلبي وشركاه .
ثانياً: كتب الحديث :
1ـ الدراية في تخريج أحاديث الهداية : أحمد بن علي بن حجر العسقلاني أبو الفضل ، تحقيق : السيد عبد الله هاشم اليماني المدني دار المعرفة ، بيروت .
2ـ سنن أبي داود : سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي ، تحقيق :محمد محيي الدين عبدالحميد ، دار الفكر .
3ـ سنن ابن ماجه : محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر ،بيروت.
4ـ سنن البيهقي الكبرى : أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي ، تحقيق : محمد عبد القادر عطا ،مكتبة دار الباز ،مكة المكرمة 1414 هـ.
5ـ سنن الدار قطني :علي بن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي ، تحقيق :السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة ، بيروت 1386 هـ .
6ـ سنن النسائي : أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي ، تحقيق عبدالفتاح أبو غدة ،مكتب المطبوعات الإسلامية ، حلب 1406 هـ ، الطبعة الثانية.
7ـ صحيح البخاري : محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي ، تحقيق : د مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير ، بيروت 1407 هـ ، الطبعة الثالثة .
8ـ صحيح مسلم : مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي ، بيروت .
9ـ المستدرك على الصحيحين : محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري ، تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا دار الكتب العلمية ، بيروت 1411 هـ ، الطبعة الأولى .
10ـ مسند أحمد بن حنبل : أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني، مؤسسة قرطبة ، مصر .
11ـ مصنف بن أبي شيبة : أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي ، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد ، الرياض 1409هـ ، الطبعة الأولى .
12ـ نصب الراية لأحاديث الهداية : عبدالله بن يوسف أبو محمد الحنفي الزيلعي ، تحقيق : محمد يوسف البنوري ، دار الحديث ، مصر 1357 هـ .(4/159)
13ـ نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: للإمام محمد بن علي الشوكاني الصنعاني ، طبع ونشر مصطفى عيسى البابي الحلبي .
ثالثاً :كتب الفقه :
أ ـ الفقه الحنفي :
1ـ بدائع الصنائع للكاساني : لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الطبعة الأولى ، مطبعة الجمالية .
2ـ حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار ): للشيخ محمد أمين المعروف بابن عابدين
3ـ حاشية سعد حلبي بهامش فتح القدير :لسعد الله بن عيسى الشهير بسعدي جلبي .مطبوعة مع مع فتح القدير لابن الهمام الحنفي . دار الفكر ، بيروت ، الطبعة الثانية 1397هـ . وهي مصورة عن الطبعة الأولى 1389هـ في مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.
4ـ شرح العناية على الهداية بشرح فتح القدير : لأكمل الدين محمد البابرتي ، مطبوع مع فتح القدير لابن الهمام الحنفي . دار الفكر ، بيروت ، الطبعة الثانية 1397هـ . وهي مصورة عن الطبعة الأولى 1389هـ في مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.
5ـ فتح القدير : كمال الدين محمد بن عبدالواحد المعروف بابن الهمام الحنفي ،ومعه شرح العناية على الهداية البابرتي وحاشية سعد جلبي . دار الفكر ، بيروت ، الطبعة الثانية 1397هـ . وهي مصورة عن الطبعة الأولى 1389هـ في مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، مصر.
ب ـ الفقه المالكي :
1ـ بداية المجتهد : لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد المشهور الحفيد ، طبع المكتبة التجارية الكبرى .
2ـ بلغة السالك لأقرب المسالك : للشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي . وهو حاشية على الشرح الصغير للدردير ، طبع المطبعة الأدبية ، مصر .
3ـ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير :محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي ، وهو بهامش الشرح الكبير للدردير
4 ـ منح الجليل على مختصر خليل :لأبي عبدالله محمد بن أحمد عليش .
5 ـ شرح الخرشي على المختصر الجليل :للإمام عبدالله محمد الخرشي المالكي ، وهو شرح على المختصر الجليل لأبي الضيا سيدي خليل ، الطبعة الأولى ، المطبعة الخيرية بالجمالية سنة 1308هـ .
6ـ الشرح الكبير ( شررح الدردير): لأبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد الشهير بالدردير ، وهو بهامش حاشية الدسوقي عليه
جـ ـ الفقه الشافعي :
1ـ أسنى المطالب شرح روض الطالب : لأبي يحي زكريا الأنصاري ، الطبعة الأولى ، المطبعة اليمنية ، مصر ، 1313هـ .
2ـ الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع وهو شرح الخطيب : للشيخ محمد الشربيني الخطيب ، الطبعة الأولى ، مطبعة الأزهرية 1320هـ .
3ـ حاشية قليوبي على شرح المنهاج : لسهاب الدين أحمد بن سلامة القليوبي ، ، طبعة دار إحياء الكتب العلمية ، عيسى البابي الحلبي .
4ـ مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج :للشيخ محمد الشربيني الخطيب ، وهوشرح على متن المنهاج للنووي .
5ـ منهاج الطالبين وعمدة المفتين : للشيخ محي الدين النووي ، طبعة دار إحياء الكتب العلمية ، عيسى البابي الحلبي .
6ـ نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج : للشيخ محمد بن أبي العباس بن حمزة بن شهاب الدين الرملي ، مطبعة الأميرية ببولاق ، 1292هـ .
د ـ الفقه الحنبلي :
1ـ الإقناع : للشيخ شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي ، الطبعة الأولى،1320هـ.
2ـ كشاف القناع على متن المقنع : للشيخ منصور بن إدريس الحنبلي ، الطبعة الأولى ، مطبعة الشرفية 1320هـ
3ـ المغني : لأبي محمد بن عبدالله بن قدامة المقدسي ، الطبعة الأولى ، مطبعة المنار .
هـ ـ فقه الظاهري :
1ـ المحلى :لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم ، مطبعة الإمام .
2ـ مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات : لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم ، نشر دار الكتب العلمية ، بيروت ، توزيع دار الباز ، مكة .
و ـ الفقه العام :
الإجماع : لإمام محمد بن إبراهيم بن المنذر ، تحقيق : فؤاد بن عبد لمنعم أحمد ،مطابع الدوحة الحديثة ، قطر 1401هـ ، الطبعة الأولى .
رابعاً :كتب اللغه :
1ـ ترتيب القاموس المحيط :للأستاذ طاهر أحمد الزاوي ،مطبعة الاستقامة، الطبعة الأولى.
2ـ مختار الصحاح :للإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي ،مطبعة الأميرية ببولاق 1358هـ .
3ـ لسان العرب :لابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري ، طبعة بيروت 1375هـ
===============
حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم
سؤال رقم 14235: حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم؟
السؤال:
ما حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم الذي يأتي للبلاد الأوروبية فارّاً بدينه من الظلم الذي وقع عليهه في بلده الأصلي،، وفقد فيه هويته، وفقد أمل الرجوع إلى وطنه .
الجواب:
الحمد لله
للجواب على هذا السؤال يلزم بيان أمرين :
الأول : كون الإقامة في بلد الكفار جائزة .
الثاني : قيام الحاجة إلى أخذ الجنسية .
تفصيل الأمر الأول : الإقامة في بلاد الكفار لا تجوز إلا بالشروط الآتية :(4/160)
1- وجود الحاجة الشرعية المقتضية للإقامة في بلادهم ولا يمكن سدّها في بلاد المسلمين ، مثل التجارة ، والدعوة ، أو التمثيل الرسمي لبلد مسلم ، أو طلب علم غير متوفر مثله في بلد مسلم من حيث الوجود، أو الجودة والإتقان ، أوالخوف على النفس من القتل أو السجن أو التعذيب ، وليس مجرد الإيذاء والمضايقة ، أو الخوف على الأهل والولد من ذلك، أوالخوف على المال .
2- أن تكون الإقامة مؤقتة ، لا مؤبّدة ، بل ولا يجوز له أن يعقد النية على التأبيد ، وإنما يعقدها على التأقيت؛ لأن التأبيد يعني كونها هجرة من دار الإسلام إلى دار الكفر، وهذا مناقضة صريحة لحكم الشرع في إيجاب الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام . ويحصل التأقيت بأن ينوي أنه متى زالت الحاجة إلى الإقامة في بلد الكفار قطع الإقامة وانتقل .
3- أن يكون بلد الكفار الذي يريد الإقامة فيه دار عهد ، لا دار حرب ، وإلا لم يجز الإقامة فيه . ويكون دار حرب إذا كان أهله يحاربون المسلمين .
4- توفر الحرية الدينية في بلد الكفار، والتي يستطيع المسلم بسببها إقامة شعائر دينه الظاهرة .
5- تمكنه من تعلم شرائع الإسلام في ذلك البلد . فإن عسر عليه لم تجز له الإقامة فيه لاقتضائها الإعراض عن تعلم دين الله .
6- أن يغلب ظنه بقدرته على المحافظة على دينه، ودين أهله وولده . وإلا لم يجز له؛ لأن حفظ الدين أولى من حفظ النفس والمال والأهل . فمن توفرت فيه هذه الشروط -وما أعسر توفرها- جاز له أن يقيم في بلاد الكفار ، وإلا حرم عليه؛ للنصوص الصريحة الواضحة التي تحرم الإقامة فيها، وتوجب الهجرة منها ، وهي معلومة ، وللخطورة العظيمة الغالبة على الدين والخلق ، والتي لا ينكرها إلا مكابر .
ثانياً : تحقق الحاجة الشرعية لأخذ الجنسية ، وهي أن تتوقف المصالح التي من أجلها أقام المسلم في دار الكفار على استخراج الجنسية ، وإلا لم يجز له ، لما في استخراجها من تولى الكفار ظاهراً ، وما يلزم بسببها من النطق ظاهراً بما لا يجوز اعتقاده ولا التزامه، كالرضا بالكفر أو بالقانون ، ولأن استخراجها ذريعة إلى تأبيد الإقامة في بلاد الكفار وهو أمر غير جائز - كما سبق - فمتى تحقق هذان الأمران فإني أرجو أن يغفر الله للمسلم المقيم في بلاد الكفار ما أقدم عليه من هذا الخطر العظيم ، وذلك لأنه إما مضطر للإقامة والضرورة تتيح المحظورة ، وإما للمصلحة الراجحة على المفسدة ، والله أعلم .
الشيخ: خالد الماجد عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة في جامعة الإمام مححمد بن سعود الإسلامية) . (www.islam-qa.com)
http://65.193.50.117/index.php?ln=ara&ds=qa&lv=browse&QR=14235&dgn=3
سؤال رقم 6247 : حكم الحصول على الجنسية الكافرة
السؤال :
ما حكم الحصول على الجنسية الكافرة ؟
الجواب:
الحمد لله عرضنا هذا السؤال على فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين فأجاب حفظه الله بقوله :
من اضطر إلى طلب جنسية دولة كافرة كمطارد من بلده ولم يجد مأوى فيجوز له ذلك بشرط أن يظهر دينه ويكون متمكنا من أداء الشعائر الدينية ، وأما الحصول على الجنسية من أجل مصلحة دنيوية محضة فلا أرى جوازه . والله أعلم .
الشيخ عبد الله بن جبرين (www.islam-qa.com)
http://65.193.50.117/index.php?ln=ara&ds=qa&lv=browse&QR=6247&dgn=3
لا يصح طلب جنسية دولة كافرة إلا لضرورة
نص السؤال :
نحن طلبة ندرس في كندا ما حكم التجنس بجنسيتهم... وما حكم مصافحتهم.. وتهنئتهم بأعيادهم؟
نص الإجابة :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنه لا يجوز التجنس بجنسية دولة كافرة ما لم يكن هناك ضرورة تدعو إلى ذلك، كأن يضيق على مسلم في بلده بغير حق ولا يجد بلدا مسلما يأوي إليه .
وأما المصافحة فتجوز، ولا يبدأ المسلم الكافر بالسلام، ويجيبه إذا سلم. قائلاً: وعليكم. وإذا وُجد أخلاط من المسلمين والكفار سلم عليهم ناوياً بسلامه المسلمين .
وأما التهنئة بأعيادهم فلا تجوز، لأنه إقرار لما بنيت عليه هذه الأعياد من الاعتقادات الفاسدة، كاعتقاد صلب المسيح، أو قيامته أو كونه فداء للبشر، أو ابن الله الوحيد، ونحو ذلك من الباطل .
أما معاملتهم البيع والشراء والإجارة ونحوها من عقود المعاوضات، فتجوز وفق أحكام الشريعة وضوابطها، ولا حرج في ذلك، مع الحذر من موالاتهم ومودتهم ومحبتهم، فإن ذلك لا يجوز للمسلم بحال. والله أعلم.
مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
http://216.191.147.2:8080/iweb/FATWA.showSearchSingleFatwa?FatwaId=1204&word=التجنس
فتوى رقم 3732 حكم التجنس والإقامة في دولة كافرة والانخراط في جيشها(4/161)
نص السؤال : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه الإخوة الأفاضل ـ حفظكم الله ورعاكم ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:ـ فمن منطلق قول الحق تبارك وتعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) أتوجه إليكم بهذا السؤال راجياً منكم الإجابة عليه إجابة كافية شافية لأنه يهمني ويهم شريحة كبيرة من المسلمين.. فأنا شاب مسلم من لبنان محافظ على الصلوات وأخاف الله تعالى.. قدمتُ إلى الدانمارك من عشر سنوات مع والدي حيث حصلنا على اللجوء السياسي والآن أحمل الجنسيةالدانماركية وقد انخرطت مؤخراً في دورة تدريبية خاصة بالشرطة علماً بأن الطالب بعد إنهاء هذه الدورة يجتاز إمتحاناً وفي حالة نجاحه يلتحق بالشرطة ويُصبح شرطياً تابعاً لهذه البلاد.. إلا أني سمعتُ من بعض الإخوة المسلمين بأن هذه الوظيفة حرام ولا يجوز للمسلم أن ينخرط في سلك الشرطة والجيش التابعان لهذه الدولة لأنها كافرة تحكم بغير شريعة الله... ويوجد من المشايخ من أجاز للمسلم أن يُقاتل بصف الجيش الكافر ضد جيش تابعٍ لدولة إسلامية وقد وقع عندي إشكال في هذين القولين المتضاربين فلذا أود معرفة الحكم الشرعي في هذه المسألة الخطيرة. وجزاكم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء أبو عبد الله نيابة عن الشاب ذيب
نص الإجابة : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد: أولاً : اعلم - أخي الكريم - أنه لا يجوز للمسلم أن يتجنس بجنسية دولة كافرة ، لأن ذلك وسيلة إلى موالاتهم والموافقة على ما هم عليه من الباطل ، ولو بعد حين. أما الإقامة بدون أخذ الجنسية ، فالأصل فيها المنع أيضاً لقوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم * قالوا كنا مستضعفين في الأرض * قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها * فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً ).[ النساء]. ولقوله عليه الصلاة والسلام : "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين" .[ رواه أبو داود والترمذي]. ولغير ذلك من الأدلة ، وإجماع المسلمين على وجوب الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام مع الاستطاعة ، ولكن من أقام من أهل العلم والبصيرة في الدين بين المشركين لإبلاغهم دين الله ودعوتهم إليه فلا حرج عليه ، إذا لم يخش الفتنة في دينه وكان يرجو التأثير فيهم وهدايتهم ، أو كان مضطراً لذلك ، والضرورة تقدر بقدرها . أما موضوع الانخراط معهم في الجيش أو الشرطة : فالذي يظهر من كلام أهل العلم أنه لا يجوز ذلك ، لعموم الأدلة التي تنهي عن الإقامة بين ظهراني المشركين ، ولما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة لا تحمد عقباها ، فقد تقع حرب بين هذه الدولة الكافرة وبين أي دولة مسلمة . وحينئذ ما ذا سيصنع المسلم الذي يكون تحت لواء هذه الدولة الكافرة ؟ هل سيرفض الأوامر أم سيطيع ؟ وهناك إشكال آخر وهو : القتال تحت راية جاهلية ، والموت تحت هذه الراية في حال دخلت هذه الدولة مع دولة أخرى كافرة ، فعن أي شيء يدافع هذا المسلم ، هل سيقتل في سبيل الله؟ والخلاصة أن العمل في جيش دولة كافرة لا يجوز ، إلا إذا كانت هذه الدولة التي يعمل في جيشها لا تقاتل المسلمين ولا تخرجهم من ديارهم ولا تظاهر على إخراجهم ، بأي صورة من الصور، ولا يكون المسلم فيها جندياً محارباً ، ولكن في أعمال الشرطة المدنية ، وفي النفس من هذا شيء أيضاً . وأما عن الذي أفتاك من الشيوخ بأنه يجوز أن يقاتل المسلم تحت لواء جيش كافر يحارب دولة مسلمة ، فهذا لا يقوله من له أدنى علم بالشرع ، وهو كلام باطل والصواب خلافه . والله أعلم
مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه المفتي
http://216.191.147.2:8080/iweb/FATWA.showSearchSingleFatwa?FatwaId=3732&word=التجنس
رابط الموضوع
كتبه عبد الله زقيل
===============
شبهات وأباطيل لخصوم الإسلام حول ميراث المرأة
رفعت مرسي طاحون
بدأت في أوروبا خلال الفترة الأخيرة هجمة شرسة ضد الإسلام ، فقد صدر أخيرًا آلاف الكتب التي تهاجم الدين الإسلامي ، وسبب هذه الهجوم أن عدد الذين يعتنقون الإسلام في دول أوروبا زاد زيادة كبيرة ، وشعرت أوروبا بنوع من الخطر تجاه هذه الزيادة
أدلة العدوان على الإسلام :(4/162)
ومن الأدلة على العدوانية الغربية التي تستهدف الإسلام وأهله قديمًا وحديثًا ، ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق "ريتشارد نيكسون" في كتابه الأخير "اقتناص اللحظة " ص : 195 " : " يحذر بعض المراقبين من أن الإسلام سوف يكون قوة جغرافية متعصبة ومتراصة ، وأن نمو عدد أتباعه ، ونمو قوته المالية سوف يفرضان تحديًا رئيسيًا ، وأن الغرب سوف يضطر لتشكيل حلف جديد مع موسكو من أجل مواجهة عالم إسلامي معاد وعنيف " .. ويضيف نيكسون : " إن الإسلام و الغرب على تضاد ، وأن المسلمين ينظرون إلى العالم على أنه يتألف من معسكرين لا يمكن الجمع بينهما ، دار الإسلام ودار الحرب " . ، وأنه بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي ، وانحلال حلف "وارسو " جرى تصعيد متعمد للعدوانية الغربية ضد الإسلام ، حتى إن مدير معهد " بروكنغر " في واشنطون " هيلموت سونفيل " يقول : " إن ملف شمال الأطلسي سوف يعيش ، وأن حلف الغرب سيبقى مجموعة دول لها قيم أساسية مشتركة ، وستبقى هذه المجموعة متماسكة معًا من خلال الشعور بخطر خارجي من الفوضى أو التطرف الإسلامي " .
ويقول وزير الخارجية الأمريكية الأسبق "هنري كيسنجر" في إبريل سنة "1990م "في خطابه أمام المؤتمر السنوي لغرفة التجارة الدولية : " إن الجبهة الجديدة التي على الغرب مواجهتها هي العالم الإسلامي ، باعتبار هذا العالم العدو الجديد للغرب ، وأن حلف الأطلسي باقٍ رغم انخفاض حدة التوتر بين الشرق والغرب في أوروبا ، ذلك أن أكثر الأخطار المهددة للغرب في السنوات القادمة آتية من خارج أوروبا ، وفي نهاية التسعينيات فإن أخطر التحديات للغرب ستأتي من ناحية الجنوب ـ أي المغرب العربي ـ والشرق الأوسط " .
سلاح العدوان على الإسلام :
وهنا أخذت أوروبا بتجنيد المستشرقين ليكتبوا ضد الإسلام ، فالإستشراق لم يكن في أي وقت من الأوقات مجرد بحث علمي كما ينظر إليه بعض المتساهلين ، بل يخدم بدرجة أولى ونهائية موقف التعبئة الشاملة لدراسة " العدو الإسلامي " ، والنفاذ إليه " فالقلم والفكر والسلاح " كلها مداخل أساسية اعتمد عليها الاستعمار التقليدي والجديد على حد سواء لتطويق العالم الإسلامي ، وفرض الهيمنة عليه ، ولذلك ما إن انتهت مرحلة الاستعمار القديم وأنماطه حتى ظهر نجم الإستشراق الذي لا يعيش إلا في ظل الحرب ، ولكنه تحول إلى قطاعات ووسائل أخرى تتصل بميادين التبشير والإعلام ، وهذا ما يفسر لنا الحملات الشعواء التي يرفعها الإعلام الغربي باستمرار على الإسلام والمسلمين ، أو المطبوعات الغزيرة التي تنهض بها الجامعات بنية إثارة الشكوك والتشويه .
وتركيز المستشرقين في الهجوم على الإسلام يتم من ناحية المرأة في كثير من النواحي ، فقد حاول أعداء الإسلام النيل من نظام الإرث ومهاجمته ، واستدلوا في هجومهم على أن المرأة ظلت فيه مظلومة ؛ لأن للذكر مثل حظ الأنثيين ، واستغلوا هذه القسمة وادعوا على الله كذبًا أنها قسمة غير عادلة ، وأن الإسلام قد فضل فيها الإبن على حساب حق البنت ، وأن ذلك يتنافى مع مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام ، ولذلك ظهرت في عالمنا الإسلامي حركات التحرر والسفور ، تريد بها المرأة رفع ما وقع عليها من ظلم ، سواءً أكان ذلك حقيقة أو شعورًا خاصًا بها ، وتسعى لنيل ما حُرمت منه من حقوق ، إما أن يكون الدين قد كفلها لها ، وإما أن تكون حقوقًا رأت غيرها من النساء نالتها ، أو تسعى لنيلها بصرف النظر عن مشروعيتها ، وتبغي بحركتها هذه المساواة مع الرجل في كل ما يتمتع به من حقوق أو في أغلبها على حسب ما تراه هي .
ومن المؤسف أن بعض الدول الإسلامية الحاضرة جرت وراء التقليد واستجابت لصيحات النساء المتحررات ، فقضت بمساواة المرأة مع الرجل في الميراث ، وهو خروج على أمر الله ليس له فيما أعلم أية شبهة يمكن الاستناد إليها ، وقد مرت قرون طويلة على المسلمين ، وهم لا يبغون بشرع الله بديلاً .
مهاجمة نظام المواريث الإسلامي :
إن أعداء الإسلام الذين يهاجمون نظام الإرث في الإسلام ، ويدعون أن المرأة مظلومة ؛ لأن للذكر مثل حظ الانثيين ، فهذا ادعاء باطل ومردود عليه ، ولم يقصد به إلا الهجوم غير القائم على أساس من منطق أو تفكير ، فنظام الإرث في الإسلام نظام مثالي ، فهو إذ يقرر للمرأة نصف نصيب الرجل ، فإنه قد حقق العدالة الاجتماعية بينهما .
فالمرأة قديمًا كانت تباع وتشترى ، فلا إرث لها ولا ملك ، وإن بعض الطوائف اليهودية كانت تمنع المرأة من الميراث مع إخوتها الذكور ، وإن الزوجة كانت تباع في إنجلترا حتى القرن الحادي عشر ، وفي سنة " 1567م " صدر قرار من البرلمان الاسكتلندي يحظر على المرأة أن يكون لها سلطة على شيء من الأشياء .
أما عرب الجاهلية فقد وضعوا المرأة في أخس وأحقر مكان في المجتمع ، فكانت توأد طفلة وتُورَث المرأة كما يورث المتاع ، وكانوا لا يورثون النساء والأطفال ، ح
==============
تحريم مشاركة الكفار في أعيادهم
شيخ الإسلام ابن تيمية
فصل
إذا تقرر هذا الأصل في مشابهة الكفار فنقول :(4/163)
موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من الطريقين :
الطريق الأول العام :
هو ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس من ديننا ولا عادة سلفنا فيكون فيه مفسدة موافقتهم وفي تركه مصلحة مخالفتهم حتى لو كانت موافقتهم في ذلك أمرا اتفاقيا ليس مأخوذا عنهم لكان المشروع لنا مخالفتهم لما في مخالفتهم من المصلحة لنا كما تقدمت الإشارة إليه فمن وافقهم فقد فوت على نفسه هذه المصلحة وإن لم يكن قد أتى بمفسدة فكيف إذا جمعهما ، ومن جهة أنه من البدع المحدثة وهذه الطريق لا ريب في أنها تدل على كراهة التشبه بهم في ذلك فإن أقل أحوال التشبه بهم أن يكون مكروها وكذلك أقل أحوال البدع أن تكون مكروهة ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد مثل قوله صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم) فإن موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقا وكذلك قوله (خالفوا المشركين) ونحو ذلك مثل ما ذكرناه من دلالة الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الدلائل ، فمن انعطف على ما تقدم من الدلائل العامة نصا وإجماعا وقياسا تبين له دخول هذه المسألة في كثير مما تقدم من الدلائل وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم الباطل وأن هذا محرم كله بخلاف مالم يكن من خصائص دينهم ولا شعارا له مثل نزع النعلين في الصلاة فإنه جائز كما أن لبسهما جائز وتبين له أيضا الفرق بين ما بقينا فيه على عادتنا لم نحدث شيئا نكون به موافقين لهم فيه وبين أن نحدث أعمالا أصلها مأخوذ عنهم وقصدنا موافقتهم أو لم نقصد .
وأما الطريق الثاني الخاص :
في نفس أعياد الكفار فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار :
أما الكتاب:(4/164)
فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله تعالى (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما) فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى (والذين يشهدون الزور) قال : هو الشعانين ، وكذلك ذكر عن مجاهد قال : هو أعياد المشركين، وكذلك عن الربيع بن أنس قال: هو أعياد المشركين ، وفي معنى هذا ما روي عن عكرمة قال: لعب كان لهم في الجاهلية، وقال القاضي أبو يعلى :" مسألة في النهي عن حضور أعياد المشركين وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن الضحاك في قوله تعالى (والذين لا يشهدون الزور) قال: أعياد المشركين ، وبإسناده عن أبي سنان عن الضحاك ( والذين لا يشهدون الزور) كلام الشرك ، وبإسناده عن جويبر عن الضحاك (والذين لا يشهدون الزور) قال: أعياد المشركين، وروى بإسناده عن عمرو بن مرة ( لا يشهدون الزور) لا يمالئون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم ، وبإسناده عن عطاء بن يسار قال: قال عمر: إياكم ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم ، وقول هؤلاء التابعين إنه أعياد الكفار ليس مخالفا لقول بعضهم إنه الشرك أو صنم كان في الجاهلية ولقول بعضهم إنه مجالس الخنا وقول بعضهم إنه الغناء لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا يذكر الرجل نوعا من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه أو لينبه به على الجنس كما لو قال العجمي ما الخبز فيعطى رغيفا ويقال له هذا بالإشارة إلى جنس لا إلى عين الرغيف، لكن قد قال قوم إن المراد شهادة الزور التي هي الكذب، وهذا فيه نظر فإنه قال ( لا يشهدون الزور) ولم يقل لا يشهدون بالزور والعرب تقول شهدت كذا إذا حضرته كقول ابن عباس( شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم )،وقول عمر( الغنيمة لمن شهد الوقعة )وهذا كثير في كلامهم وأما شهدت بكذا فمعناه أخبرت به ، ووجه تفسير التابعين المذكورين أن الزور هو المحسن المموه حتى يظهر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( المتشبع بمالم يعط كلابس ثوبي زور) لما كان يظهر ما يعظم به مما ليس عنده،والشاهد بالزور مظهر كلاما يخالف الباطن ولهذا فسره السلف تارة بما يظهر حسنه لشبهة أو لشهوة وهو قبيح في الباطن فالشرك ونحوه يظهر حسنه للشهوة والغناء نحوه يظهر حسنه للشهوة ، وأما أعياد المشركين فجمعت الشبهة والشهوة والباطل ولا منفعة فيها في الدين وما فيها من اللذة العاجلة فعاقبتها إلى ألم فصارت زورا وحضورها شهودها ، وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده ، ثم مجرد هذه الآية فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم ذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم وغيرها من الزور ويقتضي الندب إلى ترك حضورها وقد يفيد كراهية حضورها لتسمية الله لها زورا فأما تحريم شهودها من هذه الآية ففيه نظر، ودلالتها على تحريم فعلها أوجه لأن الله سماها زورا وقد ذم من يقول الزور وإن لم يضر غيره بقوله في المتظاهرين فقال ( وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) وقال تعالى ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان و اجتنبوا قول الزور) ففاعل الزور كذلك، وقد يقال قول الزور أبلغ من فعله لأنه إذا مدحهم على مجرد تركهم شهوده دل على أن فعله مذموم عنده معيب إذ لو كان فعله جائزا والأفضل تركه لم يكن في مجرد شهوده أو ترك شهوده كبير مدح إذ شهود المباحات لا منفعة فيها وعدم شهودها قليل التأثير، وقد يقال هذا مبالغة في مدحهم إذ كانوا لا يحضرون مجالس البطالة وإن كانوا لا يفعلون هم الباطل والله تعالى قال (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض) هونا فجعل هؤلاء المنعوتين هم عباد الرحمن وعبودية الرحمن واجبة فتكون هذه الصفات واجبة وفيه نظر إذ قد يقال في هذه الصفات ما لا يجب ولأن المنعوتين وهم المستحقون لهذا الوصف على وجه الحقيقة والكمال قال الله تعالى( إنما المؤمنون الذين إذ ذكر الله وجلت قلوبهم) وقال تعالى( إنما يخشى الله من عباده العلماء) وقوله صلى الله عليه وسلم ( ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان الحديث) وقال (ما تدعون المفلس) ( ما تدعون الرقوب) ونظائره كثيرة ، فسواء كانت الآية دالة على تحريم ذلك أو كراهته أو استحباب تركه حصل أصل المقصود إذا المقصود بيان استحباب ترك موافقتهم أيضا فإن بعض الناس قد يظن استحباب فعل ما فيه موافقة لهم لما فيه من التوسيع على العيال أو من إقرار الناس على اكتسابهم ومصالح دنياهم فإذا علم استحباب ترك ذلك كان هو المقصود .
وأما السنة :
فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال ( ما هذان اليومان ) قالوا ( كنا نلعب فيهما في الجاهلية ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) رواه أبو داود بهذا اللفظ حدثنا موسى بن إسمعيل حدثنا حماد عن حميد عن أنس ورواه أحمد والنسائي وهذا إسناد على شرط مسلم ،(4/165)
فوجه الدلالة:
أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال ( إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين )والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما كقوله تعالى ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) وقوله تعالى (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل) وقوله تعالى (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) وقوله تعالى ( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) ومنه الحديث في المقبور (فيقال له أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به خيرا منه مقعدا في الجنة ويقال للآخر انظر إلى مقعدك من الجنة أبدلك الله به مقعدا من النار)، وقول عمر رضي الله عنه للبيد (ما فعل شعرك) قال (أبدلني الله به البقرة وآل عمران) وهذا كثير في الكلام ، فقوله صلى الله عليه وسلم(قد أبدلكم الله بهما) خيرا يقتضي ترك الجمع بينهما لا سيما قوله خيرا منهما يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية، وايضا فقوله لهم (إن الله قد أبدلكم )لما سألهم عن اليومين فأجابوه إنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضا بيومي الإسلام إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسبا إذ أصل شرع اليومين الواجبين الإسلاميين كانوا يعملونه ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية ، وفي قول أنس( ولهم يومان يلعبون فيهما) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما) دليل على أن أنسا رضي الله عنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم أبدلكم بهما تعويضا باليومين المبدلين وأيضا فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد خلفائه ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه لكانوا قد بقوا على العادة إذ العادات لا تغير إلا بمغير يزيلها لا سيما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوقة إلى اليوم الذي يتخذونه عيدا للبطالة واللعب ولهذا قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم لقوة مقتضيها من نفوسهم وتوفر همم الجماهير على اتخاذها فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانت باقية ولو على وجه ضعيف فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا وهذا أمر بين لا شبهة فيه فإن مثل ذينك العيدين لو عاد الناس إليهما بنوع ما مما كان يفعل فيهما إن رخص فيه كان مراغمة بينه وبين ما نهى عنه فهو المطلوب والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموما ولو لم يكن أشد منه فإنه مثله على ما لا يخفى إذ الشر الذي له فاعل موجود يخالف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي ،
الحديث الثاني:
ما رواه أبو داود حدثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو قلابة حدثني ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال (إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟) قالوا (لا) قال (فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟) قالوا (لا) قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)
أصل هذا الحديث في الصحيحين وهذا الإسناد على شرط الصحيحين وإسناده كلهم ثقات مشاهير وهو متصل بلا عنعنة ، وبوانة بضم الباء الموحدة موضع قريب من مكة وفيه يقول وضاح اليمن:
أيا نخلتي وادي بوانة حبذا *** إذا نام حراس النخيل جناكما
وسيأتي وجه الدلالة منه،(4/166)
وقال أبو داود في سننه حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي من أهل الطائف حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت (خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الناس يقولون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أبده بصري فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة الكتاب فسمت الأعراب والناس يقولون الطبطبية الطبطبية فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه قالت فأقر له ووقف واستمع منه فقال (يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ولد ذمر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم) قال( لا أعلم إلا أنها قالت خمسين) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل بها من هذه الأوثان شيء؟) قال (لا) قال (فأوف بما نذرت به لله) قال( فجمعها فجعل يذبحها فانفلتت منه شاة فطلبها وهو يقول اللهم أوف بنذري فظفر بها فذبحها ).
قال أبو داود حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الحميد ابن جعفر عن عمرو بن شعيب عن ميمونة بنت كردم عن سفيان عن أبيها نحوه مختصرا شيء منه قال (هل بها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية؟) قال (لا) قال قلت (إن أمي هذه عليها نذر مشي فأقضيه عنها) وربما قال ابن بشار (أنقضيه عنها) قال (نعم ).
وقال حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عبيد الله بن الاخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت (يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف) قال (أوفي بنذرك) قالت (إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية) قال (لصنم) قالت (لا) قال (لوثن) قالت( لا) قال (أوفي بنذرك)
فوجه الدلالة:
أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعما إما إبلا وإما غنما وإما كانت قضيتين بمكان سماه فسأله النبي صلى الله عليه وسلم ( هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟) قال (لا) قال (فهل كان بها عيد من أعيادهم؟) قال (لا) فقال (أوف بنذرك ثم قال لا وفاء لنذر في معصية الله) وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله من وجوه:
أحدها : أن قوله (فأوف بنذرك) تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء وذلك يدل على أن الوصف هو سبب الحكم فيكون سبب الأمر بالوفاء وجود النذر خاليا من هذين الوصفين فيكون وجود الوصفين مانعا من الوفاء ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به.
والثاني : أنه عقب ذلك بقوله ( لا وفاء لنذر في معصية الله) ولولا اندراج الصورة المسئول عنها في هذا اللفظ العام وإلا لم يكن في الكلام ارتباط والمنذور في نفسه وإن لم يكن معصية لكن لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الصورتين قال له (فأوف بنذرك) يعني حيث ليس هناك ما يوجب تحريم الذبح هناك فكان جوابه صلى الله عليه وسلم فيه أمرا بالوفاء عند الخلو من هذا ونهى عنه عند وجود هذا وأصل الوفاء بالنذر معلوم فبين مالا وفاء فيه واللفظ العام إذا ورد على سبب فلا بد أن يكون السبب مندرجا فيه.
والثالث : أنه لو كان الذبح في موضع العيد جائزا لسوغ صلى الله عليه وسلم للناذر الوفاء به كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به بل لأوجب الوفاء به إذ كان الذبح بالمكان المنذور واجبا فإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه فكيف الموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم،(4/167)
يوضح ذلك أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك فالعيد يجمع أمورا منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة ومنها اجتماع فيه ومنها أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقا وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة (إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا) والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس (شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمكان كقوله صلى الله عليه وسلم (لا تتخذوا قبري عيدا) وقد يكون لفظ العيد اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب كقول النبي صلى الله عليه وسلم (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا)، فقول النبي صلى الله عليه وسلم (هل بها عيد من أعيادهم؟) يريد اجتماعا معتادا من اجتماعاتهم التي كانت عندهم عيدا فلما قال لا قال له (أوف بنذرك)، وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم مانع من الذبح بها وإن نذر كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك وإلا لما انتظم الكلام ولا حسن الاستفصال، ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو لمشاركتهم في التعييد فيها أو لإحياء شعار عيدهم فيها ونحو ذلك إذ ليس إلا مكان الفعل أو نفس الفعل أو زمانه، فإن كان من أجل تخصيص البقعة وهو الظاهر فإنما نهى عن تخصيص البقعة لأجل كونها موضع عيدهم ولهذا لما خلت عن ذلك أذن في الذبح فيها وقصد التخصيص باق فعلم أن المحذور تخصيص بقعة عيدهم وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذورا فكيف بنفس عيدهم هذا كما أنه لما كرهها لكونها موضع شركهم بعبادة الأوثان كان ذلك أدل على النهي عن الشرك وعبادة الأوثان، وإن كان النهي لأن في الذبح هناك موافقة لهم في عمل عيدهم فهو عين مسألتنا إذ مجرد الذبح هناك لم يكره على هذا التقدير إلا بموافقتهم في العيد إذ ليس فيه محذور آخر وإنما كان الاحتمال الأول أظهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله إلا عن كونها مكان عيدهم ولم يسأله هل يذبح فيها وقت عيدهم ولأنه قال (هل كان بها عيد من أعيادهم؟) فعلم أنه وقت السؤال لم يكن العيد موجودا وهذا ظاهر فإن في الحديث الأخير أن القصة كانت في حجة الوداع وحينئذ لم يكن قد بقي عيد للمشركين ، فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يذبح بمكان كان الكفار يعملون فيه عيدا وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد والسائل لا يتخذ المكان عيدا بل يذبح فيه فقط فقد ظهر أن ذلك سد للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم خشية أن يكون الذبح هناك سببا لإحياء أمر تلك البقعة وذريعة إلى اتخاذها عيدا مع أن ذلك العيد إنما كان يكون والله أعلم سوقا يتبايعون فيها ويلعبون كما قالت له الأنصار يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية لم تكن أعياد الجاهلية عبادة لهم ولهذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين كونها مكان وثن وكونها مكان عيد ، وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان وأعياد الكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد كما أن كفر الطائفتين سواء في التحريم وإن كان بعضه أشد تحريما من بعض ولا يختلف حكمهما في حق المسلم لكن أهل الكتابين أقروا على دينهم مع ما فيه من أعيادهم بشرط أن لا يظهروهاولا شيئا من دينهم وأولئك لم يقروا بل أعياد الكتابيين التي تتخذ دينا وعبادة أعظم تحريما من عيد يتخذ لهوا ولعبا لأن التعبد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرمه ولهذا كان الشرك أعظم إثما من الزنا ولهذا كان جهاد أهل الكتاب أفضل من جهاد الوثنيين وكان من قتلوه من المسلمين له أجر شهيدين، وإذا كان الشارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان خشية أن يتدنس المسلم بشيء من أمر الكفار الذين قد آيس الشيطان أن يقيم أمرهم في جزيرة العرب فالخشية من تدنسه بأوصاف الكتابيين الباقين أشد والنهي عنه أوكد كيف وقد تقدم الخبر الصادق بسلوك طائفة من هذه الأمة سبيلهم .
والوجه الثالث من السنة:(4/168)
أن هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها ومعلوم أنه لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محا الله ذلك عنه فلم يبق شيء من ذلك ومعلوم أنه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد لأن المقتضى لها قائم من جهة الطبيعة التي تحب ما يصنع في الأعياد خصوصا أعياد الباطل من اللعب واللذات ومن جهة العادة التي ألفت ما يعود من العيد فإن العادة طبيعة ثانية وإذا كان المقتضى قائما قويا فلولا المانع القوي لما درست تلك الأعياد وهذا يوجب العلم اليقيني بأن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كان يمنع أمته منعا قويا عن أعياد الكفار ويسعى في دروسها وطموسها بكل سبيل وليس في إقرار أهل الكتاب على دينهم إبقاء لشيء من أعيادهم في حق أمته كما أنه ليس في ذلك إبقاء في حق أمته لما هم عليه في سائر أعمالهم من سائر كفرهم ومعاصيهم بل قد بالغ صلى الله عليه وسلم في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من المباحات وصفات الطاعات لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم ولتكون المخالفة في ذلك حاجزا ومانعا من سائر أمورهم فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أهل الجحيم كان أبعد لك عن أعمال أهل الجحيم، فليس بعد حرصه على أمته ونصحه لهم بأبي هو وأمي غاية وكل ذلك من فضل الله عليه وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون والوجه الرابع من السنة:
ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت (دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث) قالت (وليستا بمغنيتين) فقال أبو بكر (أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وذلك يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا) وفي رواية (يا ابا بكر إن لكل قوم عيدا وإن عيدنا هذا اليوم)
وفي الصحيحين أيضا أنه قال (دعهما يا ابا بكر فإنها أيام عيد) وتلك الأيام أيام منى فالدلالة من وجوه :
أحدها : قوله (إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا) فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم كما أنه سبحانه لما قال (ولكل وجهة هو موليها) وقال (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم وذلك أن اللام تورث الاختصاص فإذا كان لليهود عيد وللنصارى عيد كانوا مختصين به فلا نشركهم فيه كما لا نشركهم في قبلتهم وشرعتهم وكذلك أيضا على هذا لا ندعهم يشركوننا في عيدنا.
