النَّبِيَّ - عليه السلام - بِمِيثَاقٍ مَعْقُودٍ , هَذَا مَعَ قوله تعالى { فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ * إلَى قوله تعالى { سَبِيلًا * فَإِنَّ هَذَا بَيَانٌ جَلِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ الْأَنْصَارِ , وَمِنْ غَيْرِ الْمُنَافِقِينَ , لَكِنْ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُجَاهِرِينَ بِالْكُفْرِ . إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : إنَّ قوله تعالى { إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ * اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي قَوْلِ { آخَرِينَ * وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ النِّفَاقِ عَلَى أُولَئِكَ إنْ كَانَ هَكَذَا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ أَنَّ فِي قوله تعالى { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً * أَنَّهُ فِي قَوْمٍ مِنْ الْكُفَّارِ غَيْرِ أُولَئِكَ , فَحَسْبُنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى أُولَئِكَ الرَّاجِعِينَ " مُنَافِقِينَ " فَصَارُوا مَعْرُوفِينَ ؟ قِيلَ لَهُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : وَقَدْ قُلْنَا إنَّ النِّفَاقَ قِسْمَانِ : قِسْمٌ لِمَنْ يُظْهِرُ الْكُفْرَ وَيُبْطِنُ الْإِيمَانَ , وَقِسْمٌ لِمَنْ يُظْهِرُ غَيْرَ مَا يُضْمِرُ فِيمَا سِوَى الدِّينِ وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا , وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ : إنَّا نَدْخُلُ عَلَى الْإِمَامِ فَيَقْضِي بِالْقَضَاءِ فَنَرَاهُ جَوْرًا فَنَمْسِكُ ؟ فَقَالَ : إنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعُدُّ هَذَا نِفَاقًا , فَلَا نَدْرِي مَا تَعُدُّونَهُ أَنْتُمْ ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ وَقَالَ إنِّي مُسْلِمٌ * . فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَقْطَعَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِسْلَامِ إلَّا بِنَصٍّ , وَلَكِنَّا نَقْطَعُ عَلَيْهِمْ بِمَا قَطَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ اسْمِ النِّفَاقِ , وَالضَّلَالَةِ , وَالْإِرْكَاسِ , وَخِلَافِ الْهُدَى - وَلَا نَزِيدُ وَلَا نَتَعَدَّى مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِآرَائِنَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * إلَى قَوْلِهِ : { أَجْرًا عَظِيمًا * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَمُنَافِقُونَ النِّفَاقَ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ , فَلَا شَكَّ لِنَصِّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمْ مُذَبْذَبُونَ , لَا إلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا إلَى الْمُجَاهِرِينَ بِالْكُفْرِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ , وَأَنَّهُمْ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْ الْكُفَّارِ , بِكَوْنِهِمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . وَلَكِنْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَهُمْ , بِأَعْيَانِهِمْ , وَعَرَفَ نِفَاقَهُمْ , إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ , فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَهُمْ , وَعَرَفَ نِفَاقَهُمْ . ثُمَّ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ قوله تعالى { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ * إلَى قوله تعالى { أَجْرًا عَظِيمًا * مُوجِبًا لِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ إذَا تَابُوا - وَهُمْ قَدْ أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ , وَالنَّدَمَ , وَالْإِقْرَارَ بِالْإِيمَانِ بِلَا شَكٍّ , فَبَطَلَ عَنْهُمْ بِهَذَا حُكْمُ النِّفَاقِ جُمْلَةً فِي الدُّنْيَا , وَبَقِيَ بَاطِنُ أَمْرِهِمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي عَلَى كُلِّ آيَةٍ فِيهَا نَصٌّ بِأَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَ مُنَافِقًا بِعَيْنِهِ , وَعَرَفَ نِفَاقَهُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ * إلَى قوله تعالى { فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمٍ يُسَارِعُونَ فِي الَّذِينَ كَفَرُوا حَذَرًا أَنْ تُصِيبَهُمْ دَائِرَةٌ , وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْكَافِرِينَ { أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ * يَعْنُونَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا خَبَرًا عَنْ قَوْمٍ أَظْهَرُوا الْمَيْلَ إلَى الْكُفَّارِ فَكَانُوا مِنْهُمْ كُفَّارًا خَائِبِي الْأَعْمَالِ وَلَا يَكُونُونَ فِي الْأَغْلَبِ إلَّا مَعْرُوفِينَ , لَكِنَّ قوله تعالى { فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * دَلِيلٌ عَلَى(2/57)
نَدَامَتِهِمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ , وَأَنَّ التَّوْبَةَ لَهُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذِهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ * إلَى قوله تعالى { لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ * قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَهَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ بِلَا شَكٍّ , وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْلَمُونَهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخَاطَبٌ بِهَذَا الْخِطَابِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا شَكٍّ فَهُوَ لَا يَعْلَمُهُمْ , وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُهُمْ , وَقَالَ تَعَالَى { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوك * إلَى قوله تعالى { كَارِهُونَ * ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : لَيْسَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إلَّا أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ كَاذِبِينَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ فِي ذَلِكَ , وَأَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ , وَهَذِهِ صِفَةُ كُلِّ عَاصٍ فِي مَعْصِيَتِهِ . وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا : مُعَاتَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عليه السلام - عَلَى إذْنِهِ لَهُمْ . وَأَمَّا قوله تعالى { لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ * إلَى قوله تعالى { يَتَرَدَّدُونَ * فَإِنَّ وَجْهَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ لَا تُصْرَفَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ , وَلَا إجْمَاعٍ : أَنَّهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ ; لِأَنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ الِاسْتِقْبَالِ . وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ تَبُوكَ , وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ تَبُوكَ غَزْوَةٌ أَصْلًا , وَلَكِنَّا نَقْطَعُ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هُنَاكَ غَزْوَةٌ بَعْدَ تَبُوكَ وَبَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فَاسْتَأْذَنَ قَوْمٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْقُعُودِ دُونَ عُذْرٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَكَانُوا بِلَا شَكٍّ مُرْتَابَةً قُلُوبُهُمْ كُفَّارًا بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مُتَرَدِّدِينَ فِي الرَّيْبِ - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ . ثُمَّ قوله تعالى { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً * إلَى قوله تعالى { كَارِهُونَ * فَهَذِهِ أَخْبَارٌ عَمَّا خَلَا لَهُمْ وَعَنْ سَيِّئَاتٍ اقْتَرَفُوهَا , وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُوجِبُ لَهُمْ الْكُفْرَ , حَتَّى لَوْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وقوله تعالى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي * إلَى قوله تعالى { وَهُمْ فَرِحُونَ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : قَدْ قِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ - وَهَذَا لَا يَنْسَنِدُ أَلْبَتَّةَ , وَإِنَّمَا هُوَ مُنْقَطِعٌ مِنْ أَخْبَارِ الْمَغَازِي , وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ يُقَالُ : هَذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَا شَكٍّ . وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ كَفَرَ بِذَلِكَ , وَلَكِنَّهُ عَصَى و ( . . . ) وَأَذْنَبَ , وَبَلَى { إنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ بِهَذَا النَّصِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ كَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ . وَأَمَّا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ إنْ أَصَابَتْ رَسُولَهُ - عليه السلام - سَيِّئَةٌ وَمُصِيبَةٌ تَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ , أَوْ أَنَّهُ إنْ أَصَابَتْهُ حَسَنَةٌ سَاءَتْهُمْ , فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ بِلَا شَكٍّ , وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ : ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي , كَانَ مِنْهُمْ , وَلَا فِيهَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام عَرَفَهُمْ وَعَرَفَ نِفَاقَهُمْ - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ * إلَى قَوْلِهِ { يَفْرَقُونَ * ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَكُفَّارٌ بِلَا شَكٍّ , مُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ , وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ , وَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا , وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةٌ وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ لِيُمَيِّزُوهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ . وَلَيْسَ فِي قوله تعالى { فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ * دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ , وَأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ نِفَاقَهُمْ , بَلْ قَدْ كَانَ لِلْفُضَلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ - رضي الله عنهم - الْأَمْوَالُ الْوَاسِعَةُ , وَالْأَوْلَادُ النُّجَبَاءُ الْكَثِيرُ : كَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ , وَأَبِي طَلْحَةَ , وَغَيْرِهِمَا - فَهَذِهِ(2/58)
صِفَةٌ عَامَّةٌ يَدْخُلُ فِيهَا الْفَاضِلُ الصَّادِقُ , وَالْمُنَافِقُ , فَأَمَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ أَنْ لَا تُعْجِبَهُ أَمْوَالَهُمْ , وَلَا أَوْلَادَهُمْ , عُمُومًا , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ وَيَمُوتُوا كُفَّارًا وَلَا بُدَّ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُك فِي الصَّدَقَاتِ * إلَى قوله تعالى { رَاغِبُونَ * ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَهَذَا لَا يَدُلُّ أَلْبَتَّةَ لَا بِنَصٍّ , وَلَا بِدَلِيلٍ عَلَى كُفْرِ مَنْ فَعَلَ هَذَا , وَلَكِنَّهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا شَكٍّ . وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ * إلَى قوله تعالى { ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ * . قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِ مَنْ قَالَ حِينَئِذٍ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُذُنٌ , وَإِنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا مَنْ قَالَ ذَلِكَ , وَآذَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ , وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ , وَأَنَّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَلَهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا . فَقَدْ جَاءَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك لَأَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ إلَّا نَفْسِي , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلَامًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَمَّا الْآنَ فَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَا يَصِحُّ أَنَّ أَحَدًا عَادَ إلَى أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُحَادَّتِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِالنَّازِلِ فِي ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا كَانَ كَافِرًا . وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ امْرَأً لَوْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْخَمْرَ - حَلَالٌ , وَأَنْ لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ صَلَاةٌ , وَهُوَ لَمْ يَبْلُغْهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِلَا خِلَافٍ يُعْتَدُّ بِهِ , حَتَّى إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَتَمَادَى حِينَئِذٍ بِإِجْمَاعِ الْأَمَةِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَيُبَيَّنُ هَذَا قوله تعالى فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ { يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * فَقَدْ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَإِرْضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَقُّ عَلَيْهِمْ مِنْ إرْضَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَصَحَّ هَذَا بِيَقِينٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَسْتَعِينُ . وَقَالَ تَعَالَى { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا لَا نَصَّ فِيهَا عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَلَا مُتَعَلَّقَ فِيهَا لِأَحَدٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى . وَقَالَ تَعَالَى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ * إلَى قوله تعالى { كَانُوا مُجْرِمِينَ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذِهِ بِلَا شَكٍّ فِي قَوْمٍ مَعْرُوفِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَلَكِنَّ التَّوْبَةَ مَبْسُوطَةٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * فَصَحَّ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ وَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ , فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ اللَّهُ تَعَالَى تَوْبَتَهُ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَهُ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِصِحَّتِهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ فِي الْبَاطِنِ فَهُمْ الْمُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ , وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَقَدْ تَابَ جَمِيعُهُمْ بِنَصِّ الْآيَةِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ * إلَى قوله تعالى { عَذَابٌ مُقِيمٌ * . قَالَ : فَهَذِهِ صِفَةٌ عَامَّةٌ لَمْ يَقْصِدُ بِهَا إلَى التَّعْرِيفِ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ , وَهَذِهِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ * إلَى قوله تعالى { وَلَا نَصِيرٍ * . قَالَ : فَهَذِهِ آيَةٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِمُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ , وَالْجِهَادُ(2/59)
قَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ , وَالْمَوْعِظَةِ , وَالْحُجَّةِ : كَمَا نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ نا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ نا أَبُو دَاوُد نا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ نا حَمَّادُ - هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ - عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ , وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا * صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَذَلَ لَهُمْ التَّوْبَةَ وَقَبِلَهَا مِمَّنْ أَحَاطَهَا مِنْهُمْ وَكُلُّهُمْ بِلَا شَكٍّ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ . وَبُرْهَانُ ذَلِكَ : حَلِفُهُمْ وَإِنْكَارُهُمْ فَلَا مُتَعَلَّقَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ * إلَى قوله تعالى { يَكْذِبُونَ * . قَالَ : وَهَذِهِ أَيْضًا صِفَةٌ أَوْرَدَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَعْرِفُهَا كُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ , وَلَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا دَلِيلٌ , عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا مَعْرُوفٌ بِعَيْنِهِ , عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِّينَا أَثَرًا لَا يَصِحُّ , وَفِيهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ - وَهَذَا بَاطِلٌ , لِأَنَّ ثَعْلَبَةَ بَدْرِيٌّ مَعْرُوفٌ , وَهَذَا أَثَرٌ : نا حُمَامٌ نا يَحْيَى بْنُ مَالِكِ بْنِ عَائِذٍ نا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي غَسَّانَ نا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْبَاجِيَّ ني سَهْلٌ السُّكَّرِيُّ نا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَرَّازُ نا مِسْكِينُ بْنُ بُكَيْرٍ نا مَعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ السَّلَامِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : { جَاءَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ بِصَدَقَتِهِ إلَى عُمَرَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا وَقَالَ : لَمْ يَقْبَلْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَبُو بَكْرٍ , وَلَا أَقْبَلُهَا ؟ * قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَبْضِ زَكَوَاتِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَمَرَ عليه السلام عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ لَا يَبْقَى فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ , فَلَا يَخْلُو ثَعْلَبَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَفَرَضَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ قَبْضَ زَكَاتِهِ وَلَا بُدَّ , وَلَا فُسْحَةَ فِي ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَفَرَضَ أَنْ لَا يُقِرَّ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ - فَسَقَطَ هَذَا الْأَثَرُ بِلَا شَكٍّ , وَفِي رُوَاتِهِ : مَعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ - وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَلْهَانِيُّ - وَكُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ , وَمِسْكِينُ بْنُ بُكَيْرٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ . وَقَالَ تَعَالَى { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ * إلَى قوله تعالى { فَاسِقُونَ * . وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا * إلَى قوله تعالى { وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : قَدَّمْنَا هَذِهِ الْآيَةَ وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ ; لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةُ الْمَعَانِي بِاَلَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَهَا , لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ - ثُمَّ نَذْكُرُ الْقَوْلَ فِيهِمَا جَمِيعًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا : أَنَّهُمْ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ - وَهَذَا لَيْسَ كُفْرًا بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَأَمَّا قوله تعالى { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ * إلَى قوله تعالى { الْفَاسِقِينَ * . وقوله تعالى { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا * إلَى قوله تعالى { فَاسِقُونَ * . فَإِنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَادِيهِمْ عَلَى الْكُفْرِ إلَى أَنْ مَاتُوا , وَلَكِنْ يَدُلُّ يَقِينًا عَلَى أَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ مِنْ سُخْرِيَّتِهِمْ بِاَلَّذِينَ آمَنُوا غَيْرُ مَغْفُورٍ لَهُمْ , لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا فِيمَا خَلَا , فَكَانَ مَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهِمْ مُوجِبًا أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ لَمْزُهُمْ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَسُخْرِيَّتُهُمْ بِاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جَهْدَهُمْ - وَإِنْ تَابُوا مِنْ كُفْرِهِمْ -(2/60)
وَأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الْفِسْقِ لَا عَلَى الْكُفْرِ , بَلْ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ بِلَا شَكٍّ . بُرْهَانُ ذَلِكَ : مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نا أَبُو أُسَامَةَ نا عُبَيْدُ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ عُمَرَ - عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصًا يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ , فَقَامَ عُمَرُ وَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ * إلَى قوله تعالى { سَبْعِينَ مَرَّةً * وَسَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ قَالَ : إنَّهُ مُنَافِقٌ ؟ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ * *
قَالَ مُسْلِمٌ : نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نا يَحْيَى - هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ - عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ , وَزَادَ { فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ *
---------------------
وقال ابن العربي (1):
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 2 / ص 430)(2/61)
قوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يَضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * . فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ صَاحِبٍ عَنْ صَاحِبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ إلَى أُحُدٍ رَجَعَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ , فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ , فِرْقَةٌ تَقُولُ : نَقْتُلُهُمْ , وَفِرْقَةٌ تَقُولُ : لَا نَقْتُلُهُمْ * , فَنَزَلَتْ , وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ . الثَّانِي : قَالَ مُجَاهِدٌ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَرَجُوا مِنْ [ أَهْلِ ] مَكَّةَ حَتَّى أَتَوْا الْمَدِينَةَ , يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ فَارْتَدُّوا وَاسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ لِيَأْتُوا بِبَضَائِعَ , فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ الْمُؤْمِنُونَ , فَفِرْقَةٌ تَقُولُ إنَّهُمْ مُنَافِقُونَ , وَفِرْقَةٌ تَقُولُ هُمْ مُؤْمِنُونَ ; فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِفَاقَهُمْ . الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا بِمَكَّةَ فَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ , وَكَانُوا يُظَاهِرُونَ الْمُشْرِكِينَ , فَخَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَطْلُبُونَ حَاجَةً , وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أُخْبِرُوا بِهِمْ قَالَتْ فِئَةٌ : اُخْرُجُوا إلَى هَؤُلَاءِ الْجُبَنَاءِ فَاقْتُلُوهُمْ . وَقَالَتْ أُخْرَى : قَدْ تَكَلَّمُوا بِمِثْلِ مَا تَكَلَّمْتُمْ بِهِ . الرَّابِعُ : قَالَ السُّدِّيُّ : كَانَ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ قَالُوا : أَصَابَتْنَا أَوْجَاعٌ بِالْمَدِينَةِ , فَلَعَلَّنَا نَخْرُجُ إلَى الطُّهْرِ حَتَّى نَتَمَاثَلَ وَنَرْجِعُ ; فَانْطَلَقُوا فَاخْتَلَفَ فِيهِمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ طَائِقَةٌ : أَعْدَاءُ اللَّهِ مُنَافِقُونَ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ إخْوَانُنَا غَمَّتْهُمْ الْمَدِينَةُ فَاجْتَوَوْهَا , فَإِذَا بَرِئُوا رَجَعُوا ; فَنَزَلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ . الْخَامِسُ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُبَيٍّ حِينَ تَكَلَّمَ فِي عَائِشَةَ . وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ لقوله تعالى : { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ * . وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ زَيْدٌ . وَقَوْلُهُ : { حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ * يَعْنِي حَتَّى يَهْجُرُوا الْأَهْلَ وَالْوَلَدَ وَالْمَالَ , وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ اللَّهَ رَدَّ الْمُنَافِقِينَ إلَى الْكُفْرِ , وَهُوَ الْإِرْكَاسُ , وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الْحَالَةِ الْمَكْرُوهَةِ , كَمَا قَالَ فِي الرَّوْثَةِ إنَّهَا رِجْسٌ , أَيْ رَجَعَتْ إلَى حَالَةٍ مَكْرُوهَةٍ ; فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَعَلَّقُوا فِيهِمْ بِظَاهِرِ الْإِيمَانِ , إذَا كَانَ أَمْرُهُمْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْكُفْرِ , وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِمْ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ , وَأَيْنَمَا ثَقِفُوهُمْ ; وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنْدِيقَ يُقْتَلُ , وَلَا يُسْتَتَابُ لقوله تعالى : { وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * . فَإِنْ قِيلَ : مَعْنَاهُ مَا دَامُوا عَلَى حَالِهِمْ . قُلْنَا : كَذَلِكَ نَقُولُ وَهَذِهِ حَالَةٌ دَائِمَةٌ , لَا تَذْهَبُ عَنْهُمْ أَبَدًا ; لِأَنَّ مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ , وَأَظْهَرَ الْإِيمَانَ , فَعُثِرَ عَلَيْهِ , كَيْفَ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قوله تعالى :(2/62)
{ إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ * : الْمَعْنَى إلَّا مَنْ انْضَافَ مِنْهُمْ إلَى طَائِفَةٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ , فَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ , ثُمَّ نُسِخَتْ الْعُهُودُ فَانْتَسَخَ هَذَا , وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِإِيضَاحِهِ وَبَسْطِهِ . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قوله تعالى : { أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ * : هَؤُلَاءِ قَوْمٌ جَاءُوا وَقَالُوا : لَا نُرِيدُ أَنْ نُقَاتِلَ مَعَكُمْ وَلَا نُقَاتِلُ عَلَيْكُمْ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا مُعَاهَدِينَ عَلَى ذَلِكَ , وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْعَهْدِ , وَقَالُوا : لَا نُسْلِمُ وَلَا نُقَاتِلُ , فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ تَأَلُّفًا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى وَيَشْرَحَهَا لِلْإِسْلَامِ . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ . وَمِثْلُهُ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا , وَقَدْ بَسَطْنَاهَا بَسْطًا عَظِيمًا فِي " كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ " بِأَخْبَارِهَا ومُتَعلَّقاتِها فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ وَرَقَةٍ .
================
امحتان المهاجرات :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* (10) سورة الممتحنة
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن } فيه ست عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات } لما أمر المسلمين بترك مولاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوْكد أسباب الموالاة؛ فبيّن أحكام مهاجرة النساء . قال ابن عباس : جرى الصلح مع مشركي قريش عام الْحُدَيْبِية ، على أن من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم ، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلميّة بعدَ الفراغ من الكتاب ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعدُ؛ فأقبل زوجها وكان كافراً وهو صَيْفِيّ بن الراهب . وقيل : مسافر المخزومي فقال : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك! وهذه طِينة الكتاب لم تَجِفّ بعدُ ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقيل : " جاءت أمّ كُلْثُوم بنت عُقْبة بن أبي مُعَيْط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردّها . وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عِمارة والوليد ، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخَوْيها وحبسها ، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ردّها علينا للشرط ، قال صلى الله عليه وسلم : «كان الشرط في الرجال لا في النساء» " فأنزل الله تعالى هذه الآية . وعن عروة قال : كان مما اشترط سُهيل بن عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم يومَ الْحُدَيْبِيّة : ألاّ يأتيك منّا أحد وإن كان على دينك إلا رددتَه إلينا ، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل؛ يومىء إلى أن الشرط في ردّ النساء نُسخ بذلك . وقيل : إن التي جاءت أمَيْمة بنت بشر ، كانت عند ثابت بن الشِّمْراخ ففرّت منه وهو يومئذ كافر ، فتزوّجها سَهْل بن حُنيف فولدت له عبد الله ، قاله زيد بن حبيب . كذا قال الماورديّ : أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشِّمْراخ . وقال المهدويّ : وروى ابن وهب عن خالد أن هذه الآية نزلت في أُمَيْمَة بنت بشر من بني عمرو بن عوف . وهي امرأة حسّان بن الدَّحدَاح ، وتزوّجها بعد هجرتها سَهل بن حُنيف . وقال مقاتل : إنها سعيدة زوجة صَيْفيِ بن الراهب مشرك من أهل مكة . والأكثر من أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عُقبة .
الثانية : واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً أو عموماً؛ فقالت طائفة منهم : قد كان شرط ردّهن في عقد المهادنة لفظاً صريحاً فنسخ الله ردّهن من العقد ومنع منه ، وبَقّاه في الرجال على ما كان . وهذا يدل على أن للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه في الأحكام ، ولكن لا يقرّه الله على خطأ . وقالت طائفة من أهل العلم : لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً ، وإنما أطلق العقد في ردّ من أسلم؛ فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال .
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 5577)(2/63)
فبيّن الله تعالى خروجهنّ عن عمومه . وفرّق بينهنّ وبين الرجال لأمرين : أحدهما أنهنّ ذوات فروج يحرمن عليهم . الثاني أنهنّ أرقّ قلوباً وأسرع تقلّباً منهم . فأما المقيمة منهنّ على شركها فمردودة عليهم .
الثالثة : قوله تعالى : { فامتحنوهن } قيل : إنه كان من أرادت منهنّ إضرار زوجها فقالت : سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بامتحانهنّ . واختلف فيما كان يمتحنهنّ به على ثلاثة أقوال :
الأوّل : قال ابن عباس : كانت الْمِحنَة أن تُستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ، ولا رغبةً من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقاً لرجل منَّا؛ بل حُبّاً لله ولرسوله . فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك ، أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها؛ فذلك قوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .
الثاني : أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ قاله ابن عباس أيضاً .
الثالث : بما بيّنه في السورة بعدُ من قوله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات } قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن إلا بالآية التي قال الله : { إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ } رواه مَعْمَر عن الزُّهْرِي عن عائشة . خرّجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح .
الرابعة : أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشاً ، مِن أنه يردّ إليهم من جاءه منهم مسلماً؛ فنُسِخ من ذلك النساء . وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن . وقال بعض العلماء : كله منسوخ في الرجال والنساء ، ولا يجوز أن يهادن الإمامُ العدوّ على أن يردّ إليهم من جاءه مسلماً ، لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز . وهذا مذهب الكوفيين . وعقد الصلح على ذلك جائز عند مالك . وقد احتج الكوفيون لما ذهبوا إليه من ذلك بحديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم من خَثْعَم فاعتصموا بالسجود فقتلهم ، فَوَداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الدّية ، وقال « أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تَراءَى نارُهما » قالوا : فهذا ناسخ لردّ المسلمين إلى المشركين ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برىء ممن أقام معهم في دار الحرب . ومذهب مالك والشافعي أن هذا الحكم غير منسوخ .
قال الشافعيّ : وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره ، لأنه يَليِ الأموال كلها . فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود .
الخامسة : قوله تعالى : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } أي هذا الإمتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، لأنه مُتَوَلِّي السرائر . { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } أي بما يظهر من الإيمان . وقيل : إن علمتموهنّ مؤمنات قبل الامتحان { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } أي لم يحِلّ الله مؤمنة لكافر ، ولا نكاح مؤمن لمشركة .
وهذا أدَلّ دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرتها . وقال أبو حنيفة : الذي فرّق بينهما هو اختلاف الدارين .
وإليه إشارة في مذهب مالك بل عبارة . والصحيح الأول ، لأن الله تعالى قال : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فبيّن أن العلة عدم الحِلّ بالإسلام وليس باختلاف الدار . والله أعلم . وقال أبو عمر : لا فرق بين الدارين لا في الكتاب و لا في السنة ولا في القياس ، وإنما المراعاة في ذلك الدينان ، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما ، لا بالدار . والله المستعان .
السادسة : قوله تعالى : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } أمر الله تعالى إذا أُمسِكت المرأة المسلمة أن يُرَدّ على زوجها ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهد ، لأنه لما مُنع من أهله بحرمة الإسلام ، أمر برد المال ( إليه ) حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال .(2/64)
السابعة : ولا غُرْمَ إلا إذا طالب الزوج الكافر ، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا . فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نَغرَم المهر إذ لم يتحقق المنع . وإن كان المسمَّى خمراً أو خنزيراً لم نَغْرَم شيئاً ، لأنه لا قيمة له . وللشافعيّ في هذه الآية قولان : أحدهما أن هذا منسوخ . قال الشافعيّ : وإذا جاءتنا المرأة الحرّة من أهل الهُدنَة مسلمة مهاجرة من دار الحرب إلى الإمام في دار السلام أو في دار الحرب ، فمن طلبها مِن وَلِيٍّ سِوَى زوجها مُنع منها بلا عِوَض . وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان : أحدهما يعطي العِوض ، والقول ما قال الله عز وجل . وفيه قول آخر أنه لا يعطي الزوج المشرك الذي جاءت زوجته مسلمة العِوض . فإن شرط الإمامُ ردّ النساء كان الشرط ورسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد النساء كان شرط من شرط ردّ النساء منسوخاً وليس عليه عِوض ، لأن الشرط المنسوخ باطل ولا عوض للباطل .
الثامنة : أمر الله تعالى بردّ مثل ما أنفقوا إلى الأزواج ، وأن المخاطب بهذا الإمامُ ، ينفذ مما بين يديه من بيت المال الذي لا يتعيّن له مصرف . وقال مقاتل : يردّ المهر الذي يتزوّجها من المسلمين ، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شيء .
وقال قتادة : الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل العهد؛ فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يردّ إليهم الصداق . والأمر كما قاله .
التاسعة : قوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهنّ؛ لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدّة . فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال ولها التزوّج .
العاشرة : قوله تعالى : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أباح نكاحها بشرط المهر؛ لأن الإسلام فرّق بينها وبين زوجها الكافر .
الحادية عشرة : قوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك . وهو اختيار أبي عبيد؛ لقوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : 231 ] . وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو «وَلاَ تُمَسِّكُوا» مشدّدة من التمسك . يقال : مَسَّك يمسّك تمسُّكاً؛ بمعنى أمسك يُمسك . وقرىء «وَلاَتَمَسكوا» بنصب التاء؛ أي لا تتمسكوا . والعِصَم جمع العِصْمة؛ وهو ما اعتصم به . والمراد بالعصمة هنا النكاح . يقول : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّ بها ، فليست له امرأة ، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين . وعن النَّخَعِيّ : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر؛ وكان الكفار يتزوّجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات؛ ثم نسخ ذلك في هذه الآية . فطلق عمر بن الخطاب حينئذٍ امرأتين له بمكة مشركتين : قُرَيبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة . وأمّ كُلْثوم بنت عمرو الخُزَاعِيّة أم عبد الله بن المغيرة؛ فتزوجها أبو جَهم بن حُذافة وهما على شركهما . فلما وَلِيَ عمر قال أبو سفيان لمعاوية : طلّق قُرَيبة لئلا يرى عمر سلَبَه في بيتك ، فأبى معاوية من ذلك . وكانت عند طلحة بن عبيد الله أرْوَى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فرّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار ، فحبسها وزوّجها خالداً . وزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب ابنته وكانت كافرة من أبي العاص بن الربيع ، ثم أسلمت وأسلم زوجها بعدها . ذَكر عبد الرزاق عن ابن جُريج عن رجل عن ابن شهاب قال : أسلمت زينب بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم في الهجرة الأولى ، وزوجها أبو العاص بن الربيع عبد العُزَّى مشرك بمكة . الحديث ، وفيه : أنه أسلم بعدها . وكذلك قال الشعبي . قال الشَّعْبي : وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع ، فأسلمت ثم لحقت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم أتى زوجها المدينة فأمّنته فأسلم فردّها عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس : بالنكاح الأول؛ ولم يحدث شيئاً . قال محمد بن عمر في حديثه : بعد ست سنين .
وقال الحسن بن عليّ : بعد سنتين . قال أبو عمر : فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين : إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها ، وإما أن الأمر فيها منسوخ بقول الله عز وجل : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [ البقرة : 228 ] يعني في عدّتهنّ . وهذا ما لاخلاف فيه بين العلماء أنه عنى به العدة . وقال ابن شهاب الزهري رحمه الله في قصة زينب هذه : كان قبل أن تنزل الفرائض . وقال قتادة : كان هذا قبل أن تنزل سورة «براءة» بقطع العهود بينهم وبين المشركين . والله أعلم .(2/65)
الثانية عشرة : قوله تعالى : { بِعِصَمِ الكوافر } المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان مَن لا يجوز ابتداءً نكاحها ، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب . وقيل : هي عامة ، نسخ منها نساء أهل الكتاب . ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه . وعلى القول الأول إذا أسلم وثَنيّ أو مجوسيّ ولم تُسلم امرأته فرّق بينهما . وهذا قول بعض أهل العلم . ومنهم من قال : ينتظر بها تمام العدة . فمن قال يفرّق بينهما في الوقت ولا ينتظر تمام العدة إذا عرض عليها الإسلام ولم تُسلم مالكُ بن أنس . وهو قول الحسن وطاوس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحَكَم ، واحتجوا بقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } . وقال الزهري : ينتظر بها العدّة . وهو قول الشافعي وأحمد . واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه بمرّ الظَّهْران ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته وقالت : اقتلوا الشيخ الضّال . ثم أسلمت بعده بأيام ، فاستقرّا على نكاحهما لأن عدتها لم تكن انقضت . قالوا : ومثله حكيم بن حِزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما . قال الشافعي : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } لأن نساء المسلمين محرّمات على الكفار؛ كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر والوثنيات ولا المجوسيات بقول الله عز وجل : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ثم بيّنت السنة أن مراد الله من قوله هذا أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الباقي منهما في العدة . وأما الكوفيون وهم سفيان وأبو حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا في الكافرين الذّمييّن : إذا أسلمت المرأة عُرِض على الزوج الإسلام ، فإن أسلم وإلا فُرّق بينهما . قالوا : ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعاً في دار الحرب أو في دار الإسلام . وإن كان أحدهما في دار الإسلام والآخر في دار الحرب انقطعت العصمة بينهما فراعوا الدار؛ وليس بشيء . وقد تقدم .
الثالثة عشرة : هذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها ، فإن كانت غير مدخول بها فلا نعلم اختلافاً في انقطاع العصمة بينهما؛ إذ لا عِدّة عليها .كذا يقول مالك في المرأة ترتد وزوجها مسلم : انقطعت العصمة بينهما . وحجته { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حَيّ . ومذهب الشافعي وأحمد أنه ينتظر بها تمام العدة .
الرابعة عشرة : فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ففيها أيضاً اختلاف . ومذهب مالك وأحمد والشافعي الوقوف إلى تمام العدة . وهو قول مجاهد . وكذا الوَثَني تُسلم زوجته ، إنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها؛ كما كان صَفْوان بن أمَيّة وعِكْرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدّتيهما؛ على حديث ابن شهاب . ذكره مالك في الموطأ . قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر . قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينه وبينها؛ إلا أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها . ومن العلماء من قال : ينفسخ النكاح بينهما . قال يزيد بن علقمة : أسلم جدّي ولم تُسلم جدّتي ففرّق عمر رضي الله عنه بينهما؛ وهو قول طاوس . وجماعة غيره منهم عطاء والحسن وعكرمة قالوا : لا سبيل عليها إلا بخطبة .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار : هاتوا مهرها . ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة : ردّوا إلى الكفار مهرها . وكان ذلك نَصَفاً وعدلاً بين الحالتين . وكان هذا حكم الله مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة؛ قاله ابن العربيّ .
السادسة عشرة : قوله تعالى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله } أي ما ذكر في هذه الآية . { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } تقدم في غير موضع .
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
فيه ثلاث مسائل :(2/66)
الأولى : قوله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } في الخبر : أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله؛ وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } . وروى الزهري عن عُروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حكم الله عز وجل بينكم فقال جلّ ثناؤه : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله عز وجل بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منّا أن توجهّوا إلينا بصداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها . فكتبوا إليهم : أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئاً ، فإن كان لنا عندكم شيء فوجّهوا به؛ فأنزل الله عز وجل : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } . وقال ابن عباس في قوله تعالى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يردّ بعضهم إلى بعض . قال الزهريّ : ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إليهم صداقاً . وقال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يُعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الْفَيء والغنيمة . وقالا : هي فيمن بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد . وقالا : ومعنى { فَعَاقَبْتُمْ } فاقتصصتم . { فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } يعني الصدقات . فهي عامة في جميع الكفار . وقال قتادة أيضاً : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار الذين بينكم وبينهم عهد ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا . ثم نسخ هذا في سورة «براءة» . وقال الزهريّ : انقطع هذا عام الفتح . وقال سفيان الثوريّ : لا يعمل به اليوم . وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضاً . حكاه القشيريّ .
الثانية : قوله تعالى : { فَعَاقَبْتُمْ } قراءة العامة { فَعَاقَبْتُمْ } وقرأ عَلْقمة والنَّخَعِيّ وحُميد الأعرج «فعقّبتم» مشدّدة . وقرأ مجاهد «فأعقبتم» وقال : صنعتم كما صنعوا بكم . وقرأ الزهريّ «فعقِبتم» خفيفة بغير ألف . وقرأ مسروق وشَقيق بن سلمة «فعقبتم» بكسر القاف خفيفة . وقال : غنمتم . وكلها لغات بمعنى واحد . يقال : عاقب وعَقَب وعَقّب وأعقب وتعقّب واعتقب وتعاقب إذا غنم . وقال القُتَبيّ «فعاقبتم» فغزوتم معاقبين غزواً بعد غَزْو . وقال ابن بحر : أي فعاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين .
الثالثة : قوله تعالى : { فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } قال ابن عباس : يقول إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة ، وليس بينكم وبينهم عهد ، ولها زوج مسلم قِبلَكم فغنمتم ، فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تُخَمّس . وقال الزهريّ : يُعْطَى من مال الفيء . وعنه يُعْطى من صداق من لَحِق بنا . وقيل : أي إن امتنعوا من أن يَغْرَمُوا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم ، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم فخذوا ذلك منهم .
قال الأعمش : هي منسوخة . وقال عطاء : بل حكمها ثابت . وقد تقدم جميع هذا . القُشيريّ : والآية نزلت في أمّ الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدت وتركت زوجها عِيَاض بن غَنْم القرشي ، ولم ترتدّ امرأة من قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام . وحكى الثعلبي عن ابن عباس : هن ست نسوة رجعن عن الإسلام ولحِقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين : أمّ الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن أبي شدّاد الفهري . وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة ، وكانت تحت عمر ابن الخطاب ، فلما هاجر عمر أبَتْ وارتدت . وبَرْوَع بنت عقبة ، كانت تحت شَمّاس بن عثمان . وعبدة بنت عبد العُزَّى ، كانت تحت هشام بن العاص . و ( أم ) كلثوم بنت جَرْوَل تحت عمر بن الخطاب . وشهبة بنت غَيْلان . فأعطاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة . { واتقوا الله } احذروا أن تتعدّوا ما أمرتم به .
---------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله (1):
تقدم في سورة "الفتح" ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فكان فيه: "على ألا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك-إلا رددته إلينا". وفي رواية: "على أنه لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك-إلا رددته إلينا". وهذا قول عروة، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد، والزهري، ومقاتل، والسدي. فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة، وهذا من أحسن أمثلة ذلك، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة، فإن الله، عز وجل، أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن عَلِموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 8 / ص 92)(2/67)
وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، من المسند الكبير، من طريق أبي بكر بن أبي عاصم، عن محمد بن يحيى الذهلي، عن يعقوب بن محمد، عن عبد العزيز بن عمران، عن مُجَمِّع بن يعقوب، عن حسين بن أبي لُبانة، عن عبد الله بن أبي أحمد قال: هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط في الهجرة، فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلماه فيها أن يردها إليهما، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، ومنعهن أن يُرْدَدْنَ إلى المشركين، وأنزل الله آية الامتحان (1) .
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن قيس بن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة عن حُصَين، عن أبي نصر الأسدي قال: سُئِل ابنُ عباس: كيف كان امتحانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساءَ؟ قال: كان يمتحنهن: بالله ما خَرجت من بُغض زوج؟ وبالله ما خَرجت رَغبةً عن أرض إلى أرض؟ وبالله ما خرجت التماس دنيا؟ وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله؟ (2) .
ثم رواه من وجه آخر، عن الأغر بن الصباح، به. وكذا رواه البزار من طريقه، وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له عمر بن الخطاب (3) .
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } كان امتحانهن أن يَشهدْن أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله (4) ورسوله.
وقال مجاهد: { فَامْتَحِنُوهُنّ } فاسألوهن: عما جاء بهن؟ فإن كان بهن غضبٌ على أزواجهن أو سَخْطة أو غيره، ولم يؤمنّ فارجعوهن إلى أزواجهن.
وقال عكرمة: يقال لها: ما جاء بك إلا حب الله ورسوله؟ وما جاء بك عشق رجل منا، ولا
__________
(1) جامع المسانيد والسنن لابن كثير (7/243) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (3/67) من طريق أبي بكر بن أبي عاصم، وعبد العزيز ابن عمران ضعيف.
(2) تفسير الطبري (28/44).
(3) مسند البزار برقم (2272) "كشف الأستار" وقال: "لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، ولا روي عن أبي نصر إلا خليفة". قال الهيثمي في المجمع (7/123): "وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري، وضعفه غيرهما، وبقية رجاله ثقاب". وتعقبه ابن حجر في مختصر الزوائد (1/112). قلت: "أعله الشيخ بقيس، وقد ذكر البخاري أن أبا نصر لم يسمع من ابن عباس فهي العلة".
(4) في م: "وإن محمدًا عبده".
فرار من زوجك؟ فذلك قوله: { فَامْتَحِنُوهُنّ }
وقال قتادة: كانت محنتهن أن يستحلفن بالله: ما أخرجكن النشوز؟ وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحِرص عليه؟ فإذا قلن ذلك قُبِل ذلك منهن.
وقوله: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينًا.
وقوله: { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } هذه الآية هي التي حَرّمَت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة؛ ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب، رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقّ لها رقَّةً شَديدَةً، وقال للمسلمين: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا". ففعلوا، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة، رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقًا، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا بن إسحاق، حدثنا داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص [ابن الربيع] (1) وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صَدَاقًا.
ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة (2) . ومنهم من يقول: "بعد سنتين"، وهو صحيح؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين. وقال الترمذي: "ليس بإسناده بأس، ولا نعرف (3) وجه هذا الحديث، ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين. وسمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن هارون يذكر عن بن إسحاق هذا الحديث، وحديث ابن الحجاج -يعني ابن أرطاة-عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد. فقال يزيد: حديث ابن عباس أجودُ إسنادًا والعمل على حديث عمرو بن شعيب".
قلت: وقد رَوَي حديث الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب الإمامُ أحمد والترمذي وابن ماجة (4) ، وضعفه الإمام أحمد وغير واحد، والله أعلم.
__________
(1) زيادة من مسند الإمام أحمد.(2/68)
(2) المسند (1/261) وسنن أبي داود برقم (2240) وسنن الترمذي برقم (1143) وسنن ابن ماجة برقم (2009).
(3) في م: "ولا يعرف".
(4) المسند (2/207) وسنن الترمذي برقم (1142) وسنن ابن ماجة برقم (2010).
وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عِدّتها منه؛ لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم (1) انفسخَ نِكاحُها منه.
وقال آخرون: بل إذا انقضت العدة هي بالخيار، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت، وحملوا عليه حديث ابن عباس، والله أعلم.
وقوله: { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } يعني: أزواج المهاجرات من المشركين، ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة. قاله ابن عباس، ومجاهد وقتادة، والزهري، وغير واحد.
وقوله: { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يعني: إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن، أي: تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك.
وقوله: { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } تحريم من الله، عز وجل، على عباده المؤمنين نكاح المشركات، والاستمرار معهن.
وفي الصحيح، عن الزهري، عن عروة، عن المسور ومَرْوان بن الحكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاء نساءٌ من المؤمنات، فأنزل الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ [فَامْتَحِنُوهُنَّ] } (2) إلى قوله: { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية (3) .
وقال ابن ثور، عن مَعْمَر، عن الزهري: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بأسفل الحديبية، حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها، وقال: { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال: وإنما حكم الله بينهم بذلك، لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري: طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها معاوية، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية، وهي أم عُبَيد الله، فتزوجها أبو جهم ابن حذيفة بن غانم، رجل من قومه، وهما على شركهما، وطلق طلحةُ بن عبيد الله أروي بنتَ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص (4) .
وقوله: { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } أي: وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي
__________
(1) في م: "ولم تسلم".
(2) زيادة من م.
(3) صحيح البخاري برقم (2731، 2732).
(4) تفسير الطبري (28/47) مع اختلاف يسير.
يذهبن إلى الكفار، إن ذهبن، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين.
وقوله: { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي: في الصلح واستثناء النساء منه، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك.
ثم قال: { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } قال مجاهد، وقتادة: هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد، إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئًا، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء، حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن الزهري قال: أقر المؤمنون بحكم الله، فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين، فقال الله للمؤمنين به: { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأةٌ من أزواج المؤمنين إلى المشركين، رَدّ المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العَقب الذي بأيديهم، الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرنَ، ثم ردوا إلى المشركين فضلا إن كان بقي لهم. والعقب: ما كان [بأيدي المؤمنين] (1) من صداق نساء الكفار حين آمنّ وهاجرن (2) .
وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية: يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطى من الغنيمة مثل ما أنفق.(2/69)
وهكذا قال مجاهد: { فَعَاقَبْتُم } أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } يعني: مهر مثلها. وهكذا قال مسروق، وإبراهيم، وقتادة، ومقاتل، والضحاك، وسفيان بن حسين، والزهري أيضًا.
وهذا لا ينافي الأول؛ لأنه إن أمكن الأول (3) فهو أولى، وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار. وهذا أوسع، وهو اختيار ابن جرير، ولله الحمد والمنة (4)
__________
(1) زيادة من تفسير الطبري.
(2) تفسير الطبري (28/48).
(3) في م: "أمكن بالأول".
(4) في م: "والله أعلم".
----------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه:"على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا" . . فلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة ; وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذا للمعاهدة . ويظهر أن النص لم يكن قاطعا في موضوع النساء , فنزلت هاتات الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار , يفتن في دينهن وهن ضعاف .
ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها , تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر , وما فيها من شطط وجور . على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية .
وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة , فلا يكون تخلصا من زواج مكروه , ولا طلبا لمنفعة , ولا جريا وراء حب فردي في دار الإسلام !
قال ابن عباس:كان يمتحنهن:بالله ما خرجت من بغض زوج , وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض , وبالله ما خرجت التماس دنيا , وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله .
وقال عكرمة:يقال لها:ما جاء بك إلا حب الله ورسوله , وما جاء بك عشق رجل منا , ولا فرارا من زوجك .
وهذا هو الامتحان . . وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله . فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله , ولا سبيل للبشر إليها: (الله أعلم بإيمانهن . .) فإذا ما أقررن هكذا (فلا ترجعوهن إلى الكفار) . .
(لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) . .
فقد أنبتت الوشيجة الأولى . . وشيجة العقيدة . . فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة . والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار , لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى . والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى , فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه , ولا أن يأنس به , ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره . والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن .
وكان الأمر في أول الهجرة متروكا بغير نص , فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر ; ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة , لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد . فأما بعد صلح الحديبية - أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة - فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة ; وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات , كما يستقر في واقعهم , أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان , وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة , وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله .
ومع إجراء التفريق إجراء التعويض - على مقتضى العدل والمساواة - فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضا للضرر . كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته .
وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن . . مع خلاف فقهي:هل لهن عدة , أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعن حملهن ? وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات . . . ثلاثة قروء . . أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة ?
(وآتوهم ما أنفقوا , ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن . ولا تمسكوا بعصم الكوافر ,واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا) .
ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن . ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه:
(ذلكم حكم الله يحكم بينكم , والله عليم حكيم) . .
وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال . فحكم الله , هو حكم العليم الحكيم . وهو حكم المطلع على ذوات الصدور . وهو حكم القوي القدير . ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة , ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه . وهو يوقن أن مرده إلى الله .
فإذا فات المؤمنين شيء مما أنفقوا , بامتناع الكوافر أو أهليهن من رد حق الزوج المؤمن - كما حدث في بعض الحالات - عوضهم الإمام مما يكون للكافرين الذين هاجرت زوجاتهم من حقوق على زوجاتهم في دار الإسلام , أو مما يقع من مال الكفار غنيمة في أيدي المسلمين:
(وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) ويربط هذا الحكم وتطبيقاته كذلك بالضمان الذي يتعلق به كل حكم وكل تطبيق:
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 473)(2/70)
(واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) . .
وهي لمسة للمؤمنين بالله عميقة الأثر في القلوب .
وهكذا تكون تلك الأحكام بالمفاصلة بين الأزواج تطبيقا واقعيا للتصور الإسلامي عن قيم الحياة وارتباطاتها ; وعن وحدة الصف الإسلامي وتميزه من سائر الصفوف ; وعن إقامة الحياة كلها على أساس العقيدة , وربطها كلها بمحور الإيمان ; وإنشاء عالم إنساني تذوب فيه فوارق الجنس واللون واللغة والنسب والأرض . وتبقى شارة واحدة تميز الناس . . شارة الحزب الذي ينتمون إليه . . وهما حزبان اثنان:حزب الله وحزب الشيطان . .
ثم بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يبايعهن على الإيمان , هن وغيرهن ممن يردن الدخول في الإسلام . وعلى أي الأسس يبايعهن:
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا , ولا يسرقن , ولا يزنين , ولا يقتلن أولادهن , ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن , ولا يعصينك في معروف , فبايعهن , واستغفر لهن الله , إن الله غفور رحيم . .
وهذه الأسس هي المقومات الكبرى للعقيدة , كما أنها مقومات الحياة الاجتماعية الجديدة . .
إنها عدم الشرك بالله إطلاقا . .
وعدم إتيان الحدود . . السرقة والزنا . . وعدم قتل الأولاد . . إشارة إلى ما كان يجري في الجاهلية من وأد البنات , كما أنه يشمل قتل الأجنة لسبب من الأسباب . . وهن أمينات على ما في بطونهن . . (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) . . قال ابن عباس:يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن . وكذلك قال مقاتل . ولعل هذا التحفظ - بعد المبايعة على عدم الزنا - كان للحالات الواقعة في الجاهلية من أن تبيح المرأة نفسها لعدة رجال , فإذا جاءت بولد , نظرت أيهم أقرب به شبها فألحقته به , وربما اختارت هي أحسنهم فألحقت به ابنها وهي تعلم من هو أبوه !
وعموم اللفظ يشمل هذه الحالة وغيرها من كل بهتان مزور يدعى . ولعل ابن عباس ومقاتل خصصاه بذلك المعنى لمناسبة واقعة وقتذاك والشرط الأخير: (ولا يعصينك في معروف) . .
وهو يشمل الوعد بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمرهن به . وهو لا يأمر إلا بمعروف . ولكن هذا الشرط هو أحد قواعد الدستور في الإسلام , وهو يقرر أن لا طاعة على الرعية لإمام أو حاكم إلا في المعروف الذي يتفق مع دين الله وشريعته . وأنها ليست طاعة مطلقة لولي الأمر في كل أمر ! وهي القاعدة التي تجعل قوة التشريع والأمر مستمدة من شريعة الله , لا من إرادة إمام ولا من إرادة أمة إذا خالفت شريعة الله . فالإمام والأمة كلاهما محكوم بشريعة الله , ومنها يستمدان السلطات !
فإذا بايعن على هذه الأسس الشاملة قبلت بيعتهن . واستغفر لهن الرسول صلى الله عليه وسلم عما سلف (إن الله غفور رحيم) . . يغفر ويرحم ويقيل العثرات .
----------------
وقال الألوسي (1):
{ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ } بيان لحكم من يظهر الإيمان بعد بيان حكم فريقي الكافرين { إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات } أي بحسب الظاهر { مهاجرات } من بين الكفار ، وقرىء { مهاجرات } بالرفع على البدل من { المؤمنات } فكأنه قيل : إذا جاءكم { مهاجرات } { فامتحنوهن } فاختبروهن بما يغلب . على ظنكم موافقة قلوبهم لألسنتهن في الإيمان .
/ أخرج ابن المنذر . والطبراني في الكبير . وابن مردويه بسند حسن . وجماعة عن ابن عباس أنه قال في كيفية امتحانهن : كانت المرأة إذا جاءت النبي صلى الله عليه وسلم حلفها عمر رضي الله تعالى عنه بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض . وبالله ما خرجت من بغض زوج . وبالله ما خرجت التماس دنيا . وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله ، وفي رواية عنه أيضاً كانت محنة النساء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال : قل لهن إن رسول الله عليه الصلاة والسلام بايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً الخ { الله أَعْلَمُ } من كل أحد أو منكم { بإيمانهن } فإنه سبحانه هو المطلع على ما في قلوبهن ، والجملة اعتراض { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ } أي ظننتموهن ظناً قوياً يشبه العلم بعد الامتحان { مؤمنات } في نفس الأمر { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فإنه تعليل للنهي عن رجعهن إليهم ، والجملة الأولى : لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأول ، والثانية : لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح ، ويشعر بذلك التعبير بالاسم في الأولى والفعل في الثانية .
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 20 / ص 466(2/71)
وقال الطيبي في وجه اختلاف التعبيرين : إنه أسندت الصفة المشبهة إلى ضمير المؤمنات في الجملة الأولى إعلاماً بأن هذا الحكم يعني نفي الحل ثابت فيهن لا يجوز فيه الإخلال والتغيير من جانبهن ، وأسند الفعل إلى ضمير الكفار إيذاناً بأن ذلك الحكم مستمر الامتناع في الأزمنة المستقبلة لكنه قابل للتغيير باستبدال الهدى بالضلال ، وجوز أن يكون ذلك تكريراً للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة ، وفيه من أنواع البديع ما سماه بعضهم بالعكس والتبديل كالذي في قوله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] ولعل الأول أولى ، واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع كما في الانتصاف ، والقول : بأن المخاطب في حق المؤمنة هي . وفي حق الكافر الأئمة بمعنى أنهم مخاطبون بأن يمنعوا ذلك الفعل من الوقوع لا يخفى حاله ، وقرأ طلحة لا هن يحللن لهم .
{ وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ } أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور قيل : وجوباً ، وقيل : ندباً ، روى أنه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أمر علياً كرم الله تعالى وجهه أن يكتب بالصلح فكتب : باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليه ، ومن جاء قريشاً من محمد لم يردّوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأن لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل بن سهيل ولم يأت رسول الله عليه الصلاة والسلام أحد من الرجال إلا رده في مدّة العهد وإن كان مسلماً ، ثم جاء المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أول المهاجرات ، فخرج أخواها عمار . والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه في أمرها ليردها عليه الصلاة والسلام إلى قريش فنزلت الآية فلم يردّها عليه الصلاة والسلام ثم أنكحها صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه .
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحرث الأسلمية مؤمنة ، وكانت تحت صيفي بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلبوا ردها فأنزل الله تعالى الآية ، وروي أنها كانت تحت مسافر المخزومي وأنه أعطى ما أنفق ، وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه ، وفي رواية أنها نزلت في أميمة بنت بشر امرأة من بني عمرو بن عون كانت تحت أبي حسان بن الدحداحة هاجرت مؤمنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا ردّها فنزلت الآية فلم يردها عليه الصلاة والسلام ، وتزوجها سهيل بن صيف فولدت له عبد الله بن سهيل ، ولعل سبب النزول متعدد وأيّاً مّا كان فالآية على ما قيل : نزلت بياناً لأن الشرط في كتاب المصالحة إنما كان في الرجال دون النساء ، وتراخي المخصص عن العام جائز عند الجبائي ومن وافقه ، ونسب للزمخشري أن ذلك من تأخير بيان المجمل لأنه لا يقول بعموم تلك الألفاظ بل يجعلها مطلقات ، والحمل على العموم والخصوص بحسب المقام ، والحنفية يجوزونه لا يقال : إنه شبه التأخير عن وقت الحاجة وهو غير جائز عند الجميع لأن وقت الحاجة أي العمل بالخطاب كان بعد مجىء المهاجرات وطلب ردهن لا حين جرت المهادنة مع قريش ، وهذا ما ذهب إليه بعض الشافعية أيضاً ، ومنهم من زعم أن التعميم كان منه صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد أثيب عليه بأجر واحد ولم يقر عليه ، ومنهم من وافق جمهور الحنفية على النسخ لا التخصيص ، فمن جوز منهم نسخ السنة بالكتاب قال : نسخ بالآية ، ومن لم يجوز قال : بالسنة أي امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرد ووردت الآية مقررة لفعله عليه الصلاة والسلام .(2/72)
وعن الضحاك كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها ، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك ، وعليه فالآية موافقة لما وقع عليه العهد لكن أخرج أبو داود في ناسخه . وابن جرير . وغيرهما عن قتادة أنه نسخ هذا العهد وهذا الحكم يعني إيتاء الأزواج ما أنفقوا براءة ، أما نسخ العهد فلما أمر فيها من النبذ ، وأما نسخ الحكم فلأن الحكم فرع العهد فإذا نسخ نسخ ، والذي عليه معظم الشافعية أن الغرامة لأزواجهن غير ثابتة ، وبين ذلك في «الكشف» على القول بنسخ رد المرأة ، والقول بالتخصيص ، والقول : بأن التعميم كان عن اجتهاد لم يقر عليه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : وأما على قول الضحاك أي السابق فهو مشكل ، ووجهه أنه حكم في مخصوصين فلا يعم غير تلك الوقعة على أنه عز وجل خص الحكم بالمهاجرين ولم يبق بعد الفتح هجرة كما ثبت في الصحيح فلا يبقى الحكم { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي في نكاحهن حيث حال إسلامهن بينهن وبين أزواجهن الكفار { إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي وقت إيتائكم إياهن مهورهن فإذا لمجرد الظرفية ، ويجوز كونها شرطية وجوابها مقدر بدليل ما قبل ، وعلى التقديرين يفهم اشتراط إيتاء المهور في نفي الجناح في نكاحهن ، وليس المراد بإيتاء الأجور إعطاءها بالفعل بل التزامها والتعهد بها ، وظاهر هذا مع ما تقدم من قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ } أن هناك إيتاء إلى الأزواج وإيتاء إليهن فلا يقوم ما أوتي إلى الأزواج مقام مهورهن بل لا بد مع ذلك من إصداقهن ، وقيل : لا يخلو إما أن يراد بالأجور ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزويجهن تقديم أدائه ، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهن على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس ، وإما أن يبين إليهم أن ما أعطي لأزواجهن لا يقوم مقام المهر ، وهذا ما ذكرناه أولاً من الظاهر وهو الأصح في الحكم ، والوجهان الآخران ضعيفان فقهاً ولفظاً .
واحتج أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر حربياً وقعت الفرقة . ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها من غير عدة إلا أن تكون حاملاً ، وهذا للحديث المشهور الذي تجوز بمثله الزيادة على النص « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره » ومذهب الشافعي على ما قيل : إنه لا تقع الفرقة إلا بإسلامها ، وأما بمجرد الخروج فلا فان أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة وبعد الدخول توقفت إلى انقضاء العدة ، وتعقب الاحتجاج بأن الآية لا تدل على مجموع ما ذكر ، نعم قد احتج بها على عدم العدة في الفرقة بخروج المرأة إلينا من دار الحرب مسلمة ، ووجه بأنه سبحانه نفى الجناح من كل وجه في نكاح المهاجرات بعد إيتاء المهر ، ولم يقيد جل شأنه بمضي العدة فلولا أن الفرقة بمجرد الوصول إلى دار الإسلام لكان الجناح ثابتاً ، ومع هذا فقد قيل : الجواب على أصل الشافعية أن رفع الإطلاق ليس بنسخ ظاهر لأن عدم التعرض ليس تعرضاً للعدم ، وأما على أصل الحنفية فكسائر الموانع ، وكونها حاملاً بالاتفاق فتأمل { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } جمع كافرة ، وجمع فاعلة على فواعل مطرد وهو وصف جماعة الإناث ، وقال الكرخي : { الكوافر } يشمل الإناث والذكور ، فقال له الفارسي : النحويون لا يرون هذا إلا في الإناث جمع كافرة ، فقال : أليس يقال : طائفة كافرة وفرقة كافرة ، قال الفارسي : فبهت ، وفيه أنه لا يقال : كافرة في وصف الذكور إلا تابعاً للموصوف ، أو يكون محذوفاً مراداً أما بغير ذلك فلا تجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث قاله أبو حيان ، و عصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب ، والمراد نهي المؤمنين عن أن يكون بينهم وبين الزوجات المشركات الباقية في دار الحرب علقة من علق الزوجية أصلاً حتى لا يمنع إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها في العدة بناءاً على أنه لا عدة لهن؛ قال ابن عباس : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه ، وأخرج سعيد بن منصور . وابن المنذر عن إبراهيم النخعي أنه قال : نزل قوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ } الخ في المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها قد برىء منها .(2/73)
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد . وسعيد بن جبير نحوه ، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قال : أمرهم سبحانه بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن ، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه طلق لذلك امرأته فاطمة أخت أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وامرأته كلثوم بنت جرول الخزاعي فتزوجها أبو جهم بن حذيفة العدوي ، وكذا طلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة ، وتعقب ذلك بأنه بظاهره مخالف لمذهب الحنفية . والشافعية ، أما عند الحنفية فلأن الفرقة بنفس الوصول إلى دار الإسلام ، وأما عند الشافعية فلأن الطلاق موقوف إن جمعتهما العدة تبين وقوعه من حيث اللفظ ، وإلا فالبينونة بواسطة بقاء المرأة في الكفر ، فظاهر الآية لا يدل على ما في هذه الرواية ، وقرأ أبو عمرو . ومجاهد بخلاف عنه . وابن جبير . والحسن . والأعرج { تُمْسِكُواْ } مضارع مسك مشدداً ، والحسن أيضاً . وابن أبي ليلى . وابن عامر في رواية عبد الحميد . وأبو عمرو في رواية معاذ { تُمْسِكُواْ } مضارع تمسك محذوف إحدى التاءين ، والأصل تتمسكوا .
وقرأ الحسن أيضاً { تُمْسِكُواْ } بكسر السين مضارع مسك ثلاثياً { قُلْ مَا أَنفَقْتُم } أي واسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم { وَلْيَسْئَلُواْ مَا أَنفَقُواْ } أي وليسألكم الكفار مهور نسائهم المهاجرات إليكم ، وظاهره أمر الكفار ، وهو من باب { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] فهو أمر للمؤمنين بالأداء مجازاً ، وقيل : المراد التسوية { ذلكم } الذي ذكر { حُكْمُ الله } أي فاتبعوه ، وقوله عز وجل : { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } كلام مستأنف أو حال من { حُكْمُ } بحذف الضمير العائد إليه ، وهو مفعول مطلق أي يحكمه الله تعالى بينكم ، أو العائد إليه الضمير المستتر في { يُحْكِمُ } بجعل الحكم حاكماً مبالغة كأن الحكم لقوته وظهوره غير محتاج لحاكم آخر { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة ، روي أنه لما تقرر هذا الحكم أدى المؤمنون مما أمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن ، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن المؤمنين فنزل قوله تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ } أي سبقكم وانفلت منكم { شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار } أي أحد من أزواجكم ، وقرىء كذلك ، وإيقاع { شَىْء } موقعه لزيادة التعميم وشمول محقر الجنس نصاً ، وفي «الكشف» لك أن تقول : أريد التحقير والتهوين على المسلمين لأن من فات من أزواجهم إلى الكفار يستحق الهون والهوان ، وكانت الفائتات ستاً على ما نقله في «الكشاف» وفصله ، أو إن { فَاتَكُمْ شَىْء } من مهور أزواجكم على أن { شَىْء } مستعمل في غير العقلاء حقيقة ، و { مِنْ } ابتدائية لا بيانية كما في الوجه الأول { فعاقبتم } من العقبة لا من العقاب ، وهي في الأصل النوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى ، أو شبه الحكم بالأداء المذكور بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب ، وحاصل المعنى إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار أو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أداء المهر كما لزم الكفار .
{ فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ } من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ولا تؤتوه زوجها الكافر ليكون قصاصاً ، ويعلم مما ذكرنا أن عاقب لا يقتضي المشاركة ، وهذا كما تقول : إبل معاقبة ترعى الحمض تارة وغيره أخرى ولا تريد أنها تعاقب غيرها من الإبل في ذلك ، وحمل الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عن الزهري أنه قال : يعطي من لحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجاتهم .
وعن الزجاج أن معنى { فعاقبتم } فغنمتم ، وحقيقته فأصبتم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأنه قيل : { وَإِن فَاتَكُمْ شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار } ولم يؤدوا إليكم مهورهن فغنمتم منهم { فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ } من الغنيمة وهذا هو الوجه دون ما سبق ، وقد كان صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس المهر ولا ينقص من حقه شيئاً ، وقال ابن جني : روينا عن قطرب أنه قال : { فعاقبتم } فأصبتم عقباً منهم يقال : عاقب الرجل شيئاً إذا أخذ شيئاً وهو في المعنى كالوجه قبله .(2/74)
وقرأ مجاهد . والزهري . والأعرج . وعكرمة . وحميد . وأبو حيوة . والزعفراني فعقبتم بتشديد القاف من عقبه إذا قفاه لأن كل واحد من المتعاقبين يقفى صاحبه ، والزهري . والأعرج . وأبو حيوة أيضاً . والنخعي . وابن وثاب بخلاف عنه فعقبتم بفتح القاف وتخفيفها ، والزهري . والنخعي أيضاً بالكسر والتخفيف ، ومجاهد أيضاً فأعقبتم أي دخلتم في العقبة؛ وفسر الزجاج هذه القراآت الأربعة بأن المعنى فكانت العقبى لكم أي الغلبة والنصر حتى غنمتم لأنها العاقبة التي تستحق أن تسمى عاقبة { واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } فإن الإيمان به عز وجل يقتضي التقوى منه سبحانه وتعالى :
----------------
وقال الرازي(1) :
في نظم هذه الآيات وجه حسن معقول ، وهو أن المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة ، إما أن يستمر عناده ، أو يرجى منه أن يترك العناد ، أو يترك العناد ويستسلم ، وقد بين الله تعالى في هذه الآيات أحوالهم ، وأمر المسلمين أن يعاملوهم في كل حالة على ما يقتضيه الحال .
أما قوله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إبراهيم والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا برآء منكم } [ الممتحنة : 4 ] فهو إشارة إلى الحالة الأولى ، ثم قوله : { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً } [ الممتحنة : 7 ] إشارة إلى الحالة الثانية ، ثم قوله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات } إشارة إلى الحالة الثالثة ، ثم فيه لطيفة وتنبيه وحث على مكارم الأخلاق ، لأنه تعالى ما أمر المؤمنين في مقابلة تلك الأحوال الثلاث بالجزاء إلا بالتي هي أحسن ، وبالكلام إلا بالذي هو أليق .
واعلم أنه تعالى سماهن مؤمنات لصدور ما يقتضي الإيمان وهو كلمة الشهادة منهن ، ولم يظهر منهن ما هو المنافي له ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان والامتحان وهو الابتلاء بالحلف ، والحلف لأجل غلبة الظن بإيمانهن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة : « بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج ، بالله ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض ، بالله ما خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله » وقوله : { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } منكم والله يتولى السرائر : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ } العلم الذي هو عبارة عن الظن الغالب بالحلف وغيره ، { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } أي تردوهن إلى أزواجهن المشركين ، وقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ } أي أعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور ، وذلك أن الصلح عام الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة يرد إليهم ، ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم ، وكتبوا بذلك العهد كتاباً وختموه ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافر المخزومي ، وقيل : صيفي بن الراهب ، فقال : يا محمد أردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا شرطاً أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طية الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً لأن الشرط إنما كان للرجال دون النساء . وعن الزهري أنه قال : إنها جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي عاتق ، فجاء أهلها يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم ، وكانت هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها فقالوا : أرددها علينا ، فقال عليه السلام :« كان الشرط في الرجال دون النساء » وعن الضحاك : أن العهد كان إن يأتك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، وإن دخلت في دينك ولها زوج ردت على زوجها الذي أنفق عليها ، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك ، ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد ، واستحلفها الرسول عليه السلام فحلفت وأعطى زوجها ما أنفق ، ثم تزوجها عمر ، وقوله تعالى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن إذ المهر أجر البضع { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } والعصمة ما يعتصم به من عهد وغيره ، ولا عصمة بينكم وبينهن ولا علقة النكاح كذلك ، وعن ابن عباس أن اختلاف الدارين يقطع العصمة ، وقيل : لا تقعدوا للكوافر ، وقرىء : { تمسكوا } ، بالتخفيف والتشديد ، و { تمسكوا } أي ولا تتمسكوا ، وقوله تعالى : { واسألوا ما أنفقتم } وهو إذا لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ولم يدفعوها إليكم فعليهم أن يغرموا صداقها كما يغرم لهم وهو قوله تعالى : { وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم } أي بين المسلمين والكفار وفي الآية مباحث :
الأول : قوله : { فامتحنوهن } أمر بمعنى الوجوب أو بمعنى الندب أو بغير هذا وذلك؟ قال الواحدي : هو بمعنى الاستحباب .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 15 / ص 326)(2/75)
الثاني : ما الفائدة في قوله : { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } وذلك معلوم من غير شك؟ نقول : فائدته بيان أن لا سبيل إلى ما تطمئن به النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، فإن ذلك مما استأثر به علام الغيوب .
الثالث : ما الفائدة في قوله : { وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ويمكن أن يكون في أحد الجانبين دون الآخر؟ نقول : هذا باعتبار الإيمان من جانبهن ومن جانبهم إذ الإيمان من الجانبين شرط للحل ولأن الذكر من الجانبين مؤكد لارتفاع الحل ، وفيه من الإفادة مالا يكون في غيره ، فإن قيل : هب أنه كذلك لكن يكفي قوله : { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } لأنه لا يحل أحدهما للآخر فلا حاجة إلى الزيادة عليه والمقصود هذا لا غير ، نقول : التلفظ بهذا اللفظ لا يفيد ارتفاع الحل من الجانبين بخلاف التلفظ بذلك اللفظ وهذا ظاهر .
البحث الرابع : كيف سمى الظن علماً في قوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ } ؟ نقول : إنه من باب أن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد ، والقياس جار مجرى العلم ، وأن صاحبه غير داخل في قوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] . ثم قال تعالى : وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
روى عن الزهري ومسروق أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم ، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة ، فأقر المسلمون بحكم الله وأبى المشركون فنزلت : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْء مّنْ أزواجكم } أي سبقكم وانفلت منكم ، قال الحسن ومقاتل : نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي ، ولم ترتد امرأة من غير قريش غيرها ، ثم عادت إلى الإسلام ، وقوله تعالى : { فعاقبتم } أي فغنمتم ، على قول ابن عباس ومسروق ومقاتل ، وقال أبو عبيدة أصبتم منهم عقبى ، وقال المبرد { فعاقبتم } أي فعلتم ما فعل بكل يعني ظفرتم ، وهو من قولك : العقبى لفلان ، أي العاقبة ، وتأويل العاقبة الكرة الأخيرة ، ومعنى عاقبتم : غزوتم معاقبين غزواً بعد غزو ، وقيل : كانت العقبى لكم والغلبة ، فأعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا عليهن من المهر ، وهو قوله : { فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ } ، وقرىء : ( فأعقبتم ) و ( فعقبتم ) بالتشديد ، و ( فعقبتم ) بالتخفيف بفتح القاف وكسرها .
--------------
وقال السعدي (1):
لما كان صلح الحديبية، صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، على أن من جاء منهم إلى المسلمين مسلما، أنه يرد إلى المشركين، وكان هذا لفظا عاما، [مطلقا] يدخل في عمومه النساء والرجال، فأما الرجال فإن الله لم ينه رسوله عن ردهم، إلى المشركين وفاء بالشرط وتتميما للصلح الذي هو من أكبر المصالح، وأما النساء فلما كان ردهن فيه مفاسد كثيرة، أمر الله المؤمنين إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات، وشكوا في صدق إيمانهن، أن يمتحنوهن ويختبروهن، بما يظهر به صدقهن، من أيمان مغلظة وغيرها، فإنه يحتمل أن يكون إيمانها غير صادق بل رغبة في زوج أو بلد أو غير ذلك من المقاصد الدنيوية.
فإن كن بهذا الوصف، تعين ردهن وفاء بالشرط، من غير حصول مفسدة، وإن امتحنوهن، فوجدن صادقات، أو علموا ذلك منهن من غير امتحان، فلا يرجعوهن إلى الكفار، { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فهذه مفسدة كبيرة في ردهن راعاها الشارع، وراعى أيضا الوفاء بالشرط، بأن يعطوا الكفار أزواجهن ما أنفقوا عليهن من المهر وتوابعه عوضا عنهن، ولا جناح حينئذ على المسلمين أن ينكحوهن ولو كان لهن أزواج في دار الشرك، ولكن بشرط أن يؤتوهن أجورهن من المهر والنفقة، وكما أن المسلمة لا تحل للكافر، فكذلك الكافرة لا تحل للمسلم أن يمسكها ما دامت على كفرها، غير أهل الكتاب، ولهذا قال تعالى: { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وإذا نهى عن الإمساك بعصمتها (1) فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى، { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ } أيها المؤمنون، حين ترجع زوجاتكم مرتدات إلى الكفار، فإذا كان الكفار يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من نسائهم، استحق المسلمون أن يأخذوا مقابلة ما ذهب من نسائهم (2) إلى الكفار، وفي هذا دليل على أن خروج البضع من الزوج متقوم، فإذا أفسد مفسد نكاح امرأة رجل، برضاع أو غيره، كان عليه ضمان المهر، وقوله: { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ } أي: ذلكم الحكم الذي ذكره الله وبينه لكم يحكم به بينكم (3) { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فيعلم تعالى، ما يصلح لكم من الأحكام، ويشرع لكم ما تقتضيه الحكمة (4) .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 857)(2/76)
وقوله: { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ } بأن ذهبن مرتدات { فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } كما تقدم أن الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى المسلمين، فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار وفاتت عليه، لزم أن يعطيه المسلمون من الغنيمة بدل ما أنفق (5) .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فإيمانكم بالله، يقتضي منكم أن تكونوا ملازمين للتقوى على الدوام.
-------------
وفي التفسير الوسيط (1):
قال الإمام القرطبى : قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } : لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين ، واقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين - سبحانه - أحكام مهاجرة النساء .
قال ابن عباس : جرى الصلح مع مشركى قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبى - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها - وكان كافرا . . . فقال : يا محمد ، اردد على امرأتى ، فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وقيل : " جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يردها .
وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخويها وحبسها ، فقالوا للنبى - صلى الله عليه وسلم - ردها علينا للشرط ، فقال : " كان الشرط فى الرجال لا فى النساء " فأنزل الله هذه الآية " .
والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، { إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } ، من دار الكفر الى دار الإيمان ، وراغبات فى فراق الكافرين ، والبقاء معكم .
{ فامتحنوهن } أى : فاختبروهن اختبارا يغلب معه الظن بأنهن صادقات فى هجرتهن وفى إيمانهن ، وفى موافقة قلوبهن لألسنتهن .
وقد ذكر ابن جرير فى كيفية امتحانهن صيغا منها : ما جاء عن ابن عباس أنه قال : كانت المرأة إذا أتت رسول الله - صلى الله عليها وسلم - حلفها بأنها ما خرجت بغضا لزوجها ، ولا رغبة فى الانتقال من أرض إلى أرض ، ولا التماسا لدنيا ، وإنما خرجت حبا لله ولرسوله .
وجملة : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } معترضة لبيان أن معرفة خفايا القلوب ، مردها إلى الله - تعالى - وحده .
قال صاحب الكشاف : قوله : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } أى : منكم ، لأنكم لا تكسبون فيه علما تطمئن معه نفوسكم ، وإن استحلفتموهن ودرستم أحوالهن ، وعند الله حقيقة العلم به .
والمراد بالعلم فى قوله - تعالى - : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } الظن الغالب .
أى : فإن غلب على ظنكم بعد امتحانهن أنهن مؤمنات صادقات فى إيمانهن ، فأبقوهن عندكم ، ولا ترجعوهن إلى أزواجهن أو إلى أهلهن من الكفار .
وسمى الظن القوى علما للإيذان بأنه كالعلم فى وجوب العمل بمقتضاه ، وإنما رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرجال الذين جاءوه مؤمنين بعد صلح الحديبية ، ولم يرد النساء المؤمنات ، لأن شرط الرد كان فى الرجال ولم يكن فى النساء - كما سبق أن ذكرنا نقلا عن القرطبى - ، ولأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة فى الرد ما يخشى على المرأة ، من إصابة المشرك إياها ، وتخويفها ، وإكراهها على الردة . قال بعض العلماء : قال كثير من المفسرين : إن هذه الآية مخصصة لما جاء فى معاهدة صلح الحديبية ، والتى كان فيها من جاء من الكفار مسلما إلى المسلمين ردوه إلى المشركين ، ومن جاء من المسلمين كافرا للمشركين ، لا يردونه على المسلمين ، فأخرجت الآية النساء من المعاهدة ، وأبقت الرجال ، من باب تخصيص العموم .
وتخصيص السنن بالقرآن ، وتخصيص القرآن بالسنن ، أمر معلوم .
ومن أمثلة تخصيص السنة بالكتاب ، قوله : - صلى الله عليه وسلم - : " ما أبين من حى فهو ميت " أى : فهو محرم ، فقد جاء تخصيص هذا العموم بقوله - تعالى - : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا } أى : ليس محرما ، ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } فقد جاء تخصيص هذا العموم بحديث : " أحلت لنا ميتتان ودمان ، أما الميتتان : فالجراد والحوت ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " .
وقال بعض المفسرين : إنها ليست مخصصة للمعاهدة ، لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء ، وإنما كانت فى حق الرجال فقط .
والذى يظهر - والله أعلم - أنها مخصصة لمعاهدة الحديبية ، وهى من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن - كما قال الإمام ابن كثير .
وقوله - سبحانه - : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } تعليل للنهى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى دار الكفر ، أو إلى أزواجهن الكفار .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4173)(2/77)
أى : لا ترجعوا - أيها المؤمنون - النساء المؤمنات المهاجرات إليكم من أرض الكفر إلى أزواجهن الكافرين ، فإن هؤلاء المؤمنات صرن بسبب إيمانهن لا يصح ارتباطهن بأزواجهن الكفار ، كما لا يصح لهؤلاء الكافرين الارتباط بالنساء المؤمنات .
فالجملة الكريمة المقصود بها تأكيد النهى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى أرض الكفر ، ووجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر فى جميع الأحوال .
قال ابن كثير : هذه الآية هى التى حرمت المسلمات على المشركين وقد كان ذلك جائزا فى أول الإسلام ، أن يتزوج المشرك المؤمنة . . .
وقوله - تعالى - : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } بيان لمظهر من مظاهر عدالة الإسلام فى أحكامه . والخطاب لولاة الأمور . وهذا الإيتاء إنما هو للأزواج المعاهدين ، أما إذا كانوا حزبيين فلا يعطون شيئا .
أى : وسلموا إلى المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات ، ما دفعوه لهن من مهور ، قال القرطبى : قوله : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } : أمر الله - تعالى - إذا أُمسِكَتْ المرأة المسلمة ، أن يرد إلى زوجها المشرك ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهد ، لأنه لما مُنِع من أهله ، بحرمة الإسلام ، أمر- سبحانه - برد المال إليه ، حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال .
فالمراد بقوله - تعالى - { مَّآ أَنفَقُواْ } : ما دفعه المشركون لأزواجهم المؤمنات .
وعبر عن هذه المهور بالنفقة ، للإشعار بأن هؤلاء الزوجات المؤمنات ، أصبحت لا صلة لهن بأزواجهن المشركين .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } تكريم لهؤلاء النساء المشركين ، وبعد استبرائكم لأرحامهن ، وعليكم أن تدفعوا لهن مهورهن كاملة غير منقوصة .
ونص على دف المهر لهن - مع أنه أمر معلوم - لكى لا يتوهم متوهم ، أن رد المهر إلى الزوج الكافر ، يغنى عن دفع مهر جديد لهن إذا تزوجن بعد ذلك بأزواج مسلمين ، إذ المهر المردود للكفار ، لا يقوم مقام المهر الذى يجب على المسلم إذا ما تزوج بامرأة مسلمة فارقت زوجها الكافر .
والمراد بالإيتاء : ما يشمل الدفع العاجل ، والتزام الدفع فى المستقبل .
ثم نهى الله - تعالى - المسلمين عن إبقاء الزوجات المشركات فى عصمتهم فقال : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
والعصم : جمع عصمة ، والمراد بها هنا : عقد النكاح الذى يربط بين الزوج والزوجة ، والكوافر : جمع كافرة ، كضوارب جمع ضاربة .
أى : ولا يصح لكم - أيها المؤمنون - أن تبقوا فى عصمتكم ، زوجاتكم اللائى آثرن الكفر على الإيمان ، وأبين الهجرة معكم من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وقد بادر المسلمون بعد نزول هذه الآية بتطليق زوجاتهم الكافرات فطلق عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - امرأتين له كانتا مشركتين ، وطلق طلحة بن عبيد الله إحدى زوجاته وكانت مشركة .
وهذه الجلمة الكريمة تأكيد لقوله - تعالى - قبل ذلك : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .
ثم بين - سبحانه - حكما آخر من الأحكام التى تدل على عدالة الإسلام فى تشريعاته فقال : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } .
أى : كما أنى شرعت لكم أن تعطوا الأزواج المشركين ، مهور نسائهم المسلمات اللائى فررن إليكم ، وتركن أزواجهن الكفار ، فكذلك شرعت لكم أن تطلبوا مهور نسائكم المشركات اللائى انفصلتم عنهن لكفرهن ، ولحقن بهؤلاء المشركين ، وليطلب المشركون منكم مهور نسائهم المؤمنات اللائى انفصلن عنهم وهاجرن إليكم .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة ببيان أن هذه الأحكام ، إنما هى من الله - تعالى - العليم بأحوال النفوس ، الحكيم فى أقواله وأفعاله ، فقال : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
أى : ذلكم الذى ذكرناه لكم من تشريعات تتعلق بالمؤمنات المهاجرات هى أحكام من الله - تعالى - فاتبعوها ، فهو - سبحانه - صاحب الحكم المطلق بينكم ، وهو - سبحانه - عليم بأحوال عباده ، حكيم فى كل تصرفاته وتشريعاته .
وقوله - سبحانه - : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ } بيان لحكم آخر يتعلق بالنساء اللائى التحقن بالمشركين ، وتركن أزواجهن المسلمين ، وأبى المشركون أن يدفعوا للمسلمين مهور هؤلاء الزوجات .
والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } .
وقد ذكروا أن المسلمين لما نزل قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ . . } الآية . كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية .
فامتنع المشركون عن دفع مهور النساء اللاتى ذهبن إليهم ، بعد أن تركن أزواجهن المسلمين ، فنزل قوله - تعالى - : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ } .(2/78)
قال ابن كثير : أقر المؤمنون بحكم الله فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التى انفقوها على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين ، فقال الله - تعالى - للمؤمنين به ، { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } الآية .
وقوله { فَاتَكُمْ } من الفَوْتِ بمعنى الفراق والترك والهرب . . . يقال : فاتنى هذا الشىء ، إذا لم أتمكن من الحصول عليه ، وعدى حرف إلى لتضمنه معنى الفرار .
ولفظ " شىء " هنا المراد به بعض ، وقوله : { مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } بيان للفظ شىء .
وقوله : { فَعَاقَبْتُمْ } يرى بعضهم أنه من العقوبة .
وعليه يكون المعنى : وإن تفلتت وفرت امرأة من أزواجكم - أيها المؤمنون - إلى الكفار ، وامتنعوا عن دفع مهرها لكم . { فَعَاقَبْتُمْ } أى : فغزوتم أنتم بعد ذلك هؤلاء الكافرين وانتصرتم عليهم وظفرتم بمغانم منهم .
{ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ } منكم إلى الكفار من هذه المغانم { مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } أى : مثل المهور التى أنفقوها على زوجاتهم اللائى فررن إلى المشركين .
ويرى بعضهم أن قوله { فَعَاقَبْتُمْ } صيغة تفاعل من العُقْبة - بضم العين وسكون القاف وهى النوبة ، بمعنى أن يصير الإنسان فى حالة تشبه حالة غيره .
قال الآلوسى : قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } من العُقْبَةِ لا من العقاب ، وهى فى الأصل النوبة فى ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده : أى : فجاءت عقبتكم أى نوبتكم من أداء المهر .
شبه الحكم بالأداء المذكور ، بأمر يتعاقبون فيه فى الركوب .
وحاصل المعنى : إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار ، أو فاتكم شىء من مهورهن ، { فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } من مهر المهاجرة التى تزوجتموها ، ولا تعطوا شيئا لزوجها الكافر ، ليكون قصاص .
وعبر عن هؤلاء الزوجات اللائى تركن أزواجهن المؤمنين ، وفررن إلى المشركين ، بلفظ " شىء " لتحقير هؤلاء الزوجات ، وتهوين أمرهن على المسلمين ، وبيان أنهن بمنزلة الشىء الضائع المفقود الذى لا قيمة له .
قال صاحب الكشاف : وجميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة .
وقد أعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين مهور نسائهم - اللاحقات بالمشركين - من الغنيمة .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { واتقوا الله الذي أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } أى : واتقوا الله - تعالى - أيها المؤمنون - فى كل شئونكم ، ونفذوا ما أمركم به أو نهاكم عنه ، فإن الإيمان الحق به - عز وجل - يستزلم منكم ذلك .فالمقصود بهذا التذييل ، الحض على الوفاء بما أمر الله - تعالى - به ، بدون تهاون أو تقاعس .
--------------
وقال الخازن (1):
__________
(1) - تفسير الخازن - (ج 6 / ص 86)(2/79)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } الآية ( خ ) عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه وكره المؤمنون ذلك وأبي سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون عنها النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها حتى أنزل الله فيهن { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن - إلى - ولا هم يحلون لهن } قال عروة فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن بهذه الآية { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات } - إلى قوله { غفور رحيم } قال عروة قالت عائشة فمن أقرت بهذا الشرط منهن؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم « قد بايعتك » كلاماً يكلمها والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ولا بايعهن إلا بقوله وقال ابن عباس « أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحة مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى مكة من أصحابه لم يردوه إليه وكتبوا بذلك كتاباً وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد فراغ الكتاب وأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم وقيل هو صيفي بن الراهب في طلبها وهو كافر فقال يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات أي من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن قال ابن عباس امتحانها أن تستحلف ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا التماس دنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فإذا حلفت على ذلك لم يردها فاستحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيعة فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها فتزوجها عمر بن الخطاب قال المفسرون المراد بقوله يا أيها الذين آمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي تولى امتحانهن بنفسه فكان يمسك من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن ويرد من جاء من الرجال .
واختلف العلماء هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً فقيل قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظاً صريحاً فنسخ الله تعالى ردهن من العقد ومنع منه وأبقاه في الرجال على ما كان في العقد وقيل لم يشترط ردهن في العقد لفظاً صريحاً وإنما أطلق العهد فكان ظاهره العموم لاشتماله على النساء وعلى الرجال فبين الله تعالى خروجهن من عموم العقد وفرق بينهن وبين الرجال في الحكم ، { الله أعلم بإيمانهن } أي هذا الامتحان لكم والله أعلم بإيمانهن { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } إي إذا أقررن بالإيمان فلا تردوهن إلى الكفار لأن الله لم يبح مؤمنة لكفار { وآتوهم } يعني أزواجهن { ما أنفقوا } أي عليهن من المهر الذي دفعوه إليهن ، { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام وإن كان لهن أزواج كفار في دار الحرب لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ووقفت الفرقة بانقضاء عدتها فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي زوجته وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة تقع الفرقة باختلاف الدارين ، { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } جمع عصمة وهي ما اعتصم به من العقد : والسبب نهى الله تعالى المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات يقول الله تعالى وإن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما .
قال الزهري لما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية وهي أم ابنه عبيد الله فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غنم وهما على شركهما .(2/80)
وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله فهاجر طلحة وبقيت هي على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها بعده في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية قال الشعبي وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت وهاجرت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأقام أبو العاص بمكة مشركاً ثم أتى المدينة فأسلم فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم { واسألوا } أي أيها المؤمنون { ما أنفقتم } يعني إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاطلبوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم { وليسألوا } يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم { ما أنفقوا } من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم { وليسألوا } يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم { ما أنفقوا } من المهر ممن تزوجها منكم { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } قال الزهري ولولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش لأمسك النساء ولم يرد الصداق وكذلك صنع بمن جاء من المسلمات قبل العهد فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله تعالى وأدوا ما أمروا به من أداء نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين . { وإن فاتكم } أيها المؤمنون { شيء من أزواجكم إلى الكفار } أي فلحقن بهم مرتدات { فعاقبتم } معناه غزوتم فغنمتم وأصبتم من الكفار عقبي وهي الغنيمة وقيل معناه ظهرتم وكانت العاقبة لكم { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } أي إلى الكفار { مثل ما أنفقوا } معناه أعطوا الذين ذهبت أزواجهم منكم إلى الكفار مرتدات مثل ما أنفقوا عليها من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار قال ابن عباس لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان وكان تحت عياض بن شداد الفهري وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة وكانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر بها أبت وارتدت وبروع بنت عقبة وكانت تحت شماس بن عثمان وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة وتزوجها عمرو بن عبد ود وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل وأم كلثوم وكانت تحت عمر بن الخطاب فكلهن رجعن عن الإسلام فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة واختلف القول في رد مهر من أسلمت من النساء إلى زوجها هل كان واجباً أو مندوباً وأصل هذه المسألة أن الصلح هل كان وقع على رد النساء أم لا فيه قولان أحدهما أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعاً لما روي أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله تعالى { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فعلى هذا كان رد المهر واجباً . والقول الثاني أن الصلح لم يقع على رد النساء لأنه روي عن علي أنه قال لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج من الكفر بإظهار كلمة الكفر مع التورية وإضمار كلمة الإيمان وطمأنينة القلب عليه ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية فعلى هذا كان المهر مندوباً .
واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار فقال قوم لا يجب وزعموا أن الآية منسوخة وهم عطاء ومجاهد وقتادة قال قوم الآية غير منسوخة ويرد عليهم ما أنفقوا قوله تعالى : { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } .
----------------
وقال الطاهر بن عاشور(1) :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
لا خلاف في أن هذه الآيات آخر السورة نزلت عقب صلح الحديبية وقد علمن أنا رجحنا أن أول السورة نزلت قبل هذه وأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين كان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية.
ومناسبة ورود هذه الآية بعد ما قبلها، أي النهي عن موالاة المشركين يتطرق إلى ما بين المسلمين والمشركين من عقود النكاح والمصاهرة فقد يكون المسلم زوجا لمشركة وتكون المسلمة زوجا لمشرك فتحدث في ذلك حوادث لا يستغني المسلمون عن معرفة حكم الشريعة في مثلها.
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 28 / ص 137)(2/81)
وقد حدث عقب الصلح الذي انعقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في الحديبية سنة ست مجيء أبي جندل بن عمرو يوسف في الحديد وكان مسلما موثقا في القيود عند أبيه بمكة فانفلت وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية وكان من شروط الصلح أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه فرده النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط هاربة من زوجها عمرو بن العاص، وجاءت سبيعة الأسلمية مهاجرة هاربة من زوجها صيفي بن الراهب أو مسافر المخزومي، وجاءت أميمة بنت بشر هاربة من زوجها ثابت بن الشمراخ وقيل: حسان بن الدحداح. وطلبهن أزواجهن فجاء بعضهم إلى المدينة جاء زوج سبيعة الأسلمية يطلب ردها إليه وقال: إن طينة الكتاب الذي بيننا وبينك لم تجف بعد، فنزلت هذه الآية فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها إليه ولم يرد واحدة إليهم وبقيت بالمدينة فتزوج أم كلثوم بنت عقبة زيد بن حارثة. وتزوج سبيعة عمر رضي الله عنه1 وتزوج أميمة سهل بن حنيف2.
وجاءت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة ولحق بها زوجها أبو العص بن الربيع بن عبد العزي بعد سنين مشركا ثم اسلم في المدينة فردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
وقد اختلف: هل كان النهي في شأن المؤمنات المهاجرات أن يرجعوهن إلى الكفار نسخا لما تضمنته شرط الصلح الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أو كان الصلح غير مصرح بإرجاع النساء لأن الصيغة صيغة جمع المذكر فاعتبر مجملا وكان النهي الذي في هذه الآية بيانا لذلك المجمل. وقد قيل: إن الصلح صرح فيه بأن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير إذن وله من رجل أو امرأة يرد إلى وليه. فإذا صح ذلك كان صريحا وكانت الآية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي في سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام خلي من هذا التصريح ولذلك كان لفظ الصلح محتملا لإرادة الرجال لأن الضمائر التي اشتمل عليها ضمائر تذكير.
ـــــــ
1 في المطبوعة سهل بن حنيف والمثبت من تفسير البغوي 4/333 و الإصابة 4/325.
2 انظر الإصابة 4/239.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين سألوه إرجاع النساء المؤمنات وطلبوا تنفيذ شروط الصلح: "إنما الشرط في الرجال لا في النساء" فكانت هذه الآية تشريعا للمسلمين فيما يفعلونه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات وإيذانا للمشركين بأن شرطهم غير نص وشأن شروط الصلح الصراحة لعظم أمر المصالحات والحقوق المترتبة عليها، وقد أذهل الله المشركين عن الاحتياط في شرطهم ليكون ذلك رحمة بالنساء المهاجرات إذ جعل لهن مخرجا وتأييدا لرسوله صلى الله عليه وسلم كما في الآية التي بعدها لقصد أن يشترك من يمكنه الاطلاع من المؤمنين على صدق إيمان المؤمنات المهاجرات تعاونا على إظهار الحق، ولأن ما فيها من التكليف يرجع كثير منه إلى أحوال المؤمنين مع نسائهم.
والامتحان: الأخبار. والمراد اختبار إيمانهن.
وجملة {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} معترضة، أي أن الله يعلم سرائرهن ولكن عليكم أن تختبروا ذلك بما تستطيعون من الدلائل.
ولذلك فرع ما قبل الاعتراض قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} الخ، أي إن حصل لكم العلم بأنهن مؤمنات غير كاذبات في دعواهن. وهذا الالتحاق هو الذي سمي المبايعة في قوله في الآية الآتية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ} الآية [الممتحنة: 12].
وفي صحيح البخاري عن عائشة أن رسول الله كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية يقول الله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12] وزاد ابن عباس فقال: كانت الممتحنة أن تستحلف أنها ما خرجت بغضا لزوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منا، ولا بجريرة جرتها بل حبا لله ولرسوله والدار الآخرة، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عمر بن الخطاب بتولي تحليفهن فإذا تبين إيمان المرأة لم يردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى دار الكفر كما هو صريح الآية. {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
وموقع قوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} موقع البيان والتفصيل للنهي في قوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} تحقيقا لوجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر.(2/82)
وإذا قد كان المخاطب بذلك النهي جميع المؤمنين كما هو مقتضى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} إلى آخره، تعين أن يقوم بتنفيذ من إليه تنفيذ أمور المسلمين العامة في كل مكان وكل زمان وهم ولاة الأمور من أمراء وقضاة إذ لا يمكن أن يقوم المسلمون بما خوطبوا به مثل هذه الأمور العامة إلا على هذا الوجه ولكن على كل فرد من المسلمين التزام العمل به في خاصة نفسه والتزام الامتثال لما يقرره ولاة الأمور.
وإذا كان محمل لفظ الحل وما تصرف منه كلام الشارع منصرفا إلى معنى الإباحة الشرعية وهي الجواز وضد التحريم.
ومن الواضح أن الكفار لا تتوجه إليهم خطابات التكليف بأمور الإسلام إذ هم خارجون عنه فمطالبتهم بالتكاليف الإسلامية لا يتعلق به قصد الشريعة، ولذلك تعد المسألة الملقبة في علم الأصول بمسألة: خطاب الكفار بالفروع، مسألة لا طائل تحتها ولا ينبغي الاشتغال بها بله التفريع عليها.
وإذ قد علق حكم نفي حل المرأة الذي هو معنى حرمة دوام عصمتها على ضمير الكفار في قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} . ولم يكن الكفار صالحين للتكليف بهذا التحريم فقد تعين تأويل هذا التحريم بالنسبة إلى كونه على الكافرين، وذلك بإرجاع وصف الحل المنفي إلى النساء في كلتا الجملتين وإبداء وجه الإتيان بالجملتين ووجه التعاكس في ترتيب أجزائهما. وذلك أن نقول: إن رجوع المرأة المؤمنة إلى الكافر يقع على صورتين:
إحداهما: أن ترجع المرأة المؤمنة إلى زوجها في بلاد الكفر، وذلك ما ألح الكفار في طلبه لما جاءت بعض المؤمنات مهاجرات.
والثانية: أن ترجع إلى زوجها في بلاد الإسلام بأن يخلي بينها وبين زوجها الكافر يقيم معها في بلاد الإسلام إذا جاء يطلبها ومنع من تسلمها. وكلتا الصورتين غير حلال للمرأة المسلمة فلا يجيزها ولاة الأمور، وقد عبر عن الصورة الأولى بجملة {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} إذ جعل فيها وصف حل خبرا عن ضمير النساء وأدخلت اللام على ضمير الرجال، وهي لام تعدية الحل وأصلها لام الملك فأفاد أن لا يملك الرجال الكفار عصمة أزواجهم المؤمنات وذلك يستلزم أن بقاء النساء المؤمنات في عصمة أزواجهن الكافرين غير حلال، أي لم يحللهن الإسلام لهم.
وقدم {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} لأنه راجع إلى الصورة الأكثر أهمية عند المشركين إذ كانوا يسألون إرجاع النساء إليهم ويرسلون الوسائط في ذلك بقصد الرد عليهم بهذا.
وجيء في الجملة الأولى بالصفة المشبهة وهي {حل} المفيدة لثبوت الوصف إذ كان الرجال الكافرون يظنون أن العصمة التي لهم على أزواجهم المؤمنات مثبتة أنهن حل لهم.
وعبر عن الثانية بجملة {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فعكس الإخبار بالحل إذ جعل خبرا عن ضمير الرجال، وعدي الفعل إلى المحلل باللام داخلة على ضمير النساء فأفاد أنهن لا يحل لهن أواجهن الكافرون ولو بقى الزوج في بلاد الإسلام.
ولهذا ذكرت الجملة الثانية {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} كالتتمة لحكم الجملة الأولى، وجيء في الجملة الثانية بالمسند فعلا مضارعا لدلالته على التجدد لإفادة نفي الطماعية في التحليل ولو بتجدده في الحال بعقد جديد أو اتفاق جديد على البقاء في دار الإسلام خلافا لأبي حنيفة إذ قال: إن موجب الفرقة هو اختلاف الدارين لا اختلاف الدين.
ويجوز في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد تأكيد نفي الحال فبعد أن قال: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} وهو الأصل كما علمت آنفا أكد بجملة {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي أن انتفاء الحل حاصل من كل جهة كما بقال: لست منك ولست مني.
ونظيره قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} في سورة البقرة[187] تأكيدا لشدة التلبس والاتصال من كل جهة.
وفي الكلام محسن العكس من المحسنات البديعية مع تغيير يسير بين {حل} و {يحلون} اقتضاه المقام، وإنما يوفر حظ التحسين بمقدار ما يسمح له به مقتضى حال البلاغة.
{وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} .
المراد ب {مَا أَنْفَقُوا} . ما أعطوه من المهور، والعدول عن إطلاق اسم المهور والأجور على ما دفعه المشركون لنسائهم اللاء من لطائف القرآن لأن أولئك النساء أصبحن غير زوجات. فألغي إطلاق اسم المهور على ما يدفع لهم.
وقد سمى الله بعد ذلك ما يعطيه المسلمون لهن أجورا بقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . والمكلف بإرجاع مهور الأزواج المشركين إليهم هم ولاة أمور المسلمين مما بين أيديهم من أموال المسلمين العامة.
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .
وإنما قال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} للتنبيه على خصوص قوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} لئلا يظن أن ما دفع للزوج السابق مسقط استحقاق المرأة المهر ممن يروم تزويجها ومعلوم أن نكاحها بعد استبرائها بثلاثة أقراء.
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} .(2/83)
نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في عصمتهم وهن النساء اللاء لم يخرجن مع أزواجهن لكفرهن فلما نزلت هذه الآية طلق المسلمون من كان لهم من أزواج بمكة، فطلق عمر امرأتين له بقيتا بمكة مشركتين، وهما: قريبة بنت أبي أمية، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية.
والمراد بالكوافر: المشركات. وهن موضوع هذه التشريعات لأنها في حالة واقعة فلا تشمل الآية النهي عن بقاء المرأة المسلمة في عصمة زوج مشرك وإنما يؤخذ حكم ذلك بالقياس.
قال ابن عطية: رأيت لأبي علي الفارسي إنه قال: سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أنه في الرجال والنسوان، فقلت له: النحويون لا يرونه إلا في النساء لأن كوافر جمع كافرة، فقال: وآيش يمنع من هذا، أليس الناس يقولون: طائفة كافرة، وفرقة كافرة، فبت وقلت: هذا تأييد اهـ. وجواب أبي الحسن الكرخي غير مستقيم لأنه يمنع منه ضمير الذكور في قوله: {وَلا تُمْسِكُوا} فهم الرجال المؤمنون والكوافر نساؤهم. ومن العجيب قول أبي علي: فبهت وقلت... الخ. وقرأ الجمهور {وَلا تُمْسِكُوا} بضم التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة. وقرأ أبو عمرو بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين مكسورة مضارع مسك بمعنى أمسك.
{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} .
عطف على قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} وهو تتميم لحكمه، أي كما تعطونهم مهور أزواجهم اللاء فررن منهم مسلمات، فكذلك إذا فرت إليهم امرأة مسلم كافرة ولا قدرة لكم على إرجاعها إليكم تسألون المشركين إرجاع مهرها إلى زوجها المسلم الذي فرت منه وهذا إنصاف بين الفريقين، والأمر للإباحة.
وقوله: {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} تكملة لقوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} لإفادة أن معنى واو العطف هنا على المعية بالقرينة لأن قوله {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} لو أريد حكنة بمفرده لكان مغنيا عند قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} ، فلما ككر عقب قوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} علمنا أن المراد جمع مضمون الجملتين، أي إذا أعطوا ما عليهم أعطوهم ما عليكم وإلا فلا. فالواو مفيدة معنى المعية هنا بالقرينة. وينبغي أن يحمل عليه ما قاله بعض الحنفية من أن معنى واو العطف المعية. قال إمام الحرمين في البرهان في معاني الواو: اشتهر من مذهب الشافعي أنها للترتيب وعند بعض الحنفية أنها للمعية. وقد زل الفريقان اهـ. وقد أشار إليه في مغني اللبيب ولم يرده. وقال المازري في شرح البرهان: وأما قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فإن المراد النهي عن تناول السمك وتناول اللبن فيكون الإعراب مختلفا فإذا قال: وتشرب اللبن بفتح الباء كان نهيا عن الجمع ويكون الانتصاب بمعنى تقدير حرف أن اهـ. وهو يرمي إلى أن هذا المحمل يحتاج إلى قرينة.
فأفاد قوله: {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} أنهم إن أبوا من دفع مهور نساء المسلمين يفرون إليهم كان ذلك مخولا للمؤمنين أن لا يعطوهم مهور من فروا من أزواجهم إلى المسلمين، كما يقال في الفقه خيرته تنفي ضروه.
{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
أي هذا حكم الله، وهو عدل بين الفريقين إذ ليس لأحد أن يأخذ بأحد جانبيه ويترك الآخر. قال الزهري: لولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إلى أزواجهم صداق. وجملة {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يجوز كونها حالا من اسم الجلالة أو حالا من {حُكْمُ اللَّهِ} مع تقدير ضمير يربط الجملة بصاحب الحال تقديره: يحكمه بينكم، وأن تكون استئنافا.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . تذييل يشير إلى أن هذا حكم يقتضيه علم الله بحاجات عباده وتقتضيه حكمته إذ أعطى كل ذي حق حقه.
وقد كانت هذه الأحكام التي غي هذه الآيات من التراد في المهور شرعا في أحوال مخصوصة اقتضاها اختلاط الأمر بين أهل الشرك والمؤمنين وما كان من عهد المهادنة بين المسلمين والمشركين في أوائل أمر الإسلام خاصا بذلك الزمان بإجماع أهل العلم، قاله ابن العربي والقرطبي وأبو بكر الجصاص.
[11] {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} .
عطف على جملة {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} [الممتحنة:10] فإنها لما ترتب على نزولها إباء المشركين من أن يردوا إلى أزواج النساء اللاء بقين على الكفر بمكة واللاء فررن من المدينة والتحقن بأهل الكفر بمكة مهورهم التي كانوا أعطوها نساءهم، عقبت بهذه الآية لتشريع رد تلك المهور من أموال المسلمين فيما بينهم.
روي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية من التراد بين الفريقين في قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة:10].
فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللاتي ذهبت إليهم فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} الآية.(2/84)
وأصل الفوت: المفارقة والمباعدة، والتفاوت: المتباعد. والفوت هنا مستعار لضياع الحق كقول رويشد بن كثير الطائي أو عمرو بن معد يكرب:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت
أي فلا ضياع علي بما أذنتم، أي فإنا كمن لم يضع له حق.
والمعنى: إن فرت بعض أزواجكم ولحقت بالكفار وحصل التعاقب بينكم وبين الكفار فعقبتم على أزواج الكفار وعقب الكفار على أزواجكم وأبى الكفار من دفع مهور بعض النساء اللاء ذهبن إليهم، فادفعوا أنتم لمن حرمه الكفار مهر امرأته، أي ما هو حقه، واحتجزوا بذلك على الكفار. وهذا يقتضي أنه إن أعطي جميع المؤمنين مهور من فاتهم من نسائهم وبقي للمشركين فضل يرده المسلمون إلى الكفار. وهذا تفسير الزهري في رواية يونس عنه وهو أظهر ما فسرت به الآية.
وعن ابن عباس والجمهور: الذين فاتهم أزواجهم إلى الكفار يعطون مهور نسائهم من مغانم المسلمين. وهذا يقتضي أن تكون الآية منسوخة بآية سورة براءة[7] {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} .
والوجه أن لا يصار إلى الإعطاء من الغنائم إلا إذا لم يكن في ذمم المسلمين شيء من مهور نساء المشركين اللاء أتين إلى بلاد الإسلام وصرن أزواجا للمسلمين.
والكلام إيجاز حذف شديد دل عليه مجموع الألفاظ وموضع الكلام عقب قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} .
ولفظ {شيء} هنا مراد به: بعض {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} بيان ل {شيء} ، وأريد ب {شيء} تحقير الزوجات اللاء أبين الإسلام، فإن المراد قد فاتت ذاتها عن زوجها فلا انتفاع له بها.
وضمن فعل {فاتكم} معنى الفرار فعدي بحرف إلى أي فررن إلى الكفار.
و {عاقبتم} صيغة تفاعل من العقبة بضم العين وسكون القاف وهي النوبة، أي مصير أحد إلى حال كان فيها غيره. وأصلها في ركوب الرواحل والدواب أن يركب أحد عقبة وآخر عقبة شبه ما حكم به على الفريقين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك في بعض الأحوال ومن أداء أولئك مهور نساء هؤلاء في أحوال أخرى مماثلة بمركوب يتعاقبون فيه.
ففعل {ذهبت} مجاز مثل فعل {فاتكم} في معنى عدم القدرة عليهن.
والخطاب في قوله {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} وفي قوله: {فآتوا} خطاب للمؤمنين والذين ذهبت أزواجهم هم أيضا من المؤمنين.
والمعنى: فليعط المؤمنون لإخوانهم الذين ذهبت أزواجهم ما يماثل ما كانوا أعطوه من المهور لزوجاتهم.
والذي يتولى الإعطاء هنا هو كما قررنا في قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة:10] أي يدفع ذلك من أموال المسلمين كالغنائم والأخماس ونحوها كما بينته السنة، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، وعياض بن أبي شداد الفهري، وشماس بن عثمان، وهشام بن العاص، مهور نسائهم اللاحقات بالمشركين من الغنائم.
وأفاد لفظ {مثل} أن يكون المهر المعطى مساويا لما كان أعطاه زوج المرأة من قبل لا نقص فيه.
وأشارت الآية إلى نسوة من نساء المهاجرين لم يسلمن وهن ثمان نساء: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية ويقال: قريبة وهي أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب، وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر، وبروع بفتح الباء على الأصح والمحدثون يكسرونها بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان وشبهة بنت غيلان. وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص، وقيل تحت عمرو بن عبد. وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص، وأروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كانت تحت طلحة بن عبيد الله، وكان قد هاجر وبقيت زوجه مشركة بمكة فلما نزلت الآية طلقها طلحة بن عبيد الله.
وقد تقدم أن عمر طلق زوجتيه قريبة وأمجرول، فلم تكونا ممن لحقن بالمشركين، وإنما بقيتا بمكة إلى أن طلقهما عمر. وأحسب أن جميعهن إنما طلقهن أزواجهن عند نزول قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10].
والتذييل بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} تحريض للمسلمين على الوفاء بما أمرهم الله وأن لا يصدهم عن الوفاء ببعضه معاملة المشركين لهم بالجور وقلة النصفة، فأمر بأن يؤدي المسلمون لإخوانهم مهور النساء اللاء فارقوهن ولم يرض المشركون بإعطائهم مهورهن ولذلك اتبع اسم الجلالة بوصف {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} لأن الإيمان يبعث على التقوى والمشركون لما لم يؤمنوا بما أمر الله انتفى منهم وازع الإنصاف، أي فلا تكونوا مثلهم.
والجملة الاسمية في الصلة للدلالة على ثبات إيمانهم.
--------------
وفي المدونة (1):
__________
(1) - المدونة - (ج 6 / ص 88)(2/85)
قُلْتُ : وَهَلْ يَكُونُ إسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ طَلَاقًا إذَا بَانَتْ مِنْهُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ ؟ قَالَ : قَالَ : لَا يَكُونُ إسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ طَلَاقًا إنَّمَا هُوَ فَسْخٌ بِلَا طَلَاقٍ . ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَيُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : { بَلَغْنَا أَنَّ نِسَاءً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ يُسْلِمْنَ بِأَرْضِهِنَّ غَيْرَ مُهَاجِرَاتٍ وَأَزْوَاجُهُنَّ حِينَ يُسْلِمْنَ كُفَّارٌ : مِنْهُنَّ ابْنَةُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَكَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ وَهَرَبَ صَفْوَانُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَرَكِبَ الْبَحْرَ , فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَ عَمِّهِ وَهْبَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ خَلَفٍ بِرِدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَانًا لِصَفْوَانَ , فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ , فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُسْلِمَ أَسْلَمَ , وَإِلَّا سَيَّرَهُ شَهْرَيْنِ قَالَ : عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي الْحَدِيثِ فَأَدْرَكَهُ وَقَدْ رَكِبَ فِي الْبَحْرِ , فَصَاحَ بِهِ أَبَا وَهْبٍ , فَقَالَ : مَا عِنْدَك وَمَاذَا تُرِيدُ فَقَالَ : هَذَا رِدَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَانًا لَك , فَتَأْتِي فَتُقِيمُ شَهْرَيْنِ فَإِنْ رَضِيتُ أَمْرًا قَبِلْته وَإِلَّا رَجَعْت إلَى مَأْمَنِك , قَالُوا فِي الْحَدِيثِ فَلَمَّا قَدِمَ صَفْوَانُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِهِ وَهُوَ بِالْأَبْطُحِ بِمَكَّةَ نَادَاهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ رَاكِبٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ هَذَا وَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَتَانِي بِرِدَائِك فَزَعَمَ أَنَّك تَدْعُونِي إلَى الْقُدُومِ عَلَيْك إنْ رَضِيت أَمْرًا قَبِلْته وَإِلَّا سَيَّرْتنِي شَهْرَيْنِ , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَنْزِلُ حَتَّى تُبَيِّنَ لِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَا بَلْ لَك تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ وَسَارَ صَفْوَانُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ حَتَّى أَسْلَمَ صَفْوَانُ فَاسْتَقَرَّتْ امْرَأَتُهُ عِنْدَهُ بِذَلِكَ النِّكَاحِ * . قَالَ مَالِكٌ : قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ بَيْنَ إسْلَامِ امْرَأَةِ صَفْوَانَ وَبَيْنَ إسْلَامِ صَفْوَانَ نَحْوٌ مِنْ شَهْرٍ , قَالُوا عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَأَسْلَمَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ وَهَرَبَ زَوْجُهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْإِسْلَامِ حَتَّى قَدِمَ الْيَمَنَ , فَارْتَحَلَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ الْيَمَنَ , فَدَعَتْهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ , فَقَدِمَتْ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبَ إلَيْهِ فَرِحَا وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ حَتَّى بَايَعَهُ , قَالَ فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ بِذَلِكَ النِّكَاحِ . ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ { أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَحْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ , فَأَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ وَكَرِهَ زَوْجُهَا الْإِسْلَامَ , ثُمَّ إنَّ أَبَا الْعَاصِي خَرَجَ إلَى الشَّامِ تَاجِرًا فَأَسَرَهُ رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَدِمُوا بِهِ الْمَدِينَةَ , فَقَالَتْ زَيْنَبُ إنَّهُ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ . قَالَ : وَمَنْ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ : أَبُو الْعَاصِي . قَالَ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَارَتْ زَيْنَبُ فَأَسْلَمَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ كَانَ عَلَى نِكَاحِهِ * . مَالِكٌ وَيُونُسُ وَقُرَّةُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ امْرَأَةً هَاجَرَتْ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ مُقِيمٌ بِأَرْضِ الْكُفْرِ إلَّا فَرَّقَتْ هِجْرَتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْكَافِرِ إلَّا أَنْ يَقْدَمُ زَوْجُهَا مُهَاجِرًا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ بَعْدَ أَنْ قَدِمَ عَلَيْهَا مُهَاجِرًا وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا . قَالَ يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَكِنَّ السُّنَّةَ قَدْ مَضَتْ فِي الْمُهَاجِرَاتِ(2/86)
اللَّاتِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ * قَالَ فَكَانَتْ السُّنَّةُ إذَا هَاجَرَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ عِصْمَتِهَا الْكَافِرُ وَتَعْتَدَّ , فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا نَكَحَتْ مَنْ بَدَا لَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
---------------
وفي الأم (1):
__________
(1) - الأم للشافعي مشكل - (ج 11 / ص 430) والأم - (ج 4 / ص 261)(2/87)
جِمَاعُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَالْعَهْدِ وَنَقْضِهِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى جِمَاعُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ وَبِالْعَهْدِ كَانَ بِيَمِينٍ , أَوْ غَيْرِهَا فِي قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ * , وَفِي قوله تعالى { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * , وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْوَفَاءَ بِالْعُقُودِ بِالْأَيْمَانِ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ , مِنْهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ , وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا * قَرَأَ الرَّبِيعُ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ { يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ , وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * مَعَ مَا ذُكِرَ بِهِ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى : وَهَذَا مِنْ سَعَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ الَّذِي خُوطِبَتْ بِهِ وَظَاهِرُهُ عَامٌّ عَلَى كُلِّ عَقْدٍ وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوفِيَ بِكُلِّ عَقْدِ نَذْرٍ إذَا كَانَتْ فِي الْعَقْدِ لِلَّهِ طَاعَةٌ , وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا أَمَرَ بِالْوَفَاءِ مِنْهَا مَعْصِيَةٌ . فَإِنْ قَالَ : قَائِلٌ مَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْت وَالْأَمْرُ فِيهِ كُلُّهُ مُطْلَقٌ ؟ وَمِنْ أَيْنَ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ عَهْدًا بِكُلِّ حَالٍ ؟ قِيلَ : الْكِتَابُ ثُمَّ السُّنَّةُ { صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي امْرَأَةٍ جَاءَتْهُ مِنْهُمْ مُسْلِمَةً { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ * * فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا تُرَدَّ النِّسَاءُ , وَقَدْ أَعْطَوْهُمْ رَدَّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ وَهُنَّ مِنْهُمْ فَحَبَسَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَعَاهَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ { بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * * الْآيَةُ . وَأَنْزَلَ { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا * الْآيَةَ . فَإِنْ قَالَ : قَائِلٌ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَنْ صَالَحَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؟ قِيلَ : كَانَ صُلْحُهُ لَهُمْ طَاعَةً لِلَّهِ , إمَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا صَنَعَ نَصًّا , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ لِمَنْ رَأَى بِمَا رَأَى ثُمَّ أَنْزَلَ قَضَاءَهُ عَلَيْهِ فَصَارُوا إلَى قَضَاءِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَنَسَخَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِعْلَهُ بِفِعْلِهِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَكُلٌّ كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً فِي وَقْتِهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَهَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْقِدَ عَقْدًا مَنْسُوخًا ثُمَّ يَفْسَخُهُ ؟ قِيلَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ عَقْدًا مَنْسُوخًا , وَإِنْ كَانَ ابْتَدَأَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُضَهُ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ يُصَلِّيَ إلَى الْكَعْبَةِ ; لِأَنَّ قِبْلَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ نُسِخَتْ . وَمَنْ صَلَّى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ نَسْخِهَا فَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالطَّاعَةِ لَهُ حِينَ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ قِبْلَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ طَاعَةً لِلَّهِ قَبْلَ أَنْ تُنْسَخَ وَمَعْصِيَةً بَعْدَمَا نُسِخَتْ , فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنَاهَتْ فَرَائِضُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يُزَادُ فِيهَا , وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا فَمَنْ عَمِلَ مِنْهَا بِمَنْسُوخٍ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ فَهُوَ عَاصٍ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ , وَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ نَبِيِّ اللَّهِ وَبَيْنَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْوُلَاةِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ , وَفِي كُلِّ مَا وَصَفْت دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ عَقْدًا غَيْرَ مُبَاحٍ لَهُ وَعَلَى أَنَّ عَلَيْهِ إذَا عَقَدَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ ثُمَّ تَكُونَ طَاعَةُ اللَّهِ فِي نَقْضِهِ , فَإِنْ قِيلَ : فَمَا يُشْبِهُ هَذَا ؟ قِيلَ لَهُ : هَذَا مِثْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ(2/88)
يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ * { وَأَسَرَ الْمُشْرِكُونَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَخَذُوا نَاقَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقَتْ الْأَنْصَارِيَّةُ عَلَى نَاقَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَذَرَتْ إنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا أَنْ تَنْحَرَهَا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ , وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ * . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ لَا نَذْرَ يُوَفَّى بِهِ فَلَمَّا دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى إبْطَالِ النَّذْرِ فِيمَا يُخَالِفُ الْمُبَاحَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلَّ عَلَى إبْطَالِهِ الْعُقُودَ فِي خِلَافِ مَا يُبَاحُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ , أَلَا تَرَى أَنَّ نَحْرَ النَّاقَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً لَوْ كَانَتْ لَهَا فَلَمَّا كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَذَرَتْ نَحْرَهَا كَانَ نَحْرُهَا مَعْصِيَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا فَبَطَلَ عَنْهَا عَقْدُ النَّذْرِ , وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْأَيْمَانِ { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ , وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ * وَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ * فَأَعْلَمَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَفِيَ بِالْيَمِينِ إذَا رَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا وَأَنْ يُكَفِّرَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُوَفَّى بِكُلِّ عَقْدِ نَذْرٍ وَعَهْدٍ لِمُسْلِمٍ , أَوْ مُشْرِكٍ كَانَ مُبَاحًا لَا مَعْصِيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ فَأَمَّا مَا فِيهِ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ فَطَاعَةُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي نَقْضِهِ إذَا مَضَى , وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَهُ .
جِمَاعُ الْهُدْنَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ مَنْ جَاءَ بَلَدَهُ مُسْلِمًا , أَوْ مُشْرِكً:.(1)
__________
(1) - الأم للشافعي مشكل - (ج 11 / ص 465) والأم - (ج 4 / ص 272)(2/89)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى : ذَكَرَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَأْمَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَنَّ مَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُرْتَدًّا لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ وَمَنْ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ مِنْهُمْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ , وَلَمْ يُعْطِهِمْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا إلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالشِّرْكِ , وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ * , وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ فِي مُسْلِمٍ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الشَّرْطِ وَذَكَرُوا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِي مُهَادَنَتِهِمْ { إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا * فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : قَضَيْنَا لَك قَضَاءً مُبِينًا فَتَمَّ الصُّلْحُ بَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى هَذَا حَتَّى جَاءَتْهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْت عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً فَنَسَخَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصُّلْحَ فِي النِّسَاءِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ * الْآيَةُ كُلُّهَا وَمَا بَعْدَهَا . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى : وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسَخَ رَدَّ النِّسَاءِ إنْ كُنَّ فِي الصُّلْحِ وَمَنَعَ أَنْ يُرْدَدْنَ بِكُلِّ حَالٍ , فَإِذَا صَالَحَ الْإِمَامُ عَلَى مِثْلِ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ صَالَحَ عَلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا جَاءَ أَحَدٌ مِنْ رِجَالِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ إلَى مَنْزِلِ الْإِمَامِ نَفْسِهِ وَجَاءَ مَنْ يَطْلُبُهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ لَا يَمْنَعَهُ مِنْ الذَّهَابِ بِهِ وَأَشَارَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ أَنْ لَا يَأْتِيَ مَنْزِلَهُ وَأَنْ يَذْهَبَ فِي الْأَرْضِ , فَإِنَّ أَرْضَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسِعَةٌ فِيهَا مُرَاغَمٌ كَثِيرَةٌ , وَقَدْ { كَانَ أَبُو بَصِيرٍ لَحِقَ بِالْعِيصِ مُسْلِمًا وَلَحِقَتْ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَطَلَبُوهُمْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ أَنْ لَا نُؤْيَهُمْ ثُمَّ لَا نَمْنَعَكُمْ مِنْهُمْ إذَا جِئْتُمْ وَنَتْرُكُهُمْ يَنَالُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَا شَاءُوا * . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله وَإِذَا صَالَحَ الْإِمَامُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِمَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى بَعْثِهِ مِنْهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْتِهِ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْعَثْ إلَيْهِمْ مِنْهُمْ بِأَحَدٍ , وَلَمْ يَأْمُرْ أَبَا بَصِيرٍ , وَلَا أَصْحَابَهُ بِإِتْيَانِهِمْ , وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ , وَإِنَّمَا مَعْنَى رَدَدْنَاهُ إلَيْكُمْ لَمْ نَمْنَعْهُ كَمَا نَمْنَعُ غَيْرَهُ , وَإِذَا صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَمْنَعَهُمْ مِنْ نِسَاءٍ مُسْلِمَاتٍ جِئْنَهُ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ وَعَلَيْهِ مَنْعُهُمْ مِنْهُنَّ ; لِأَنَّهُنَّ إنْ لَمْ يَكُنَّ دَخَلْنَ فِي الصُّلْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى هَذَا فِيهِنَّ , وَإِنْ كُنَّ دَخَلْنَ فِيهِ , فَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ وَمَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ جَاءَهُ مِنْ النِّسَاءِ وَهَكَذَا مَنْ جَاءَهُ مِنْ مَعْتُوهٍ , أَوْ صَبِيٍّ هَارِبًا مِنْهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ; لِأَنَّهُمَا يُجَامِعَانِ النِّسَاءَ فِي أَنْ لَا يُمْنَعَا مَعًا وَيَزِيدَانِ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ لَا يَعْرِفَا ثَوَابًا فِي أَنْ يَنَالَ مِنْهُمَا الْمُشْرِكُونَ شَيْئًا , وَلَا يَرُدُّ إلَيْهِمْ فِي صَبِيٍّ , وَلَا فِي مَعْتُوهٍ شَيْئًا كَمَا لَا يَرُدُّ إلَيْهِمْ فِي النِّسَاءِ غَيْرَ الْمُتَزَوِّجَاتِ شَيْئًا ; لِأَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَزَوِّجَاتِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَمَنْ جَاءَهُ مِنْ عَبِيدِهِمْ مُسْلِمًا لَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِمْ وَأَعْتَقَهُ بِخُرُوجِهِ إلَيْهِ , وَفِي إعْطَائِهِمْ الْقِيمَةَ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُعْطُوهَا ذَكَرًا , أَوْ أُنْثَى ; لِأَنَّ رَقِيقَهُمْ لَيْسَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ(2/90)
حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ . فَإِنْ قَالَ : قَائِلٌ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مِنْهُمْ ؟ قِيلَ : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ * فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهَا عَلَى الْأَحْرَارِ دُونَ الْمَمَالِيكِ ذَوِي الْعَدْلِ , وَلَا يُقَالُ : لِرَقِيقِ الرَّجُلِ هُمْ مِنْك إنَّمَا يُقَالُ هُمْ مَالُك , وَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ الْقِيمَةَ بِأَنَّهُمْ إذَا صُولِحُوا أَمِنُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَلَهُمْ أَمَانٌ فَلَمَّا حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يَرُدَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ ; لِأَنَّهَا فَائِتَةٌ حُكِمَ بِأَنْ يَرُدَّ قِيمَةَ الْمَمْلُوكِ ; لِأَنَّهُ فَائِتٌ . وَمَا رَدَدْنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ النَّفَقَةِ . قُلْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ إذَا فَاتَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ مِثْلَهُ وَمَا لَمْ نُعْطِهِمْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْأَحْرَارِ الرِّجَالِ , أَوْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ لَمْ نَأْخُذْ مِنْهُمْ شَيْئًا إذَا فَاتَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا حَكَمَ بِأَنْ يُرَدَّ إلَيْهِمْ الْعِوَضُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَكَمَ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُمْ مِثْلَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : لَا يَرُدُّ إلَيْهِمْ قِيمَةً , وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِيمَنْ فَاتَ إلَيْهِمْ مِنْ رَقِيقٍ عَيْنًا , وَلَا قِيمَةً ; لِأَنَّ رَقِيقَهُمْ لَيْسُوا مِنْهُمْ , وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إذَا لَمْ يُصَالِحْ الْقَوْمَ إلَّا عَلَى مَا وَصَفْت أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ مُسْلِمٍ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِيهِمْ فَانْفَلَتَ مِنْهُمْ , وَلَا يَقْضِي لَهُمْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ , وَلَوْ أَقَرَّ عَبْدُهُمْ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِمْ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لَهُمْ , وَلَمْ يَخْرُجْ الْمُسْلِمُ بِحَسْبِهِ ; لِأَنَّهُ أَعْطَاهُمُوهُ عَلَى ضَرُورَةٍ هِيَ أَكْثَرُ الْإِكْرَاهِ وَكُلُّ مَا أَعْطَى الْمَرْءُ عَلَى الْإِكْرَاهِ لَمْ يَلْزَمْهُ .
مَا جَاءَ فِي نِكَاحِ إمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرَائِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِمَائِهِمْ (1):
__________
(1) - الأم للشافعي مشكل - (ج 14 / ص 287) والأم - (ج 5 / ص 234)(2/91)
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ * وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ * الْآيَةَ فَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَنْ نِكَاحِ نِسَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا نَهَى عَنْ إنْكَاحِ رِجَالِهِمْ ( قَالَ ) وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تَحْتَمِلَانِ مَعْنَيَيْنِ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِمَا مُشْرِكُو أَهْلِ الْأَوْثَانِ خَاصَّةً فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِمَا بِحَالِهِ لَمْ يُنْسَخْ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ أَنْ لَا يَنْكِحَ مُسْلِمٌ مِنْهُمْ امْرَأَةً كَمَا لَا يَنْكِحُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُسْلِمَةً ( قَالَ ) وَقَدْ قِيلَ هَذَا فِيهَا وَفِيمَا هُوَ مِثْلُهُ عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ ( قَالَ ) وَتَحْتَمِلَانِ أَنْ تَكُونَا فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَتَكُونُ الرُّخْصَةُ نَزَلَتْ بَعْدَهَا فِي حَرَائِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً كَمَا جَاءَتْ فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ * الْآيَةَ وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ * إلَى قَوْلِهِ { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ * ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله فَبِهَذَا كُلِّهِ نَقُولُ لَا تَحِلُّ مُشْرِكَةٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِنِكَاحٍ وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَنْكِحَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا حُرَّةً وَلَا مِنْ الْإِمَاءِ إلَّا مُسْلِمَةً وَلَا تَحِلُّ الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ حَتَّى يَجْتَمِعَ الشَّرْطَانِ مَعًا فَيَكُونَ نَاكِحُهَا لَا يَجِدُ طَوْلًا لِحُرَّةٍ وَيَكُونَ يَخَافُ الْعَنَتَ إنْ لَمْ يَنْكِحْهَا وَهَذَا أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَأَحَبُّ إلَيَّ لَوْ تَرَكَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ وَإِنْ نَكَحَهَا فَلَا بَأْسَ وَهِيَ كَالْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي الْقَسْمِ لَهَا وَالنَّفَقَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَالْعِدَّةِ وَكُلِّ أَمْرٍ غَيْرَ أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ وَتَعْتَدُّ مِنْهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَعِدَّةَ الطَّلَاقِ وَتَجْتَنِبُ فِي عِدَّتِهَا مَا تَجْتَنِبُ الْمُعْتَدَّةُ وَكَذَلِكَ الصَّبِيَّةُ وَيُجْبِرُهَا عَلَى الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالتَّنْظِيفِ فَأَمَّا الْأَمَةُ الْمُسْلِمَةُ فَإِنْ نَكَحَهَا وَهُوَ يَجِدُ طَوْلًا لِحُرَّةٍ فُسِخَ النِّكَاحُ وَلَكِنَّهُ إنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلًا ثُمَّ نَكَحَهَا ثُمَّ أَيْسَرَ لَمْ يُفْسَخْ النِّكَاحُ لِأَنَّ الْعُقْدَةَ انْعَقَدَتْ صَحِيحَةً فَلَا يُفْسِدُهَا مَا بَعْدَهَا , وَلَوْ عَقَدَ نِكَاحَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ فَقَدْ قِيلَ تَثْبُتُ عُقْدَةُ الْحُرَّةِ وَعُقْدَةُ الْأَمَةِ مَفْسُوخَةٌ وَقَدْ قِيلَ : هِيَ مَفْسُوخَةٌ مَعًا ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ لَا يَصْلُحُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْيَوْمَ لِأَنَّهُ يَجِدُ طَوْلًا إلَى حُرَّةٍ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِمَ قُلْت لَا يَحِلُّ نِكَاحُ إمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ ؟ فَقُلْت اسْتِدْلَالًا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ وَأَيْنَ مَا اسْتَدْلَلْت مِنْهُ ؟ فَقُلْت قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ * وَقَالَ { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ * الْآيَةَ فَقُلْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ لَا يُحِلُّ لِمَنْ لَزِمَهُ اسْمُ كُفْرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ وَلَا أَمَةٍ بِحَالٍ أَبَدًا وَلَا يَخْتَلِفُ فِي هَذَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ عَامَّتَانِ وَاسْمَ الْمُشْرِكِ لَازِمٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَوَجَدْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ * فَلَمْ نَخْتَلِفْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ أَنَّهُنَّ الْحَرَائِرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً إذَا خُصِّصَ وَتَكُونُ الْإِمَاءُ مِنْهُنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمُشْرِكَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَالَ(2/92)
إنَّا نَقُولُ قَدْ يُحِلُّ اللَّهُ الشَّيْءَ وَيَسْكُتُ عَنْ غَيْرِهِ غَيْرَ مُحَرِّمٍ لِمَا سَكَتَ عَنْهُ وَإِذَا أَحَلَّ حَرَائِرَهُمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إحْلَالِ إمَائِهِمْ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَنَى بِالْآيَتَيْنِ الْمُشْرِكِينَ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ فَقُلْت : أَرَأَيْت إنْ عَارَضَك مُعَارِضٌ بِمِثْلِ حُجَّتِك الَّتِي قُلْت فَقَالَ وَجَدْت فِي أَهْلِ الْكِتَابِ حُكْمًا مُخَالِفًا حُكْمَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ فَوَجَدْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبَاحَ نِكَاحَ حَرَائِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا تُقَاسُ إمَاؤُهُمْ بِحَرَائِرِهِمْ فَكَذَلِكَ أَنَا أَقِيسُ رِجَالَهُمْ بِنِسَائِهِمْ فَأَجْعَلُ لِرِجَالِهِمْ أَنْ يَنْكِحُوا الْمُسْلِمَاتِ إذَا كَانُوا خَارِجِينَ مِنْ الْآيَتَيْنِ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ وَالْإِرْخَاصُ فِي حَرَائِرِ نِسَائِهِمْ لَيْسَ الْإِرْخَاصُ فِي أَنْ يَنْكِحَ رِجَالُهُمْ الْمُسْلِمَاتِ ؟ قُلْت : فَإِنْ قَالَ لَك وَلَكِنَّهُ فِي مِثْلِ مَعْنَاهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ قَالَ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ قِيَاسًا وَإِنَّمَا قُصِدَ بِالتَّحْلِيلِ عَيْنٌ مِنْ جُمْلَةٍ مُحَرَّمَةٍ قُلْت فَهَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْك لِأَنَّ إمَاءَهُمْ غَيْرُ حَرَائِرِهِمْ كَمَا رِجَالُهُمْ غَيْرُ نِسَائِهِمْ وَإِنَّمَا حَرَائِرُهُمْ مُسْتَثْنَوْنَ مِنْ جُمْلَةٍ مُحَرَّمَةٍ . قَالَ : قَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنْ لَا يَحِلَّ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْكِحَ مُسْلِمَةً . قُلْت : فَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَيْك لِأَنَّهُمْ إنَّمَا حَرَّمُوا ذَلِكَ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَخَّصُوا فِي الْحَرَائِرِ بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْإِمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . قُلْت : فَإِذَا اخْتَلَفُوا فَالْحُجَّةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَك لِمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ حَرَّمَهُنَّ فَقَدْ وَافَقَ مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّهُنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمُشْرِكَاتِ وَبَرِئُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْحَرَائِر الْمَخْصُوصَات بِالتَّحْلِيلِ ( قَالَ ) وَقُلْنَا لَا يَحِلُّ نِكَاحُ أَمَةٍ مُسْلِمَةٍ إلَّا بِأَنْ لَا يَجِدَ نَاكِحُهَا طَوْلًا لِحُرَّةٍ وَلَا تَحِلُّ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلًا لِحُرَّةٍ حَتَّى يَخَافَ الْعَنَتَ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ لَهُمَا أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَخَالَفَنَا فَقَالَ : يَحِلُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ بِكُلِّ حَالٍ كَمَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَقَالَ لَنَا مَا الْحُجَّةُ فِيهِ ؟ فَقُلْت كِتَابُ اللَّهِ الْحُجَّةُ فِيهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنْ لَا يَحِلَّ نِكَاحُ إمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ مَا وَصَفْنَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ؟ فَقُلْت لَهُ : قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْمَيْتَةَ فَقَالَ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ * وَاسْتَثْنَى إحْلَالَهُ لِلْمُضْطَرِّ أَفَيَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَمَّا حَلَّتْ الْمَيْتَةُ بِحَالٍ لِوَاحِدٍ مَوْصُوفٍ وَهُوَ الْمُضْطَرُّ حَلَّتْ لِمَنْ لَيْسَ فِي صِفَتِهِ ؟ قَالَ لَا . قُلْت وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالطَّهُورِ وَأَرْخَصَ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ أَنْ يَقُومَ الصَّعِيدُ مَقَامَ الْمَاءِ لِمَنْ يَعُوزُهُ الْمَاءُ فِي السَّفَرِ وَلِلْمَرِيضِ مِثْلُ الْمَحْذُورِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ بِغَيْرِ إعْوَازٍ أَفَيَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أُجِيزَ لَهُ التَّيَمُّمُ فِي السَّفَرِ عَلَى غَيْرِ إعْوَازٍ كَمَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ ؟ قَالَ : لَا يَجُوزُ أَبَدًا إلَّا لِمَعُوزٍ مُسَافِرٍ وَإِذَا أُحِلَّ شَيْءٌ بِشَرْطٍ لَمْ يَحْلُلْ إلَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ اثْنَيْنِ . قُلْت : وَكَذَلِكَ حِينَ أَوْجَبَ عِتْقَ رَقَبَةٍ فِي الظِّهَارِ ثُمَّ قَالَ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ * لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَصُومَ وَهُوَ يَجِدُ عِتْقَ رَقَبَةٍ ؟ قَالَ نَعَمْ : فَقُلْت لَهُ قَدْ أَصَبْت : فَإِنْ كَانَتْ لَك بِهَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَحَدٍ لَوْ خَالَفَك فَكَذَلِكَ هِيَ عَلَيْك فِي إحْلَالِك نِكَاحَ إمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَرَائِرِهِمْ وَنِكَاحِ إمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِكُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّه فِيهِنَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلًا وَلِمَنْ يَخَافُ الْعَنَتَ وَمَا يَلْزَمُهُ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِمَّا وَصَفْنَا وَفِيمَا وَصَفْت كِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . قَالَ : فَمِنْ أَصْحَابِك مَنْ قَالَ يَجُوزُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ بِكُلِّ حَالٍ قُلْت فَالْحُجَّةُ عَلَى مَنْ أَجَازَ نِكَاحَ إمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ(2/93)
الْحُجَّةُ عَلَيْك وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ نِكَاحُهُنَّ إلَّا بِمَعْنَى الضَّرُورَةِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ النَّاكِحُ طَوْلًا لِحُرَّةٍ وَيَخَافَ الْعَنَتَ فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ مَعَهُ الْحَقُّ .
----------------
وقال الجصاص(1) :
بَابُ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا * قَالَ قَتَادَةُ : " يَعْنِي بِهِ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ; آمَنَ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ , ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهَا وَكَذَلِكَ آمَنُوا بِمُوسَى عليه السلام ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ , وَآمَنَ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ , ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ وَكَذَلِكَ آمَنُوا بِعِيسَى عليه السلام ثُمَّ كَفَرُوا بِمُخَالَفَتِهِ , ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُخَالَفَةِ الْفُرْقَانِ وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : " هِيَ فِي الْمُنَافِقِينَ : آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا , ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا , ثُمَّ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ " . وَقَالَ آخَرُونَ هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَصَدَتْ تَشْكِيكَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ وَالْكُفْرَ بِهِ , وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ الَّذِي تَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَأَنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ مَقْبُولَةٌ ; إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَقَبُولُ تَوْبَتِهِ بَعْدَ الْكُفْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالْحُكْمُ بِإِيمَانِهِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِيمَانَ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ وَالزِّنْدِيقِ , فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ : " فِي الْأَصْلِ لَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْتَتَابَ , وَمَنْ قَتَلَ مُرْتَدًّا قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ " . وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الزِّنْدِيقِ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " أَسْتَتِيبُهُ كَالْمُرْتَدِّ , فَإِنْ أَسْلَمَ خَلَّيْت سَبِيلَهُ وَإِنْ أَبَى قَتَلْته " , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ زَمَانًا , فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُ الزَّنَادِقَةُ وَيَعُودُونَ قَالَ : " أَرَى إذَا أُتِيتُ بِزِنْدِيقٍ آمُرُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَلَا أَسْتَتِيبُهُ , فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ أَقْتُلَهُ خَلَّيْته " . وَذَكَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : " إذَا زَعَمَ الزِّنْدِيقُ أَنَّهُ قَدْ تَابَ حَبَسْته حَتَّى أَعْلَمَ تَوْبَتَهُ " . وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : " أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ , إلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُؤَجَّلَ فَإِنْ طَلَبِ ذَلِكَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " وَلَمْ يَحِكْ خِلَافًا . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ : وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرَ ذَكَرَهَا عَنْهُ أَدْخَلَهَا فِي أَمَالِيهِ عَلَيْهِمْ قَالَ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : " اُقْتُلْ الزِّنْدِيقَ سِرًّا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ " , وَلَمْ يَحْكِ أَبُو يُوسُفَ خِلَافَهُ . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : " الْمُرْتَدُّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ ثَلَاثًا فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ , وَإِنَّ ارْتَدَّ سِرًّا قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ كَمَا يُقْتَلْ الزَّنَادِقَةُ , وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ مَنْ أَظْهَرَ دِينَهُ الَّذِي ارْتَدَّ إلَيْهِ " قَالَ مَالِكٌ : " يُقْتَلُ الزَّنَادِقَةُ وَلَا يُسْتَتَابُونَ , وَالْقَدَرِيَّةُ يُسْتَتَابُونَ " فَقِيلَ لِمَالِكٍ : فَكَيْفَ يُسْتَتَابُ الْقَدَرِيَّةُ ؟ قَالَ : " يُقَالُ لَهُمْ اُتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَإِنْ فَعَلُوا وَإِلَّا قُتِلُوا وَإِنَّ أَقَرَّ الْقَدَرِيَّةُ بِالْعِلْمِ لَمْ يُقْتَلُوا " . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ * ; قَالَ مَالِكٌ : هَذَا فِيمَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ , لَا فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَلَا مِنْ
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 5 / ص 160)(2/94)
النَّصْرَانِيَّةِ إلَى الْيَهُودِيَّةِ ; قَالَ مَالِكٌ : وَإِذَا رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا ضَرْبَ عَلَيْهِ , وَحَسَنٌ أَنْ يُتْرَكَ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُعْجِبُنِي . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : " يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ وَإِنْ تَابَ مِائَةَ مَرَّةٍ " . وَقَالَ اللَّيْثُ : " النَّاسُ لَا يَسْتَتِيبُونَ مَنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ إذَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ , وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَتُبْ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ " . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ظَاهِرًا وَالزِّنْدِيقُ , وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ " . وَفِي الِاسْتِتَابَةِ ثَلَاثًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ عُمَرَ , وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِأَنَاةٍ ; وَهَذَا ظَاهِرُ الْخَبَرِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : رَوَى سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : " يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا " ثُمَّ قَرَأَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا * الْآيَةَ ; وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِاسْتِتَابَتِهِ ثَلَاثًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ * وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ اسْتِتَابَتَهُ ; إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ , وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ دُعَاءَهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ لقوله تعالى : { اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ * الْآيَةَ , وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي * , فَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ إلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ , فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي دُعَاءَ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِسْلَامِ كَدُعَاءِ سَائِرِ الْكُفَّارِ , وَدُعَاؤُهُ إلَى الْإِسْلَامِ هُوَ الِاسْتِتَابَةُ ; وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ * , وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ إلَى الْإِيمَانِ ; وَيُحْتَجُّ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي اسْتِتَابَةِ الزِّنْدِيقِ لِاقْتِضَاءِ عُمُومِ اللَّفْظِ لَهُ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا * لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ , فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي قَبُولَ إسْلَامِهِ . فَإِنْ قِيلَ : قوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ * لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى زَوَالِ الْقَتْلِ عَنْهُ ; لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ ذُنُوبُهُ وَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ قَتْلُهُ كَمَا يُقْتَلُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ وَإِنْ كَانَ تَائِبًا وَيُقْتَلُ قَاتِلُ النَّفْسِ مَعَ التَّوْبَةِ . قِيلَ لَهُ : قوله تعالى : { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ * يَقْتَضِي غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ وَقَبُولَ تَوْبَتِهِ ; لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً لَمَا كَانَتْ ذُنُوبُهُ مَغْفُورَةً , وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ اسْتِتَابَتِهِ وَقَبُولِهَا مِنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ قَتْلَ الْكَافِرِ إنَّمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ , فَإِذَا انْتَقَلَ عَنْهُ إلَى الْإِيمَانِ فَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَ قَتْلُهُ وَعَادَ إلَى حَظْرِ دَمِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ ظَاهِرًا مَتَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ حُقِنَ دَمُهُ ؟ كَذَلِكَ الزِّنْدِيقُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُرْتَدِّ الَّذِي لَحِقَ بِمَكَّةَ وَكَتَبَ إلَى قَوْمِهِ : سَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ * إلَى قوله تعالى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا * فَكَتَبُوا بِهَا إلَيْهِ , فَرَجَعَ فَأَسْلَمَ ; فَحَكَمَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ , فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ لَهُ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهُ دُونَ مَا فِي قَلْبِهِ . وَقَوْلُهُ مَنْ قَالَ : إنِّي لَا أَعْرِفُ تَوْبَتَهُ إذَا كَفَرَ سِرًّا , فَإِنَّا لَا نُؤَاخَذُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اعْتِقَادِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا نَصِلُ إلَيْهِ , وَقَدْ حَظَرَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْحُكْمَ بِالظَّنِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ * , وَقَالَ النَّبِيُّ صلى(2/95)
الله عليه وسلم : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ * , وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ * , وَقَالَ : { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ * وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِضَمَائِرِهِنَّ وَاعْتِقَادِهِنَّ , وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا ظَهَرَ مِنْ إيمَانِهِنَّ بِالْقَوْلِ وَجَعَلَ ذَلِكَ عِلْمًا , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالضَّمِيرِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْقَوْلِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا * وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ ; { وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَقَالَ : إنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا , قَالَ : هَلَّا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ * . وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ , أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ فَقَالَ : مَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ إحْنَةٌ , وَإِنِّي مَرَرْت بِمَسْجِدِ بَنِي حَنِيفَةَ فَإِذَا هُمْ يُؤْمِنُونَ بِمُسَيْلِمَةَ ; فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ , فَجَاءَ بِهِمْ وَاسْتَتَابَهُمْ , غَيْرَ ابْنِ النَّوَّاحَةِ قَالَ لَهُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَوْلَا أَنَّك رَسُولٌ لَضَرَبْت عُنُقَك * فَأَنْتَ الْيَوْمَ لَسْت بِرَسُولٍ , أَيْنَ مَا كُنْت تُظْهِرُ مِنْ الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ : كُنْت أَتَّقِيكُمْ بِهِ ; فَأَمَرَ بِهِ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ بِالسُّوقِ , ثُمَّ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ابْنِ النَّوَّاحَةِ قَتِيلًا بِالسُّوقِ . فَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتَتَابَ الْقَوْمَ وَقَدْ كَانُوا مُظْهِرِينَ لِكُفْرِهِمْ , وَأَمَّا ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَلَمْ يَسْتَتِبْهُ ; لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُسِرًّا لِلْكُفْرِ مُظْهِرًا لِلْإِيمَانِ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ ; وَقَدْ كَانَ قَتْلُهُ إيَّاهُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِيهِمْ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : أُخِذَ بِالْكُوفَةِ رِجَالٌ يُؤْمِنُونَ بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ , فَكَتَبَ فِيهِمْ إلَى عُثْمَانَ , فَكَتَبَ عُثْمَانُ : " اعْرِضْ عَلَيْهِمْ دِينَ الْحَقِّ وَشَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ قَالَهَا وَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِ مُسَيْلِمَةَ فَلَا تَقْتُلُوهُ , وَمَنْ لَزِمَ دِينَ مُسَيْلِمَةَ فَاقْتُلْهُ " فَقَبِلَهَا رِجَالٌ مِنْهُمْ وَلَزِمَ دِينَ مُسَيْلِمَةَ رِجَالٌ فَقُتِلُوا .
-----------------
وقال أيضا(1):
بَابُ صِلَةِ الرَّحِمِ الْمُشْرِكِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ .
رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمٍّ لَهَا مُشْرِكَةٍ جَاءَتْنِي أَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ صِلِيهَا } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَوْلُهُ : { أَنْ تَبَرُّوهُمْ و تُقْسِطُوا إلَيْهِمْ } عُمُومٌ فِي جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَاتِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إذْ لَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ قِتَالِنَا ، وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ لِقَوْلِهِ : { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ } .
وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ : { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } قَالَ : نَسَخَهَا قَوْلُهُ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقَوْله تَعَالَى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } الْآيَةَ .
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 9 / ص 52)(2/96)
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : { كَانَ مِمَّا شَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَا يَأْتِيك مِنَّا أَحَدٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِك إلَّا رَدَدْتَهُ عَلَيْنَا فَرَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ عَلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَجَاءَ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجِعَهَا ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ : { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } } الْآيَةَ .
قَالَ عُرْوَةُ : فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك } ، قَالَتْ : فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ بَايَعْتُك كَلَامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ وَاَللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمُبَايَعَةِ } وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : لَقَدْ { صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَجَعَلَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ ، وَمَنْ لَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ يَرُدُّونَهُ .} وَرَوَى الْحُكْمُ عَنْ مُقْسِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " كَانَ فِي الصُّلْحِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَهُوَ رَدٌّ إلَيْهِمْ ، وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ بَعْدَ الصُّلْحِ فَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ تُسْأَلُ مَا أَخْرَجَكِ ؟ فَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ هَرَبًا مِنْ زَوْجِهَا وَرَغْبَةً عَنْهُ رُدَّتْ ، وَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ أُمْسِكَتْ وَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ " .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَخْلُو الصُّلْحُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَانَ خَاصًّا فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا إلَيْهِمْ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ بَدِيًّا عَامًّا ثُمَّ نُسِخَ عَنْ النِّسَاءِ ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ النِّسَاءِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ .
وَقَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا هَاجَرْنَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى امْتِحَانَهُنَّ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ غَيْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَضْرَتِهِمْ وقَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ لَا حَقِيقَةُ الْيَقِينِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ : { إنَّ ابْنَك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } يَعْنُونَ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَرَقَ فِي الْحَقِيقَةِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } ؟ ، وَإِنَّمَا حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ لَمَّا وَجَدُوا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِهِ ؛ وَهُوَ مِثْلُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ قَدْ تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِالْحُكْمِ بِهَا مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ وَحَمْلِ شَهَادَتِهِمَا عَلَى الصِّحَّةِ ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَقَدْ أَلْزَمَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبُولَ قَوْلِ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْإِيمَانُ وَالْحُكْمَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ .(2/97)
وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَصْدِيقِ كُلِّ مَنْ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ حَالِهِ ، مِثْلُ الْمَرْأَةِ إذَا أَخْبَرَتْ عَنْ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا وَحَبَلِهَا ، وَمِثْلُ الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ : " أَنْتِ طَالِقٌ إذَا حِضْتِ " أَوْ قَالَ : " إذَا طَهُرْتِ " فَيَكُونُ قَوْلُهَا مَقْبُولًا فِيهِ ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ } فَقَالَ عَطَاءٌ : مَا عَلِمْنَا إيمَانَهُنَّ إلَّا بِمَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِنَّ ؛ وَقَالَ قَتَادَةُ : امْتِحَانُهُنَّ مَا خَرَجْنَ إلَّا لِلدِّينِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَحُبِّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَرَسُولِهِ .
------------------
وقال أيضا (1):
بَابُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } الْآيَةَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ .
وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُهَاجِرَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَدْ صَارَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَزَوْجُهَا بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ بِهِمَا الدَّارَانِ ، وَحَكَمَ اللَّهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ : { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } .
وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَكَانَ الزَّوْجُ أَوْلَى بِهَا بِأَنْ تَكُونَ مَعَهُ حَيْثُ أَرَادَ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ؛ وَقَوْلُهُ : { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِرَدِّ مَهْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ ، وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَمَا اسْتَحَقَّ الزَّوْجُ رَدَّ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْبُضْعَ وَبَدَلَهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ بَاقِيًا لَمَا جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } ، وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ ، فَنَهَانَا أَنْ نَمْتَنِعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا الْحَرْبِيِّ .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً وَلَهَا زَوْجٌ كَافِرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ : " قَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا " وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : " عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ " ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ : " إنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ " .
وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ ، لَا حُكْمَ لِلدَّارِ عِنْدَهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : رَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : " إذَا أَسْلَمَتْ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة قَبْلَ زَوْجِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامُوا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ " .
وَرَوَى الشَّيْبَانِيُّ عَنْ السَّفَّاحِ بْن مَطَرٍ عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ قَالَ : " كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ نَصْرَانِيٌّ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ نَصْرَانِيَّةٌ فَأَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَأَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُسْلِمَ ، فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا " وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ فِي النَّصْرَانِيِّ تُسْلِمُ امْرَأَتُهُ قَالُوا : " إنْ أَسْلَمَ مَعَهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا " .
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 9 / ص 55)(2/98)
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : " إذَا أَسْلَمَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا " ، وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ ، وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ مِثْلُهُ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : " إنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا " وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " إذَا أَسْلَمَتْ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا فَهِيَ أَمْلَكُ لِنَفْسِهَا " قَالَ أَبُو بَكْرٍ : حَصَلَ اخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامُوا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ " ، وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَنَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ ، وَمَتَى اخْتَلَفَتْ بِهِمَا الدَّارُ فَصَارَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَانَتْ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " إذَا أَسْلَمَتْ وَأَبَى الزَّوْجُ الْإِسْلَامَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا " .
وَهَذَا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَام وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ : " هِيَ امْرَأَتُهُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ " ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تَقَعْ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِهَا " وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبِينُ مِنْهُ بِإِسْلَامِهَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ إذَا أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ الزَّوْجُ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : " إنْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ حَتَّى يَعْرِضَ الْإِسْلَامَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا " ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ ، وَقَالُوا : " إنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَسْلَمَتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ ، فَإِذَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا " وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ اعْتِبَارُ الْحَيْضِ إنَّمَا أَرَادُوا بِهِ الْحَرْبِيِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا : " إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْحَرْبِيِّينَ ، وَخَرَجَ إلَيْنَا أَيُّهُمَا كَانَ وَبَقِيَ الْآخَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ " وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ دَلَائِلِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ : " نَزَلَتْ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ كَانَ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي الشِّرْكِ وأباحهن لَهُمْ بِالسَّبْيِ " وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قَالَ : " كُلُّ ذَاتِ زَوْجٍ فَإِتْيَانُهَا زِنًا إلَّا مَا سُبِيَتْ " وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّبَايَا { : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ } .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يُسْبَ زَوْجُهَا مَعَهَا ، فَلَا يَخْلُو وُقُوعُ الْفُرْقَةِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِإِسْلَامِهَا أَوْ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا أَوْ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ إسْلَامَهَا لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ فِي الْحَالِ ؛ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ بِدَلَالَةِ أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ إذَا بِيعَتْ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ .(2/99)
وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ رَجُلٌ عَنْ أَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ لَمْ يَكُنْ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْوَارِثِ رَافِعًا لِلنِّكَاحِ ، فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ لِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ إلَّا اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ فَإِنْ قِيلَ : اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ امْرَأَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أَحَدُهُمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ ، فَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي إيجَابِ الْفُرْقَةِ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ مَعْنَى اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ مَا ذَهَبْت إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إمَّا بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالذِّمَّةِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ حَرْبِيًّا كَافِرًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُقِيمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ احْتَجَّ الْمُخَالِفُ لَنَا بِمَا رَوَى يُونُسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ } ، وَقَدْ كَانَتْ زَيْنَبُ هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ زَوْجُهَا بِمَكَّةَ مُشْرِكًا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي إيقَاعِ الْفُرْقَةِ فَيُقَالُ : لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلْمُخَالِفِ مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَالَ : " رَدَّهَا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ " ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا لَا تُرَدُّ إلَيْهِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَادَةِ أَنَّهَا لَا تَحِيضُ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي سِتِّ سِنِينَ ، فَسَقَطَ احْتِجَاجُ الْمُخَالِفِ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ مَا رَوَى خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْيَهُودِيَّةِ تُسْلِمُ قَبْلَ زَوْجِهَا أَنَّهَا أَمْلَكُ لِنَفْسِهَا ؛ فَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ وَقَعَتْ بِإِسْلَامِهَا ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَالِفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ ثَانٍ } فَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ إنْ صَحَّ فَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهَا زَوْجَةً لَهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ ، وَلَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ عَقْدٍ ثَانٍ ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْإِخْبَارُ عَنْ حُدُوثِ عَقْدٍ ثَانٍ بَعْدَ إسْلَامِهِ ، فَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إخْبَارٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَالِ ، وَالثَّانِيَ إخْبَارٌ عَنْ مَعْنًى حَادِثٍ قَدْ عَلِمَهُ ، وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقُولُهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَالٌّ .
فَقُلْنَا : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حَالٍ حَادِثَةٍ وَأَخْبَرَ الْآخَرُ عَنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ، وَكَحَدِيثِ زَوْجِ بَرِيرَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِإِخْبَارِهِ عَنْ حَالٍ حَادِثَةٍ عَلِمَهَا ، وَأَخْبَرَ الْآخَرُ عَنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ حَالٍ أُخْرَى .(2/100)
فَصْلٌ وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُهَاجِرَةِ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ الزَّوْجِ الْحَرْبِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } ، فَأَبَاحَ نِكَاحَهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِدَّةٍ ، وَقَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } ، وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ ، فَحَظَرَ الِامْتِنَاعَ مِنْ نِكَاحِهَا ؛ لِأَجْلِ زَوْجِهَا الْحَرْبِيِّ .
وَالْكَوَافِرُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرِّجَالَ ، وَظَاهِرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الرِّجَالُ ؛ لِأَنَّهُ فِي ذِكْرِ الْمُهَاجِرَاتِ .
وَأَيْضًا أَبَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطْءَ الْمَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ ، وَالِاسْتِبْرَاءُ لَيْسَ بِعِدَّةٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ } وَالْمَعْنَى فِيهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ .
وقَوْله تَعَالَى - : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } ؛ قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ : يَعْنِي رَدَّ الصَّدَاقِ ، وَاسْأَلُوا أَهْلَ الْحَرْبِ مَهْرَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إذَا صَارَتْ إلَيْهِمْ ، وَلْيَسْأَلُوا هُمْ أَيْضًا مَهْرَ مَنْ صَارَتْ إلَيْنَا مُسْلِمَةً مِنْهُمْ " ؛ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : " فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرُّوا بِحُكْمِ اللَّهِ ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { ، وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } فَأُمِرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَرُدُّوا الصَّدَاقَ إذَا ذَهَبَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَهَا زَوْجٌ مُسْلِمٌ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ صَدَاقَ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِمَّا يَرُدُّونَ ، وَأَنْ يَرُدُّوا إلَى الْمُشْرِكِينَ " .
وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى - : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ } : " مِنْ الْغَنِيمَةِ أَنْ يُعَوَّضَ مِنْهَا " .
وَرَوَى زَكَرِيَّا بْن أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : " كَانَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِمَّنْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } خَرَجَتْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ " وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ : { ، وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ } قَالَ : " لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ " { فَعَاقَبْتُمْ } " وَأَصَبْتُمْ غَنِيمَةً " { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } قَالَ : " عَوِّضُوا زَوْجَهَا مِثْلَ الَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ " .
وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ ، وَزَادَ : " يُعْطَى مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ يَقْسِمُونَ غَنِيمَتَهُمْ " وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : " إنْ فَاتَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ إلَى الْكُفَّارِ وَلَمْ يَأْتِ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ تَأْخُذُونَ مِنْهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْكُمْ فَعَوِّضُوهُمْ مِنْ فَيْءٍ إنْ أَصَبْتُمُوهُ " وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ الزُّهْرِيِّ غَيْرَ مُخَالِفَةٍ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُمْ يُعَوَّضُونَ مِنْ صَدَاقٍ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّهُ إلَى الْكُفَّارِ ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ رَدُّهُ مِنْ صَدَاقٍ وَجَبَ لِلْكُفَّارِ إذَا كَانَ هُنَاكَ صَدَاقٌ قَدْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَدَاقٌ رُدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي رَدِّ الْمَهْرِ وَأَخْذِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَتَعْوِيضِ الزَّوْجِ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ صَدَاقٍ قَدْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ مَنْسُوخٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ ثَابِتِ الْحُكْمِ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ .(2/101)
" فَإِنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : قُلْت لِعَطَاءٍ : أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ جَاءَتْ الْمُسْلِمِينَ فَأَسْلَمَتْ أَيُعَوَّضُ زَوْجُهَا مِنْهَا شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى - فِي الْمُمْتَحَنَةِ : { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } ؟ قَالَ : إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَهْلِ عَهْدِهِ ، قُلْت : فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ الْآنَ مِنْ أَهْلِ عَهْدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يُعَاضُ فَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ فِي ذَلِكَ " وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ، فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ نَسْخُهَا ؟ قِيلَ لَهُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ .}
---------------
وفي المحلى(1) :
932 - مَسْأَلَةٌ : وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَلَ أَهْلُ الْحَرْبِ عِنْدَك تُجَّارًا بِأَمَانٍ , أَوْ رُسُلًا , أَوْ مُسْتَأْمِنِينَ مُسْتَجِيرِينَ , أَوْ مُلْتَزِمِينَ لَأَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا فَوَجَدْنَا بِأَيْدِيهِمْ أَسْرَى مُسْلِمِينَ , أَوْ أَهْلَ ذِمَّةٍ , أَوْ عَبِيدًا , أَوْ إمَاءً لِلْمُسْلِمِينَ , أَوْ مَالًا لِمُسْلِمٍ , أَوْ لِذِمِّيٍّ : فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِلَا عِوَضٍ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا . وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى أَصْحَابِهِ , وَلَا يَحِلُّ لَنَا الْوَفَاءُ بِكُلِّ عَهْدٍ أُعْطُوهُ عَلَى خِلَافِ هَذَا ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ * . وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَنَا مَا يَقُولُ لَوْ عَاهَدْنَاهُمْ عَلَى أَنْ لَا نُصَلِّيَ , أَوْ لَا نَصُومَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمُوا , أَوْ تَذَمَّمُوا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ كُلُّ مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ حُرٍّ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ , أَوْ لِمُسْلِمٍ , أَوْ لِذِمِّيٍّ , وَيُرَدُّ إلَى أَصْحَابِهِ بِلَا عِوَضٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيمَا اسْتَهْلَكُوا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ حَرْبِيِّينَ . وَلَوْ أَنَّ تَاجِرًا ; أَوْ رَسُولًا دَخَلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَافْتَدَى أَسِيرًا , أَوْ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ , أَوْ ابْتَاعَ مَتَاعًا لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ أَوْ وَهَبُوهُ لَهُ , فَخَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ : اُنْتُزِعَ مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ , وَرُدَّ إلَى صَاحِبِهِ , وَهُوَ مِنْ خَسَارَةِ الْمُشْتَرِي , وَأُطْلِقَ الْأَسِيرُ بِلَا غَرَامَةٍ لِمَا ذَكَرنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنَّ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ , وَأَظْلَمَ الظُّلْمِ : أَخْذُ الْمُشْرِكِ لِلْمُسْلِمِ , أَوْ لِمَالِهِ , أَوْ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمَالِهِ , وَالظُّلْمُ لَا يَجُوزُ إمْضَاؤُهُ بَلْ يُرَدُّ وَيُفْسَخُ . فَلَوْ أَنَّ الْأَسِيرَ قَالَ لِمُسْلِمٍ , أَوْ لِذِمِّيٍّ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ : افْدِنِي مِنْهُمْ , وَمَا تُعْطِيهِمْ دَيْنٌ لَك عَلَيَّ , فَهُوَ كَمَا قَالَ , وَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَهُ فَأَقْرَضَهُ , وَهَذَا حَقٌّ . وَقَالَ مَالِكٌ , وَابْنُ الْقَاسِمِ : لَوْ نَزَلَ حَرْبِيُّونَ بِأَمَانٍ وَعِنْدَهُمْ مُسْلِمَاتٌ مَأْسُورَاتٌ : لَمْ يُنْتَزَعْنَ مِنْهُمْ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْوَطْءِ لَهُنَّ . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَوْ تَذَمَّمَ حَرْبِيُّونَ وَبِأَيْدِيهِمْ أَسْرَى مُسْلِمُونَ أَحْرَارٌ : فَهُمْ بَاقُونَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ عَبِيدٌ لَهُمْ كَمَا كَانُوا . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لَا نَعْلَمُ قَوْلًا أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْهُمَا , وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُمَا , وَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْقَوْلُ لَوْ كَانَ بِأَيْدِيهِمْ شُيُوخٌ مُسْلِمُونَ وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ فِعْلَ قَوْمِ لُوطٍ أَيُتْرَكُونَ وَذَلِكَ ؟ أَوْ لَوْ أَنَّ بِأَيْدِيهِمْ مَصَاحِفَ أَيُتْرَكُونَ يَمْسَحُونَ بِهَا الْعَذِرَ عَنْ أَسْتَاهِهِمْ ؟ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَتَمَّ الْبَرَاءَةِ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ .
933 - مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ أَبِي جَنْدَلٍ , وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ - فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ :
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 5 / ص 162) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 2619)(2/102)
أَوَّلُهَا - أَنَّهُ عليه السلام رَدَّهُ وَلَمْ يَكُنْ الْعَهْدُ تَمَّ بَيْنَهُمْ , وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا . وَالثَّانِي - أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى أَجَارَهُ لَهُ مُكَرَّزُ بْنُ حَفْصٍ مِنْ أَنْ يُؤْذَى . وَالثَّالِثُ - أَنَّهُ عليه السلام قَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرْجًا وَمَخْرَجًا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ . وَالرَّابِعُ - أَنَّهُ خَبَرٌ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ قِصَّةِ أَبِي جَنْدَلٍ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ * فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَهْدَهُمْ فِي رَدِّ النِّسَاءِ , ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( بَرَاءَةٌ ) بَعْدَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَ الْعَهْدَ كُلَّهُ وَنَسَخَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ * . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ( بَرَاءَةٌ ) أَيْضًا : { كَيْف يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ * الْآيَةَ فَأَبْطَلَ تَعَالَى كُلَّ عَهْدٍ لِلْمُشْرِكِينَ حَاشَا الَّذِينَ عَاهَدُوا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ * , وَقَالَ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * , فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ عَهْدٍ وَلَمْ يُقِرَّهُ , وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمُشْرِكِينَ إلَّا الْقَتْلَ , أَوْ الْإِسْلَامَ , وَلِأَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَأَمَّنَ الْمُسْتَجِيرَ وَالرَّسُولَ حَتَّى يُؤَدِّيَ رِسَالَتَهُ وَيَسْمَعَ الْمُسْتَجِيرُ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُرَدَّانِ إلَى بِلَادِهِمَا وَلَا مَزِيدَ , فَكُلُّ عَهْدٍ غَيْرِ هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ لَا يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ شَرْطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخِلَافُ أَمْرِهِ . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ { عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَغَيْرِهِ فَذَكَرَ حَدِيثَ الْحُدَيْبِيَةِ , وَفِيهِ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا ؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ سُهَيْلٌ : هَذَا أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ , قَالَ : فَوَاَللَّهِ إذًا لَا أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : فَأَجِزْهُ لِي قَالَ : مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ قَالَ : بَلَى فَافْعَلْ . قَالَ : مَا أَنَا بِفَاعِلٍ , قَالَ مُكَرَّزٌ - هُوَ ابْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَحْنَفِ : بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ * فَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِمْ كُلِّهِمْ وَحَدِيثُ أَبِي جَنْدَلٍ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ كَمَا أَوْرَدْنَا . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَفَّانُ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ : { أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا . فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكْتُبُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ , إنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ , وَمِنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرْجًا وَمَخْرَجًا *(2/103)
وَهَذَا خَبَرٌ مِنْهُ عليه السلام مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ . وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ نَا اللَّيْثُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ - عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ , وَآخَرَ : يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا { حَدِيثَ الْحُدَيْبِيَةِ , وَفِيهِ : فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو , وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا , وَجَاءَتْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ , وَجَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرْجِعَهَا إلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْجِعْهَا إلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِنَّ : { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ * * الْآيَةَ
943 - مَسْأَلَةٌ :
وَكُلُّ عَبْدٍ , أَوْ أَمَةٍ كَانَا لِكَافِرَيْنِ , أَوْ أَحَدِهِمَا أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ , أَوْ فِي غَيْرِ دَارِ الْحَرْبِ : (1)
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 5 / ص 166) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 2621)(2/104)
فَهُمَا حُرَّانِ , فَلَوْ كَانَا كَذَلِكَ لِذِمِّيٍّ فَأَسْلَمَا : فَهُمَا حُرَّانِ سَاعَةَ إسْلَامِهِمَا , وَكَذَلِكَ مُدَبَّرُ الذِّمِّيِّ , أَوْ الْحَرْبِيِّ , أَوْ مُكَاتَبُهُمَا , أَوْ أُمُّ وَلَدِهِمَا , أَيُّهُمْ أَسْلَمَ فَهُوَ حُرٌّ سَاعَةَ إسْلَامِهِ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ , أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا , وَلَا يَرْجِعُ الَّذِي أَسْلَمَ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَعْطَى مِنْهَا قَبْلَ إسْلَامِهِ , وَيَرْجِعُ بِمَا أَعْطَى مِنْهَا بَعْدَ إسْلَامِهِ فَيَأْخُذُهُ لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا * وَإِنَّمَا عَنَى تَعَالَى بِهَذَا أَحْكَامَ الدِّينِ بِلَا شَكٍّ , وَأَمَّا تَسَلُّطُ الدُّنْيَا بِالظُّلْمِ فَلَا , وَالرِّقُّ أَعْظَمُ السَّبِيلِ , وَقَدْ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ , وَنَسْأَلُ مَنْ بَاعَهُمَا عَلَيْهِ : لِمَ تَبِيعُهُمَا ؟ أَهُمَا مَمْلُوكَانِ لَهُ أَمْ غَيْرُ مَمْلُوكَيْنِ ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا . فَإِنْ قَالَ : لَيْسَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ صَدَقَ - وَهُوَ قَوْلُنَا - وَإِذْ لَمْ يَكُونَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ فَهُمَا حُرَّانِ , وَإِنْ قَالَ : هُمَا مَمْلُوكَانِ لَهُ . قُلْنَا : فَلِمَ تُبْطِلُ مِلْكَهُ الَّذِي أَنْتَ تُصَحِّحُهُ بِلَا نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ ؟ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ إقْرَارِك لَهُمَا فِي مِلْكِهِ سَاعَةً , أَوْ سَاعَتَيْنِ , أَوْ يَوْمًا , أَوْ يَوْمَيْنِ , أَوْ جُمُعَةً , أَوْ جُمُعَتَيْنِ , أَوْ شَهْرًا , أَوْ شَهْرَيْنِ , أَوْ عَامًا , أَوْ عَامَيْنِ , أَوْ بَاقِيَ عُمُرِهَا , أَوْ عُمُرِهِ , وَكَيْفَ صَحَّ إقْرَارُك لَهُمَا فِي مِلْكِهِ مُدَّةَ تَعْرِيضِهِمَا لِلْبَيْعِ ؟ وَلَمْ يَصِحَّ , وَلَمْ يَصِحَّ إبْقَاؤُهُمَا فِي مِلْكِهِ أَكْثَرَ , وَلَعَلَّهُمَا لَا يَسْتَبِيعَانِ فِي شَهْرٍ ; أَوْ أَكْثَرَ , وَهَلَّا أَقْرَرْتُمُوهُمَا فِي مِلْكِهِ وَحُلْتُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْمُدَبَّرِ , وَأُمِّ الْوَلَدِ , وَالْمُكَاتَبِ إذَا أَسْلَمُوا ؟ وَلَئِنْ كَانَ يَجُوزُ إبْقَاؤُهُمْ فِي مِلْكِهِ إنَّ ذَلِكَ لَجَائِزٌ فِي الْعَبْدِ , وَلَئِنْ حَرُمَ إبْقَاءُ الْعَبْدِ فِي مِلْكِهِ لَيَحْرُمُ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ , وَالْمُدَبَّرِ , وَالْمُكَاتَبِ وَلَا فَرْقَ - وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ , وَقَوْلٌ فَاسِدٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ , وَنَسْأَلُهُمْ أَيْضًا عَنْ كَافِرٍ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا , أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً , فَمِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّهُمْ يَفْسَخُونَ ذَلِكَ الشِّرَاءَ . فَنَقُولُ لَهُمْ : وَلِمَ فَسَخْتُمُوهُ ؟ وَهَلَّا بِعْتُمُوهُمَا عَلَيْهِ كَمَا تَفْعَلُونَ إذَا أَسْلَمَ فِي مِلْكِهِ ؟ وَمَا الْفَرْقُ ؟ فَإِنْ قَالُوا : لِأَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ تَمَلُّكٍ . قُلْنَا : نَعَمْ , فَكَانَ مَاذَا ؟ وَلَا يَخْلُو ابْتِيَاعُهُ لَهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ تَمَلُّكٍ لِمَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ , وَلَا سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ . فَإِنْ قَالُوا : بَلْ لِمَا لَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ . قُلْنَا : صَدَقْتُمْ , فَكَيْفَ أَحْلَلْتُمْ تَمَلُّكَهُ لَهُمَا مُدَّةَ تَعْرِيضِكُمْ إيَّاهُمَا لِلْبَيْعِ إذَا أَسْلَمَا فِي مِلْكِهِ ؟ وَإِنْ قَالُوا : بَلْ لِمَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ . قُلْنَا : فَلِمَ فَسَخْتُمْ ابْتِيَاعَهُ لِمَا يَحِلُّ لَهُ تَمَلُّكُهُ ؟ بَلْ لِمَ تَبِيعُونَ عَلَيْهِ مَا يَحِلُّ لَهُ تَمَلُّكُهُ ؟ فَإِنْ قَالُوا : إنَّهُمَا كَانَا فِي مِلْكِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَا فَلِمَ يَبْطُلُ مِلْكُهُ بِإِسْلَامِهِمَا . قُلْنَا : نَعَمْ , فَلِمَ بِعْتُمُوهُمَا عَلَيْهِ ؟ وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَاحِشٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ , وَقَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا بُرْهَانٍ , وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَعَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ فِي تَزَوُّجِهِ عليه السلام صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَجَعْلِ عِتْقِهَا صَدَاقَهَا : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ عِتْقِهَا , أَوْ بَعْدَ عِتْقِهَا , فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ عِتْقِهَا فَزَوَاجٌ الرَّجُلِ أَمَتَهُ لَا يَحِلُّ , وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا , فَقَدْ مَضَى عِتْقُهَا فَأَيْنَ الصَّدَاقُ ؟ وَقَالُوا مِثْلَ هَذَا فِي الْعِتْقِ بِالْقُرْعَةِ , وَفِي وُجُودِ الْمَرْءِ سِلْعَتَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ ; وَكُلُّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا أَدْخَلُوهُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْفَاسِدَةِ , ثُمَّ لَا يُنْكِرُونَ هَذَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِنْكَارِ حَقًّا , لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ وَيَقْضُونَ بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ , وَهُوَ عليه السلام(2/105)
إنَّمَا يَتَكَلَّمُ وَيَقْضِي عَنْ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * . فَإِنْ قَالُوا : نَبِيعُهُ عَلَى الْكَافِرِ كَمَا تَبِيعُونَ أَنْتُمْ عَبْدَ الْمُسْلِمِ وَأَمَتَهُ إذْ شَكَوْا الضَّرَرَ , وَفِي التَّفْلِيسِ . قُلْنَا لَهُمْ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - : لَا نَبِيعُ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ وَلَا أَمَتَهُ أَصْلًا إلَّا فِي حَقٍّ وَاجِبٍ لَازِمٍ لَا يُمْكِنُنَا التَّوَصُّلُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إلَّا بِبَيْعِهِمَا وَإِلَّا فَلَا , أَوَّلُ ذَلِكَ : أَنَّنَا لَا نَبِيعُهُمَا عَلَيْهِ إلَّا فِي دَيْنٍ لَزِمَهُ , أَوْ فِي نَفَقَةٍ لَزِمَتْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْمَمْلُوكِ وَالْمَمْلُوكَةِ , أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ , أَوْ لِضَرَرٍ ثَابِتٍ ; فَأَمَّا الْحَقُّ الْوَاجِبُ فَمَا دُمْنَا نَجِدُ لَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَمْ نَبِعْهُمَا عَلَيْهِ , فَإِنْ لَمْ نَجِدْ لَهُ غَيْرَهُمَا وَلَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى أَدَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ إلَّا بِبَيْعِهِمَا فَهُمَا مَالٌ مِنْ مَالِهِ يُبَاعُ عِنْدَ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ * وَمِنْ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ : إعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ , وَصَوَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هَذَا الْقَوْلَ , إذْ قَالَهُ سَلْمَانُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنهما . وَأَمَّا الضَّرَرُ الثَّابِتُ فَإِنْ أَمْكَنَنَا مَنْعُ الضَّرَرِ بِأَنْ نَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمَةِ , وَالْعَبْدِ , بِأَنْ يُؤَاجَرَا , أَوْ يُجْعَلَا عِنْدَ ثِقَةٍ يَمْنَعُ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِمَا لَمْ نَبِعْهُمَا , فَإِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ بِعْنَاهُمَا , لِأَنَّنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْإِثْمِ إلَّا بِذَلِكَ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ * . فَإِنْ قَالُوا : كَذَلِكَ تَحَكُّمُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ عَبِيدِهِمْ ضَرَرٌ . قُلْنَا : فَإِنْ صَحَّ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِمَا الْكَافِرِ , أَوْ سَيِّدَتِهِمَا الْكَافِرَةِ ; بَلْ هُمَا مُعْتَرِفَانِ بِالْإِحْسَانِ وَالرِّفْقِ جُمْلَةً , أَلَيْسَ قَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُكُمْ بِالضَّرَرِ ؟ هَذَا مَا لَا شَكَّ فِيهِ . فَإِنْ قَالُوا : نَخَافُ أَنْ يُفْسِدَا دِينَهُمَا بِطُولِ الصُّحْبَةِ . قُلْنَا : فَفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ابْنَيْهِمَا إذَا أَسْلَمَ خَوْفَ أَنْ يَفْسُدَ دِينُهُ , وَبِيعُوا عَبْدَ الْمُسْلِمِ الْفَاسِقِ وَأَمَتَهُ بِهَذَا الِاعْتِلَالِ , لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ مِنْهُ تَدْرِيبُهُمَا عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ , وَإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ وَالظُّلْمِ , وَلَا فَرْقَ , وَهَذَا مَا لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ أَصْلًا - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وقوله تعالى : { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ * بُرْهَانٌ قَاطِعٌ فِي وُجُوبِ عِتْقِ أَمَةِ الذِّمِّيِّ , أَوْ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أَنْ لَا نَرْجِعَهَا إلَى الْكُفَّارِ وَأَنَّهُنَّ لَا يَحْلِلْنَ لَهُمْ وَأَبَاحَ لَنَا نِكَاحَهُنَّ , وَهَذَا عُمُومٌ يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ ضَرُورَةً . فَإِنْ قِيلَ : قوله تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا * دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الزَّوْجَاتِ . قُلْنَا : الْآيَةُ كُلُّهَا عَامَّةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنَةٍ هَاجَرَتْ بِالْإِيمَانِ لِتَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَهَذَا الْحُكْمُ فِي إيتَاءِ مَا أَنْفَقُوا خَاصٌّ فِي الزَّوْجَاتِ , وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ عُمُومِ الْآيَةِ خُصُوصًا , إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لُغَةٌ وَلَا شَرِيعَةٌ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا فَعَتَقَ . فَإِنْ قَالُوا : هَذَا حُكْمُ مَنْ خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ . قُلْنَا : مَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ : بَلْ هَذَا حُكْمُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّائِفِ خَاصَّةً ؟ وَهَلْ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ فَرْقٌ ؟ ثُمَّ نَقُولُ لَهُمْ : وَمَا دَلِيلُكُمْ عَلَى هَذَا ؟ وَإِنَّمَا جَاءَ مُسْلِمًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ(2/106)
عَبْدٌ لِكَافِرٍ فَأَعْتَقَهُ , وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام : إنِّي إنَّمَا أَعْتَقْته , لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ , فَمَنْ نَسَبَ هَذَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ , وَقَالَ عَلَيْهِ بِلَا بُرْهَانٍ , وَأَنْتُمْ تَقِيسُونَ الْجِصَّ عَلَى التَّمْرِ , السَّقَمُونْيَا عَلَى الْبُرِّ , وَالْكَمُّونَ عَلَيْهِمَا بِلَا بُرْهَانٍ , وَفَرْجَ الْمُسْلِمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ عَلَى يَدِ السَّارِقِ , ثُمَّ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَعَبْدٍ مُسْلِمٍ كِلَاهُمَا أَسْلَمَ فِي مِلْكِ كَافِرٍ , إنَّ هَذَا لَعِوَجٌ مَا شِئْتُمْ . فَإِنْ ذَكَرُوا أَمْرَ بِلَالٍ , وَسَلْمَانَ , رضي الله عنهما أَنَّ كِلَيْهِمَا أَسْلَمَ وَهُمَا مَمْلُوكَانِ لِوَثَنِيٍّ وَيَهُودِيٍّ ; فَابْتَاعَ بِلَالًا أَبُو بَكْرٍ , وَكَاتَبَ سَلْمَانَ سَيِّدُهُ , فَلَوْ كَانَا حُرَّيْنِ بِنَفْسِ إسْلَامِهِمَا لَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَالِكَ وَلَاءِ بِلَالٍ , وَلَا صَحِيحَ الْعِتْقِ فِيهِ ؟ قُلْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : أَمَّا أَمْرُ بِلَالٍ فَكَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ , وَقَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا بِبِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً , لِأَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ فِي " سُورَةِ النِّسَاءِ " وَلَمْ تَكُنْ الصَّلَاةُ يَوْمَئِذٍ لَازِمَةً , وَلَا الزَّكَاةُ , وَلَا الصِّيَامُ , وَلَا الْحَجُّ , وَلَا الْمَوَارِيثُ , وَلَا كَانَ حَرَامًا نِكَاحُ الْوَثَنِيِّ الْمُسْلِمَةَ , وَلَا نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الْوَثَنِيَّةَ , وَلَا مِلْكُ الْوَثَنِيِّ لِلْمُسْلِمِ , فَلَا حُجَّةَ فِي أَمْرِ بِلَالٍ . وَأَمَّا أَمْرُ سَلْمَانَ فَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ مَمْلُوكًا لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ , وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ هُمْ فِي حُصُونِهِمْ مَالِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ , وَكَانَ إسْلَامُ سَلْمَانَ رضي الله عنه بِلَا خِلَافٍ قَبْلَ الْخَنْدَقِ , وَهُوَ أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ , وَهَلَاكُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَتْلُهُمْ , وَحِصَارُهُمْ , بَعْدَ الْخَنْدَقِ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ . وَمِنْ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّ مِلْكَ سَيِّدِهِ لَهُ بَطَلَ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ أَنَّهُ كَانَ مُكَاتَبًا لَهُ بِلَا شَكٍّ وَمَا انْتَمَى قَطُّ إلَى وَلَاءِ ذَلِكَ لْقُرَظِيِّ بَلْ انْتَمَى مَوْلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ , وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ مِنْ الْمُؤَالَفِ , وَالْمُخَالِفِ , وَالصَّالِحِ وَالطَّالِحِ ; فَلَوْ كَانَ مِلْكُهُ لَهُ صَحِيحًا وَكِتَابَتُهُ لَهُ صَحِيحَةً بِحَقِّ الْمِلْكِ لَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ , وَلَوْ كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ لَمَا تَرَكَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْتَفِي عَنْ وَلَائِهِ - وَفِي هَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ وَكِفَايَةٌ , وَكَيْف وَلَوْ لَمْ يَقُمْ هَذَا الْبُرْهَانُ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ ؟ لِأَنَّهُمْ لَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمَرَهُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَبِهَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ - ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ شَعْبَانَ عَنْهُمْ أَنَّ عَبْدَ الذِّمِّيِّ سَاعَةَ يُسْلِمْ فَهُوَ حُرٌّ . وَقَالَ أَشْهَبُ : سَاعَةَ يُسْلِمُ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فَهُوَ حُرٌّ , خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ . وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ الذِّمِّيِّ فَهِيَ حُرَّةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : إنْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ , فَإِنْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ مِنْ مُسْلِمٍ , أَوْ كَافِرٍ , أَوْ لِمُسْلِمٍ , أَوْ كَافِرٍ فَهُوَ حُرٌّ سَاعَةَ بَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ , وَبَطَلَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ . قَالَ : فَإِنْ اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ , فَإِذَا حَمَلَهُ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَسَاعَةَ دُخُولِهِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَهُوَ حُرٌّ - فَهَلْ سُمِعَ بِأَوْحَشَ أَوْ أَفْحَشَ مِنْ هَذَا التَّخْلِيطِ ؟ وَهِيَ أَقْوَالٌ لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُ . وَأَمَّا مَالِكٌ : فَإِذَا أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ بِإِسْلَامِهَا , وَهِيَ أَمَةٌ لَهُ فَقَدْ نَاقَضَ , إذْ لَمْ يُعْتِقْ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ بِإِسْلَامِهِمَا , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ سَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى يَقُولُ : لَا يَسْتَرِقُّ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ - وَهَذَا نَفْسُ قَوْلِنَا ; لِأَنَّهُ أَبْطَلَ اسْتِرْقَاقَهُ إيَّاهُ جُمْلَةً . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ :(2/107)
وَسُئِلَ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ أَسْلَمَتْ ؟ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : يُفَرِّقُ الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمَا وَتَعْتِقُ . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : لَا تَعْتِقُ حَتَّى يُدْعَى هُوَ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَبَى عَتَقَتْ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : كِلَاهُمَا قَدْ أَوْجَبَ عِتْقَهَا , وَلَا مَعْنَى لِتَأَنِّي عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَسْتَرِقَّ كَافِرٌ مُسْلِمًا . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ رَقِيقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُبَاعُوا وَلَا يُتْرَكُونَ يَسْتَرِقُّونَهُمْ , وَيُدْفَعُ أَثْمَانُهُمْ إلَيْهِمْ , فَمَنْ قَدَرْت عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَدُّمِك إلَيْهِ اسْتَرَقَّ شَيْئًا مِنْ سَبْيِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ قَدْ أَسْلَمَ وَصَلَّى فَأَعْتِقْهُ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ أَرْضِنَا أَنَّ نَصْرَانِيًّا أَعْتَقَ مُسْلِمًا فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : أَعْطُوهُ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ , وَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : قَدْ رَأَى عِتْقَهُ لَهُ غَيْرَ نَافِذٍ وَرَأَى وَلَاءَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا هُوَ نَصُّ قَوْلِنَا , وَأَمَّا إعْطَاؤُهُ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا نَقُولُ بِهَذَا : فَإِنَّهُ لَا حَقِّ لِلْكُفَّارِ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ .
-------------
فَسْخُ النِّكَاحِ(1)
1944 - مَسْأَلَةٌ : وَلَا عِدَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ الْفَسْخِ الَّذِي ذَكَرْنَا إلَّا فِي الْوَفَاةِ وَفِي الْمُعْتَقَةِ الَّتِي تَخْتَارُ فِرَاقَ زَوْجِهَا , لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَهُمَا بِالْعِدَّةِ , وَلَمْ يَأْمُرْ غَيْرَهُمَا بِعِدَّةٍ وَلَا يَجُوزُ أَمْرُهَا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ شَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ الْفَسْخِ عَلَى الطَّلَاقِ , لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ , لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَفْظِ الْمُطَلِّقِ وَاخْتِيَارِهِ , وَالْفَسْخُ يَقَعُ بِغَيْرِ لَفْظِ الزَّوْجِ - أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ - فَكَيْفَ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى نا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : قَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : كَانُوا إذَا هَاجَرَتْ امْرَأَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ , فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ . فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَحْكِي : أَنَّ هَذَا فِعْلُ الصَّحَابَةِ جُمْلَةً فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ , وَبِذَلِكَ جَاءَ النَّصُّ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ * إلَى قَوْلِهِ { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ * , فَلَمْ يُوجِبْ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِنَّ عِدَّةً فِي انْفِسَاخِ نِكَاحِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ الْكُفَّارِ بِإِسْلَامِهِنَّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
---------------
وقال ابن العربي (2):
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ*. فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
__________
(1) - المحلى بالآثار - (ج 1 / ص 5367) والمحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 9 / ص 392) والمحلى لابن حزم - (ج 6 / ص 100)
(2) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 7 / ص 304)(2/108)
المسألة الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: ثَبَتَ أَنَّ {النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَ فِيهِ أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ رُدَّ إلَيْهِمْ، وَمَنْ ذَهَبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُرَدَّ؛ وَتَمَّ الْعَهْدُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ أَبَا بَصِيرٍ عُتْبَةَ بْنَ أُسَيْدِ بْنَ حَارِثَةَ الثَّقَفِيَّ حِينَ قَدِمَ، وَقَدِمَ أَيْضًا نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ مِنْهُنَّ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَسُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ، وَغَيْرُهُمَا، فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ رَدَّهُنَّ عَلَى الشَّرْطِ، وَاسْتَدْعَوْا مِنْهُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّمَا الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ*، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَبَضَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا: غَدَرَ مُحَمَّدٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ، وَذَلِكَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {فَامْتَحِنُوهُنَّ*: اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الِامْتِحَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْيَمِينُ رَوَاهُ أَبُو نَصْرٍ الْأَسَدِيُّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ {قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسُبَيْعَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا صَيْفِيَّ بْنَ السَّائِبِ: بِاَللَّهِ مَا أَخْرَجَك مِنْ قَوْمِك ضَرْبٌ وَلَا كَرَاهِيَةٌ لِزَوْجِك، وَلَا أَخْرَجَك إلَّا حِرْصٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَرَغْبَةٌ فِيهِ، لَا تُرِيدِينَ غَيْرَهُ*. الثَّانِي: وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْتَحِنُ النِّسَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ*.
المسألة الثَّالِثَةُ: فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ تُرِدْ النِّسَاءُ وَإِنْ دَخَلْنَ فِي عُمُومِ الشَّرْطِ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لِرِقَّتِهِنَّ وَضَعْفِهِنَّ. الثَّانِي: لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ* وَالْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِعِلَّتَيْنِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: خُرُوجُ النِّسَاءِ مِنْ عَهْدِ الرَّدِّ كَانَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ لَا نَاسِخًا لِلْعَهْدِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْغَافِلِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.
المسألة الْخَامِسَةُ: الَّذِي أَوْجَبَ فُرْقَةَ الْمُسْلِمَةِ مِنْ زَوْجِهَا [هُوَ إسْلَامُهَا لَا] هِجْرَتُهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهُوَ التَّلْخِيصُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ، وَإِلَيْهِ إشَارَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، بَلْ عِبَارَةٌ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. وَالْعُمْدَةُ فِيهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ* فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ عَدَمُ الْحِلِّ بِالْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ.
المسألة السَّادِسَةُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا أُمْسِكَتْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ أَنْ تَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ، وَذَلِكَ مِنْ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَهْلِهِ لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ الْمَالُ، حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَيْهِمْ خُسْرَانٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ: الزَّوْجَةِ، وَالْمَالِ.
المسألة السَّابِعَةُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِرَدِّ مَا أَنْفَقُوا إلَى الْأَزْوَاجِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْإِمَامَ يُنَفِّذُ ذَلِكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَصْرِفٌ.
المسألة الثَّامِنَةُ: رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ فِي نِكَاحِهَا بِشَرْطِ الصَّدَاقِ، وَسَمَّى ذَلِكَ أَجْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَبَيَانُ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ مَاءِ الْكَافِرِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : {لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ؛ وَالِاسْتِبْرَاءُ هَا هُنَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَهِيَ الْعِدَّةُ*. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. ثُمَّ قَالَ وَهِيَ:(2/109)
المسألة التَّاسِعَةُ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ* يَعْنِي إذْ أَسْلَمْنَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، لِمَا ثَبَتَ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ؛ فَعَادَ جَوَازُ النِّكَاحِ إلَى حَالَةِ الْإِيمَانِ ضَرُورَةً.
المسألة الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ*: هَذَا بَيَانٌ لِامْتِنَاعِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَوَافِرِ. وَهُوَ تَفْسِيرُهُ وَالْمُرَادُ بِهِ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ مُشْرِكَةٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا. وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَتَزَوَّجُونَ الْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَتَزَوَّجُونَ الْمُشْرِكَاتِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ ذَلِكَ نَسْخَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْأَفْعَالِ بِالْأَقْوَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَئِذٍ قُرَيْبَةَ بِنْتَ أُمَيَّةَ، وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَيْمِيِّ؛ فَتَزَوَّجَ قُرَيْبَةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ جَرْوَلٍ أَبُو جَهْمٍ. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِمُعَاوِيَةَ: طَلِّقْ قُرَيْبَةَ لِئَلَّا يَرَى عُمَرُ سَلَبَهُ فِي بَيْتِك، فَأَبَى مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا*: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كُلُّ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ مُرْتَدَّاتٍ [مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ] إلَى الْكُفَّارِ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ: هَاتُوا مَهْرَهَا وَيُقَالُ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا جَاءَ أَحَدٌ مِنْ الْكَافِرَاتِ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً: رُدُّوا إلَى الْكُفَّارِ مَهْرَهَا وَكَانَ ذَلِكَ نَصْفًا وَعَدْلًا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَكَانَ هَذَا حُكْمَ اللَّهِ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الزَّمَانِ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ خَاصَّةً بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.(2/110)
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَمَّا عَقْدُ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَجَائِزٌ عَلَى مَا مَضَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِمُدَّةٍ وَمُطْلَقًا إلَيْهِمْ لِغَيْرِ مُدَّةٍ. فَأَمَّا عَقْدُهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ أَسْلَمَ إلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ اللَّهُ لَهُ لِمَا عَلِمَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ، وَقَضَى فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَأَظْهَرَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَحَمِيدِ الْأَثَرِ فِي الْإِسْلَامِ مَا حَمَلَ الْكُفَّارَ عَلَى الرِّضَا بِإِسْقَاطِهِ، وَالشَّفَاعَةِ فِي حَطِّهِ؛ فَفِي الصَّحِيحِ: {لَمَّا كَاتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى قَصْرِ الْمُدَّةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَدَفَعَهُ إلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا بِهِ ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ، فَقَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ أَحَدَهُمَا، وَفَرَّ الْآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك، ثُمَّ أَنْجَانِي مِنْهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ قَالَ: وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَبُو جُنْدُبِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، وَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَسْلَمَ إلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاَللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلَى الشَّامِ إلَّا اعْتَرَضُوهُمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا بِأَمْوَالِهِمْ. فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْشُدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ إلَّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ. فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ* الْآيَةَ إلَى {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ**؛ فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِانْقِيَادِ إلَيْهِمْ عَنْ هَوَانٍ، وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ حِكْمَةٍ حَسُنَ مَآلُهَا، كَمَا سُقْنَاهُ آنِفًا مِنْ الرِّوَايَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ*. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمَعْنَى إنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ يَرُدَّ الْكُفَّارُ صَدَاقَهَا إلَى زَوْجِهَا كَمَا أُمِرُوا فَرُدُّوا أَنْتُمْ إلَى زَوْجِهَا مِثْلَ مَا أَنْفَقَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَعَاقَبْتُمْ*: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمُعَاقَبَةُ الْمُنَاقَلَةُ عَلَى تَصْيِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّيْئَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ عَقِيبَ ذَهَابِ عَيْنِهِ، فَأَرَادَ: فَعَوَّضْتُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَهُمْ عِوَضًا، أَوْ عَوَّضُوكُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَكُمْ عِوَضًا، فَلْيَكُنْ مِنْ مِثْلِ الَّذِي خَرَجَ عَنْكُمْ أَوْ عَنْهُمْ عِوَضًا مِنْ الْفَائِتِ لَكُمْ أَوْ لَهُمْ.
المسألة الثَّالِثَةُ: فِي مَحَلِّ الْعَاقِبَةِ: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا مِنْ الْفَيْءِ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ. الثَّانِي: مِنْ مَهْرٍ إنْ وَجَبَ لِلْكُفَّارِ فِي زَوْجِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ اقْتِصَاصِ الرَّجُلِ مِنْ مَالِ خَصْمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ دُونَ أَذِيَّةٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُرَدُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ رَدِّهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُخْرَجُ الْمَهْرُ وَالْخُمُسُ ثُمَّ تَقَعُ الْقِسْمَةُ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ إنْ صَحَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ الْخُمُسِ، وَهُوَ أَيْضًا مَنْسُوخٌ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.(2/111)
الْآيَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ*. فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
المسألة الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا* الْآيَةَ. عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: {مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَحِنُ إلَّا بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك* الْآيَةَ*. قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ إلَّا امْرَأَةٍ يَمْلِكُهَا. وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ: {مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ امْرَأَةٍ وَقَالَ: إنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ*. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَافَحَهُنَّ عَلَى ثَوْبِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ صَافَحَهُنَّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ كَلَّفَ امْرَأَةً وَقَفَتْ عَلَى الصَّفَا فَبَايَعَتْهُنَّ. وَذَلِكَ ضَعِيفٌ؛ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: {كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: تُبَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا أَيُّهَا النِّسَاءُ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُنَّ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ*؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَةَ الرَّجُلِ فِي الدِّينِ كَبَيْعَةِ النِّسَاءِ إلَّا فِي الْمَسِيسِ بِالْيَدِ خَاصَّةً.
المسألة الثَّالِثَةُ: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {شَهِدْت الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَقَرَأَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا* الْآيَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. لَا يَدْرِي الْحَسَنُ مَنْ هِيَ. قَالَ: فَتَصَدَّقْنَ وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ*.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ* يَعْنِي بِالْوَأْدِ وَالِاسْتِتَارِ عَنْ الْعَمْدِ إذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ؛ فَإِنَّ رَمْيَهُ كَقَتْلِهِ، وَلَكِنَّهُ إنْ عَاشَ كَانَ إثْمُهَا أَخَفَّ.
المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ*: قِيلَ فِي أَيْدِيهِنَّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا
المسألة. الثَّانِي: أَكْلُ الْحَرَامِ
المسألة السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَرْجُلِهِنَّ*: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ الْكَذِبُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الثَّانِي: هُوَ إلْحَاقُ وَلَدٍ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ.
المسألة السَّابِعَةُ: {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ*: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ النِّيَاحَةُ. الثَّانِي: أَلَّا يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ. الثَّالِثُ: أَلَّا يَخْمُشْنَ وَجْهًا، وَلَا يَشْقُقْنَ جَيْبًا، وَلَا يَرْفَعْنَ صَوْتًا، وَلَا يَرْمِينَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ نَقْعًا
المسألة الثَّامِنَةُ: فِي تَنْخِيلِ هَذِهِ الْمَعَانِي: أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ* يَعْنِي(2/112)
المسألة فَهُوَ تَجَاوُزٌ كَبِيرٌ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا اللِّسَانُ وَآخِرَهَا أَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا فِي الْيَدِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَكْلُ الْحَرَامِ أَقْرَبُ، وَكَأَنَّهُ عَكْسُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ يَتَنَاوَلُهُ بِيَدِهِ فَيَحْمِلُهُ إلَى لِسَانِهِ، وَ
المسألة يَبْدَؤُهَا بِلِسَانِهِ وَيَحْمِلُهَا إلَى يَدِهِ، وَيَرُدُّهَا إلَى لِسَانِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْمَجَازِ حَسَنٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ* فَهُوَ نَصٌّ فِي إيجَابِ الطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، إمَّا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِيِّينَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا [مَعْنَى] تَخْصِيصِ قَوْلِهِ: {فِي مَعْرُوفٍ* وَقُوَّةُ قَوْلِهِ: {لَا يَعْصِينَك* يُعْطِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ فِي وَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ:
المسألة التَّاسِعَةُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَعْنَى عَلَى التَّأْكِيدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ* لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ " اُحْكُمْ " لَكَفَى. الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ الْمَعْرُوفَ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَأَلْزَمُ لَهُ، وَأَنْفَى لِلْإِشْكَالِ فِيهِ. وَفِي الْآثَارِ : {لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ*.
المسألة الْعَاشِرَةُ: رُوِيَ {أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَايَعَ النِّسَاءَ عَلَى هَذَا قَالَ لَهُنَّ: فِيمَا أَطَقْتُنَّ فَيَقُلْنَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا*. وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَقِيقَةِ الْحَالِ؛ فَإِنَّ الطَّاقَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، مَرْفُوعٌ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا نَافَ عَلَيْهَا، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحِ قَالَتْ: {بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ عَلَيْنَا: أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا، وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ عَلَى يَدِهَا وَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا. فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، فَانْطَلَقَتْ فَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا*، فَيَكُونُ هَذَا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: {بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ*؛ وَذَلِكَ تَخْمِيشُ وُجُوهٍ، وَشَقُّ جُيُوبٍ. وَفِي الصَّحِيحِ: {لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَمَشَ الْوُجُوهَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ*. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ تُسْتَثْنَى مَعْصِيَةٌ، وَتَبْقَى عَلَى الْوَفَاءِ بِهَا، وَيُقِرُّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ ؟ قُلْنَا: وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْكَافِي، مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْهَلَهَا حَتَّى تَسِيرَ إلَى صَاحِبَتِهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ سَرِيعًا عَنْهُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ شَرَطَ أَلَّا يَخِرَّ إلَّا قَائِمًا، فَقِيلَ فِي أَحَدِ تَأْوِيلَيْهِ: إنَّهُ لَا يَرْكَعُ، فَأَمْهَلَهُ حَتَّى آمَنَ، فَرَضِيَ بِالرُّكُوعِ. وَقِيلَ: أَرَادَتْ أَنْ تَبْكِيَ مَعَهَا بِالْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ النَّوْحِ خَاصَّةً.(2/113)
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فِي صِفَةِ أَرْكَانِ الْبَيْعَةِ عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَى آخِرِ الْخِصَالِ السِّتِّ. صَرَّحَ فِيهِنَّ بِأَرْكَانِ النَّهْيِ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَرْكَانَ الْأَمْرِ؛ وَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، وَالِاغْتِسَالُ مِنْ الْجَنَابَةِ؛ وَهِيَ سِتَّةٌ فِي الْأَمْرِ فِي الدِّينِ وَكِيدَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي قِصَّةِ جِبْرِيلَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَفِي اعْتِمَادِهِ الْإِعْلَامَ بِالْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ حُكْمَانِ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهْيَ دَائِمٌ، وَالْأَمْرُ يَأْتِي فِي الْفَتَرَاتِ؛ فَكَانَ التَّنْبِيهُ عَلَى اشْتِرَاطِ الدَّائِمِ أَوْكَدَ. الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَنَاهِيَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ كَثِيرٌ مَنْ يَرْتَكِبُهَا، وَلَا يَحْجِزُهُنَّ عَنْهَا شَرَفُ الْحَسَبِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ {أَنَّ الْمَخْزُومِيَّةَ سَرَقَتْ، فَأَهَمَّ قُرَيْشًا أَمْرُهَا، وَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أُسَامَةُ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ*، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَخَصَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ لِهَذَا، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ: {آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ؛ آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ*، فَنَبَّهَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ دُونَ سَائِرِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَادَتَهُمْ. وَإِذَا تَرَكَ الْمَرْءُ شَهْوَتَهُ مِنْ الْمَعَاصِي هَانَ عَلَيْهِ تَرْكُ سِوَاهَا مِمَّا لَا شَهْوَةَ لَهُ فِيهَا.
المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُنَّ فِي الْبَيْعَةِ: أَلَّا يَسْرِقْنَ قَالَتْ هِنْدُ: {يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي ؟ فَقَالَ: لَا، إلَّا بِالْمَعْرُوفِ*؛ فَخَشِيَتْ هِنْدُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى مَا يُعْطِيهَا أَبُو سُفْيَانَ فَتَضِيعَ أَوْ تَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَتَكُونَ سَارِقَةً نَاكِثَةً لِلْبَيْعَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا، أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْك فِيمَا أَخَذْت بِالْمَعْرُوفِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ اسْتِطَالَةٍ إلَى أَكْثَرَ مِنْ الْحَاجَةِ. وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَخْزُنُهُ عَنْهَا فِي حِجَابٍ، وَلَا يَضْبِطُ عَلَيْهَا بِقُفْلٍ، فَإِنَّهَا إذَا هَتَكَتْهُ الزَّوْجَةُ، وَأَخَذَتْ مِنْهُ كَانَتْ سَارِقَةً، تَعْصِي بِهَا، وَتُقْطَعُ عَلَيْهِ يَدُهَا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.(2/114)
المسألة الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي صِفَةِ الْبَيْعَةِ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مَنْقُولَةً وَهِيَ الْيَوْمَ مَكْتُوبَةٌ؛ إذْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُكْتَبُ إلَّا الْقُرْآنُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السُّنَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُكَتِّبُ أَصْحَابَهُ وَلَا يَجْمَعُهُمْ لَهُ دِيوَانٌ حَافِظٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: {اُكْتُبُوا لِي مَنْ يَلْفِظُ بِالْإِسْلَامِ لِأَمْرٍ عَرَضَ لَهُ*. فَأَمَّا الْيَوْمَ فَيُكْتَبُ إسْلَامُ الْكَفَرَةِ، كَمَا يُكْتَبُ سَائِرُ مَعَالِمِ الدِّينِ الْمُهِمَّةِ وَالتَّوَابِعِ مِنْهَا لِضَرُورَةِ حِفْظِهَا حِينَ فَسَدَ النَّاسُ وَخَفَّتْ أَمَانَتُهُمْ، وَمَرَجَ أَمْرُهُمْ، وَنُسْخَةُ مَا يُكْتَبُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: لِلَّهِ أَسْلَمَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ أَهْلِ أَرْضِ كَذَا، وَآمَنَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَهِدَ لَهُ بِشَهَادَةِ الصِّدْقِ، وَأَقَرَّ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَالْتَزَمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِأَرْكَانِهَا وَأَوْصَافِهَا، وَأَدَّى الزَّكَاةَ بِشُرُوطِهَا، وَصَوْمَ رَمَضَانَ، وَالْحَجَّ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، إذَا اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا، وَيَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَيَتَوَضَّأُ مِنْ الْحَدَثِ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا قُلْت: وَإِنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ يَهُودِيًّا قُلْت: وَإِنَّ الْعُزَيْرَ عَبْدُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ صَابِئًا قُلْت: وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَبِيدُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ الْكِرَامُ وَكُتَّابُهُ الْبَرَرَةُ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. وَإِنْ كَانَ هِنْدِيًّا قُلْت: [وَإِنَّ] مَانِي بَاطِلٌ مَحْضٌ، وَبُهْتَانٌ صِرْفٌ، وَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ مُزَوَّرٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ الْكُفْرِ اعْتَمَدْته بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ بِالذِّكْرِ. وَتَقُولُ بَعْدَهُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا*. تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبَّرَهُ تَكْبِيرًا. وَالْتَزَمَ أَلَّا يَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا يَسْرِقُ، وَلَا يَزْنِي، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِالزُّورِ، وَيَكُونُ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَأَحَدِهِمْ، وَلَا يُسْلِمُهُمْ وَلَا يُسْلِمُونَهُ، وَلَا يَظْلِمُهُمْ وَلَا يَظْلِمُونَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ لِلدِّينِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَسُنَنًا، فَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ يَلْتَزِمَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهَا عَلَى نَعْتِهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَسَنَنٍ قَوِيمٍ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى مَا شَاءَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَشَهِدَ أَنَّهُ {مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ* شَهِدَ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ فِي شَهْرِ كَذَا. وَقَدْ أَدْرَكَ التَّقْصِيرَ جُمْلَةٌ مِنْ الْمُؤَرِّخِينَ، وَكَتَبُوا مَعَالِمَ الْأَمْرِ دُونَ وَظَائِفِ النَّهْيِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَذْكُرُ فِي بَيْعَتِهِ الْوَجْهَيْنِ، أَوْ يُغَلِّبُ ذِكْرَ وَظَائِفِ النَّهْيِ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ. وَكَتَبُوا أَنَّهُ أَسْلَمَ طَوْعًا، وَكَتَبُوا: وَكَانَ إسْلَامُهُ عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ، وَكَتَبُوا أَنَّهُ اغْتَسَلَ وَصَلَّى. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَكَانَ إسْلَامُهُ طَوْعًا فَبَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا لَصَحَّ إسْلَامُهُ وَلَزِمَهُ، وَقُتِلَ بِالرِّدَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ*؛ وَالْكُفَّارُ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ قَسْرًا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُسْتَخْرَجُ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ. وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِ الْأَسْرَى أَوْ(2/115)
مُفَادَاتِهِمْ بِالْخَمْسَةِ الْأَوْجُهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِمْ؛ فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ حُكْمُ السَّيْفِ عَنْهُ. وَفِي الصَّحِيحِ: {عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ*. وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ لَوْ جَنَى جِنَايَةً فَخَافَ مِنْ مُوجَبِهَا الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ فَأَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ الضَّرْبُ وَالْقَتْلُ، وَكَانَ إسْلَامُهُ كُرْهًا، وَحُكِمَ بِصِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ الْمُسْقِطُ لِلْإِسْلَامِ إذَا كَانَ ظُلْمًا وَبَاطِلًا، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لِلذِّمِّيِّ [ابْتِدَاءً] مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا سَبَبٍ: أَسْلِمْ، وَإِلَّا قَتَلْتُك؛ فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى دِينِهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا خَافَ مِنْهُ. وَإِذَا ادَّعَى الذِّمِّيُّ أَنَّهُ أُكْرِهَ بِالْبَاطِلِ لَزِمَهُ إثْبَاتُ ذَلِكَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الطَّوَاعِيَةِ بِوَجْهٍ وَلَا حَالٍ فِي كُلِّ كَافِرٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: كَانَ إسْلَامُهُ عَلَى يَدِ فُلَانٍ فَأَنَّى عَلَّقُوهَا، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِي كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي شُرُوطِهِمْ لِعِلَّةِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الرَّجُلَ إذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ كَانَ لَهُ وَلَاؤُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَنَا. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: اغْتَسَلَ وَصَلَّى، فَلَيْسَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعَقْدِ الْمَكْتُوبِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ صَلَاةٍ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَلَا وُضُوءَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ وَقْتَ صَلَاةٍ فَيُؤْمَرُ بِالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ فَيَفْعَلُهُمَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَكْتُوبًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
-------------------
وفي الموسوعة الفقهية(1) :
بُطْلَانُ زَوَاجِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمُسْلِمَاتِ :
15 - وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ * , قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلُهُ { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ * الْآيَةُ : أَيْ لَمْ يُحِلَّ اللَّهُ مُؤْمِنَةً لِكَافِرٍ , وَلَا نِكَاحَ مُؤْمِنٍ لِمُشْرِكَةٍ .