الوجه الثاني : قوله (وهذا عيدنا) فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا فليس لنا عيد سواه وكذلك قوله (وإن عيدنا هذا اليوم) فإن التعريف باللام والإضافة يقتضي الاستغراق فيقتضي أن يكون جنس عيدنا منحصرا في جنس ذلك اليوم كما في قوله في الصلاة (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)،وليس غرضه صلى الله عليه وسلم الحصر في عين ذلك العيد أو عين ذلك اليوم بل الإشارة إلى جنس المشروع كما يقول الفقهاء باب صلاة العيد وصلاة العيد كذا وكذا ويندرج فيها صلاة العيدين وكما يقال لا يجوز صوم يوم العيد،وكذا قوله (وإن هذا اليوم) أي جنس هذا اليوم كما يقول القائل لما يعانيه من الصلاة هذه صلاة المسلمين ويقال لمخرج المسلمين إلى الصحراء وما يفعلونه من التكبير والصلاة ونحو ذلك هذا عيد المسلمين ونحو ذلك، ومن هذا الباب حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب)رواه أبو دواد والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح ،فإنه دليل على مفارقتنا لغيرنا في العيد والتخصيص بهذه الأيام الخمسة لأنه يجتمع فيها العيدان المكاني والزماني ويطول زمنه وبهذا يسمى العيد الكبير فلما كملت صفة التعييد حصر الحكم فيه لكماله أو لأنه هو عيد الأيام وليس لنا عيد هو ايام إلا هذه الخمسة.
الوجه الثالث: أنه رخص في لعب الجواري بالدف وتغنيهن معللا بأن لكل قوم عيدا وأن هذا عيدنا، وذلك يقتضي أن الرخصة معللة بكونه عيد المسلمين وأنها لا تتعدى إلى أعياد الكفار ولأنه لا يرخص في اللعب في أعياد الكفار كما يرخص فيه في أعياد المسلمين إذ لو كان ما يفعل في عيدنا من ذلك اللعب يسوغ مثله في أعياد الكفار أيضا لما قال( فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا) لأن تعقيب الحكم بالوصف بحرف الفاء دليل على أنه علة فيكون علة الرخصة أن كل أمة مختصة بعيد وهذا عيدنا وهذه العلة مختصة بالمسلمين فلو كانت الرخصة معلقة باسم عيد لكان الأعم مستقلا بالحكم فيكون الأخص عديم التأثير، فلما علل بالأخص علم أن الحكم لا يثبت بالوصف الأعم وهو مسمى عيد فلا يجوز لنا أن نفعل في كل عيد للناس من اللعب ما نفعل في عيد المسلمين وهذا هو المطلوب، وهذا فيه دلالة على النهي عن التشبه بهم في اللعب ونحوه
والوجه الرابع من السنة:(4/169)
أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته وكان اليهود بالمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد هادنهم حتى نقضوا العهد طائفة بعد طائفة وما زال بالمدينة يهود وإن لم يكونوا كثيرا فانه صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي وكان في اليمن يهود كثير والنصارى بنجران وغيرها والفرس بالبحرين ومن المعلوم أن هؤلاء كانت لهم أعياد يتخذونها ومن المعلوم أيضا أن المقتضي لما يفعل في العيد من الأكل والشرب واللباس والزينة واللعب والراحة ونحو ذلك قائم في النفوس كلها إذا لم يوجد مانع خصوصا نفوس الصبيان والنساء وأكثر الفارغين من الناس ثم من كان له خبرة بالسير علم يقينا أن المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يشركونهم في شيء من أمرهم ولا يغيرون لهم عادة في أعيادالكافرين بل ذلك اليوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين يوم من الأيام لا يختصونه بشيء أصلا إلا ما قد اختلف فيه من مخالفتهم فيه كصومه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، فلولا أن المسلمين كان من دينهم الذي تلقوه عن نبيهم المنع من ذلك والكف عنه لوجب أو يوجد من بعضهم فعل بعض ذلك لأن المقتضى لذلك قائم كما يدل عليه الطبيعة والعادة فلولا المانع الشرعي لوجد مقتضاه، ثم على هذا جرى عمل المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين غاية ما كان يوجد من بعض الناس ذهاب إليهم يوم العيد للتنزه بالنظر إلى عيدهم ونحو ذلك فنهى عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة عن ذلك كما سنذكره فكيف لو كان بعض الناس يفعل بعض ما يفعلونه أو ما هو سبب عيدهم ، بل لما ظهر من بعض المسلمين اختصاص يوم عيدهم بصوم مخالفة لهم نهى الفقهاء أو كثير منهم عن ذلك لأجل ما فيه من تعظيم ما لعيدهم أفلا يستدل بهذا على أن المسلمين تلقوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم المنع عن مشاركتهم في أعيادهم وهذا بعد التأمل بين جدا
الوجه الخامس من السنة:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهو غدا والنصارى بعد غد) متفق عليه وفي لفظ صحيح (بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له)
وعن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضى لهم) وفي رواية (بينهم قبل الخلائق) رواه مسلم
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة عيدا في غير موضع ونهى عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد ثم إن في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى واللام تقتضي الاختصاص ثم هذا الكلام يقتضي الاقتسام إذا قيل هذه ثلاثة أثواب أو ثلاثة غلمان هذا لي وهذا لزيد وهذا لعمرو أوجب ذلك أن يكون كل واحد مختصا بما جعل له لا يشركه فيه غيره فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت أو عيد يوم الأحد خالفنا هذا الحديث وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي إذ لا فرق بل إذا كان هذا في عيد يعرف بالحساب العربي فكيف بأعياد الكافرين العجمية التي لا تعرف إلا بالحساب الرومي القبطي أو الفارسي أو العبري ونحو ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم (بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله) أي من أجل كما يروى أنه قال (أنا افصح العرب بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد ابن بكر) ،والمعنى والله أعلم أي نحن الآخرون في الخلق السابقون في الحساب والدخول إلى الجنة كما قد جاء في الصحيح (إن هذه الأمة أول من يدخل الجنة من الأمم وإن محمدا صلى الله عليه وسلم أول من يفتح له باب الجنة) وذلك لأنا أوتينا الكتاب من بعدهم فهدينا لما اختلفوا فيه من العيد السابق للعيدين الآخرين وصار عملنا الصالح قبل عملهم فلما سبقناهم إلى الهدى والعمل الصالح جعلنا سابقين لهم في ثواب العمل الصالح ومن قال بيد ههنا بمعنى غير فقد أبعد
الوجه السادس من السنة:
ما روى كريب مولى ابن عباس رضي الله عنهما قال (أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة رضي الله عنها أسألها أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما قالت (كان يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما كان يصوم من الأيام ويقول إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم)) رواه أحمد والنسائي وابن أبي عاصم وهو محفوظ من حديث عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن محمد ابن عمر بن علي عن أبيه عن كريب وصححه بعض الحفاظ(4/170)
وهذا نص في شرع مخالفتهم في عيدهم وإن كان على طريق الاستحباب وسنذكر حديث نهيه عن صوم يوم السبت وتعليل ذلك أيضا بمخالفتهم ونذكر حكم صومه مفردا عند العلماء وأنهم متفقون على شرع مخالفتهم في عيدهم وإنما اختلفوا هل مخالفتهم يوم عيدهم بالصوم لمخالفة فعلهم أو بالإهمال حتى لا يقصد بصوم ولا بفطر أو يفرق بين العيد العربي وبين العيد العجمي على ما سنذكره إن شاء الله تعالى .
وأما الإجماع والآثار:
فمن وجوه:
أحدها : ما قدمت التنبيه عليه من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس ثم لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهيا من ذلك وإلا لوقع ذلك كثيرا إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم ما فيه واقع لا محالة والمقتضى واقع فعلم وجود المانع والمانع هنا هو الدين فعلم أن الدين دين الإسلام هو المانع من الموافقة وهو المطلوب
الثاني : أنه قد تقدم في شروط عمر رضي الله عنه التي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام وسموا الشعانين والباعوث فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها فكيف يسوغ للمسلمين فعلها أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهرا لها، وذلك أنا إنما منعناهم من إظهارها لما فيه من الفساد إما لأنها معصية أو شعار المعصية وعلى التقديرين فالمسلم ممنوع من المعصية ومن شعائر المعصية ولو لم يكن في فعل المسلم لها من الشر إلا تجرئة الكافر على إظهارها لقوة قلبه بالمسلم فكيف بالمسلم إذا فعلها فكيف وفيها من الشر ما سنبنيه على بعضه إن شاء الله تعالى الثالث : ما تقدم من رواية أبي الشيخ الأصبهاني عن عطاء بن يسار هكذا رأيته ولعله عطاء بن دينار: قال:
قال عمر (إياكم ورطانة الأعاجم وإن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم) وروى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار قال:
قال (عمر لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلو على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم) وبالإسناد عن الثوري عن عوف عن الوليد أو أبي الوليد عن :
عبد الله ابن عمرو قال (من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة) وروى بإسناده عن البخاري صاحب الصحيح قال قال لي ابن أبي مريم أنبأنا نافع بن يزيد سمع سليمان بن أبي زينب وعمرو بن الحارث سمع سعيد ابن سلمة سمع أباه سمع:
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (اجتنبوا أعداء الله في عيدهم) وروى بإسناد صحيح عن أبي أسامة حدثنا عون عن أبي المغيرة
عن عبد الله ابن عمرو قال (من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة) وقال هكذا رواه يحيى بن سعيد وابن أبي عدي وغندر وعبد الوهاب عن عوف بن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو من قوله، وبالإسناد إلى أبي أسامة عن حماد بن زيد عن هشام بن محمد بن سيرين قال:
أتى علي رضي الله عنه بمثل النيروز فقال ما هذا قالوا( يا أمير المؤمنين هذا يوم النيروز ) قال (فاصنعوا كل يوم فيروزا) قال أسامة (كره رضي الله عنه أن يقول النيروز)(4/171)
قال البيهقي وفي هذا كراهة لتخصيص يوم بذلك لم يجعله الشرع مخصوصا به وهذا عمر رضي الله عنه نهى عن لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم فكيف بفعل بعض أفعالهم أو بفعل ما هو من مقتضيات دينهم أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة أو ليس بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد يعرض لعقوبة ذلك ثم قوله (اجتنبوا أعداء الله في عيدهم) أليس نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه فكيف بمن عمل عيدهم، وأما عبد الله بن عمرو فصرح أنه من بنى ببلادهم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم ، وهذا يقتضي أنه جعله كافرا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار وإن كان الأول ظاهر لفظه فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية لأنه لو لم يكن مؤثرا في استحقاق العقوبة لم يجز جعله جزاء من المقتضى إذ المباح لا يعاقب عليه وليس الذم على بعض ذلك مشروطا ببعض لأن أبعاض ما ذكره يقتضي الذم مفردا وإنما ذكر والله أعلم من بنى ببلادهم لأنهم على عهد عبد الله بن عمرو وغيره من الصحابة كانوا ممنوعين من إظهار عيدهم بدار الإسلام وما كان أحد من المسلمين يتشبه بهم في عيدهم وإنما كان يتمكن من ذلك بكونه في أرضهم، وأما علي رضي الله عنه فكره موافقتهم في اسم يوم العيد الذي ينفردون به فكيف بموافقتهم في العمل ، وقد نص أحمد على معنى ما جاء عن عمر وعلي رضي الله عنهما في ذلك وذكر أصحابه مسأله العيد، وقد تقدم قول القاضي أبي يعلى مسألة في المنع من حضور أعيادهم ، وقال الإمام أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي في كتابه (عمدة الحاضر وكفاية المسافر )
( فصل : لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود نص عليه أحمد في رواية مهنا واحتج بقوله تعالى (والذين لا يشهدون الزور) قال الشعانين وأعيادهم فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره نص عليه أحمد في رواية مهنا وقال إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم فأما ما يباع في الاسواق من المأكل فلا وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم )
وقال الخلال في (جامعه)
( باب في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين وذكر عن مهنا قال سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور يابور ودير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون ويشهدون الأسواق ويجلبون الغنم فيه والبقر والرقيق والبر والشعير وغير ذلك إلا أنهم إنما يدخلون في الأسواق يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم قال إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس) وإنما رخص أحمد رحمه الله في شهود السوق بشرط أن لا يدخلوا عليهم بيعهم فعلم منعه من دخول بيعهم وكذلك أخذ الخلال من ذلك المنع من خروج المسلمين في أعيادهم فقد نص أحمد على مثل ما جاء عن عمر رضي الله عنه من المنع من دخول كنائسهم في أعيادهم وهو كما ذكرنا من باب التنبيه عن المنع من أن يفعل كفعلهم ،
وأما الاعتبار في مسألة العيد :
فمن وجوه :
أحدها: أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وقال (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به بين الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة وشروطه ، وأما مبدؤها فأقل أحواله أن تكون معصية وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا) وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار ونحوه من علاماتهم فإن تلك علامة وضعية ليست من الدين وإنما الغرض منها مجرد التمييز بين المسلم والكافر وأما العيد وتوابعه فإنه من الدين الملعون هو واهله فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه وإن شئت أن تنظم هذا قياسا تمثيليا قلت العيد شريعة من شرائع الكفر أو شعيرة من شعائره فحرمت موافقتهم فيها كسائر شعائر الكفر وشرائعه وإن كان هذا أبين من القياس الجزئي ثم كل ما يختص به ذلك من عبادة وعادة فإنما سببه هو كونه يوما مخصوصا وإلا فلو كان كسائر الأيام لم يختص بشيء وتخصيصه ليس من دين الإسلام في شيء بل هو كفر به(4/172)
الوجه الثاني : من الاعتبار أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله لأنه إما محدث مبتدع وإما منسوخ وأحسن أحواله ولا حسن فيه أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس هذا إذا كان المفعول مما يتدين به وأما ما يتبع ذلك من التوسع في العادات من الطعام واللباس واللعب والراحة فهو تابع لذلك العيد الديني كما أن ذلك تابع له في دين الإسلام فيكون بمنزلة أن يتخذ بعض المسلمين عيدا مبتدعا يخرجون فيه إلى الصحراء ويفعلون فيه من العبادات والعادات من جنس المشروع في يومي الفطر والنحر أو مثل أن ينصب بنية يطاف بها ويحج إليها ويصنع لمن يفعل ذلك طعاما ونحو ذلك فلو كره المسلم ذلك لكره غير عادته ذلك اليوم كما يغير أهل البدع عاداتهم في الأمور العادية أو في بعضها بصنعهم طعاما أو زينة لباس أو توسيع في نفقة ونحو ذلك من غير أن يتعبدوا بتلك العادة المحدثة كان هذا من أقبل المنكرات فكذلك موافقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين وأشد، نعم هؤلاء يقرون على دينهم المبتدع والمنسوخ بشرط أن يكونوا مستسرين به والمسلم لا يقر على دين مبتدع ولا منسوخ لا سرا ولا علانية وأما مشابهة الكفار فكمشابهة أهل البدع وأشد(4/173)
الوجه الثالث من الاعتبار : يدل أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيدا حتى يضاهى بعيد الله بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر كما قد سوله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام فيما يفعلونه في آخر صوم النصارى من الهدايا والأفراح والنفقات وكسوة الأولاد وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين بل البلاد المصاقبة للنصارى التي قل علم أهلها وإيمانهم قد صار ذلك أغلب عندهم وأبهى في نفوسهم من عيد الله ورسوله على ما حدثني به الثقات ويؤكد صحة ذلك ما رأيته بدمشق وما حولها من أرض الشام مع أنها أقرب إلى العلم والإيمان، فهذا الخميس الذي يكون في آخر صوم النصارى يدور بدوران صومهم الذي هو سبعة أسابيع وصومهم وإن كان في أوائل الفصل الذي تسميه العرب الصيف وتسميه العامة الربيع فإنه يتقدم ويتأخر ليس له حد واحد من السنة الشمسية كالخميس الذي هو في أول نيسان بل يدور في نحو ثلاثة وثلاثين يوما لا يتقدم أوله عن ثاني شباط ولا يتأخر أوله عن ثاني آذار بل يبتدئون من الاثنين الذي هو اقرب إلى اجتماع الشمس والقمر في هذه المدة ليراعوا التوقيت الشمسي والهلالي وكل ذلك بدع أحدثوها باتفاق منهم خالفوا بها الشريعة التي جاءت بها الأنبياء فإن الأنبياء ما وقتوا العبادات إلا بالهلال وإنما اليهود والنصارى حرفوا الشرائع تحريفا ليس هذا موضع ذكره ويلي هذا الخميس يوم الجمعة الذي جعلوه بإزاء يوم الجمعة التي صلب فيها المسيح على زعمهم الكاذب يسمونها جمعة الصلبوت ويليه ليلة السبت التي يزعمون أن المسيح كان فيها في القبر وأظنهم يسمونها ليلة النور وسبت النور ويصنعون مخرقة يروجونها على عامتهم لغلبة الضلال عليها ويخيلون إليهم أن النور ينزل من السماء في كنيسة القيامة التي ببيت المقدس حتى يحملوا ما يوقد من ذلك الضوء إلى بلادهم متبركين به وقد علم كل ذي عقل أنه مصنوع مفتعل ، ثم يوم السبت يطلبون اليهود ويوم الأحد يكون العيد الكبير عندهم الذي يزعمون أن المسيح قام فيه ، ثم الأحد الذي يلي هذا يسمونه الأحد الحديث يلبسون فيه الجديد من ثيابهم ويفعلون فيه أشياء وكل هذه الأيام عندهم أيام العيد كما أن يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام وهم يصومون عن الدسم وما فيه الروح ثم في مقدمة فطرهم يفطرون أو بعضهم على ما يخرج من الحيوان من لبن وبيض ولحم وربما كان أول فطرهم على البيض ويفعلون في أعيادهم وغيرها من أمور دينهم أقوالا وأعمالا لا تنضبط ولهذا تجد نقل العلماء لمقالاتهم وشرائعهم تختلف وعامته صحيح ، وذلك أن القوم يزعمون أن ما وضعه رؤساء دينهم من الأحبار والرهبان من الدين فقد لزمهم حكمه وصار شرعا شرعه المسيح في السماء فهم في كل مدة ينسخون أشياء ويشرعون غيرها أشياء من الإيجابات والتحريمات وتأليف الاعتقادات وغير ذلك مخالفا لما كانوا عليه قبل ذلك زعما منهم أن هذا بمنزلة نسخ الله شريعة بشريعة أخرى فهم واليهود في هذا الباب وغيره على طرفي نقيض اليهود تمنع أن ينسخ الله الشرائع أو يبعث رسولا بشريعة تخالف ما قبلها كما أخبر الله عنهم بقوله (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) والنصارى تجيز لأحبارهم ورهبانهم شرع الشرائع ونسخها فلذلك لا ينضبط للنصارى شريعة محكمة مستمرة على الأزمان ، وغرضنا لا يتوقف على معرفة تفاصيل باطلهم ولكن يكفينا أن نعرف المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح والمعروف والمستحب والواجب حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما نعرف سائر المحرمات إذ الفرض علينا تركها ومن لم يعرف المنكر لا جملة ولا تفصيلا لم يتمكن من قصد اجتنابه والمعرفة الجميلة كافية بخلاف الواجبات فإن الفرض لما كان فعلها والفعل لا يتأتى إلا مفصلا وجبت معرفتها على سبيل التفصيل وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلوا ببعضها وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله ، وقد بلغني أيضا أنهم يخرجون يوم الخميس الذي قبل ذلك أو يوم السبت أو غير ذلك إلى القبور ويبخرونها وكذلك يبخرون بيوتهم في هذه الأوقات وهم يعتقدون أن في البخور بركة ودفع أذى لا لكونه طيبا ويعدونه من القرابين مثل الذبائح ويرقونه بنحاس يضربونه كأنه ناقوس صغير وبكلام مصنف ويصلبون على أبواب بيوتهم إلى غير ذلك من الأمور المنكرة ولست أعلم جميع ما يفعلونه وإنما ذكرت ما ذكرته لما رأيت كثيرا من المسلمين يفعلونه وأصله مأخوذ عنهم حتى إنه كان في مدة الخميس تبقى الأسواق مملوءة من أصوات هذه النواقيس الصغار وكلام الرقايين من المنجمين وغيرهم بكلام أكثره باطل وفيه ما هو محرم أو كفر وقد ألقي إلى الجماهير العامة أو جميعهم إلا من شاء الله وأعني بالعامة هنا كل من لم يعلم حقيقة الإسلام فإن كثيرا ممن ينتسب إلى فقه أو دين قد شارك في ذلك ألقي إليهم أن البخور المرقي ينفع ببركته من العين والسحر والأدواء والهوام ويصورون في أوراق صور الحيات(4/174)
والعقارب ويلصقونها في بيوتهم زعما منهم أن تلك الصور الملعون فاعلها التي لا تدخل الملائكة بيتا هي فيه تمنع الهوام وهو ضرب من طلاسم الصابئة ثم كثير منهم على ما بلغني يصلب على باب البيت ويخرج خلق عظيم في الخميس المتقدم على هذا الخميس يبخرون المقابر ويسمون هذا المتأخر الخميس الكبير وهو عند الله الخميس المهين الحقير هو وأهله ومن يعظمه فإن كل ما عظم بالباطل من زمان أو مكان أو حجر أو شجر او بنية يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة وإن كانت لولا عبادتها لكانت كسائر الأحجار ومما يفعله الناس من المنكرات أنهم يوظفون على الأماكن وظائف أكثرها كرها من الغنم والدجاج واللبن والبيض فيجتمع فيها تحريمان أكل مال المسلم أو المعاهد بغير حق وإقامة شعار النصارى ويجعلونه ميقاتا لاخراج الوكلاء على المزارع ويطحنون فيه ويصبغون فيه البيض وينفقون فيه النفقات الواسعة ويزينون أولادهم إلى غير ذلك من الأمور التي يقشعر منها قلب المؤمن الذي لم يمت قلبه بل يعرف المعروف وينكر المنكر وخلق كثير منهم يضعون ثيابهم تحت السماء رجاء البركة من مريم تنزل عليها فهل يستريب من في قلبه أدنى حياة من الايمان أن شريعة جاءت بما قدمنا بعضه من مخالفة اليهود والنصارى لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح ويفعلون ما هو أعظم من ذلك يطلون أبواب بيوتهم ودوابهم بالخلوق والمغراء وغير ذلك من أعظم المنكرات عند الله فالله تعالى يكفينا شر المبتدعة وبالله التوفيق واصل ذلك كله إنما هو اختصاص أعياد الكفار بأمر جديد أو مشابهتهم في بعض أمورهم يوضح ذلك ان الأسبوع الذي يقع في آخر صومهم يعظمونه جدا بتسميته الخميس الكبير وجمعته الجمعة الكبيرة ويجتهدون في التعبد فيه مالا يجتهدون في غيره بمنزلة العشر الأواخر من رمضان في دين الله ورسوله والأحد الذي هو أول الأسبوع يصنعون فيه عيدا يسمونه الشعانين هكذا نقل بعضهم عنهم أن الشعانين هو أول أحد في صومهم يخرجون فيه بورق الزيتون ونحوه يزعمون أن ذلك مشابهة لما جرى للمسيح عليه السلام حين دخل إلى بيت المقدس راكبا أتانا مع جحشها فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فثار عليه غوغاء الناس وكان اليهود قد وكلوا قوما معهم عصى يضربونه بها فأورقت تلك العصي وسجد أولئك الغوغاء للمسيح فعيد الشعانين مشابهة لذلك الأمر وهو الذي سمي في(4/175)
شروط عمر وكتب الفقه أن لا يظهروه في دار الإسلام ويسمون هذا العيد وكل مخرج يخرجونه إلى الصحراء باعوثا فالباعوث اسم جنس لما يظهر به الدين كعيد الفطر والنحر عند المسلمين فما يحكونه عن المسيح عليه الصلاة والسلام من المعجزات في حيز الإمكان لا نكذبهم فيه لإمكانه ولا نصدقهم لجهلهم وفسقهم وأما موافقتهم في التعييد فإحياء دين أحدثوه أو دين نسخه الله ثم الخميس الذي يسمونه الخميس الكبير يزعمون أن في مثله نزلت المائدة التي ذكرها الله في القرآن حيث قال (قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا الآيات) فيوم الخميس هو يوم عيد المائدة ويوم الأحد يسمونه عيد الفصح وعيد النور والعيد الكبير ولما كان عيدا صاروا يصنعون فيه لأولادهم البيض المصبوغ ونحوه لأنهم فيه يأكلون ما يخرج من الحيوان من لحم ولبن أو بيض إذ صومهم هو عن الحيوان وما يخرج منه وإنما يأكلون في صومهم الحب وما يصنع منه من خبز وزبيب وشيرج ونحو ذلك، وعامة هذه الأعمال المحكية عن النصارى وغيرها مما لم يحك قد زينها الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام وجعل لها في قلوبهم مكانة وحسن ظن وزادوا في بعض ذلك ونقصوا وقدموا وأخروا إما لأن بعض ما يفعلونه قد كان يفعله بعض النصارى أو غيروه هم من عند انفسهم كما كانوا يغيرون بعض أمر الدين الحق لكن لما اختصت به هذه الأيام ونحوها من الأيام التي ليس لها خصوصية في دين الله وإنما خصوصها في الدين الباطل بل إنما أصل تخصيصها من دين الكافرين وتخصيصها بذلك فيه مشابهة لهم وليس لجاهل أن يعتقد أن بهذا تحصل المخالفة لهم كما في صوم يوم عاشوراء لأن ذلك فيما كان أصله مشروعا لنا وهم يفعلونه فإنا نخالفهم في وصفه فأما مالم يكن في ديننا بحال بل هو في دينهم المبتدع والمنسوخ فليس لنا أن نشابههم لا في أصله ولا في وصفه كما قدمنا قاعدة ذلك فيما مضى فإحداث أمر ما في هذه الأيام التي يتعلق تخصيصها بهم لابنا هو مشابهة لهم في أصل تخصيص هذه الأيام بشيء فيه تعظيم وهذا بين على قول من يكره صوم يوم النيروز والمهرجان لا سيما إذا كانوا يعظمون ذلك اليوم الذي أحدث فيه ذلك العمل، ويزيد ذلك وضوحا أن الأمر قد آل إلى أن كثيرا من الناس صاروا في مثل هذا الخميس الذي هو عند الكفار عيد المائدة آخر خميس في صوم النصارى الذي يسمونه الخميس الكبير وهو الخميس الحقير يجتمعون في أماكن اجتماعات عظيمة ويصبغون البيض ويطبخون اللبن وينكتون بالحمرة دوابهم ويصطنعون الأطعمة التي لا تكاد تفعل في عيد الله ورسوله ويتهادون الهدايا التي تكون في مثل مواسم الحج وعامتهم قد نسوا أصل ذلك وعلته وبقي عادة مطردة كاعتيادهم بعيد الفطر والنحر وأشد واستعان الشيطان على إغوائهم في ذلك بأن الزمان زمان ربيع وهو مبدأ العام الشمسي فيكون قد كثر فيه اللحم واللبن والبيض ونحو ذلك مع أن عيد النصارى ليس هو يوما محدودا من السنة الشمسية وإنما يتقدم فيها ويتأخر في نحو ثلاثة وثلاثين يوما كما قدمناه ، وهذا كله تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم (لتتبعن سنن من كان قبلكم) والسنن مشابهة الكفار في القليل من أمر عيدهم وعدم النهي عن ذلك ، وإذا كانت المشابهة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح كانت محرمة فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله من التبرك بالصليب والتعميد في المعمودية أو قول القائل المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله أو التدين بذلك أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك وأصل ذلك المشابهة والمشاركة ، وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية وبعض حكمة ما شرعه الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة أمورهم لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس ، واعلم أنا لو لم نر موافقتهم قد أفضت إلى هذه القبائح لكان علمنا بما فطرت الطبائع عليه واستدلالنا بأصول الشريعة يوجب النهي عن هذه الذريعة فكيف وقد رأينا من المنكرات التي أفضت إليها المشابهة ما قد يوجب الخروج من الإسلام بالكلية وسر هذا الوجه أن المشابهة تفضي إلى كفر أو معصية غالبا أو تفضي إليهما في الجملة وليس في هذا المفضى مصلحة وما أفضى إلى ذلك كان محرما فالمشابهة محرمة والمقدمة الثانية لا ريب فيها فإن استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها دل على أن ما أفضى إلى الكفر غالبا حرام وما أفضى إليه على وجه خفي حرام وما أفضى إليه في الجملة ولا حاجة تدعو إليه حرام كما قد تكلمنا على قاعدة الذرائع في غير هذا الكتاب، والمقدمة الأولى قد شهد بها الواقع شهادة لا تخفى على بصير ولا أعمى مع أن الإفضاء أمر طبيعي قد اعتبره الشارع في عامة الذرائع التي سدها كما قد ذكرنا من الشواهد على ذلك نحوا من ثلاثين أصلا منصوصة أو مجمعا عليها في كتاب (إقامة الدليل على بطلان التحليل)(4/176)
الوجه الرابع من الاعتبار:
أن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم كانتفاعهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج ولهذا جاءت بها كل شريعة كما قال تعالى (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) وقال (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه وهو الكمال المذكور في قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) ولهذا أنزل الله هذه الآية في أعظم أعياد الأمة الحنيفية فإنه لاعيد في النوع أعظم من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان وهو عيد النحر ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامة المسلمين وقد نفى الله تعالى الكفر وأهله والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروى مرفوعا (إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته وإن مأدبة الله هي القرآن) ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة وتجشم وربما ضره أكله أو لم ينتفع به ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم دينه به ويكمل إسلامه ، ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه ومن أكثر من السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام ونظائر هذه كثيرة ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها )رواه الإمام أحمد ، وهذا أمر يجده من نفسه من نظر في حاله من العلماء والعباد والأمراء والعامة وغيرهم ، ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافا لا عليه ولا له لكان الأمر خفيفا بل لا بد أن توجب له فسادا في قلبه ودينه ينشأ من نقص منفعة الشريعة في حقه إذا القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين الجاهليين (إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما) فيبقى اغتذاء قلبه من هذه الأعمال المبتدعة مانعا من الاغتذاء أو من كمال الاغتذاء بتلك الأعمال النافعة الشرعية فيفسد عليه حاله من حيث لا يعلم كما يفسد جسد المغتذي بالأغذية الخبيثة من حيث لا يشعر، وبهذا يتبين لك بعض ضرر البدع إذا تبين هذا فلا يخفى ما جعل الله في القلوب من التشوق إلى العيد والسرور به والاهتمام بأمره إنفاقا واجتماعا وراحة ولذة وسرورا وكل ذلك يوجب تعظيمه لتعلق الأغراض به فلهذا جاءت الشريعة في العيد بإعلان ذكر الله فيه حتى جعل فيه من التكبير في صلاته وخطبته وغير ذلك مما ليس في سائر الصلوات فأقامت فيه من تعظيم الله وتنزيل الرحمة خصوصا العيد الأكبر ما فيه صلاح الخلق كما دل على ذلك قوله تعالى (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم) فصار ما وسع على النفوس فيه من العادات الطبيعية عونا على انتفاعها بما خص به من العبادات الشرعية فإذا أعطيت النفوس في غير ذلك اليوم حظها أو بعض الذي يكون في عيد الله فترت عن الرغبة في عيد الله وزال ما كان له عندها من المحبة والتعظيم فنقص بسبب ذلك تأثير العمل الصالح فيه فخسرت خسرانا مبينا ، وأقل الدرجات أنك لو فرضت رجلين أحدهما قد اجتمع اهتمامه بأمر العيد على المشروع والآخر مهتم بهذا وبهذا فإنك بالضرورة تجد المتجرد للمشروع أعظم اهتماما به من المشرك بينه وبين غيره ومن لم يدرك هذا فلغفلته أو إعراضه وهذا أمر يعلمه من يعرف بعض أسرار الشرائع، وأما الإحساس بفتور الرغبة فيجده كل أحد فإنا نجد الرجل إذا كسا أولاده أو وسع عليهم في بعض الأعياد المسخوطة فلا بد أن تنقص حرمة العيد المرضي من قلوبهم حتى لو قيل بل في القلوب ما يسع هذين قيل لو تجردت لأحدهما لكان أكمل
الوجه الخامس من الاعتبار :
أن مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل خصوصا إذا كانوا مقهورين تحت ذل الجزية والصغار فانهم يرون المسلمين قد صاروا فرعا لهم في خصائص دينهم فإن ذلك يوجب قوة قلوبهم وانشراح صدورهم وربما أطعمهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء وهذا أيضا أمر محسوس لا يستريب فيه عاقل فكيف يجتمع ما يقتضي إكرامهم بلا موجب مع شرع الصغار في حقهم
الوجه السادس من الاعتبار :(4/177)
أن مما يفعلونه في عيدهم منه ما هو كفر ومنه ما هو حرام ومنه ما هو مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة ثم التمييز بين هذا وهذا يظهر غالبا وقد يخفى على كثير من العامة فالمشابهة فيما لم يظهر تحريمه للعالم يوقع العامي في أن يشابههم فيما هو حرام وهذا هو الواقع، والفرق بين هذا الوجه ووجه الذريعة أنا هناك قلنا الموافقة في القليل تدعو إلى الموافقة في الكثير وهنا جنس الموافقة تلبس على العامة دينهم حتى لا يميزوا بين المعروف والمنكر، فذاك بيان الاقتضاء من جهة تقاضي الطباع بإدارتها وهذا من جهة جهل القلوب باعتقاداتها
الوجه السابع من الاعتبار :
ما قررته في وجه أصل المشابهة وذلك أن الله تعالى جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط ولما كان بين الإنسان مشاركة في الجنس الخاص كان التفاعل فيه أشد ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط فلا بد من نوع تفاعل بقدره ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلا فلا بد من نوع ما من المفاعلة ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعا من الحيوان اكتسب من بعض أخلاقه ولهذا صارت الخيلاء والفخر في أهل الإبل وصارت السكينة في أهل الغنم وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال وكذلك الكلابون وصار الحيوان الإنسي فيه بعض أخلاق الإنس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة، فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام ، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا وإن بعد المكان والزمان فهذا أيضا أمر محسوس فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به ودار التحريم عليه فنقول مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة بل في نفس الاعتقادات وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله لو تفطن له وكل ما كان سببا إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه كما دلت عليه الأصول المقررة
الوجه الثامن من الاعتبار:(4/178)
أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم وإن كانا في مصر هما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا مالا يألفون غيرهم حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة إما على الملك وإما على الدين وكذلك تجد الملوك ونحوهم من الرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض وهذا كله بموجب الطباع ومقتضاها إلا أن يمنع عن ذلك دين أو غرض خاص فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون) فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم، وقال سبحانه وتعالى (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا فمن واد الكفار فليس بمؤمن فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة كما تقدم تقرير مثل ذلك واعلم أن وجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة فلنقتصر على ما نبهنا عليه والله أعلم
فصل أعياد الكفار كثيرة مختلفة وليس على المسلم أن يبحث عنها ولا يعرفها بل يكفيه أن يعرف في أي فعل من الأفعال أو يوم أو مكان أن سبب هذا الفعل أو تعظيم هذا المكان والزمان من جهتهم ولو لم يعرف أن سببه من جهتهم فيكفيه أن يعلم أنه لا أصل له في دين الإسلام فإنه إذا لم يكن له أصل فإما أن يكون قد أحدثه بعض الناس من تلقاء نفسه أو يكون مأخوذا عنهم فأقل أحواله أن يكون من البدع ونحن ننبه على ما رأينا كثيرا من الناس قد وقعوا فيه :
فمن ذلك الخميس الحقير الذي في آخر صومهم فإنه يوم عيد المائدة فيما يزعمون ويسمونه عيد العشاء وهو الأسبوع الذي يكون فيه من الأحد إلى الأحد عيدهم الأكبر فجميع ما يحدثه الإنسان فيه من المنكرات فمنه خروج النساء وتبخير القبور ووضع الثياب على السطح وكتابة الأوراق وإلصاقها بالأبواب واتخاذ هذه الأيام موسما لبيع البخور وشرائه وكذلك شراء البخور في ذلك الوقت إذا اتخذ وقتا للبيع ورقي البخور مطلقا في ذلك الوقت أو غيره أو قصد شراء البخور المرقي فإن رقيا البخور واتخاذه قربانا هو دين النصارى والصابئين وإنما البخور طيب يتطيب بدخانه كما يتطيب بسائر الطيب من المسك وغيره مما له أجزاء بخارية وإن لطفت أو له رائحة محضة وإنما يستحب التبخر حيث يستحب التطيب وكذلك اختصاصه بطبخ أرز بلبن أو بسمن أو بعدس أو صبغ بيض ونحو ذلك وأما القمار بالبيض أو بيع البيض لمن يقامر به أو شراؤه من المقامرين فحكمه ظاهر ومن ذلك ما يفعله الأكارون من نقط البقر بالنقط الحمر أو نكت الشجر أيضا او جمع أنواع الثياب والتبرك بها والاغتسال بمائها ومن ذلك ما قد يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون أو الاغتسال بمائه أو قصد الاغتسال بشيء من ذلك فإن أصل ذلك ماء المعمودية ومن ذلك ترك الوظائف الراتبة من الصنائع أو التجارات أو حلق العلم أو غير ذلك واتخاذه يوم راحة وفرح واللعب فيه بالخيل أو غيرها على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام والضابط أنه لا يحدث فيه أمر أصلا بل يجعل يوما كسائر الايام فإنا قد قدمنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهاهم عن اليومين اللذين كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يعيدون فيه(4/179)
ومن ذلك ما يفعله كثير من الناس في أثناء الشتاء في أثناء كانون الأول لأربع وعشرين خلت منه ويزعمون أنه ميلاد عيسى عليه السلام فجميع ما يحدث فيه هو من المنكرات مثل إيقاد النيران وإحداث طعام واصطناع شمع وغير ذلك فإن اتخاذ هذا الميلاد عيدا هو دين النصارى وليس لذلك أصل في دين الإسلام ولم يكن لهذا الميلاد ذكر أصلا على عهد السلف الماضين بل أصله مأخوذ عن النصارى وانضم إليه سبب طبيعي وهو كونه في الشتاء المناسب لإيقاد النيران ولأنواع مخصوصة من الأطعمة ثم إن النصارى تزعم أنه بعد الميلاد بأيام أظنها أحد عشر يوما عمد يحيى عيسى عليهما السلام في ماء المعمودية فهم يتعمدون في هذا الوقت ويسمونه عيد الغطاس وقد صار كثير من جهال النساء يدخلن أولادهن إلى الحمام في هذا الوقت ويزعمن أن هذا ينفع الولد وهذا من دين النصارى وهو من أقبح المنكرات المحرمة(4/180)