التَحَرِّي(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2521)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3619)(2/116)
1 - التَّحَرِّي فِي اللُّغَةِ : الْقَصْدُ وَالِابْتِغَاءُ , كَقَوْلِ الْقَائِلِ : أَتَحَرَّى مَسَرَّتَك , أَيْ أَطْلُبُ مَرْضَاتَك , وَمِنْهُ قوله تعالى : { فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * أَيْ قَصَدُوا طَرِيقَ الْحَقِّ وَتَوَخَّوْهُ . وَمِنْهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ . . . * الْحَدِيثَ . أَيْ اعْتَنُوا بِطَلَبِهَا . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْمَقْصُودِ , أَوْ طَلَبِ الشَّيْءِ بِغَالِبِ الظَّنِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الِاجْتِهَادُ : 2 - الِاجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي لَفْظَانِ مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى , وَمَعْنَاهُمَا : بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْمَقْصُودِ , إلَّا أَنَّ لَفْظَ الِاجْتِهَادِ صَارَ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ مَخْصُوصًا بِبَذْلِ الْمُجْتَهِدِ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ , وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي تَعَرُّفِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنْ الدَّلِيلِ . أَمَّا التَّحَرِّي فَقَدْ يَكُونُ بِدَلِيلٍ , وَقَدْ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ شَهَادَةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ . فَكُلُّ اجْتِهَادٍ تَحَرٍّ , وَلَيْسَ كُلُّ تَحَرٍّ اجْتِهَادٌ . ب - التَّوَخِّي : 3 - التَّوَخِّي مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَخَى , بِمَعْنَى الْقَصْدِ , فَالتَّحَرِّي وَالتَّوَخِّي سَوَاءٌ , إلَّا أَنَّ لَفْظَ التَّوَخِّي يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ . كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا فِي الْمَوَارِيثِ : { اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا , وَاسْتَهِمَا , وَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ * . وَأَمَّا التَّحَرِّي فَيُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي الْعِبَادَاتِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ * ج - الظَّنُّ : 4 - الظَّنُّ : هُوَ إدْرَاكُ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ , فَفِي الظَّنِّ يَكُونُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ , فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ مَذْمُومٌ , وَيَكُونُ التَّرْجِيحُ فِي التَّحَرِّي بِغَالِبِ الرَّأْيِ , وَهُوَ دَلِيلٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى طَرَفِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ , وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ * . د - الشَّكُّ : 5 - الشَّكُّ : تَرَدُّدٌ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ , أَيْ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ . فَالتَّحَرِّي وَسِيلَةٌ لِإِزَالَةِ الشَّكِّ . ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : 6 - التَّحَرِّي مَشْرُوعٌ وَالْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ , وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ : أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ * . وَذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّحَرِّي وَغَالِبِ الرَّأْيِ , وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ . وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَالْحَدِيثَانِ السَّابِقَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ التَّوَخِّي . وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْقُولِ : فَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ لِلْعَمَلِ بِهِ , وَذَلِكَ عَمَلٌ بِغَالِبِ الرَّأْيِ , ثُمَّ جُعِلَ مَدْرَكًا مِنْ مَدَارِك أَحْكَامِ الشَّرْعِ , وَإِنْ كَانَتْ الْأَحْكَامُ لَا تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً , فَكَذَلِكَ التَّحَرِّي مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِك التَّوَصُّلِ إلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَادَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً .
------------------
وفي الأم :جِمَاعُ الصُّلْحِ فِي الْمُؤْمِنَاتِ(1) .
__________
(1) - الأم - (ج 4 / ص 276)(2/117)
( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ * قَرَأَ الرَّبِيعُ الْآيَةَ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَكَانَ بَيِّنًا فِي الْآيَةِ مَنْعُ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ مِنْ أَنْ يُرْدَدْنَ إلَى دَارِ الْكُفْرِ وَقَطْعُ الْعِصْمَةِ بِالْإِسْلَامِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ , وَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الْعِصْمَةِ إذَا انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ , وَلَمْ يُسْلِمْ أَزْوَاجُهُنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ بَيِّنًا فِيهَا أَنْ يُرَدَّ عَلَى الْأَزْوَاجِ نَفَقَاتُهُمْ وَمَعْقُولٌ فِيهَا أَنَّ نَفَقَاتِهِمْ الَّتِي تُرَدُّ نَفَقَاتُ اللَّائِي مَلَكُوا عَقْدَهُنَّ وَهِيَ الْمُهُورُ إذَا كَانُوا قَدْ أَعْطَوْهُنَّ إيَّاهَا , وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَزْوَاجَ الَّذِينَ يُعْطُونَ النَّفَقَاتِ ; لِأَنَّهُمْ الْمَمْنُوعُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَنَّ نِسَاءَهُمْ الْمَأْذُونُ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَوْهُنَّ أُجُورَهُنَّ ; لِأَنَّهُ لَا إشْكَالَ عَلَيْهِمْ فِي أَنْ يَنْكِحُوا غَيْرَ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ إنَّمَا كَانَ الْإِشْكَالُ فِي نِكَاحِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ حَتَّى قَطَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِصْمَةَ الْأَزْوَاجِ بِإِسْلَامِ النِّسَاءِ وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ذَلِكَ بِمُضِيِّ الْعِدَّةِ قَبْلَ إسْلَامِ الْأَزْوَاجِ فَلَا يُؤْتَى أَحَدٌ نَفَقَتَهُ مِنْ امْرَأَةٍ فَاتَتْ إلَّا ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ { , وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ * فَأَبَانَهُنَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَبَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ذَلِكَ بِمُضِيِّ الْعِدَّةِ فَكَانَ الْحُكْمُ فِي إسْلَامِ الزَّوْجِ الْحُكْمَ فِي إسْلَامِ الْمَرْأَةِ لَا يَخْتَلِفَانِ . قَالَ : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا * يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ أَزْوَاجَ الْمُشْرِكَاتِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا مَنَعَهُمْ الْمُشْرِكُونَ إتْيَانَ أَزْوَاجِهِمْ بِالْإِسْلَامِ أُوتُوا مَا دَفَعَ إلَيْهِنَّ الْأَزْوَاجُ مِنْ الْمُهُورِ كَمَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ مَا دَفَعَ أَزْوَاجُ الْمُسْلِمَاتِ مِنْ الْمُهُورِ وَجَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا بَيْنَهُمْ ثُمَّ حَكَمَ لَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى حُكْمًا ثَانِيًا , فَقَالَ عَزَّ وَعَلَا { , وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ * وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ يُرِيدُ فَلَمْ تَعْفُوَا عَنْهُمْ إذَا لَمْ يَعْفُوَا عَنْكُمْ مُهُورَ نِسَائِكُمْ { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا * كَأَنَّهُ يَعْنِي مِنْ مُهُورِهِنَّ إذَا فَاتَتْ امْرَأَةُ مُشْرِكٍ أَتَتْنَا مُسْلِمَةً قَدْ أَعْطَاهَا مِائَةً فِي مَهْرِهَا وَفَاتَتْ امْرَأَةٌ مُشْرِكَةٌ إلَى الْكُفَّارِ قَدْ أَعْطَاهَا مِائَةً حُسِبَتْ مِائَةُ الْمُسْلِمِ بِمِائَةِ الْمُشْرِكِ فَقِيلَ : تِلْكَ الْعُقُوبَةُ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَيَكْتُبُ بِذَلِكَ إلَى أَصْحَابِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُعْطِيَ الْمُشْرِكُ مَا قَاصَصْنَاهُ بِهِ مِنْ مَهْرِ امْرَأَتِهِ لِلْمُسْلِمِ الَّذِي فَاتَتْ امْرَأَتُهُ إلَيْهِمْ لَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ , وَلَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمَةِ الَّتِي تَحْتَ مُشْرِكٍ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ رَدَّ الْإِمَامُ الْفَضْلَ عَنْ الْمِائَةِ إلَى الزَّوْجِ الْمُشْرِكِ , وَلَوْ كَانَ مَهْرُ الْمُسْلِمَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ الْمُشْرِكِ مِائَتَيْنِ وَمَهْرُ امْرَأَةِ الْمُسْلِمِ الْفَائِتَةِ إلَى الْكُفَّارِ مِائَةً فَفَاتَتْ امْرَأَةٌ مُشْرِكَةٌ أُخْرَى قَصَّ مِنْ مَهْرِهَا مِائَةً وَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ مِمَّنْ فَاتَتْهُ زَوْجَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُشْرِكِينَ إلَّا قِصَاصًا مِنْ مُشْرِكٍ فَاتَتْ زَوْجَتُهُ إلَيْنَا , وَإِنْ فَاتَتْ زَوْجَةُ الْمُسْلِمِ مُسْلِمَةً , أَوْ مُرْتَدَّةً فَمَنَعُوهَا فَذَلِكَ لَهُ , وَإِنْ فَاتَتْ عَلَى أَيِّ الْحَالَيْنِ كَانَ فَرَدُّوهَا لَمْ يُؤْخَذْ لِزَوْجِهَا مِنْهُمْ مَهْرٌ وَتُقْتَلُ إنْ لَمْ تُسْلِمْ إذَا ارْتَدَّتْ وَتُقَرُّ مَعَ زَوْجِهَا مُسْلِمَةً .
----------------
وفي الفصول في الأصول (1):
__________
(1) - الفصول في الأصول - (ج 1 / ص 480)(2/118)
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ عَلَى النَّسْخِ فَقَدْ ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رحمه الله وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا رُوِيَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَالنَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ لِلْآخَرِ , فَاسْتَدَلَّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى النَّسْخِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَسْنَا نَقُولُ إنَّ الْإِجْمَاعَ يُوجِبُ النَّسْخَ , لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم . وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ لِمَنْ كَانَ فِي حَضْرَتِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ , وَلَا يَصِحُّ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام , إلَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا حَصَلَ عَلَى زَوَالِ حُكْمٍ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ دَلَّنَا الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَوْقِيفٍ , وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا اللَّفْظُ النَّاسِخُ لَهُ . فَمِمَّا دَلَّنَا الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ قوله تعالى : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا * وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُ هَذَا الْحُكْمِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ . وَنَحْوُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمِنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ * , وَحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ { فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ عليه السلام إنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا وَهِيَ لَهُ , وَإِنْ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا * وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام { فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَذِنَتْ لَهُ جُلِدَ مِائَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ امْرَأَتُهُ أَذِنَتْ لَهُ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ * . فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ( لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا إلَّا بِدَلَالَةِ ) الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ يَجُوزُ إثْبَاتُ تَارِيخِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ النَّسْخِ إذَا كَانَ النَّسْخُ وَاقِعًا بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا (1).
__________
(1) - الفصول في الأصول - (ج 2 / ص 52)(2/119)
وَمِمَّا قِيلَ إنَّهُ نَسْخٌ مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * . وقوله تعالى : { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ * فَقَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ , لِأَنَّ قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ * مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ كَقَوْلِهِ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ * , وَنَحْوُهُ , وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ فَلَمْ يُنْسَخْ إلَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ * . فَزَعَمَ مُخَالِفُونَا أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ { لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ * فَأَخْبَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ , كَمَا لَوْ قَالَ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ , لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ الْمِيرَاثَ . كَانَ مَعْقُولًا أَنَّ النَّاسِخَ لِلْوَصِيَّةِ هُوَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ لَا قَوْلُهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ . وَالْجَوَابُ : أَنَّ مَا ( ذَكَرَهُ مِنْ ) ذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمِيرَاثِ نَاسِخًا لِلْوَصِيَّةِ , وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ , وَآيَةُ الْمَوَارِيثِ إنَّمَا فِيهَا إيجَابُ ( الْمِيرَاثِ ) بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ * فَلَوْ خُلِّينَا وَالْآيَتَيْنِ لَجَمَعْنَا لَهُمَا بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ , لِأَنَّ كُلَّ حُكْمَيْنِ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ , فَلَيْسَ فِي وُرُودِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ . فَوَجَبَ عَلَى هَذَا مَتَى وَجَدْنَا حُكْمَيْنِ قَدْ نُسِخَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ إيجَابِ الْآخَرِ مِمَّا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ أَنْ يَقُولَ إنَّ النَّسْخَ وَاقِعٌ بِغَيْرِهِ لِأَنَّا لَوْ خُلِّينَا وَإِيَّاهُمَا لَمَا أَوْجَبْنَا نَسْخًا , وَقَوْلُهُ عليه السلام { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ * لَا يُوجِبُ مَا ذَكَرُوهُ , لِأَنَّ آيَةَ الْمِيرَاثِ إذَنْ لَمْ تُوجِبْ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ لِمَا بَيَّنَّا , فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ عليه السلام إنَّهَا هِيَ النَّاسِخَةُ لَهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ * لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . فَإِنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَا قَالُوا , لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى الْمِيرَاثَ , فَنَسَخَ وَصِيَّتَهُ ( بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ ) لَا بِآيَةِ الْمِيرَاثِ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا بَلْ يَكُونُ سَائِغًا جَائِزًا , لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقُولَ إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْوَصِيَّةِ مَنْسُوخَةً بِالْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذِكْرِهِ عليه السلام الْمِيرَاثَ عِنْدَ ذِكْرِ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ ( أَنَّهُ ) , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ وَإِنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ , فَإِنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مِنْ حَظِّ الْمِيرَاثِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّهُ لَمْ يُخْلِهِ فِي الْحَالَيْنِ قَبْلَ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ وَبَعْدَهَا مِنْ حَظٍّ فِي مَالِ الْمَيِّتِ , فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُخَالِفُ مَا يَنْفِي أَنَّ كَوْنَ الْمِيرَاثِ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ , وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ * فَأَجَازَ لَهُ وَصِيَّةً أَيَّ وَصِيَّةٍ كَانَتْ , لِأَنَّهُ أَطْلَقَهَا بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ , ثُمَّ جَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ عَلَى السِّهَامِ , فَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ يَسْتَحِقُّهَا الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ , فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخَ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ(2/120)
دَيْنٍ * نَفْيٌ لِجَوَازِ ( نَسْخِ ) الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ , إذْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ وَصِيَّةً مَنْكُورَةً غَيْرَ مَقْصُورَةٍ عَلَى قَوْمٍ , فَهِيَ جَائِزَةٌ لِلْوَارِثِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ , فَلَمْ يَنْسَخْ جَوَازَهَا لِلْوَارِثِ إلَّا قَوْلُهُ عليه السلام { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ * . قِيلَ ( لَهُ ) : الَّذِي فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِقَوْلِهِ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ * , وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ جَوَازِهَا إلَّا عَنْ الْوَاجِبِ , وَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ جَوَازَهَا عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّعِ بِهَا , وَالْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ لَمَّا كَانَتْ مُطْلَقَةً عَلَى وَجْهِ النَّكِرَةِ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ نَسْخَ إيجَابِهَا . فَإِذَنْ قَوْلُهُ عليه السلام : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ * لَمْ يُنْسَخْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ , لِأَنَّ الَّذِي فِيهَا الْإِيجَابُ قَدْ نُسِخَ بِمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا الْجَوَازُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِيجَابِ فَهُوَ حُكْمٌ آخَرُ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَةِ . فَإِنْ قَالَ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ * الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَوْجَبَهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى . قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ اللَّفْظُ إلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ إيجَابِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ( وَيُخَصِّصُهَا بِلَفْظٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَطْلَقَهَا بِلَفْظِ النَّكِرَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ وَصِيَّةٍ لِمَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ , فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى نَسْخِ وُجُوبِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) إذْ جَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ , وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ إيجَابَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ * لِأَنَّهُ اقْتَضَى جَوَازَهَا لِسَائِرِ النَّاسِ , وَجَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَهَا لِلْوَرَثَةِ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ نَسْخَ وُجُوبِهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ , وَارِثِينَ كَانُوا أَوْ غَيْرَ وَارِثِينَ , وَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ طَاوُسٍ وَمَسْرُوقٍ وَمُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ فِي آخَرِينَ حِينَ أَثْبَتُوا فَرْضَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً وَلَمْ يُجَوِّزُوهَا لِلْأَجْنَبِيِّينَ مَا دَامَ هَؤُلَاءِ مَوْجُودِينَ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ , لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام جَعَلَ لِلْمُعْتَقَيْنِ فِي الْمَرَضِ الثُّلُثَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ قَرَابَةٌ ( قَالَ ) : فَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ , وَهَذَا يَقْتَضِي مِنْهُ إجَازَةَ نَسْخِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا لَمْ يَكُونُوا وَرَثَةً بِالْخَبَرِ . وَمِمَّا قِيلَ : إنَّهُ نَسْخٌ مِنْ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ * قَالُوا : فَقَدْ كَانَ هَذَا حُكْمًا عَامًّا مُسْتَقِرًّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ , إذْ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْعُمُومِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ . قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ { أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام أَخَّرَ الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَلَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الْخَوْفِ * لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ . قَالُوا : وَقَدْ اعْتَرَفَ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ فِي أَمْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا عِنْدِي لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى وُجُودِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ قَدْ كَانَ وَاجِبًا فِي حَالِ الْخَوْفِ وَفِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلْمُتَنَفِّلِ ثُمَّ نُسِخَ تَرْكُ التَّوَجُّهِ إلَيْهِمَا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ : بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَمْ يُؤْمَرُوا بَدْءًا بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ إلَّا فِي حَالِ الْأَمْنِ وَفِي غَيْرِ حَالِ السَّفَرِ(2/121)
لِلْمُتَنَفِّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ( وَإِنَّمَا كَانَتْ حَالَ الْخَوْفِ ) مَخْصُوصَةً مِنْ قوله تعالى { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ * , لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الْخَوْفِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ مَنْ لُزُومِ فَرْضِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ , مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا قَدْ كَانَ عَامًّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ نُسِخَ , لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ قَدْ عَلِمَتْ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ مِنْ خِطَابِ النَّبِيِّ عليه السلام مَا أَوْجَبَ كَوْنَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الْأَمْنِ ( وَالْإِقَامَةِ ) دُونَ حَالِ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ , ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقْ فِعْلُهَا غَيْرَ مُتَوَجِّهٍ إلَى الْكَعْبَةِ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ , وَعَلَى أَنَّ ( فِي ) سِيَاقِ قِصَّةِ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ . وَهُوَ قوله تعالى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ * وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قوله تعالى { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ * يَقْتَضِي لُزُومَ التَّوَجُّهِ إلَيْهِ حَتْمًا كَانَ قوله تعالى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ * مُسْتَعْمَلًا فِي حَالَتَيْ الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ - لِلتَّنَقُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ - اللَّتَيْنِ صَلَّى النَّبِيُّ عليه السلام فِيهِمَا إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ نُسِخَ كَمَا لَا يُقَالُ فِي قوله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ * أَنَّهُ نَاسِخٌ لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ قوله تعالى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ * وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ , وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِخًا لَكَانَ ( نَسْخُ الْقُرْآنِ ) بِقُرْآنٍ وَهُوَ قوله تعالى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ * . وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي تَطَوُّعًا حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ يَأْتِي مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ * قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِي رَاحِلَتِي تَطَوُّعًا ثُمَّ تَلَا { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ * . , وَقَالَ : فِي هَذَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . فَأَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ الَّتِي أَبَاحَتْ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ , فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خُصَّتْ الْآيَةُ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ عَامًّا أَوْ نَسَخَتْهَا , وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ . وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ , وَقَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي حَالِ الْخَوْفِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّهَا يَوْمَئِذٍ لِتَعَذُّرِ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا . فَإِنَّهُ دَعْوَى لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ جَمِيعًا أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ . فَثَبَتَ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ ( قَدْ ) كَانَتْ نَزَلَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ , وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ , لِأَنَّهُ شُغِلَ بِالْقِتَالِ عَنْ الصَّلَاةِ , وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسَايِفِ وَالْمُقَاتِلِ صَلَاةٌ وَأَنَّهُ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْقِتَالُ . وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام يَوْمَئِذٍ { مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى * . وَمِمَّا قِيلَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ مِنْ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا * , وَهَذَا الْحُكْمُ مَنْسُوخٌ ( الْآنَ ) عِنْدَ الْجَمِيعِ , وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ فَعَلِمْنَا أَنَّ نَسْخَهُ كَانَ(2/122)
بِالسُّنَّةِ . وَمِمَّا نُسِخَ مِنْهُ أَيْضًا بِغَيْرِ قُرْآنٍ مَا رَوَى عَطَاءٌ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قوله تعالى { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ * قَالَتْ : { مَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أُحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ النِّسَاءِ مَا شَاءَ * , وَرُوِيَ عَنْهَا حَتَّى " أُحِلَّ لَهُ نِسَاءُ أَهْلِ الْأَرْضِ " . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا ( يُوجِبُ نَسْخَ ذَلِكَ ) فَثَبَتَ أَنَّهُ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : نَسَخَهُ قوله تعالى : { إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ * قِيلَ لَهُ : لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى النِّسَاءِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ , لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى { إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك * إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَلَمْ يُوجِبْ نَسْخَ قَوْلِهِ { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ * , وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ قوله تعالى : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ * نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ { إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك * . وَأَمَّا نَسْخُ حُكْمِ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا , لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ , وَالْقُرْآنُ وَمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ يُوجِبَانِ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مَا تَضَمَّنَاهُ , فَغَيْرُ ( جَائِزٍ ) أَنْ ( يَنْزِلَ مَا ) كَانَ هَذَا وَصْفُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يَجُوزُ تَرْكُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا لَا يُوجِبُهُ , لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ إبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ وُرُودِ الْمَنْعِ قَدْ وَقَعَ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهَا وَيُقْبَلُ ( مَعَ ذَلِكَ ) خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي حَظْرِهَا . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ , لِأَنَّ النَّقْلَ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ أَشْيَاءَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِيهِ , فَإِنَّا مَتَى قَصَدْنَا إلَى اسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّمَا طَرِيقُ اسْتِبَاحَتِهِ الِاجْتِهَادُ , وَغَلَبَةُ الظَّنِّ فِي أَلَّا يَلْحَقَنَا بِهِ ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِمَّا نَرْجُو بِهِ مِنْ نَفْعٍ , أَلَا تَرَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي التِّجَارَاتِ وَالْخُرُوجَ فِي الْأَسْفَارِ وَشُرْبَ الْأَدْوِيَةِ وَأَكْلَ الْأَطْعِمَةِ إنَّمَا يَصِحُّ لَنَا مِنْهَا اسْتِبَاحَةُ مَا لَا يَلْحَقُنَا بِهِ ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِنْ النَّفْعِ الَّذِي نَرْجُوهُ بِهَا فِي غَالِبِ ظَنِّنَا . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ ( فِيمَا ) سَلَفَ , وَذَكَرْنَا أَنَّ نَظِيرَهُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مَرَضِيَّيْنِ فِي الْجُمْلَةِ , وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِمَا أَوْجَبَ لَنَا الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ , ثُمَّ مَتَى عَيَّنَّا شَاهِدَيْنِ كَانَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا ( مِنْ طَرِيقِ غَالِبِ الظَّنِّ لَا مِنْ جِهَةِ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسَعُ الِاجْتِهَادُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمَا ) عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْ قَبُولِهَا أَوْ رَدِّهَا فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا فِي كَوْنِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةً فِي الْأَصْلِ هُوَ عَلَى ( هَذَا السَّبِيلِ ) . .
------------------
وفي النيل (1):
__________
(1) - نيل الأوطار - (ج 12 / ص 280)(2/123)
قَوْلُهُ : ( وَأَبِي الْحُسَيْلِ ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَسُكُونِ الْيَاءِ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ وَهُوَ وَالِدُ حُذَيْفَةَ فَيَكُونُ لَفْظُ الْحُسَيْلِ عَطْفَ بَيَانٍ قَوْلُهُ : ( فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ . . . إلَخْ ) فِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ الْآتِي بَعْدَ هَذَا " أَنَّ سُهَيْلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : وَعَلَى أَنْ لَا يَأْتِيَكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إلَّا رَدَدْتَهُ إلَيْنَا " قَوْلُهُ : ( فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ . . . إلَخْ ) سَمَّى الْوَاقِدِيُّ جَمَاعَةً مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ . وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي أَنَّ سَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ كَانَ مِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا . وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ : وَقَائِلُ ذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ عُمَرَ . وَلِابْنِ عَائِذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَسَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ بَسْطُ قِصَّةِ الصُّلْحِ , وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي الْقِصَّةِ وَزَادَ عَلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ , وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى جَوَازِ مُصَالَحَةِ الْكُفَّارِ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِمَا وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ . 3467 - ( وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ , قَالَ : { خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ , حَتَّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً , فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ , فَوَاَللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إذَا هُمْ بِقَتَرَةٍ , فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ , وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ نَاقَتُهُ , فَقَالَ النَّاسُ : حَلْ حَلْ فَأَلَحَّتْ , فَقَالُوا : خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ , وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ , قَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إيَّاهَا , ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ , قَالَ : فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمْدٍ قَلِيلٍ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا , فَلَمْ يَلْبَثْ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ , فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ , ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ , فَوَاَللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ , فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ جَاءَهُمْ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ , فَقَالَ : إنِّي تَرَكْت كَعْبَ بْنِ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنِ لُؤَيٍّ , نَزَلُوا إعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ , وَهُمْ مُقَاتِلُوك وَصَادُّوك عَنْ الْبَيْتِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ , وَلَكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ , وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ , فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ , فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا , وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا , وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي , أَوْ لَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ , فَقَالَ بُدَيْلُ : سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ , فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا , فَقَالَ : إنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ , وَقَدْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا , فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا , فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ : لَا حَاجَةَ لَنَا إلَى أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ , وَقَالَ ذُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ : هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ , قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : كَذَا وَكَذَا , فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ : أَيْ قَوْمُ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ ؟ قَالُوا :(2/124)
بَلَى , قَالَ : أَوْ لَسْت بِالْوَلَدِ ؟ قَالُوا : بَلَى , قَالَ : فَهَلْ تَتَّهِمُونِي ؟ قَالُوا : لَا , قَالَ : أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْت أَهْلَ عُكَاظٍ فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي ؟ قَالُوا : بَلَى قَالَ : فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَذَرُونِي آتِهِ , قَالُوا : ائْتِهِ , فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ , فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ : أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إنْ اسْتَأْصَلْت أَمْرَ قَوْمِك هَلْ سَمِعْت بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَك ؟ وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى فَإِنِّي وَاَللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا , أَوْ إنِّي لَأَرَى أَشْوَابًا مِنْ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوك , فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : اُمْصُصْ بِبَظْرِ اللَّاتِ إنْ نَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ , فَقَالَ : مَنْ ذَا ؟ قَالُوا : أَبُو بَكْرٍ , فَقَالَ : أَمَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَك عِنْدِي وَلَمْ أَجْزِك بِهَا لَأَجَبْتُكَ , قَالَ : وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ , فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ وَقَالَ : أَخِّرْ يَدَك عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ , فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ , قَالَ : أَيْ غُدَرُ أَلَسْت أَسْعَى فِي غَدْرَتِك ؟ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ , ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ , وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْءٍ . ثُمَّ إنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَيْنِهِ , قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَّك بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ , وَإِذَا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ , وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ , وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ , وَمَا يُحِدُّونَ إلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ , فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : أَيْ قَوْمُ , وَاَللَّهِ لَقَدْ وَفَدْت عَلَى الْمُلُوكِ , وَوَفَدْت عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ , وَاَللَّهِ إنْ رَأَيْت مَلِكًا قَطُّ تُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا , وَاَللَّهِ إنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَّك بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ , وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ , وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ , وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ , وَمَا يُحِدُّونَ إلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ , وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا , فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ . دَعُونِي آتِهِ , فَقَالُوا : ائْتِهِ , فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ , فَبَعَثُوهَا لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ , فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ , فَلَمَّا رَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ قَالَ : رَأَيْت الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ , فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ , فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ : دَعُونِي آتِهِ , فَقَالُوا : ائْتِهِ , فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : هَذَا مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ , فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو , قَالَ مَعْمَرٌ : فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلٌ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : قَدْ سَهَّلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ , قَالَ : مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ , فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرِو فَقَالَ : هَاتِ اُكْتُبْ(2/125)
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا , فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اُكْتُبْ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , فَقَالَ سُهَيْلٌ : أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ , وَلَكِنْ اُكْتُبْ بِاسْمِك اللَّهُمَّ كَمَا كُنْت تَكْتُبُ , فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : وَاَللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : اُكْتُبْ : بِاسْمِك اللَّهُمَّ , ثُمَّ قَالَ : هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ سُهَيْلٌ : وَاَللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاك عَنْ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاك وَلَكِنْ اُكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : وَاَللَّهِ إنِّي لَرَسُولُ اللَّه وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي , اُكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ : لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إيَّاهَا , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفُ بِهِ , قَالَ سُهَيْلٌ : وَاَللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً , وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ , فَكَتَبَ , فَقَالَ سُهَيْلٌ : وَعَلَى أَنْ لَا يَأْتِيَكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إلَّا رَدَدْتَهُ إلَيْنَا , قَالَ الْمُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا ؟ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ , وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ , فَقَالَ سُهَيْلٌ : هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إلَيَّ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ قَالَ : فَوَاَللَّهِ إذَنْ لَا أُصَالِحُك عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : فَأَجِرْهُ لِي , فَقَالَ : مَا أَنَا بِمُجِيرِهِ لَكَ , فَقَالَ : بَلَى فَافْعَلْ , قَالَ : مَا أَنَا بِفَاعِلٍ , قَالَ مِكْرَزٌ : بَلَى قَدْ أَجَرْنَاهُ لَك , قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ : أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ , أُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا , أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ : أَلَسْت نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا ؟ قَالَ : بَلَى , قُلْتُ : أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ : بَلَى , قُلْتُ : فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إذَنْ ؟ قَالَ : إنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي , قُلْتُ : أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ : بَلَى , فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ ؟ قُلْت : لَا , قَالَ : فَإِنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ , قَالَ : فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ حَقًّا ؟ قَالَ : بَلَى , قُلْتُ : أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ : بَلَى , قُلْت : فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إذَنْ ؟ قَالَ : أَيُّهَا الرَّجُلُ إنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ , فَوَاَللَّهِ إنَّهُ عَلَى الْحَقِّ , قُلْتُ : أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ : بَلَى , أَفَأَخْبَرَك أَنَّك تَأْتِيهِ الْعَامَ ؟ قُلْتُ : لَا , قَالَ : فَإِنَّك إذَنْ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ , قَالَ عُمَرُ : فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا , فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ : قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا , فَوَاَللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ , فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ , فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ , فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا نَبِيَّ اللَّه أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ اُخْرُجْ وَلَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ , وَتَدْعُوَ حَالِقًا فَيَحْلِقَك , فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ , نَحَرَ , وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ , فَلَمَّا رَأَوْا(2/126)
ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا , وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا , ثُمَّ جَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ * - حَتَّى بَلَغَ { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ * فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ , فَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ , وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ , ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ , فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ , فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ , فَقَالُوا : الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا , فَدَفَعَهُ إلَى الرَّجُلَيْنِ , فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ تَمْرًا لَهُمْ , فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا , فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ , فَقَالَ : أَجَلْ وَاَللَّهِ إنَّهُ لَجَيِّدٌ , لَقَدْ جَرَّبْت بِهِ ثُمَّ جَرَّبْت , فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ : أَرِنِي أَنْظُرْ إلَيْهِ , فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ , فَضَرَبَهُ بِهِ حَتَّى بَرَدَ , وَفَرَّ الْآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو , فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ : لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا , فَلَمَّا انْتَهَى إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : قُتِلَ وَاَللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ , فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك , قَدْ رَدَدْتَنِي إلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرُ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ , فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إلَيْهِمْ , فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْبَحْرَ , قَالَ : وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ , فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ , فَوَاَللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلَى الشَّامِ إلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا , فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ , فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ لَمَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ , فَمَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ فَهُوَ آمِنٌ , فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِمْ , وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ * حَتَّى بَلَغَ { حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ * وَكَانَ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيٌّ , وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ * رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَفِيهِ : { وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُشْرِكُهَا وَمُسْلِمُهَا . وَفِيهِ : هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ . وَفِيهِ : وَإِنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً , وَإِنَّهُ لَا إغْلَالَ وَلَا إسْلَالَ , وَكَانَ فِي شَرْطِهِمْ حِينَ كَتَبُوا الْكِتَابَ أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ , وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ , فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَهْدِهِ , وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ . وَفِيهِ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ , فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَفِيهِ : فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الْحِلِّ * ) . 3468 - ( وَعَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ قَالَا : { لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَئِذٍ كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَأْتِيك أَحَدٌ مِنَّا وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِك إلَّا رَدَدْتَهُ إلَيْنَا وَخَلَّيْت بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ , فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وَامْتَعَضُوا مِنْهُ , * وَأَبَى سُهَيْلٌ إلَّا ذَلِكَ , فَكَاتَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه(2/127)
وسلم عَلَى ذَلِكَ , فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إلَى أَبِيهِ سُهَيْلٍ , وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا , وَجَاءَ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ , وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ , فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُرْجِعُهَا إلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْجِعْهَا إلَيْهِمْ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِنَّ { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ * إلَى { وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ * . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ) . 3469 - ( وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ : فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ , وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ أَنْ يَرُدُّوا إلَى الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقُوا عَلَى مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ , وَحَكَمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ قُرَيْبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ , وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيُّ , فَتَزَوَّجَ قُرَيْبَةَ مُعَاوِيَةُ , وَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى أَبُو جَهْمٍ , فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّارُ أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ * وَالْعِقَابُ : مَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ إلَى مَنْ هَاجَرَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ الْكُفَّارِ , فَأَمَرَ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ ذَهَبَ لَهُ زَوْجٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِ نِسَاءِ الْكُفَّارِ اللَّاتِي هَاجَرْنَ وَمَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ إيمَانِهَا * أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ . قَوْلُهُ : الْأَحَابِيشُ : أَيْ الْجَمَاعَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنْ قَبَائِلَ . وَالتَّحَبُّشُ : التَّجَمُّعُ , وَالْجَنْبُ : الْأَمْرُ , يُقَالُ : مَا فَعَلْت كَذَا فِي جَنْبِ حَاجَتِي , وَهُوَ أَيْضًا الْقِطْعَةُ مِنْ الشَّيْءِ تَكُونُ مُعْظَمَهُ أَوْ كَثِيرًا مِنْهُ وَمَحْرُوبِينَ : أَيْ مَسْلُوبِينَ قَدْ أُصِيبُوا بِحَرْبٍ وَمُصِيبَةٍ , وَيُرْوَى مَوْتُورِينَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ . وَقَوْلُهُ : " الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ " يَعْنِي النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ . وَالْعَائِذُ : النَّاقَةُ الْقَرِيبُ عَهْدُهَا بِالْوِلَادَةِ . وَالْمُطْفِلُ : الَّتِي مَعَهَا فَصِيلُهَا . وَحَلْ حَلْ : زَجْرٌ لِلنَّاقَةِ . وَأَلَحَّتْ : أَيْ لَزِمَتْ مَكَانَهَا . وَخَلَأَتْ : أَيْ حَرِنَتْ . وَالثَّمَدُ : الْمَاءُ الْقَلِيلُ وَالتَّبَرُّضُ : أَخْذُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا . وَالْبَرَضُ : الْقَلِيلُ . وَالْأَعْدَادُ جَمْعُ عِدٍّ : وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لِمَادَّتِهِ . وَجَاشَتْ : أَيْ فَارَتْ بِهِ . وَعَيْبَةُ نُصْحِهِ : أَيْ مَوْضِعُ سِرِّهِ ; لِأَنَّ الرَّجُلَ إنَّمَا يَضَعُ فِي عَيْبَتِهِ حُرَّ مَتَاعِهِ . وَجَمُّوا : أَيْ اسْتَرَاحُوا . وَالسَّالِفَةُ صَفْحَةُ الْعُنُقِ . وَالْخِطَّةُ : الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ . وَالْأَوْشَابُ : الْأَخْلَاطُ مِنْ النَّاسِ , مَقْلُوبُ الْأَوْبَاشِ وَالضُّغْطَةُ بِالضَّمِّ : الشِّدَّةُ وَالتَّضْيِيقُ . وَالرَّسْفُ : الشَّيْءُ الْمُقَيَّدُ . وَالْغَرْزُ لِلرَّحْلِ بِمَنْزِلَةِ الرِّكَابِ مِنْ السَّرْجِ . وَقَوْلُهُ : حَتَّى بَرَدَ : أَيْ مَاتَ . وَمِسْعَرُ حَرْبٍ : أَيْ مُوقِدُ حَرْبٍ , وَالْمِسْعَرُ وَالْمِسْعَارُ مَا يُحْمَى بِهِ النَّارُ مِنْ خَشَبٍ وَنَحْوِهِ . وَسِيفُ الْبَحْرِ : سَاحِلُهُ . وَامْتَعَضُوا مِنْهُ : كَرِهُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ , وَالْعَاتِقُ : الْجَارِيَةُ حِينَ تُدْرِكُ . وَالْعَيْبَةُ : الْمَكْفُوفَةُ الْمُشْرِجَةُ , وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ الْقُلُوبِ وَنَقَائِهَا مِنْ الْغِلِّ وَالْخِدَاعِ . وَالْإِغْلَالُ : الْخِيَانَةُ . وَالْإِسْلَالُ مِنْ السِّلَّةِ وَهِيَ السَّرِقَةُ . وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فَوَائِدَ كَثِيرَةً فَنُشِيرُ إلَى بَعْضِهَا إشَارَةً تُنَبِّهُ مَنْ يَتَدَبَّرُهُ عَلَى بَقِيَّتِهَا . فِيهِ أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ مِيقَاتٌ لِلْعُمْرَةِ كَالْحَجِّ , وَأَنَّ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ سُنَّةٌ فِي نَفْلِ النُّسُكِ وَوَاجِبِهِ وَأَنَّ الْإِشْعَارَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ الْمُثْلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَأَنَّ أَمِيرَ الْجَيْشِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْعَثَ الْعُيُونَ أَمَامَهُ نَحْوَ الْعَدُوِّ , وَأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمُشْرِكِ الْمَوْثُوقِ بِهِ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ جَائِزَةٌ(2/128)
لِلْحَاجَةِ ; لِأَنَّ عُيَيْنَةَ الْخُزَاعِيَّ كَانَ كَافِرًا , وَكَانَتْ خُزَاعَةُ مَعَ كُفْرِهَا عَيْبَةَ نُصْحِهِ , وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ مَشُورَةِ الْجَيْشِ , إمَّا لِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِهِمْ أَوْ اسْتِعْلَامِ مَصْلَحَةٍ , وَفِيهِ جَوَازُ سَبْيِ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ بِانْفِرَادِهِمْ قَبْلَ التَّعَرُّضِ لِرِجَالِهِمْ . وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ جَوَازُ التَّصْرِيحِ بِاسْمِ الْعَوْرَةِ لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ , وَأَنَّهُ لَيْسَ بِفُحْشٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ , وَفِي قِيَامِ الْمُغِيرَةِ عَلَى رَأْسِهِ بِالسَّيْفِ اسْتِحْبَابُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي ذَمِّهِ لِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا . وَفِيهِ أَنَّ مَالَ الْمُشْرِكِ الْمُعَاهَدِ لَا يُمْلَكُ بِغَنِيمَةٍ بَلْ يُرَدُّ عَلَيْهِ . وَفِيهِ بَيَانُ طَهَارَةِ النُّخَامَةِ وَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ . وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّفَاؤُلِ , وَأَنَّ الْمَكْرُوهَ الطِّيَرَةُ وَهِيَ التَّشَاؤُمُ . وَفِيهِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إذَا عُرِفَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْجَدِّ . وَفِيهِ أَنَّ مُصَالَحَةَ الْعَدُوِّ بِبَعْضِ مَا فِيهِ ضَيْمٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ دَفْعًا لِمَحْذُورٍ أَعْظَمَ مِنْهُ . وَفِيهِ أَنَّ مَنْ وَعَدَ أَوْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا وَلَمْ يُسَمِّ وَقْتًا فَإِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي . وَفِيهِ أَنَّ الْإِحْلَالَ نُسُكٌ عَلَى الْمُحْصَرِ , وَأَنَّ لَهُ نَحْرَ هَدْيِهِ بِالْحِلِّ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَحَرُوا فِيهِ بِالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحِلِّ بِدَلِيلِ قوله تعالى : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ * وَفِيهِ أَنَّ مُطْلَقَ أَمْرِهِ عَلَى الْفَوْرِ , وَأَنَّ الْأَصْلَ مُشَارَكَةُ أُمَّتِهِ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ ) .
--------------------
وفي المنتقى للباجي (1):
__________
(1) - المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 441)(2/129)
( ش ) : قَوْلُهُ رضي الله عنه كُنَّا إذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُبَايَعَةُ تَخْتَصُّ بِمُعَاقَدَةِ الْإِمَامِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ * إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَبَايِعْهُنَّ * وَمُبَايَعَةُ الْإِمَامِ إنَّمَا هِيَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَمَعْنَى ذَلِكَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { يَقُولُ لَهُمْ : فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ * يُرِيدُ مِنْ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا * وَأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْ الْمُكَلَّفِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْهُ مِنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا * . ( ص ) : ( مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ { عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيَّة أَنَّهَا قَالَتْ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَةٍ بَايَعْنَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقُلْنَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعُك عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا وَلَا نَعْصِيَك فِي مَعْرُوفٍ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ قَالَتْ : فَقُلْنَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا هَلُمَّ نُبَايِعُك يَا رَسُولَ اللَّهِ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ إنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِثْلِ قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ * ) . ( ش ) : هَذِهِ الْبَيْعَةُ الَّتِي ذَكَرَتْهَا أُمَيْمَةُ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ; لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْمُمْتَحَنَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ * الْآيَةَ , وَمَا كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ مِنْ مُبَايَعَةٍ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُنَّ { فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ * وَقَوْلُهُ فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَرْحَمُ بِنَا مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ يُرْفِقُنَا وَيَرْضَى مِنَّا بِمَا بَذَلْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا إكْرَامًا مِنْهُ ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ * قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ مَعْنَاهُ بِوَلَدٍ تَنْسُبُهُ إلَى الزَّوْجِ يُقَالُ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْتَقِطُ الْوَلِيدَ فَتَتَبَنَّاهُ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { إنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ * يُرِيدُ لَا أُبَاشِرُ أَيْدِيَهُنَّ بِيَدِي يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الِاجْتِنَابَ وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ حُكْمِ مُبَايَعَةِ الرِّجَالِ الْمُصَافَحَةَ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي مُبَايَعَةِ النِّسَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُبَاشَرَتِهِنَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْمُبَايَعَةِ ; لِأَنَّهَا عَقْدٌ فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالْقَوْلِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ وَلِذَلِكَ صَحَّتْ مُبَايَعَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالْمُكَاتَبَةِ دُونَ الْمُصَافَحَةِ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { إنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ * يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فِي الْمُعَاقَدَةِ وَإِلْزَامِ ذَلِكَ وَالْتِزَامِهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ . ( ص ) : ( مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ بسم الله الرحمن الرحيم أَمَّا بَعْدُ لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ سَلَامٌ عَلَيْك فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْك اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَأُقِرُّ لَك(2/130)
بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْت ) . ( ش ) : قَوْلُهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ بسم الله الرحمن الرحيم دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى اسْتِفْتَاحِ الْكُتُبِ بِالتَّسْمِيَةِ . وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * { وَكَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى هِرَقْلَ بسم الله الرحمن الرحيم السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ * الْحَدِيثَ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ أَمَّا بَعْدُ أَيْضًا كَانَ مِمَّا يُسْتَفْتَحُ بِهِ الْخِطَابُ وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إنَّهَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي قوله تعالى { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ * وَقَوْلُهُ فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْك اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَى مَعْنَى الْإِعْلَامِ بِحَالِهِ , وَإِنَّمَا حَالُ حَمْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَشُكْرٍ لِنِعَمِهِ وَقَوْلُهُ وَأُقِرُّ لَك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَلْتَزِمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لَك عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِسُرْعَةٍ عَلَى حَسْبِ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ وَأَنَّهُ إذَا الْتَزَمَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِشَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ فَبِأَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَهَذَا لِمَنْ بَايَعَ طَائِعًا وَأَمَّا مَنْ بَايَعَ مُكْرَهًا فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رضي الله عنه وَهَذَا عِنْدِي فِيمَا يَلْزَمُ مُبَايَعَتُهُ فَتَلْزَمُ الْمُبَايِعَ طَائِعًا كَانَ أَوْ مُكْرَهًا , قَالَ أَصْبَغُ سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ بَايَعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنهما وَهُوَ كَارِهٌ وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ كَرِهَ وَجْهَ الْمُبَايَعَةِ وَلَمْ يَكْرَهْ الْمُبَايَعَةَ .
-----------------
وفي إعلام الموقعين : [ مَنْشَأُ أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ ](1)
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 248)(2/131)
وَمِنْ هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي لَمْ يُلْزِمْ بِهَا اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ لِمَنْ حَلَفَ بِهَا الْأَيْمَانَ الَّتِي رَتَّبَهَا الْفَاجِرُ الظَّالِمُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ(1) , وَهِيَ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ { وَكَانَتْ الْبَيْعَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُصَافَحَةِ , وَبَيْعَةُ النِّسَاءِ بِالْكَلَامِ , وَمَا مَسَّتْ يَدُهُ الْكَرِيمَةُ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا , فَيَقُولُ لِمَنْ يُبَايِعُهُ : بَايَعْتُك , أَوْ أُبَايِعُك , عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ * , كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ , فَيَقُولُ : فِيمَا اسْتَطَعْت * وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ , فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ , بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ , وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ * . [ كَيْفَ كَانَتْ بَيْعَةُ النَّبِيِّ لِلنَّاسِ ؟ ] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ { بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ , وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا , وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ , وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا , لَا تَأْخُذُنَا فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ * . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ { جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ , فَقُلْنَا : حَدِّثْنَا أَصْلَحَك اللَّهُ بِحَدِيثٍ نَنْتَفِعُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , قَالَ : دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ , وَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا , وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ , قَالَ إلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ * . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ الْمُؤْمِنَاتُ إذَا هَاجَرْنَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ * إلَى آخِرِ الْآيَةِ . قَالَتْ عَائِشَةُ : فَمَنْ أَقَرَّتْ بِهَذَا مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّتْ بِالْمِحْنَةِ , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ وَلَا وَاَللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ , غَيْرَ أَنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالْكَلَامِ * . { قَالَتْ عَائِشَةُ : وَاَللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ إلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ , وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ , وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ إذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلَامًا * . فَهَذِهِ هِيَ الْبَيْعَةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا : { إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَقَالَ فِيهَا : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ * . [ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْحَجَّاجُ الثَّقَفِيُّ ] فَأَحْدَثَ الْحَجَّاجُ فِي الْإِسْلَامِ بَيْعَةً غَيْرَ هَذِهِ تَتَضَمَّنُ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَصَدَقَةَ الْمَالِ وَالْحَجَّ ; فَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ عَلَى عِدَّةِ أَقْوَالٍ , وَنَحْنُ نَذْكُرُ تَحْرِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَشْفَهَا ; فَإِنْ كَانَ مُرَادُ الْحَالِفِ بِقَوْلِهِ " أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي " الْبَيْعَةَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ عَلَيْهَا أَصْحَابَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ
__________
(1) - قلت : كثير مما نسب إليه مبالغ فيه أو محرف عن مقصده(2/132)
وَالْإِعْتَاقُ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا رَتَّبَهُ الْحَجَّاجُ , وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تِلْكَ الْبَيْعَةَ وَنَوَى الْبَيْعَةَ الْحَجَّاجِيَّةَ فَلَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَذْكُرَ فِي لَفْظِهِ طَلَاقًا أَوْ عَتَاقًا أَوْ حَجًّا أَوْ صَدَقَةً أَوْ يَمِينًا بِاَللَّهِ أَوْ لَا يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ; فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي لَفْظِهِ شَيْئًا فَلَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَضْمُونِهَا أَوْ لَا ; وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَنْوِيَ مَضْمُونَهَا كُلَّهُ أَوْ بَعْضَ مَا فِيهَا أَوْ لَا يَنْوِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ , فَهَذِهِ تَقَاسِيمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . [ رَأْيُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ ] فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ : إنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي لَفْظِهِ طَلَاقَهَا أَوْ عَتَاقَهَا أَوْ حَجَّهَا أَوْ صَدَقَتَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ , إلَّا أَنْ يَنْوِيَ طَلَاقَهَا أَوْ عَتَاقَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ ; فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ : يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ ; فَإِنَّ الْيَمِينَ بِهِمَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ . وَقَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ : لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ نَوَاهُ مَا لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ ; لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَمْ يُوجَدْ , وَالْكِنَايَةُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ الْإِيقَاعَ , فَأَمَّا الِالْتِزَامُ فَلَا , وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ الشَّافِعِيُّ الْإِقْرَارَ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ إقْرَارًا لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ , وَمِنْ هَهُنَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ كَالْقَفَّالِ وَغَيْرِهِ : إذَا قَالَ " الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ " لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَاهُ ; لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ وَالْكِنَايَةُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الِالْتِزَامَاتِ , وَلِهَذَا لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ . [ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ] وَأَمَّا أَصْحَابُ أَحْمَدَ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ : كُنْت عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ أَيْمَانِ الْبَيْعَةِ , فَقَالَ : لَسْت أُفْتِي فِيهَا بِشَيْءٍ , وَلَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْ شُيُوخِنَا يُفْتِي فِيهَا بِشَيْءٍ , قَالَ : وَكَانَ أَبِي رحمه الله - يَعْنِي أَبَا عَلِيٍّ - يَهَابُ الْكَلَامَ فِيهَا , ثُمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَالِفُ بِهَا جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَيْمَانِ , فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : عَرَفَهَا أَمْ لَمْ يَعْرِفْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ , وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ لِمُوجِبِهَا صَارَ نَاوِيًا لَهُ مَعَ التَّلَفُّظِ , وَذَلِكَ مُقْتَضَى اللُّزُومِ , وَمَتَى وَجَدَ سَبَبَ اللُّزُومِ وَالْوُجُوبِ ثَبَتَ مُوجِبُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ , كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَثُلُثُ مَالِي صَدَقَةٌ , أَوْ أَوْصَى بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ , أَوْ قَالَ : أَنَا مُقِرٌّ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ , وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ , أَوْ قَالَ : مَا أَعْطَيْت فُلَانًا فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ , أَوْ مَالِكٌ عَلَيْهِ فَأَنَا ضَامِنُهُ , صَحَّ وَلَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ , أَوْ قَالَ " ضَمَانُ عُهْدَةِ هَذَا الْمَبِيعِ عَلَيَّ " صَحَّ وَلَزِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ . وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرُهُ : إنْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ فِي الْقَسَمِ , وَالْكِنَايَةُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مُقْتَضَاهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ , فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَنْوِيَهُ , قَالُوا : وَإِنْ عَرَفَهَا وَلَمْ يَنْوِ عَقْدَ الْيَمِينِ بِمَا فِيهَا لَمْ تَصِحَّ أَيْضًا ; لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ , وَإِنْ عَرَفَهَا وَنَوَى الْيَمِينَ بِمَا فِيهَا صَحَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ بِهِمَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ , دُونَ غَيْرِهِمَا ; لِأَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ . وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : تَنْعَقِدُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ دُونَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى , فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِيهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ حُرْمَةِ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ الَّذِي تَعْظِيمُهُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ , وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَيْمَانِ . فَصْلٌ [ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ ] وَأَمَّا أَصْحَابُ مَالِكٍ فَلَيْسَ عَنْ مَالِكٍ وَلَا عَنْ أَحَدٍ(2/133)
مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ فِيهَا قَوْلٌ ; وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ , فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : أَجْمَعَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ فِيهَا بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ نِسَائِهِ وَالْعِتْقِ فِي جَمِيعِ عَبِيدِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَقِيقٌ فَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ , وَالْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ وَالْحَجُّ وَلَوْ مِنْ أَقْصَى الْمَغْرِبِ وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ وَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ , ثُمَّ قَالَ جُلُّ الْأَنْدَلُسِيِّينَ : إنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ لَهُ تَطْلُقُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا , وَقَالَ الْقَرَوِيُّونَ : إنَّمَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً , وَأَلْزَمَهُ بَعْضُهُمْ صَوْمَ سَنَةٍ إذَا كَانَ مُعْتَادًا لِلْحَلِفِ بِذَلِكَ , فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّفَاوُتَ الْعَظِيمَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
-------------------
وفي طرح التثريب (1):
وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ { عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا * قَالَتْ : وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ إلَّا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا * وَعَنْهَا قَالَتْ { مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْتَحِنُ الْمُؤْمِنَاتِ إلَّا بِالْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ * وَلَا وَلَا * .