وكذلك أعياد الفرس مثل النيروز والمهرجان وأعياد اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار أوالأعاجم والأعراب حكمها كلها على ما ذكرناه من قبل ، وكما لا يتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك بل ينهى عن ذلك فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب إجابة دعوته ، ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم في مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر صومهم وكذلك أيضا لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد لا سيما إذا كان مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه ، ولا يبيع المسلم ما يستعين المسلمون به على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك لأن في ذلك إعانة على المنكرات، فأما مبايعتهم ما يستعينون هم به على عيدهم أو شهود أعيادهم للشراء فيها فقد قدمنا أنه قيل للإمام أحمد هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور يابور أو دير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون يشهدون الأسواق ويجلبون فيه الغنم والبقر والدقيق والبر وغير ذلك إلا أنه يكون في الأسواق يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم قال إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس، وقال أبو الحسن الآمدي (فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره نص عليه أحمد في رواية مهنا) وقال (إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم وأما ما يباع في الأسواق من المأكل فلا وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم ) فهذا الكلام محتمل لأن يكون أجاز شهود السوق مطلقا بائعا أو مشتريا لأنه قال إذا لم يدخلوا عليهم كنائسهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس هذا يعم البائع والمشتري لا سيما إن كان الضمير في قوله يجلبون عائدا إلى المسلمين فيكون قد نص على جواز كونهم جالبين إلى الأسواق، ويحتمل وهو أقوى أنه إنما أرخص في شهود السوق فقط ورخص في الشراء منهم ولم يتعرض للبيع منهم لأن السائل إنما سأله عن شهود السوق التي تقيمها الكفار لعيدهم وقال في آخر مسألته يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم وذلك لأن السائل مهنا بن يحيى الشامي وهو فقيه عالم وكأنه والله أعلم قد سمع ما جاء في النهي عن شهود أعيادهم فسأل أحمد هل شهود أسواقهم بمنزلة شهود أعيادهم فأجاب أحمد بالرخصة في شهود السوق ولم يسأل عن بيع المسلم لهم إما لظهور الحكم عنده وإما لعدم الحاجة إليه إذ ذاك وكلام الآمدي أيضا محتمل للوجهين لكن الأظهر فيه الرخصة في البيع أيضا لقوله إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم وقوله وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم ، فما أجاب به أحمد من جواز شهود السوق فقط للشراء منها من غير دخول الكنيسة فيجوز لأن ذلك ليس فيه منكر ولا إعانة على معصية لأن نفس الابتياع منهم جائز ولا إعانة فيه على المعصية بل فيه صرف لما لعلهم يبتاعونه لعيدهم عنهم الذي يظهر أنه إعانة لهم وتكثير لسوادهم فيكون فيه تقليل الشر وقد كانت أسواق في الجاهلية كان المسلمون يشهدونها وشهد بعضها النبي عليه السلام ومن هذه الأسواق ما كان يكون في مواسم الحج ومنها ما كان يكون لأعياد باطلة ، وأيضا فإن أكثر ما في السوق أن يباع فيها ما يستعان به على المعصية فهو كما لو حضر الرجل سوقا يباع فيها السلاح لمن يقتل به معصوما أو العصير لمن يخمره فحضرها الرجل يشتري منها بل هو أجود لأن البائع في هذا السوق ذمي وقد أقروا على هذه المبايعة ، ثم إن الرجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام وهي حينذاك دار حرب وحديث عمر رضي الله عنه وأحاديث أخر بسطت القول فيها في غير هذا الموضع مع أنه لا بد أن تشتمل أسواقهم على بيع ما يستعان به على المعصية ، فأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك أو إهداء ذلك لهم فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم وهو مبني على أصل وهو أنه لا يجوز أن يبيع الكفار عنبا أو عصيرا يتخذونه خمرا وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحا يقاتلون به مسلما ، وقد دل حديث عمر رضي الله عنه في إهداء الحلة السيراء إلى أخ له بمكة مشرك على جواز بيعهم الحرير لكن الحرير مباح في الجملة وإنما يحرم الكثير منه على بعض الآدميين ولهذا جاز التداوي به في أصح الروايتين ولم يجز بالخمر بحال وجازت صنعته في الأصل والتجارة فيه ، فهذا الأصل فيه اشتباه فإن قيل بالاحتمال الأول في كلام أحمد جوز ذلك وعن أحمد في جواز حمل التجارة إلى أرض الحرب روايتان منصوصتان ، فقد يقال بيعها لهم في العيد كحملها إلى دار الحرب فإن حمل الثياب والطعام إلى أرض الحرب فيه إعانة على دينهم في الجملة وإذا منعنا منها إلى أرض الحرب فهنا أولى وأكثر أصوله ونصوصه تقتضي المنع من ذلك لكن هل هو منع تحريم أو تنزيه مبني على ما سيأتي ، وقد ذكر عبد الملك بن حبيب( أن(4/181)
هذا مما اجتمع على كراهته وصرح بأن مذهب مالك أن ذلك حرام) ، قال عبد الملك بن حبيب في (الواضحة) (كره مالك أكل ما ذبح النصارى لكنائسهم ونهى عنه من غير تحريم)، وقال (وكذلك ما ذبحوا على اسم المسيح والصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم الذين يعظمون فقد كان مالك وغيره ممن يقتدي به يكره أكل هذا كله من ذبائحهم وبه نأخذ وهو يضاهي قول الله تعالى (وما أهل به لغير الله) وهي ذبائحهم التي كانوا يذبحون لأصنامهم التي كانوا يعبدون) قال (وقد كان رجال من العلماء يستخفون ذلك ويقولون قد أحل الله لنا ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون وما يريدون بها روى ذلك ابن وهب عن ابن عباس وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وسلمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب وربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد ومكحول وعطاء) وقال عبد الملك (وترك ما ذبح لأعيادهم وأقستهم وموتاهم وكنائسهم أفضل) قال (وإن فيه عيبا آخر أن كله من تعظيم شركهم ، ولقد سأل سعيد المعافري مالكا عن الطعام الذي تصنعه النصارى لموتاهم يتصدقون به عنهم أيأكل منه المسلم فقال لا ينبغي أن يأخذه منهم لأنه إنما يعمل تعظيما للشرك فهو كالذبح للأعياد والكنائس وسئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيء يباع من ملكه للكنيسة هل يجوز للمسلم شراؤه فقال لا يحل ذلك لأنه تعظيم لشعائرهم وشرائعهم ومشتريه مسلم سوء وقال ابن القاسم في أرض الكنيسة يبيع الأسقف منها شيئا في مرمتها وربما حبست تلك الأرض على الكنيسة لمصلحتها إنه لا يجوز لمسلم أن يشتريها من وجهين الواحد أن ذلك من العون على تعظيم الكنيسة والآخر أنه من وجه بيع الحبس ولا يجوز لهم في أحباسهم إلا ما يجوز للمسلمين ولا أرى لحاكم المسلمين أن يتعرض فيها بمنع ولا تنفيذ ولا شيء) قال (وسئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني شيئا في عيدهم مكافأة له ورآه من تعظيم عيده وعونا لهم على كفرهم ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا إداما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من عيدهم لأن ذلك من تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن(4/182)
ذلك وهو قول مالك وغيره لم أعلمه اختلف فيه فأكل ذبائح أعيادهم داخل في هذا الذي اجتمع على كراهته بل هو عندي أشد) فهذا كله كلام ابن حبيب، قد ذكر أنه قد اجتمع على كراهة مبايعتهم ومهاداتهم ما يستعينون به على أعيادهم وقد صرح بأن مذهب مالك أنه لا يحل ذلك ، وأما نصوص الإمام أحمد على مسائل هذا الباب: فقال إسحق بن إبراهيم سئل (أبو عبد الله رحمه الله عن النصارى وقفوا ضيعة للبيعة أيستأجرها الرجل المسلم منهم فقال لا يأخذها بشيء لا يعينهم على ما هم فيه وقال أيضا سمعت أبا عبد الله وسأله رجل بناء أبنى للمجوس ناووسا قال لاتبن لهم ولا تعنهم على ما هم فيه، وقد نقل عن محمد بن الحكم وسأله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرا بكراء قال لا بأس به )والفرق بينهما أن الناووس من خصائص دينهم الباطل كالكنيسة بخلاف القبر المطلق فإنه ليس في نفسه معصية ولا من خصائص دينهم ، وقال الخلال (باب الرجل يؤجر داره للذمي أو يبيعها منه وذكر عن المروزي أن أبا عبد الله سئل عن رجل باع داره من ذمي وفيها محاريبه فقال فيها نصراني واستعظم ذلك وقال لا تباع يضرب فيها بالناقوس وينصب فيها الصلبان وقال لا تباع من الكفار وشدد في ذلك ، وعن أبي الحارث أن أبا عبد الله سئل عن الرجل يبيع داره وقد جاء نصراني فأرغبه وزاد في ثمن الدار ترى له أن يبيع داره منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي قال لا أرى له ذلك يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها يبيعها من مسلم أحب إل)ي فهذا نص على المنع ، ونقل عنه إبراهيم بن الحارث (قيل لأبي عبد الله الرجل يكري منزله من الذمي ينزل فيه وهو يعلم أنه يشرب فيها الخمر ويشرك فيها قال ابن عون كان لا يكري إلا من أهل الذمة يقول يرعبهم قيل له كأنه أراد إذلال أهل الذمة بهذا قال لا ولكنه أراد أنه كره أن يرعب المسلم يقول إذا جئت أطلب الكراء من المسلم أرعبته فإذا كان ذميا كان أهون عنده وجعل أبو عبد الله يعجب لهذا من ابن عون فيما رأيت وهكذا نقل الأثرم سواء ولفظه قلت لأبي عبد الله، ومسائل الأثرم وإبراهيم بن الحارث يشتركان فيها، ونقل عنه مهنا قال (سألت أحمد عن الرجل يكري المجوسي داره أو دكانه وهو يعلم أنهم يزنون فقال كان ابن عون لا يرى أن يكري المسلمين يقول أرعبهم في أخذ الغلة وكان يرى أن يكري غير المسلمين ، قال أبو بكر الخلال (كل من حكى عن أبي عبد الله في رجل يكري داره من ذمي فإنما أجابه أبو عبد الله على فعل ابن عون ولم ينفذ لأبي عبد الله فيه قول وقد حكى عن إبراهيم أنه رآه معجبا بقول ابن عون والذين رووا عن أبي عبد الله في المسلم يبيع داره من الذمي أنه كره ذلك كراهة شديدة فلو نفذ لأبي عبد الله قول في السكنى كانت السكنى والبيع عندي واحدا والأمر في ظاهر قول أبي عبد الله أنه لا يباع منه لأنه يكفر فيها وينصب الصلبان أو غير ذلك والأمر عندي أن لا تباع منه ولا تكرى لأنه معنى واحد) قال (وقد أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال سئل أبو عبد الله عن حصين بن عبد الرحمن فقال روى عنه حفص لا أعرفه قال له أبو بكر هذا من النساك حدثني أبو سعيد الأشج سمعت أبا خالد الأحمر يقول حفص هذا العدوي نفسه باع دار حصين بن عبد الرحمن عابد أهل الكوفة من عون البصري فقال له أحمد حفص قال نعم فعجب أحمد يعني من حفص بن غياث قال الخلال (وهذا أيضا تقوية لمذهب أبي عبد الله ) قلت: عون هذا كأنه من أهل البدع أو من الفساق بالعمل فقد أنكر أبو خالد الأحمر على حفص بن غياث قاضي الكوفة أنه باع دار الرجل الصالح من المبتدع وعجب أحمد أيضا من فعل القاضي ، قال الخلال (فإذا كان يكره بيعها من فاسق فكذلك من كافر وإن كان الذمي يقر والفاسق لا يقر لكن ما يفعله الكافر فيها أعظم) وهكذا ذكر القاضي عن أبي بكر عبد العزيز أنه ذكر قوله في رواية أبي الحارث لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها يبيعها من مسلم أحب إلي فقال أبو بكر (لا فرق بين الإجارة والبيع عنده فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة وإذا منع البيع منع الإجارة ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك)، وعن إسحق بن منصور أنه قال لأبي عبد الله (سئل يعني الأوزاعي عن الرجل يؤاجر نفسه لنظارة كرم النصارى فكره ذلك وقال أحمد ما أحسن ما قال لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فلا بأس)، وعن أبي النضر العجلي قال (قال أبو عبد الله فيمن يحمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني فهو يكره كل كرائه ولكنه يقضي للحمال بالكراء وإذا كان للمسلم فهو اشد كراهة(4/183)
فإذا عرف أصل أحمد في هذه المسائل فمعلوم أن بيعهم ما يقيمون به أعيادهم المحرمة مثل بيعهم العقار للسكنى وأشد بل هو إلى بيعهم العصير أقرب منه إلى بيعهم العقار لأن ما يبتاعونه من الطعام واللباس ونحو ذلك يستعينون به على العيد إذ العيد كما قدمنا اسم لما يفعل من العبادات والعادات وهذه إعانة على ما يقام من العادات لكن لما كان جنس الأكل والشرب واللباس ليس محرما في نفسه بخلاف شرب الخمر فإنه محرم في نفسه فإن كان ما يبتاعونه يفعلون به نفس المحرم مثل صليب أو شعانين أو معمودية أو تبخير أو ذبح لغير الله أو صور ونحو ذلك فهذا لا ريب في تحريمه كبيعهم العصير ليتخذوه خمرا وبناء الكنيسة لهم وأما ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب واللباس فأصول أحمد وغيره تقتضي كراهته لكن كراهة تحريم كمذهب مالك أو كراهة تنزيه ، والأشبه أنه كراهة تحريم كسائر النظائر عنده فإنه لا يجوز بيع الخبز واللحم والرياحين للفساق الذين يشربون عليها الخمر ولأن هذه إعانة قد تفضي إلى إظهار الدين الباطل وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره وهذا أعظم من إعانة شخص معين ، لكن من يقول هذا مكروه كراهة تنزيه يقول هذا متردد بين بيع العصير وبيع الخنزير وليس هذا مثل بيعهم العصير الذي يتخذونه خمرا لأنا إنما يحرم علينا أن نبيع الكفار ما كان محرم الجنس كالخمر والخنزير فأما ما يباح في حال دون حال كالحرير ونحوه فيجوز بيعه لهم وأيضا فالطعام واللباس الذي يبتاعونه في عيدهم ليس محرما في نفسه وإنما الأعمال التي يعملونه بها لما كانت شعار الكفار نهي عنها المسلم لما فيها من مفسدة انجراره إلى بعض فروع الكفار فأما الكافر فهي لا تزيده من الفساد أكثر مما هو فيه لأن نفس حقيقة الكفر قائمة به فدلالة الكفر وعلامته إذا كانت مباحة لم يكن فيها كفر زائد كما لو باعهم المسلم ثياب الغيار التي يتميزون بها عن المسلمين بخلاف شرب الخمر وأكل الخنزير فإنه زيادة في الكفر نعم لو باعهم المسلم ما يتخذونه صليبا أو شعانين ونحو ذلك فهنا قد باعهم ما يستعينون به على نفس المعصية ، ومن نصر التحريم يجيب عن هذا بأن شعار الكفر وعلامته ودلالته على وجهين
وجه نؤمر به في دار الإسلام وهو ما فيه إذلال الكفر وصغاره فهذا إذا ابتاعوه كان ذلك إعانة على ما يأمر الله به ورسوله فإنا نحن نأمرهم بلبس الغيار
ووجه النهي عنه هو ما فيه من إعلاء الكفر وإظهاره له كرفع أصواتهم بكتابهم وإظهار الشعانين وبيع النواقيس لهم وبيع الرايات والألوية لهم ونحو ذلك فهذا من شعائر الكفر التي نحن مأمورون بإزالتها والمنع منها في ديار الإسلام فلا يجوز إعانتهم عليها
وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم فقد قدمنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتي بهدية النيروز فقبلها
وروى ابن أبي شيبة في المصنف حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه أن امرأة سألت عائشة قالت (إن لنا أظآرا من المجوس وإنه يكون لهم العيد فيهدون لنا فقالت أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم)
وقال حدثنا وكيع عن الحكم بن حكيم عن أمه عن أبي برزة (أنه كان له سكان مجوس فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان فكان يقول لأهله ما كان من فاكهة فكلوه وما كان من غير ذلك فردوه)
فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم بل حكمها في العيد وغيره سواء لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم ،
لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مسألة مستقلة بنفسها فيها خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه، وإنما يجوز أن يؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم بابتياع أو هدية أو غير ذلك مما لم يذبحوه للعيد فأما ذبائح المجوس فالحكم فيها معلوم فإنها حرام عند العامة ، وأما ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم وما يتقربون بذبحه إلى غير الله نظير ما يذبح المسلمون هداياهم وضحاياهم متقربين بها إلى الله تعالى وذلك مثل ما يذبحون للمسيح والزهرة فعن أحمد فيها روايتان أشهرهما في نصوصه أنه لا يباح أكله وإن لم يسم عليه غير الله تعالى ونقل النهي عن ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر ، قال الميموني (سألت أبا عبد الله عن ذبائح أهل الكتاب فقال إن كان مما يذبحون لكنائسهم فلا يحل فقال يدعون التسمية على عمد إنما يذبحون للمسيح)
وذكر أيضا أنه سأل أبا عبد الله عمن ذبح من اهل الكتاب ولم يسم فقال (إن كان مما يذبحون لكنائسهم فقال يتركون التسمية فيه على عمد إنما يذبحون للمسيح وقد كرهه ابن عمر إلا أن أبا الدرداء يتأول أن طعامهم حل وأكثر ما رأيت منه الكراهة لأكل ما ذبحوا لكنائسهم) وقال أيضا (سألت أبا عبد الله عن ذبيحة المرأة من أهل الكتاب ولم تسم قال إن كانت ناسية فلا بأس وإن كان مما يذبحون لكنائسهم فقد يدعون التسمية فيه على عمد)(4/184)
قال المروزي قريء على أبي عبد الله (وما ذبح على النصب) قال على الأصنام وقال كل شيء ذبح على الأصنام لا يؤكل، وقال حنبل قال عمي (أكره كل ما ذبح لغير الله والكنائس إذا ذبح لها وما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به وما ذبح يريد به غير الله فلا آكله وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه)، وروى أحمد عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي سألت ميمونا عما ذبحت النصارى لأعيادهم وكنائسهم فكره أكله ، وقال حنبل سمعت أبا عبد الله قال (لا يؤكل لأنه أهل لغير الله به ويؤكل ما سوى ذلك وإنما أحل الله من طعامهم ما ذكر اسم الله عليه قال الله عز وجل (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وقال (وما أهل به لغير الله) فكل ما ذبح لغير الله فلا يؤكل لحمه) ، وروى حنبل عن عطاء في ذبيحة النصراني يقول اسم المسيح قال كل قال حنبل سمعت أبا عبد الله يسأل عن ذلك قال (لا تأكل قال الله (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) فلا أرى هذا ذكاته وما أهل لغير الله به ، فاحتجاج أبي عبد الله بالآية دليل على أن الكراهة عنده كراهة تحريم وهذا قول عامة قدماء الأصحاب
قال الخلال في باب التوقي لأكل ما ذبحت النصارى وأهل الكتاب لأعيادهم وذبائح أهل الكتاب لكنائسهم (كل من روى عن أبي عبد الله روى الكراهة فيه وهي متفرقة في هذه الأبواب وما قاله حنبل في هاتين المسألتين ذكر عن أبي عبد الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وما أهل لغير الله به فإنما الجواب من أبي عبد الله فيما أهل لغير الله به وأما التسمية وتركها فقد روى عنه جميع أصحابه أنه لا بأس بأكل مالم يسموا عليه إلا في وقت ما يذبحون لأعيادهم وكنائسهم فإنه في معنى قوله تعالى (وما أهل لغير الله به) ، وعند أبي عبد الله أن تفسير (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) إنما عني به الميتة وقد أخرجته في موضعه ،ومقصود الخلال أن نهي أحمد لم يكن لأجل ترك التسمية فقط فإن ذلك عنده لا يحرم وإنما كان لأنهم ذبحوه لغير الله سواء كانوا يسمون غير الله أو لا يسمون الله ولا غيره ولكن قصدهم الذبح لغير الله ،لكن قال ابن أبي موسى (ويجتنب أكل كل ما ذبحه اليهود والنصارى لكنائسهم وأعيادهم ولا يؤكل ما ذبح للزهرة) والرواية الثانية أن ذلك مكروه غير محرم وهذا الذي ذكره القاضي وغيره وأخذوا ذلك فيما أظنه مما نقله عبد الله بن أحمد قال سألت أبي عمن ذبح للزهرة قال لا يعجبني قلت أحرام أكله قال لا أقول حراما ولكن لا يعجبني وذلك أنه أثبت الكراهة دون التحريم ، ويمكن أن يقال إنما توقف عن تسميته محرما لأن ما اختلف في تحريمه وتعارضت فيه كالجمع بين الأختين ونحوه هل يسمى حراما على روايتين كالروايتين عنده في أن ما اختلف في وجوبه هل يسمى فرضا على روايتين ومن أصحابنا من أطلق الكراهة ولم يفسر هل أراد التحريم أو التنزيه، قال أبو الحسن الآمدي (ما ذبح لغير الله مثل الكنائس والزهرة والشمس والقمر فقال أحمد هو مما أهل به لغير الله أكرهه كل ما ذبح لغير الله والكنائس وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه فأما ما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به)(4/185)
وكذلك مذهب مالك يكره ما ذبحه النصارى لكنائسهم أو ذبحوا على اسم المسيح أو الصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم ، وفي المدونة (وكره مالك أكل ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم أو لأعيادهم من غير تحريم وتأول قول الله (أو فسقا أهل لغير الله به) قال ابن القاسم وكذلك ما ذبحوا وسموا عليه اسم المسيح وهو بمنزلة ما ذبحوا لكنائسهم ولا أرى أن يؤكل ونقلت الرخصة في ذبائح الأعياد ونحوها عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم وهذا فيما لم يسموا عليه غير الله فإن سموا غير الله في عيدهم أو غير عيدهم حرم في أشهر الروايتين وهو مذهب الجمهور وهو مذهب الفقهاء الثلاثة فيما نقله غير واحد وهو قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة منهم أبو الدرداء وأبو أمامة والعرباض بن سارية وعبادة بن الصامت وهو قول أكثر فقهاء الشام وغيرهم، والثانية لا يحرم وإن سموا غير الله وهو قول عطاء ومجاهد ومكحول والأوزاعي والليث، نقل ابن منصور أنه قيل لأبي عبد الله سئل سفيان عن رجل ذبح ولم يذكر اسم الله متعمدا قال أرى أن لا يؤكل قيل له أرأيت أن كان يرى أنه يجزي عنه فلم يذكر قال أرى أنه لا يؤكل قال أحمد المسلم فيه اسم الله يؤكل ولكن قد أساء في ترك التسمية النصارى أليس يذكرون غير اسم الله ، ووجه الاختلاف أن هذا قد دخل في عموم قوله عز وجل (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وفي عموم قوله تعالى (وما أهل لغير الله به) لأن هذه الآية تعم كل ما نطق به لغير الله يقال أهللت بكذا إذا تكلمت به وإن كان أصله الكلام الرفيع فإن الحكم لا يختلف برفع الصوت وخفضه وإنما لما كانت عادتهم رفع الصوت في الأصل خرج الكلام على ذلك فيكون المعنى وما تكلم به لغير الله وما نطق به لغير الله ، ومعلوم أن ما حرم أن تجعل غير الله مسمى فكذلك منويا إذ هذا مثل النيات في العبادات فإن اللفظ بها وإن كان أبلغ لكن الأصل القصد، الا ترى أن المتقرب بالهدايا والضحايا سواء قال أذبحه لله أو سكت فإن العبرة بالنية وتسميته الله على الذبيحة غير ذبحها لله فإنه يسمى على ما يقصد به اللحم وأما القربان فيذبح لله سبحانه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في قربانه (اللهم منك ولك بعد قوله بسم الله والله أكبر) لقوله تعالى (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) والكافرون يصنعون بآلهتهم كذلك فتارة يسمون آلهتهم على الذبائح وتارة يذبحونها قربانا إليهم وتارة يجمعون بينهما وكل ذلك والله أعلم يدخل فيما أهل لغير الله به فإن من سمى غير الله فقد أهل به لغير الله فقوله باسم كذا استعانة به وقوله لكذا عبادة له ولهذا جمع الله بينهما في قوله(إياك نعبد وإياك نستعين) ، وأيضا فإنه سبحانه حرم ما ذبح على النصب وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله ، وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم هل تشترط في ذبيحة الكتابي على روايتين وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين فلما تعارض العموم الحاظر وهو قوله تعالى (وما أهل به لغير الله) والعموم المبيح وهو قوله (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) اختلف العلماء في ذلك ، والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال وذلك لأن عموم قوله تعالى (وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب) عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم والمسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) سواء وهم وإن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه يحل لنا، ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح فالحاظر أولى أن يقدم،ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي أحدثوه فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا والله تعالى أعلم(4/186)
فإن قيل أما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا باسم المسيح ونحوه فتحريمه ظاهر أما إذا لم يسموا أحدا ولكن قصدوا الذبح للمسيح أو للكوكب ونحوهما فما وجه تحريمه ، قيل قد تقدمت الإشارة إلى ذلك وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب وذلك يقتضي تحريمه وإن كان ذابحه كتابيا لأنه لو كان التحريم لكونه وثنيا لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب دل على أن طعام المشركين حرام فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة ، وأيضا فانه ذكر تحريم ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله وقد دخل فيما أهل به لغير الله ما أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس فهو مذبوح على النصب ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه وهذه الأنصاب قد قيل هي من الأصنام وقيل هي غير الأصنام قالوا كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها ويذبحون عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون عليها وكانوا إذا شاءوا أبدلوا هذه الأحجار بحجارة هي أعجب إليهم منها ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه (حتى صرت كالنصب الأحمر) يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم وفي قوله (وما ذبح على النصب) قولان، أحدهما أن نفس الذبح كان يكون عليها كما ذكرناه فيكون ذبحهم عليها تقربا إلى الأصنام وهذا على قول من يجعلها غير الأصنام فيكون الذبح عليها لأجل أن المذبوح عليها مذبوح للأصنام أو مذبوح لها وذلك يقتضي تحريم كل ما ذبح لغير الله ولأن الذبح في البقعة لا تأثير له إلا من جهة الذبح لغير الله كما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم من الذبح في مواضع أصنام المشركين ومواضع أعيادهم وإنما يكره المذبوح في البقعة المعينة لكونها محل شرك فإذا وقع الذبح حقيقة لغير الله كانت حقيقة التحريم قد وجدت فيه، والقول الثاني أن الذبح على النصب أي لأجل النصب كما قيل أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على زينب بخبز ولحم وأطعم فلان على ولده وذبح فلان على ولده ونحو ذلك ومنه قوله تعالى ( لتكبروا الله على ما هداكم) وهذا ظاهر على قول من يجعل النصب نفس الأصنام ولا منافاة بين كون الذبح لها وبين كونها كانت تلوث بالدم ، وعلى هذا القول فالدلالة ظاهرة ، واختلاف هذين القولين في قوله تعالى (على النصب) نظير الاختلاف في قوله تعالى (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) وقوله تعالى (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) فإنه قد قيل المراد بذكر اسم الله عليها إذا كانت حاضرة ، وقيل بل يعم ذكره لأجلها في مغيبها وشهودها بمنزلة قوله تعالى (لتكبروا الله على ما هداكم) ، وفي الحقيقة مآل القولين إلى شيء واحد في قوله تعالى (وما ذبح على النصب) كما قد أومأنا إليه، وفيها قول ثالث ضعيف أن المعنى على اسم النصب وهذا ضعيف لأن هذا المعنى حاصلا من قوله تعالى (وما أهل لغير الله به) فيكون تكريرا لكن اللفظ يحتمله كما روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه ،رواية له وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله إنكارا لذلك وإعظاما له ، وأيضا فان قوله تعالى (وما أهل لغير الله به) ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال هذا ذبيحة لكذا وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم شركا من الاستعانة باسم هذا الغير في فواتح الأمور فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح والزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك أولى ، وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله ولم يحرم ما ذبح لغير الله كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم بل لو قيل بالعكس لكان أوجه فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله ، وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه بسم الله كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الأولياء والكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن كان هؤلاء(4/187)
مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ، ومن هذا الباب ما قد يفعله الجاهلون بمكة شرفها الله وغيرها من الذبح للجن ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن ، ويدل على المسألة ما قدمناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح في مواضع الأصنام ومواضع أعياد الكفار ويدل على ذلك أيضا ما رواه أبو داود في سننه حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن أبي ريحانة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب قال أبو داود غندر وقفه على ابن عباس
وروى أبو بكر بن أبي شيبة في تفسيره حدثنا وكيع عن أصحابه عن عوف الأعرابي عن أبي ريحانة قال سئل ابن عباس عن معاقرة الأعراب فقال إني أخاف أن تكون مما أهل لغير الله به وروى أبو إسحاق إبراهيم دحيم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا سعيد بن منصور عن ربعي عن عبد الله بن الجارود قال سمعت الجارود قال كان من بني رباح رجل يقال له ابن وثيل شاعرا نافر أبا الفرزدق غالبا الشاعر بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء فلما وردت الإبل الماء قاما إليها بأسيافهما فجعلا ينسفان عراقيبها فخرج الناس على الحمر والبغال يريدون اللحم وعلي رضي الله عنه بالكوفة فخرج على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي (يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها فإنها أهل بها لغير الله) فهؤلاء الصحابة قد فسروا ما قصد بذبحه غير الله داخلا فيما أهل به لغير الله ، فعلمت أن الآية لم يقتصر بها على التلفظ باسم غير الله بل ما قصد به التقرب إلى غير الله فهو كذلك وكذلك تفاسير التابعين على أن ما ذبح على النصب هو ما ذبح لغير الله
وروينا في تفسير مجاهد المشهور عنه الصحيح من رواية ابن أبي نجيح في قوله تعالى (وما ذبح على النصب) قال كانت حجارة حول الكعبة يذبح لها أهل الجاهلية ويبدلونها إذا شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها
وروى ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أشعث عن الحسن في قوله تعالى (وما ذبح على النصب) قال هو بمنزلة ما ذبح لغير الله
وفي تفسير قتادة المشهور عنه وأما ما ذبح على النصب فالنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك
وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس النصب أصنام كانوا يذبحون ويهلون عليها فإن قيل فقد نقل إسماعيل بن سعيد قال سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم قال لا بأس به
قيل إنما قال أحمد ذلك لأن المسلم إذا ذبحه سمى الله عليه ولم يقصد ذبحه لغير الله ولا يسمى غيره بل يقصد منه غير ما قصده صاحب الشاة فتصير نية صاحب الشاة لا أثر لها والذابح هو المؤثر في الذبح بدليل أن المسلم لو وكل كتابيا في ذبيحة فسمى عليها غير الله لم تبح ولهذا لما كان الذبح عبادة في نفسه كره علي رضي الله عنه وغير واحد من أهل العلم منهم أحمد في إحدى الروايتين عنه أن يوكل المسلم في ذبح نسيكته كتابيا لأن نفس الذبح عبادة بدنية مثل الصلاة ولهذا تختص بمكان وزمان ونحو ذلك بخلاف تفرقة اللحم فإن عبادة مالية ولهذا اختلف العلماء في وجوب تخصيص أهل الحرم بلحوم الهدايا المذبوحة في الحرم وإن كان الصحيح تخصيصهم بها وهذا بخلاف الصدقة فإنها عبادة مالية محضة فلهذا قد لا يؤثر فيها نية الوكيل على أن هذه المسألة منصوصة عن أحمد محتملة فهذا تمام الكلام في ذبائحهم
المصدر : اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم
==============
الوهابية حركة إصلاحية إسلامية وليست مذهبا دينيا جديدا
د. محمد علي الفرا
الحملة على الإسلام في الغرب لم تنته ولم تتوقف، فهي لا تزال مستمرة منذ أحداث التفجيرات في ايلول عام ،2001 وقد اعطت هذه التفجيرات زخما لهذه الحملة الظالمة، واستغلها كثير من الكتاب الحاقدين على الاسلام فقاموا بنفث سمومهم، ونشر أكاذيبهم وافتراءاتهم على الإسلام، ووصفوه بدين العنف والإرهاب، وانه انتشر بحد السيف، وزعموا ان الجهاد هو الارهاب في حد ذاته، وانه بمثابة اعلان الحرب على غير المسلمين وبخاصة اليهود والنصارى، وكما يعلم الجميع فان الحملة على الإسلام اتخذت كغطاء للقضاء على حكومة طالبان واحتلال افغانستان ومن بعدها العراق.
وتتعرض المملكة العربية السعودية حاليا لحملة شرسة وضارية بعد ان وجهت الاتهامات الى عدد من السعوديين الذين قيل بانهم اشتركوا او ساهموا في التفجيرات او انخرطوا في صفوف القاعدة التي يتزعمها السعودي اسامة بن لادن ويعتقد معظم الرسميين والكتاب الاميركان بان التعليم الديني في السعودية المستمد من الوهابية هو المسؤول عن العنف والارهاب، ولذلك تطالب الإدارة الاميركية بضرورة تعديل البرامج والمناهج الدراسية، وفي الوقت نفسه يواصل الاعلام الاميركي هجومه على الوهابية التي على اساسها قامت الدولة السعودية منذ نشأتها في القرن الثامن عشر.(4/188)
في السابع من هذا الشهر نشرت مجلة »تايم« الاميركية مقالا لكاتب اسمه »ديفيد بيما« عنوانه »الوهابية.. دين سام« اي من السُّمْ. ونشر المقال في زاوية او صفحة تقول بان النقاش يدور حول »اذا كان دين الدولة السعودية هو المسؤول عن عدم التسامح، او ان المسألة هي مجرد سوء فهم«.
يحتوي المقال على كثير من المغالطات والافتراءات على الوهابية، وجاء فيه ما نصه: »ان الحركات الدينية قد تكون نتيجة رؤيا في المنام، فقد قيل انه كان في شبه جزيرة العرب في القرن الثامن عشر رجل عاش في ولاية نجد، وقد رأى هذا الرجل في المنام نورا او شعاعا يخرج من جسمه وينتشر الى مسافات بعيدة وعميقة بحيث يغطي الخيام في الصحراء والمدن على السواء، فذهب الى شيخ دين ليفسر له هذه الرؤيا، فقال له الشيخ بان ولده سيأتي بدين جديد تتبناه صحراء العرب وتؤمن به«.
ويقول هذا الكاتب بان الرؤيا لم تتحقق في ابن الرجل وانما في حفيده، وان اسم هذا الحفيد كان »محمد بن عبدالوهاب« (الذي تُنسب اليه الحركة الوهابية)، ويسترسل الكاتب قائلا بان »صورة الاسلام التي رآها محمد بن عبدالوهاب في الاربعينات من القرن الثامن عشر، اي حوالي عام 1740م، هي التي اصبحت عليه اليوم (الوهابية)، وصارت الدين الرسمي للدولة السعودية، ثم يتساءل: هل الوهابية مرادفة للعنف، وتفرض الحرب على الغرب كجزء من عقيدتها الاساسية؟ او ان العنف شوّه الوهابية لاعطاء شرعية مزيفة لمتشدديها؟ ثم يستشهد بما قاله »ستيفن شوارتز« مؤلف كتاب »الاسلام في العربية السعودية« بانه حينما تصبح الوهابية العقيدة الرسمية، فانه ينبغي ان يكون هناك ارهاب دولة، وهو يقول بان كثيرا من المؤرخين الدينيين وعلماء الاجتماع يعتقدون بان الدين المؤسس والقائم على مبادىء متشددة وغير متسامحة يقصر الدعوة على العنف.
ويتناول الكاتب سيرة »محمد بن عبدالوهاب«، ويقول بانه ولد في بلدة صغيرة في الجزيرة العربية سنة 1703م ابان الحكم التركي العثماني، وله كتاب اساسي اسمه »كتاب الوحدة« حاول فيه استعادة ما اعتقد انه اصل الاسلام وجوهره، وذلك بالتخلص من البدع التي لوثت او لطخت ديانة التوحيد الاساسية، وقد وضع في لائحة الفساد الذي ينبغي التخلص من الشيعة والصوفيين، وانه نبذ معظم اجتهادات المجتهدين الاربعة في الاسلام، والتزم بالتفسير الحرفي للنصوص الدينية وتطبيق العقاب البدني.
ويقول الكاتب بان هذا المذهب الجديد (يقصد الوهابية) لا مكان فيه للحرية ولا لحقوق الانسان، علاوة على الفصل بين المسجد والدولة، وقد اتخذ محمد عبدالوهاب - كما قال الكاتب - موقفا عدائيا تاريخيا من اليهود والنصارى، ونادى بتأخير الجهاد حتى يمكن اولا تكوين دار الإسلام مقابل دار الحرب، ويؤكد الكاتب بان محمد بن عبدالوهاب نشر دعوته بالسيف في الجزيرة العربية، وذلك حينما تبناها زعيم او شيخ قبيلة نجدية اسمه »محمد بن سعود« في عام 1744م، واعجب بها، وعدها ايديولوجية مقبولة ترى في العثمانيين اجانب احتلوا البلاد بالقوة، وقد امدته الوهابية بالمصداقية لتشكيل حملة مسلحة للاستيلاء على مكة والمدينة. وكانت نتيجة الشراكة بين الرجلين ان محمد بن سعود استقل بالحكم بينما اعطيت السلطة المدنية والقضائية للشيخ محمد بن عبدالوهاب، وقويت العلاقة بينهما بالمصاهرة حيث تزوج ابن سعود ابنة محمد بن عبدالوهاب.
ويربط الكاتب بين المجاهدين ضد السوفيات في افغانستان في الثمانينات من القرن الماضي الذين قدموا من السعودية والمجاهدين المصريين الذين اعتنقوا تعاليم »سيد قطب« التي تعتمد القوة والعنف من اجل التحرير. ويقول بأن الوهابيين تبنوا هذه التعاليم، وصاروا ينادون بالجهاد ضد الكفار والاستعماريين الجدد، اي الغرب.
ان من ابرز مغالطات الكاتب وتحامله على الوهابية، وصفه لها بأنها دين جديد جاء به »محمد بن عبدالوهاب« الذي كان جده ـ كما زعم ـ قد رأى دلالات دعوته في المنام، وان الحركات الدينية قد تكون - كما قال - ناتجة عن احلام، مما يجعل القارىء يشكك في الحركات الدينية الاصلاحية، وكما يعرف الجميع فان الوهابية ليست دينا جديدا، ولا حتى مذهبا اسلاميا، كما يعتقد البعض، وانما هي حركة سلفية اصلاحية دينية قادها وحمل لواءها قبل محمد بن عبدالوهاب الامام ابو العباس تقي الدين احمد بن عبدالحليم المعروف بابن تيمية الحراني مولدا »نسبة الى مدينة حران في تركيا حاليا« والدمشقي اقامة، والمتوفى عام 1328م. اما الشيخ محمد بن عبدالوهاب المولود في بلدة »العيينية« بنجد، فقد جاء بعد ذلك، وتلقى تعليمه الديني في نجد ثم سافر الى الحجاز والعراق وسوريا حيث تأثر بأفكار »ابن تيمية« وتلميذه »ابن الجوزية«، واخذ عنه تفسيره للمذهب الحنبلي، ولذلك فقد اخطأ الكاتب حينما زعم بان محمد عبدالوهاب نبذ معظم اجتهادات المجتهدين في الاسلام، وهم كما نعلم: ابو حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل.(4/189)
ولعل من اهم كتب »ابن تيمية« التي تأثر بها، ابن عبدالوهاب، كتاب »درء تعارض العقل والنقل«، والذي حققه مؤخرا الدكتور محمد رشاد سالم، وطبع على نفقة جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية عام ،1979 وجاء في عشرة اجزاء.
قلنا بان الشيخ محمد بن عبدالوهاب تأثر بأفكار »ابن تيمية« التي مفادها بان الاسلام، كما يمارسه معاصروه وقد انحرف كثيرا عمليا ونظريا عن طريق السنة التي استنها القرآن الكريم والنبي »صلى الله عليه وسلم«، وقرر ان ينقيه ويعيده الى حالته الاصلية زمن السلف الصالح، وذلك بالتخلص من البدع التي ابتدعها البعض ولصقت بالاسلام مثل تكريم الاولياء والصالحين، واقامة القبور وبنائها وبروزها وارتفاعها عن سطح الارض ولذلك قاموا بهدمها وتسويتها بالارض حتى لا تتحول الى مزارات يلجأ اليها الناس للتبرك والشفاعة من دون الله، مما قد يعني العودة الى الوثنية، وعلى العموم فان الشيخ محمد بن عبدالوهاب كان يريد العودة الى جوهر الاسلام ونقائه وبساطته كما كان في عهد النبي »صلى الله عليه وسلم« والصحابة رضوان الله عليهم.
ويمكننا القول بأن الحركة الوهابية كانت ضمن حركات اسلامية ظهرت في البلاد العربية انذاك مثل المهدية في السودان والسنوسية في ليبيا وشمال افريقية وكان لكل حركة توجهاتها ومنطلقاتها وابعادها السياسية الرامية الى التحرر من النفوذ الاجنبي وبعث امجاد الاسلام.
ونحن لا نستطيع في مقال كهذا ان نفي الوهابية حقها وانما نكتفي بما اشرنا اليه وهدفنا دحض افتراءات الكاتب المتحامل على الاسلام بعامة والوهابية بخاصة. ومقال هذا الكاتب يجيء ضمن حملة منظمة هدفها نسف الاسس التي قامت عليها الدولة السعودية التي انشأها محمد بن سعود المتوفى في عام 1765م، والذي كما سبق القول تبنى افكار الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وقد بلغت هذه الدولة اوج قوتها واتساعها في عهد حفيده سعود الكبير حيث شملت معظم شبه الجزيرة العربية، وشمالا حتى تدمر في سوريا ووصلت قواتها العراق. فخاف العثمانيون على سلطاتهم، وطلبوا من محمد علي باشا واليهم على مصر القضاء على الوهابيين، فارسل محمد علي ولده ابراهيم الذي قضى على الدولة السعودية وهدم عاصمتهم الدرعية بنجد عام 1818م، ولكن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل الذي لجأ مع والده الى الكويت تمكن في عشرينات القرن الماضي من تجريد حملته الى الرياض وانتزاعها من آل الرشيد التابعين للاتراك، واعاد بناء الدولة السعودية من جديد، والتزم بالتعاليم الوهابية والتي هي في جوهرها تتبع المذهب الحنبلي، كما سبق القول. وكما هو معلوم فان المذهب الحنبلي ينتشر في كثير من البلاد الاسلامية، وبخاصة في الديار الشامية.
==============
أحكام أهل الذمة باقية لم تنسخ
محمد بن شاكر الشريف
لقد أصبحت اليوم قضايا الإسلام وأحكامه الشرعية مرعى خصباً وكلأ مباحاً ، ترعاه السوائم من كل لون وجنس ، ويشعر المرء بكثير من الضيق والضجر ، والغضب ، وذلك عندما يطالع في كثير مما يكتب أو يستمع إلى كثير مما يقال ، فيجد الجهل و الجور والحيف في تناول الأمور الشرعية ، لكن هذه الحالة التي يكاد يعيشها المرء يوميا وذلك بفعل الدخلاء والمتطفلين على الكلام في أمور الإسلام تزداد أكثر وأكثر ، ويزداد حرها ولهيبها اللافح ، عندما يقع ذلك الخلط والتخليط ، والحيف ، والجور ، والتحريف من رجل مشهور يشار إليه من بين الناس ، أومن جماعة مشهورة لها رصيدها عند الناس .
وقد يكون الدافع أحياناً لهذه الرغبة في تحصيل منفعة شخصية ، أو حفاظاً على منصب زائل ، أو دفعاً لمضرة متوهمة ، وقد يكون الدافع أحياناً لذلك هو الرغبة في عمل ما يسمونه » مصالحه « مع بعض الأنظمة الحاكمة بغير ما أنزل الله ، أو إنهاء أزمة معه ، أو الحصول على ما يسمونه » بعض المكاسب « من مثل السماح بدخول الانتخابات ، أو إصدار مجلة ، أو غير ذلك .
وبغض النظر عن مناقشتنا لتلك الرغبات ، وما إذا كانت مقبولة أو مرفوضة، فإن الذي ينبغي أن يكون واضحاً للجميع أنه لا يمكن أن تكون تلك» المساومات « على حساب الإسلام ، وعلى حساب أحكامه ، وشرائعه ومناهجه وثوابته ، وإلا فإن الحركة الإسلامية الناضجة لن تغفر هذه » المساومات « لأصحابها ، وسوف تعزلهم ، وفي النهاية سوف تلفظهم ، ولن يحصد المرء غير ما زرع أقول الذي دعاني إلى كتابة ذلك ، هو ما قرأته في جريدة الحياة يوم الأحد بتاريخ 30/2/ 1415 ص5 العدد 11494 من بيان أصدرته جماعة إسلامية كبيرة ، لها رصيدها ، ولها ريادتها في مجال العمل الإسلامي .
ولا يعنيني الآن رغم كثرة ما تعرض له بيان الجماعة غير موضعين :
الموضع الأول : قول بيان الجماعة : (إنهم ينتمون إلى أهل السنة والجماعة ، ويعتبرون أنفسهم جماعة من المسلمين ، وإن عقيدتهم ، وفكرتهم من حيث النقاء والأصالة لا تشوبها شائبة ، كما إن مناهجهم واضحة ، ومتميزة من حيث اعتمادها على الكتاب والسنة ، والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات ) .(4/190)
ونحن هنا لا يعنينا أن ننقب وراء هذا الكلام في تراث الجماعة لنرى مدى صوابه من خطئه ، ويكفينا هذا الإعلان الذي يمثل أصلاً قويماً ، ينبغي أن يقوم عليه أي عمل إسلامي ، وهو يمثل في الوقت نفسه مقياساً لمدى قرب العمل الإسلامي أو بعده عن حقيقة الإسلام .
إن إعلان مثل هذا الأصل من أي جماعة تعمل للإسلام ، لابد أن يلقى الترحيب والإشادة ، ويستقبل بالسرور والسعادة من أولئك الذين يهمهم أمر الإسلام ويعيشون له ، وينبغي تشجيع أصحابه على التمسك به وإعانتهم عليه وانطلاقاً من تشجيعنا لتلك الجماعة على الالتزام بهذا الأصل ، الذي أعلنوه ومساعدتنا لهم للمضي فيه قدماً ، ننتقل إلى الموضع الثاني لنناقشه انطلاقاً من الأصل المذكور .
الموضع الثاني : فقد جاء في بيان الجماعة أن » الشريعة الإسلامية أباحت لغير المسلمين حرية العقيدة ، والعبادة ، وإقامة الشعائر ، وحرية الأحوال الشخصية، وعملت على حماية ذلك إلى أبعد مدى « ..
ويمضي البيان إلى أن يقول عن جماعته أنها » ترى أن المواطنة ، أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة ، وأن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة ، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات ، مع بقاء مسألة الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث طبقاً لعقيدة كل مواطن وبمقتضى هذه المواطنة ، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى » الجماعة « أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من مستشارين ، ومديرين ، ووزراء ، ويمثل النصارى مع المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه ، وتماسكت عناصره « ، وقد يتعجب المرء ويتساءل هل من الممكن أن يكون الذي كتب تلك الفقرة ، هو نفسه الذي كتب الفقرة السابقة التي نقلناها ؟ !
شيء عجيب حقاً لكن على أي الأحوال ننتقل الآن إلى مناقشة تلك الفقرة الأخيرة على ضوء الأصل الذي ذكرت الجماعة أنها متمسكة به .
أولاً : هل أباحت الشريعة الإسلامية فعلاً لغير المسلمين حرية الاعتقاد .. إلى آخر ما قال البيان ، مع العلم أن » غير المسلمين « وهو التعبير الذي آثر بيان الجماعة استخدامه يشمل اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والشيوعيين ، وعبدة الأوثان ، وعبدة الأبقار ، وكل كافر أو مشرك .
فأين نجد تلك الإباحة في » الكتاب والسنة ، والفهم الصحيح ، الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « ؟ إن الشريعة لم تبح قط الكفر بالله أو الشرك به ولم تبح قط التعبد بالعبادات الباطلة المبتدعة ، ولم تبح قط فعل المنكرات والمعاصي ، وإنما الخلاف قد وقع بين أهل العلم في شأن أهل الكتاب : اليهود والنصارى وما سواهما من الكفار ، هل يعاملون معاملة أهل الكتاب ، أم ليس إمامهم إلا الإسلام أو السيف؟ لأدلة عندهم في ذلك لامجال للحديث عنها هنا ولم تكرههم الشريعةعلى الدخول في الإسلام { لا إكراه في الدين } أما » الإباحة « فلا ، وفرق كبير بين » الإباحة « وبين عدم الإكراه ، فإن » المباح « هو الذي يستوي فيه الأمران : الفعل أو الترك ، والكفر والشرك أكبر الكبائر فكيف يقال : إن الشريعة أباحت ذلك ؟ !
لكن لنقل : إن بيان الجماعة لم يقصد » الإباحة « بالمعنى الوارد في أصول الفقه ، وإنما أراد فعلاً عدم إكراه » غير المسلم « على ترك دينه والدخول في الإسلام ، بل تركت له الخيار بين الدخول في الإسلام أو البقاء على دينه .
ثانياً : لنفترض أن أصحاب البيان يأخذون بقول أهل العلم الذين يرون أن ذلك الحكم غير مختص بأهل الكتاب ، وأن جميع الكفار يشملهم الخيار في الدخول في الإسلام أو البقاء على دينهم ، لكن على أي نحوٍ جاء هذا الخيار سواءً أكان لأهل الكتاب فقط ، أو لجميع الكفار ؟
إن مقتضى » الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات أن ذلك لا يكون إلا بأن يصبح هؤلاء من » أهل الذمة « فيلتزموا بأحكام » أهل الذمة « ، » ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون « أما كتاب ربنا الكبير المتعال ففيه قوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [التوبة : 29] .
وأما سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-المؤيد من ربه ، والذي لا ينطق عن الهوى ففيها الكثير نذكر منها حديث بريدة الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وفيه : » اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله .... . ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم .. « [1]
فالكتاب والسنة « يبينان أن السيف لا يرفع عمن يرفع عنه من الكفار إلا ببذل الجزية عن يد وهم صاغرون ، وذلك التزام بأحكام » أهل الذمة « .(4/191)
وأما » الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « ، فارجع إليه وانظر في جميع كتب أهل العلم الفقهية بدون استثناء لتجد الآيات والأحاديث وأحكام » أهل الذمة « المبنية عليها ولتعلم أن دار الإسلام ، لا يقيم فيها كافر إقامة دائمة إلا إذا خضع لأحكام » أهل الذمة « ، وبمقتضى هذا الخضوع يأمن أهل الذمة على أنفسهم وأهليهم وأموالهم .
وعلى هذا فقول بيان الجماعة : » إن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة « ، لم يعتمد على الكتاب ولا على السنة ولا على الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات ، بل جاء مناقضاً لكل ذلك .
إن ما يقوله البيان هنا يعنى أن مصطلح » أهل الذمة « والأحكام المرتبطة به قد انتهى ، وأن بيان الجماعة قد استخرج له شهادة الوفاة ، وكفنه ودفنه في ثياب » المواطنة والجنسية « لكنها شهادة مزورة وثياب دنسة ، وستبقى الأحكام الشرعية ثابتة شامخة رغم كل البيانات .
فيا أصحاب البيان : خبرونا ماذا تفعلون بنصوص كتاب ربنا وسنة نبينا وبعمل الخلفاء الراشدين وأقوال الأئمة وتصانيف العلماء التي تحدثت عن أهل الذمة وأحكامهم ، ماذا تفعلون بهذا ؟ أتقولون : إن بيانكم نسخ تلك الأحكام ؟ ! وهل يملك أحد من المسلمين أن ينسخ أحكام الشرع ، أو أن يبدلها ويغيرها حسب هواه ؟ !
وربما قد يعجب بعض القراء ، وقد يستغرقون في الضحك الشديد ويقولون :
(ياعم : أين أنت الآن ، وفيم تتكلم ، وعن أية جزية أو صغار ، وأين هذا الجهاد الذي تتحدث عنه ، وهل نستطيع أن نفرض ذلك على الكفار ، ونحن الذين في الحقيقة نكاد ندفع لهم الجزية عن يد ونحن صاغرون) .
وأنا أقول لصاحب مثل هذا الكلام :
أولاً : أن ذلك ليس كلامي جئت به من عند نفسي ، وإنما هو نصوص الشرع وأقوال أهل العلم ، ونحن جميعاً مطالبون بالالتزام بذلك وعدم الخروج عنه .
ثانياً : أن المرء منا قد تمر به فترات ضعف أو عجز وسواء أكان هذا الضعف أو العجز خارجاً عن إرادته فيكون معذوراً ، أو كان ضعفاً وعجزاً ناتجاً عن تقصير وجبن وخور فلا يكون معذوراً لا يتمكن معها من الصدع بكلمة الحق أو الجهر بها أو العمل لها وإلزام الآخرين بها ، لكن ليس البديل عن ذلك هو التحريف والتبديل ، فإذا لم يتمكن المرء من قول الحق أو فعله فلا أقل من الصمت ، أما النطق بالباطل والدعوة إليه وتزيينه للناس فمن من المسلمين يقبله ؟ !
وإذا لم يستطع جيلنا القيام بذلك على الوجه المطلوب ، فلا أقل يا أخي من أن نترك للأجيال القادمة المفاهيم صحيحة غير مبدلة والثوابت غير محرفة فلعل الله سبحانه يحقق على أيديهم ما عجز جيلنا عن تحقيقه (وإن كان لنا أمل في الله تعالى أن يحقق نصر الإسلام على يد هذا الجيل) .
ثالثاً : ونمضي مع البيان حيث يذكر : » وإن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات « وهذه هي النتيجة المنطقية طالما تم إلغاء أحكام أهل الذمة وهي في نفس الوقت تمثل الطلب الذي طالما ألح الكفار في الحصول عليه ، وهو المساواة التامة في دار الإسلام بين المسلمين والكفار ، فياسبحان الله ما أشد ظلم هذه المساواة التامة وما أكثر مرارتها !
لكننا نمضي مع البيان ليفسر لنا هذه المشاركة الكاملة والمساواة التامة حتى يكون كلامه هو الشاهد عليه ، يقول بيان الجماعة : » وبمقتضى هذه المواطنة وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ، ترى (الجماعة) أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من مستشارين ومديرين ووزراء .
لقد أصبحت » المواطنة « في فقه تلك الجماعة أصلاً شرعياً ، وقاعدة تُفَرّع عليها الأحكام وتؤخذ منها التفاصيل ، فها هو ذا يقول : » وبمقتضى هذه المواطنة« ولم ينس البيان أن يضيف إلى هذا الأصل أصلاً آخر ليناقض به الأحكام الشرعية ألا وهو قوله : » وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده «
فهل تلك الحجج الباردة التي قدمها البيان : » (المواطنة « ) وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده « هل تصلح تلك الحجج ، لمعارضة الأحكام الشرعية الثابتة !!(4/192)
وقد نظرت في هذه الفقرة فوجدت أن كاتبها يتعامل مع العواطف وليس مع أصول ثابتة يرجع إليها ، وذلك أنه قصر تولى المناصب علىالنصارى « دون أن يذكر » اليهود « وهم الذين يشملهم مع النصارى لفظ » أهل الكتاب « باتفاق أهل العلم ، فما هي القاعدة يا أصحاب البيان « التي استندتم إليها لإخراج اليهود من تولي المناصب ؟ ! وما النصوص الشرعية من » الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « التي تستندون إليها في التفرقة بين اليهود والنصارى ؟ ! الذي يبدو لي أن الكاتب أهمل ذكر اليهود رغم عدم وجود أدلة يستند إليها في ذلك لأنه مازال يعيش في أجواء الحرب التي كانت بين المسلمين واليهود ، وربما كان يخشى من ردة الفعل الشعبي عند ذكر اليهود ، لكن أقول لك يا أخي : لا تخشَ شيئاً ، فالآن قد انتهت الحرب وحل السلام ، ولم يعد بين المسلمين واليهود حروب ، وبالتالي فلا تخشَ من ضياع التأييد الشعبي وكن منطقياً مع نفسك ، وأعلنها قل حتى يستقيم لك منطقك : » وبمقتضى هذه المواطنة ، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى (الجماعة) أن للنصارى واليهود الحق أن يتولوا .... « إلى آخر ما جاء في الفقرة ، بل وأضف البقية الباقية من غير المسلمين وأنا أقول لأصحاب البيان : طالما أنكم أقررتم أن المواطنة أو الجنسية حلت محل مفهوم أهل الذمة ، فلماذا لا تقرون للمواطن اليهودي الذي يتمتع بجنسية إحدى الدول العربية والإسلامية بالحق في تولى المناصب الوزارية والاستشارية ؟ !
إنه لشيء ممتع حقاً من وجهة نظر بيان الجماعة أن نرى دولة مسلمة :
رئيسها مسلم ، ورئيس وزرائها يهودي ، والوزراء خليط من المسلمين واليهود والنصارى ، ولا بأس أن يكون رئيس مجلس الشورى نصرانياً ، حتى تكون هناك عدالة ومساواة في توزيع المناصب العليا لا سيما وأن لهم المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات كما ذكر البيان فتكون رئاسة الدولة للمسلمين، ورئاسة الوزراء لليهود ورئاسة مجلس الشورى للنصارى ! !
وعلى كلٍ فنحن نطالبكم بالكتاب والسنة أو الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات أو اختلفوا فيه ، والذي يبيح للنصارى جميع المناصب باستثناء رئاسة الدولة .
أما نحن فنبرأ إلى الله تعالى من ذلك ، ولا نقول بظُلم أهل الذمة ولا بالاعتداء عليهم ، ولكن لا ننزلهم إلا حيث أنزلتهم الشريعة ، ولا نعطي لهم شيئاً حرمهم الله ورسوله منه .
ومساعدة منا لكم على الالتزام بالحق ، نذكر لكم من النصوص الشرعية والفهم الصحيح لأهل العلم ما يبين بطلان ما ذكرتموه في الفقرة السابقة ، وإن كان المرء ليس في حاجة إلى ذكر تلك الأدلة ، لأن ما ذكرتموه في الفقرة السابقة هو من الكلام الذي يقال عنه : مجرد حكايته كاف في بيان بطلانه ، بل إن الرجل المسلم العامي صاحب الفطرة السليمة التي لم تدنس بمثل ما جاء في البيان إذا سمع ذلك الكلام الذي ذكرتموه ، فلابد أن يمجه ويرفضه ويستغربه ، وإذا لم تصدقوني فانزلوا إلى الشارع المسلم ، وسلوا الناس وسوف تعرفون النتيجة .
يقول الله تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم .. } [المائدة : 51]
يقول ابن كثير رحمه الله : » ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ، الذين هم أعداء الإسلام وأهله قاتلهم الله ... ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } « أليس من الموالاة لأهل الكتاب اليهود والنصارى ، جعلهم وزراء أو أعضاء في مجلس الشورى (مستشارين) ، إذا كنتم لا توافقون على ذلك فلننظر إلى ذلك الأثر الوارد عن عمر بن الخطاب الخليفة الراشد الذي جعل الله الحق على قلبه ولسانه في فقه تلك الآية : » عن عياض الأشعري أن عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد ، وكان له (أي لأبي موسى) كاتب نصراني ، فرفع إليه ذلك ، فعجب عمر ، وقال : إن هذا لحفيظ ، هل أنت قارئ لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام ؟
فقال : إنه لا يستطيع ، فقال عمر أجنب هو ؟ قال : لا ، بل نصراني ، قال :
فانتهرني وضرب فخذي ، ثم قال : أخرجوه ثم قرأ { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ... } ، قال أبو موسى : والله ما توليته وإنما كان يكتب ، فقال عمر رضي الله عنه : أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب ؟ ! ، لا تدنهم إذ أقصاهم الله ، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله ، ولا تعزهم بعد أن أذلهم الله « [2] فانظروا كيف رفض الخليفة الملهم اتخاذ كاتب نصراني يطلع على أمور المسلمين واحتج على ذلك بالآية المذكورة ، وأنتم لا تجعلونه كاتباً فقط ، بل تجعلونه رئيساً للوزراء ووزيراً ومستشاراً ومديراً وهلم جرا .(4/193)
يقول بيان الجماعة في فقرته الأخيرة » ويمثل النصارى مع المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه وتماسكت عناصره « ، وإني لأتعجب : هل هذا كلام شرعي يعبر عن رؤية جماعة إسلامية أم أنه موضوع إنشاء من النوع الذي يقال في المجاملات ، وهل من الممكن أن تكون هناك مجاملات على حساب الدين ؟ ، الشيء الغريب والعجيب في آن :
أن النصارى أنفسهم لا يقبلون هذا الكلام ولا يرتضونه ؛ لأن هذا الكلام يعنى أن ذاتية النصارى وذاتية المسلمين قد ذابتا وتداخلتا معاً ، وكونتا نسيجاً واحداً مما يعني ضياع الشخصية المستقلة أو التنازل عنها ، وإذا كنت لا تصدقني فسل وأظنك تعلم قبل كثيرين غيرك ماذا يفعل كبير النصارى في بلدك ضد الإسلام والمسلمين ، وعلى كلٍ أنا لا أمنعك الحق في أن تعبر عن أحاسيسك وأشواقك أنت وجماعتك تجاه النصارى ، وابذل لهم كل ما تستطيع من تنازل أو لين في القول ، لكن عليك ألا تتعدى بهذه الأحاسيس والأشواق إطار جماعتك إلى المسلمين كلهم ، فما أظن أن أحداً خولك الحديث باسم المسلمين في بلدك .
ثم أقول : وهب أن الذي ذكرته أنت صحيح وهو غير صحيح لكن نفترض ذلك أنه كان هو الواقع فعلاً ، فهل وجود الاختلاط وعدم التمايز بين المسلمين والنصارى يذكر على سبيل المدح أم يذكر على سبيل الذم وعلى سبيل تنبيه المسلمين على التمايز عن الكفار والابتعاد عن مشابهتهم أو التشبه بهم ؟ ! ألم تسمعوا عن » الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة ، والتي فيها منع تشبه أهل الذمة بالمسلمين والتي تحول دون حدوث ذلك النسيج المزعوم .
ألم تسمعوا عن كتاب صنفه العالم الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية « وهو يحذر فيه أشد التحذير من ذلك النسيج الواحد الذي تدعونه ، إنه كتاب » اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم « فارجعوا إليه فلعله يردكم عن إدعاء ذلك النسيج.
على كل حال إن لم تكونوا قد سمعتم بهذا ولا بذاك ، فلا علينا أن نسمعكم بعض أحاديث الرسول المصطفى التي تحرص على تمييز المسلمين عن غيرهم من الكافرين سواء أكانوا من أهل الكتاب ، أومن غيرهم ، و تحول بين المسلم وحدوث ذلك النسيج (الحضاري والاجتماعي والثقافي) الموحد .
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : منكراً على المسلمين ما يقع منهم من مشابهة ومتابعة وموافقة لليهود والنصارى ، ومنفراً لهم من ذلك وحاضاً على تركه، يقول : » لتتبعُن سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جُحْر ضب تبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ « [3]، قال ابن حجر رحمه الله : » قوله : قال فمن : هو استفهام إنكار ، والتقدير : فمن هم غير أولئك « [4]
ويقول -صلى الله عليه وسلم- » من تشبه بقوم فهو منهم « [5] قال ابن تيمية : » إسناده جيد وأقل أحواله : أنه يقتضي تحريم التشبه بهم « وقال صلى الله عليه وسلم : » إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم « [6] ولا يُكَمّل رد السلام ، بخلاف المسلم الذي يقال له : وعليكم السلام ورحمة الله ، أليس في هذه الأحاديث منعٌ للنسيج الثقافي والحضاري والاجتماعي الواحد ، ألا يشعر المسلم من مثل هذه التوجيهات حرص الإسلام على إقامة حاجز نفسي بين المسلم وغيره، يمنعه من الانجذاب نحوه ، وإذابة الفوارق بينه وبين غيره .
وفي النهاية أقول لأصحاب البيان : ما الغرض ، ومن المستفيد ، ومن يرتضي ذلك البيان ؟
فإن كان الغرض أن يرضى عنكم » الأسياد « المحليون أو غيرهم ، فأنا أقول لكم تصديقاً لقول ربي مادمتم ترفعون شعار الإسلام ، ولو تنازلتم عن أمور كثيرة ، فلن يرضوا عنكم ، كما قال تعالى : { ولن ترضي عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [البقرة : 120 ] أما إن كان الغرض هو الدفاع عن الإسلام ، فإن ذلك لا يمكن أن يتم عبر العبث بأحكامه أو التنازل عنها .
وأما المستفيد ، فلا يستفيد من هذا البيان إلا أعداء الله ورسوله والمؤمنين لأن أي محاولة لتغيير أو تحوير في ثوابت الإسلام ومفاهيمه لن تصب إلا في مصلحتهم، ولن تؤدي إلا إلى تزييف وعي الشعوب المسلمة ، وبالتالي رواج الأباطيل بينها ، وسهولة انقيادها للطواغيت .
وأما الرضا ، فإن هذا البيان لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين ؛ لأنه لايمكن الرضا بما فيه خروج على أحكام الشريعة .
وأخيراً فلي رجاء : هل أطمع في بيان آخر يتم فيه الرجوع إلى الحق والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، ولأن يكون المرء ذيلاً في الحق خير له من أن يكون رأساً في الباطل ، آمل ذلك ، لا سيما أنكم إناس مسلمون تحبون الله ورسوله وتودون خدمة دينكم ، وإن شاء الله لن يخيب ظني فيكم ولعل هذا البيان كان فرصة لنا لنقدم هذه الأمور التي ربما تكون قد غابت عن بعضهم ، لا سيما وأن بعض المناوئين لأحكام الشريعة ، يبثون مثل هذه الأقوال في مقالاتهم وأحاديثهم .
والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم .
________________________
(1) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير ح/1731 .(4/194)
(2) تفسير ابن كثير 2/108 ، فتح الباري 13/196 .
(3) البخاري كتاب الاعتصام بالسنة باب/14 ، ح/7320 .
(4) فتح الباري 13/201 .
(5) أبو داود 4/314 ، مسند أحمد 3/142 وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني .
(6) البخاري كتاب الاستئذان باب 22 ، ح/6258 .
=============
المسلمون في أوربا ومسئوليتنا عنهم (1)
هذه خلاصة لتصور عام خرجت به عن الإسلام و المسلمين من الرحلات الأوربية التي استمرت إحداها أكثر من ثلاثة شهور .
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن هذا الدين هو الدين الحق الذي لم يبق في الأرض دين حق سواه، كما قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} آل عمران 55 وهو خاتم الأديان والمهيمن عليها، يجب على أهل الأرض كلهم اتباعه ولا يجوز العدول عنه، كما قال تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} الأحزاب 140
وقال تعالى:{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}الأعراف 185
وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}الفرقان 1
لذلك أوجب الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أمته من بعده، أن يبلغوا هذا الدين إلى العالمين، كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} المائدة 67
وقال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} يوسف 108
وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم، بتبليغ هذا الدين، حتى توفاه الله وقد أكمل به دينه وأقام على الناس به حجته.
ونهض بعده صلى الله عليه وسلم بتبليغ هذا الدين، أصحابه الكرام، وعلى رأسهم خلفاؤه الراشدون، رضي الله عنهم أجمعين.
فحملوا ذلك الدين علما وعملا ودعوة وجهادا في سبيل الله، وتبعهم على ذلك التابعون لهم بإحسان، فارتفعت بذلك راية الإسلام على المعمورة، وسعدت بذلك البشرية مدة طويلة في كل مكان وصل إليه الإسلام، في كل مجالات الحياة.
وعندما بدأ الإيمان يضعف في نفوس هذه الأمة، وأخذت تفرط فيه شيئا فشيئا: في العمل والدعوة والجهاد، حتى انتهت إلى البعد عن تطبيقه-إلا من رحم الله-سلط الله عليهم عدوهم، من التتر والنصارى واليهود، فإذلها الله لإذل خلقه كما هو مشاهد اليوم.
وهاهي الأرض اليوم تمور بالكفر والفسوق والعصيان، بسبب عدم قيام المسلمين بما أوجب الله عليهم من إخراج الناس من الظلمات إلى النور، بما في ذلك الشعوب الإسلامية.
ولا خلاص للمسلمين وغيرهم من المصائب والفتن المنتشرة في الأرض، إلا بعودة ارتفاع راية الإسلام، وارتفاعها متوقف على قيام المسلمين بدينهم علما وعملا ودعوة وجهادا في سبيل الله.
والواجب على كل قادر على الإسهام في الدعوة، والتربية والتعليم والجهاد، أن يقوم بما يقدر عليه في بلاد المسلمين، من تطبيق الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة، لأن إقامة دين الله في الشعوب الإسلامية، هو المنطلق لنشر هذا الدين في غيرها من بلدان الأرض.
وهذا الأمر يتوقف على تعاون العلماء والحكام على البر والتقوى في الشعوب الإسلامية، تنفيذا لأمر الله وتطبيقا لشرعه.
والواجب في الدعوة أن يبدأ كل داعية إلى الله، بدعوة أهل بلده وإرشادهم وتفقيههم في الدين، ولكن ذلك لا يمنع من قيامه بالدعوة في بلدان أخرى، إذا رجحت عنده المصلحة، وبخاصة إذا وجد في بلده من يقوم بالدعوة فيه.
ولقد هيأ الله بعض المؤسسات الإسلامية التي تدعمها بعض الدول، كالمملكة العربية السعودية والكويت ومصر، للقيام بما تيسر لها من الدعوة إلى الله، ومن هذه المؤسسات (الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة) التي تلقيت فيها تعليمي، وشاركت في أعمالها: تعليما وإدارة ودعوة ونشاطا طلابيا، ومن ذلك هذه الرحلات التي قمت بها في مشارق الأرض ومغاربها، مع بعض أساتذتي وزملائي، أو بمفردي.
وقد استفدت من هذه الرحلات كثيرا، وبخاصة هذه الجولة الأخيرة التي قمت بها في آخر السنة الماضية ـ1407هـ ـ، وقد استغرقت قريبا من ثلاثة شهور، زرت خلالها الدول الأوربية الآتية:
سويسرا، ألمانيا، النمسا، بلجيكا، هولندا، الدانمرك، السويد، فنلندا، النرويج، بريطانيا، وفرنسا.
وهي أغلب دول أوروبا الغربية، إلا أني لم أزر في بعض هذه البلدان إلا عواصمها، وبعضها زرت مدنها الكبرى.
(كل ذلك مفصل في مجلدين من سلسلة: [في المشارق والمغارب ] وهو الكتاب السادس من هذه السلسلة )
التقيت فيها المسلمين: دعاة ومدعوين، من المغتربين، ومن أهل البلد، كما التقيت عددا من غير المسلمين: مستشرقين وقسس، وغيرهم من ذوي التخصصات المتنوعة، وجرت لي معهم مناقشات ومحاورات، ومحاولات لتصحيح مفاهيمهم غير الصحيحة عن الإسلام، مقصودة كانت-تلك المفاهيم-أو غير مقصودة.(4/195)
وقد كتبت كل تلك المناقشات في وقتها، بنصها في الغالب، كما هي عادتي في تسجيل رحلاتي، حيث لا أدع دفتري وقلمي في كل تحركاتي، وقد بلغ ما كتبته في هذه الرحلة أكثر من ألف صفحة بخط الآلة الكاتبة، لخصت منها هذه الصفحات ، ليتمكن من يريد الاطلاع السريع على شيء من معالم تلك الرحلة .
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
موقف الأوربيين من الدين.
الديانة النصرانية قد حرفت، واختلط ما بقي منها بالأديان الوثنية القديمة: البوذية واليونانية والرومانية وغيرها. وما بقي منها سليما من التحريف، كتمه علماء أهل الكتاب، سواء أكانوا من اليهود أم من النصارى، كما قص الله تعالى عنهم ذلك في كتابه!
ومرت فترة كانت الكنيسة تسيطر فيها على حياة الناس، بطغيانها، حيث تجبرهم على التسليم الكامل بما يصدر عنها، مما يخالف العقل والواقع، ويُمَكِّن للظلم والظالمين، وكل من خرج عما يصدر عنها اعتبرته زنديقا يستحق القتل والنفي والتعذيب، لأنها تنسب كل أفكارها إلى الله وتتحدث باسمه!
فقد نقل المسلمون ما ترجموه من علوم اليونان التي كانت نظريات ذهنية مجردة، لا وجود لغالبها في التجارب الواقعية المثمرة،فحولوا أي-المسلمون-تلك العلوم إلى تجارب تطبيقية، مع إضافتهم ابتكارات أخرى لم يُسْبَقوا إليها، وعندما اختلط الأوربيون بالمسلمين في الأندلس تلقوا-الأوربيون-منهم-المسلمين-تلك العلوم التي كانت نواة القفزة الغربية المادية المعاصرة التي وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، كما استفاد الأوربيون من المسلمين بعض الأنظمة والقوانين.
والشيء المهم الذي رفضوه ولم يرفعوا به رأسا، هو العقيدة الإسلامية التي حاربوها، كما حاربوا الكنيسة النصرانية التي وقفت لهم بالمرصاد، لتحول بينهم وبين العلوم الكونية التي كانت تعتبرها زندقة وخروجا على دين الله في زعمها، وحجرت على عقولهم من التفكير المؤدي إلى نفيي ما أثبتته أو إثبات ما نفته، ولو كان ما وصلت إليه العقول واضحا وضوح الشمس في كبد السماء، لذلك اضطهدت علماءهم الذين استقوا من المسلمين المنهج التجريبي، وقتلتهم وسجنتهم ونفتهم، فوقفوا من كل الأديان موقف المعارضة والرفض، ورأوا أنهم بمروقهم من الدين وعدم التزامهم به، قد تحرروا من القيود والأغلال التي أجبرتهم على الخضوع للظلم والطغيان والجهل، وللتسليم بما يخالف العقول والفطر، واعتقدوا أن العلم والدين لا يجتمعان ولو أنهم فكروا بعقولهم قليلا من التفكير، لعلموا أن الدين الإسلامي الذي أخذوا تلك العلوم من أهله، لا يمكن أن يقارن بالدين الكنسي، لأنه لو كان مثل الدين الكنسي لما سمح لأهله بإتقان تلك العلوم مع التدين، ولكن القوم عميت بصائرهم، فحرموا أنفسهم وحرموا الأجيال بعدهم من نعمة الله العظمى، وهي دين الإسلام الذي كان سينقذهم وينقذ البشرية من الويلات التي نزلت بها من فصل العلم المادي عن هدى الله!.
أقسام الأوربيين من حيث مواقفهم من الدين:
وقد انقسم الأوربيون بالنسبة لموقفهم من الدين أربعة أقسام:
القسم الأول: رفض التدين مطلقا، واعتنق الإلحاد، فلا يؤمن بالغيب، ومن ذلك الإله.
القسم الثاني: لم يهتم بأمر الدين، ولا يرى فائدة في التفكير فيما وراء المادة، لأنه لا يقدم الإنسان، بل يؤخره، ويمكنه أن يأخذ بعض السلوكيات التي تناسبه من أي مجتمع إنساني، بصرف النظر عن تدينه أو عدم تدينه.
القسم الثالث: بقي مظهرا التمسك بالدين النصراني المحرف الذي يدعو إليه في خارج المجتمع النصراني أكثر منه فيه.
وغالب هؤلاء جهلة مرتزقة، وقد يوجد من بينهم عدد قليل صادقون في التزامهم ببعض الطقوس والعبادات، وإن كانوا يشعرون في قرارة نفوسهم أن عقولهم وفطرهم لا تستسيغ العقيدة النصرانية وتعقيداتها.
القسم الرابع: فئة تشعر بفراغ قلبي، لم تملأه العقيدة النصرانية، ولم تجد بدا من أن تبحث عن الحقيقة، لتصل إلى اقتناع بالتدين أو عدمه، فترى الشخص من هذه الفئة يبحث في جميع الأديان التي يعثر عليها، ويقارن بينها، وقد يصل في النهاية إلى الاقتناع بدين الإسلام، إذا وفق لمعرفته عن طريق الكتب أو عن طريق بعض المسلمين.
تقديس الأوروبيين للعقل وآثاره.
ويغلب على الأوربيين-بما ورثوه من الفكر اليوناني-تقديس العقل وجعله الحكم في كل شيء، فما أقره العقل عندهم أثبتوه، وما لم يقره فالأصل فيه الشك، ولكن العقل الأوربي، قد ربي على عدم الإيمان بالغيب أو البحث فيه.
كما يغلب عليهم-بما ورثوه من الفكر الروماني-الاهتمام بالملذات المحسوسة والمتاع العاجل.
وينصب اهتمام الفرد الأوربي على مصالحه الخاصة، ولا يفكر غالبا فيمن سواه، إلا فيما يعود عليه هو بالفائدة، أو ما يلزمه به القانون، ولهذا سيطرت عليهم الأنانية الفردية التي أصبحت لها آثار مدمرة في حياتهم، أفرادا وأسرا ومجتمعات، يشكو منها الفرد والأسرة والمجتمع في كل المجالات: السلوكية والسياسية والاجتماعية والعسكرية وغيرها.
ومن هنا تفككت الأسرة والمجتمع في الغرب تفككا رهيبا، كما أَثْبَتُّ ذلك في محاوراتي لمن قابلتهم من أهل الغرب أنفسهم مسلمين وغير مسلمين، على مستويات مختلفة، رجالا ونساء.(4/196)
فهم الأوربيين للإسلام.
غالب الذين اجتمعت بهم من المسلمين الأوربيين وغير المسلمين منهم، وسألتهم: متى سمعوا عن الإسلام، وما الذي سمعوه عنه؟ كانوا يجيبون بأنهم سمعوا عنه عندما كانوا في المدرسة الثانوية، في مادة تاريخ الأديان، وعامتهم لم يسمعوا عن الإسلام إلا ذَمَّهُ والقدحَ فيه وتشويهه في الأذهان، وبعضهم يذكر أنه لم يسمع عن الإسلام شيئا إلا في الفترة الأخيرة، إما بمناسبة حرب البترول، وإما بمناسبة الحرب العراقية الإيرانية، وإما بغير ذلك مما يحمل تشويه الإسلام والتنفير منه.
وهناك فئتان يغلب على أفرادهما فهم الإسلام فهما جيدا يقيم عليهم الحجة، وهما فئة المستشرقين، وبعض فئات المنصرين من القسس المهتمين بمقارنة الأديان والدعوة إلى تقارب أهلها، وبخاصة النصارى والمسلمين، وقد يكون لدى بعض أفراد الفئتين رغبة في أن يكونوا-كما يقولون-موضوعيين محايدين في المقارنة، ولكنهم لا يفهمون الإسلام فهما جيدا، وبخاصة الذين لا يرجعون إلا كتب المستشرقين الذين سبقوهم، لعدم إجادتهم اللغة العربية.
ويُعتَبر المستشرقون مرجع المستفتين الأوربيين، من الساسة والقانونيين والمحامين والمدعين العامين، فيما يتعلق بشؤون المسلمين القانونية والدينية والاجتماعية، كالحجاب والزواج والدفن...
ويوجد أفراد منهم تدل تصرفاتهم ومواقفهم من المسلمين ومن المعاني الإسلامية، أنهم مقتنعون بأن الإسلام حق، وقد يكون بعضهم مؤمنا يكتم إيمانه خوفا على مركزه الاجتماعي، ومن ضغط المجتمع النافر من الإسلام، أو تأولا بأنه بكتمان إيمانه ينفع المسلمين بالدفاع عنهم..
غرور الأوروبيين يصدهم عن الإسلام.
وقد امتلأ الأوربيون بالغرور والكبرياء، حتى صاروا يعتقدون أنهم سادة أهل الأرض، للون بشرتهم، ولما يملكون من الحضارة المادية والنظم الإدارية الْمُيَسَّرَة، ومظاهر الديمقراطية السياسية، ولذا لا يرى الأوربي أن في حاجة إلى التماس أي مبدأ من خارج مجتمعه يوجه سلوكه، وبخاصة الإسلام الذي لا يسمع عنه إلا ما ينفره منه، ويلقي في روعه أنه دين قوم همج رجعيين قتلة جهلة، ويزيده يقينا من ذلك أحوال المسلمين المعاصرة التي يراها تحمل الفوضى الشاملة، وعدم استقرار مناطق المسلمين التي لا تسكت فيها المدافع والبنادق والقنابل، إن الأوربي يرى أنه هو السيد المطلق وكل من عداه عبيد، وهل يليق بالسيد أن يقلد العبيد في ديانتهم أو أعرافهم؟!
رواد كَذَبُوا أهلهم.
وبرغم ذلك الغرور وتلك الكبرياء، فإن أحوال الغربيين ومنهج حياتهم ينذران بالخطر الماحق والدمار الشامل، في شؤونهم الأسرية الاجتماعية والسلوكية والاقتصادية، ولذا أخذ بعض المفكرين منهم ينظرون إلى حالتهم المتدنية نظرة إشفاق وخوف وحذر، ويحاولون تنبيه أبناء جنسهم على تلك المخاطر، والإشارة إلى مكامن الداء ونافع الدواء من وجهة نظرهم، ويعقدون لذلك الاجتماعات والندوات، ويكونون الجمعيات، ويكتبون الكتب والنشرات، ويقترحون المواد الدستورية والقانونية، ويطالبون بإقرارها في البرلمانات، ويوصون بإدخال موادها في مناهج التعليم وفي الكتب المدرسية، ونشر ذلك في أجهزة الإعلام، لتخليص المجتمع من تلك الشرور.
ومن أمثلة ذلك: الجمعية السويسرية التي أنشئت سنة 1986م برئاسة العضو البرلماني (جْلُوتِنْ سِنْجَرْ)الذي ألف كتابا بعنوان: (السياسة الإنسانية)، يدعو فيه إلى القيم الروحية والمعاني الإنسانية والحفاظ على الفضيلة والحشمة والأخلاق، وعدم استغلال المرأة الجسدي من أجل الكسب المادي، وغير ذلك، وهو يحاول أن يحصل على العدد الكافي من الأعضاء الذين يوافقونه على مشروعه ليقدم اقتراحاته إلى الحكومة السويسرية للموافقة عليه؟
وقد اجتمعت به مع بعض أعضاء جمعيته في فندق (إنتركوننيتل) في مدينة (جنيف) مع مدير المؤسسة الثقافية الإسلامية (سراج كمال الدين) وسمعت من الرجل أفكارا طيبة، ولكنه يعتبر تلك الأفكار إنسانية لا صلة لها بالدين.
وقد أخبرته أن تلك المعاني التي يدعو إليها، قد دعا إليها الإسلام، يوم نزول القرآن الكريم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفصلها تفصيلا دقيقا في القرآن والسنة، وأن أساس تطبيقها الإيمان الراسخ بالله واليوم الآخر، والتسليم المطلق لحكم الله والتطبيق العملي الذي يعتبره المسلم عبادة يؤديها لينال رضا الله، وأن الواجب عليه وعلى أمثاله، ممن يشفقون على قومهم ويلتمسون لهم السعادة والوقاية من الشقاء والضنك في هذه الحياة، أن يتجهوا إلى دراسة الإسلام، ليعلموا أن في منهجه ما يمكن أن يجعل الأوربيين سادة العالم لو أنهم انتهجوه، كما حصل ذلك لبني عثمان، فكان جوابه: إن الناس لو دعوا إلى هذه المعاني باسم الإسلام لنفروا منها، لعدم اطمئنانهم إلى الدين من حيث هو.
وهنا قلت في نفسي إن الأوربيين روادا يريدون لهم الخير، ولكنهم كذبوا أهلهم
أقسام المسلمين في أوروبا.
ينقسم المسلمون في أوروبا قسمين:
القسم الأول: المغتربون.(4/197)
وهم الذين نزحوا إليها من بلدان إسلامية، أو بلدان أخرى غير إسلامية، وهم من أصل إسلامي، كالوافدين من الدول الشيوعية، مثل المجر-هنغاريا-ويوغسلافيا وألبانيا...
وغالب هؤلاء إنما نزحوا من بلدانهم لضرورات أو حاجات، وهم أصناف ثلاثة:
الصنف الأول: الذين وفدوا إلى الغرب لالتماس الرزق وتوفير لقمة العيش، وأغلبهم من الجهال غير المثقفين الذين لا يحملون مؤهلات تمكنهم من تولي وظائف مرموقة، وإنما عندهم مقدرة على الأعمال الجسمانية، وقد سهلت لهم الدول الغربية طرق الهجرة في أول الأمر، لتتخذهم عمالا تقوم على أكتافهم-وليس على عقولهم-الحضارة المادية، من حمل الأثقال وأعمال التنظيف والحراسة والعمل في المطاعم والمصانع، وما أشبه ذلك.
ولم تكن الدول الأوربية تخاف من تأثير هؤلاء في مجتمعاتها بالإسلام لأسباب أربعة:
السبب الأول: أن غالبهم لم يكن يهتم بدينه ولم يلتزم به هو في نفسه.
السبب الثاني: عدم وجود الثقافة عندهم، إذ غالبهم أميون، والأمي لا يخشى أن يؤثر في المثقف، بل تَأَثُّر الأول بالثاني أقرب.
السبب الثالث: أنهم يعملون في مهن حقيرة، لا تجعل الأوربيين ينظرون إليهم نظرة احترام وتقدير، وإنما ينظرون إليهم نظرة احتقار وازدراء، كما أنهم-أيضا-ينظرون إلى الأوربيين نظرة إجلال وإكبار، ويرون أنفسهم الأدنى والأوربيين الأعلى ، وهذه النظرة توجد لدى كثير من مثقفي من يسمون بالعالم الثالث، ومنهم المسلمون، فكيف بغير المثقف منهم الذي يخدم الأوربي في بلده؟!