__________
(1) - طرح التثريب - (ج 7 / ص 168)(2/134)
الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا قَالَتْ : وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ إلَّا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا * وَعَنْهَا قَالَتْ { مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْتَحِنُ الْمُؤْمِنَاتِ إلَّا بِالْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ * وَلَا وَلَا * فِيهِ عَشْرُ فَوَائِدَ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ عَنْ مَحْمُودٍ وَهُوَ ابْنُ غَيْلَانَ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ بَعْضَهُ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِلَفْظِ { مَا كَانَ يَمْتَحِنُ إلَّا بِالْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ { إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك * * الْآيَةَ قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ إلَّا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا * وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ { كَانَ الْمُؤْمِنَاتُ إذَا هَاجَرْنَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْتَحِنُ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ * * إلَى آخِرِ الْآيَةِ , قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ : لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُنَّ وَلَا وَاَللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ غَيْرَ أَنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالْكَلَامِ * قَالَتْ عَائِشَةُ { مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ إلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ : إذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلَامًا * لَفْظُ مُسْلِمٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ . { مَا مَسَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ امْرَأَةً قَطُّ إلَّا أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا فَإِذَا أَخَذَ عَلَيْهَا فَأَعْطَتْهُ قَالَ : اذْهَبِي فَقَدْ بَايَعْتُك * . ( الثَّانِيَةُ ) الْمُبَايَعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمُبَايِعَ لِلْإِمَامِ يَلْتَزِمُ لَهُ أُمُورًا كَأَنَّهُ بَاعَهُ إيَّاهَا وَأَخَذَ عِوَضَهَا ثَوَابَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ * الْآيَةَ وَالِامْتِحَانُ الِاخْتِبَارُ وَالْمُرَادُ اخْتِبَارُ صِحَّةِ إيمَانِهِمْ بِإِقْرَارِهِنَّ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَالْتِزَامِهِنَّ إيَّاهَا وَقَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ فَقَدْ بَايَعَ الْبَيْعَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الشَّرْعِ . ( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهَا رضي الله عنها { كَانَ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلَامِ * أَيْ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ كَفٍّ وَلَا مُصَافَحَةٍ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ بَيْعَةَ الرِّجَالِ بِأَخْذِ الْكَفِّ وَالْمُصَافَحَةِ مَعَ الْكَلَامِ وَهُوَ كَذَلِكَ , وَمَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَعَى بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَغَمَسَ فِيهِ يَدَهُ ثُمَّ غَمَسَ فِيهِ أَيْدِيَهُنَّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا صَافَحَهُنَّ بِحَائِلٍ وَكَانَ عَلَى يَدِهِ ثَوْبٌ قِطْرِيٌّ , وَقِيلَ : كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يُصَافِحُهُنَّ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا سِيَّمَا الْأَخِيرُ وَكَيْفَ يَفْعَلُ عُمَرُ رضي الله عنه أَمْرًا لَا يَفْعَلُهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ الْوَاجِبَةِ . ( الرَّابِعَةُ ) وَفِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ تَمَسَّ يَدُهُ قَطُّ يَدَ امْرَأَةٍ غَيْرِ زَوْجَاتِهِ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ لَا فِي مُبَايَعَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ هُوَ ذَلِكَ مَعَ عِصْمَتِهِ وَانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ فِي حَقِّهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ(2/135)
يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ لِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَدَّ جَوَازُهُ مِنْ خَصَائِصِهِ , وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : إنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّ الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَوْ فِي غَيْرِ عَوْرَتِهَا كَالْوَجْهِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ النَّظَرِ حَيْثُ لَا شَهْوَةَ وَلَا خَوْفَ فِتْنَةٍ فَتَحْرِيمُ الْمَسِّ آكَدُ مِنْ تَحْرِيمِ النَّظَرِ , وَمَحَلُّ التَّحْرِيمِ مَا إذَا لَمْ تَدْعُ لِذَلِكَ ضَرُورَةٌ فَإِنْ كَانَ ضَرُورَةً كَتَطْبِيبٍ وَفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَقَلْعِ ضِرْسٍ وَكَحْلِ عَيْنٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يُوجَدُ امْرَأَةٌ تَفْعَلُهُ جَازَ لِلرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ فِعْلُهُ لِلضَّرُورَةِ .
-----------------
وفي الموسوعة الفقهية (1):
أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعَةِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3401)(2/136)
6 - مُبَايَعَةُ الْمُسْلِمِينَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هِيَ مُبَايَعَةٌ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى , وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَك إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ , يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ * فَيَدُهُ سُبْحَانَهُ فِي الثَّوَابِ فَوْقَ أَيْدِيهمْ فِي الْوَفَاءِ , وَيَدُهُ فِي الْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فِي الطَّاعَةِ . وَالْمُرَادُ بِالْمُبَايَعَةِ فِي الْآيَةِ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ , وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ بَايَعَهُ فِيهَا قَوْلَهُ جَلَّ شَأْنُهُ : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ { : كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ , فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهِيَ سَمُرَةٌ . وَقَالَ : بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ , وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ * وَفِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الْأُولَى بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ الْحَرْبُ . { فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه , وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا , وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : بَايَعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا , وَلَا تَسْرِقُوا , وَلَا تَزْنُوا , وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ , وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ , وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ , فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ , وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ , وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ , فَهُوَ إلَى اللَّهِ , إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ . فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ * 7 - أَمَّا بَيْعَةُ النِّسَاءِ فَقَدْ بُيِّنَتْ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ جَاءَهُ نِسَاءُ أَهْلِهَا يُبَايِعْنَهُ فَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ : أَنْ لَا يُشْرِكْنَ . . إلَخْ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ { : كَانَتْ الْمُؤْمِنَاتُ إذَا هَاجَرْنَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُمْتَحَنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ * إلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ . كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ , قَالَ لَهُنَّ : انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ وَلَا وَاَللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ , غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلَامِ . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَاَللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ إلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ , وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ إذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلَامًا . * ( أَيْ دُونَ مُصَافَحَةٍ ) . وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها { لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ جَمَعَ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ فِي بَيْتٍ , ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ , فَسَلَّمَ , فَرَدَدْنَ عَلَيْهِ السَّلَام , فَقَالَ : أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَيْكُنَّ : أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا فَقُلْنَ : نَعَمْ . فَمَدَّ يَدَهُ مِنْ خَارِجِ الْبَيْتِ وَمَدَدْنَا أَيْدِيَنَا مِنْ دَاخِلِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ * . وَرَوَى عَمْرُو(2/137)
بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا بَايَعَ النِّسَاءَ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهِ , ثُمَّ أَمَرَ النِّسَاءَ فَغَمَسْنَ أَيْدِيَهُنَّ فِيهِ * . فَبَيْعَةُ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ بِالْمُصَافَحَةِ مَعَ الْكَلَامِ . أَمَّا بَيْعَةُ نِسَائِهِمْ لَهُ صلى الله عليه وسلم فَكَانَتْ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ مُصَافَحَةٍ . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ , إنَّ بَيْعَةَ النِّسَاءِ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ كَفٍّ , وَبَيْعَةَ الرِّجَالِ بِأَخْذِ الْكَفِّ مَعَ الْكَلَامِ . وَحِينَ تَخَوَّفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : اُبْسُطْ يَدَك يَا أَبَا بَكْرٍ , فَبَسَطَهَا , فَبَايَعَهُ , ثُمَّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ , ثُمَّ بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ .
- - - - - - - - - - - - - - -
أحكام الدور الثلاث :
وفي الموسوعة الفقهية :
دَارُ الْإِسْلَامِ(1)
1 - دَارُ الْإِسْلَامِ هِيَ : كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةً . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : هِيَ كُلُّ أَرْضٍ تَظْهَرُ فِيهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ - وَيُرَادُ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ : كُلُّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ غَيْرِ نَحْوِ الْعِبَادَاتِ كَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ - أَوْ يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ , أَوْ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ , وَأَقَرُّوهَا بِيَدِ الْكُفَّارِ , أَوْ كَانُوا يَسْكُنُونَهَا , ثُمَّ أَجَلَاهُمْ الْكُفَّارُ عَنْهَا . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : أ - دَارُ الْحَرْبِ : 2 - دَارُ الْحَرْبِ هِيَ : كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الْكُفْرِ ظَاهِرَةً . ب - دَارُ الْعَهْدِ : 3 - دَارُ الْعَهْدِ : وَتُسَمَّى دَارَ الْمُوَادَعَةِ وَدَارَ الصُّلْحِ وَهِيَ : كُلُّ نَاحِيَةٍ صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا بِتَرْكِ الْقِتَالِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لِأَهْلِهَا . ج - دَارُ الْبَغْيِ : 4 - دَارُ الْبَغْيِ هِيَ : نَاحِيَةٌ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ تَحَيَّزَ إلَيْهَا مَجْمُوعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ خَرَجَتْ عَلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ بِتَأْوِيلٍ . ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : 5 - إذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بُقْعَةٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ النَّاحِيَةِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ , رِجَالًا وَنِسَاءً , صِغَارًا وَكِبَارًا , أَصِحَّاءَ وَمَرْضَى , فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَهْلُ النَّاحِيَةِ دَفْعَ الْعَدُوِّ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ , صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّوَاحِي الْأُخْرَى مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَهَكَذَا حَتَّى يَكُونَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ . وَيَأْثَمُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَرَكُوا غَيْرَهُمْ يَسْتَوْلِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ . ( ر : جِهَادٌ ) . وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ بُلْدَانِ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَقُرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إقَامَةُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , وَإِظْهَارُهَا فِيهَا كَالْجُمُعَةِ , وَالْجَمَاعَةِ , وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ , وَالْأَذَانِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , فَإِنْ تَرَكَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ إقَامَةَ هَذِهِ الشَّعَائِرِ أَوْ إظْهَارَهَا قُوتِلُوا وَإِنْ أَقَامُوهَا سِرًّا . وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ دُخُولُ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ أَمَانٍ فِي مُسْلِمٍ . وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إحْدَاثُ دُورِ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ : كَالْكَنَائِسِ , وَالصَّوَامِعِ , وَبَيْتِ النَّارِ , عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي .
تَحَوُّلُ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ كُفْرٍ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7099)(2/138)
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحَوُّلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارٍ لِلْكُفْرِ . فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : لَا تَصِيرُ دَارُ الْإِسْلَامِ دَارَ كُفْرٍ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ , وَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ , وَأَجْلَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا , وَأَظْهَرُوا فِيهَا أَحْكَامَهُمْ . لِخَبَرِ : { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ * وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ , وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ ( أَبُو يُوسُفَ , وَمُحَمَّدٌ ) : تَصِيرُ دَارُ الْإِسْلَامِ دَارَ كُفْرٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ لَا تَصِيرُ دَارَ كُفْرِ إلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ : 1 - ظُهُورُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا . 2 - أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْكُفْرِ . 3 - أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ , وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالْأَمَانِ الْأَوَّلِ , وَهُوَ أَمَانُ الْمُسْلِمِينَ . وَوَجْهُ قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ وَمَنْ مَعَهُمَا أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَارَ الْكُفْرِ : أُضِيفَتَا إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى الْكُفْرِ لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ أَوْ الْكُفْرِ فِيهِمَا , كَمَا تُسَمَّى الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ , وَالنَّارُ دَارَ الْبَوَارِ , لِوُجُودِ السَّلَامَةِ فِي الْجَنَّةِ , وَالْبَوَارِ فِي النَّارِ , وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ إنَّمَا هُوَ بِظُهُورِ أَحْكَامِهِمَا , فَإِذَا ظَهَرَتْ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِي دَارٍ فَقَدْ صَارَتْ دَارَ كُفْرٍ , فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ , وَلِهَذَا صَارَتْ الدَّارُ دَارَ إسْلَامٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةٍ أُخْرَى , فَكَذَا تَصِيرُ دَارَ كُفْرٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا . وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إضَافَةِ الدَّارِ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ : الْأَمْنُ , وَالْخَوْفُ , وَمَعْنَاهُ : أَنَّ الْأَمْنَ إنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْخَوْفَ لِغَيْرِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهِيَ دَارُ إسْلَامٍ , وَإِنْ كَانَ الْأَمْنُ فِيهَا لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْخَوْفُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ , فَالْأَحْكَامُ عِنْدَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ , لَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ , فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ أَوْلَى . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي ( دَارُ الْحَرْبِ ) .
دُخُولُ الْحَرْبِيِّ دَارَ الْإِسْلَامِ :
7 - لَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ دُخُولُ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ , فَإِنْ اسْتَأْذَنَ فِي دُخُولِهَا فَإِنْ كَانَ فِي دُخُولِهِ مَصْلَحَةٌ , كَإِبْلَاغِ رِسَالَةٍ , أَوْ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ حَمْلِ مِيرَةٍ أَوْ مَتَاعٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا الْمُسْلِمُونَ , جَازَ الْإِذْنُ لَهُ بِدُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا الْحَرَمَ , وَلَا يُقِيمُ فِي الْحِجَازِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ , لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ , وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ . وَفِي غَيْرِ الْحِجَازِ يُقِيمُ قَدْرَ الْحَاجَةِ . أَمَّا الْحَرَمُ فَلَا يَجُوزُ دُخُولُ كَافِرٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا * . وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ : ( أَرْضُ الْعَرَبِ , حَرَمٌ ) .
مَالُ الْمُسْتَأْمَنِ وَأَهْلُهُ :
8 - إذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ مِنْ الْإِمَامِ كَانَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ , وَزَوْجَةٍ , وَأَوْلَادٍ صِغَارٍ فِي أَمَانٍ , أَمَّا مَا خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ , إلَّا بِالشَّرْطِ فِي عَقْدِ الْأَمَانِ . وَإِنْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَالْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَقِيَ الْأَمَانُ لِمَا تَرَكَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِتَحْصِيلِ مَا تَرَكَهُ مِنْ دَيْنٍ الْوَدِيعَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَإِنْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَرِكَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِوَرَثَتِهِ . وَإِنْ دَخَلَ لِتِجَارَةٍ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عُشْرَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ , وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ .
اسْتِيطَانُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ دَارَ الْإِسْلَامِ :(2/139)
9 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ دَارَ الْإِسْلَامِ إلَى قِسْمَيْنِ : جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا : فَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ لَا يُمَكَّنُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ مِنْ الِاسْتِيطَانِ فِيهَا , وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ . وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ : { لَا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ * . وَخَبَرِ : { أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ * . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ حَزِيرَةِ الْعَرَبِ . فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : الْمُرَادُ بِالْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْحِجَازُ , فَتَجُوزُ إقَامَتُهُمْ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ مِنْ الْجَزِيرَةِ , لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخُلَفَاءِ لَمْ يُخْرِجْ الْكُفَّارَ مِنْ الْيَمَنِ , وَتَيْمَاءَ , وَنَجْرَانَ . وَقَالَ غَيْرُهُمْ : الْمُرَادُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ كُلُّهَا مِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَرْضُ الْعَرَبِ ) .
إحْدَاثُ دُورِ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ :
10 - لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ , أَوْ صَوْمَعَةٍ , أَوْ بَيْتِ نَارٍ لِلْمَجُوسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , بِتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ : إلَى مُصْطَلَحِ : ( مَعَابِدُ ) .
اللَّقِيطُ وَأَثَرُ الدَّارِ فِي دِينِهِ :
11 - إذَا وُجِدَ طِفْلٌ مَنْبُوذٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مُسْلِمِينَ ( اُنْظُرْ : لَقِيطٌ )
إحْيَاءُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ مَوَاتَ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَحَفْرُ مَعَادِنِهِ
12 - لَيْسَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ إحْيَاءُ مَوَاتٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ , وَلَا حَفْرُ مَعَادِنِهَا , وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي ( إحْيَاءُ الْمَوَاتِ , وَزَكَاةُ الْمَعَادِنِ ) .
-------------------
دَارُ الْحَرْبِ(1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7104)(2/140)
1 - دَارُ الْحَرْبِ : هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ : الْهِجْرَةُ : 2 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أ - مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ , وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا , وَلَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لَا تَجِدُ مَحْرَمًا , إنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ , أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَلَّ مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ . لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * . وَفِي الْآيَةِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ , وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ . وَلِحَدِيثِ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا * وَحَدِيثِ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ * أَمَّا حَدِيثُ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * فَمَعْنَاهُ لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا , لِصَيْرُورَةِ مَكَّةَ دَارَ إسْلَامٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ . ب - مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ : وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا , إمَّا لِمَرَضٍ , أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ , أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ , وَالْوِلْدَانِ . لقوله تعالى : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * . ج - مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ , وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ , وَهُوَ : مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْجِهَادِ , وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ . د - وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا : وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَيَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِزَالِ فِي مَكَان خَاصٍّ , وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْكُفَّارِ , فَهَذَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ , لِأَنَّ مَكَانَ اعْتِزَالِهِ صَارَ دَارَ إسْلَامٍ بِامْتِنَاعِهِ , فَيَعُودُ بِهِجْرَتِهِ إلَى حَوْزَةِ الْكُفَّارِ , وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ , لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْكُفَّارِ صَارَ دَارَ إسْلَامٍ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِخَبَرِ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ * . أَمَّا حَدِيثُ : { اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ * . فَمَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * .
التَّزَوُّجُ فِي دَارِ الْحَرْبِ :
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَنْ دَخَلَ فِيهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ , لِتِجَارَةٍ , أَوْ لِغَيْرِهَا , وَلَوْ بِمُسْلِمَةٍ , وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ فِي الْحَرْبِيَّةِ لِافْتِتَاحِ بَابِ الْفِتْنَةِ , وَتَنْزِيهِيَّةٌ فِي غَيْرِهَا , لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا لِلذُّرِّيَّةِ لِفَسَادٍ عَظِيمٍ , إذْ أَنَّ الْوَلَدَ إذَا نَشَأَ فِي دَارِهِمْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْشَأَ عَلَى دِينِهِمْ , وَإِذَا كَانَتْ الزَّوْجَةُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى وَلَدِهَا فَيَتْبَعُهَا عَلَى دِينِهَا . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إذَا كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَلَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا , لِأَنَّهُ إذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ لَهُمْ رَقِيقًا
الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ :(2/141)
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : إلَى أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحُرْمَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ , سَوَاءٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ , أَوْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ , وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ , وَمَالِكٌ , وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَقَالُوا : إنَّ النُّصُوصَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامَّةٌ , وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ , وَلَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ . ( رَاجِعْ مُصْطَلَحَ : رِبًا ) . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ , وَلَا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ . لِحَدِيثِ : { لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ * وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ , فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالًا مُبَاحًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ , وَلِأَنَّ مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحٌ بِغَيْرِ عَقْدٍ , فَبِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَوْلَى . وَلِأَنَّ { أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه خَاطَرَ قُرَيْشًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * وَقَالَتْ قُرَيْشُ : أَتَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالُوا : هَلْ لَك أَنْ تُخَاطِرَنَا فِي ذَلِكَ ؟ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عليه الصلاة والسلام : اذْهَبْ إلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ وَزِدْ فِي الْأَجَلِ فَفَعَلَ , وَغَلَبَتْ الرُّومُ فَارِسًا فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ , فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ * . وَكَانَتْ مَكَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَارَ حَرْبٍ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَخْذَ مَالِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا لَمْ يَكُنْ غَدْرًا .
إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ :
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سَرَقَ , أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا , أَوْ شَرِبَ خَمْرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ . فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ , لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ فَرْضٌ كَالصَّلَاةِ , وَالصَّوْمِ , وَالزَّكَاةِ , وَلَا تُسْقِطُ دَارُ الْحَرْبِ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . إذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْقِصَاصَ , وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ , وَلَوْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ * . وَقَوْلُهُ : { مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ * وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ , وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا , وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا فِيهَا لَا يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ , وَلِأَنَّ كَوْنَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ , وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ , وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ وَتَكُونُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ , لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً , ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنْ التَّنَاصُرِ , وَلَا تَنَاصُرَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا : تَجِبُ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ , وَلَكِنَّهَا لَا تُقَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَتُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ , أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى النَّاسِ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا لِئَلَّا يَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ , فَيَلْحَقَ , بِالْكُفَّارِ .
حَدُّ مَنْ أَصَابَ حَدًّا مِنْ أَفْرَادِ الْجَيْشِ :(2/142)
6 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا أَصَابَ أَحَدُ أَفْرَادِ الْجَيْشِ حَدًّا , أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ خَارِجَ الْمُعَسْكَرِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ الْقِصَاصُ , أَمَّا إذَا زَنَى أَحَدُهُمْ فِي مُعَسْكَرِ الْجَيْشِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ إقَامَةَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ , إلَّا أَنَّهُ يُضَمِّنَهُ الْمَسْرُوقَ وَالدِّيَةَ فِي الْقَتْلِ , لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَالِ . أَمَّا إذَا غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إقَامَةِ الْحُدُودِ , سَوَاءٌ غَزَا الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ , أَوْ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ , فَفَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجَيْشِ ذَلِكَ فِي مُعَسْكَرِهِ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ , وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ , وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ فِي مَالِهِ , لِأَنَّ إقَامَهُ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ , وَبِمَا لَهُ مِنْ الشَّوْكَةِ , وَانْقِيَادِ الْجُيُوشِ لَهُ يَكُونُ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : إذَا أَصَابَ الرَّجُلُ حَدًّا وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْعَدُوِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ . وَقَالُوا : وَلَا يَمْنَعُنَا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنْ اللُّحُوقِ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ نُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ . وَلَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ تَوَقِّيًا مِنْ أَنْ يَغْضَبَ مَا أَقَمْنَا الْحَدَّ أَبَدًا , لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيُعَطَّلَ حُكْمُ اللَّهِ , ثُمَّ إنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقَامَ الْحُدُودَ بِالْمَدِينَةِ وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا , وَفِيهَا مُشْرِكُونَ مُوَادَعُونَ . وَضَرَبَ الشَّارِبَ بِحُنَيْنٍ . وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا .
حُصُولُ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ :
7 - اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي انْقِطَاعِ عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ . فَقَالَ الْجُمْهُورُ : لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ , فَإِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ كِتَابِيَّةٍ , وَهَاجَرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , وَبَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا , لِأَنَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ فَالِاسْتِمْرَارُ أَوْلَى , سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ , أَوْ بَعْدَهُ . وَإِنْ أَسْلَمْت كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ كِتَابِيٍّ , أَوْ غَيْرِهِ , أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرِ الْكِتَابِيِّينَ , قَبْلَ الدُّخُولِ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ , لقوله تعالى : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ * وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ , وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ , فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ بَقِيَ نِكَاحُهُمَا , وَإِلَّا تَبَيَّنَّا فَسْخَهُ مُنْذُ أَسْلَمَ الْأَوَّلُ , لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ اخْتِلَافُ الدِّينِ لَا اخْتِلَافُ الدَّارِ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ قَالَ : { كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْلِمُ الرَّجُلُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ , وَالْمَرْأَةُ قَبْلَهُ , فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ , وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا * , وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَثَرِ دَارَ حَرْبٍ , وَلَا دَارَ إسْلَامٍ , فَسَبَبُ الْفُرْقَةِ إذًا اخْتِلَافُ الدِّينِ . فَكَوْنُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُوجِبُ فُرْقَةً . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ , فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا , وَتَرَكَ الْآخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا , لِأَنَّهُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ , لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عَادَةً , فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( اخْتِلَافُ الدَّارِ ) .
قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ :(2/143)
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ . فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ , وَالشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَتَبَايُعُهَا فِيهَا , وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو إسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ قَالَ : قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ : هَلْ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ ؟ فَقَالَ : لَا أَعْلَمُهُ , إنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتَّبِعُونَ غَنَائِمَهُمْ , وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ , وَلَمْ يَغْفُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ أَصَابَ فِيهَا غُنَيْمَةً إلَّا خَمَّسَهَا وَقَسَمَهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَغْفُلَ , مِنْ ذَلِكَ غُزَاةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ , وَهَوَازِنَ , وَخَيْبَرَ , وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ , وَلِأَنَّ قِسْمَةَ أَمْوَالِهِمْ فِي دَارِهِمْ أَنْكَى لَهُمْ , وَأَطْيَبُ لِقُلُوبِ الْمُجَاهِدِينَ , وَأَحْفَظُ لِلْغَنِيمَةِ , وَأَرْفَقُ بِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ : 1 - قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ . 2 - وَقِسْمَةُ مِلْكٍ . أَمَّا قِسْمَةُ الْحَمْلِ , فَهِيَ إنْ عَزَّتْ الدَّوَابُّ , وَلَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ , فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ . أَمَّا قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , وَيُحْرِزُوهَا , وَقَالُوا : إنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ , وَيَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ , وَيَتَمَكَّنُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ , وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ , وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالْأَخْذِ , وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ , وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ , وَقَبْلَ الْإِحْرَازِ هُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا , وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُونُ ضَعِيفًا . 9 - وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْجُمْهُورِ أَحْكَامٌ . مِنْهَا : أَنَّهُ إذَا مَاتَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ مِنْ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُورَثُ . وَمِنْهَا : إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ أَحَدٌ بَعْدَ الْحِيَازَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُشَارِكُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشَارِكُهُمْ إذَا لَحِقَ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ . وَإِذَا أَتْلَفَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَضْمَنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَلَا يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ .
اسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَثَرُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ :(2/144)
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا , فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا وَإِنْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ , لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ يَدٌ عَادِيَةٌ , فَلَمْ يَمْلِكْ بِهَا كَالْغَصْبِ . وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِغَصْبٍ , فَالْمُشْرِكُ أَوْلَى أَلَّا يَمْلِكَ . وَخَبَرُ { عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي أُسِرَتْ , ثُمَّ امْتَطَتْ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَأَعْجَزَتْ مَنْ طَلَبِهَا , فَنَذَرَتْ الْأَنْصَارِيَّةُ إنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنهَا , فَلَمَّا قَدِمَتْ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ , فَقَالُوا : الْعَضْبَاءُ , نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَقَالَتْ : إنَّهَا نَذَرَتْ إنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنهَا , فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ , فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ , بِئْسَمَا جَزَتْهَا , نَذَرَتْ لِلَّهِ إنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنهَا , لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ , وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ * . وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَمْلِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ لَمَلَكَتْ الْأَنْصَارِيَّةُ النَّاقَةَ . لِأَنَّهَا تَكُونُ أَخَذَتْ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ فِي دَارِ حَرْبٍ وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ , وَلَكِنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّهَا نَذَرَتْ فِيمَا لَا تَمْلِكُ وَأَخَذَ نَاقَتَهُ , وَبِهِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ , قَالَ : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ , وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ : إنَّ أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهَا , أَمَّا إذَا أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا . وَقَالُوا : لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ يَزُولُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ , فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ , فَكَأَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ , لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ : الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ , أَوْ شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ , وَقَدْ زَالَ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ . فَإِذَا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ , يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ : يَمْلِكُونَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَقَالُوا : لِأَنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ , فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ كَالْبَيْعِ , وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَثْبُتُ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إلَى الدَّارِ , كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَالِ الْكُفَّارِ , وَلِأَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ حَيْثُ وُجِدَ , كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ , اخْتِلَافُهُمْ فِي حُكْمِ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ , فَمَنْ رَأَى أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ : يَرَى أَنَّهُ إذَا وَجَدَهُ مَالِكُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِدُونِ رَدِّ قِيمَتِهِ , أَمَّا إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ . وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ : يَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا وَجَدَ مَالَهُ فِي الْغَنِيمَةِ أَخَذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِلَا رَدِّ شَيْءٍ .
قَضَاءُ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ فِي مُنَازَعَاتٍ حَدَثَتْ أَسْبَابُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ :(2/145)
11 - إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ , وَأَخَذَ مَالًا مِنْ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُضَارَبَةً , أَوْ وَدِيعَةً , أَوْ بِشِرَاءٍ أَوْ بِبَيْعٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ قَرْضٍ , فَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ , عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ , وَإِذَا خَرَجَ الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْتَأْمَنًا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْمُسْلِمِ بِمَالِهِ كَمَا يَقْضِي بِهِ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , لِأَنَّ الْحُكْمَ جَارٍ عَلَى الْمُسْلِمِ حَيْثُ كَانَ , لَا نُزِيلُ الْحَقَّ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ . كَمَا لَا تَزُولُ الصَّلَاةُ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَكَذَلِكَ إنْ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ مَالًا ثُمَّ دَخَلَ إلَيْنَا فَأَسْلَمَ , فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ وَيُقْضَى عَلَيْهِ لِالْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ . أَمَّا إنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَقَدِمَا إلَيْنَا بِإِسْلَامٍ , أَوْ أَمَانٍ , فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا , وَالْإِتْلَافُ لَيْسَ عَقْدًا يُسْتَدَامُ , وَلِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ لَا يَزِيدُ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ , وَهُوَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ , وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَضْمَنَ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَيْسَ لِلْقَاضِي الْمُسْلِمِ الْقَضَاءُ مِنْ حَرْبِيَّيْنِ إذَا خَرَجَا إلَيْنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ , لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا لِانْعِدَامِ وِلَايَتِنَا عَلَيْهِمْ . أَمَّا لَوْ خَرَجَا إلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ , أَمَّا فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ فَلَا يُقْضَى , وَإِنْ خَرَجَا إلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ .
عِصْمَةُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ :(2/146)
12 - الْأَصْلُ أَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَدِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ لَا عِصْمَةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَلِلْمُسْلِمِينَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِشَتَّى الطُّرُقِ , لِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا , وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ , وَلَكِنْ ذَكَرُوا حَالَاتٍ تُثْبِتُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمْ الْعِصْمَةَ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ , مِنْهَا : 13 - أ - إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَوْ بِأَسْرٍ , وَائْتَمَنُوهُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي شَيْءٍ , لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ , وَأَمْنِهِ إيَّاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ , فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى , فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ , لِأَنَّهُ غَدْرٌ , وَلَا يَصْلُحُ الْغَدْرُ فِي الْإِسْلَامِ , فَإِنْ سَرَقَ مِنْهُمْ شَيْئًا أَوْ غَصَبَ , وَجَبَ رَدُّهُ إلَى أَرْبَابِهِ , فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إلَيْهِمْ , وَإِلَّا بَعَثَ بِهِ إلَيْهِمْ , لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَلَزِمَهُ رَدُّهُ , كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ . وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُقِنَ دَمُهُ , وَأَحْرَزَ مَالُهُ وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ مِنْ السَّبْيِ , فَإِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا اُقْتُصَّ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ , وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي عِصْمَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَمَالِهِ أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُ وُجِدَ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ , أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ , وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ * وَلَمْ يَذْكُرْ الدِّيَةَ . وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ : ( قَتْلُ عَمْدٍ ) . أَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لَهُ أَمَّا مَالُهُ فَمَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ مَنْقُولٍ فَهُوَ لَهُ . وَكَذَلِكَ مَا كَانَ بِيَدِ مُسْلِمٍ وَدِيعَةً , أَوْ بِيَدِ ذِمِّيٍّ فَهُوَ لَهُ , لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمَالِكِ فَكَانَ مَعْصُومًا . أَمَّا الْعَقَارُ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ غَنِيمَةٌ , لِأَنَّهَا بُقْعَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَجَازَ اغْتِنَامُهَا . 14 - ب - وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ خَرَجَ إلَيْهَا , وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَارُوا مُسْلِمِينَ , وَلَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ , وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . وَقَالُوا : إنَّهُمْ أَوْلَادُ مُسْلِمٍ , فَيَجِبُ أَنْ يَتَّبِعُوهُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ كَانُوا مَعَهُ فِي الدَّارِ , وَلِأَنَّ مَالَهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ اغْتِنَامُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَهَاجَرَ إلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ , فَأَمْوَالُهُ فَيْءٌ , إلَّا مَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً . وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ أَمْوَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيْءٌ , لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ , وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ مَالًا , ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا .
التِّجَارَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ :(2/147)
15 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ , كَالسِّلَاحِ بِأَنْوَاعِهِ , وَالسُّرُوجِ , وَالنُّحَاسِ , وَالْحَدِيدِ , وَكُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ تَقْوِيَتُهُمْ فِي الْحَرْبِ , لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إمْدَادَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلَاحًا , وَإِذَا اشْتَرَى لَا يُمَكَّنُ مِنْ إدْخَالِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ . أَمَّا الِاتِّجَارُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُسْتَخْدَمُ فِي الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَلَا بَأْسَ بِهِ , كَالثِّيَابِ , وَالطَّعَامِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنْ الْبَيْعِ . إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى السِّلْعَةِ فَلَا يُحْمَلُ إلَيْهِمْ , وَجَرَتْ الْعَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ التُّجَّارِ , وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَلَا إنْكَارَ عَلَيْهِمْ , وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ , لِأَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ , وَيَدْعُونَهُمْ إلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ , فَكَانَ الْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الدُّخُولِ فِي دَارِهِمْ مِنْ بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْهَوَانِ , وَالدِّينِ عَنْ الزَّوَالِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يُكْرَهُ الْمُتَاجَرَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً , وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى بِلَادِهِمْ حَيْثُ تَجْرِي أَحْكَامُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ .
أَثَرُ اخْتِلَافِ الدَّارِ فِي أَحْكَامِ الْأُسْرَةِ وَالتَّوَارُثِ :
16 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَاخْتَلَفُوا فِي تَوَارُثِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إذَا اخْتَلَفُوا فِي الدَّارِ . ( ر : اخْتِلَافُ الدَّارِ ) .
--------------------
دَارُ الْعَهْدِ (1)
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَهْدِ فِي اللُّغَةِ : الْأَمَانُ , وَالذِّمَّةُ , وَالْيَمِينُ , وَالْحِفَاظُ , وَرِعَايَةُ الْحُرْمَةِ , وَكُلُّ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنْ الْمَوَاثِيقِ فَهُوَ عَهْدٌ . وَدَارُ الْعَهْدِ هِيَ : كُلُّ بَلَدٍ صَالَحَ الْإِمَامُ أَهْلَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَرْضُ لَهُمْ , وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجُ عَنْهَا . وَتُسَمَّى دَارَ الْمُوَادَعَةِ , وَدَارَ الصُّلْحِ , وَدَارَ الْمُعَاهَدَةِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - دَارُ الْحَرْبِ : 2 - دَارُ الْحَرْبِ هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : هِيَ كُلُّ مَكَان يَسْكُنُهُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ , وَلَمْ يَسْبِقْ فِيهِ حُكْمٌ إسْلَامِيٌّ , أَوْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ قَطُّ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ . فَدَارُ الْعَهْدِ أَخَصُّ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِوُجُودِ الْمَوَاثِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِهَا , فَلِذَا اخْتَصَّتْ عَنْ دَارِ الْحَرْبِ بِأَحْكَامٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا . ب - دَارُ الْإِسْلَامِ : 3 - دَارُ الْإِسْلَامِ هِيَ كُلُّ بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ تَظْهَرُ فِيهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ . ج - دَارُ الْبَغْيِ : 4 - دَارُ الْبَغْيِ هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَنْحَازُ إلَيْهِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ بِتَأْوِيلٍ , وَغَلَبُوا عَلَيْهِ .
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْعَهْدِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7116)(2/148)
5 - يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الْإِمَامُ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ عَهْدًا لِلْمَصْلَحَةِ يَتْرُكُ بِمُوجَبِهِ الْقِتَالَ مُدَّةً بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ , فَتَكُونُ تِلْكَ الدَّارُ دَارَ عَهْدٍ . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( هُدْنَةٌ ) . وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ عَقْدَ الصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ إلَى قِسْمَيْنِ : أ - قِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَرَاضِيُ لَنَا , وَنُقِرُّهَا بِأَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ لَنَا . فَهَذَا الصُّلْحُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , وَيَكُونُ الْخَرَاجُ الَّذِي يُؤَدُّونَهُ أُجْرَةً لَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ , وَيُؤْخَذُ خَرَاجُهَا إذَا انْتَقَلَتْ إلَى مُسْلِمٍ , وَهُمْ يَصِيرُونَ أَهْلَ عَهْدٍ . وَالدَّارُ دَارُ إسْلَامٍ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهَا بِالْبَيْعِ , أَوْ الرَّهْنِ , فَإِنْ دَفَعُوا الْجِزْيَةَ عَنْ رِقَابِهِمْ جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَى التَّأْبِيدِ , وَإِنْ مَنَعُوا الْجِزْيَةَ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهَا , وَلَمْ يُقَرُّوا فِيهَا إلَّا الْمُدَّةَ الَّتِي يُقَرُّ فِيهَا أَهْلُ الْهُدْنَةِ . ب - وَقِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُمْ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَهُمْ , فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ عَقْدٌ صَحِيحٌ , وَالْخَرَاجُ الَّذِي يُؤَدُّونَهُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ مَتَى أَسْلَمُوا يَسْقُطُ عَنْهُمْ , وَلَا تَصِيرُ الدَّارُ دَارَ إسْلَامٍ , وَتَكُونُ دَارَ عَهْدٍ وَلَهُمْ بَيْعُهَا , وَرَهْنُهَا , وَإِذَا انْتَقَلَتْ إلَى مُسْلِمٍ لَمْ يُؤْخَذْ خَرَاجُهَا , وَيُقَرُّونَ فِيهَا مَا أَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ , وَلَا تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ , لِأَنَّهُمْ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَهُمْ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا , لِأَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَلَيْسَتْ دَارَ إسْلَامٍ فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ فِيهَا كَالْخَمْرِ , وَالْخِنْزِيرِ , وَضَرْبِ النَّاقُوسِ , وَلَا يُمْنَعُونَ إلَّا مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كَإِيوَاءِ جَاسُوسٍ , وَنَقْلِ أَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْأَعْدَاءِ , وَسَائِرِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ . وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا عَقَدَ الْعَهْدَ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى أَنْ تُجْرَى فِي دَارِهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ صَارَتْ دَارُهُمْ بِالصُّلْحِ دَارَ إسْلَامٍ , وَصَارُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ , وَإِذَا طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُوَادَعَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِنِينَ مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْخَرَاجَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ لَا تَجْرِيَ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ فِي دَارِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ , إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي عَقْدِ الْعَهْدِ مَعَهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ جَازَ بِشَرْطِ الضَّرُورَةِ , وَهِيَ ضَرُورَةُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ , فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ , لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ , فَلَا يَجُوزُ إلَّا فِي حَالٍ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ , لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى , قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ * وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ * وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ عَشْرَ سِنِينَ * . وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ , حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ فَرِيقٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُمْ , لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ . وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ , فَإِذَا صَالَحَهُمْ , فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَاطَ مَعَ الْجَيْشِ بِبِلَادِهِمْ فَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ عَلَى الصُّلْحِ يَكُونُ غَنِيمَةً يُخَمِّسُهَا , وَيَقْسِمُ الْبَاقِي عَلَى الْجَيْشِ , لِأَنَّهُ تَوَصَّلَ إلَيْهِ بِقُوَّةِ السَّيْفِ(2/149)
, فَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ بِسَاحَتِهِمْ , وَأَرْسَلُوا إلَيْهِ وَطَلَبُوا مِنْهُ الْمُوَادَعَةَ بِالْمَالِ , فَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ , لَا خُمُسَ فِيهِ , بَلْ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْجِزْيَةِ .
الْأَمَانُ لِأَهْلِ دَارِ الْعَهْدِ :
6 - يَمْنَعُ الْإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ مِنْ إيذَاءِ أَهْلِ دَارِ الْعَهْدِ وَالتَّعَرُّضِ لَهُمْ , لِأَنَّهُمْ اسْتَفَادُوا الْأَمَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ , وَأَمْوَالِهِمْ بِالْمُوَادَعَةِ , أَمَّا إنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ , فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الدِّفَاعُ عَنْهُمْ , لِأَنَّهُمْ بِهَذَا الْعَهْدِ " الْمُوَادَعَةِ " مَا خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ , فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُصْرَتُهُمْ . وَهَذَا الْعَهْدُ أَوْ الْمُوَادَعَةُ : عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ , فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ , لقوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ * أَمَّا إذَا وَقَعَ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ فِي دَارِهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَقْدٌ لَازِمٌ , لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مِنَّا , لِأَنَّ الْعَهْدَ الْوَاقِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَقْدُ ذِمَّةٍ . وَالدَّارُ دَارُ إسْلَامٍ يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ . فَإِنْ نَقَضُوا الصُّلْحَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ مَعَهُمْ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَى أَنَّ دَارَهُمْ تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ فِي دَارِهِمْ مُسْلِمٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَتَبْقَى دَارُهُمْ دَارَ إسْلَامِ يَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا حُكْمُ الْبُغَاةِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مُسْلِمٌ وَلَا بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَتَكُونُ دَارَ حَرْبٍ . وَإِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَكَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِدَارِنَا يُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ , أَيْ مَا يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنَّا وَمِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ , ثُمَّ كَانُوا حَرْبًا لَنَا .
-----------------
وقال الجصاص (1):
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 5 / ص 24)(2/150)
بَابُ الْمُسْلِمِ يُقِيمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَيْنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ * رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ * قَالَ : " يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَقَوْمُهُ كُفَّارًا فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَكِنْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ " . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الَّذِي يُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَيْنَا ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ فِي الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا قُتِلَ وَلَهُ أَقَارِبُ كُفَّارٌ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةَ لِبَيْتِ الْمَالِ , وَأَنَّ كَوْنَ أَقْرِبَائِهِ كُفَّارًا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ دِيَتِهِ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ حَيْثُ لَا يَرِثُونَهُ . وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ * الْآيَةَ , قَالَ : " كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُسْلِمَ , ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيَكُونُ فِيهِمْ فَيُصِيبُهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً فِي سَرِيَّةٍ أَوْ غُزَاةٍ , فَيَعْتِقُ الَّذِي يُصِيبُهُ رَقَبَةً " . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَسْقُطْ دِيَتُهُ بِرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْقَرَابَةِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إسْقَاطِ قِيمَةِ دَمِهِ , كَسَائِرِ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ , عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ قَتَادَةُ : " هُوَ الْمُسْلِمُ يَكُونُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلُهُ الْمُؤْمِنُ وَلَا يَدْرِي فَفِيهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ دِيَةٌ " . وَهَذَا عَلَى أَنْ يُقْتَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ . وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ * قَالَ : " هُوَ الْمُؤْمِنُ يُقْتَلُ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ , فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ , وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عليه السلام عَهْدٌ أَدَّى دِيَتَهُ إلَى قَرَابَتِهِ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عليه السلام عَهْدٌ " . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ , مِنْ قِبَلِ أَنَّ أَقْرِبَاءَهُ لَا يَرِثُونَهُ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَكَيْفَ يَأْخُذُونَ دِيَتَهُ وَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ أَهْلَ حَرْبٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَالدِّيَةُ وَاجِبَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ كَمُسْلِمٍ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا وَارِثَ لَهُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيمَنْ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ , فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَمُحَمَّدٌ فِي الْحَرْبِيِّ يُسَلَّمُ . فَيَقْتُلُهُ مُسْلِمٌ مُسْتَأْمَنٌ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ , وَإِنْ كَانَا مُسْتَأْمَنَيْنِ دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ خَاصَّةً , وَإِنْ كَانَا أَسِيرَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ , فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : " عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ " . وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَقْتُلَهُ رِجْلٌ مُسْلِمٌ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا أَنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةُ اسْتِحْسَانًا , وَلَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ مِيزَابٌ عَمِلَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا . وَهَذَا خِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِ وَخِلَافُ الْقِيَاسِ أَيْضًا . وَقَالَ مَالِكٌ : وَإِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا فَعَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ إنْ كَانَ خَطَأً قَالَ : وقوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ * إنَّمَا كَانَ فِي صُلْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّةَ(2/151)
; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يُورَثْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * فَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ وَرَثَةٌ يَسْتَحِقُّونَ مِيرَاثَهُ , فَلَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ ; ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ * . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : " مَنْ أَقَامَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ وَإِنْ انْتَحَلَ الْإِسْلَامَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى التَّحَوُّلِ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْمُشْرِكِينَ , وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فَأَقَامَ بِبِلَادِهِمْ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ يُحْكَمُ فِيهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ " . وَقَالَ الْحَسَنُ : " إذَا لَحِقَ الرَّجُلُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ بِتَرْكِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : " إذَا قَتَلَ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي الْغَارَةِ أَوْ الْحَرْبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلَا عَقْلَ فِيهِ وَلَا قَوَدَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ , وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا أَوْ مُسْتَأْمَنًا أَوْ رَجُلًا أَسْلَمَ هُنَاكَ ; وَإِنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَخْلُو قوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ * مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرْبِيُّ الَّذِي يُسْلِمُ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ عَلَى مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا , أَوْ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ قَرَابَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّ قوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ * يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَبِأَنْ يَكُونَ ذَا نَسَبٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ , فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالظَّاهِرَ لَأَسْقَطْنَا دِيَةَ مَنْ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ ذَا قَرَابَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِاقْتِضَاءِ الظَّاهِرِ ذَلِكَ , فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كَوْنِهِ ذَا قَرَابَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يُسْقِطُ حُكْمَ دَمِهِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ أَوْ الْقَوَدِ إذَا قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ : مَنْ كَانَ مُسْلِمًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُهَاجِرْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ خَطَأُ الْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَلَمْ يُوجِبْ الدِّيَةَ ; وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُزَادَ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ ; إذْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ . فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا أَوْجَبْت الدِّيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ * قِيلَ لَهُ : غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُؤْمِنُ مُرَادًا بِالْمُؤْمِنِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ; لِأَنَّ فِيهَا إيجَابُ الدِّيَةِ وَالرَّقَبَةِ , فَيَمْتَنِعُ أَنْ نَعْطِفَهُ عَلَيْهِ وَنَشْرِطُ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَنُوجِبُ فِيهِ الرَّقَبَةَ وَهُوَ قَدْ أَوْجَبَهَا بَدِيًّا مَعَ الدِّيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ * اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : " أَعْطِ هَذَا رَجُلًا وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَأَعْطِهِ " هَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ حَكِيمٌ , فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْمُؤْمِنَ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْأَوَّلِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السَّنَةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ , فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ , فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلُ , فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ , وَقَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ(2/152)
الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ ؟ قَالَ : لَا تُرَاءَى نَارَاهُمَا * . وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أَقَامَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ أَوْ قَالَ : لَا ذِمَّةَ لَهُ * ; قَالَ ابْنُ عَائِشَةَ : هُوَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ فَيُقِيمُ مَعَهُمْ فَيَغْزُونَ , فَإِنْ أُصِيبَ فَلَا دِيَةَ لَهُ لِقَوْلِهِ عليه السلام فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ . وَقَوْلُهُ : " أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ " يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ , وَلَمَّا أَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ كَانَ مَشْكُوكًا فِي أَنَّهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عليه السلام تَبَرَّعَ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ وَاجِبًا لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى نِصْفِهِ . وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ : حَدَّثَنَا شَيْبَانُ قَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ : حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ : أَتَانِي أَبُو الْعَالِيَةِ وَصَاحِبٌ لِي , فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا بِشْرَ بْنَ عَاصِمٍ اللَّيْثِيَّ , فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ حَدَّثَ هَذَيْنِ فَقَالَ بِشْرٌ : حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ مَالِكٍ اللَّيْثِيُّ وَكَانَ مِنْ رَهْطِهِ قَالَ : { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ سَرِيَّةً فَأَغَارَتْ عَلَى قَوْمٍ , فَشَذَّ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ وَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنْ السَّرِيَّةِ وَمَعَهُ السَّيْفُ شَاهِرَهُ , فَقَالَ الشَّاذُّ : إنِّي مُسْلِمٌ , فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ , فَنَمَا الْحَدِيثُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا , فَقَالَ الْقَاتِلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَالَ إلَّا تَعَوُّذًا مِنْ الْقَتْلِ , فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِرَارًا تُعْرَفُ الْمُسَاءَةُ فِي وَجْهِهِ , وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِنًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ * . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِيمَانِ الْمَقْتُولِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ حَرْبِيًّا لَمْ يُهَاجِرْ بَعْدَ إسْلَامِهِ . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا : حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ قَالَ : حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً إلَى الْحُرُقَاتِ فَنُذِرُوا بِنَا فَهَرَبُوا , فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا , فَلَمَّا غَشَّيْنَاهُ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ , فَذَكَرْته لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مَنْ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا قَالَهَا مَخَافَةَ السِّلَاحِ , قَالَ : أَفَلَا شَقَقْت عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَهَا أَمْ لَا ؟ مَنْ لَك بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى أَنِّي وَدِدْت أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إلَّا يَوْمَئِذٍ * . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا . وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إيجَابِهِ الْقَوَدَ عَلَى قَاتِلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَدْ أُخْبِرَ بِإِسْلَامِ هَذَا الرَّجُلِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى أُسَامَةَ دِيَةً وَلَا قَوَدًا . وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ قوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ * إنَّمَا كَانَ حُكْمًا لِمَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ * فَإِنَّهُ دَعْوَى لِنَسْخِ حُكْمٍ ثَابِتٍ فِي الْقُرْآنِ بِلَا دَلَالَةٍ , وَلَيْسَ فِي نَسْخِ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ وَإِثْبَاتِهِ بِالرَّحِمِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ هَذَا الْحُكْمِ , بَلْ هُوَ حُكْمٌ(2/153)
ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ . وَعَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ مَا كَانَ التَّوَارُثُ بِالْهِجْرَةِ قَدْ كَانَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ الْقَرَابَاتِ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَإِنَّمَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ قَاطِعَةً لِلْمِيرَاثِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ , فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ فَقَدْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِأَسْبَابٍ أُخَرَ , فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ دِيَةً وَاجِبَةً لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ أَقْرِبَائِهِ ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِيرَاثُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مُهْمَلًا لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ , فَلَمَّا لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ دِيَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَلَا لِغَيْرِهِمْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ مُبْقًى عَلَى حُكْمِ الْحَرْبِ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ ; وقوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ * يُفِيدُ أَنَّهُ مَا لَمْ يُهَاجِرْ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ بَاقٍ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ فِي أَنْ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ وَإِنْ كَانَ دَمُهُ مَحْظُورًا ; إذْ كَانَتْ النِّسْبَةُ إلَيْهِمْ قَدْ تَصِحُّ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ بَلَدِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ رَحِمٌ بَعْدَ أَنْ يَجْمَعَهُمْ فِي الْوَطَنِ بَلَدٌ أَوْ قَرْيَةٌ أَوْ صُقْعٌ , فَنَسَبَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ; إذْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِيَارِهِمْ , وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا قِيمَةَ لِدَمِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ , فَإِنَّهُ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * فَجَعَلَهُمْ مُؤْمِنِينَ مَعَ إقَامَتِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ , وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا نُصْرَتَهُمْ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ * وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَلتُّجَّارِ دُخُولُ دَارِ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَأَنْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُرْتَدِّينَ , وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُ أَحَدٍ . فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ وَعَبْدَانُ الْمَرْوَزِيِّ قَالَا : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ * فَإِنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ لَحِقَ بِهِمْ مُرْتَدًّا عَنْ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ إبَاقَ الْعَبْدِ لَا يُبِيحُ دَمَهُ , وَاللَّحَاقُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَدُخُولِ التَّاجِرِ إلَيْهَا بِأَمَانٍ فَلَا يُبِيحُ دَمَهُ .