ولهذا لم يكن الأوربيون يخشون من تأثير هذا الصنف من المسلمين في مجتمعاتهم، وإن تمسكوا بدينهم.
السبب الرابع: أنهم أفراد قليلون في مجتمع كبير، له عقائده وأفكاره وسلوكه، وهو قادر على التأثير فيهم بضغطه الاجتماعي الذي يحيط بهم في أماكن العمل، وفي الشارع، وفي المسكن، وفي المنتزه، وفي النادي، وفي دور السينما والمسرح، وفي المطعم، إضافة إلى وسائل الإعلام ذات التأثير القوي، وأهم من ذلك كله: المرأة الغربية المصاحبة، زوجة كانت أو صديقة.
وقد ذاب كثير من هذا الصنف في المجتمع الغربي، وبخاصة في الفترة التي سبقت وجود المراكز الإسلامية والاتحادات الطلابية الإسلامية.
الصنف الثاني: هم الشباب الذين وفدوا إلى بلدان الغرب لطلب العلم، سواء منه ما يتعلق بالعلوم الإنسانية، كعلم النفس وعلم الاجتماع والتربية والاقتصاد والعلوم العسكرية، أو ما يتعلق بالعلوم الكونية والطبية والصناعية... ونحوها.
وغالب هذا الصنف لم يكن في أول الأمر ملتزما بدينه في بلاده، والذي كان يلتزم بشيء من الإسلام، لم يكن يأخذ ما يلتزم به عن طريق العلم الإلهي والتربية الربانية، وإنما تلقاه بالوراثة من أبويه وأقاربه.
ولهذا فإن طلائع هذا الصنف انبهروا بحضارة الغرب المادية ونظمها الإدارية وأساليبها السياسية، وقادهم ذلك الانبهار إلى الاغترار بالمجتمعات الغربية، فانجرفوا إلى عقائدهم الملحدة أو العلمانية، وإلى أخلاقهم وعاداتهم الفاسدة، فوقعوا في المستنقعات التي حرمها الله عليهم في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واعتقدوا أن الغرب هو صاحب السيادة الذي ينبغي اقتفاء أثره وتقليده في كل شيء، سواء وافق ذلك الإسلام أو خالفه.
ومن هنا انفجرت حمأة أساطين الفصل بين الدين وحياة المسلمين في الشعوب الإسلامية، وهم من يسمون بالعلمانيين الذين لا تخلو منهم بلاد من بلدان المسلمين، بل هم المسيطرون على غالب تلك البلدان، وإن كُبِتُوا وأسكت صوتهم في بعض البلدان الإسلامية إلى حين، وكثير منهم ملا حدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
وقد مكن أعداء الإسلام لهذا الصنف المفسد لحياة الأمة، أن يتسلم أزمة الأمور في كثير من الشعوب الإسلامية-على غفلة وجهل من أهلها-لينفذوا مخططات الغرب في تلك الشعوب، تلك المخططات التي لم يكن المستعمرون قادرين على تنفيذها إلا بخسارة فادحة في الأموال والأنفس، وإن هذا الصنف لهو السبب في جل المحن التي تعانيها الشعوب الإسلامية في كل أقطار الأرض اليوم!
وبعض أفراد هذا الصنف من الطلاب لا زالوا موجودين في الغرب من الزمن الماضي والحاضر، وهم أدوات تساعد ساسة الغرب ومستشرقيه ومنصريه ورجال أمنه على تحقيق مصالح الغرب في بلدان المسلمين، والعمل على وضع كل الصعاب والعقبات المادية والمعنوية في طريق تطبيق الإسلام تطبيقا صحيحا في معاقله التي ألفته وألفها زمنا طويلا.(4/198)
من ذلك-مثلا-ما حصل من ضابط الشرطة الأفغاني الذي ابتعث من قبل حكومته سنة: 1955م، ليتدرب في أكاديمية البوليس في (فينا) عاصمة النمسا، وبعد أن أكمل دراسته بقي هناك، وأظهر للمسلمين الغيرة على الإسلام، حتى أصبح رئيسا للجمعية الدينية الإسلامية الرسمية في النمسا، وقد اعترفت الحكومة النمساوية بالإسلام دينا رسميا، لأهله كامل الحقوق التي تمنح للأديان الأخرى، ولكن هذا الرجل انحرف بالجمعية برغم أنوف أعضائها بمساعدة خفية من رجال الدولة، وهو يحاول أن يكون الموجهون للمسلمين، سواء أكان التوجيه عن طريق التدريس، أو عن طريق إمامة المساجد، أو غيرها، من الأشخاص الذين لا يرجى منهم خير للإسلام والمسلمين، بل قد يكون بعضهم وبالا عليهم، وبرغم أن النمسا بلد ديمقراطي، فإنه يرفض تطبيق الانتخابات الديمقراطية الحرة بين المسلمين، ويحتال بشتى الحيل لأن يبقى في منصب رئاسة الجمعية، مع كراهية غالب أعضائها له.
وهو يتعاون مع بعض الحكام العلمانيين في بعض الشعوب الإسلامية-لأن كثيرا من المسلمين في النمسا من رعاياها-لإبعاد التوعية الإسلامية الصحيحة عن المسلمين. وقد فصلت القول في التعريف بهذا الرجل وشكوى المسلمين منه في الأصل .
وللحق أنصار.
وهناك فرقة من الطلاب وفدوا إلى الغرب، وهم ملتزمون بالإسلام، مع الوعي الجيد والثقافة الإسلامية والتربية الإسلامية الواقية، وهؤلاء هم الذين نفع الله بهم في الغرب، فنشروا الدعوة الإسلامية بين زملائهم من الطلاب الذين كانوا بعيدين عن هدى الله، فأعادوهم إليه، كما نفع الله بهم كثيرا من أبناء الجاليات الإسلامية الموجودين في الغرب، ومن هؤلاء الطلاب الصالحين من بقي في بلاد الغرب، فأنشئوا مراكز إسلامية وكونوا اتحادات طلابية، لها أثرها الملموس في نشر الإسلام، ومنهم من عادوا إلى بلدانهم، وهم أشد تمسكا بدينهم، مع ما أحرزوا من العلوم والثقافات من البلدان الغربية، ويوجد بعض هؤلاء الأفراد الذين تقدمت بهم السن أو أنهكتهم الأمراض بقوا قابعين في منازلهم في الغرب، لا يستفيد منهم إلا من قصدهم لمعرفته بفضلهم، ومن هؤلاء: الدكتور سعيد رمضان، والدكتور زكي علي في سويسرا، والدكتور محمد حميد الله في باريس . وقد قابلتهم جميعا وأجريت معهم حوارا حول موضوع الإسلام والمسلمين في الغرب، وقد توفي الدكتور سعيد رمضان، رحمه الله، في 8/3/1416هـ ـ 4/8/1995م في جنيف، وهو من أوائل دعاة الإخوان المسلمون، وتزوج إحدى بنات الإمام البنا، رحمهم الله جميعا.
الصنف الثالث: اللاجئون، وهم فريقان:
الفريق الأول: لجأ أفراده إلى الغرب بسبب احتلال أعداء الإسلام بلادهم وتقتيلهم وتشريدهم، كالفلسطينيين، والإريتريين، والفليبينيين والأفغان، والأوغنديين، وغيرهم.
الفريق الثاني: لجأ من بلاده بسبب الاضطهاد الديني، أو الكبت السياسي، أو هما معا، وهذا الصنف موجود من كل أنحاء العالم.
واللاجئون بقسميهم، منهم الملتزم بالإسلام، بحسب تصوره له وتربيته عليه، فهو يعمل به ويدعو إليه، وينضم إلى من يلائمه من الجمعيات الإسلامية أو يتعاون معها، سواء أكانت من المنظمات الطلابية، أو من الجاليات الإسلامية غير الطلابية، ومنهم من لم يلتزم بالإسلام، وهو إما أن يكون منتسبا إلى بعض الأحزاب المعادية للإسلام، من المنتسبين إلى الإسلام أو غيرهم، وإما أن لا يكون منتميا إلى أي حزب من الأحزاب، وإنما همه الحصول على السكن ولقمة العيش والأمن.
وهناك صنفان آخران قد لا تطول إقامة كثير منهم في الغرب:
الصنف الأول: تجار المسلمين الذين تطول إقامة بعضهم، وتقصر إقامة بعضهم الآخر، وهَمُّ غالب هؤلاء الكسب والربح المادي، وكثير منهم يسيئون إلى الإسلام بتصرفاتهم الشاذة التي قد تفوق تصرفات الأوربيين السيئة.
الصنف الثاني: البعثات الدبلوماسية وملحقاتها، ومهمة هؤلاء القيام بما يكلفونه من العمل لحكوماتهم، وأغلبهم ليسوا قدوة حسنة في سلوكهم الشخصي الذي لا يخفونه في المجتمعات الغربية، هم وأسرهم، حيث يمارسون الاختلاط المحرم، ويشربون الخمور، ليس في منازلهم فحسب،بل في التجمعات العامة أمام الأوربيين في المناسبات المختلفة، وبعضهم لا يحضرون مع المسلمين المناسبات الإسلامية، كصلوات الجمع والأعياد.
وبعض هؤلاء يظهرون-بدون حياء-العداء لدعاة الإسلام ويؤذونهم-إن قدروا على إذيتهم-ويُغْرُون بعض المنتسبين للدعوة إلى الإسلام، ممن هم على شاكلتهم للتجسس على دعاة الإسلام الصادقين، ونقل تحركاتهم وما يدور في اجتماعاتهم من التخطيط للنشاط الدعوي الذي يؤجج نار الغيظ في قلوبهم، وقد يكون كثير مما يُنقل لهم كذب، وهم يزيدون على الكذب كذبا من أجل الإضرار بهؤلاء الدعاة الصادقين، والهدف من كل ذلك هو عرقلة نشاطهم والتحذير منهم!
ومع ذلك فإنه يوجد رجال صالحون من هؤلاء الدبلوماسيين، يساعدون الدعاة إلى الله، ويتمسكون بالإسلام، ويذكرهم المسلمون في حضرتهم وفي غيبتهم بالخير، ولكنهم قليل (كالشعرة البيضاء في الثور الأسود) وهذه هي سنة الله في الخلق أن يكون أهل الخير دائما أقل من غيرهم (كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة).(4/199)
هذا حصر تقريبي لأصناف المسلمين الوافدين إلى البلدان الغربية
القسم الثاني: المسلمون من أصل أوروبي.
وتحت هذا القسم نتكلم على ما يأتي:
نشاط المسلمين في دعوة غير المسلمين.
أغلب المراكز الإسلامية التي زرتها في أوروبا، لم تكن عندها خطط ولا مناهج لدعوة غير المسلمين وتبليغهم هذا الدين، وأغلب الدعاة الذين التقيتهم يعترفون بالتقصير في القيام بدعوة غير المسلمين، بل وجدت من يتعجب من سؤالي عن ذلك، حتى قال لي بعض أئمة المساجد: إنه لا ينبغي دعوة غير المسلمين ما دام المسلمون بعيدين عن الإسلام، ويحتاجون هم إلى دعوة الله.
وأكثر الذين دخلوا في الإسلام من الغربيين، كان سبب إسلامهم-بعد توفيق الله-هو بحثهم عن الحقيقة من عند أنفسهم ، وبعضهم وافق أن زار بعض بلدان المسلمين وأعجبته بعض المعاني الإسلامية، أو بعض التصرفات الطيبة في بلاد المسلمين، أو في أوروبا، والنادر منهم من أسلم بسبب دعوة مباشرة من المسلمين.
وهذا ما أخذته مباشرة من المسلمين أنفسهم الذين قابلتهم، وعندي معلومات عن عدد منهم فيما كتبته في هذه الرحلة من سلسلة: (في المشارق والمغارب) وقد سللت منه الحوارات مع المسلمين منهم وغير المسلمين وطبعتهما في جزأين، ولم يتيسر طبع هذه السلسلة التي بلغت 20 مجلدا إلى الآن.
هذا وقد التقيت أصنافا من هؤلاء المسلمين:رجالا ونساء، وذوي تخصصات متنوعة، وأخذت من كل منهم مباشرة، عن حياتهم وإسلامهم، وفيها قصص كثيرة وعبر مثيرة، ليس المقام هنا مقام التعرض لها، وقد فصلت في مكانها.
فهم المسلمين الأوروبيين للإسلام.
إن القلة القلية منهم هي التي تتصور الإسلام تصورا صحيحا إيمانا وتسليما وسلوكا، وهؤلاء هم الذين هيأ الله لهم بعد إسلامهم الاتصال ببعض المسلمين الذين عندهم هذه المعاني، فعلموهم وربوهم على ذلك مباشرة، أو يسر الله لهم الاطلاع على بعض الكتب الإسلامية باللغة العربية، وقد سبق لهم أن اجتهدوا في تعلم هذه اللغة، أو مترجمة ترجمة سليمة إلى لغة أخرى يجيدونها، وقد تبقى لديهم بعض المفاهيم غير الصحيحة، ولكن الأصول التي فهموها تمكنهم من تصحيح تلك المفاهيم، إذا تيسر لهم السبب الذي يصححها لهم، وهؤلاء تجدهم ينبذون كل المعتقدات المخالفة للإسلام، سواء كانت يهودية أو نصرانية، أو وثنية، كما يرفضون كل البدع والخرافات المنتشرة بين بعض الجماعات الإسلامية، والغالب أن يجمع هؤلاء بين قراءة كتب ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وحسن البنا والمودودي، فيفهمون الإسلام عقيدة وسلوكا وسياسة شرعية وغير ذلك، أي يفهمونه فهما شاملا، وعندهم استعداد للقبول بتصحيح أي خطأ يتضح لهم.
ومن هذا الصنف-فيما بدا لي-الأخ يوسف إسلام البريطاني الذي وقف نفسه وماله للدعوة إلى الإسلام.. ويمكن مراجعة حوارات مع مسلمين أوربيين ص: 177 عن هذا الداعية
وبعضهم قد يدرس الإسلام في بعض الجامعات الإسلامية، فيفهم الإسلام فهما جيدا ويعود إلى بلاده، فيأخذ في نشره بين المسلمين من أهل بلده ودعوة من لم يدخل في الإسلام، ومن هؤلاء الأخ محمد صديق الألماني الذي تخرج في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، فقد أنشأ مركزا إسلاميا للدعوة، سماه (دار الإسلام) في إحدى ضواحي (فرانكفورت) وله فيه نشاط واضحا
تأثر المسلمين الأوربيين بالطرق الصوفية وأسباب ذلك.
وأكثر المسلمين الأوربيين متأثرون بالطرق الصوفية، والسبب في ذلك يعود إلى الأمور الآتية:
الأمر الأول: قوة نشاط الطرق الصوفية في أوروبا، عن طريق أصحاب تلك الطرق مباشرة، أو عن طريق الكتب المترجمة إلى اللغات الأوربية.
الأمر الثاني: أن عند الأوربيين قلقا نفسيا وخواء روحيا وقسوة قلبية، بسبب الضغوط المادية التي تحيط بهم في كل مكان، ولم يجدوا ما يملأ فراغ قلوبهم ويلينها في الطقوس المسيحية، قبل إسلامهم ولا في الأديان الوثنية، وعندما يلتقون مشايخ الصوفية أو مر يديهم الذين غالبا ما يفدون من مصر والسودان والمغرب وتركيا، بعد أن تعمل لهم دعاية في المناطق التي سيزورونها، فيجتمعون حول الشيخ أو المريد، فيما يسمى بالحضرة، ويأخذ في تلقينهم بعض الإذكار والأوراد المعدة عنده، ويمكثون فترات طويلة وهم يرددونها، ويحضر مع المسلمين غير المسلمين، فيتأثرون بالذكر والمنظر، ويشاركون في ذلك دون أن يطلب منهم الدخول في الإسلام، ثم بعد عدد من الجلسات يزداد تأثرهم، ويدخل بعضهم في الإسلام، لأنهم يشعرون بالراحة والطمأنينة بكثرة الذكر والعبادة، ويتناقلون ذلك فيما بينهم، ويحسون بسهولته مع ترقيقه لقلوبهم، فيبقى كثير منهم على ذلك، ويتخلل تعليمهم بعض البدع والخرافات، وهم يظنون أن ذلك كله من الإسلام، ويتعلقون بالشيخ تعلقا شديدا، ويطرونه إطراء مبالغا فيه، في حياته وبعد موته، وينقلبون من ملحدين أو مثقفين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات، إلى مؤمنين بالخرافات وما ينسب إلى الشيخ من كرا مات، ويلقنون أسماء بعض علماء السنة كابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ويسمونهم لهم بالوهابية، ويحذرون من قراءة كتبهم وأفكارهم.(4/200)
وقد زرت بعضهم في منازلهم ودكاكينهم ووجدت عند بعضهم استعدادا للحوار والمناقشة والاقتناع.
الأمر الثالث: أنهم قد قرؤوا في كتب المستشرقين الثناء على الطرق الصوفية والإشادة بها، قبل أن يدخلوا في الإسلام، كما يجدون كثيرا من كتب غلاة الصوفية مترجمة إلى لغاتهم، مطبوعة منشورة، في المكتبات التجارية، لأن المستشرقين يرغبون أن يفهم الناس الإسلام فهما صوفيا سلبيا، يعمقون في نفوسهم المعنى الروحاني الخرافي فقط، وليس فهما سليما إيجابيا، كما هو الحال في الكنيسة: صلة بين الفرد وربه، لا علاقة له بتنظيم حياة البشر، لأنهم يخشون أن يفهم الداخلون في الإسلام من الأوربيين الإسلام فهما شاملا، فيقضي ذلك على أفكارهم التي درجوا عليها من زمن بعيد في تشويه حقائق الإسلام،ويكثر الداخلون في الإسلام، وذلك يغيظهم، أما إذا فهموه فهما صوفيا مشابها لما هو معروف في الكنيسة، فلا عليهم أن يدخلوا في الإسلام إن كان ولا بد من الدخول فيه، وهذا ما يرغب فيه رجال السياسة أيضا، لأن فهم الإسلام على حقيقته يصطدم مع الفكر العلماني في أوروبا والغرب كله.
الأمر الرابع: أن القائمين بالدعوة الإسلامية، لا يوجد عندهم متفرغون يحاولون كسب هؤلاء المسلمين ويعلمونهم مبادئ الإسلام من مصادره، كما أنه لا يوجد علماء كبار يملئون عيونهم كمشايخ الصوفية الذين ينالون من الإطراء والتفخيم والدعاية المبالغ فيها، ما لا يناله غيرهم.
الأمر الخامس: التقصير الذي يقع فيه كثير من الدعاة، وهو أن الرجل- وكذا المرأة-إذا دخل في الإسلام، أخذوا يشرحون له مبادئ الإسلام العامة، كالصلاة والصوم ونحو ذلك، وقد يدخلونه في أفكار سياسية واقتصادية، وبعض المسلمين يبدءون في تحذيره من الحزب الفلاني أو الجماعة العلانية، والمتعصبون للمذاهب يحثونه على التمسك بمذهب الإمام فلان دون مذهب الإمام علان، كل ذلك وهو لم يذق حلاوة الإيمان والعبادة بعد، ثم يتركونه ولا يتابعونه بتقوية إيمانه بالمحافظة على الفرائض، والقيام ببعض النوافل، وتعليمه بعض الإذكار الواردة الصحيحة، مطلقة كانت أو مقيدة، ولهذا يصطاد هم الصوفية ويوقعونهم في شباكهم، ويجعلونهم ينصبون العداء لمن يخالفهم.
بل إن بعضهم يتأثرون بالقاديانية، إما بحسن نية وظن أن ذلك من الإسلام كما يقولون لهم، وإما لمشايعتهم وإعانتهم-مع علمهم بضلالهم-من أجل نشر أفكارهم، لمحاربة الدعوة الإسلامية الحقة، وليس بخاف دعم الدول الأوربية للقاديانية وغيرها من مذاهب الكفر والضلال ماديا ومعنويا.
وبعضهم يتأثرون بالفكر الشيعي، بسبب اختلاطهم بالشيعة وأخذهم الإسلام عن طريقهم.
وبعضهم قد يكون من كبار المفكرين الأوربيين ويقرأ بنفسه عن الإسلام، وبخاصة كتب الصوفية التي تكثر فيها الشطحات والأخطاء التي يمكن تأويلها وتخريجها على معان سليمة إذا قرئت باللغة العربية، كما يفعل ابن القيم رحمه الله مع الإمام الهروي، رحمه الله، ولكنها إذا ترجمت إلى لغة أخرى تأكد ذلك الخطأ، وأصبح عند قارئه هو المعنى المتعين، وبخاصة إذا كان القارئ قد سبق له اعتقاد ذلك المعنى قبل إعلانه إسلامه، فيؤيد اعتقاده السابق بما فهم من الخطأ اللاحق الذي ظنه من الإسلام، كما وقع لرجاء جارودي في قضية الإيمان باليوم الآخر، حيث نفاه نفيا قاطعا كما كان ينفيه يوم كان ملحدا قبل أن يعلن إسلامه، حيث قرأ في كتاب إحياء علوم الدين-وهو مترجم-للإمام الغزالي رحمه الله قول رابعة العدوية: ما عبدت الله طمعا في جنته ولا خوفا من عذابه.. فهذه الجملة مع مخالفتها لنصوص الكتاب والسنة ولمنهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهمها علماء الإسلام على معنى المبالغة في الإخلاص لله تعالى، فهي لشدة إخلاصها-في زعمها-تعبد الله حبا لذاته، بصرف النظر عن الثواب والعقاب، ولكن جارودي أصر أن مرادها نفي الإيمان باليوم الآخر وما فيه من جزاء وحساب وجنة ونار، وغير ذلك وقد ناقشته في ذلك مناقشة طويلة في باريس، فأصر على نفي الإيمان باليوم الآخر، كما اتضح أنه قد ناقشه بعض كبار العلماء، منهم الشيخ محمد الغزالي، وشيخ الجامع الأزهر وغيرهم في ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر، ولكنه استمر على إنكاره ويرى أنه على حق، وأن علماء الإسلام على باطل، مع أن الموضوع الذي أنكره هو ركن من أركان الإيمان المعلومة من الدين بالضرورة، وقد حشدت أدلته في القرآن والسنة حشدا لا يدع مجالا للشك فيه، وأجمعت عليه الأمة.(4/201)
والسبب في ذلك أنه عندما دخل في الإسلام مع شهرته في العالم، أطر ته أجهزة الإعلام واستدعته بعض المؤسسات الإعلامية والإسلامية في أوروبا وفي بعض بلاد المسلمين، ليلقي محاضرات عن الإسلام، فشعر بأنه شيخ الإسلام عند المسلمين، وأنه لا حاجة له إلى أحد يعلمه الإسلام، ويصحح له مفاهيمه الخاطئة، وكان ينبغي أن يهتم به علماء الإسلام والمؤسسات الإسلامية، فيستضيفوه ليصحبهم في ديار الإسلام ويستفيد منهم العلم والعمل، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرشد من دخل في الإسلام من أعيان القبائل، أن يبقوا عنده فترة يتعلمون منه مبادئ الإسلام ثم يعودون إلى قومهم يعلمونهم ما تعلموه منه، صلى الله عليه وسلم، دون إطراء ولا مبالغة في الثناء عليه وإشعاره بأنه أصبح من علماء الإسلام ( راجع قصة الحوار مع جارودي: حوارات مع مسلمين أوربيين: ص 195وقد بسطت القول في الرد على هذه الشبهة في كتابي (الإيمان هو الأساس) وهو الجزء الأول من كتاب: سلسلة (أثر تطبيق الشريعة الإسلامية في صلاح الأمة)، عند الكلام على الإيمان باليوم الآخر، وقد أعد هذا الجزء للطبع (قد طبع والحمد لله).
وعلى النقيض من ذلك وجدت المسلم الصالح-ولا أزكي على الله أحدا-يوسف إسلام الذي كان من كبار الموسيقيين المشهورين في الغرب، فقد قيض الله له أن اطلع على ترجمة معاني القرآن الكريم-ولذلك سبب مسجل عندي عندما قابلته-فهداه الله للإسلام، فقام بإنشاء مدرسة لأبناء المسلمين، وأحاط نفسه بفئة من العلماء المسلمين الذين يستفيد منهم
والخلاصة أن المسلمين الأوربيين يكون إسلامهم بحسب ما يسر الله لهم من الوسائل التي دخلوا في الإسلام عن طريقها، فإن تيسر لهم من يفهمهم الإسلام على حقيقته تمسكوا بما فهموا، وإن اتفق لهم من يفهمهم إياه على عوج أخذوا به.
وضع المسلمين الأوروبيين وصلة الوافدين بهم.
أما وضع هؤلاء المسلمين في مجتمعاتهم الأوربية وصلة المسلمين الوافدين بهم، فإن الاطلاع على ذلك يؤسف ويحزن-في غالب الأحوال-فقد شكا غالب هؤلاء المسلمين شكوى مرة مما يعانونه بعد إسلامهم، فهم بإسلامهم قد أعلنوا مخالفتهم لمجتمع نشئوا فيه، وأسر تربوا فيها، فقدوا بذلك الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأصدقاء، وربما الزوجات والأبناء والبنات، فمن الصعب عليهم أن يحافظوا على الاختلاط بهم إلا إذا تنازلوا عن التمسك بكثير مما يوجبه عليهم دينهم الجديد على مجتمعهم، في المنزل والشارع والمنتزه والسوق وغير ذلك.
وفي ذات الوقت لا يجد المسلم الغربي مجتمعا إسلاميا ينضم إليه، لقلة المسلمين وتفرقهم في السكن والعمل، وإذا أراد أن يلتقي بعضهم فلا يستطيع-غالبا-إلا في إجازة الأسبوع في بعض المساجد أو المراكز الإسلامية، هذا إذا اجتهد هو وترك مشاغله الشخصية وضحى براحته ونزهته، فإذا جاء إلى المسجد أو المركز، وجد المسلمين يتحدثون فيما بينهم عن مشكلاتهم الخاصة، أو يلقون دروسا بلغاتهم عربية أو أردية أو تركية أو غيرها، ومشكلاته تختلف عن مشكلاتهم، واللغة التي يتحدثون بها غير لغته.
لذلك تجد صلة المسلم الأوربي بالمسلمين الوافدين قليلة جدا هذا في الغالب، وقد تكون صلة بعض أفرادهم ببعض الوافدين من المسلمين جيدة.، حتى لقد قال لي بعض المسلمين الجدد: إننا نشعر بدخولنا الإسلام أننا صرنا كالأطفال الصغار الذين فقدوا آباءهم، فلا أسرنا ومجتمعنا وأصدقاؤنا بقوا معنا، ولا المسلمون الوافدون اهتموا بنا.
وقال لي آخر: إني أشعر بأن الانتماء إلى بلدي يجذبني، والولاء للمسلمين يشدني، ولكني لا أجد المجتمع المسلم الذي يكون قادرا على جذبي، وإني أفكر كثيرا فيما إذا حصلت حرب بين أهل بلدي وبين المسلمين، ما ذا أفعل؟ إسلامي يحتم علي أن أكون في صف المسلمين، وأهل بلدي يرون أني مواطن، وحق الوطن عندهم مقدم على كل شيء
أما أثر المسلمين الأوربيين على المسلمين الوافدين، فإنه ينقسم قسمين، بحسب حال المسلم الأوربي:(4/202)
القسم الأول: أن بعض المسلمين الوافدين الذين كانوا متسيبين إلى الإسلام وهم غير ملتزمين به، عندما رأوا بعض المسلمين من الأوربيين يلتزمون الإسلام التزاما صادقا، أثر ذلك في نفوسهم فرجعوا إلى الله، فقد يتزوج المسلم غير الملتزم نصرانية لم تدخل في الإسلام بعد، وعندما تختلط به تبدأ تسأله عن دينه فلا يستطيع الإجابة عن أسئلتها لجهله، فيشعر بالخجل، فيذهب إلى بعض أئمة المساجد ليسألهم عما سألته زوجه وينقل لها الجواب، أو يذهب معها إلى بعض المراكز الإسلامية لتتلقى الجواب بنفسها، وقد تسمع بعض الأحاديث أو المحاضرات، فيهديها الله، فتدخل في الإسلام وتلتزم وتقوم بأداء الواجبات وتترك المحرمات، فيتأثر بها زوجها ويعود إلى الله، وقد يمتد ذلك الأثر منه إلى زملائه من الرجال، وقد تؤثر هي في بعض المسلمات الوافدات غير الملتزمات، وهكذا قد يدخل الرجل أو المرأة من الأوربيين في الإسلام ويلتزم أو تلتزم به، فيؤثرون بذلك في أصدقاءهم من المسلمين الوافدين غير الملتزمين. وقد يحصل عكس هذا تماما، فيتزوج المسلم الضعيف الإيمان النصرانية التي تبقى على دينها وعاداتها، وقد يطلب منها أن تدخل في الإسلام، أو تبدي رغبتها هي في ذلك فتسلم، ولكنها تبقى أيضا على عاداتها وأخلاقها، فتغلبه بطباعها وعاداتها، وتجرفه معها، فيقع في المحرمات، وقد يترك دينه بسبب الشبهات التي يورده أعداء الإسلام عليه، وقد توردها هي، وقد يؤثر هو في بعض زملائه من المسلمين من أهل بلده بما تأثر به هو، وقد تنجب له أولادا وتتولى تربيتهم على دينها وأخلاقها وعاداتها، وما أكثر ما يذوب أبناء المسلمين في المجتمعات الأوربية ويفقدون دين آبائهم.
هذه مجرد أمثلة، وهي واقعة وليست مفترضة ، والذي يراجع ما كتبته في مقابلاتي مع الفريقين المسلمين الوافدين والمسلمين الأوربيين في الكتاب السابع من سلسلة (في المشارق والمغارب) سيجد ذلك واضحا، وكذا كتاب: حوارات مع مسلمين أوربيين.
وهذا يبين لنا شيئا من حكمة وجوب الهجرة على المسلم من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهذا شيء من أثر الأوربي المسلم على المسلم الوافد، فما بالك بأثر المجتمع الأوربي كله على المسلم، وبخاصة إذا كان ضعيف الإيمان
نشاط المنتسبين إلى الإسلام في أوروبا
إذا رجعنا إلى الأصناف المنتسبة إلى الإسلام عدلت عن كلمة (المسلمين) إلى كلمة (المنتسبين إلى الإسلام) لأن بعض الجماعات التي تدعي الإسلام ليست من المسلمين كالقاديانيين الذين أفتى علماء المسلمين بأنهم فرقة خارجة عن الإسلام.
التي وفدت إلى أوروبا أمكننا معرفة اتجاهاتها، وهي تختلف اختلافا كثيرا، ويمكن حصرهم التقريبي في الأصناف الآتية:
1 - الجاليات الإسلامية.
فالجاليات الإسلامية التي وفدت إلى الغرب، من أجل اكتساب لقمة العيش، كما مضى، أغلب أفرادها جهلة غير ملتزمين بالإسلام، ولهذا فهم أحوج إلى من يدعوهم إلى العودة دينهم والتمسك به، وكثير منهم شوهوا صورة الإسلام، بسبب تصرفاتهم المخالفة له، وللأخلاق التي جاء بها وتواضع الناس على حسنها، كالصدق والأمانة.
فتجد بعضهم يحتالون على القوانين الغربية، بالكذب والغش، يتمارضون بدون مرض، ويحاولون أن يرشوا الأطباء ليأخذوا منهم تقارير تثبت ذلك، ليتخلصوا من القيام بأعمالهم الوظيفية، وقد اشتهر ذلك عند الأوربيين وأصبحوا لا يثقون في كثير من المسلمين، كما أنهم يتعاطون-مع زعمهم الإسلام-ما حرمه الله عليهم، ويتركون ما أوجبه، فصاروا بذلك فتنة للذين كفروا، لأنهم رأوا فيهم قدوة سيئة، بدلا من القدوة الحسنة، وقد ذاب كثير من أبناء الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية.
ولكن عدد الذين عادوا إلى الإسلام والتمسك به من أفراد الجاليات الإسلامية، قد زاد في الفترة الخيرة، بسبب وجود بعض المراكز الإسلامية النشطة وبعض الدعاة المتجولين والمستقرين.
ويدخل في حكم الجاليات الإسلامية العاملة، اللاجئون السياسيون والذين شردتهم الحروب في بلدانهم، أو ظلم حكامهم، إلا أن هؤلاء قد يوجد من بينهم مثقفون بحسب تخصصاتهم.
2 - الجماعات الحركية.
المقصود بالجماعات الحركية: الهيئات المنظمة ذات المناهج الشاملة، الثقافية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مستقية ذلك من فهمها الشامل للإسلام بأنه منهج لحياة البشر كلها.
وأبرز هذه الجماعات:
1- جماعة الإخوان المسلمين.
وهي التي أسسها الإمام الداعية /حسن البنا / رحمه الله في مصر، ثم انتشرت في كل أنحاء الأرض.
2 - الجماعة الإسلامية في الباكستان.
وهي التي أسسها الإمام/ أبو الأعلى المودودي / رحمه الله في شبه القارة الهندية، ولها فروع مستقلة من الناحية الإدارية والتنظيمية في الهند وبنغلادش وغيرهما.(4/203)
وهاتان الجماعتان متقاربتان في الأفكار والمناهج في الجملة، ومنتشرتان في أوروبا والبلدان الغربية كلها، إلا أن جماعة الإخوان أكثر انتشارا، وأتباعها من كل فئات المجتمع: أي من حملة كل التخصصات، ومن العمال والتجار وغيرهم، وكثير من المسلمين يتعاطفون معها ويستفيدون من نشاطاتها في المحافظة على دينهم وتربية أبنائهم، ويشاركون في تلك النشاطات بما يقدرون عليه، وإن لم ينخرطوا في سلكها من الناحية التنظيمية.
ولما كانت هاتان الجماعتان-الإخوان المسلمون، والجماعة الإسلامية-أنشط الجماعات الإسلامية، و تدعوان إلى تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقا شاملا في حياة الأمة الإسلامية، وتقوم مناهجهما على التربية العملية في كل طبقات الأمة، وتدعوان إلى الإسلام بالطرق السلمية التي لا تستعمل العنف، وتتغلغلان عن طريق العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي في الأمة، فإن تأثيرهما قد انتشر في أقطار الأرض، وأصبح أتباعهما في كل الشعوب الإسلامية وغيرهما في تنام مستمر، وفي ذلك ما يجعل وصولهما إلى حكم الشعوب الإسلامية بالإسلام الذي حرمها منه محاربوه، قريب المنال، لما كان الأمر كذلك بالنسبة لهاتين الجماعتين، اشتد ت محاربتهما من قبل العلمانيين في الشعوب الإسلامية، ومن قبل قادة الغرب على حد سواء، وأعانهم على ذلك ذوو الأهواء والذين ضاقت آفاق عقولهم من المنتسبين إلى العلم عن مصالح الأمة العليا التي تحقق لهم العزة والكرامة، فرموهم جميعا عن قوس واحدة، كل في مجاله، ولكن الدعوة سائرة، رغم كل العقبات، ورغم تنوع محاربيها!
وقريب من هاتين الجماعتين-في الجملة-أعضاء حزب السلامة التركي، وأعضاء حزب ماشومي الإندونيسي، أتباع الدكتور محمد ناصر (رحمه الله) ولكن عددهم قليل نسبيا، وكذلك حزب التحرير، وهم قليلون أيضا.
وقد ذكرت نبذة عن كل من الأستاذ حسن البنا، والأستاذ المودودي في كتاب الجهاد في سبيل الله-حقيقته وغايته-في مبحث: نماذج يقتدي بها السائرون، وذكرت معلومات واسعة عن الدكتور محمد ناصر في الكتاب الثالث من هذه السلسة، وقد أخذت تلك المعلومات في لقاءات متكررة معه رحمه الله.
وغالب أعضاء الجماعات الحركية، هم من الطلاب الذين تخرجوا في جامعات الغرب وبقوا في الدول الأوربية، أو الذين مازالوا طلابا وكونوا لهم اتحادات طلابية في الجامعات أو في مراكز إسلامية، ويوجد بينهم أعضاء من أفراد الجاليات الإسلامية أيضا.
وتمتاز هذه الجماعات واتحاداتها بدقة التنظيم وقوة الانضباط والتعاون، والقدرة على استيعاب الشباب بأنواع النشاطات التي تجذبهم، كالمخيمات والنوادي الرياضية والثقافية والاجتماعية والإعلامية وغيرها.
مجالات نشاط الجماعات الحركية.
ويحاولون أن يقوموا بواجباتهم في الدعوة إلى الإسلام-مع كثرة ارتباطاتهم وأعمالهم الوظيفية والدراسية والأسرية- في ثلاثة مجالات:
المجال الأول: التوعية والتربية الداخلية، أي في أسرهم وأعضاء جماعتهم، في المراكز والمساجد والمخيمات والمساكن.
المجال الثاني: التوعية في صفوف الجاليات الإسلامية كذلك.
المجال الثالث: نشر مبادئ الإسلام بين غير المسلمين.
والذي ينقص هذه الجماعات أربعة أمور:
الأمر الأول: قلة العلماء وبخاصة المتفرغين لهم، وهذا يؤثر عليهم من وجهين:
الوجه الأول: ضعف تقدمهم في التفقه في الدين، تفقها مبنيا على قواعد علمية.
الوجه الثاني: الجهد الذي يضطرون إلى بذله في القراءة بأنفسهم في بعض الكتب ليفهموا الإسلام، ولكن كثيرا منهم أصبحوا عندهم معلومات جيدة بسبب الممارسة والاجتهاد، وبسبب الدورات التي يقيمونها في أوقات مختلفة، يقدم لهم فيها بعض العلماء الذين يستقدمونهم من البلدان العربية وغيرها، دراسات قوية في العلوم الشرعية.
الأمر الثاني: قلة المراجع الإسلامية الميسرة المفيدة التي تمكنهم من استيعاب مبادئ الإسلام، ويشكون من عدم تجاوب بعض المؤسسات الإسلامية التي يطلبون منها مدهم بالمراجع الإسلامية.
الأمر الثالث: قلة وجود أماكن يستقرون فيها لمزاولة نشاطهم، فأغلب الجماعات تستأجر شققا صغيرة من أقوات أسرهم، ومع كون ذلك يجحف بهم من الناحية المادية، فإنه يحول بينهم وبين الاستقرار، إذ يضطرون إلى الانتقال من مكان إلى آخر، إما لقلة المال الذي يضطرهم إلى استئجار شقق أرخص في أماكن أبعد من المكان الأول، وإما لضيق المكان وحصولهم على مكان أنسب منه، وذلك يسبب لهم عدم الاستقرار.
وقد لا تتمكن بعض الجماعات من إيجاد مقر لنشاطها، لغلاء الأماكن وقلة ذات اليد، وقد وجدت جمعية إسلامية أنشئت في عام 1987م في مدينة (هلسنكي) عاصمة (فنلندا) لا يوجد لها مقر، ولذلك تزاول نشاطها وتعقد اجتماعاتها في منازل أعضائها، والمنازل هناك ضيقة، أو في بعض المطاعم التي يديرها بعض المسلمين.
ومما يؤسف له ما بلغني من أن هذه الجماعة قد وجد بين أفرادها نزاع بعد عام واحد من إنشائها، مع قلة المسلمين في هذا البلد وحاجتهم الماسة إلى تربية أولادهم الذين ذاب غالبهم في المجتمع الكافر ، ولعل الله قد وقاهم شر الخلاف .(4/204)
الأمر الرابع: قلة العاملين في حقل الدعوة والتربية الإسلامية، وذلك يجعل العبء ثقيلا على أفراد ترهقهم الأعمال، وتبدد نشاطهم وتضعفه، وقد يصاب بعضهم بالملل والسآمة بسبب ذلك، ولهذا تكون أبواب العمل مفتوحة أمامهم، فلا يستطيعون سد استغلالها، سواء فيما يتعلق بعملهم الداخلي، أو بالعمل الخارجي، وأغلب العاملين متطوعون من الطلاب أو من الموظفين،ومع ذلك ينفقون على نشاطهم من نفقاتهم الخاصة.
3 - جماعة التبليغ.
وهذه الجماعة منتشرة-أيضا-في كل أنحاء المعمورة، وأعضاؤها أكثر صبرا وتحملا لمشقات السفر وشظف العيش، وأذى الناس، وهم متقشفون ينفقون على أنفسهم من جيوبهم مع فقر كثير منهم، ويختلطون بالناس: مسلمين وغير مسلمين، يطرقون أبوابهم ليبلغوهم ما فهموه من الإسلام ، و طرق أبواب المنازل لتبليغ أهلها الإسلام، قد يكون مستساغا في بعض البلدان، وقد يكون مكروها غير مستساغ في بلدان أخرى، فينبغي مراعاة ذلك، وهو يدخل في معنى الحكمة في الدعوة ويتابعون فساق المسلمين في الأسواق والمقاهي والبارات، محاولين انتشالهم من حمأة الفسوق والفجور والعصيان، شعارهم الخروج في سبيل الله ، وهو لا يعني مصطلح القرآن والسنة، الذي تكرر بمعنى الخروج للجهاد في سبيل الله، وإنما المقصود الخروج لدعوة الناس إلى الإسلام والتمسك به، والتجول في الأرض من أجل ذلك، مع المبيت في المساجد ... وهو نوع من الجهاد بمعناه العام ، يسيحون في الأرض وينزلون في المساجد وفيها ينامون، فإن لم يجدوا مساجد نزلوا في أي مكان تيسر لهم النزول فيه، يقصدون المدن والقرى الصغيرة والبوادي ، وقد وجدتهم في كل بلد زرته في العالم، ومن ذلك بعض البوادي النائية في جنوب كوريا الجنوبية، سنة 1406هـ-وفي بعض الغابات بين القبائل البدوية في كينيا، سنة 1415هـ وغيرها. يتناولون ما تيسر من الطعام، ولهم تأثير طيب جدا في إصلاح أبناء المسلمين الذين يذوب أكثرهم في المجتمعات الغربية.
ولكن أكثر هذه الجماعة غير متعلمين، وعندهم منهج معين، يكرره أفرادهم-غالبا-على الناس، وهو ما يسمى بالبيان، وقد يتوسع بعضهم-أحيانا-في شرحه، بحسب ما عند المتكلم من معلومات، وقد يوجد مع كل مجموعة منهم من عنده شيء من العلم الذي يفيد مجموعته به، فيدر سهم كتاب رياض الصالحين للإمام النووي، ويملى عليهم ما تيسر من حياة الصحابة العبا دية والسلوكية، ويعلمهم بعض الأذكار ويحثهم على كثرة التطوع -صلاة وصياما وإنفاقا-ولا شك أن في ذلك أثرا طيبا في حياتهم.
والفائدة التي تعود إلى الناس الذين يتأثرون بهم تكمن في محبة الله ومحبة عبادته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة الإسلام، والشعور بالمسئولية أمام الله في إنقاذ الناس من الضلال والتواضع.
ما الذي يؤخذ على جماعة التبليغ؟
والذي يؤخذ عليهم، أنهم مع انتشار هم في الأرض، ووصول دعوتهم إلى أكبر عدد من الناس، وكثرة جموعهم في المؤتمرات التي يعقدونها . و قد يصل عددهم في بعض مؤتمراتهم التي يعقدونها في الأرض الفضاء، إلى أكثر من مليون شخص، وقد رأيت ذلك في بنغلادش سنة: 1400هـ، عندما حضرت مخيما أقامته الندوة العالمية للشباب الإسلامي، كان المشرف عليه الأستاذ محمد عاكف مندوبا من الندوة في الرياض ، حيث اضطر رئيس الجمهورية (ضياء الرحمن الذي اغتيل فيما بعد) إلى ترك الطريق المؤدي إلى مخيمنا لاختتام أعمال المخيم لعدم وجود ممر لسيارته بسبب اجتماع هذه الجماعة في تلك المنطقة، وحوَّل موكبه إلى طريق آخر أبعد مسافة، ولذلك تأخر أكثر من ساعتين عن الموعد المحدد.
ويقرؤون في تلك المؤتمرات بعض الأحاديث، وشيئا من القرآن الكريم، وشيئا من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، مع بعض المدائح التي قد يكون في بعضها شيء من الغلو، وبعض سير الصحابة، أقول: الذي يؤخذ عليهم مع ذلك، أنهم يحصرون دعوتهم في موضوعات معينة من الإسلام، لا يخرجون منها إلى سواها، مما هو من مقتضيات (لا إله إلا الله) من الشمول لكل نشاط الإنسان، إضافة إلى تحاشيهم الصدع بالحق في كثير من قضايا الإسلام المحددة التي لا يجوز التهاون فيها، فلا يتعرضون لها إلا بالتعميمات في الغالب، كالحث على الإخلاص الذي لو فصل الكلام فيه لشمل أمورا عملية كثيرة في العقيدة كالنهي عن الاستغاثة بغير الله التي يتعاطاها كثير من الجهلة أو الغلاة ، وكذلك لا يجهرون بالنهي عن كثير من المنكرات، حرصا منهم-حسب زعمهم-على عدم إثارة الخلاف، واعتمادا على أن الشخص إذا استجاب للعمل بمنهاجهم سيدع تلك الأمور المنكرة من ذات نفسه.
والذي يظهر لي أن من أهم أسباب حصر نشاطهم على ما ذكر ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنهم ربوا أساسا على ذلك.
الأمر الثاني: أن معلومات كثير منهم لا تؤهلهم للدخول في حوار مع الناس في غير ما دربوا عليه، وفاقد الشيء لا يعطيه.
الأمر الثالث: إيثار السلامة مما يتعرض له الدعاة الآخرون الذين يدعون إلى تطبيق منهج الإسلام الشامل لحياة البشر، من أذى وتضييق وعدم تمكينهم من النشاط الدعوي في كثير من البلدان.(4/205)
ومما يؤخذ عليهم حرمان بعض طلاب الجامعات من مواصلة دراستهم، عندما يتأثرون بدعوتهم، حيث تغلبهم عاطفتهم، فيخرجون معهم ويدعون دراستهم، وقد يندمون على ذلك بعد فترة من الزمن، لعدم وجود الجديد الذي يشبع رغبتهم الفكرية والعلمية في منهج الجماعة، وفي ذلك حرمان للمسلمين من الطاقات المؤهلة التي تسهم في تحقيق مصالحهم في هذا العصر، وكان ينبغي أن ينتشلوا الفاسق من فسقه مع حثه على مواصلة دراسته بدلا من تركها الذي قد يكون سببا في تحسره وتندمه عندما يفيق، على ضياع جهده الذي كان يستطيع أن ينفع نفسه وينفع المسلمين بتخصصه فيه، وكذلك قد يخرجون معهم – لمدة طويلة - من يترك أهله بدون عائل ، وفي هذا ما فيه من ضياع الأسر . مع العلم أن تأثير هذه الجماعة في الناس ملموس في كل مكان.
ولست هنا في مقام المدح أو الجرح، ولكن في مقام الإرشاد و النصح، والذي دعاني إلى التصريح بهذه المؤاخذة أنني سمعت من بعض أئمتهم في بعض البلدان الأوربية قوله: إن الدعوة الصحيحة هي دعوتهم، وأن كل ما عداها من الدعوات قاصرة، وأهداف أهلها أهداف دنيوية.
والواجب أن تعرف كل جماعة-مهما كانت أعمالها ونشاطها وإخلاصها ومناهجها مرضية لها-أنها إحدى جماعات المسلمين القائمة بالدعوة إلى الله، وأنه يوجد عند غيرها من موضوعات الإسلام الواجبة التبليغ مالا يوجد عندها، وأنه ينبغي أن تستفيد كل جماعة من تجارب وإيجابيات غيرها، وأن تتلافى ما عندها من سلبيات، بدلا من دعاوى الكمال لنفسها والتجريح لغيرها الذي لا تكون نتيجته إلا زيادة الخلاف والشقاق بين المسلمين.
وأقول-من باب الإنصاف-أن ما ذكر وما لم يذكر من سلبيات، قد توجد في هذه الجماعة، ليس شاملا لكل أفرادها، بل هم يختلفون من بلد إلى آخر، فكل بلد يتأثر أفراده فيه بعلمائه غالبا، وإن كان أسلوبهم في الدعوة والممارسة متقاربا في الغالب.
ويحتاج الناس الذين يستفيدون من منهج هذه الجماعة ويهتدون على أيديهم، إلى من يتابعهم من الدعاة ذوي المنهج الشامل، لزيادة تفقيههم وتوعيتهم حتى يفهموا الإسلام فهما شاملا، ويتعلموا بعض أساليب الدعوة التي تفقدها هذه الجماعة.
4 - المتفرغون للدعوة برواتب حكومية أو مؤسسات خيرية.
وهذا الصنف ليس أفراده كلهم أعضاء في جماعة معينة من الجماعات، بل قد لا يكون عضوا في جماعة البتة، وإنما يعمل مستقلا بمفرده، وقد يكون متأثرا في فكره بمنهج بعض الجماعات متعاطفا معها، وبعضهم قد يكون عضوا في بعض الجماعات أيضا.
وإنما يجمعهم كلهم أنهم متفرغون للدعوة إلى الله، هيأ الله لهم من يكفيهم مؤونة العمل من أجل كسب الرزق المعيشي، من قبل مؤسسات حكومية أو مؤسسات خيرية شعبية، بصرف رواتب تعينهم على التفرغ للدعوة، وإن كانت تلك الرواتب غير كافية لهم في بعض البلدان التي ترتفع فيها كلف المعيشة، كبعض بلدان أوروبا واليابان وغيرها.
وأكثر هؤلاء هم من الذين درسوا في بعض الجامعات أو المعاهد الإسلامية، في المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية، وبعض البلدان الأخرى، كالهند والباكستان والكويت وليبيا والسودان والمغرب ….
وكثير منهم عندهم معلومات إسلامية جيدة، مع تفاوت في سعة الاطلاع على المراجع الإسلامية، والأفكار المعاصرة، والمذاهب الهدامة، والشبهات التي يوردها أعداء الإسلام عليه وما يدحضها.
ويمكن تقسيم هذا الصنف قسمين:
القسم الأول: لم يسبق له أن مارس الدعوة عمليا، قبل أن يندب للقيام بها في بلدان أوروبا، بل هو حديث عهد بهذا الميدان، وإن كان بعضهم قد درس مادة الدعوة من الناحية النظرية وأدى امتحانها ونجح بتفوق، فنجاح الحبر على الورق غير نجاح الداعية بين البشر.
وهذا القسم يحتاج إلى فترة طويلة يتمرن فيها ويفهم عادات الناس الذين يمارس الدعوة بينهم ونفسيا تهم، وما يقبلونه وما ينفرون منه.
وقد يجد هذا القسم بعض الجاليات الإسلامية من أبناء وطنه، فينسجم معهم بسبب الاشتراك في اللغة والتناسب في العادات، فينزوي بينهم و يدع من سواهم، وقد يكون بين بعض الجاليات من جنسية واحدة أو من جنسيات متعددة خلافات، فينحاز هو إلى إحدى الطائفتين، أو يكون قد بعث أساسا للعمل مع طائفة معينة، فتحاول التحكم في نشاطه وتصرفاته كما تريد، لأن إقامته تكون على كفالتها، فإذا لم ينفذ رغبتها عادته وهددته بالطرد، فيضطر وهو في حاجة إليها إلى مجاراتها، فتحرم من الاستفادة منه الجماعات الأخر، بل قد تلزمه الجماعة التي كفلته بنشاط معين فتحد بذلك فائدته وتهدر طاقته، وقد لا يجيد إلا لغة إحدى الجماعات، فلا يستطيع أن يتحرك بدعوته إلا بين أعضائها.
ويتنافس بعض الجاليات الإسلامية في الحصول أئمة لاتخاذهم وسيلة للسيطرة على الآخرين، لحاجتهم إليهم في الإمامة أو في تعليم أولادهم، أوفي عقود الزواج، أو غسل الموتى وتكفينهم، وقلما يستفيد الأوربيون مسلمين أو غير مسلمين من أمثال هؤلاء.(4/206)
القسم الثاني: -من الدعاة المتفرغين-من ينتسبون إلى جماعات معينة من الجماعات الإسلامية، فيذهبون إليهم ويكون نشاطهم مقصورا على جماعتهم، لتعليم أبنائهم وإمامتهم في الصلاة، وتوعيتهم، وهؤلاء يفيدون جماعتهم كثيرا، وقد يفيدون غيرها من الجماعات، إذا سنحت لهم الفرص وكانت عندهم رغبة في تعميم فائدة الدعوة على الجماعات كلها، ولكن جماعته قد تعارضه في ذلك فيضطر إلى التقليل من الاتصال بالآخرين، وهذا القسم قد يكون أكثر اطلاعا على السنة وأكثر تمسكا بها، ولكن وعيهم بأحوال الناس والأفكار المعاصرة عندهم، أقل من اتحادات الطلاب الذين يكون تأثيرهم في الناس أعمق وأشمل.
ويوجد عدد-قليل-من هذا القسم ضعيف الإيمان، لم يأخذ حظا كافيا من التربية الإسلامية الربانية، فتجده يحاول أن يعيش على التفريق بين الجماعات وإثارة الفتن والنزاع والعداوات، ويمارس بينهم النميمة والتجسس لبعض الجهات على بعض، من أجل أن ينال شيئا من حطام الدنيا، وهؤلاء هم أسوأ من يحشر نفسه في زمرة الدعاة.
5- غلاة الطرق الصوفية.
وهم دعاة البدع والخرافات، الذين قد تصل خرافاتهم إلى الشرك بالله، من الدعاء والاستغاثة بغير الله، فيما لا يدعى ولا يستغاث فيه إلا بالله، بل بلغ بهم الأمر إلى الاعتقاد بأن محمدا عليه الصلاة والسلام ليس بشرا وأن من اعتقد أنه بشر فقد كفر، وهم يعادون كل من يخالفهم في معتقدهم هذا أو ينصحهم. ومن أمثلة هذا القسم جماعة البرلويين الهندية.
ويجب التنبيه-هنا-على أن كثيرا من أفراد هذه الطائفة جهلة، وإذا بين لهم الحق رجع بعضهم عن تلك المعتقدات الفاسدة إلى الصواب، والذين يعاندون ويصدون عن الحق على علم به، هم علماؤهم الذين يتحملون وزرهم ووزر أتباعهم، بسبب إضلالهم.
وهم جادون في نشر معتقداتهم ويحاولون أن يؤثروا بها في غير جماعتهم، ويجدون لنشاطهم وانحرافهم دعما من بعض الدول الأوربية، كما جرت عادة هذه الدول في دعم الجماعات المنحرفة عن خط الإسلام الصحيح، كالقاديانية وغلاة الصوفية وغيرهم، رغبة في التقليل من تأثيره في نفوس المسلمين المقيمين في أوروبا، أومن دخل في الإسلام من الأوربيين أنفسهم.
وهكذا يفعل أعداء تطبيق الشريعة الإسلامية في البلدان الإسلامية (العلمانيون) يشجعون الجماعات التي تحصر الإسلام في طقوس معينة، كالطرق الصوفية التي تهتم بالطواف بالقبور والتمسح بها ودعاء أهلها والاستغاثة بهم، وضرب الطبول والزمر و الرقص والتمايل عند الذكر، والاحتفالات بموالد من يسمون بالأولياء، وهم مع تشجيعهم لأمثال هؤلاء، يضايقون من يدعو إلى تحكيم شرع الله في حياة البشر في أعمالهم ومعيشتهم وأسرهم، بل قد يصل بهم الأمر إلى استحلال دمائهم بغير حق.
6– طائفة الشيعة.
وهم الذين يتزعمهم الآن الإيرانيون غالبا، ولهم نشاط في كل مكان ينشرون به أفكارهم ومعتقداتهم، بكل وسيلة ممكنة، ولكن الاستجابة لهم بين الجماعات الإسلامية قلت كثيرا، وأكثر من يستجيب لهم أفراد يجهلون حقيقة مذهبهم، أو من يريد الاستفادة المادية منهم.
وأخطر وسيلة يؤثرون بها في الشباب المسلم الجاهل بمعتقداتهم، المنح الدراسية في الجامعات الإيرانية، وبخاصة الدينية، أو في الجامعات الغربية، لأن حاجة الطالب إليهم تجعله يحتك بهم كثيرا ويقرأ بعض كتبهم وقد يتأثر بها.
وتأثيرهم في أوروبا موجود، ولكنه في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا أكثر، وإذا لم يسرع أهل السنة إلى نشر عقيدتهم بكل وسيلة ممكنة ويبينوا للناس عقيدة الرفض التي من أسوئها سب الصحابة، بل تكفير أكثرهم، فإن خطرهم سيستفحل ويتفاقم.
7 - طائفة القاديانية.
وهذه الطائفة ليست من الفرق إسلامية كما أفتى بذلك علماء الإسلام في باكستان وغيرها، وإنما ذكرتها هنا، بسبب نشاطها القوي وزعمها أنها تدعو إلى الإسلام.
ونشاط هذه الطائفة قوي جدا، وإمكاناتهم واسعة، من المرافق والأموال والأئمة، ولهم كتب مترجمة بلغات البلدان الأوربية كلها تقريبا، تنشر فكرهم ومعتقداتهم وتدعو إليهما، ولهم نشاط إعلامي وتعليمي واقتصادي وسياسي، ويجدون دعما ماديا ومعنويا من الدول الأوربية، وبخاصة بريطانيا التي صُنِعُوا على عينها، ولديهم إمكانات يساعدون بها من يلجأ إليهم مضطرا من المسلمين الأوربيين وغيرهم، ممن تسوء ظروفهم المادية ويجدون ضيقا في حياتهم في أوروبا، وهم يستغلون ذلك لنشر معتقداتهم، كما يفعل النصارى مع المسلمين الجهال المحتاجين في بعض البلدان.
الإمكانات المتاحة لنشر الإسلام في أوروبا
( نظرا لكون هذه العجالة تلخيصا فقد اختصرت موضوعاتها، وبخاصة هذا الفصل الذي يحتاج إلى مراجعة مواضع متعددة من الكتاب السادس من سلسلة: (المشارق والمغارب) ولم يتم طبعه إلى الآن، وكتابي (حوارات مع مسلمين أوربيين، وحوارات مع أوربيين غير مسلمين) وهما مأخوذان من الكتاب السابق، وقد طبعا.)
توجد إمكانات قانونية وواقعية في الغرب تسهل للمسلمين أن ينشروا دينهم، بوسائل كثيرة، ويعلموا أولادهم مبادئ الإسلام ولغات شعوبهم، وعلى رأسها اللغة العربية ويربوهم على هذا الدين، ويدعوا غير المسلمين إليه.(4/207)
الوسائل المتاحة كثيرة.
وأذكر من تلك الوسائل ما يأتي:
الوسيلة الأولى: حرية الكلمة والمعتقد، وما يسمى بالحريات الشخصية، فلكل إنسان أن ينشر بين الناس ما يعتقده بالدعوة المباشرة: محاضرات أو ندوات، أو اتصالا شخصيا، أو توزيع نشرات مطبوعة في أماكن التجمعات، كالمصانع والمطارات ومحطات المواصلات، كالقطارات والحافلات والأسواق، والنوادي الرياضية والثقافية والاجتماعية، ودور السينما، والكنائس، والاتصالات كصناديق البريد العامة أو المنازل، والهاتف، ودور التعليم، كالمدارس والمعاهد والجامعات...... وغيرها.
الوسيلة الثانية: طبع الكتب بجميع اللغات، ونشرها، وتوزيعها بيعا أو مجانا.
الوسيلة الثالثة: تسجيل الموضوعات في شرائط (كاسيت) أو (فيديو) ونشرها بيعا أو مجانا.
الوسيلة الرابعة: استئجار محطات إذاعية محلية أو شراؤها، بشروط ميسرة لا تمنع صاحبها من نشر ما يريد من عقيدة أو فكر أو تعليم،كما يستطيع-من يريد-أن يذيع موضوعات معينة في الإذاعات العامة، وإن كانت محدودة.
الوسيلة الخامسة: إمكان الاستفادة المحدودة من التلفاز العام (الحكومي) كما يمكن تملك قنوات تلفزيونية والبث عليها (حتى الفضائية).
الوسيلة السادسة: إمكان إصدار جرائد ومجلات تتضمن شتى الموضوعات: (عقدية وأخلاقية وشرعية، واجتماعية وسياسية).
الوسيلة السابعة: إمكان إنشاء مدارس خاصة كاملة (تجمع بين منهج الدولة والمنهج الإسلامي، بلغة البلد ولغة الْمُنْشِئين) معترف بها تشارك فيها الدولة بخمسة وثمانين في المائة من التكاليف، وقد تتحمل كل تكاليفها، وبخاصة البلدان التي اعترفت بالإسلام دينا رسميا، كالنمسا وبلجيكا.
وقد أنشئت الكلية الإسلامية في فرنسا، برغم مواقفها المتشددة من المسلمين وتدخلها حتى في الحريات الشخصية، كحجاب المرأة المسلمة. وجامعة إسلامية في هولندا ( ولكني لا أدري عن تفاصيل هذه الجامعة )
الوسيلة الثامنة: إمكان إنشاء نوادي اجتماعية وثقافية ورياضية خاصة أو تجارية، واستغلالها في الدعوة إلى الإسلام، وتربية شباب المسلمين من أبناء الحالية الإسلامية وغيرها، لوقايتهم من النوادي الأوربية التي تفسد دينهم وسلوكهم، وتجعلهم يذوبون في المجتمع الأوربي، كما هو حاصل الآن.
الوسيلة التاسعة: إمكان إنشاء مساجد جديدة أو شراء مبان قائمة سكنية، أو كنائس وتحويلها إلى مساجد، وهاهي قد أقيمت مساجد كثيرة في كل بلدان أوروبا، بل في كل مدنها-غالبا-، وبعضها جوامع كبيرة: كما في مدر يد بأسبانيا، وفي روما بجوار الفاتيكان، ويمكن أن تكون هذه المساجد منارات هدى تجمع بين إقامة الصلوات ومدارس التعليم ونوادي الشباب البناءة، ومحطات إذاعة وقنوات تلفاز، وقاعات مؤتمرات وندوات، لو حصل اهتمام بمعانيها كما يحصل الاهتمام بمبانيها!
الوسيلة العاشرة: إمكان القيام بإلقاء دروس إسلامية لأبنائهم في المدارس الحكومية الرسمية، في وقت الدوام الرسمي وخارجه، فأين من يمدهم بالمدرسين الصالحين الأكفاء؟
بل يمكنهم إقامة مدارس خاصة تجمع بين المنهجين: الإسلامي والحكومي، مع الاعتراف بها رسميا، إذا استوفت الشروط المطلوبة، وقد أصبح الآن للمسلمين في بلجيكا-التي اعترفت بالدين الإسلامي رسميا-مجلس خاص ينتخبونه ويشرف على كل مصالحهم في حدود القانون، كما أن بعض الدول الأوربية الأخرى قد اعترفت بالإسلام رسميا، مثل النمسا، وبعضها في الطريق إلى الاعتراف به، بسبب تزايد المسلمين في تلك البلدان وما يحتمل من قوة تأثيرهم في المجتمعات الأوربية… وقد اعترفت بريطانيا مؤخرا ببعض المدارس الإسلامية بع جهاد طويل بذله أهلها ، ومنهم الأخ يوسف إسلام وفقه الله .
الوسيلة الحادية عشرة: إمكان المسلمين استثمار أموالهم في شركات خاصة، ويكون لهم وزن اقتصادي وسياسي، ويمكنهم أن يحبسوا عقارات ومباني وأسواقا ينفق من أرباحها على العمل الإسلامي.
ومن أهم الوسائل لنشر الدعوة الإسلامية وتعليم الناس مبادئ الإسلام هذه الوسيلة العظيمة ( الإنترنت ) التي تصل إلى كل بيت حجر ومدر في نفس اللحظة التي يرسل الداعية أو المعلم رسالته .
وإن هذه الوسيلة وغيرهما لحجة أقامها الله على القادرين من المسلمين : علماء ومفكرين وأغنياء وحكاما ، وسيسألنا الله عنها إذا لم نستغلها لنشر دين الله .
كل هذه الأمور وغيرها متاحة بدرجات متفاوتة في الدول الأوربية، بعضها موجود فعلا، في حدود طاقة المسلمين.
وأستطيع أن أقول: إن الفرص المتاحة للدعوة الإسلامية في البلدان الأوربية، أكثر من إتاحتها في بلدان المسلمين في الوقت الحاضر.
(احترزت بقولي: في الوقت الحاضر، لسببين:
السبب الأول: أنني لمست في رحلتي تلك أن بعض الدول الأوربية أصبحت تضيق ذرعا بوجود المسلمين، وبخاصة الذين يتمسكون بدينهم ولا يذوبون في المجتمعات الغربية، وفي ذلك خطر عليها من ناحيتين:
الأولى: تكاثر المسلمين الوافدين الذين قد يصبحون يوما من الأيام لهم وزنهم السياسي والاجتماعي والثقافي، فيكون لهم تأثيرهم على الأحزاب الأوربية والاتجاهات الفكرية.(4/208)
الناحية الثانية: الخوف الشديد من تأثر الأوربيين أنفسهم بالإسلام، حيث بدأ يتصاعد دخولهم في الإسلام من فئات متنوعة: كبارا وصغارا، رجالا ونساء، وذوي تخصصات متعددة.
وكنت أحس أن هذه الدول قد تغير مواقفها من المسلمين عندما يتزايد شعورها بخطر انتشار الإسلام الصادق.!
السبب الثاني: أن ما تلقاه الدعوة الإسلامية والدعاة من مضايقة في الشعوب الإسلامية من الحكام العلمانيين المحاربين لتطبيق الشريعة الإسلامية، قد يغيره الله من هذا الحال إلى حال أحسن، وما ذلك على الله بعزيز.! )
عقبات في طريق الدعوة إلى الإسلام في أوروبا
1 - تمهيد:
إن الإمكانات المتوافرة في أوروبا، وفي الغرب بصفة عامة، مغرية لمن يريد أن يدعو إلى الله تعالى هناك، ولو أن المسلمين تكاتفوا دعاة وعلماء وساسة وأغنياء وغيرهم، كل فيما يقدر عليه، ونسقوا فيما بينهم للدعوة إلى الله في الغرب لآتى ذلك ثماره بإذن الله!
ولكن تلك الإمكانات المتاحة التي لم يستغلها المسلمون تقابلها عقبات، كل واحدة منها تحتاج إلى عمل جاد وإخلاص فيه لله وعزم وتصميم على دكها وتحطيمها.
والذين يتفاءلون كثيرا بتلك الإمكانات، ولا يحسبون حسابا لهذه العقبات، يرون أن الإسلام سينطلق من أوروبا كما انطلق قبل من دولة آل عثمان، ويرون كذلك صعوبة انطلاقه من البلدان الإسلامية، وبخاصة الدول العربية التي ابتعد أكثر حكامها عن الإسلام، بل حارب تطبيقه أكثرهم. هذه نظرة المتفائلين.!
2 - سببان وموقفان.
وقبل أن أسرد أهم العقبات التي تعترض الإسلام وانتشاره في الغرب، لا بد من الإشارة إلى السبب الرئيس الذي جعل أهل الغرب يعطون المسلمين شيئا من الحرية في الدعوة إلى دينهم ومحاولة المحافظة عليه فيما بينهم وتعليم أولادهم إذا استطاعوا.
وكذلك لا بد من الإشارة إلى السبب الرئيس الذي جعل أعداء الإسلام من العلمانيين في الشعوب الإسلامية يكممون أفواه الدعاة إلى الله، ويحرمون المسلمين من سماع كلمة الحق، وصب أنواع الإذى على دعاة الإسلام، من الاضطهاد والسجن والتشريد والقتل، فإن بيان هذين السببين: السبب الذي جعل زعماء الكفر في الدول الأوربية يعطون شيئا من الحرية للمسلمين ليدعوا إلى الإسلام، مع شدة بغضهم له ومحاربتهم له في عقر داره، والسبب الذي جعل أعداء الإسلام من ذرا ري المسلمين يحاربونه في مسقط رأسه، أقول: إن بيان هذين السببين يزيل ما قد علق بأذهان بعض الناس من الحيرة والعجب من موقفين: أحدهما يجري هنا والآخر يجري هناك!
سبب منح الغرب الحرية لدعوة المسلمين إلى دينهم.
فسبب إعطاء أهل الغرب شيئا من الحرية للمسلمين ليدعوا إلى الإسلام في بلادهم، يعود إلى أمرين:
الأمر الأول: أن أهل الغرب كانت عندهم ثقة أن المجتمعات الغربية، لها عقائدها وعاداتها وسلوكها وتاريخها وحضارتها التي تختلف كل الاختلاف عن مبادئ الإسلام وأخلاق المسلمين وعاداتهم وحضاراتهم-إن اعترفوا بأن لهم حضارة-وأن المسلمين مهما تمسكوا بدينهم ودعوا إليه، فهم أقلية ضعيفة يحيط بهم المجتمع الأوربي ويحاصرهم في كل مكان وجدوا فيه: السكن، ومكان العمل، والشارع، والسوق، والجامعة والمدرسة، والمصنع والقطار والطائرة والحافلة.... فهم كنقطة عطر فواح تلقى في محيط من القاذورات والأوساخ، فَأَنَّى لتلك القطرة أن تحافظ على نفسها ورائحتها في ذلك المحيط القذر؟!
وقد أخبرني بعض المسلمين أن البابا الحالي قال للنصارى في حشد عظيم في هولندا: (لا تخافوا من الإسلام في أوروبا، ولا يهولنكم بناء المساجد وانتشار المراكز الإسلامية فيها، فأبناء المسلمين بين أيديكم وتحت إشرافكم وتوجيهكم، في المدارس والجامعات وغيرها، فاجتهدوا في تربيتهم التي تجعلهم ينسجمون مع المجتمع المسيحي، وسينقرض آباؤهم وتفنى مساجدهم ومراكزهم وتندثر، ويبقى أبناؤهم في صفكم.)
الأمر الثاني: أن أهل أوروبا-والغرب بصفة عامة-استقبلوا في أول الأمر مسلمين بالاسم، وفدوا أفرادا وهم يجهلون حقيقة دينهم، كثير منهم غير متمسكين به، يلتمسون في اغترابهم لقمة العيش فحسب، ليس عندهم ثقافة تحميهم، ولا مؤهلات ترفع شأنهم، وكان نصيبهم من الوظائف تلك المهن البدنية المرهقة، كحمل الأثقال والبناء في المصانع ونحوها، أو الأعمال الحقيرة كتنظيف الشوارع والمصانع والمنازل، وما أشبه ذلك، وأمثال هؤلاء لا يرجى لهم التمسك بدينهم، فضلا عن أن يؤثروا في غيرهم من أهل البلاد الذين هم أعلى منهم منزلة، وأرقى منهم حضارة، وأكثر منهم مالا، بل مصيرهم الذوبان في المجتمع الأوربي، وهذا ما حصل فعلا لكثير من الوافدين إلى أوروبا في الأفواج الأولى.
ولو أن الدول الأوربية علمت في وقت من الأوقات، أن الإسلام الحق سينتشر في بلدانهم، ويهدد العقائد الغربية والفكر الغربي، لما تردد أساطين الغرب ودعاة حقوق الإنسان وحرية الأديان وحرية الرأي، في طرد المسلمين في يوم واحد-إذا استطاعوا-من كل أنحاء أوروبا.(4/209)
راجع مجلة المجلة: عدد 737، ص 36، 21/ شوال، مقال لفهمي هو يدي بعنوان: (دور أوروبا قادم في الاشتباك مع الحالة الإسلامية) هذا مع العلم أن كتابتي هذه كانت في سنة 1407هـ و مقال حسن هو يدي كتب سنة 1414 هـ أي بعد سبع سنوات من يوم من قيامي بهذه الرحلة التي لخصت منها هذه الصفحات، وقد اشتدت الأمور الآن أكثر ، ولكن الدعوة في طريقها إلى الانتشار ، والمهم قيام المسلمين بواجبهم كل في موقعه .
لا، بل قد بدأ الخوف والقلق يساور الأوربيين من وجود المسلمين الآن، وهاهي بعض دول أوروبا-ومنها فرنسا وألمانيا-تعرض على المسلمين مبالغ مالية في مقابل أن يعودوا إلى بلدانهم،وبدأت أجهزة الإعلام تحذر زعماء أوروبا من خطر بقاء المسلمين فيها، وقد أسفر كثير من زعماء الأحزاب عن وجوههم، فدعوا إلى طرد المسلمين من بلدانهم، بحجة أنهم لا يريدون أن يتأقلموا مع المجتمعات الأوربية، وأنهم يعتبرون نشازا في هذه المجتمعات، حيث يحرمون على أنفسهم ما يراه الأوربي مباحا، بل هو من لوازم التحضر والتقدم في أوروبا، من الطعام والشراب والنكاح واللباس وغير ذلك
ذلك هو السبب الذي من أجله أعطى الغربيون المسلمين شيئا من الحرية المؤقتة للتمسك بدينهم والدعوة إليه، وهذا هو موقفهم المبني على ذلك السبب.
وقد بدأت مضايقات المسلمين من الآن بأساليب غير رسمية، ولكنها تحت سمع وبصر الأجهزة الرسمية!
هذا الكلام كان وقت كتابة هذا الموضوع سنة 1407هـ ـ أما الآن ونحن في سنة 1420هـ أي بعد ثلاث عشرة من تلك الرحلة، فقد تغيرت الأمور، وأصبحت بعض الحكومات الأوربية نفسها تضايق المسلمين وتحاول التخلص منهم.
سبب مضايقة دعاة الإسلام في بلادهم.
أما السبب الذي يعكس القضية، فيجعل أعداء الإسلام في الشعوب الإسلامية يضايقون الدعاة إلى الله، ويحاربون تمكن الإسلام من السيطرة على أبناء المسلمين وتوجيه حياتهم، فيعود إلى أمر واحد وهو: أن العلمانيين من ذرا ري المسلمين يعلمون أن الشعوب الإسلامية مهما ابتعد كثير من أبنائها عن الإسلام، فإن الفطرة الكامنة في نفوسهم قابلة للعودة إلى الله والاستجابة لداعي الإيمان إذا أتيحت له الفرصة.
وأن الجهد القليل الصادق المؤثر يجد استجابة سريعة في الشعوب الإسلامية، لأن الدعوة الإلهية تلتقي مع الفطرة الربانية، فَتَلْقَف عصى موسى حبال وعصي فرعون.
ولهذا نجد الطاغية الذي يحكم بلدا إسلاميا يمكث ما يقارب عشرين سنة أو أكثر، يحارب الإسلام ويقتل دعاته ويعتقلهم ويعذبهم، ويُمَكِّنُ للكفر والإلحاد والفسوق والعصيان والانحلال ولكل مذهب هدام، فإذا أدبر غير مأسوف عليه، عاد الإسلام من جديد، وانتشرت الدعوة إليه في كل بيت، وساد النشاط الإسلامي في المدارس والجامعات والمصانع والنقابات وغيرها، في فترة قصيرة من الزمن، ولهذا يتكاتف أعداء الله من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين، مع أعداء الله من طغاة العلمانية في الشعوب الإسلامية لضرب الحركات الإسلامية.
فالجهود الكبيرة بالإمكانات الهائلة التي تملها الدولة وتبذلها لضرب الإسلام في الشعوب الإسلامية، يمكن أن تقضي عليها جهود أقل منها بكثير، تبذلها جماعات فقيرة قليلة الإمكانات لإقامة دين الله، والسبب في ذلك أن الشعوب الإسلامية تحن بفطرتها إلى عودة الإسلام وهيمنته في الأرض، ولولا قوة تأثير الإسلام في المسلمين، لكان قد محي من على وجه الأرض، لما يلقى من الكيد والمكر والطغيان، وهذا بخلاف الغرب، فإن الجهود القوية التي تبذل فيه لنشر الإسلام، يضعفها المجتمع الغربي بما يواجهها به من عقائد وعادات وتقاليد وانحراف فطر، ووسائل توجيه، وتشويه لحقائق الإسلام والتنفير منه وغير ذلك من العقبات القوية.
العقبات التي تعترض الدعوة في أوربا وأقسامها.
وبعد هذا أعود لأسرد العقبات التي تعترض انتشار الإسلام وتقلل من تأثير الدعوة إليه في الغرب، وهذه العقبات قسمان:
القسم الأول: يعود إلى المسلمين أنفسهم.
وألخصه في النقاط الخمس الآتية:
النقطة الأولى: القدوة السيئة التي يراها الأوربي في كثير من المسلمين في البلدان الأوربية نفسها، حيث إن الجاليات يغلب عليها الجهل بالإسلام غير ملتزم كثير من أفرادها وأسرها بآدابه، بل بعضهم لا يقر بمبادئه ولا يؤدي شيئا منها، إضافة إلى صفات سيئة يتصفون بها ينفر منها الأوربي، مثل خلف الوعد والكذب والغش.
وكذلك ما يرون وما يسمعون من القدوة السيئة في المسلمين في بلدانهم التي هي معدن الإسلام ومنبعه، وعدم وجود نموذج صحيح يؤكد لهم في عالم الواقع ما يدعيه المسلمون من المبادئ السامية في الإسلام: الإيمانية والعبا دية والاجتماعية والسياسية والإدارية وغيرها.
ولقد قال لي أحد المسلمين الجدد: إننا نأسف عندما نرى الرجل يأتي من البلدان الإسلامية، وهو يمسك السبحة بيمينه وكأس الخمر بشماله أمام فندق هلتن
النقطة الثانية: ندرة الدعاة المؤهلين: علما وعملا وقدرة على التأثير، ومعرفة أحوال العصر وأحوال الناس وعاداتهم وإجادة لغتهم، والصبر على ما قد يلاقيه من صعاب، والتجرد لله تعالى في دعوته.(4/210)
النقطة الثالثة: قلة الكتب الإسلامية المؤلفة بلغة القوم في كل بلد، أو المترجمة إلى لغاتهم، مع سلامة المعنى وحسن الصياغة وجودة الأسلوب، وبخاصة ترجمة معاني القرآن الكريم التي أول ما يسأل الباحث عن حقيقة الإسلام عنها.
وأكثر الترجمات التي توجد في أيدي الناس ترجمات بعض المستشرقين، من اليهود والنصارى، أو ترجمات بعض الطوائف المنحرفة المنتسبة إلى الإسلام زورا وبهتانا، كالقاديانية.
النقطة الرابعة: قلة الإمكانات المادية، وبخاصة المال الذي يعين بعض الدعاة المؤهلين على القيام بالدعوة، لتنقلاتهم، أو طبع كتب ونشرها، أو طبع نشرات وتوزيعها، أو استئجار مكان مناسب لإقامة ندوات أو محاضرات عامة، يدعى إليها الأوربيون وغيرهم مسلمين أو غير مسلمين....
النقطة الخامسة: كثرة التنازع بين المسلمين في أوروبا، امتدادا لخلافاتهم الموجودة في بلدانهم، حيث يرى الأوربيون الصراع يحتدم بين المسلمين في مساجدهم ومدارسهم ومراكزهم، إلى درجة تقتضي تدخل أجهزة الأمن الأوربية بينهم، لفصل النزاع الذي إذا بحثت في أسبابه وجدتها في الغالب التنافس في الزعامات والأمور المادية، وليست من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين، وإن زعم كل فريق حرصه على تلك المصلحة، هذا مع أن هؤلاء المسلمين يقيمون بين الأوربيين الذين تتنافس أحزابهم على الزعامات بالطرق السلمية المسماة بالديمقراطية: الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية....
هذه أهم العقبات فيما بدا لي، وهنك عقبات أخرى قد يدخل كثير منها في بعض النقاط السابقة.
القسم الثاني: يعود إلى لأوربيين.
وألخصها في النقاط الثلاث الآتية:
النقطة الأولى: نفور الأوربيين من الدين من حيث هو، قياسا على الدين النصراني الكنسي الذي أراحوا أنفسهم من هيمنته التي حالت بينهم وبين التقدم الحضاري المادي الحالي، وهو قياس فاسد، يشبه من احترق منزله فهام على وجهه في الأرض رافضا بناء منزل آخر خشية احتراقه، وكان يمكنهم أن يحققوا سعادتهم في الدارين بالدخول في هذا الدين، ولكنهم يكرهونه أشد من كراهيتهم بقية الأديان، ولعل في النقاط الآتية ما يوضح السبب.
النقطة الثانية: الجو المادي الذي يسيطر على عقول الأوربيين واهتمامهم بملإذ الجسد ومتع الحياة الدنيا، والهرب من الإيمان وما يتعلق به، فرارا من التقيد بحلال أو حرام، برغم إحساسهم بالخواء الروحي المقلق لحياتهم.
النقطة الثالثة: الحملات الشديدة المتواصلة لتشويه الإسلام والتنفير منه من الجهات الآتية:
الجهة الأولى: المستشرقون في القديم والحديث، وأساليبهم في تشويه الإسلام معروفة، وإن كان بعض المستشرقين في الوقت الحاضر أكثر إنصافا من المستشرقين السابقين الذين كانوا يخدمون الاستعمار والتنصير…
فهم يحرفون معانيه، ويشككون فيه ويتصيدون بعض المعلومات الدخيلة، في كتب التاريخ أو كتب التفسير المليئة بالإسرائيليات، ليلصقوها بالإسلام، ويتبعون المتشابه ويتركون المحكم، ليلبسوا الحق بالباطل، ويفسرون الإسلام بتصرفات بعض المسلمين المخالفة له، ولو كان أهل هذه التصرفات أعداء للإسلام محاربين له.
وقد التقيت عددا من المستشرقين في البلدان الأوربية التي زرتها وحاورتهم في بعض هذه الأمور، ووجدت الكثير منهم سائرين في خط أساتذتهم السابقين.
ومن عجائب الأمور أنهم يقولون للناس: إن تصرفات حكام المسلمين، مهما اختلفت وجهات نظرهم، هي اجتهادات في إطارا لإسلام.
وعندما سألتهم عن تصرفات حكام الشعوب الإسلامية الذين يحاربون الإسلام، كالشيوعيين وغيرهم من العلمانيين وأمثالهم، هل تعدون تصرفاتهم من الإسلام الذي يحاربونه؟ قالوا: نعم!، وبعضهم أظهر الاقتناع بأن تصرفات المسلمين التي تخالف الإسلام ليست منه، بعد نقاش طويل.
ويشوه المستشرقون الإسلام في ساحات واسعة من أوروبا وفي قطاعات كبيرة أكثر من غيرهم، ومن وسائلهم في ذلك الإذاعة، والتلفاز، والجريدة والمجلة والكتاب، والمحاضرات، ومراكز البحث، والندوات والمؤتمرات...
الجهة الثانية: المنصرون من القسس وغيرهم، ولهم كذلك وسائلهم المتنوعة التي يشوهون عن طريقا الإسلام في كل مكان.