------------------
وفي الموسوعة الفقهية :(1)
إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ :
3 - إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقْدَحُ فِي إسْلَامِهِ , إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ يُخْشَى عَلَى دِينِهِ , بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُهُ , تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ , قَالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ ؟ قَالُوا : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ . قَالُوا : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * , وَهَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ , لِمَرَضٍ أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ . أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ مَعَ إقَامَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعُونَتِهِمْ , وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ . وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ : ( ر : جِهَادٌ - دَارُ الْحَرْبِ - دَارُ الْإِسْلَامِ - هِجْرَةٌ ) .
- - - - - - - - - - - - -
حكم الإقامة في دار الكفر وشروطها
تجوز الإقامة في دار الكفر إذا كان هناك مصلحة دينية تترتب على بقائه
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1879)(2/154)
وفي المغني لابن قدامة (1) :
فَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ : وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * . الْآيَاتِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكَيْنِ , لَا تَرَاءَا نَارَاهُمَا * . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ , وَيَرَوْنَ نَارَهُ , إذَا أُوقِدَتْ . فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرٍ . وَحُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقٍ , لَا يَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَقَالَ قَوْمٌ : قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * . وَقَالَ : { قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ * . وَرُوِيَ { أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا أَسْلَمَ , قِيلَ لَهُ : لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ . فَأَتَى الْمَدِينَةَ , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مَا جَاءَ بِك أَبَا وَهْبٍ ؟ قَالَ : قِيلَ إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ . قَالَ : ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ , أَقِرُّوا عَلَى مَسَاكِنِكُمْ , فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ * . رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ سَعِيدٌ . وَلَنَا مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ , قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ , وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا * . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ , قَالَ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا كَانَ الْجِهَادُ * . رَوَاهُ سَعِيدٌ , وَغَيْرُهُ , مَعَ إطْلَاقِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا , وَتَحَقُّقِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ , فَأَرَادَ بِهَا لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ بَلَدٍ قَدْ فُتِحَ . وَقَوْلُهُ لِصَفْوَانَ : " إنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ " . يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفَّارِ , فَإِذَا فُتِحَ لَمْ يَبْقَ بَلَدَ الْكُفَّارِ , فَلَا تَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ . وَهَكَذَا كُلِّ بَلَدٍ فُتِحَ لَا يَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ , وَإِنَّمَا الْهِجْرَةُ إلَيْهِ . إذَا ثَبَتَ هَذَا , فَالنَّاسُ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ; أَحَدُهَا , مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ , وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا , وَلَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ , وَلَا تُمْكِنُهُ إقَامَةُ وَاجِبَاتِ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ بَيْنَ الْكُفَّارِ , فَهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * . وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ . وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِوَاجِبِ دِينِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ , وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَتَتِمَّتِهِ , وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . الثَّانِي ; مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ . وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا , إمَّا لِمَرَضٍ , أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ , أَوْ ضَعْفٍ ; مِنْ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَشِبْهِهِمْ , فَهَذَا لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * . وَلَا تُوصَفُ بِاسْتِحْبَابٍ ; لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا . وَالثَّالِثُ , مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ , وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ . وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا , لَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ , وَإِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ , فَتُسْتَحَبُّ لَهُ , لِيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ , وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ , وَمَعُونَتِهِمْ , وَيَتَخَلَّصَ
__________
(1) - الشرح الكبير لابن قدامة - (ج 10 / ص 380) والمغني - (ج 21 / ص 114) والعمدة في إعداد العدة - (ج 2 / ص 7)(2/155)
مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ , وَمُخَالَطَتِهِمْ , وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ . وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ ; لِإِمْكَانِ إقَامَةِ وَاجِبِ دِينِهِ بِدُونِ الْهِجْرَةِ . وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ . وَرَوَيْنَا { أَنَّ نُعَيْمَ النَّحَّامَ , حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ , جَاءَهُ قَوْمُهُ بَنُو عَدِيٍّ , فَقَالُوا لَهُ : أَقِمْ عِنْدَنَا , وَأَنْتَ عَلَى دِينِك , وَنَحْنُ نَمْنَعُك مِمَّنْ يُرِيدُ أَذَاك , وَاكْفِنَا مَا كُنْت تَكْفِينَا . وَكَانَ يَقُومُ بِيَتَامَى بَنِي عَدِيٍّ وَأَرَامِلِهِمْ , فَتَخَلَّفَ عَنْ الْهِجْرَةِ مُدَّةً , ثُمَّ هَاجَرَ بَعْدُ , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : قَوْمُك كَانُوا خَيْرًا لَك مِنْ قَوْمِي لِي , قَوْمِي أَخْرَجُونِي , وَأَرَادُوا قَتْلِي , وَقَوْمُك حَفِظُوك وَمَنَعُوك . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : بَلْ قَوْمُك أَخْرَجُوك إلَى طَاعَةِ اللَّهِ , وَجِهَادِ عَدُوِّهِ وَقَوْمِي ثَبَّطُونِي عَنْ الْهِجْرَةِ , وَطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ * .
------------------
وفي تحفة المحتاج (1):
__________
(1) -حاشيتا قليوبي - وعميرة - (ج 15 / ص 398) وتحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 40 / ص 47) ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج - (ج 26 / ص 434)(2/156)
. ( وَلَوْ أَسْلَمَ أَسِيرُ ) كَامِلٌ أَوْ بَذَلَ الْجِزْيَةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْإِمَامُ فِيهِ شَيْئًا ( عُصِمَ دَمُهُ ) لِلْحَدِيثِ الْآتِي وَلَمْ يَذْكُرْهَا وَمَالُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْصِمُهُ إذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ رِقَّهُ وَلَا صِغَارُ وَلَدِهِ لِلْعِلْمِ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لَهُ وَإِنْ كَانُوا بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَرِقَّاءَ وَالْأَصْلُ الْمُسْلِمُ قِنًّا مِنْ كَلَامِهِ الْآتِي إذْ التَّقْيِيدُ فِيهِ يَقْبَلِ بِالظَّفَرِ لِإِفَادَةِ عُمُومِ الْعِصْمَةِ , ثُمَّ بِخِلَافِهَا هُنَا لِمَا ذُكِرَ فِي الْمَالِ وَأَمَّا صِغَارُ أَوْلَادِهِ فَالْمَلْحَظُ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ كَمَا يُعْلَمُ أَيْضًا مِنْ كَلَامِهِ السَّابِقِ فِي اللَّقِيطِ وَزَعَمَ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ مَا هُنَا وَثَمَّ وَإِنَّ عُمُومَ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِهَذَا فَلَا يَتْبَعُونَهُ فِي إسْلَامِهِمْ بَعْدَ الظَّفَرِ وَلَا يُعْصَمُونَ بِهِ عَنْ الرِّقِّ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ لِتَصْرِيحِهِمْ بِتَبَعِيَّتِهِمْ لَهُ قَبْلَ الظَّفَرِ فَبَعْدَهُ كَذَلِكَ إذْ لَا دَخْلَ لِلظَّفَرِ بَلْ وَضَرْبِ الرِّقِّ عَلَيْهِ فِي مَنْعِ التَّبَعِيَّةِ بِوَجْهٍ وَقَدْ صَرَّحُوا فِي مَبْحَثِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَمَةِ وَوَلَدِهَا بِأَنَّ الصَّغِيرَ وَأَصْلَهُ الْقِنَّيْنِ إذَا أَسْلَمَ الْأَصْلُ تَبِعَهُ الصَّغِيرُ فَأَوْلَى إذَا كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْقِنَّ وَحْدَهُ وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَمَا اُسْتُرِقَّتْ زَوْجَتُهُ الْحَامِلُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْحَمْلِ وَلَمْ يَبْطُلْ رِقُّهُ وَبِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ لَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِالتَّبَعِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ فَكَوْنُهُ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ أَوْلَى وَبِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُوقِفُ وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ التَّبَعِيَّةِ عِنْدَ الرِّقِّ وَقْفُهُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فَإِنْ اخْتَارَ الرِّقَّ فَلَا تَبَعِيَّةَ أَوْ غَيْرَهُ تَبِعَ وَفِي الرَّوْضَةِ لَوْ أَسَرَ أُمَّهُ أَوْ بِنْتَهُ الْبَالِغَةَ رُقَّتْ بِنَفْسِ الْأَسْرِ , ثُمَّ قَالَ : وَأَلْحَقَ ابْنُ الْحَدَّادِ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ بِالْأُمِّ وَهُوَ هَفْوَةٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتْبَعُهُ وَلَدُهُ الصَّغِيرُ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُتَصَوَّرُ سَبْيُهُ . ا هـ . فَلَمْ يُفَرَّقْ فِي تَبَعِيَّةِ الْمُسْلِمِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْقِنِّ وَلِذَا لَمْ يَعْتَرِضُوا هَذَا الْإِطْلَاقَ مَعَ اعْتِرَاضِهِمْ لِنَفْيِهِ تَصَوَّرَ سَبْيِهِ بِصُوَرٍ يُتَصَوَّرُ فِيهَا سَبْيُهُ , وَأَمَّا قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ لَوْ سَبَاهُ ذِمِّيٌّ وَلَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ , ثُمَّ سُبِيَ أَبَوَاهُ , ثُمَّ أَسْلَمَا لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فَضَعِيفٌ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَعَلَى قِيَاسِهِ لَوْ لَمْ يُسْبَيَا , ثُمَّ أَسْلَمَا بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ خَرَجَا مِنْهَا بِأَنْفُسِهِمَا , ثُمَّ أَسْلَمَا لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِمَا لِانْفِرَادِهِ عَنْهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا أَظُنُّ الْأَصْحَابَ يُوَافِقُونَهُ عَلَى ذَلِكَ . ا هـ . قَالَ غَيْرُهُ : وَهُوَ كَمَا قَالَ . ا هـ . أَيْ بَلْ خَالَفُوهُ صَرِيحًا فِيمَا قَاسَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَلَى كَلَامِهِ لِقَوْلِهِمْ الْآتِي فِي الْمَتْنِ وَإِسْلَامُ كَافِرٍ قَبْلَ ظَفَرٍ بِهِ إلَخْ وَإِذَا تَبِعُوهُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ أَحْرَارٌ لَمْ يُرَقُّوا لِامْتِنَاعِ طُرُوُّ الرِّقِّ عَلَى مَنْ قَارَنَ إسْلَامُهُ حُرِّيَّتَهُ وَمِنْ ثَمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ لَا يُسْبَى وَلَا يُسْتَرَقُّ أَوْ أَرِقَّاءَ لَمْ يُنْقَضْ رِقُّهُمْ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ مَلَكَ حَرْبِيٌّ صَغِيرًا , ثُمَّ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ جَازَ سَبْيُهُ وَاسْتِرْقَاقُهُ . ( وَبَقِيَ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي ) أَيْ بَاقِي الْخِصَالِ السَّابِقَةِ أَوْ بَعْدَ أَنْ اخْتَارَ الْمَنَّ أَوْ الْفِدَاءَ أَوْ الرِّقَّ تَعَيَّنَ وَمَحَلُّ جَوَازِ الْمُفَادَاةِ مَعَ إرَادَةِ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ إنْ كَانَ لَهُ ثَمَّ عَشِيرَةٌ يَأْمَنُ مَعَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ . ( وَفِي قَوْلٍ يَتَعَيَّنُ الرِّقُّ ) بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ كَالذُّرِّيَّةِ بِجَامِعِ حُرْمَةِ الْقَتْلِ وَفَرْقُ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ فِي الذُّرِّيَّةِ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِهِ(2/157)
( قَوْلُهُ : إذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ رِقَّهُ ) مَفْهُومُهُ أَنَّهُ يَعْصِمُهُ إذَا اخْتَارَ فِدَاءَهُ أَوْ الْمَنَّ عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ . ( قَوْلُهُ : وَالْأَصْلُ الْمُسْلِمُ قِنًّا ) اُنْظُرْهُ مَعَ تَقْيِيدِهِ الْأَسِيرَ بِالْكَامِلِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ : وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا وَمَالُهُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِأَنْ كَانَ حُرًّا لَكِنْ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ الْآتِي وَبَقِيَ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي إذْ الْخِيَارُ الْآتِي إنَّمَا يَتَأَتَّى فِي الْحَرِّ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِمَنْعِ الْمُنَافَاةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بَقِيَ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي حَيْثُ أَمْكَنَ نَعَمْ الْمُشْكِلُ أَنَّ الرَّقِيقَ الْأَسِيرَ يَمْتَنِعُ قَتْلُهُ لِحَقِّ الْغَانِمِينَ فَلَا يَصْدُقُ فِيهِ قَوْلُهُ : عَصَمَ دَمَهُ إلَّا أَنْ يُرَادَ وَإِنْ كَانَ حُرًّا . ( قَوْلُهُ : فَأَوْلَى ) هَلْ وَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ مِلْكَ الْوَلَدِ رُبَّمَا يَمْنَعُ تَبَعِيَّتَهُ . ( قَوْلُهُ : وَفِي الرَّوْضَةِ لَوْ أَسَرَ أُمَّهُ إلَخْ ) بِأَنْ دَخَلَ مُسْلِمٌ مُنْفَرِدًا دَارَ الْحَرْبِ وَأَسَرَ أُمَّهُ إلَخْ . ( قَوْلُهُ : وَإِذَا تَبِعُوهُ فِي الْإِسْلَامِ إلَخْ ) وَظَاهِرٌ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَوْلَادٍ لَمْ يُسْبَوْا قَبْلَ إسْلَامِهِ وَإِلَّا فَلَا كَلَامَ فِي اسْتِرْقَاقِهِمْ . ( قَوْلُهُ : لَمْ يُرَقُّوا ) فَيَمْتَنِعُ إرْقَاقُهُمْ بِخِلَافِهِ هُوَ لِتَقَدُّمِ سَبَبِهِ عَلَى إسْلَامِهِ فَلَمْ يُقَارِنْ إسْلَامُهُ حُرِّيَّتَهُ قَبْلَ الْأَسْرِ . ( قَوْلُهُ : لِامْتِنَاعِ طُرُوُّ الرِّقِّ عَلَى مَنْ فَارَقَ إسْلَامُهُ حُرِّيَّتَهُ ) قَبْلَ الْأَسْرِ , وَإِلَّا فَقَدْ تَقَارَنَا فِي هَذَا الْأَسِيرِ لَكِنْ بَعْدَ الْأَسْرِ . ( قَوْلُهُ : لَمْ يُنْقَضْ رِقُّهُمْ ) يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَالِكِهِمْ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لَمْ يَنْتَقِلْ الْمِلْكُ عَنْهُ أَوْ حَرْبِيًّا جَازَ سَبْيُهُ فَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ عَنْهُ فَلْيُتَأَمَّلْ . ( قَوْلُهُ : أَيْ بَاقِي الْخِصَالِ ) وَمِنْهُ الرِّقُّ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُهُ : وَفِي قَوْلِهِ إلَخْ . ( قَوْلُهُ : أَوْ بَعْدَ أَنْ اخْتَارَ الْمَنَّ ) عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ السَّابِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْإِمَامُ فِيهِ شَيْئًا ثُمَّ هَلْ حُكْمُهُ بِالتَّعَيُّنِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا بَحَثَهُ فِي التَّنْبِيهِ السَّابِقِ أَوْ ذَاكَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَإِنَّ التَّعَيُّنَ هُنَا مَجْزُومٌ بِهِ فِي الْعُبَابِ فَقَدْ يُنَافِي قَوْلَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِجَوَازِ الرُّجُوعِ أَوْ عَدَمِهِ فَإِنَّ التَّعَيُّنَ يَسْتَلْزِمُ امْتِنَاعَ الرُّجُوعِ وَعَدَمُ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْعُبَابِ بَعِيدٌ فَلْيُتَأَمَّلْ . ( قَوْلُهُ : أَوْ الرِّقَّ ) بَقِيَ مَا لَوْ كَانَ بَعْدَ أَنْ اخْتَارَ الْقَتْلَ وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ لِظُهُورِ امْتِنَاعِهِ . ( قَوْلُهُ : وَمَحَلُّ جَوَازِ الْمُفَادَاةِ مَعَ إرَادَةِ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ إلَخْ ) إنْ كَانَ سَبَبُ هَذَا التَّقْيِيدِ أَنَّهُ يُخْشَى مِنْ الْمُفَادَاةِ رُجُوعُهُ إلَى دَارِ الْكُفْرِ وَالْمَنُّ عَلَيْهِ يُخْشَى مِنْهُ ذَلِكَ فَهَلَّا قَيَّدُوهُ أَيْضًا ثُمَّ كَانَ يُمْكِنُ إطْلَاقُ جَوَازِ الْمُفَادَاةِ وَمَنْعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْكُفْرِ إلَّا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فَلْيُتَأَمَّلْ
----------------
وفي النيل (1):
__________
(1) - نيل الأوطار - (ج 12 / ص 265)(2/158)
بَابُ بَقَاءِ الْهِجْرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَنْ لَا هِجْرَةَ مِنْ دَارٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا 3451 - ( عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ * رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ) . 3452 - ( وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلَ , فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ , قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِمَ ؟ قَالَ : لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا * رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ) . 3453 - ( وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ , وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا * رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ) . ( وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ * رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ ) . 3455 - ( وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ , وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا * رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ , لَكِنْ لَهُ مِنْهُ " إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا " وَرَوَتْ عَائِشَةُ مِثْلَهُ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) . 3456 - ( وَعَنْ عَائِشَةَ , وَسُئِلَتْ عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ : لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ , كَانَ الْمُؤْمِنُ يَفِرُّ بِدِينِهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ , فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ , وَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ) . 3457 - ( وَعَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ { جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدِ بْنِ مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : هَذَا مُجَالِدٌ جَاءَ يُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ , فَقَالَ : لَا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ , وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ * مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .(2/159)
حَدِيثُ سَمُرَةَ قَالَ الذَّهَبِيُّ : إسْنَادُهُ مُظْلِمٌ لَا تَقُومُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ . وَحَدِيثُ جَرِيرٍ أَيْضًا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ , وَلَكِنْ صَحَّحَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ والدارقطني إرْسَالَهُ إلَى قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ , وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مَوْصُولًا . وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ . قَالَ الْخَطَّابِيِّ : إسْنَادُهُ فِيهِ مَقَالٌ . وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ السَّعْدِيِّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ مَنْدَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَغَوِيِّ وَابْنُ عَسَاكِرَ . قَوْلُهُ : ( فَهُوَ مِثْلُهُ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مُسَاكَنَةِ الْكُفَّارِ وَوُجُوبِ مُفَارَقَتِهِمْ . وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْمَقَالُ الْمُتَقَدِّمُ لَكِنْ يَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ قوله تعالى : { فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ * وَحَدِيثُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ مُشْرِكٍ عَمَلًا بَعْدَمَا أَسْلَمَ أَوْ يُفَارِقُ الْمُشْرِكِينَ * قَوْلُهُ : ( لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا ) يَعْنِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا بِمَوْضِعٍ بِحَيْثُ تَكُونُ نَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْأُخْرَى عَلَى وَجْهٍ لَوْ كَانَتْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ الْإِبْصَارِ لَأَبْصَرَتْ الْأُخْرَى , فَإِثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ لِلنَّارِ مَجَازٌ قَوْلُهُ : ( مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَتْ الْمُقَاتَلَةُ لِلْكُفَّارِ قَوْلُهُ : ( لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ) أَصْلُ الْهِجْرَةِ هَجْرُ الْوَطَنِ , وَأَكْثَرُ مَا تُطْلَقُ عَلَى مَنْ رَحَلَ مِنْ الْبَادِيَةِ إلَى الْقَرْيَةِ قَوْلُهُ : ( وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ) قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ : هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ يَقْتَضِي مُخَالَفَةَ حُكْمِ مَا بَعْدَهُ لِمَا قَبْلَهُ . وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهِجْرَةَ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ إلَى الْمَدِينَةِ انْقَطَعَتْ إلَّا أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ بَاقِيَةٌ , وَكَذَلِكَ الْمُفَارَقَةُ بِسَبَبِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَالْفِرَارِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ مِنْ الْفِتَنِ وَالنِّيَّةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُهُ : ( وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ) . قَالَ النَّوَوِيُّ : يُرِيدُ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِالْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ , وَإِذَا أَمَرَكُمْ الْإِمَامُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَاخْرُجُوا إلَيْهِ . قَالَ الطِّيبِيُّ : إنَّ قَوْلُهُ : " وَلَكِنْ جِهَادٌ . . . إلَخْ " مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلٍّ مَدْخُولٍ " لَا هِجْرَةَ " أَيْ الْهِجْرَةُ مِنْ الْوَطَنِ إمَّا لِلْفِرَارِ مِنْ الْكُفَّارِ , أَوْ إلَى الْجِهَادِ أَوْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَطَلَبِ الْعِلْمِ فَانْقَطَعَتْ الْأُولَى وَبَقِيَتْ الْأُخْرَيَانِ فَاغْتَنِمُوهُمَا وَلَا تَقَاعَدُوا عَنْهُمَا بَلْ إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا . قَالَ الْحَافِظُ : وَلَيْسَ . الْأَمْرُ فِي انْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى مَا قَالَ انْتَهَى . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ , فَقَالَ الْخَطَّابِيِّ وَغَيْرُهُ : كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ وَحَاجَتُهُمْ إلَى الِاجْتِمَاعِ , فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا , فَسَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ أَوْ نَزَلَ بِهِ عَدُوٌّ انْتَهَى . قَالَ الْحَافِظُ : وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِيَسْلَمَ مِنْ أَذَى مَنْ يُؤْذِيهِ مِنْ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَذِّبُونَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ , وَفِيهِمْ نَزَلَتْ : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ؟ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ , قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * الْآيَةَ , وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ مِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْكُفْرِ وَقَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا .(2/160)
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إذَا قَدَرَ عَلَى إظْهَارِ الدِّينِ فِي بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ فَقَدْ صَارَتْ الْبَلَدُ بِهِ دَارَ إسْلَامٍ , فَالْإِقَامَةُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الرِّحْلَةِ عَنْهَا لِمَا يُتَرَجَّى مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الرَّأْيِ مِنْ الْمُصَادَمَةِ لِأَحَادِيثِ الْبَابِ الْقَاضِيَةِ بِتَحْرِيمِ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ . وَقَالَ الْخَطَّابِيِّ أَيْضًا : إنَّ الْهِجْرَةَ اُفْتُرِضَتْ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ إلَى حَضْرَتِهِ لِلْقِتَالِ مَعَهُ وَتَعَلُّمِ شَرَائِع الدِّينِ . وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ حَتَّى قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ الْوَاجِبَةُ وَبَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ . وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ : يُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بِطَرِيقٍ أُخْرَى , فَقَوْلُهُ : " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ " أَيْ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ , وَقَوْلُهُ : " لَا تَنْقَطِعُ " أَيْ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ . قَالَ : وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : " لَا هِجْرَةَ " أَيْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَانَ بِنِيَّةِ عَدَمِ الرُّجُوعِ إلَى الْوَطَنِ الْمُهَاجَرِ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنٍ , فَقَوْلُهُ : " لَا تَنْقَطِعُ " أَيْ هِجْرَةُ مَنْ هَاجَرَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَصْفِ مِنْ الْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ . وَقَدْ أَفْصَحَ ابْنُ عُمَرَ بِالْمُرَادِ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِلَفْظِ { انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ بَعْدَ الْفَتْحِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ * أَيْ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا دَارُ كُفْرٍ فَالْهِجْرَةُ وَاجِبَةٌ مِنْهَا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَخَشِيَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَى دِينِهِ , وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي الدُّنْيَا دَارُ كُفْرٍ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَنْقَطِعُ لِانْقِطَاعِ مُوجِبِهَا . وَأَطْلَقَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ وَاجِبَةً , وَأَنَّ مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ كَافِرًا . قَالَ الْحَافِظُ : وَهُوَ إطْلَاقٌ مَرْدُودٌ . وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : الْهِجْرَةُ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , وَكَانَتْ فَرْضًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَمَرَّتْ بَعْدَهُ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَاَلَّتِي انْقَطَعَتْ أَصْلًا هِيَ الْقَصْدُ إلَى حَيْثُ كَانَ . وَقَدْ حَكَى فِي الْبَحْرِ أَنَّ الْهِجْرَةَ عَنْ دَارِ الْكُفْرِ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا حَيْثُ حُمِلَ عَلَى مَعْصِيَةِ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ طَلَبَهَا الْإِمَامُ بِقُوَّتِهِ لِسُلْطَانِهِ . وَقَدْ ذَهَبَ جَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ وَبَعْضُ الْهَادَوِيَّةِ إلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَنْ دَارِ الْفِسْقِ قِيَاسًا عَلَى دَارِ الْكُفْرِ , وَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ . وَالْحَقُّ عَدَمُ وُجُوبِهَا مِنْ دَارِ الْفِسْقِ لِأَنَّهَا دَارُ إسْلَامِ , وَإِلْحَاقُ دَارِ الْإِسْلَامِ بِدَارِ الْكُفْرِ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ الْمَعَاصِي فِيهَا عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِعِلْمِ الرِّوَايَةِ وَلَا لِعِلْمِ الدِّرَايَةِ , وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَفَاصِيلِ الدُّورِ وَالْأَعْذَارِ الْمُسَوِّغَةِ لِتَرْكِ الْهِجْرَةِ مَبَاحِثُ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِهَا .
==================
وهناك أمران مهمان وهما :
بقاؤهم مرهون برغبة الإمام وحاجة المسلمين لهم
فقد كان المسلمون يؤدون شعائر دينهم في الحبشة ومع هذا فقد أرسل وراءهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية فجاءوا جميعا دون أن يتخلف أحد وهذا يعني أن إمام المسلمين ( خليفة المسلمين ) إذا طلب منهم العودة إلى دار الإسلام وجب عليهم ذلك إذا استطاعوا
------------------
وجوب الدفاع عنهم وحمايتهم(2/161)
وكذلك تجب نصرتهم إذا اعتدي عليهم قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* (72) سورة الأنفال
قال ابن العربي (1):
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : { وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ * : يُرِيدُ إنْ دَعَوْا مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ عَوْنَكُمْ بِنَفِيرٍ أَوْ مَالٍ لِاسْتِنْقَاذِهِمْ , فَأَعِينُوهُمْ ; فَذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَرْضٌ , إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ , فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عَلَيْهِمْ [ يُرِيدُ ] حَتَّى يَتِمَّ الْعَهْدُ أَوْ يُنْبَذَ عَلَى سَوَاءٍ . الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : أَمَّا قَوْلُهُ : { أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * : يَعْنِي فِي النُّصْرَةِ أَوْ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ , فَلَا يُبَالَى بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ الْمِيرَاثِ بِقَوْلِهِ : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا , فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى عُصْبَةٍ ذَكَرٍ * . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * : فَإِنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي النُّصْرَةِ وَالْمِيرَاثِ ; فَإِنَّ مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ عَلَى إيمَانِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُعْتَدًّا لَهُ بِهِ , وَلَا مُثَابًا عَلَيْهِ حَتَّى يُهَاجِرَ . ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَالْمِيرَاثِ بِالْقَرَابَةِ , سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِثُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ السَّلَامِ ; لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْهِجْرَةِ بِالسَّنَةِ , إلَّا أَنْ يَكُونُوا أُسَرَاءَ مُسْتَضْعَفِينَ ; فَإِنَّ الْوِلَايَةَ مَعَهُمْ قَائِمَةٌ , وَالنُّصْرَةَ لَهُمْ وَاجِبَةٌ بِالْبَدَنِ بِأَلَّا يَبْقَى مِنَّا عَيْنٌ تَطْرِفُ حَتَّى نَخْرُجَ إلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ إنْ كَانَ عَدَدُنَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ , أَوْ نَبْذُلَ جَمِيعَ أَمْوَالِنَا فِي اسْتِخْرَاجِهِمْ , حَتَّى لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ دِرْهَمٌ كَذَلِكَ . قَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ : فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا حَلَّ بِالْخَلْقِ فِي تَرْكِهِمْ إخْوَانَهُمْ فِي أَسْرِ الْعَدُوِّ , وَبِأَيْدِيهِمْ خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ وَفُضُولُ الْأَحْوَالِ وَالْعُدَّةُ وَالْعَدَدُ , وَالْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ .
--------------
وفي السياسة الشرعية(2) :
فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْعَدُوُّ الْهُجُومَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ دَفْعُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمَقْصُودِينَ كُلِّهِمْ , وَعَلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ , لِإِعَانَتِهِمْ , كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ * وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَصْرِ الْمُسْلِمِ , وَسَوَاءٌ أَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ لِلْقِتَالِ أَوْ لَمْ يَكُنْ , وَهَذَا يَجِبُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ , مَعَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ , وَالْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ , كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ , لَمَّا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ عَامَ الْخَنْدَقِ وَلَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِي تَرْكِهِ أَحَدًا كَمَا أَذِنَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ابْتِدَاءً لِطَلَبِ الْعَدُوِّ , الَّذِي قَسَّمَهُمْ فِيهِ إلَى قَاعِدٍ وَخَارِجٍ . بَلْ ذَمَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا * . فَهَذَا دَفْعٌ عَنْ الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْفُسِ , وَهُوَ قِتَالُ اضْطِرَارٍ , وَذَلِكَ قِتَالُ اخْتِيَارٍ ; لِلزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ وَإِعْلَائِهِ وَلِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ , كَغُزَاةِ تَبُوكَ وَنَحْوِهَا , فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعُقُوبَةِ , هُوَ لِلطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ .
----------------
وفي الموسوعة الفقهية :
حَالَةُ الْمُسْتَغِيثِ (3):
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 4 / ص 182)
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 398) ومجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 359)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1073)(2/162)
21 - إذَا كَانَ الْمُسْتَغِيثُ عَلَى حَقٍّ وَجَبَتْ إغَاثَتُهُ , لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُوبِ إغَاثَةِ الْمُسْلِمِ , لقوله تعالى : { وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ * " أَيْ إنْ اسْتَنْقَذُوكُمْ فَأَعِينُوهُمْ بِنَفِيرٍ أَوْ مَالٍ , فَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْكُمْ , فَلَا تَخْذُلُوهُمْ إلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرُوكُمْ عَلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَلَا تَنْصُرُوهُمْ عَلَيْهِمْ . إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَسْرَى مُسْتَضْعَفِينَ , فَإِنَّ الْوِلَايَةَ مَعَهُمْ قَائِمَةٌ , وَالنُّصْرَةُ لَهُمْ وَاجِبَةٌ , حَتَّى لَا تَبْقَى مِنَّا عَيْنٌ تَطْرُفُ , حَتَّى نَخْرُجَ إلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ إنْ كَانَ عَدَدُنَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ , أَوْ نَبْذُلُ جَمِيعَ أَمْوَالِنَا فِي اسْتِخْرَاجِهِمْ حَتَّى لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ دِرْهَمٌ , كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ وَلِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ , وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ , أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ *
. 22 - أَمَّا إنْ كَانَ الْمُسْتَغِيثُ عَلَى بَاطِلٍ , فَإِنْ أَرَادَ النُّزُوعَ عَنْهُ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ اُسْتُنْقِذَ , وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ الْبَقَاءَ عَلَى بَاطِلِهِ فَلَا . وَكَذَلِكَ كُلُّ ظَالِمٍ فَإِنْ نُصْرَتَهُ مُحَرَّمَةٌ , لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَثَلُ الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ كَمَثَلِ بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَهُوَ يَنْزِعُ بِذَنَبِهِ * . وَقَوْلُهُ : { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي مُلْكِهِ , وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ لَا يَعْلَمُ أَحَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ فَهُوَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ * . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إذَا اسْتَغَاثَ الظَّالِمُ وَطَلَبَ شَرْبَةَ مَاءٍ فَأَعْطَيْته إيَّاهَا كَانَ ذَلِكَ إعَانَةً لَهُ عَلَى ظُلْمِهِ .
--------------------
وجوب نصرة المسلمين في البوسنة والهرسك(1)
السؤال
كيف يسكت المسلمون على ما يجرى فى البوسنة والهرسك من اضطهاد للمسلمين ومحاولة تصفيتهم ؟
الجواب
من المعروف أن كراهية أوروبا بالذات للمسلمين كراهية تقليدية ، والتاريخ لا ينسى طردهم من الأندلس التى كان لها الفضل فى نهضة أوروبا كما شهد المنصفون كما لا ينسى الحروب الصليبية ضد الإسلام والشرق ، ولا ينسى حملات الشيوعيين وغيرهم ضد الأديان بوجه عام ، وضد المسلمين بوجه خاص ، ولا ينسى الاستعمار الذى تولى كبره دول أوروبا وأعلن كبار قادتها أن العقبة الكؤود فى طريق الاستعمار هو الإسلام بقراَنه وأزهره القائم على عراقة الدين ونشره فى كل مكان . والدول فى شبه جزيرة البلقان بالذات لا تنسى عظمة الخلافة العثمانية والوصول بفتوحاتها إلى حدود النمسا ، ووجود كثير من المسلمين فى هذه المنطقة، ومن هذه العقدة كانت معاملتها للمسلمين فهى تريد تصفية قومياتهم ودولهم وطردهم من أوطانهم التى عاشوا فيها عدة قرون .
والعالم كله يشهد تواطؤ أوروبا وغيرها على المسلمين فى البوسنة والهرسك الذين يقاومون الأعداء للاحتفاظ بشخصيتهم الدينية وللاحتفاظ بحقوقهم التى تكفلها الأديان والأعراف والقوانين . وقد طال الأمد ولم تحل مشكلتهم ، وهنا قامت الصيحات والتهبت المشاعر واحتدت العواطف من اجل مساعدتهم ، وفى غمرة هذا الحماس الذى يؤكد اهتمام المسلمين بما يحدث لإخوانهم قد يغفل العقل وتنسى العقبات الموضوعة فى الطريق وتقدم اقتراحات لو نفذت لازداد الخطر لا على المستغيثين وحدهم بل أيضا على من يغيثون .
إن هناك معاهدات واتفاقات دولية تمنع تدخل أية دولة فى شئون دولة أخرى بدون موافقتها ، بل بدون موافقة الأمم المتحدة ، وبخاصة إذا كان التدخل عسكريا .
وإذا كان هذا التنظيم الدولى أمرا جديدا فإن الإسلام نفسه يقره تحت مظلة العدل والسلام واحترام الحقوق الإنسانية ، وبيان ذلك :
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 408) المفتي - عطية صقر . مايو 1997(2/163)
أن الإسلام عندما أمر بهجرة المسلمين من مكة إلى المدينة حفاظا على عقيدتهم نعى بشدة على المتخلفين عن الهجرة بدون عذر، فقال الله تعالى{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} النساء : 97 ، وبيَّن أن الولاية قد انقطعت بين من هاجروا ومن لم يهاجروا، لكن عند الاستعانة بهم تجب المعونة بشرط ألا يكون فيها نقض لمعاهدة مع الطرف الذى ألجأ غير المهاجرين إلى الاستغاثة بالمهاجرين قال تعالى {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير } الأنفال : 72 .
وقد حافظ الرسول صلى الله عليه وسلم على الوفاء بالعهود مع العدو فى هذه الصورة وغيرها فقد كان فى صلح الحديبية بين الرسول والمشركين من أهل مكة أن من أسلم منهم والتجأ إلى الرسول لا يقبله بل يرده إلى أهله ، وأن من ارتد من المسلمين والتجأ إلى مكة لا يرد إلى المدينة . وبغض النظر عما أبداه بعض المسلمين نحو هذا الشرط مضى الرسول فى تنفيذه ، فعندما أسلم فى مكة أبو جندل حبسه وقيده والده سهيل بن عمرو ، فهرب من حبسه والتجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما يزال فى الحديبية ، فلم يقبله ولكن قال له "اصبر واحتسب فإنا لا نغدر ، وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا " .
وعندما خرج أبو بصير من مكة مسلما وتوجه إلى المدينة لم يقبله الرسول صلى الله عليه وسلم وبين له أن الدين لا يصلح فيه الغدر كما فعل مع أبى جندل ، ولم يرجع إلى مكة وأفلت ممن كانوا يتعقبونه ، ثم رجا من الرسول أن يقبله فأبى وقال "ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد ينصره " فكوَّن مع أبى جندل وغيره من المسلمين الفارين من مكة جماعة اعترضت طريق القوافل التجارية لأهل مكة ، فألحت قريش على النبى صلى الله عليه وسلم ليقبلهم فقبلهم .
[انظر الزرقانى على المواهب اللدنية "ج 2 ص 202" والمغنى لابن قدامة "ج 10 ص 525 "] .
وإذا كانت النصرة بالتدخل العسكرى والخروج على الاتفاقات الدولية صعبا بالنسبة للمسلمين فى البوسنة والهرسك وغيرهم فإن النصرة بالوسائل الأخرى المتاحة واجبة وذلك بمثل الإمداد بالغذاء والكساء والسلاح والدواء وإيواء المهاجرين وعلاج المرضى والنشاط الدبلوماسى وغير ذلك من الوسائل .
يقول القرطبى فى تفسيره "ج 8 ص 57" ما نصه : قوله تعالى{وإن استنصروكم فى الدين } يريد : إن دعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من ارض الحرب عونكم بنفير-جيش أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم ، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم ،إلا لم أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته .
ابن العربى - أى قال ابن العربى - : إلا أن يكونوا "أسراء" مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة حتى لا تبقى منا عين تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك ، أو نبذل جميع أموالنا فى استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم ، كذلك قال مالك وجميع العلماء ، فإنا للّه وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق فى تركهم إخوانهم فى أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوة والجلد . انتهى .
والخلاصة أن نصر المسلمين لإخوانهم فى البوسنة والهرسك وفى غير هذه البلاد مطلوب بالوسائل الممكنة التى لا تتعارض مع عهود ومواثيق واتفاقات دولية ، وأنبه إلى وجوب الاهتمام فى المقام الأول بإصلاح حال المسلمين فيما بينهم جماعات ودولا حتى يكون هناك أثر لإصلاح حال المسلمين الذين يضطهدهم الأعداء فى بلاد غير إسلامية
-------------------
نصرة المسلمين الشيشان(1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد...
__________
(1) - فتاوى الشيخ ابن جبرين - (ج 71 / ص 1)(2/164)
فلا يخفى ما وقع هذه الأيام القريبة على جمهوريتي الشيشان وداغستان من الاعتداء الشيوعي وما حصل من آثاره من قتل وتشريد وهدم وأضرار فادحة نتج من آثارها موت وإتلاف للممتلكات بسبب كونهم مسلمين مؤمنين بالله تعالى، وهذه الاعتداءات تسود كل مسلم ويحزن لها كل مؤمن وذلك مما يوجب على أهل الإسلام الاهتمام بأمر إخوانهم المسلمين والحرص على تخفيف آلامهم وجبر مصابهم، فقد ورد في الحديث "أن المؤمنين يد واحدة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم" ومعنى كونهم يداً واحدة أن الإسلام يجمعهم وبذلك يساعد بعضهم بعضاً ويتعاونون على ما يكون سبباً في نصرهم وتقويتهم ورد كيد أعدائهم، وقد أمر الله تعالى بنصر المؤمنين في كل مكان كما في قوله تعالى: ((وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)) وأخبر بتولي المؤمنين لإخوانهم فقال تعالى: ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض))، ولا شك أن هذه الولاية يكون من آثارها التناصر والتعاون وبذل كل المستطاع في نصر الإسلام وأهله وإعلاء كلمة الله وهذا دأب المسلمين في كل زمان ومكان لما بينهم من الأخوة الإيمانية التي تقتضي المحبة والشفقة حتى مثلهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجسد الواحد في قوله ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاظفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وفي رواية (إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله)، فالمؤمنون في كل مكان يعين بعضهم بعضاً ويقوي بعضهم بعضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه، ومن هذه الأدلة يجب على المسلمين أولاً:- الدعاء لإخوانهم في تلك البلاد بالنصر والتمكين والتأييد ورد كيد الكائدين، ويجب ثانياً:- إمدادهم بالأسلحة والقوة الحسية التي يكافحون بها ويقاتلون من قاتلهم،ويجب ثالثاً:- تقويتهم مالأموال فهم بأمس الحاجة إلى القوت والغذاء والكسوة وكل ما يتقوون به ويدفعون به آلام الجهد والضرر ويعالجون من أصيب منهم بجراح أو آلام، ولا شك أن الجهاد بالمال مما يثاب عليه وقد قدمه الله على الجهاد بالنفس في آيات كثيرة، كقوله تعالى ((انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله)) وقوله تعالى: ((تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم)) وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم" وفي الحديث الآخر "من جهز غازياً فقد غزى" فعلى المسلمين أن يهتموا بأمر إخوانهم فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم؛ نسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته وينصر المجاهدين في كل مكان ويثبت أقدامهم ويسدد سهامهم ويكبت الأعداء ويرد كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على محمد وآله وصبحه وسلم.
--------------------
نداء من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة للمسلمين كافة
من العرب وغيرهم في كل مكان(1)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد : فأيها المسلمون في كل قطر .
أيها العرب في كل مكان . أيها القادة والزعماء ، إن المعركة الحالية بين العرب واليهود ليست معركة العرب فحسب بل هي معركة إسلامية عربية ، معركة بين الكفر والإيمان ، بين الحق والباطل ، بين المسلمين واليهود ، وعدوان اليهود على المسلمين في بلادهم وعقر دورهم أمر معلوم مشهور من نحو تسعة عشر عاما ، والواجب على المسلمين في كل مكان مناصرة إخوانهم المعتدى عليهم ، والقيام في صفهم ومساعدتهم على استرجاع حقهم ممن ظلمهم وتعدى عليهم بكل ما يستطيعون من نفس وجاه وعتاد ومال كل بحسب وسعه وطاقته ، كما قال عز وجل : وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وقال تعالى : قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
ومواقف اليهود ضد الإسلام وضد بني الإسلام معلومة مشهورة قد سجلها التاريخ وتناقلها رواة الأخبار بل قد شهد بها أعظم كتاب وأصدق كتاب ألا وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قال الله عز وجل : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا فنص الله عز وجل في هذه الآية الكريمة على أن اليهود والمشركين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين.
__________
(1) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 2 / ص 384)(2/165)
وقال تعالى : وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ قال أهل التفسير في تفسير هاتين الآيتين الكريمتين : كانت اليهود تستفتح على كفار العرب تقول لهم إنه قد أطل زمان نبي يبعث في آخر الزمان نقاتلكم معه ، فلما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنكروه وكفروا به وجحدوا صفته وبذلوا جهودهم في محاربته والتأليب عليه والقضاء على دعوته حسدا منهم وبغيا وجحدا للحق الذي يعرفونه فأبطل الله كيدهم وأضل سعيهم . ثم إنهم لم يزالوا يسعون جاهدين في الكيد للإسلام والعداء لأهله ومساعدة كل عدو عليهم سرا وجهرا ، أليسوا القائلين لكفار أهل مكة : أنتم خير وأهدى سبيلا من محمد وأصحابه ، أليسوا هم الذين ألبوا كفار قريش ومن سار في ركابهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم أحد أليسو هم الذين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فأطلعه الله على ذلك وأنجاه من كيدهم ، أليسو هم الذين ظاهروا الكفار يوم الأحزاب ونقضوا العهد في نفس المدينة بين المسلمين ، حتى أحبط الله كيدهم وأذل جندهم من الكفار وسلط الله عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فقتل مقاتلتهم وسبى ذريتهم ونساءهم وأموالهم ، لغدرهم ونقضهم العهد ومشايعتهم لأهل الكفر والضلال على حزب الحق والهدى ، نشر هذا الموضوع في الصحف المحلية والإسلامية العربية في حينه ، ونشر أيضا في كتاب طبعة الحرس الوطني عام 1393هـ بعنوان : (مواقف اليهود من الإسلام وفضل الجهاد والمجاهدين ) .
فيا معشر المسلمين من العرب وغيرهم في كل مكان ، بادروا إلى قتال أعداء الله من اليهود ، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ، بادروا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين والمجاهدين الصابرين وأخلصوا النية لله واصبروا وصابروا واتقوا الله عز وجل تفوزوا بالنصر المؤزر أو شرف الشهادة في سبيل الحق ودحر الباطل وتذكروا دائما ما أنزله ربكم سبحانه في كتابه المبين في فضل المجاهدين ، وما وعدهم الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وقال تعالى : انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقال تعالى : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(2/166)
أيها المجاهدون لقد بين الله سبحانه في هذه الآيات فضل الجهاد وعاقبته الحميدة للمؤمنين وأنها النصر والفتح القريب في الدنيا مع الجنة والرضوان من الله سبحانه والمنازل العالية في الآخرة ، ودلت الآية الثانية وهي قوله تعالى : انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا على وجوب النفير للجهاد على الشبان والشيوخ إذا دعا الواجب لذلك لإعلاء كلمة الله وحماية أوطان المسلمين وصد العدوان عنهم ، مع ما يحصل بالجهاد للمسلمين من العزة والكرامة والخير العظيم والأجور الجزيلة وإعلاء كلمة الحق وحفظ كيان الأمة والحفاظ على دينها وأمنها ، وأخبر سبحانه في الآية الثالثة والرابعة أن الجهاد في سبيله أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بالصلاة والطواف ونحو ذلك ، وأن أهله أعظم درجة عند الله وأنهم الفائزون ، كما أخبر سبحانه أنه يبشرهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، وأخبر في الآية الخامسة أنه مع المتقين ، والمعنى : بنصره وتأييده وحفظه وكلاءته لهم . وقد ورد في القرآن الكريم من الآيات الكريمات في فضل الجهاد والحث عليه والوعد بالنصر للمؤمنين والدمار على الكافرين ، سوى ما تقدم ما يملأ قلب المؤمن نشاطا وقوة ورغبة صادقة في النزول إلى ساحة الجهاد والاستبسال في نصرة الحق ثقة بوعد الله وإيمانا بنصره ورجاء للفوز بإحدى الحسنيين ، وهما : النصر والمغنم ، أو الشهادة في سبيل الحق ، كما قال الله عز وجل : قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ وقال عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقال عز وجل : وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وقال سبحانه وتعالى : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ إلى أن قال سبحانه : إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ففي هذه الآيات التصريح من الله عز وجل بوعد عباده النصر على أعدائهم والسلامة من كيدهم مهما كانت قوتهم وكثرتهم .
لأنه عز وجل أقوى من كل قوي وأعلم بعواقب الأمور وهو عليهم قدير وبكل أعمالهم محيط ، ولكنه عز وجل شرط لهذا الوعد شرطا عظيما وهو الإيمان به وتقواه ونصر دينه والاستقامة عليه مع الصبر والمصابرة ، فمن قام بهذا الشرط أوفى لهم الوعد وهو الصادق في وعده : وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ومن قصر في ذلك أو لم يرفع به رأسا فلا يلومن إلا نفسه.
وينبغي لك أيها المؤمن المجاهد أن تتدبر كثيرا قوله عز وجل : وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنها والله كلمة عظيمة ووعد صادق من ملك قادر جليل ، إذا صبرت على مقاتلة عدوك وجهاده ومنازلته مع قيامك بتقوى الله عز وجل وهي : تعظيمه سبحانه والإخلاص له وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والحذر مما نهى الله عنه ورسوله ، هذه حقيقة التقوى والصبر على جهاد النفس لأن الله سبحانه قد أمر بذلك ورسوله ،(2/167)
ونص سبحانه على الصبر وإفراده بالذكر لعظم شأنه وشدة الحاجة إليه ، وقد ذكره الله في كتابه الكريم في مواضع كثيرة جدا ، منها : قوله جل وعلا : وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وقوله سبحانه : إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وقوله سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء هو خيرا وأوسع من الصبر فاتقوا الله معاشر المسلمين والمجاهدين في ميادين الحرب وفي كل مكان ، واصبروا وصابروا في جهاد النفس على طاعة الله وكفها عن محارم الله ، وفي جهادها على قتال الأعداء ومنازلة الأقران وتحمل المشاق في تلك الميادين المهولة تحت أزيز الطائرات وأصوات المدافع ، وتذكروا أسلافكم الصالحين من الأنبياء والمرسلين وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين ومن تبعهم من المجاهدين الصادقين فلكم فيهم أسوة وفيهم لكم عظة وعبرة ، فقد صبروا كثيرا وجاهدوا طويلا ففتح الله بهم البلاد وهدى بهم العباد ، ومكن لهم في الأرض ، ومنحهم السيادة والقيادة بإيمانهم العظيم وإخلاصهم لمولاهم الجليل وصبرهم في مواطن اللقاء وإيثارهم الله والدار الآخرة على الدنيا وزهرتها ومتاعها الزائل ، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وقال جل شأنه : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي العمل أفضل؟ قال إيمان بالله وبرسوله قيل ثم أي يا رسول الله؟ قال الجهاد في سبيل الله وقال صلى الله عليه وسلم : مثل المجاهد في سبيل الله- والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة
وقال صلى الله عليه وسلم : من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات علىشعبة من النفاق وسأله صلى الله عليه وسلم رجل عن عمل يعدل فضل الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر وتقوم فلا تفتر فقال السائل ومن يستطيع ذلك يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنك لو طوقت ذلك لم تبلغ فضل المجاهدين الحديث .