الجهة الثالثة: دور التعليم من المدارس الابتدائية إلى المعاهد العليا والجامعات، عن طريق المناهج والمواد المقررة والكتب والمدرسين.. وقد حاول بعض المسلمين مع بعض المسؤولين في بعض الدول الأوربية، تصحيح ما في الكتب المدرسية من أكاذيب على الإسلام وتشويه له، وأظهروا احتجاجهم على ذلك، وكتبوا كل الأخطاء التي ظهرت لهم وسلموها لأولئك المسؤولين ووعدوهم بإعادة النظر فيها.(4/211)
الجهة الرابعة: التشويه المستمر الماكر المتعمد، من أجهزة الإعلام الغربية كلها يوميا، وهي لا تفتأ تقول للناس: إن كل المشكلات التي تنزل بالمسلمين، من خلافات وحروب وفقر وتأخر، إنما سببها الإسلام، يفعلون ذلك بأساليب خبيثة، فقد يتحدثون عن بعض موضوعات الإسلام، كالصلاة أو غيرها، ثم يعرضون صورة من صور المعارك بين إيران والعراق، ليثبتوا في إذهان الناس أن هذا هو الإسلام وهؤلاء هم المصلون، وقد يجدون بعض الفسقة أو الملحدين أو العلمانيين من المنتسبين إلى الإسلام، فيعدون لهم برامج إعلامية يفسرون بها الإسلام بحسب أهوائهم، للقدح في هذا الدين، ونفي ما فيه من محاسن، وكثيرا ما يكون ذلك عن طريق الحوار الذي يجذب السامع ويجعله يخرج بنتيجة سيئة عن الإسلام والمسلمين، وبخاصة إذا كان الحوار عن طريق التلفاز، ولليهود دور كبير في تشويه صورة الإسلام عن طريق وسائل الإعلام.
وليس للمسلمين في مقابل ذلك أي وسيلة توصل حقائق الإسلام إلى الناس أو تدفع عنه تلك الأكاذيب!
وجدت في الآونة الأخيرة بعض القنوات الفضائية تعد برامج خاصة بنشر حقائق الإسلام والرد على الشبهات، نرجو أن توفق في الجد في ذلك، وفي القدرة على أداء وظيفتها وعلى الاستمرار في ذلك، وأن لا تنحرف عن الطريق الصحيح في القيام بالبلاغ المبين.
الجهة الخامسة: الدول الأوربية التي تدعم المستشرقين والمنصرين وكل الجهات السابقة وغيرها، بكل إمكاناتها لتشويه الإسلام والمسلمين والتنفير منهم
أين نحن وما الواجب علينا عمله؟
1 - أين نحن؟
تمهيد: تلك هي الحالة الموجزة جدا في أوروبا، وذلك هو وضع الإسلام في أوروبا، وتيك هي الإمكانات المتاحة للعمل الإسلامي في أوروبا، وهذه هي العقبات التي تعترض الإسلام في أوروبا، فأين نحن أيها المسلمون من تبليغ الإسلام ونشره ودك العقبات التي تعترضنا في أوروبا؟
المسؤولية عامة:
إنه سؤال لا ينبغي أن يجيب عنه واحد من المسلمين، بل هو سؤال يجب أن يوجهه كل مسلم إلى نفسه بحسب موقعه وقدراته التي يملكها، ليبذل شيئا منها من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض، بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم يجيب عن السؤال، ليرى أين هو؟
على العلماء أن يسألوا أنفسهم: هل قاموا بالواجب الملقى على عاتقهم، من الدعوة والتعليم والتربية والصدع بكلمة الحق، لكل الناس، من أجل إقامة دين الله والقيام بالبلاغ المبين الذي هم المسؤولون أساسا عنه.
وهل ربوا شباب المسلمين على هذه المعاني تربية إسلامية يرضى الله بها عنهم؟ وهل نصحوا ولاة أمور المسلمين وأغنياء الأمة الإسلامية أن يقوم كل منهم بواجبه في هذا المجال؟
وهل نشروا الوعي الإسلامي في الشعوب الإسلامية نفسها لتنطلق منها الدعوة الإسلامية إلى العالم، بعد أن تكون هي نفسها قد فقهت دين الله وطبقت في حياتها لتكون قدوة حسنة للآخرين؟
وعلى المؤسسات التعليمية الإسلامية أن تسأل نفسها: هل بذلت أقصى جهدها الذي كلفها الله إياه، في النهوض بمؤسساتها التعليمية: مناهج مناسبة للعصر وتحدياته، وأساتذة أكفاء مخلصين يقومون بالتعليم الذي يفقه الطلاب في دينهم، تفقيها يجعلهم على مستوى مسؤولية العلماء في هذا العصر، ويقومون بتربيتهم التربية الإيمانية التي تثمر العمل الصالح والجد في الدعوة إلى الله؟
وهل حاولت هذه المؤسسات استيعاب أكبر عدد ممكن من أبناء المسلمين، ليتفقهوا في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، وهل أعدت خططا تناسب الراغبين في طلب العلم، كل حسب قدرته في المنهج والمادة والكتاب والمدة؟
وعلى المؤسسات الإسلامية الدعوية أن تسأل نفسها: هل أدت الواجب الذي تقدر عليه في اختيار الدعاة الأكفاء وتدريبهم ومتابعتهم واختبار ما يرد منهم من تقارير، أهي صادقة أم وراءها ما وراءها، فتفرق بذلك بين الغث والسمين وتضع كل واحد في مكانه؟
وهل هؤلاء الدعاة يبذلون كل طاقتهم في دعوة المسلمين وغير المسلمين؟
وهل أعدت هذه المؤسسات الوسائل المتاحة لها لإيصال الإسلام واضحا بينا إلى الناس، بلغاتهم: عن طريق الكتاب والنشرة والجريدة والإذاعة والتلفاز والمحاضرة والنادي، وغيرها من شرائط الكاسيت والفيديو ونحوها؟
وعلى الجماعات الإسلامية الشعبية أن تسأل نفسها: هل بذلت هي كذلك جهدها في إعداد مناهجها الدعوية والتعليمية والتربوية والتثقيفية، لتخرج بذلك شبابا متفقها في الدين مخلصا لله قائما بواجب الدعوة إليه، لا يخاف فيه لومة لائم، محققا في مسيرة دعوته معاني الأخوة الإسلامية مع رفيقه في الدعوة إلى الله، مبتعدا عن أسباب التنازع والتصدع؟(4/212)
وعلى أغنياء الأمة الإسلامية أن يسألوا أنفسهم: هل أدوا حق الله مما أوجبه الله عليه من التعاون على البر والتقوى، وهل ينفقون أموالهم فيما يرضي الله أو فيما يسخطه، وهل سلكوا مسلك سلفهم الصالح الذين كانوا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين قامت على أوقافهم أعمال عظيمة النفع للإسلام والمسلمين: مؤسسات تعليمية، واجتماعية واقتصادية وعبا دية، هل يزور الغني الذي يذهب إلى بلاد الغرب إخوانه المسلمين ويتفقد أحوالهم، ويزور مراكزهم الإسلامية، للتعرف على ما تقوم به من عمل، وما تحتاجه من دعم، فيساعدها بما يستطيع لتؤدي به دورها في الدعوة والتعليم والتربية في صفوف المسلمين وغيرهم؟
هل اقتدى تاجر المسلمين اليوم بتاجر المسلمين أمس، فكان قدوة حسنة للناس فدخلت شعوب بأكملها في الإسلام بسبب سلوكه، أو هو فتنة للناس بسبب تصرفاته السيئة، من رواد العفن والقاذورات وأماكن اللهو والفجور والخمر والميسر، فينفق أمواله التي رزقه الله فيما ينفع أعداء الله، ويضر نفسه والمسلمين؟
وعلى حكام المسلمين أن يسألوا أنفسهم: أين هم من رعاياهم الذين ذابوا في المجتمعات الأوربية، فأصبح كثير منهم لا فرق بينه وبين الكافر إلا بالاسم، إلا أن الكافر يحافظ على مركزه الاجتماعي والثقافي، وهو يضيع ذلك ويذل نفسه، فلا دنيا ولا دين.
هل عملوا بقول الله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}.؟
وهل أولوا الدعوة إلى الله اهتمامهم كما أولاها سلفهم من قبل، وهل أعدوا شباب بلدانهم للقيام بهذه الدعوة أو صر فوهم عنها إلى سواها؟
وهل اختاروا ممثليهم الدبلوماسيين وغيرهم في البلدان الأجنبية، على أساس أن يكونوا ممثلين لهذا الدين أو على أساس آخر؟
لقد ابتعدنا كثيرا عن الاهتمام بالدعوة إلى الإسلام، وصار هَمُّ كثير من المسلمين قاصرا على مصالحهم الشخصية التي قد يظنونها مصالح، وقد يكون كثير منها مفاسد، والواجب علينا إن أردنا استعادة مجدنا وعزنا أن نحاسب أنفسنا على ما فرطنا في ذات الله، وأن نغتنم الفرص المتاحة والإمكانات المتوافرة لإقامة دين الله في الأرض، كل فيما يقدر عليه، وإلا فإن الله سيعاقبنا على تقصيرنا في الدنيا والآخرة، وما إخال عقاب الدنيا إلا قد بدأ بما أصابنا من هوان وتفرق، ومن تسليط أعدائه علينا من الشرق والغرب، والذي لا يقوم بالخلافة التي كلفه الله إياها في الأرض يستبدل الله به غيره، كما هي سنة الله في خلقه.
وأعود مرة أخر فأقول: ليسأل كل واحد منا نفسه: هذا السؤال: أين نحن؟ ثم يجيب.
2 - ما الواجب علينا عمله؟
إن أبواب العمل الإسلامي مفتحة في العالم، ما عدا بعض البلدان الشيوعية التي بدأت تظهر السير البطيء نحو فتح أبوابها ليتنفس المسلمون فيه الصعداء (كان هذا قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد انهار الآن، واستقلت غالب الشعوب الإسلامية وأصبح الباب مفتوحا-في الجملة-للدعوة إلى الله، إذا وجد الدعاة الحكماء الصادقون، ووجد المال الذي يعينهم على القيام بالدعوة إلى الله، وقد أنشئت كثير من المساجد والمدارس في حدود طاقة المسلمين في فترة قصيرة، وإن كان أكثر حكام تلك الشعوب يتربصون بالدعوة الإسلامية الصحيحة وأهلها، حيث لا زال بعضهم على ما كان عوده أبوه (أعني بأبيه: الملحدين أو العلمانيين) وما عدا كثيرا من البلدان الإسلامية التي لا يزال حكامها يحاربون الدعوة إلى تطبيق شريعة الله. )
ولنذكر بعض تلك الأبواب المفتحة للعمل الإسلامي في بلدان الغرب، ليلج كل قادر على ذلك العمل، من الباب الذي يناسبه على الوجه الذي يقدر عليه.
أولا: الإكثار من المنح الدراسية لأبناء المسلمين في العالم، وبخاصة في أوروبا، وغيرها من دول الغرب، سواء أكان هؤلاء المسلمون من الأوربيين أم من أبناء الجاليات الإسلامية الذين يجيدون لغات تلك البلدان مثل أهلها، لأنهم ولدوا ونشئوا فيها، وجالياتهم في أمس الحاجة إلى تعليمهم، ليعودوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، ويجب أن يعنى بتربيتهم
-مع تعليمهم-تربية ربانية إيمانية وعبا دية وسلوكية، وإن أهل السنة لأولى بتحقيق هذا المقصد وولوج هذا الباب، من غيرهم من الفرق الضالة والمبتدعة الذين يتخطفون أبناء المسلمين من أهل السنة ويغرونهم بالمنح الدراسية في جامعات أوروبا أو في الجامعات الموجودة في بلدان تلك الفرق، لتعلم أولئك الطلاب عقائدها وتربيهم عليها، ثم تجندهم لنشرها بين أهليهم، وتستغلهم في تنفيذ مخططاتها وسياساتها التي تقصد من ورائها شق صفوف أهل السنة وإفساد عقيدتهم الصحيحة التي لا يجوز التفريط فيها.
ولهذا الباب-تكثير المنح في الجامعات الإسلامية-أثره الفعال في نشر أي فكر أو مبدأ، ومن أحق به منا، ونحن أهل المبدأ الحق؟(4/213)
ثانيا: من أهم الأبواب نفعا لنشر الدعوة الإسلامية في أوروبا-وغيرها-اختيار طلاب صالحين من البلدان الإسلامية واعين، لديهم دراسات إسلامية جيدة واطلاع على ثقافة العصر، وبعثهم إلى جامعات تلك البلدان، ليتلقوا فيها العلم الذي تحتاج إليه بلدانهم، ويكون من أهم أهدافهم تعلم لغة القوم ونشر الدعوة في صفوف الطلاب المسلمين في تلك الجامعات، سواء كانوا من الوافدين إليها من خارج البلد أو من أبناء الجاليات إسلامية أو من أبناء البلد نفسه، والاتصال بالجاليات الإسلامية في المساجد والمراكز والمدارس الخاصة بهم، وكذلك يقومون بالدعوة في أوساط زملائهم من غير المسلمين بالطرق المناسبة، إن هؤلاء الطلاب الذين يختارون ويبتعثون إلى تلك الجامعات يكون لهم أثر طيب في الدعوة، لأنهم يجيدون لغة أهل البلد ويدرسون فيه، ويفيدون الناس أكثر من غيرهم، ويستفاد منهم إذا رجعوا إلى بلادهم في ترجمة بعض الكتب الإسلامية إلى لغة تلك البلدان أو تأليفها ابتداء، إن كانوا قادرين على ذلك، لتوزع على من يجيد تلك اللغة وتقام بها الحجة.
والذي يرى نشاط الطلبة الصالحين وتأثيرهم النسبي في الناس، يعرف أهمية هذا الاقتراح وفائدته.
ثالثا: حصر المراكز الإسلامية الموجودة في الغرب، لمعرفة نشاط القائمين عليها، معرفة صحيحة مبنية على الاتصال الشخصي أو التزكية الموثوق في أهلها، ثم إعانتها بالمال والعلماء والمراجع الإسلامية وكل وسيلة ممكنة نافعة لنشر الإسلام.
الحرص على وضع الأمور في مواضعها.
وهنا تنبيه مهم تنبغي العناية به، وهو أن لا يوثق بمجرد النشرات التي تصدرها بعض الجماعات للتعريف بنفسها، فإن بعض الذين ينتسبون إلى الدعوة يبالغون في نشاطهم كثيرا، ويكثرون من الصور الفوتوغرافية للاجتماعات الجماهيرية التي تحصل في بعض المناسبات، ويدعون لأنفسهم أكثر مما يعملون، ليجمعوا بذلك الأموال والمساعدات، وإذا فتشت عنهم للتأكد من دعواهم وجدت الدعايات أكثر من العمل، فقد تجد عندهم مباني فخمة ومساجد كبيرة ومرافق كثيرة، ومكتبات مليئة بالمراجع الإسلامية، عربية وغير عربية، ولكنك تسمع جعجعة ولا ترى طحينا.
وترى عكس ذلك في بعض الجماعات، حيث يؤثرون العمل على الكلام، فتجد عددهم قليلا ومقر عملهم صغيرا، ومسجدهم شقة صغيرة، وليس عندهم من المراجع ما يفي بحاجتهم، ومع ذلك تجد نشاطهم مؤتيا ثماره، وكثيرا ما ينال الأموال والمساعدات القسم الأول ويحرم منها الثاني الذي ينفق على الدعوة غالبا من دخله الخاص، وإذا حصل على مساعدة مالية حرص على الاستفادة منها في نشر الإسلام.
وإذا تبين لمن يريد فعل الخير صدق بعض المسؤولين عن المركز الإسلامي أو المدرسة الإسلامية، فعليه أن يجود من فضل ماله بما يساعد أولئك المسؤولين ليؤدوا عملهم الذي اختاروه.
وأفضل الإعانات لهذه المراكز إيجاد مصدر مالي دائم ينفقون منه على مصالح الدعوة دون انقطاع، وذلك بوقف بعض العقارات وجعل ريعها عائدا إليها تصرفه على وسائلها التي اتخذتها لنشر الإسلام...
رابعا: إمداد تلك المراكز والجاليات بدعاة مؤهلين فقهاء في الإسلام، ذوي تقوى وورع وخلق كريم، ومعرفة بلغة أهل البلد وبعض لغات الجاليات الإسلامية فيه، ومعرفة بأحوال الناس وثقافاتهم، ليقوموا بتعليمهم ودعوتهم إلى الإسلام وإفتائهم وإمامتهم، وإلقاء المحاضرات العامة والخاصة بينهم، وهذا الباب يحتاج إلى تعاون الأغنياء مع تلك المراكز بحيث يكفل الغني داعية أو أكثر براتب شهري يفي بحاجاته، وقد قامت بعض الدول بتعيين دعاة في بعض بلدان أوروبا وفي غيرها ( من تلك الدول المملكة العربة السعودية، عن طريق رابطة العالم الإسلامي، والرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (وقد انتقلت وظيفتا الدعوة والإرشاد إلى: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد المستحدثة.)
وكذلك دولة الكويت عن طريق وزارة الأوقاف، وتقوم جمعيات خيرية كثيرة فيها بمجهود في هذا الباب، وكذلك مصر عن طريق الأزهر... ) ولكن المسلمين في حاجة إلى المزيد، لكثرتهم وقلة العلماء والدعاة بينهم، وإسهام الأغنياء يكمل ذلك النقص، والمسؤولية عامة كما مضى.
خامسا: إعانة المسلمين على إنشاء مدارس كاملة، تجمع بين المنهج الإسلامي ومنهج الدولة التي تنشأ فيها المدرسة، لتضم أبناء المسلمين وتحفظهم من الذوبان في المجتمع الأوربي، بسبب دراستهم أيام الأسبوع كلها في مدارس الغرب، على أن تمد تلك المدارس بالمناهج الإسلامية والكتب الدراسية الإسلامية والمدرسين الأكفاء.(4/214)
و الباب مفتوح لإقامة مثل هذه المدارس، وقد حاول بعض المسلمين إنشاء مدارس من هذا النوع لأبنائهم، ولكنهم قد يفشلون، إن لم يكونوا فعلا قد فشلوا، لأن الدول الأوربية تشترط في إنشاء مثل هذه المدارس شروطا معينة في قوة المباني وفي سعة فصولها وفي مستوى تأثيثها، وفي مرافقها، وتمنح أهلها فرصة لمدة معينة تكون نفقات المدرسة على حساب منشئيها، فإذا مضت المدة وهي مستكملة الشروط منحتها الترخيص والاستمرار، وقد تساعد الدولة الأوربية بثمانين في المائة من نفقاتها، وقد تساعد بنفقاتها كلها بحسب النظام المتبع في كل دولة.
سادسا: إنشاء دار للترجمة يختار لها العلماء الأكفاء الذين عندهم فقه في الدين وإجادة كاملة للغات الأوربية المختلفة، وتختار الكتب المفيدة للتعريف بالإسلام في كل الموضوعات: الإيمانية والعبادية والسلوكية والمعاملات... لتترجم وتطبع وتنشر بين المسلمين وغيرهم، في البلدان الأوربية، وكذلك تؤلف بعض الكتب ابتداء ممن عنده مقدرة على ذلك.
وأهم ما تجب العناية به في هذا الباب ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات العالم المختلفة، فقد قام بعض المستشرقين من اليهود والنصارى وبعض الفرق الكافرة أو المنحرفة من المنتسبين إلى الإسلام، بترجمة معاني القرآن الكريم إلى بعض اللغات ترجمات محرفة، دسوا فيها ما يريدون من عقائدهم ومبادئهم ليضلوا المسلمين الجهال وغيرهم، وقد لا يوجد غير ترجماتهم في بعض البلدان، وذلك يلجئ المسلمين ومن يريد التعرف على الإسلام من غيرهم إلجاء، إلى قراءتها مع ما فيها من تحريف وضلال.
ولا شك أنه يجب على المسلمين القادرين القيام بهذا المشروع، سواء بالترجمة ابتداء، أو الحصول على ترجمات قريبة من السلامة وتصحيحها ونشرها، وإذا لم يفعلوا فهم آثمون، لأن ذلك من فروض الكفاية التي لا تسقط عن كل قادر عليها إلا إذا قام بها من تحصل به الكفاية.
هذا، ويجب أن تكون الترجمة تفسيرا لمعاني القرآن الكريم، بحيث يفهم منها القارئ مراد الله منه، وليست ترجمة حرفية تختلط فيه المصطلحات القرآنية بالمصطلحات المضادة لها، أو المخالفة لمعانيها...
سابعا: إعانة المراكز الإسلامية بنشر الإسلام، عن طريق وسائل الإعلام كإنشاء إذاعات محلية، أو استئجار أوقات معينة من إذاعات قطرية أو إقليمية، أو ساعات معينة لبث مواد تلفزيونية، أو إيجاد جرائد ومجلات خاصة، أو نشر مقالات إسلامية في بعض الجرائد الأوربية القوية الانتشار التي قد تتعاون مع المسلمين من أجل الكسب المادي، وهذا يحتاج إلى إعداد رجال إعلام مسلمين مثقفين ثقافة إسلامية، ليبلغوا الناس دعوة الإسلام، كما يحتاج إلى المال الذي يمكن المسلمين من ذلك.
تقديم الأولويات على ما عداها.
هذا وليعلم أن المصلحة تقتضي تقديم الأولويات، بحيث يبدأ بالأهم فالمهم، فإذا كنا في حاجة-مثلا-إلى بناء مسجد يتسع لعدد معين من المصلين، وفي ذات الوقت نحتاج إلى وسيلة من الوسائل لتعليم المسلمين، كمدرسة، أو لتبليغهم وتبليغ غيرهم دعوة الله وعندنا من المال ما يكفي لإقامة مسجد غير مزخرف، وإيجاد الوسيلة الأخر معه، فلا يجوز أن نؤخر تلك الوسيلة من أجل بناء مسجد مزخرف ننفق فيه كل الأموال للتباهي به، وأبناء المسلمين في حاجة إلى التعليم والمسلمون وغيرهم في حاجة إلى أن يبلغوا دين الله.
أما أن تبني مساجد كبيرة مزخرفة خالية من لأئمة والمدرسين الأكفاء، من ذوي العلم والقدوة الحسنة والقدرة على تبليغ الناس دين الإسلام بلغاتهم وتعليم أبناء المسلمين دينهم، فإن تلك المساجد المشيدة لا تفيد المسلمين ولا غيرهم الفائدة المطلوبة، وتكون غاية وجودها أن تدرجها الدول الأوربية في أدلة الآثار والمتاحف، ليزورها السائحون ويقال لهم: هذا أنموذج لمساجد المسلمين، وتنال تلك الدول مكاسب سياحية من تلك المساجد كما تنال ذلك من المتاحف ونحوها.
فالمقصود من المسجد هو عمارته بعبادة الله وأداء رسالة التعليم والدعوة فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر ببناء مسجد في المدينة إلا بعد أن دخل الإسلام كل بيت فيها تقريبا، بعث مصعبا رضي الله عنه فعلم الأنصار القرآن والإسلام، وعندما جاء عليه الصلاة والسلام إلى المدينة بدأ ببناء المسجد، وفيه رجال يصلون ويتفقهون، والوحي ينزل عليه فيه، وفيه آخى بين المهاجرين والأنصار، وفيه أمر من عنده مال أن ينفق على من ليس عنده مال، وفيه نظم الجيوش للدفاع عن الدولة الناشئة، وفيه عقد المعاهدات... وعندما بناه بناه من المواد السهلة المتيسرة ولم يزخرفه، بل نهى عن زخرفة المساجد، فلنبن المساجد بالمواد القوية ولتكن جميلة، ولكن دون زخرفة، ولتنفق أموال الزخرفة على تعليم أبناء المسلمين والدعوة إلى الله.(4/215)
وقد أخبرني بعض المسلمين أن البابا عندما حضر إلى هولندا واحتشدت حوله جماهير النصارى، قال لهم: لا تخافوا من المسلمين ولا يزعجنكم وجودهم في أوروبا، ولا كثرة مساجدهم، وإذا طلبوا منكم مسجدا فأعطوهم مسجدين، ولكن عليكم أن تجتهدوا في تربية أبنائهم في مدارسكم على حضارتكم المسيحية، فهم بين أيديكم، فإذا فعلتم ذلك أصبح أبناؤهم أوربيين، أما آباؤهم فسينقرضون، وستصبح مساجدهم متاحف لا تقدم ولا تؤخر!.
لهذا يجب أن يعلم المسلمون أن داعية كفؤا، أو كتابا يشرح للناس مبادئ الإسلام شرحا صحيحا بلغة قوية، أو جريدة صغيرة تبلغ بها رسالة الله، تنطلق من غرفة صغيرة يزدحم فيه المصلون، خير من مسجد كبير مزخرف يبنى في أبرز مكان في أوروبا، بدون أن يكون فيه دعاة أكفاء ووسائل يبلغون الناس بها دين الله، وإن مدرسة ابتدائية أو روضة أطفال تحفظ أبناء المسلمين من الذوبان في المجتمع الأوربي خير من مركز كبير يشتمل على كل المرافق بدون دعاة إلى الله ينشرون دين الله.
هل ننجح في الامتحان
1 - نجاح السلف.
لقد امتحن الله سلفنا الصالح عندما كلفهم حمل هذا الدين، عقيدة وشريعة وعملا صالحا، وتعلما وتعليما ودعوة إلى الله وجهادا في سبيله، فنشروا دين الله في كل صقع من أصقاع الأرض استطاعوا الوصول إليه، فأسعدوا البشرية بدين الله، وأضاءوا بنوره الأرض، فمكن الله لهم فيها، فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وعمروا الأرض بطاعة الله، وقادوا العالم إلى رضا الله.
2 - فشل الخلف:
ثم أخذ الإيمان يضعف في نفوس المسلمين شيئا فشيئا، فضعف تبعا لذلك التطبيق العملي لأوامر الله ونواهيه، ُثم فشا فيهم الجهل، وحل بهم التنازع والتفرق وأعقب ذلك كله الفشل والذلة والخضوع لأعداء الإسلام الذين سلطهم الله على المسلمين، فاحتلوا بلدانهم بقوة السلاح، وعقولهم بفاسد الأفكار، وربوا كثيرا من أبنائهم على ذلك واستغلوا خير اتهم، وأصبحوا سادتهم، يأمرونهم فيأتمرون، وينهونهم فينتهون، بعد أن قضوا على آخر رمز لوحدتهم، وهي الخلافة الإسلامية، كان ذلك كله تأديبا من الله للمسلمين على ما فرطوا فيه من إقامة دينه وإعلاء كلمته.
3 - صحوة وجهاد:
ولقد صحا رجال في الشعوب الإسلامية، تحرك في نفوسهم الإيمان القوي والغيرة الربانية على دينهم وأوطانهم، فحملوا بيارق الجهاد ورايات كلمة التوحيد، وقادوا جماهير المسلمين لإعلاء كلمة الله، ضد أعداء الله الذين احتلوا بلادهم وأفسدوا أدمغة شبابهم، فطردوا جحافل جيوشهم المدججة بالسلاح الفتاك، وقدموا ملايين الشهداء في بلدانهم من إندونيسيا وما جاورها في أقصى الشرق إلى المحيط الأطلسي في أقصى الغرب، ومن عدن في الجنوب إلى بلدان الشام والعراق وتركيا في الشمال.
4 - مكر وإفساد:
ولكن أعداء الإسلام لم يجروا إذيال الهزيمة العسكرية، إلا بعد أن استعبدوا كثيرا من شباب الأمة الإسلامية، بتفريغ ما في عقولهم من معاني الإسلام، وملئها بوساوس الشيطان، وبتفريغ ما في قلوبهم من عواطف الإيمان، وملئها بحب الشهوات والفسوق والعصيان، ومكنوهم من السيطرة على الشعوب الإسلامية، لينوبوا عنهم في حكمها وتنفيذ مخططاتهم فيها، بكل الوسائل المتاحة في تلك الشعوب: التعليم والإعلام والسياسة والاقتصاد والجيش والشرطة والقوانين والمحاكم، وغير ذلك، فنفذ حكام الشعوب الإسلامية الذين مكن لهم أساتذتهم المعتدون في تلك الشعوب، ما لم يكن أولئك السادة يطمعون في تنفيذه فيها بأنفسهم.
5 - رب ضارة نافعة:
وشاء الله تعالى أن يفد إلى بلدان المعتدين أعداد كثيرة من المسلمين، من طالبي الرزق المادي، أو بعض العلوم المفقودة في البلدان الإسلامية، وأن يستوطن أولئك الوافدون في بلاد الغرب، حتى لا توجد دولة من الدول الغربية تخلو من المسلمين، قل عددهم أو كثر.
عدد المسلمين في دول أوروبا الغربية.
بلغ عددهم في أوروبا الغربية التي زرتها في هذه الرحلة، وهي إحدى عشرة دولة ما يقارب عشرة ملايين، وهي كما يأتي:
1- سويسرا: من سبعين إلى مائة ألف مسلم.
2- ألمانيا: من مليونين إلى ثلاثة ملايين مسلم.
3- النمسا: من سبعمائة إلى تسعمائة ألف مسلم.
4- بلجيكا: خمسمائة ألف مسلم.
5- هولندا: سبعمائة وخمسون ألف مسلم.
6- الدانمرك: أربعون ألف مسلم.
7- السويد: من ستين إلى مائة وستين ألف مسلم.
8- فنلندا: من ألفين وخمسمائة إلى ثلاثة آلاف مسلم.
9- النرويج: أكثر من خمسة عشر ألف مسلم.
10- بريطانيا: من مليون إلى مليوني مسلم.
11- فرنسا: ثلاثة ملايين مسلم.
زرت بعد هذه الرحلة ثلاث دول أخرى من دول أوروبا الغربية، وهي: أسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا. كما زرت بريطانيا مرة أخرى، وايرلندا.
ويلاحظ أن عدد المسلمين غير مضبوط في بلدان أوروبا، والسبب في ذلك أنه لا توجد إحصائيات رسمية دقيقة بين أيدي الناس، ولهذا يخمنون في الأعداد تخمينا، ولا بد من أن تكون الإحصاءات الدقيقة موجودة لدى الدول الأوربية، ولكنها لا تعلنها على حقيقتها.
تقديرات جديدة(4/216)
التقديرات تشير الآن (اليوم 28/2/1421هـ-2/6/2000م) أن المسلمين في دول أوروبا الغربية لا يقلون عن خمسة عشر مليونا، بل بعض التقديرات ترى أن عددهم قد يصل إلى ثلاثين مليونا، وهذا غير المسلمين في أوروبا الشرقية.
وإذا كان أكثر هؤلاء المسلمين ليسوا قدوة حسنة في أوروبا، يتأثر بهم الأوربيون فينجذبون إلى الإسلام، فإن العمل معقود-بعد توفيق الله-على لاهتمام بهم من قبل القادرين من المسلمين علماء وحكاما وأغنياء وغيرهم، ببذل الجهود المتكاتفة المنسقة، للمحافظة عليهم ليبقوا متمسكين بدينهم، ببعث الدعاة ، وبعث المدرسين والأئمة إليهم، لتعليمهم ودعوتهم وإقامة الشعائر الإسلامية لهم، ويجب أن يكونوا من الأكفاء القادرين على مخاطبتهم في بيئتهم ، وإنشاء المساجد والمدارس لتعليم أبنائهم، وإنشاء النوادي الثقافية والاجتماعية والرياضية، ذات الصبغة الإسلامية، لحماية أبنائهم من الضياع والذوبان في مجتمعات الغرب، وتخصيص المنح الدراسية في المعاهد والجامعات الإسلامية، لتعليم الراغبين منهم في الدراسة، وتربيتهم التربية الإسلامية القوية الصادقة، ليعودوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، وإعانة المراكز الإسلامية التي يوثق بأهلها ، لتقوم بالدعوة الإسلامية في صفوف المسلمين وغيرهم، وذلك بأن يبذل أغنياء المسلمين، من حكام الشعوب الإسلامية وتجارها ما يضمن استمرار الدعوة إلى الله، عن طريق إنشاء المراكز التي تكون مقار للدعوة ، وطبع الكتب والجرائد والمجلات والأشرطة، وإيجاد وسائل الإعلام الأخرى كالإذاعة، وتخصيص رواتب لدعاة وعلماء متفرغين لذلك، واغتنام كل فرصة سانحة لنشر الدعوة إلى الله، فإذا ما فعلنا ذلك فإن هذه الأعداد الكثيرة من المسلمين سيتمسك الكثير منهم بالإسلام، وسيكون كل واحد منهم وكل أسرة وكل جماعة قدوة حسنة تدعو إلى الإسلام في مواقعها، بإبراز صورة الإسلام المشرقة في بلاد الغرب المظلم بالكفر والفسوق والعصيان، وسيدخل الأوربيون في دين الله بحسب ما يظهر لهم من محاسن الإسلام في سلوك المسلمين، والاطلاع على معاني الإسلام، لأن النفوس البشرية قابلة للتغيير، وبخاصة إذا كان هذا التغيير من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان والفطرة الصافية.
وهاهو الإسلام اليوم ينتشر في العالم بدون جهد يذكر من قبل المسلمين، برغم السدود والعقبات التي يضعها أعداؤه في طريقه، فإذا قام المسلمون بواجبهم، في التمسك بالإسلام والدعوة إليه، فإنه بدون شك سينتشر أكثر وسيستوطن الإسلام في بلاد الغرب بثبات وقوة ، ويكون له شأنه العظيم ، كما كان له ذلك في العصور القديمة في كل أنحاء الأرض
حِكَمٌ وابتلاءات
ولا شك أن لله تعالى حكمة في سيطرة الكفار على بلاد المسلمين برهة من الزمن، ولعل من حكمته في ذلك أن يؤدب المسلمين ويذلهم لعدوهم، بسبب بعدهم عن دينه، ويستدرج أعداءه الكافرين ويلقنهم دروسا من بعض عباده المؤمنين الذين يلجئون إليه وينصرون دينه ويجاهدون عدوه في سبيله، فيعود المغتصب إلى بلاده صاغرا، برغم قوته وضعف المسلمين، ثم يعقب ذلك ابتلاء بعض المسلمين بالهجرة إلى بلاد الغرب والبقاء فيها، لينتشر الإسلام في تلك البلدان بالقدوة الحسنة والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، إذا ما اهتم المسلمون بذلك وقاموا بما أوجب الله عليهم وعلى نبيهم قبلهم، كما قال تعالى: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } وقال تعالى: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } .
وإذا كنا نحن أبناء هذا الجيل لم نقم بما أوجب الله علينا من نصرة هذا الدين، فإن الله سيذلنا في الدنيا ويجازينا في الآخرة، وسيستبدل بنا غيرنا، ممن يقوم بنصرة دينه بالعلم والعمل والدعوة والجهاد في سبيل الله، كما قال تعالى: { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير } وقال تعالى: { هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } .
فقد ابتلى الله المسلمين الوافدين إلى الغرب وذريتهم، فهل يصبرون على دينهم ويبلغونه إلى غيرهم بالقدوة الحسنة والدعوة، كما ابتلى الله المسلمين في الشعوب الإسلامية بألئك المسلمين المقيمين في الغرب، هل يهتمون بهم ويعينونهم على التمسك بدينهم، وابتلى الله أهل الغرب بالمسلمين المقيمين عندهم وغير المقيمين، هل يهتمون بهذا الدين الذي جعل أهله يستقرون يفدون إليهم ويهجرون أوطانهم ويبنون لهم مساجد ومراكز تعليم ودعوة، فهل يهتم هؤلاء الغربيون بهذا الدين ويتعرفون عليه فينقذون أنفسهم من النار؟ أو يعرضون عنه عنادا واستكبارا فيصلون جهنم وبئس المصير بعد أن قامت عليهم الحجة،وتبينت لهم المحجة؟
هل سننجح في الامتحان؟
إنه امتحان من الله لكل الفئات المذكورة، وإننا نحن المسلمين لأولى بالامتحان من غيرنا، فهل سننجح في الامتحان؟
(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم).
اعتذار(4/217)
وإنني لأعتذر من الإخوة القراء ( زملاء المنتدى الدعوي ) مما قد يحصل من خطأ سواء كان في ( اللفظ والأسلوب ) أو في المعلومات والمعاني ، فهذه الخلاصة مستلة من ثلاثة مجلدات ، إضافة إلى قدم المعلومات ، وقد جدت في الغرب أمور أخرى ، قد لا أكون مواكبا لها كما ينبغي .
تجديد رجاء
وإنني لأجدد رجائي للإخوة الكرام ( رؤساء المراكز والجمعيات الإسلامية والدعاة وأئمة المساجد في جميع بلدان أوربا الغربية كلها ، ولا زال غالبهم أحياء ) الذين التقيتهم وحاورتهم وأخذت منهم بعض المعلومات في تلك الفترة ، ثم طلبت منهم أن يوافوني بما جد عندهم من نشاط ومعلومات ، أجدد رجائي في هذا الموقع الدعوي ، أن يوافوني بما طلبت منهم .
فالسلسلة ( في المشارق والمغارب -وقد بلغت 20 مجلدا ) معروضة للطباعة ، واحتواؤها المعلومات الجديدة مفيد .
وبريدي الإلكتروني لدى الإخوة في الموقع ، يمكن أن يبعث إليهم أي استفسار أو معلومات ليحيلوها إلي
وأستودعكم الله إلى سلسلة دعوية أخرى ، والله ولي التوفيق .
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
================
دار الكفر ودار الإسلام
الشهيد عبد الله عزام
يعر ف الإمام الشهيد دار الإسلام بأنها: هي الدار التي تطبق الشريعة الإسلامية وتنفذ حكم الله، وتكون حامية للمسلمين وت علن الجهاد في سبيل الله، وتقاتل من أجل إنقاذ المسلمين في الأرض، ويكون في هذه الدار إمام مبايع بيعة شرعيه، يقيم الحدود، ويأمر بالجهاد، ويقسم الغنائم، ويحمي المسلمين، ويجاهد لإنقاذهم في كل الأرض.
ولا بد أن تتبنى هذه الدولة المسلمين في الأرض، وتحمي من يلجأ إليها، وتمنحه حقه الشرعي في الإقامة داخل البلد وجواز سفر يتنقل به، ويمارس جميع الحقوق فيها.
وكذلك لا بد لهذه الدولة أن توالي المسلمين وتعادي الكافرين، فإذا حصل اضطهاد لمسلمين في مكان لا بد أن تتبنى مشكلتهم والذود عنهم، وتنتصر لهم وتقطع جميع علاقاتها مع تلك الدولة الظالمة أيا كانت، وكذلك يجب أن يكون المسلمون داخل هذه الدار والعلماء محترمين مقربين، وأهل الفسق مبعدين مخذولين مخزيين، لا نراهم في وزارة أو مجلس شورى أو منصب كبير في الدولة.
وبالمقابل فان الدولة التي لا تتصف بهذا لا نستطيع أن نسميها دار إسلام، ولذلك فإن الأرض - تقريبا - كلها قد خلت من هذه الدار - الآن - ولا نستطيع أن نعدها دار إسلام، ونحن بانتظار هذه الدولة في أفغانستان - إن شاء الله -
ومن المؤسف جدا أن يكون هناك للشيعة دار يأوون إليها وتتبنى مصالح الشيعة في الأرض - وهي إيران - وتدافع عنهم، والشيعة في الأرض يعتبرون الآن إيران هي أمهم وقبلتهم، بينما المسلمون من أهل السنه - أهل الإسلام الحقيقي - فلا يوجد لهم دار حتى الآن!
وفي حالة وجود هذه الدار - دار الإسلام - عندها يجب على كل مسلم في الأرض - لا يأمن على دينه ونفسه - أن يهاجر إليها [33].
[33] في الهجرة والإعداد ج2 - ص2
================
الحكمة من عدم مشروعية القتال في العصر المكي
[الكاتب: عبد الآخر حماد الغنيمي]
من الأمور المسلمات أن الله تعالى ما شرع لعباده شرعاً إلا لحكمة بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها، فإنه تعالى كما أنه لم يخلق خلقه عبثاً، فإنه لم يشرع لهم شيئاً عبثاً، وهو سبحانه الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا بد من حكمة وراء عدم مشروعية القتال إلا في العصر المدني، ولما كانت النصوص الشرعية لم تأت ببيان تلك الحكمة على وجه القطع واليقين؛ فإنه يسوغ لأهل العلم الاجتهاد في بيان تلك الحكمة، بما لا يخالف نصوص الكتاب والسنة.
فمن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (... فكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأموراً أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده... وكان مأموراً بالكف عن قتالهم لعجزه، وعجز المسلمين عن ذلك ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أُذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال، ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكة وانقطع قتال قريش ملوك العرب ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام؛ أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة...) [60].
وقال ابن القيم: (فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأيده الله بنصره وبعباده المؤمنين وألف بين قلوبهم... رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة وصاحوا بهم من كل جانب، والله يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة واشتد الجناح فأذن لهم حينئذ في القتال...) [61].(4/218)
وقال ابن كثير: (كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النُصب، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة؛ منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار...) [62].
وقال أيضاً: (وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عدداً، فلو أُمر المسلمون - وهم أقل من العشر - بقتال الباقين لشق عليهم... فلما استقروا بالمدينة ووافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومعقلاً يلجؤون إليه؛ شرع الله جهاد الأعداء) [63].
وتكاد تجتمع كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذيه ابن القيم وابن كثير؛ على أن حكمة هذا الأمر ترجع إلى الضعف والقوة، وأن الجهاد لم يشرع في مكة نظراً لما كان عليه المسلمون من الضعف وقلة العدد، فلما صار لهم قوة ومنعة شرع القتال والجهاد.
وبهذا قال الإمام الشافعي في كتاب أحكام القرآن الذي جمعه البيهقي من أقواله، فقد جاء فيه: (قال الشافعي رحمه الله: ولما مضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فترة من هجرته، أنعم الله فيها على جماعات باتباعه، حدثت لهم بها مع عون الله عز وجل قوة بالعدد لم يكن قبلها، ففرض الله عز وجل عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضاً، فقال تبارك وتعالى: {كتب عليكم القتال... الآية}) [64].
وهذا المعنى - والله أعلم - في غاية القوة، فإنه يتسق مع المعروف من نصوص الشرع الحنيف القاضية بعدم التكليف بما لا يطاق، كما في قوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها...} (البقرة: 286)، وإن كان هذا لا يمنع من وجود حكم أخرى لا يعلمها إلا الله، وقد يفتح بها على بعض عباده المؤمنين.
وقد وجدت للأستاذ سيد قطب رحمه الله كلاماً في هذه المسألة أحببت أن أشير إليه، لما فيه من حسن أدب مع الله، حيث يقول رحمه الله: (أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض على أوامره أسباباً وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية، أو قد تكون ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها ويعلم سبحانه أن فيها الخير والمصلحة، وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف أو أي حكم في شريعة الله لم يبين الله سببه محدداً جازماً حاسماً، فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف، أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف مما يدركه عقله ويحسن فيه فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال ولا يجزم - مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله - بأن ما رآه هو الحكمة التي أرادها الله نصاً، وليس وراءها شيء وليس من دونها شيء فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله... وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة، نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب على أنه مجرد احتمال وندع ما وراءه لله لا نفرض على أمره أسباباً وعللاً لا يعلمها إلا هو... إنها أسباب اجتهادية تخطيء وتصيب وتنقص وتزيد ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان) [65].
وبعد هذه المقدمة الطيبة التي تنم كما أسلفنا عن أدب جم مع الله تعالى، كما تنم أيضاً عن فهم جيد للقضية المطروحة - وهي قضية حكمة التشريع - يشرع سيد في بيان تصوره لتلك الحكم التي يحددها في سبع نقاط، نلخصها فيما يلي:
ربما كان ذلك؛ لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، ومن أهداف تلك التربية تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به ليخلص من شخصه ولا تعود ذاته، ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره وتربيته كذلك على ضبط أعصابه فلا يندفع لأول مؤثر ولا يهتاج لأول مهيج.
وربما كان ذلك أيضاً لأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف والتي قد يدفعها القتال معها في مثل هذه الفترة إلى زيادة العناد.
وربما كان ذلك أيضاً اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة تعذب المؤمنين بل كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد يعذبونه هم ويفتنونه ويؤدبونه.
وربما كان ذلك لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم هم بأنفسهم سيكونون من جند الله المخلصين.(4/219)
وربما كان ذلك لأن النخوة العربية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ولا يتراجع، وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم، فابن الدغنة - مثلاً - لم يرض أن يترك أبا بكر يهاجر ويخرج من مكة ورأى في ذلك عاراً على العرب، وعرض عليه جواره وحمايته.
وربما كان ذلك أيضاً لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة ويبقى الشرك.
في الوقت ذاته لم تكن هناك ضرورة ملحة لتجاوز هذه الاعتبارات كلها؛ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً وقتها ومحققاً، وهو وجود الدعوة في شخص الداعية صلى الله عليه وسلم، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع [66].
هذا ملخص ما ذكره سيد رحمه الله، نتركه بلا تعليق، وربما نعود إليه بعد قليل.
ولننظر الآن في رأي الدكتور البوطي في هذه القضية من خلال الكتاب المشار إليه.
إن الدكتور البوطي يرى أن المسلمين في مكة: (كانوا أفراداً قلة متناثرين وسط كثرة من الناس التائهين والضالين المشركين... إذن فالمسلمون في مكة كانوا فقراء إلى الأرض التي تكون داراً لهم، وإلى النظام الذي ينسج صلة ما بينهم ويجعل منهم مجتمعاً تستقر أركانه فوق الأرض، ومن ثم لم يكن لهم وراء العقيدة التي يدعون إليها وينافحون بالفكر عنها أي حق ثابت ينهضون بحراسته ويقاتلون من دونه إن اقتضى الأمر، ومن ثم لم يكن للجهاد القتالي أي مبرر آنذاك...) [67].
ويذكر المؤلف أن القتال شرع في المدينة: (... لأن الله أكرم المسلمين لدي هجرتهم إلى المدينة بالأرض التي أورثهم إياها ومكنهم منها والجماعة الإسلامية التي تكاثرت فوق تلك الأرض والنظام الذي جمع شملهم ووحد سلطانهم... إذن فالجهاد القتالي الذي شرع لدي استقرار المسلمين في المدينة... إنما شرع دفاعاً عن هذه الحقوق الثلاثة الأرض التي أورثهم الله إياها، والجماعة المسلمة التي ترسخ وجودها فوق تلك الأرض، والنظام السلطوي الذي أعطى تلك الجماعة القوة والفاعلية. وقد علمت أن المسلمين لم يكونوا يملكون شيئاً من ذلك من قبل) [68].
وينكر المصنف على من يرون أن علة عدم مشروعية القتال بمكة هي ضعف المسلمين وقلة عددهم، ويقول: (ومما يؤكد بطلان هذه العلة لعدم مشروعية القتال آنذاك أن الأمر لو كان كذلك، أي لو كانت العلة عجز النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاومة وعن رد الكيد بمثله؛ إذن لفرضت الطبيعة البشرية نفسها على حاله وتصرفه ولتجلى ذلك - على أقل تقدير - في حقد ينفثه أو توعد يشفي به غليله ولدعا عليهم ذات مرة بالسحق والمحق، سيما وأن دعاء الرسل والأنبياء أمضى من أسلحة الثائرين، ولكنا قد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يستقبل عدوان المشركين إلا بمزيد من الشفقة والرحمة، وما حرك لسانه بالدعاء عليهم حتى في أحلك الساعات وأقسى الظروف التي مرت به في تلك السنوات الطوال التي أمضاها في مكة) [69].
إذن فالكاتب يرى أن السبب في مشروعية الجهاد في العصر المدني دون العصر المكي؛ أنه في العصر المدني فقط اكتملت للمسلمين مقومات الدولة بالمعنى السياسي الحديث، أي الأرض والشعب والسلطة الحاكمة، وأنه لا معول على قضية الضعف والقوة التي قررها العلماء من قبل.
وقد كان يمكن تجاوز هذا الرأي وعدم الوقوف عنده؛ لو أن الكاتب اقتصر على أن رأيه ذاك إنما هو فقط في بيان حكمة التشريع، أي لو اكتفى بالقول بأن ذلك الرأي هو جواب عن السؤال؛ لماذا شرع الجهاد في العصر المدني دون المكي؟ لكنه لم يكتف بذلك بل جعل ما ذكره علة للجهاد القتالي ذاته.(4/220)
وذلك حيث يقول تحت عنوان "الجهاد إنما شرع دفاعاً عن شيء موجود": (ونعني به الجهاد القتالي، وذلك لأن هذا النوع من الجهاد لم يشرعه الله عز وجل إلا بعد أن أورث الله عباده المسلمين أرضاً ودولة وبعد أن مكن لهم دينهم الذي ارتضاه لهم متمثلاً في شرعة سائدة ونظام سلطوي... وهذا يعني أن المسلمين أصبحوا بذلك مُلاكاً لثروة تفوق في الأهمية ثروة الكنوز والأموال، ولا شك أن هذه الثروة ستثير طمع كثير من الأعداء بها أو تخوفهم منها، ومن ثم فإن من المتوقع أن يتحول الطمع إلى هجوم ابتغاء اقتناص هذه الثروة أو القضاء عليها، وهذا ما قد جرى في صدر الإسلام بعد استقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة المنورة فقد تألبت قوى الشر عليه وعلى من معه من المسلمين... وعندئذٍ ولهذا السبب شرع الله لهم الجهاد القتالي ليدافعوا به عن الحق الذي متعهم الله به وملكهم إياه، ونظراً إلى أن هذا الحق لم يكن موجوداً بحوزتهم من قبل فإن هذا النوع من الجهاد أيضاً لم يكن مشروعاً آنذاك، فهذا معنى قولنا: إنما شرع الله الجهاد دفاعاً عن شيء موجود... ولكن ما الذي يجب أن نبنيه على هذه الحقيقة الواضحة؟ إن الذي يجب أن نبنيه عليها هو أن الجهاد القتالي لم يشرع يوماً لإيجاد هذا الحق، أو هذه الثروة من العدم فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقاتل في سبيل الحصول على دار إسلام ولم يقاتل في سبيل بناء دولة إسلامية أو إيجاد حشد من المسلمين تتألف منهم تلك الدولة، ويتحقق بهم نظامها، وإنما قاتل بعد أن منحه الله كل ذلك حراسة له ودفاعاً عنه) [70].
* * *
ونكتفي بهذا القدر من كلام المؤلف لنكشف بحول الله عن جملة من الأخطاء التي وقع فيها، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً:
وقع الكاتب في خلط شديد بين حكمة مشروعية القتال في العصر المدني فقط وبين العلة في تشريع الجهاد نفسه فاعتبرهما شيئاً واحداً، بينما هما في الحقيقة أمران متغايران.
ولست أقصد هنا ما يقصده الأصوليون؛ حين يتحدثون في باب القياس عن التعليل بالحكمة وهل يجوز أم لا؟ وذلك أنهم يفرقون بين الحكمة والعلة فيعتبرون الحكمة هي المصلحة التي قصد الشارع تحقيقها بتشريعه الحكم ويُعَرِّفون العلة بأنها الوصف الظاهر المنضبط الذي بني عليه الحكم وربط به وجوداً وعدماً؛ لأنه مظنة تحقيق المصلحة المقصودة من التشريع [71]، ويضربون لذلك مثالاً بأن الله؟ شرع القصر والفطر للمسافر، والحكمة من ذلك دفع المشقة ولكن هذه الحكمة أمر خفي غير منضبط، ولذا فقد أقام الشارع مقامها العلة وهي السفر لأنه أمر ظاهر منضبط فجعل الحكم مناطاً بنفس السفر لا بالمشقة.
قال الآمدي: (ولهذا فإنه لم يرخص للحمال المشقوق عليه في الحضر - وإن ظن أن مشقته تزيد على مشقة المسافر في كل يوم فرسخ وإن كان في غاية الرفاهية والدعة - لما كان ذلك مما يختلف ويضطرب) [72].
وقد اختلف الناس في التعليل بالحكمة.
قال الآمدي: (ذهب الأكثرون إلى امتناع تعليل الحكم بالحكمة المجردة عن الضابط، وجوزه الأقلون، ومنهم من فصل بين الحكمة الظاهرة المنضبطة بنفسها والحكمة الخفية المضطربة، فجوز التعليل بالأولى دون الثانية، وهذا هو المختار...) [73].
أقول: إنني أبادر فأوضح أن قضيتنا هنا ليست قضية جواز التعليل بالحكمة، حتى لا يُعترض علينا بأن الكاتب ربما كان من هؤلاء الأقلين الذين يرون جواز التعليل بالحكمة؛ لأن الحديث هنا ليس عن الحكمة من مشروعية الجهاد في الإسلام، ولكنه عن الحكمة من تشريع الجهاد على مراحل، وهذا كما ترى أمر آخر ينبغي أن لا تربط به أحكام الجهاد ذاتها.
وإني أضرب لذلك مثالاً يوضح ما أقول؛ فحين نقول - مثلاً - إن الله حرم الخمر وجعل علة التحريم الإسكار، ثم يأتي البعض فيجتهد في الحكمة من ذلك التحريم، فيقول؛ إن حكمة التحريم هي دفع المفاسد المترتبة على شرب الخمر، فهذا هو محل الحديث عن العلة والحكمة الذي يقصده الأصوليون.
أما حينما نقرأ قول عائشة رضي الله عنها: (... إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً...) [74]، فإننا نرى عائشة رضي الله عنها لا تتحدث عن علة تحريم الخمر والزنا، ولا حتى عن الحكمة من هذا التحريم، وإنما تتحدث عن الحكمة من تأخير التحريم، ولذا فإنه لا يجوز لأحد أن يقول إنه لو أسلم رجل الآن؛ فإنه يجوز له الزنا وشرب الخمر ويُكتفى بتعريفه آيات الجنة والنار حتى يقوى إسلامه، فيحرم عليه حينئذٍ الزنا والخمر... فهذا الكلام ما أظن عاقلاً يقوله.
وكذلك نقول هنا: إنه قد يجتهد البعض في الحكمة من عدم مشروعية الجهاد في مكة، لكن ليس له أن يعتبر أن ذلك هو علة الحكم نفسه، فيقول بما أن الحكمة من ذلك أن دولة الإسلام بأركانها الثلاثة لم تكن قد قامت في مكة، فإنه لا يقاتل إلا دفاعاً عن تلك الأركان.(4/221)
أقول: ليس له ذلك لأنه لا يوجد نص شرعي على أن علة القتال هي تلك التي ذكرها، ونحن نعلم أن كثيراً من الشرائع كالزكاة والصيام لم تشرع إلا في المدينة، فهل يصح أن يقال إن علة مشروعية الزكاة والصيام هي وجود الدولة؟! بمعنى أن المسلم لو كان يعيش في غير دار إسلام له أن يقول لا أزكي ولا أصوم؟ لا شك أن الجواب: لا.
فإن قال: إن قضية الجهاد تختلف عن الزكاة والصيام،. قلنا: وما الفرق أليس الكل تشريعاً من عند الله؟
وقد اقتضت حكمته تعالى؛ أن لا يشرع القتال ولا الزكاة ولا الصيام إلا في المدينة بعد قيام الدولة، لكن لا علاقة لوجود الدولة من عدمه بعلة التشريع.
والفيصل هو الدليل، فكما أننا لا نجد دليلاً شرعياً يربط علة مشروعية الزكاة والصيام بموضوع الدولة بأركانها، فكذلك الأمر بالنسبة للجهاد.
والكاتب لم يذكر دليلاً على ما ذهب إليه، إلا استنباطه ذلك الأمر من كون القتال لم يشرع إلا بعد وجود الدولة بأركانها المعروفة، وهذا كما أسلفنا لا يكفي؛ فإن القتال يشاركه في ذلك الزكاة والصيام وغيرهما.
ثانياً:
وإذا كان الكاتب ينكر على من يعتبرون أن الحكمة من وراء هذا التدرج في التشريع؛ هي أن المسلمين كانوا بمكة ضعفاء قليلي العدد، ويقول: (غير أن هذه العلة غير واضحة هنا قط لا على مستوى العلة المؤثرة التي ينبغي أن يكون منصوصاً عليها، ولا على مستوى العلة الملائمة التي تعتمد على انسجامها مع المقاصد الكلية ومع ظاهرة الطرد والعكس) [75].
أقول: إذا كان الكاتب ينكر على أولئك ويطالبهم بالدليل، فإننا نرد الأمر عليه، ونقول له؛ إن ما ذكرته من علة في قضية الجهاد لا يصلح علة مؤثرة ولا علة ملائمة، فإننا لا نجد نصاً يقول لنا بأن العلة من فرضية الجهاد هي ما ذكرت، ولا نجد من المقاصد الكلية للشريعة ما يؤيد دعواك.
ثم إن هؤلاء الذين قالوا بأن الحكمة من وراء عدم تشريع القتال في مكة هي الضعف لم يجعلوا ذلك علة للقتال نفسه، يدور معها حكمه وجوداً وعدماً؛ لأن العلة عندهم شيء آخر منضبط هو أن القتال إنما شرع لإعلاء كلمة الله وإزالة منكر الكفر، وأن علة قتال الكفار هي كفرهم، كما قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (الأنفال: 39).
فالآية ربطت القتال بوجود الفتنة وبكون الدين ليس كله لله.
قال شيخ الإسلام: (فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله) [76].
ثالثاً:
يذكر الكاتب - في معرض إنكاره على من يعتبر أن الحكمة من عدم تشريع الجهاد في مكة أن المسلمين كانوا ضعفاء - أنه لو كان ذلك صحيحاً؛ (لفرضت الطبيعة البشرية نفسها على حاله وتصرفه ولتجلّى ذلك على أقل تقدير في حقد ينفثه أو توعد يشفي به غليله ولدعا عليهم ذات مرة... إلخ كلامه).
وأقول: لست أدري من أين أتى الكاتب بفكرة؛ أنه لو كانت الحكمة من عدم مشروعية الجهاد في مكة هي ضعف المسلمين للزم أن يصدر منه صلى الله عليه وسلم توعد للكافرين ودعاء عليهم؟
إن القول بأن السبب في عدم مشروعية القتال في مكة هو ضعف المسلمين، هو القول الأصح كما أسلفنا، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعُ عليهم ولم يتوعدهم - إن صح - لا يصلح دليلاً على عدم صحة هذا القول، فقد يكون الإنسان ضعيفاً غير قادر على قتال عدوه، ومع ذلك فليس من الضروري أن يصدر منه دعاء ولا توعد.
وبافتراض أن ذلك الدعاء والتوعد مما تقتضيه الطبيعة البشرية؛ فما المانع أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم خصوصية تدفعه إلى إخفاء الأمر في صدره فلا يصدر منه دعاء ولا توعد، فهو صلى الله عليه وسلم - وإن كان بشراً من البشر إلا أنه بشر يوحى إليه - وكم من أمر خالفت فيه طبيعته صلى الله عليه وسلم طبيعة البشر؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي) [77].
ومع ذلك فالذي نفاه الكاتب من الدعاء والتوعد؛ ثابت بالأحاديث الصحيحة الصريحة.
فأما الدعاء فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود: (إن قريشاً لما أبطؤوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام قال: اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة حصَّت كل شيء حتى أكلوا العظام...) [78].
وأما التوعد فقد قال ابن إسحاق: (... فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يُظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر فذكروا رسول صلى الله عليه وسلم... فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول، قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها... ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح...) [79].(4/222)
قال البيهقي في الدلائل: (وفي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أوعدهم بالذبح - وهو القتل في مثل تلك الحال - ثم صدَّق الله تعالى قوله بعد ذلك بزمان، فقطع دابرهم وكفى المسلمين شرهم...) [80].
رابعاً:
يذكر الكاتب أن الجهاد القتالي لم يشرع إلا عندما توفرت للمسلمين هذه الحقوق الثلاثة، فماذا لو كان يوجد للمسلمين حقان فقط من هذه الحقوق؟
إن الجواب عند الكاتب؛ أنه يقاتل دفاعاً عن هذين الحقين أيضاً، وذلك حيث يقول تحت عنوان؛ "فما الموجود اليوم مما يجب الجهاد في سبيله": (إن الموجود الأول هو دار الإسلام أو دور الإسلام، فقد تحولت الدار الواحدة إلى دور مستقلة متفرقة... والموجود الثاني من ذلك الكيانات الإسلامية المتمثلة في دول ذات انتماء إلى الإسلام، بقطع النظر عن مدى التزامها بالشرائع والأحكام الإسلامية، ولا شك أن الجهاد مشروع وقائم عندما يكون دفاعاً عن أي من هذين الحقين الموجودين...) [81].
والسؤال الذي نطرحه بعد هذا الكلام: ماذا لو كان الموجود حقاً واحداً من هذه الثلاثة؟ هل يكون الدفاع عنه مشروعاً أم لا؟
إن الإجابة المنطقية بعد ما رأينا من إجابة السؤال السابق؛ هي أن الجهاد سيكون أيضاً مشروعاً وقائماً كما في الحالة الأولى، وإلا كان الكاتب متناقضاً مع نفسه؛ إذ على أي شيء يعتمد في التفرقة بين حالة وجود حقين، وحالة وجود حق واحد.
وعليه فإننا نقول؛ إن المسلمين في العصر المكي كان لديهم حق واحد أو ركن واحد من هذه الأركان الثلاثة، هذا الركن أو الحق هو وجود الجماعة المسلمة؛ فالمسلمون في مكة لم يكونوا أفراداً متناثرين كما ذكر الكاتب في [ص: 74] من كتابه، بل كانوا جماعة منظمة لها قائد ترجع إليه، وما كان اجتماعه صلى الله عليه وسلم بهم في دار الأرقم إلا نوعاً من التنظيم الجماعي.
ومما يدل على ذلك أن الصحابة في مكة كانوا يستأذنونه في أمورهم، ولا يقضون أمراً إلا بإذنه، كما في حديث ابن عباس: (أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة، قال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا...) [82]
إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على أن المسلمين كانوا بمكة جماعة لها إمام، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعجيب أن الكاتب نفسه يعترف في كتابه "فقه السيرة"؛ بأن الرسول في مكة كان إماماً، إذ يقول تعليقاً على سِرِّية الدعوة في مكة: (ومن هنا ندرك أن أسلوب دعوته عليه الصلاة والسلام في هذه الفترة كان من قبيل السياسة الشرعية بوصف كونه إماماً، وليس من أعماله التبليغية عن الله تعالى بوصف كون نبياً) [83].
وهو في كتاب الجهاد يعرف أحكام الإمامة بأنها؛ (تلك التي خوطب بها أئمة المسلمين بدءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث هو الإمام الأعلى لسائر المسلمين...) [84].
فهو قد أثبت له صلى الله عليه وسلم حكم الإمامة بمكة، وهذا يعني أن هناك جماعة هو إمامها.
والمقصود؛ أن المسلمين في مكة كانوا جماعة من الناس متجانسين تجمع بينهم العقيدة الواحدة، ولهم إمام واحد، فكان مقتضى فهم المؤلف لقضية الجهاد أن يشرع الجهاد في العصر المكي دفاعاً عن وجود هذه الجماعة المتميزة بأفرادها، فلما لم يشرع الجهاد في مكة؛ دل على أن العلة ليست هي وجود الدولة بمقوماتها الثلاثة أو عدمها.
خامساً:
يخلص الكاتب من محاولته السابقة إلى أن الجهاد القتالي لم يشرع يوماً لإيجاد هذا الحق، بدعوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقاتل في سبيل الحصول على دار إسلام، ولم يقاتل في سبيل بناء دولة إسلامية.
وأقول: إن كلام المؤلف هنا يناقض ما قرره هو نفسه في "فقه السيرة" حيث يقول: (أما معنى الجهاد: فهو بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمة الله وإقامة المجتمع الإسلامي، وبذل الجهد بالقتال نوع من أنواعه، أما غايته فهو إقامة المجتمع الإسلامي وتكوين الدولة الإسلامية الصحيحة) [85].
وكلام الكاتب القديم هو الذي تدل عليه النصوص الشرعية، فإنه إذا كان الرسول لم يقاتل من أجل إقامة دولة، فإنه شرع ذلك لنا، والأحكام الشرعية لا تثبت بفعله صلى الله عليه وسلم فقط، بل تثبت بالقرآن الكريم، والسنة القولية والفعلية؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) [86].
ولا شك أن من إعلاء كلمة الله؛ إيجاد دولة للمسلمين يحكمون فيها بشرع الله عز وجل.
سادساً:
يشتد نكير الكاتب في مقدمة كتابه المشار إليه على ما يسمى بـ "الفكر الإسلامي"، ويرى أن من أكبر المشكلات في حياتنا الإسلامية اليوم إحلال الفكر الإسلامي محل العلم بحقائق الإسلام والتزود من أحكامه الفقهية الثابتة.
وهو يعرف "الفكر الإسلامي" بأنه: (يشمل سائر المحاولات الثقافية والدرسية للتعرف على جانب ما من جوهر الإسلام وحقيقته، كما يشمل سائر التصورات الذاتية التي يعود بها الدارس أو الباحث، دقيقة كانت أو سطحية، بل صحيحة كانت أم باطلة) [87].(4/223)
ويعرف "العلوم الإسلامية" بأنها: (كل ما يتضمنه الإسلام بيقين من العقائد والأحكام والنصوص الدالة عليها...) [88].
وأقول: لقد أثبت الكاتب في كتابه هذا أنه لا يبعد كثيراً عن أصحاب الفكر الذين أشار إليهم، إذ حشاه بأقوال لا تجدها في شيء من دواوين العلم الإسلامي المعروفة، فضلاً عن أن يكون لها مستند من كتاب أو سنة أو إجماع.
وهذه القضية التي أشرنا إليها مثال على ذلك، فإننا لا نعلم أحداً من السلف فهم الذي فهمه الدكتور البوطي - أعني أن الجهاد لا يكون إلا دفاعاً عن شيء موجود - وما ذكره مما اعتبره دليلاً ليس إلا تصوراً خاصاً به يُقرِّبه من أولئك الذين حمل عليهم واشتد نكيره على مسلكهم.
وأحب أن أرجع هنا إلى ما نقلناه في أوائل هذا الفصل من كلام سيد قطب؛ فإن سيداً رحمه الله محسوب عند الكثيرين على أصحاب الفكر، وأنه لم يكن من علماء الدين المتخصصين، لكنا نراه في هذه القضية أقرب إلى النصوص الشرعية من الدكتور البوطي، الذي يزعم أن كتابه هذا من قبيل كتب العلوم الإسلامية لا الفكر الإسلامي.
* * *
وذلك يتجلى في نظري في أمرين:
الأول: أنه تفطن لأصل القضية، وهو أن الحديث حينما يكون عن مراحل تشريع الجهاد والحكمة منها فإنه لا يعني الحديث عن العلة التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً؛ فإن العلة من القتال عند سيد رحمه الله واضحة ولا علاقة لها بقضية المراحل.
فهو يعرف أن الجهاد: (حال دائمة لا يكف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله) [89].
ولذلك فإنه يقول فيما نقلناه عنه سابقاً عن اجتهاداته تلك في موضوع الحكمة: (إنها أسباب اجتهادية تخطيء وتصيب، وتنقص وتزيد، لا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان) [90].
فتلمس الحكمة من مراحل تشريع الجهاد يستفاد منه في تدبر أحكام الله ومعرفة سننه سبحانه في خلقه، وقد يستأنس بها الداعية في معرفة سياسة الدعوة وتحديد أولوياتها، كل ذلك وما أشبهه ممكن، أما أن تكون تلك الحكم هي العلة من الجهاد نفسه، فإن سيداً بتوفيق من الله لم يقع في هذا الخلط الذي وقع فيه الكاتب.
الثاني: أن كلامه رحمه الله قد تحلى بالأدب الشديد مع الله، فهو يعتبر كلامه هذا مجرد اجتهاد، ولا يعتبره القول الفصل في المسألة، ويعتبر الجزم في أمر لم تجزم به النصوص نوعاً من التألي على الله، وشتان ما بين هذا المسلك ومسلك من وضع لنفسه رأياً في المسألة ثم راح ينكر على الآخرين الذين نظروا إلى قضية الضعف والقوة، مع أن النصوص الشرعية أقرب إلى هؤلاء وأبعد عنه.
[60] الجواب الصحيح (1/74).
[61] زاد المعاد (2/58).
[62] تفسير القرآن العظيم (1/526).
[63] المصدر السابق (3/226).
[64] أحكام القرآن (2/18).
[65] في ظلال القرآن (2/713-714).
[66] انظر الظلال (2/714-715).
[67] الجهاد في الإسلام ص: 74.
[68] المصدر السابق ص: 79.
[69] المصدر السابق ص: 76.
[70] المصدر السابق ص: 196-197.
[71] انظر الوجيز في أصول الفقه لعبد الكريم زيدان: ص 203.
[72] الإحكام في أصول الأحكام (3/291).
[73] المصدر السابق (3/290).
[74] أخرجه البخاري (4993).
[75] الجهاد في الإٍسلام ص: 75.
[76] مجموع الفتاوى (28/511).
[77] أخرجه البخاري (1147)، ومسلم (738) وأبو داود (1341) الترمذي (439) والنسائي (3/234) من حديث عائشة رضي الله عنها
[78] أخرجه البخاري (1007)، (4693) ومسلم (2798) والترمذي (3254).
[79] أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (1/ 289 -290) وأخرجه أحمد (2/ 218) والبيهقي في دلائل النبوة (2 / 275) والطبري في التاريخ (2 / 332) وأورده الهيثمي في المجمع (6 / 15 -16) وقال: "رواه أحمد وقد صرح ابن اسحاق بالسماع وبقية رجاله رجال الصحيح ". وقال الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (11/204): " إسناده صحيح: يحيى بن عروة بن الزبير ثقة وثقه النسائي وغيره وأخرج له الشيخان في الصحيحين...". والحديث أخرجه البخاري مختصراً (3678) (3856)، (4815) وليس عنده قوله: (قد جئتكم بالذبح) ولكنه أشار إلى رواية ابن إسحاق فقال بعد الحديث (3856): " تابعه ابن اسحاق حدثني يحيى بن عروة بن الزبير قلت لعبد الله بن عمرو... "، وقال الحافظ في الفتح (7/206): " وصله أحمد من طريق إبراهيم بن سعد، والبزار من طريق بكر بن سليمان كلاهما عن ابن إسحاق بهذا السند... ".
[80] دلائل النبوة (2/275).
[81] الجهاد في الإسلام ص: 197.
[82] سبق تخريجه.
[83] فقه السيرة ص: 107.
[84] الجهاد في الإسلام: ص 112.
[85] فقه السيرة ص: 185.
[86] أخرجه البخاري (123) ومسلم (1904) وأبو داود (2517) والترمذي (1646) والنسائي (6/23) وابن ماجه (2783) من حديث أبي موسى.
[87] الجهاد في الإسلام ص: 11.
[88] المصدر السابق: نفس الصفحة.
[89] الظلال (3/1437).
[90] المصدر السابق (2/714).
==============(4/224)
استعانة المسلمين بالدولة الكافرة على دولة كافرة
[الكاتب: حمود بن عقلاء الشعيبي]
اتفق جمهور فقهاء الأمة وعلمائها على تحريم هذا النوع تحريماً عاماً لا يستثنى منه شيء واستدل أصحاب هذا المذهب بأمور منها:
أولاً: الكتاب العزيز:
حيث شدد سبحانه وتعالى في النهي عن موالاة الكفار والركون إليهم واتخاذهم أولياء وأصدقاء في كثير من آيات الكتاب العزيز فمن ذلك قوله: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} [151]، وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [152]. وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً} [153]. وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [154]، فهذه الآيات وأمثالها كثيرة في الكتاب العزيز، كلها تحذر من الركون إلى الكافرين وموالاتهم واتخاذهم أصدقاء، والاستعانة بالكفار لا تتم إلا بموالاتهم والركون إليهم.
ثانياً: من السنة المطهرة:
ومنها: ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل بدر فلما كان بحرَّة الوَبَره أدركه رجل قد كان يذكر منه جُرأة ونَجْدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: فارجع فلن استعين بمشرك قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قال ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة تؤمن بالله ورسوله قال نعم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق " [155].
ومنها: ما أخرجه الطحاوي [156]والحاكم [157] عن أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أحد حتى إذا جاوز ثنية الوداع إذا هو بكتيبة خشناء [158]، فقال من هؤلاء؟ فقالوا: هذا عبد الله ابن أبي بن سلول في ستمائة من مواليه من اليهود أهل قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام قال: وقد أسلموا؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين " [159].
ومنها: ما رواه الإمام أحمد والحاكم عن خبيب بن أساف قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فأتيته أنا ورجل قبل أن نسلم فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهداً ولا نشهده معهم، فقال: أأسلمتما قلنا: لا. قال: فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين " [160].
هذه النصوص كما ترى غاية في الصحة والصراحة على تحريم الاستعانة بالمشركين في الحرب والقتال، فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستعين بكافر أو يجيز الاستعانة بهم وهو يعلم هذه النصوص الصحيحة الصريحة. وكما ثبت بالكتاب والسنة منع الاستعانة بالكفار كما ترى فكذلك الصحابة رضوان الله عليهم ذهبوا إلى منع الاستعانة بالكفار ومن ذلك ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إنكاره على أبي موسى حينما استعمل كاتباً نصرانياً ذكر ذلك البيهقي عن أبي موسى: " أنه استكتب نصرانياً فانتهره عمر وقرأ: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء... الآية} [161]. فقال أبو موسى والله ما توليته وإنما كان يكتب فقال: أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب؟ فقال: لا تدنهم إذ أقصاهم الله ولا تأمنهم إذ خونهم الله ولا تعزهم بعد أن أذلهم الله " [162].
وقد ذكر صاحب المذمَّة [163] عن عمر رضي الله عنه غير هذا الخبر فقال: وكتب إليه بعض عماله (أي عمر) ليستشيره في استعمال الكفار فقال: " إن المال قد كثر وليس يحصيه إلا هم فاكتب إلي بما ترى فكتب إليه: لا تدخلوهم في دينكم [164] ولا تسلموهم ما منعهم الله منه ولا تؤمنوهم على أموالكم وتعلّموا فإنما هي الرجال "، وكتب رضي الله عنه إلى عماله أما بعد: " فإنه من كان قِبَله كاتب من المشركين فلا يعاشره ولا يوادده ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده ".(4/225)
وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان: " أما بعد: يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتباً نصرانياً لا يتم أمر الخراج إلا به فكرهت أن أقلده دون أمرك فكتب إليه: عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني: " أما بعد: فإن النصراني قد مات والسلام " [165]، وكان لعمر عبد نصراني فقال له: أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم فأبى فأعتقه وقال: اذهب حيث شئت " وكتب رضي الله عنه إلى أبي هريرة رضي الله عنه: أما بعد: فللناس نفره على سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك أقم الحدود ولو ساعة من النهار فإذا حضرك أمران أحدهما: أمر لله والآخر للدنيا فآثر الله على نصيبك من الدنيا فإن الدنيا تفقد والأخرى تبقى عد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح بابك وباشرهم وأبعد أهل الشرك وأنكر أفعالهم ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك وساعد على مصالح المسلمين لنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله سبحانه جعلك حاملاً لأثقالهم.
كما ذكر أيضاً [166] عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى جميع عماله في الآفاق: " أما بعد فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ} [167]، جعلهم نجساً حزب الشيطان وجعلهم الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً واعلموا أنه لم يهلك هالك قبلكم إلا بمنعه الحق وبسط يد الظلم وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا بلداً أتاهم أهل الشرك فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير ولا خير ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله وقد كان لهم في ذلك مدة وقد قضاها الله، فلا أعلم أن أحداً من العمال أبقى في عمله رجلاً متصرفاً على غير دين الإسلام إلا نكّلت به فإن محو عمالكم كمحو دينهم وأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار " اهـ.
فإن قيل هذه النصوص التي أوردتموها كلها في رفضه عليه الصلاة والسلام الاستعانة بالأفراد أما عدم الاستعانة بالدولة الكافرة فلم يرد فيه نص يمنعه فالجواب أن يقال:
أولاً: قوله صلى الله عليه وسلم: " لن أستعين بمشرك " مشرك هنا نكرة جاءت في سياق النفي واتفق علماء الأصول على أن النكرة في سياق النفي صيغة من صيغ العموم فيكون قوله " لن استعين بمشرك " يعم كل مشرك فرداً كان أو دولة.
ثانياً: الضرر المتوقع والخطر المحتمل من الاستعانة بالفرد الكافر أخف من الضرر المترتب على الاستعانة بالدولة لأن الفرد يكون تحت سيطرة المسلمين ومراقبتهم له أما الدولة فإن قوتها وقدرتها على إيقاع الضرر بالمسلمين أكثر من قدرة الفرد المتوقع حصولها ضد المسلمين فعلى هذا يكون تحريم الاستعانة بالدولة الكافرة أولى من تحريم الاستعانة بالفرد الكافر وبهذا يتبين أن الاستعانة بالكفار لا تجوز مطلقاً أفراداً كانوا أو دولاً.
أما من جوز الاستعانة بالكفار من العلماء فقد استدل بأدلة واهية لا توصل إلى المدّعى لأنها إما ضعيفة أو غير صريحة في الدلالة أو متناقضة وإليك ما استدل به والجواب عنه:
1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام: " هذا من أهل النار ". فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفاً " إنه من أهل النار " فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إلى النار ". فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت، ولكن به جراحاً شديداً، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال " الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله "، ثم أمر بلالاً فنادى في الناس: " إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " [168]. قالوا: فهذا الذي قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات إلى النار فربما أنه كان في حقيقة أمره كافراً أو أنه ارتاب وشك في الإيمان فمات كافراً قالوا ويؤيد ذلك آخر الحديث وهو: " الرجل الفاجر " فالفجور عام ويشمل الفسق والكفر.
2) واشتهر عند أهل السير أن صفوان بن امية شهد حنيناً مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان مشركاً قال ابن حجر [169]: " وقصته مشهورة في المغازي " [170].
3) وجاء عن بعض أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود ولم يسهم لهم قال الإمام الترمذي [171] يروى عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه [172].
4) روى أبو داود بسنده قال: قال جبير: انطلق بنا إلى ذي مِخْبر - رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فأتيناه، فسأله جبير عن الهدنة، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستصالحون الروم صلحاً آمناً، وتغزون أنتم وهم عدوَّاً من ورائكم " [173].
5) وروى البيهقي أن سعد بن مالك غزا بقوم من اليهود فرضخ لهم " [174].(4/226)
وهذه الأدلة كما ترى لا تفيد جواز الاستعانة بالكفار لأنها ضعيفة لا توصل إلى المدعى إما في دلالتها وإما في ثبوتها فحديث أبي هريرة ليس صريحاً في أن الرجل الذي قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم كان كافراً بل فيه عكس ذلك حيث قال أبو هريرة رضي الله عنه أنه " يدعي الإسلام " كما أن القصة لا تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان به وإنما أذن له فقط في الحضور والقتال، وكذلك الشأن في قصة صفوان فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه أن يقاتل بل إنه هو بنفسه الذي شهد الوقعة ولم يثبت أنه قاتل وإنما كان خروجه مع المسلمين للتفرج والنظر فيما يحصل ولهذا لما انهزم المسلمون في أول وهلة فرح أبو سفيان بذلك وقال: " والله لا يرد هزيمتهم البحر " فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن " [175] اهـ.
ثم إن الخبر الوارد في قصة صفوان على الرغم من أنه لم يتضمن الدلالة على أن صفوان قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا تثبت به حجة، وهو غير ثابت وفيه اضطراب شديد بمتنه وسنده، قال أبو عمر بن عبد البر[176]: حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن محمد وسلمة بن شبيب قالا: حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية ابن صفوان ابن أمية عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعاً يوم حنين فقال: اغصب يا محمد. فقال: بل عارية مضمونة [177]. ثم قال ابن عبد البر قال أبو داود: هذه رواية يزيد ببغداد وفي روايته بواسط غير هذا قال أبو داوود وكان أعاره قبل أن يسلم ثم أسلم: قال أبو عمر: حديث صفوان هذا اختلف فيه على عبد العزيز بن رفيع اختلافاً يطول ذكره فبعضهم يذكر فيه الضمان وبعضهم لا يذكره وبعضهم يقول عن عبد العزيز عن ابن أبي مليكة عن ابن صفوان قال: " استعار النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول عن أبيه ومنهم من يقول عن عبد العزيز بن رفيع عن أناس من آل صفوان أو من آل عبد الله بن صفوان مرسلاً أيضاً وبعضهم يقول فيه عن عبد العزيز بن رفيع عن عطاء عن أناس من آل صفوان ولا يذكر فيه الضمان ولا يقول مؤداه بل عارية فقط والاضطراب فيه كثير ولا يجب عندي بحديث صفوان هذا حجة من تضمين العارية والله أعلم.
وقال أبو محمد علي بن حزم [178]: أما خبر دروع صفوان فإنا رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنبأنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام أنبأنا يزيد بن هارون أنبأنا شريك هو ابن عبد الله القاضي عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدرعاً فقال: غصب يا محمد. قال بل عارية مضمونة " شريك مدلس للمنكرات إلى الثقات، وقد روى البلايا والكذب الذي لا شك فيه عن الثقات ".
وقال أيضاً رحمه الله: ومن طريق مسدد أنبأنا أبو الأحوص حدثنا عبد العزيز بن رفيع عن عطاء بن أبي رباح عن ناس من آل صفوان بن أمية استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان سلاحاً فقال: أعارية أم غصب؟ قال: بل عارية ففقدوا منها درعاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت غرمناها لك فقال يا رسول الله إن في قلبي من الإيمان ما لم يكن يومئذ. هذا عند ناس لم يسموا.
ومن طريق أحمد بن شعيب أنبأنا أحمد بن سليمان حدثنا عبيد الله ابن موسى أنبأنا إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعاً فهلك بعضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت غرمناها لك فقال: لا يا رسول الله " إسرائيل ضعيف وقال في ص17 وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد عن عبد العزيز بن رفيع عن إياس بن عبد الله بن صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أراد حنيناً قال لصفوان هل عندك سلاح. قال: عارية أم غصباً؟ قال لا بل عارية فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعاً فلما هزم المشركون جمعت دروع صفوان ففقد منها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا فقدنا من أدرعك أدرعاً فهل نغرم لك فقال: لا يا رسول الله إن في قلبي اليوم ما لم يكن " فهذا مرسل " اهـ.
أما خبر خروج يهود بني قينقاع مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه أسهم لهم أو رضخ لهم فهالك لأسباب:
أولاً: أن الخبر من مراسيل الزهري ومعلوم أن مراسيل الزهري ضعيفة.
ثانياً: أنه ورد ما يعارضه فقد روى الطحاوي [179] والحاكم [180]: هذا الحديث من طريق الفضل ابن موسى السيناني شيخ إسحاق بن راهويه قال الطحاوي حدثنا عبيد بن رجال قال حدثنا محمد بن عمرو عن سعد ابن المنذر بن أبي حميد الساعدي عن جده الساعدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا هو بكتيبة خشناء فقال: من هؤلاء فقالوا بنو قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام وقوم عبد الله بن أبي بن سلول فقال: أسلموا. فأبوا قال: قل لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين ".(4/227)