والأحاديث في فضل الجهاد والحث عليه وبيان ما وعد الله به أهله من العزة في الدنيا والنصر والعواقب الحميدة ، وما أعد لهم في الآخرة من المنازل العالية في دار الكرامة كثيرة جدا فاتقوا الله يا معشر المسلمين جميعا ويا معشر العرب خصوصا جماعات وفرادى ، واصدقوا في جهاد عدو الله وعدوكم من اليهود وأنصارهم وأعوانهم ، وحاسبوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم من كل ما يخالف دين الإسلام من مبادئ وعقائد وأعمال ، واصدقوا في مواطن اللقاء وآثروا الله والدار الآخرة ، واعلموا أن النصر المبين والعاقبة الحميدة ليست للعرب دون العجم ولا للعجم دون العرب ولا لأبيض دون أسود ولا لأسود دون أبيض ، ولكن النصر بإذن الله لمن اتقاه واتبع هداه وجاهد نفسه لله وأعد لعدوه ما استطاع من القوة كما أمره بذلك مولاه ، حيث قال عز وجل : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وقال سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ وقال عز وجل يخاطب رسوله الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام : وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(2/168)
فتأمل يا أخي أمر الله لعباده أن يعدوا لعدوهم ما استطاعوا من القوة ، ثم تأمل أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عند مقاتلة الأعداء والقرب منهم أن يقيموا الصلاة ويحملوا السلاح وكيف كرر الأمر سبحانه في أخذ السلاح والحذر لئلا يهجم عليهم العدو في حال الصلاة ، لتعرف بذلك أنه يجب على المجاهدين قادة وجنودا أن يهتموا بالعدو ، وأن يحذروا غافلته ، وأن يعدوا له ما استطاعوا من قوة ، وأن يقيموا الصلاة ويحافظوا عليها مع الاستعداد للعدو والحذر من كيده ، وفي ذلك جمع بين الأسباب الحسية والمعنوية ، وهذا هو الواجب على المجاهدين في كل زمان ومكان أن يتصفوا بالأخلاق الإيمانية ، وأن يستقيموا على طاعة ربهم ويعدوا له ما استطاعوا من قوة ويحذروا مكائده ، مع الصبر على الحق عليه والثبات عليه وهذا هو السبب الأول والأساس المتين والأصل العظيم ، وهو قطب رحى النصر وأساس النجاة والفلاح ، وهذا هو السبب المعنوي الذي خص الله به عباده المؤمنين وميزهم به عن غيرهم ، ووعدهم عليه النصر إذا قاموا به مع السبب الثاني حسب الطاقة وهو إعدادهم لعدوهم ما استطاعوا من القوة والعناية بشئون الحرب والقتال ، والصبر والمصابرة في مواطن اللقاء مع الحذر من مكايد الأعداء ، وبهذين الأمرين يستحقون النصر من ربهم عز وجل فضلا منه وكرما ورحمة وإحسانا ووفاء بوعده وتأييدا لحزبه ، كما قال عز وجل : وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وقال تعالى : وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
وقال تعالى : أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقال عز وجل : وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ
ومما تقدم أيها الأخ المسلم أيها الأخ المجاهد تعلم أن ما يتكرر كثيرا في بعض الإذاعات العربية من قولهم : ( النصر لنا ) ( الله معنا ) ( النصر للعرب ) ( النصر للعرب والإسلام ) وما أشبه ذلك ، أن هذه كلها ألفاظ خاطئة ومخالفة للصواب ، فليس النصر مضمونا للعرب ولا لغيرهم من سائر أجناس البشر ، وإنما النصر معلق بأسبابه التي أوضحها الله في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم ، وأسبابه كما تقدم هي : تقوى الله ، والإيمان به ، والصبر والمصابرة لأعدائه ،
والإخلاص لله ، والاستعانة به ، مع الأخذ بالأسباب الحسية وإعداد ما يستطاع من العدة ، فينبغي التنبيه لهذا الأمر العظيم والحذر من الألفاظ التقليدية المخالفة للشرع المطهر . أما المعية فهي قسمان معية عامة ، ومعية خاصة . فأما المعية العامة : فهي لجميع البشر وليست خاصة بأهل الإيمان ، كما قال الله عز وجل : هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وقال تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(2/169)
فهاتان الآيتان صريحتان في أن الله سبحانه عالم بأحوال العباد مطلع على شئونهم محيط بهم ولا يخفى عليه من أمرهم خافية ، ولهذا بدأ سبحانه هاتين الآيتين بالعلم وختمهما بالعلم ، تنبيها للعباد على أن المراد بالمعية هو العلم والإحاطة والاطلاع على كل شيء من أمر العباد ليخافوه ويعظموه ويبتعدوا عن أسباب غضبه وعذابه ، وليس معنى ذلك أنه مختلط بالخلق أو أنه في كل مكان ، كما يقول ذلك بعض المبتدعين الضالين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وقولهم هذا باطل بالنص والإجماع ، بل هو سبحانه وتعالى فوق العرش قد استوى عليه استواء يليق بجلاله لا يشابه فيه خلقه ، كما صرح بذلك في كتابه الكريم في سبع آيات من القرآن الكريم ، منها قوله عز وجل : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وهو سبحانه لا شبيه له ولا مثل له في جميع صفاته كما قال عز وجل : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقال سبحانه : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ فهو عز وجل فوق العرش عال فوق خلقه كما أخبر بذلك عن نفسه ، وعلمه في كل مكان لا يخفى عليه خافية ، كما قال سبحانه : إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وقال سبحانه : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ فهذه الآيات المحكمات وما جاء في معناها كلها ترشد العباد إلى أن ربهم سبحانه فوق العرش وأعمالهم ترفع إليه وهو معهم بعلمه أينما كانوا لا يخفى عليه منهم خافية ،
أما المعية الخاصة : فهي للأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم بإحسان وهم أهل التقوى والإيمان والصبر والمصابرة ، وهذه المعية الخاصة تقتضي الحفظ والكلاءة والنصر والتأييد ، كما قال عز وجل عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال لصاحبه في الغار وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ولما أرسل الله موسى
وهارون عليهما الصلاة والسلام إلى فرعون اللعين قال لهما مثبتا ومطمئنا : لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وقال عز وجل في كتابه المبين يخاطب المشركين : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وقال عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وقال عز وجل : وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وقال تعالى : كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ والآيات في هذا المعنى كثيرة ،
فينبغي أن يكون شعار المسلمين في إذاعاتهم وصحفهم وعند لقائهم لأعدائهم في جميع الأحوال هو الشعار القرآني الإسلامي الذي أرشد الله إليه عباده ، وذلك بأن يقولوا : الله مع المتقين ، الله مع المؤمنين ، الله مع الصابرين ، وما أشبه هذه العبارات حتى يكونوا قد تأدبوا بآداب الله وعلقوا النصر بأسبابه التي علقه الله بها ، لا بالعروبة ولا بالوطنية ولا بالقومية ولا بأشباه ذلك من الألفاظ والشعارات التي ما أنزل الله بها من سلطان .
أيها المجاهد إنك في معركة عظيمة مع عدو لدود عظيم الحقد على الإسلام وأهله ، فوطن نفسك على الجهاد والصبر والمصابرة ، وأخلص عملك لله واستعن به وحده ، وأبشر إذا صدقت في ذلك(2/170)
بإحدى الحسنين إما النصر والغنيمة والعاقبة الحميدة في الدنيا ، وإما الشهادة والنعيم المقيم والقصور العالية والأنهار الجارية والحور الحسان في دار الكرامة ، أيها العربي لا تظن أن النصر على عدوك معلق بعروبتك وإنما ذلك بإيمانك بالله وصبرك في مواطن اللقاء واستقامتك على الحق وتوبتك من سالف ذنوبك وإخلاصك لله في كل أعمالك ، فاستقم على ذلك وتمسك بالإسلام الصحيح الذي حقيقته الإخلاص لله والاستقامة على شرعه والسير على هدي رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الحرب والسلم وفي جميع الأحوال ، أيها المسلم أيها المجاهد تذكر ما أصاب المسلمين يوم أحد بسبب إخلال بعض الرماة بطاعة القائد العظيم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفشل والتنازع ، ثم الهزيمة ، ولما استنكر المسلمون ذلك أنزل الله في ذلك قوله عز وجل : أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وقال عز وجل : وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وقال سبحانه في هذا المعني : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ولما أعجب المسلمون بكثرتهم يوم حنين هزموا ثم أنزل الله عليهم السكينة وأيدهم بجنود من عنده فتراجعوا وصدقوا الحملة على عدوهم واستغاثوا بربهم واستنصروا به فنصرهم وأيدهم وهزم عدوهم ، كما قال تعالى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ
فكل ما أصاب المسلمين في الجهاد أو غيره من هزيمة أو جراح أو غير ذلك مما يكرهون فهو بأسباب تقصيرهم وتفريطهم فيما يجب من إعداد القوة والعناية بأمر الحرب ، أو بأسباب معاصيهم ومخالفتهم لأمر الله ،
فاستعينوا بالله أيها المجاهدون واستقيموا على أمره وأعدوا لعدوكم ما استطعتم من قوة ، واصدقوا الله يصدقكم وانصروه ينصركم ويثبت أقدامكم واحذروا الكبر والرياء وسائر المعاصي ، واحذروا أيضا التنازع والاختلاف وعصيان قادتكم في تدبير شئون الحرب وغير ذلك ما لم يكن معصية لله عز وجل عملا بقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أيها المسلمون أيها المجاهدون إليكم نماذج من كلمات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم حين مقابلتهم لجيش الروم يوم اليرموك لما فيها من العبرة والذكرى : كلام خالد بن الوليد رضي الله عنه لما جمع خالد رضي الله
عنه الجيوش يوم اليرموك لقتال الروم قام فيهم خطيبا فقال : إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي ، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم ، وإن هذا يوم له ما بعده(2/171)
وقام أبو عبيدة رضي الله عنه في الناس خطيبا فقال : عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار ، ولا تبرحوا مصافكم ولا تخطوا إليهم خطوة ولا تبدأوهم بالقتال ، وأشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم حتى آمركم أن شاء الله تعالى وقام معاذ بن جبل رضي الله عنه في الناس خطيبا ذلك اليوم فجعل يذكرهم ويقول : يا أهل القرآن ومتحفظي الكتاب وأنصار الهدى والحق إن رحمة الله لا تنال ، وجنته لا تدخل بالأماني ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق ، ألم تسمعوا بقول الله تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا فاستحوا رحمكم الله من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم وأنتم في قبضته وليس لكم ملتحد من دونه ولا عز بغيره وقام عمرو بن العاص رضي الله عنه في الناس فقال : ( يا أيها المسلمون غضوا الأبصار واجثو على الركب وأشرعوا الرماح ، فإذا وثبوا عليكم فأمهلوهم ، حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه ويمقت الكذب ويجزي بالإحسان إحسانا لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا ، فلا يهولنكم جمعهم ولا عددهم فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل )
وقام أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه في الناس فتكلم كلاما حسنا من ذلك قوله : ( والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم ولا تبلغن رضوان الله غدا إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة )
هذه نماذج حية عظيمة نقلتها لكم أيها المجاهدون من كلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلموا أن النصر في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة لا يدركان بالأماني ولا بالتفريط وإضاعة الواجب ، وإنما يدركان بتوفيق الله بالصدق في اللقاء ومصابرة الأعداء والاستقامة على دين الله وإيثار حقه على ما سواه ، والله المسئول أن ينصر المسلمين على عدوهم ، وأن يجمع كلمتهم على الحق ، وأن يوفق قادتهم للاستقامة على أمره والصدق في جهاد أعدائه ، والتوبة إليه من كل ما يغضبه ، كما نسأله عز وجل أن يهزم اليهود وأنصارهم وأعوانهم ، وأن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا ، وأن ينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين ، إنه على كل شيء قدير ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه إمام الفاتحين وسيد المرسلين وخير عباد الله أجمعين ، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسيرته إلى يوم الدين .
------------------
نداء عام إلى الحكومات والشعوب الإسلامية لمساعدة المسلمين في البوسنة والهرسك(1)
بسم الله والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وأصحابه ومن نصر دينه واتبع هداه أما بعد ....
فإني أهيب بجميع الحكومات والشعوب الإسلامية وبجميع الدول المحبة للسلام ونصر المظلوم بأن يمدوا المسلمين في البوسنة والهرسك وأعوانهم بما يعينهم في حرب عدوهم من الصرب وأنصارهم بالرجال والمال والسلاح والدعاء ؛ لأنهم مظلومون ومعتدى عليهم ، ولم تزل حكومة الصرب وأنصارها مستمرة في العدوان والظلم والتقتيل والتخريب ، ولا يخفى على كل مسلم وعلى كل منصف ما في ذلك من الظلم العظيم والعواقب الوخيمة على المسلمين في البوسنة والهرسك وأعوانهم ، والله سبحانه أوجب في كتابه الكريم وسنة رسوله الأمين جهاد الأعداء ونصر المظلوم فقال سبحانه : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وقال تعالى : انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقال تعالى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ الآية .
فإذا كانت الفئة الباغية من المؤمنين يجب أن تقاتل حتى تفيء إلى أمر الله فالفئة الباغية الكافرة أولى وأحق بأن تقاتل حتى تكف عن ظلمها وعدوانها .
__________
(1) - مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 7 / ص 304)(2/172)
وقال عز وجل : وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ الآية . وهؤلاء المسلمون وأعوانهم في البوسنة والهرسك قد استنصروا بإخوانهم المسلمين ، وبكل من يحب السلم والعدل ... فالواجب نصرهم والوقوف في صفهم ضد العدوان والظلم حتى تقف الحرب ويحصل الصلح بينهم وبين عدوهم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر المظلوم
والآيات والأحاديث في وجوب جهاد الأعداء ونصر المظلوم كثيرة جدا ، فالواجب على جميع الحكومات والشعوب الإسلامية مناصرة المظلومين بالرجال والسلاح والمال والدعاء حسب الطاقة لقول الله سبحانه : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ولقوله عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقوله سبحانه : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
وفق الله المسلمين جميعا لما يرضيه ، ونصر بهم الحق وأعانهم على كل مل فيه رضاه ، وصلاح أمر عباده ، ونصر المظلوم ، وردع الظالم إنه ولي ذلك والقادر عليه . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
===============
مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 8 / ص 233)
وجوب نصر المسلمين المظلومين في البوسنة
وغيرها على جميع المسلمين وغيرهم حسب الاستطاعة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :(2/173)
فإن من عرف أحوال المسلمين في البوسنة والهرسك ، وما جرى عليهم من الظلم من الكروات والصرب وأنصارهم يتألم كثيرا ويحزن لخذلان إخوانهم لهم ، وعدم نصرهم النصر الكافي الذي يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم واستعادة ما أخذه عدوهم من أرضهم ، وقد أوجب الله سبحانه نصر المظلومين وردع الظالمين من المسلمين وغيرهم ، كما قال الله عز وجل : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ الآية . فإذا كانت الطائفة المؤمنة الباغية يجب أن تقاتل حتى تفيء إلى الحق فالظالمة الكافرة من باب أولى ، وقال تعالى : وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ والمعنى : يجب أن لا يتولاهم أحد ولا ينصرهم ، وقال تعالى : إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وقال سبحانه : وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الأمر بنصر المظلوم ، فقال عليه الصلاة والسلام : انصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل : يا رسول الله ، نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟! قال : تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه فنصر المظلوم وردع الظالم من أي جنس كان واجب شرعا وعقلا وفطرة . فالواجب على جميع الدول الإسلامية وعلى مجلس الأمن وعلى مجلس هيئة الأمم أن ينصروا المظلومين في البوسنة وغيرها بالمال والسلاح والرجال ، وأن يردعوا الظالمين بجميع الوسائل الرادعة حتى يقف الظالم عند حده ، وحتى يعطى المظلوم جميع حقوقه ، وبذلك تبرأ الذمة ويستحق الثواب الجزيل من الله عز وجل من فعل ذلك ابتغاء وجهه ، وبذلك أيضا يأمن العباد ، وتستوفى الحقوق ، ويقف الظالمون عند حدودهم ، وقد قال الله عز وجل في كتابه العظيم : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وقال سبحانه : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا وقال عليه الصلاة والسلام : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته والآيات والأحاديث في وجوب نصر المظلوم وردع الظالم والتعاون على الخير والتواصي بالحق والصبر عليه كثيرة معلومة . والله المسئول أن ينصر المظلومين في كل مكان ، وأن يذل الظالمين ويخذلهم ، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا ، وأن يولي عليهم خيارهم ، ويصلح قادتهم ، وأن ينصرهم بالحق وينصر الحق بهم ، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان ، إنه جواد كريم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
-------------------
حكم الجهاد بالنفس
34830سؤال:
هل الواجب على كل مسلم أن يخرج للجهاد ؟ أم أن الجهاد مستحب وليس بواجب ؟.
الجواب:
الحمد لله
الجهاد بالنفس هو ذروة سنام الإسلام ، وعده بعض العلماء الركن السادس من أركان الإسلام .
وقد تقاعس المسلمون عن الجهاد منذ أزمان متطاولة ، فاستحقوا أن يعاقبهم الله تعالى بالذلّ والصغار المضروب عليهم ، ولن يرفع ذلك الذل والصغار عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم ، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ) . رواه أبو داود (2956) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
ومن عجائب الأمور أننا أصبحنا في زمن نرى فيه أناساً من المسلمين ، يستحون أن يذكروا آيات الجهاد وأحاديثه أمام أصدقائهم من الكفار!! وتحمّر وجوههم خجلاً من ذكر أحكام الجزية والاسترقاق وقتل الأسرى . . . وودوا لو محوا تلك الآيات والأحاديث من القرآن والسنة حتى لا ينتقدهم العالم المتخلف في مبادئه ، الذي يزعمون أنه متحضر !! وإذا لم يستطيعوا محوها ، عمدوا إلى تأويلها وتحريفها ولي أعناقها حتى توافق أهواء ساداتهم. ولا أقول حتى توافق أهواءهم ، "فإنهم أضعف من أن تكون لهم أهواء ، وأشد جهلاً ، بل أهواء سادتهم ومعلميهم من المبشرين والمستعمرين أعداء الإسلام" . عمدة التفسير (1/46).
ونتيجة لذلك لا تكاد تسمع اليوم إلا رنين العبارات الآتية : السلام العالمي . . التعايش السلمي . . الحدود الآمنة . . النظام الدولي الجديد . . ويلات الحروب(2/174)
وصار من يعلن اليوم آيات الجهاد وأحاديثه متهما بشتى الاتهامات . فهم . . إرهابيون . . متطرفون . . أعداء السلام . . مصاصون للدماء . . يريدون القضاء على حضارة القرن العشرين .
هذا هو الواقع التعيس الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم . وذلك بسبب تقاعسنا عن نصرة ديننا ، والقيام بما أوجب الله علينا .
وقد أوجب الله تعالى علينا نصر دينه ، وإظهار حجته ، وجهاد أعدائه .
فما أكثر الآيات الآمرة بجهاد المشركين وقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، والمصرحة بوجوبه وكتابته وفرضيته ، قال الله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) البقرة /216 .
----------------
حكم الجهاد
وقد ذكر العلماء رحمهم الله حكم الجهاد ، فذكروا أن الجهاد نوعان :
1- جهاد الطلب والابتداء
وهو تطلب الكفار في عقر دارهم ودعوتهم إلى الإسلام وقتالهم إذا لم يقبلوا الخضوع لحكم الإسلام .
وهذا النوع فرض كفاية على المسلمين ، قال الله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الأنفال /39 . وقال تعالى : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) التوبة /5 . وقال تعالى : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) التوبة /36 . وقال تعالى : ( انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) التوبة /41.
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ) . رواه البخاري (24) ومسلم (29) .
وروى مسلم (3533) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ ) .
فكل هذه النصوص - وغيرها كثير في الكتاب والسنة - تفرض على المسلمين جهاد الكفار ابتداءً . وقد أجمع العلماء على أن جهاد الكفار ، وتطلبهم في عقر دارهم ، ودعوتهم إلى الإسلام ، وجهادهم إذا لم يقبلوه أو يقبلوا الجزية ، فريضة محكمة غير منسوخة .
قال شيخ الإسلام (28/349) :
فكل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له فإنه يجب قتاله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله اهـ .
وقال ابن عطية (2/43) : واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض كفاية ، فإذا قام به من قام من المسلمين يسقط عن الباقين اهـ .
2-جهاد الدفاع :
فإذا نزل الكفار ببلاد المسلمين واستولوا عليها ، أو تجهزوا لقتال المسلمين فإنه يجب على المسلمين قتالهم حتى يندفع شرهم ، ويُرد كيدُهم . وجهاد الدفاع فرض عين على المسلمين بإجماع العلماء .
قال القرطبي رحمه الله في "تفسيره : (8/15) :
"إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار ، أو بحلوله بالعقر فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ، ويخرجوا إليه خفافا وثقالا ، شبابا وشيوخا ، كلٌّ على قدر طاقته ، من كان له أب بغير إذنه ، ومن لا أب له . ولا يتخلف أحدٌ يقدر على الخروج من مقاتل أو مُكَثِّر ، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا ، على حسب ما لزم أهل تلك البلدة ، حتى يعلموا أن فيهم طاقةً على القيام بهم ومدافعتهم ، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم ، وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم ، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم ، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل بها العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين . ولو قارب العدوُ دارَ الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروجُ إليه حتى يظهر دين الله ، وتحمى البيضة ، وتحفظ الحوزة ، ويُخزى العدو ، ولا خلاف في هذا" اهـ .
وقال شيخ الإسلام (28/358-359) :(2/175)
فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبا على المقصودين كلِّهم ، وعلى غير المقصودين لإعانتهم ، كما قال الله تعالى : ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) الأنفال /72 . وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصر المسلم . . وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله . . كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد . . بل ذم الذين يستأذنون النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا . فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس وهو قتال اضطرار اهـ
هذا حكم الجهاد بالنفس في الإسلام ، جهاد طلب لدعوة الكفار إلى الدخول في هذا الدين ، وإخضاعهم لحكم الإسلام أذلة صاغرين ، وجهاد دفاع عن دين المسلمين وحرماتهم .
نسأل الله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم رداًّ جميلاً .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
--------------------
وجوب نصرة طالبان وحكم من ظاهر الأمريكان عليها
للشيخ حمود العقلا
صاحب الفضيلة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي .... حفظه الله من كل سوء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..... وبعد
فقد كان متقررا لدى كل منتسب للعلم الشرعي أن الولاء والبراء
أصل من أصول الشريعة المطهرة ، غير أننا نرى اتجاهات كثير من الحكام العرب والمسلمين وكثير من العلماء في العالم الإسلامي وتصرفاتهم تجاه الأحداث التي وقعت في أمريكا وما ترتب عليها من توعد من تلك الدولة الكافرة لإخواننا المسلمين في الأفغان وغيرها .. يتناقض مع ما كان متقررا في الشريعة الإسلامية ، فنأمل من فضيلتكم نبذة مختصرة مدعمة بنصوص من الكتاب والسنة تبين مكانة الولاء والبراء في الإسلام وما يترتب عليها من آثار ؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعد
فقبل أن أبدا ببيان مكانة الولاء والبراء في الإسلام لابد من إيضاح معنى الولاء والبراء في اللغة وفي اصطلاح الشرع :
الولاء في اللغة : اسم مصدر من والى يوالي موالاة وولاء ، قال في لسان العرب ما خلاصته : الموالاة كما قال ابن الأعرابي : أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح ، ويكون له في أحدهما هوى ، فيواليه أو يحابيه ، ووالى فلان فلانا إذا أحبه ، والولي فعيل بمعنى فاعل ، ومنه وَلِيَه إذا قام به ، ومنه قوله تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا ) الآية ، ويكون الولي بمعنى مفعول في حق المطيع ، فيقال : المؤمن ولي الله ووالاه موالاة وولاء ، من باب قاتل أي تابعه .
وهذه الكلمة المكونة من الواو واللام والياء يصاغ منها عدة أفعال مختلفة الصيغ والمعاني ، يأتي منها وليَ وولّى وتولّى ووالى واستولى ، ولكل من هذه الأفعال معنى يختلف عن الآخر عند الاستعمال ، أولا : وليَ : يطلق ويراد به القرب ، تقول : وليَ فلان فلانا ، وفلان يلي فلانا أي قريب منه ، قال شيح الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والولي القريب ، فيقال : هذا يلي هذا أي يقرب منه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر ) أي لأقرب رجل إلى الميّت . ويأتي : وليَ بمعنى : الاستيلاء والملك ، فيقال وليَ الأمر بعده سلفه إذا صار الأمر إليه . ثانيا : ولّى يأتي لازما ، فيكون بمعنى ذهب ، كقوله صلى الله عليه وسلم في قصة ابن أم مكتوم حينما جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته فرخص له صلى الله عليه وسلم ، قال الراوي : فلما ولّى - أي ذهب - ناداه فقال : أتسمع النداء؟ قال نعم ، قال : فأجب ، وفي لفظ : لا أجد لك رخصة . ويأتي متعديا فيقال : ولّى فلان فلانا الأمر إذا أسنده إليه . ثالثا : تولى ، يأتي معدى بحرف ( عن ) فيكون بمعنى أعرض لقوله سبحانه وتعالى ( فتول عنهم فما أنت بملوم ) أي : أعرض عنهم ، ويأتي متعديا بنفسه فيكون بمعنى اتبع ، يقال : تولاه : أي اتبعه واتخذه وليا كقوله تعالى : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ويأتي لازما كقوله تعالى ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ) رابعا : يقال والى فلان فلانا إذا أحبه واتبعه ، والولاية معناها النصرة والحماية والاتباع . خامسا : استولى : يقال استولى الجيش على بلد العدو إذا أخذوها عنوة .
أما معنى الولاء في الشرع : فهو تولي العبد ربه ونبيه باتباع الأوامر واجتناب النواهي وحب أولياء الله من المؤمنين . هذا كله من الولاء .
البراء تعريفه لغة : مصدر برى بمعنى قطع ، ومنه برى القلم بمعنى قطعه ، والمراد هنا قطع الصلة مع الكفار ، فلا يحبهم ولا يناصرهم ولا يقيم في ديارهم . قال ابن الأعرابي : بري إذا تخلص ، وبريء إذا تنزه وتباعد ، وبريء إذا أعذر وأنذر ، ومنه قوله تعالى ( براءة من الله ورسوله ) أي إعذار وإنذار ، والبريء والبرى بمعنى واحد ، إلا أن البراء أبلغ من البريء .(2/176)
والبراء في الشرع : هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإنذار والإعذار ، يقال برى وتبرأ من الكفار إذا قطع الصلة بينه وبينهم فلا يواليهم ولا يحبهم ولا يركن إليهم ولا يطلب النصرة منهم .
منزلة الولاء والبراء في الإسلام :
الولاء والبراء قاعدة من قواعد الدين وأصل من أصول الإيمان والعقيدة ، فلا يصح إيمان شخص بدونهما ، فيجب على المرء المسلم أن يوالي في الله ويحب في الله ويعادي في الله ، فيوالي أولياء الله ويحبهم ويعادي أعداء الله ويتبرأ منهم ويبغضهم ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله والحب في الله والبغض في الله ) .
فمما تقدم يتبين لك أيها القارئ أن الولاء يقوم على المحبة والنصرة والاتباع ، فمن أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فهو ولي الله ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كَثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك ، وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئا ) .
أما من والى الكافرين واتخذهم أصدقاء وإخوانا فهو مثلهم ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ، والقرآن العزيز مشتمل على كثير من الآيات التي تحذر من اتخاذ الكافرين أولياء ، كقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) الآيات . وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) الآيات
أما البراء فهو من الأسس التي تقوم عليه العقيدة الإسلامية وهو البعد من الكفار ومعاداتهم وقطع الصلة بهم ، فلا يصح إيمان المرء حتى يوالي أولياء الله ويعادي أعداءه ويتبرأ منهم ولو كان أقرب قريب ، قال سبحانه وتعالى ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) فقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنه لا يتحقق الإيمان إلا لمن تباعد عن الكفار المحادين لله ورسوله وبرئ منهم وعاداهم ولو كانوا أقرب قريب ، وقد أثنى سبحانه وتعالى على خليله إبراهيم حينما تبرأ من أبيه وقومه ومعبوداتهم حيث قال ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) وقد أمرنا سبحانه وتعالى بأن نتأس بالخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء حتى تؤمنوا بالله وحده ) .
وبهذا الموجز المختصر عن الولاء والبراء يتبين بجلاء مدى أهمية هذين الركنين ومكانتهما في الإسلام
أما مظاهرة الكفار على المسلمين ومعاونتهم عليهم فهي كفر ناقل عن ملة الإسلام عند كل من يعتد بقوله من علماء الأمة قديما وحديثا ، قال الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله : الناقض الثامن ( مظاهرة المشركين ومعونتهم على المسلمين ، والدليل قوله تعالى ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . وقد سئل العلامة عبدالله بن عبداللطيف رحمه الله عن الفرق بين المولاة والتولي : فأجاب بأن التولي : كفر يخرج من الملة وهو كالذب عنهم ومعاونتهم بالمال والبدن والرأي . وقال الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله في بيان حكم مقاومة الكفار ومحاربتهم : يجب على كل مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض أن يحاربهم وأن يقاتلهم حيثما وجدوا مدنيين كانوا أو عسكريين .. إلى قوله : وأما التعاون مع الإنجليز بأي نوع من أنواع التعاون قل أو كثر فهو الردة الجامحة والكفر الصراح لا يقبل فيه اعتذار ولا ينفع معه تأويل ولا ينجي من حكمه عصبية حمقاء ولا سياسة خرقاء ولا مجاملة هي النفاق سواء كان ذلك من أفراد أو حكومات أو زعماء كلهم في الردة سواء إلا من جهل .. إلى أن قال رحمه الله : ألا فليعلم كل مسلم ومسلمة أن هؤلاء الذين يخرجون على دينهم ويناصرون أعداءهم مَن يتزوج منهم فزواجه باطل بطلانا أصليا لا يلحقه تصحيح ولا يترتب عليه أي أثر من آثار النكاح من ثبوت نسب وميراث وغير ذلك وأن من كان منهم ومتزوجا بطل زواجه . اهـ(2/177)
وبناءا على هذا فإن من ظاهر دول الكفر على المسلمين وأعانهم عليهم كأمريكا وزميلاتها في الكفر يكون كافرا مرتدا عن الإسلام بأي شكل كانت مظاهرتهم وإعانتهم ، لأن هذه الحملة المسعورة التي ما فتئ يدعو إليها المجرم بوش وزميله في الكفر والإجرام رئيس وزراء بريطانيا بلير والتي يزعمان فيها أنهما يحاربان الإرهاب هي حملة صليبية كسابقاتها من الحملات الصليبية ضد الإسلام والمسلمين فيما مضى من التاريخ ، وقد صرح المجرم بوش بملء فيه بذلك ، حيث قال سنشنها حربا صليبية ، وسواء أكان ثملا عندما قال ذلك أو كان واعيا فإن هذا هو ما يعتقده هو وأمثاله من أساطين الكفر .
وهذا العداء والحقد على الإسلام والمسلمين من قبل هؤلاء الصليبين والصهاينة لا يستغرب لأن الكفر وإن كان مِلَلا شتى إلا أنهم ملة واحدة بالنسبة لعداء المسلمين والحقد عليهم . قال تعالى ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) .
إذن فلا غرابة من عدائهم للمسلمين ومحاربتهم لهم ، إن الغرابة كل الغرابة في مظاهرة بعض الحكام والمسلمين لهؤلاء الكفَرة وتقديم العون لهم ومنحهم الأرض والأجواء والقواعد ليستعملها أعداء الله ورسوله في ضرب المسلمين .
وبهذه المناسبة فإننا ندعو جميع المسلمين شعوبا وحكاما أن يهبوا لنصرة إخوانهم المجاهدين في الأفغان بكل ما يستطيعون من عون بالنفس والمال والدعاء والدعاية ، كما نوصي إخواننا في الأفغان بالصبر والثبات والاستماتة في مقاومة هذا العدوان ، وكلنا أمل في الله أن تكون الأفغان مقبرة لهؤلاء الطغاة والمستكبرين كما كانت مقبرة للاتحاد السوفيتي والإنجليز قبلهم .
كما نذكر إخواننا الأفغان بحالة المسلمين يوم الأحزاب حينما تكالبت عليهم قوى الكفر وتحالفوا على غزو المدينة واستئصال شأفة المسلمين إلا أن الله سبحانه وتعالى بقوته التي لا تقهر زلزلهم وفرق شملهم كما أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله سبحانه : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هناك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) .
نسأل الله أن ينصر إخواننا في أفغانستان وأن يجمع كلمتهم وأن ينصرهم على اليهود والنصارى ومن شايعهم ومن أعانهم ، اللهم عليك بالأمريكان وأعوانهم ، واللهم شتت شملهم وأدر الدائرة عليهم . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أملاه فضيلة الشيخ
أ . حمود بن عقلاء الشعيبي
21 / 7 / 1422 هـ
---------------
الطالبان ودولة الإسلام في أفغانستان
بقلم : مولوي حبيب الله
عندما يعلن قادة ومسئولو حركة طالبان : أن منهجهم هو منهج أهل السنة والجماعة، وأنهم حربٌ على البدع وكل ما يخالف الكتاب والسنة
وعندما يقول أمير المؤمنين بشأن تعليم المرأة : "نحن لسنا ضد تعليم المرأة، ولكننا نريد أن يُضبط تعليمها بالضوابط الشرعية
وعندما يصدر أهم قرار في تاريخ أفغانستان يُرجِع للمرأة كرامتها وحقوقها، ويمنع ما كان سائدا من عادات مخالفة للشرع تقضي بأن المرأة إذا مات زوجها يرثها ذووه ويتزوجها أحدهم ولو كانت كارهة
وعندما يصدر قرارات متتالية بمنع زراعة المخدرات وإنتاجها واستعمالها في أفغانستان التي ظلت عبر التاريخ في مقدمة البلاد المصدرة لهذه المادة الخبيثة
وعندما يقول بملء فيه : "إن المباديء الإسلامية للإمارة الإسلامية غير قابلة للتفاوض أو المساومة عليها مع أي كان
وعندما تتعرض أفغانستان لقصف صواريخ كروز الأمريكية من الولايات المتحدة، وتتعرض للتهديد بالضرب من قبل روسيا، وللعقوبات الدولية من قبل الأمم المتحدة، وللمقاطعة والخذلان من قبل أنظمة الحكم المعادية للإسلام في الشرق والغرب .. كل ذلك بسبب مواقفها الإسلامية
وعندما يعزز الطالبان أقوالهم بأفعال ملموسة في أكثر الأمور، ويقيمون شرع الله عز وجل، ويؤمِّنون الناس في أموالهم وأنفسهم، ويوحدون أكثر من تسعة أعشار البلاد تحت حكم إسلامي لأول مرة منذ عشرات السنين، فيمنعون كثيرا من البدع، ويحاربون الشعوذة والمشعوذين، ويخصصون وزارة كاملة للحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويطهرون الدولة وأجهزتها من الشيوعيين، ويقضون على أوكار الفساد ودور السينما وبيوت الدعارة وحانات الخمور، ويصنعون برنامجا لإصلاح التعليم وأسلمة المناهج، ويقومون بترميم البنى التحتية وتشييد الجسور وتعبيد العديد من الطرق والعناية الصحية، ويعتنون بحياة الناس الاقتصادية فتنشط في عهدهم الحياة الاقتصادية ... وغير ذلك
عندما يحدث كل ذلك فإنه يوفر كثيرا من الجهد في الإجابة على كثير من الأسئلة(2/178)
عندما يحدث كل ذلك، فإنه يمثل مؤشرات واضحة الدلالة على حقيقة حركة طالبان، وحقيقة أهدافها وغاياتها وجديتها، وأنها ليست حركة إسلامية نبيلة الأهداف سامية الغايات فقط، بل هي فوق ذلك، فهي الحركة الإسلامية الوحيدة التي عرفت كيف تصنع المفتاح الصحيح في قفل القضية الأفغانية المستعصية على الحل منذ عقود من الزمن، والحركة التي نجحت حيث فشل الآخرون، وثبتت حين نكصوا، ووفَّت حين خانوا، وصبرت حين جزعوا، ولم تفلح كل محاولات الإغراء والإغواء في ثنيها عن هذا الطريق الذي اختطته لنفسها
عندما يحصل كل ذلك ويصبح واقعا ملموسا وشيئا محسوسا، ولو كان فيه ما فيه من نقص، فإن حركة طالبان تكون قد ردت عمليا على كل أولئك الذين قابلوها -في بداية أمرها- بازدراء شديد وسخرية لاذعة، وشكوك مريبة، عندما أعلنت عن أهدافها، وما تريده من تطبيق الشريعة الإسلامية كاملة، وتوحيد البلاد عامة تحت قيادة واحدة، وتوفير الأمن، والقضاء على الفساد والمفسدين. وقد كان مع هؤلاء بعض العذر؛ لأن الحديث عن تحقيق هذه الأهداف في أفغانستان آنذاك كان نوعا من الخيال، إن لم يكن ضربا من الجنون، ولكن الإيمان الصادق والعمل الدؤوب حوَّل ذلك الخيال إلى واقع يشهد به العدو قبل الصديق
إن رصيد حركة طالبان من الإنجازات -ما اكتمل منها وما لم يكتمل بعد- يؤهلها لأن تتحدث بملء فيها عن جدارتها وأهليتها لاستكمال مسيرة الجهاد، وبناء دولة الإسلام في أفغانستان .. هذه الدولة التي ضحى الشعب الأفغاني بحوالي مليوني شهيد، وملايين المعوقين والمهاجرين والأيتام والأرامل في سبيل تحقيقها، وشاركتهم الأمة الإسلامية في كل تلك التضحيات بفلذات أكبادها وحُرِِّ مالها .. هذه الدولة التي كاد يقضي -على الأمل في إقامتها- صراع قادة الأحزاب البائدة على كراسي الحكم
إن حركة طالبان قد عرفت طريقها -بتوفيق من الله- وهي ماضية فيه لا يثنيها عنه تخوف مشفق صادق، ولا تثبيط مثبط منافق، وهي تدرك طبيعة هذا الطريق وأنه طريق شاق ووعر، يتساقط على حوافّه الضعفاء، ويقل الأصدقاء، ويكثر الأعداء، ويزداد الابتلاء، ولكن ماذا نفعل إذا كان هذا هو الطريق الوحيد الموصل للهدف
إننا نعلم أن كثيرا من المحبين والمخلصين من أصحاب (التريث والحكمة) مشفقون علينا مما يرونه تسرعا في تطبيق الشريعة، وصرامة في التعامل مع بعض الخصوم والأعداء
ونعلم أيضاً أن كثيرين آخرين من الإخوة الأفاضل من ذوي العجلة في تحكيم شرع الله عز وجل يعاتبوننا فيما يرونه تأخراً وتدرجا بطيئا في إزالة بعض المنكرات
ونحن نطمئن كلا من هؤلاء الإخوة وأولئك بأن مآخذهم غير خافية علينا، وهي في محلها من حيث الجملة، ولكن لكل بلد ظروفه الخاصة التي قد تغيب تفاصيلها عن كثير ممن لم يعش هذه الظروف، وهذه الظروف لها دور كبير في تحديد سياسة الإصلاح والتغيير المناسبة، ولا شك أن أهل كل بلد أدرى بتلك الظروف، وأهل مكة أدرى بشعابها
يبقى أن نعلن لجميع الأصدقاء والأعداء على حد سواء أن مسيرتنا المظفرة في إقامة الدولة الإسلامية الراشدة لن تتأثر -إن شاء الله- بمواقف الآخرين منّا، فنحن لم نكن نتوقع ترحيبا دوليا بدولتنا الإسلامية، وكيف يرحبون بنا وهم الذين يقول الله عز وجل عنهم : {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} وكيف يرحبون بنا وهم الذين يقول الله عز وجل عنهم : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم
لكن عدم اعترافهم بنا لا يعنني أننا غير موجودين، ولا أن دولتنا ليست قائمة، فالصين أكبر دول العالم اليوم بقيت عشرين سنة دون أن تعترف بها الدول الغربية، ولم يعترفوا بها إلا بعد أن أجرت أول تجربة نووية لها، فهل يعني ذلك أن الصين لم تكن موجودة قبل ذلك
إن ما نحتاجه هو الثقة بديننا ومنهجنا أولا، وإذا حصلت الثقه المطلوبة فلسنا بحاجة إلى أن تعترف بنا دول الكفر، بل عند ذلك سوف تضطر هي للاعتراف بنا دون أن نطلب منها ذلك، وسوف تحترمنا، وسوف تدرك أن لها مصالح تقتضي أن تتعامل معنا تعاملا آخر غير تعاملها اليوم، والذي أعماها حقدها على الإسلام -حتى- عن رؤية مصالحها، فنرى دولا أنفقت مليارات الدولارات في أفغانستان من أجل كسب موطيء قدم لمصالحها فيها، تخرج صفر اليدين منها بسبب هذه السياسة
هذا عن دول الكفر .. أما إخواننا المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها فنحن وإياهم يجب أن نكون كما قال صلى الله عليه وسلم : (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا) وكما قال : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى إليه سائر الجسد بالسهر والحمى
ويوم أن نحقق تلك المعاني في واقعنا، فسوف يتحقق لنا ما وعدنا الله به من النصر والعزة والغلبة والتمكين "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقون لا يعلمون".
--------------------
وجوب نصرة المسلمين في فلسطين(1)
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2126) إسماعيل الحاج أمين نواهضة - القدس 11/11/1422(2/179)
يقول الله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح: 29].
أما بعد: أيها المسلمون، فإن الإسلام يضع لمعتنقيه مبادئ عظيمة، من شأنها أن تشد على الروابط بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتحفظ وحدتهم وتصون كرامتهم، ومن هذه المبادئ التي أفصح عنها رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه بقوله: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم))(1)[1].
والاهتمام بأمر المسلمين ـ أيها المؤمنون ـ لا يعني المظهر دون المخبر، ولا يكفي فيه إبداء الشعور الطيب دون خطوات إيجابية وعملية تعبر عن الاهتمام الفعلي، وبعبارة صريحة: لا يكفي من المسلم التألم والتحسر وسكب الدموع مدرارا على ما ينزل بالمسلمين من البلوى والأذى، بل من واجبه أن يرفع الصوت عاليًا، مستنكرًا الجرائم التي تنزل بإخوته، مقدما لهم الدعم المادي والمعنوي إسهامًا في رفع كابوس المحنة عنهم، حتى يعود الحق إلى نصابه، وحتى يشعر الإخوة المسلمون المنكوبون أن إلى جوارهم من إخوانهم من يشد أزرهم ويرعى فيهم حق أخوة الإسلام، ويحقق بالعمل قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا))(2)[2].
أيها المسلمون، وإن كان الشعور الطيب لا يكفي في تصوير اهتمام المسلم بأخيه فكيف بمن يعرض عن نصرته وهو قادر؟! وكيف بمن يقف موقف المتفرج من الكوارث تنزل بإخوانه ثم لا يكون منه أي محاولة لرد الطغيان وكف العدوان؟! أفلا يكون مؤاخذًا على تبلد إحساسه وشعوره، داخلاً في زمرة من عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا يقفن أحدكم موقفًا يضرب فيه رجل ظلمًا فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه))(3)[3]، والضرب ـ أيها المسلمون ـ هو مثل لجميع ألوان الإرهاب الأرضي وقصف المؤسسات كما أنه يشمل كل الوسائل التي يعمد إليها الإنسان لتعذيب الإنسان.
ومن المبادئ التي وجه إليها الإسلام أتباعه هو أن لا يقبل المسلم الذلة والهوان، وأن لا يعيش في الأرض وهو خليفة الله فيها وهو منكس الرأس مستعبدٌ للغير، وقد وصله الله بمعيته كما قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] وجعل له العزة في العالمين كما قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ، وجعل رزقه وأجله بيده لئلا يطأطئ رأسه لمخلوق قال تعالى: فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17]، وقال أيضا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58].
أيها المؤمنون، وما الناس في الواقع إلا وسائط لإيصال ما قدر للعبد في دنياه من الرزق أو الجاه أو المنصب أو غير ذلك من أمور الدنيا، لن يفرغ أجل عبد إلا وقد استوفى ما قدر له كما جاء في الحديث الشريف: ((إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها))(4)[4].
فمن رضي بالذل بعد أن أعزه الله واستعبد لغير الله وأقام على الضيم ينزل به فهو ممن عناهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من رضي الذلة من نفسه طائعًا غير مكره فليس منا))(5)[5].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا بكل مبدأ رسمه لكم الإسلام، أخلصوا الولاء للإخاء الإسلامي، وابتغوا العزة التي كتبها الله للمؤمنين تكونوا من أولي الألباب، الذين امتدحهم الله في كتابه حيث قال: فَبَشّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الاْلْبَابِ [الزمر: 17، 18].
وقد دخل صحابي على عظيم من عظماء الفرس في الفتوحات الإسلامية فقال له: ما جاء بكم إلينا؟ فرد عليه الصحابي بملء فيه، مظهرًا العزة دون رهبة: (ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).(2/180)
أيها المؤمنون، ومن المبادئ التي وجه إليها الإسلام أتباعه مبدأ الصبر، فإنه عتاد الشدائد والمحن، يبعث على الطمأنينة والرضا بقضاء الله وقدره، فقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا خير عيشنا بالصبر) (6)[6] وقال الإمام علي رضي الله عنه: (إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) وأردف ذلك بقوله: (لا إيمان لمن لا صبر له)(7)[7]، ولقد ذكر الله سبحانه الصبر في تسعين موضعًا من كتابه يرغب فيه، ويقرنه بأعمال صالحة تقرب العبد إليه ويأمر به كوسيلة من وسائل الخير، وسبيل إلى الفلاح والفوز قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 152]، وقال تعالى: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى: 43].
وإن أعظم مواقف الصبر صبر المرء على البلاء، وتجلده أمام الخطوب والكوارث، إنه موقف أولي العزم من الرسل صلوات الله عليهم، فلقد أوذوا في الله، فكانوا أئمة للصابرين، وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل من الأذى فصبر، وكانت له العاقبة على القوم الظالمين، وقد ابتلى المسلمون قديمًا وحديثًا، وبخاصة الشعب الفلسطيني بأعظم أنواع المصائب، في أنفسهم وأموالهم، في ديارهم ومصالحهم، ابتلوا بأخبث خلق الله، لا يرقبون فيهم إلاً و لا ذمة، يريدون أن يقيموا لهم في العالمين منارًا، وهيهات أن يعلو قوم وضع الله من شأنهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بلعنة الله وغضبه، فما أحوجنا اليوم إلى التسلح بالصبر مع العمل المستمر، إنه سلاح يدعمه الإيمان واليقين، وإنه الضياء المشرق، إنه الدعامة التي يرتكز فيها النصر، فجهاد من غير صبر لا يتحقق فيه النصر.
فيا عباد الله، اتقوا الله، وادعوه وأنتم موقنون بالإجابة.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله كاشف الغم مزيل الشدائد عن المكروبين، وأحمده سبحانه، كتب النصر لعباده المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من اعتمد عليه كفاه وتولاه، فأعظم بكفاية رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نشر لواء العدل والسلام، وقضى على الظلم والطغيان، وكان خير المرسلين. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن ما يحدث في فلسطين ولشعب فلسطين يمثل أقصى ما يمكن أن يصل إليه التسلط والاستبداد والظلم والطغيان على شعب من الشعوب، وأغرب ما في هذه الظاهرة المرعبة المخجلة أن الظالم والمستبد بها نجح في ستر ظلمه واحتلاله واستبداده وراء ستار الدفاع عن النفس وعن القيم الحضارية كما يزعم، ويتجلى هذا التسلط وهذا الاستبداد على الإنسان والأرض والبيوت والمقدسات وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، فالإنسان في هذه الأرض المباركة يسفك دمه وينكل به، بل ويمثل في جسده الطاهر، كأنه لعبة يتسلى بها الطغاة المجرمون ليشبعوا غرائزهم المتعطشة إلى دماء الأبرياء.
وأما الأرض فتتعرض صباح مساء إلى العدوان الأحمق المتمثل بعمليات التجريف والتدمير وقلع الأشجار المثمرة التي تزين الأرض بخضرتها وأزهارها، كما يتمثل بتدمير بيوت الآمنين وترك أهلها في العراء تحت وطأة البرد القارس، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، رافعين أكفهم وأبصارهم إلى السماء مستغيثين بالجبار، المنتقم العظيم أن يرفع عنهم وعن إخوانهم في كل مكان بأس الطغاة المجرمين، ناهيك عن الحصار المشدد المفروض على مدننا وقرانا، هذا الحصار الذي عجب منه العدو قبل الصديق، يضاف إلى ذلك تدمير مؤسسات هذا الشعب على اختلاف أنواعها، وما ذلك إلا لتدمير البنية التحتية له، ولمحو الصوت الفلسطيني والشخصية الفلسطينية، كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع العالم والمؤسسات الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان، وسط صمت عربي وإسلامي مهين ومشين.
أيها المسلمون، إن أرض فلسطين في نظر الإسلام هي أرض الإيمان، لذلك وجه الإسلام أنظار المؤمنين إليها ليرابطوا فيها وفي بلاد الشام، حتى يظل جنود الإسلام واعين بحقيقة المعركة التي تمتد في التاريخ بين الإيمان والكفر، وتأتي الأحاديث الشريفة لتؤكد هذا المعنى كما جاء في حديث ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، أفتنا في بيت المقدس فقال : ((أرض المنشر والمحشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاةٍ فيما سواه)) قالت: أرأيت من لم يطق أن يتحمل إليه أو يأتيه؟!، قال: ((فليهد إليه زيتًا يسرج فيه، فان من أهدى له كمن صلى فيه))، وفي رواية ((فإن صلاة فيه كخمسمائة صلاة)) رواه الإمام أحمد(8)[1].(2/181)
نعم إن قضية فلسطين والمسجد الأقصى المبارك هي قضية العرب والمسلمين، فمن واجبهم جميعًا أن يتحملوا مسئولياتهم في هذه القضية التاريخية العقائدية، والمسلمون على مدار التاريخ محاسبون عن أنفسهم وأعمالهم في قضاياهم عامة، وفي قضية فلسطين خاصة إنها أمانة عظيمة في أعناقهم جميعًا، وهي جزء لا يتجزأ من أرض الإسلام، فلا يجوز التنازل عن شبر من أرضها، ويجب على المسلمين أن يدافعوا عنها بكل قوة، وأن يعتبروا الدفاع عنها وعن شعبها واجبًا يحتمه الدين وتفرضه العقيدة.
وكل مسلم سيحاسب يوم القيامة عن دوره وجهده يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئًا.
أيها المسلمون، إن من أعظم الآثام عند الله تعالى أن يسقط شبر واحد من أرض الإسلام بيد أعداء الله، وأن تستباح حرماتهم وأعراضهم وثرواتهم ومقدساتهم، فكيف إذا كانت فلسطين هي التي سقطت؟!
فاللهم لا حول ولا قوة إلا بك.
ولكن أيها المرابطون، مع كل هذا سينتصر المؤمنون وسينتصر الإسلام، وستعود فلسطين، وسيعود المسجد الأقصى المبارك إن شاء الله تعالى، ستعود حين تترك الأمة المساومة على حقها البين، ولا ترضى إلا بفلسطين الثابت بقانون السماء كلها دار للإسلام وستظل فلسطين كلها أرض الرباط، أرضا مباركة تبسط ملائكة الرحمن أجنحتها عليها، ويغمرها نور اليقين ويفوح منها عبق الدماء الزكية، وستمضي أمة الإسلام أمة واحدة إلى أرض الإسراء، فتدخلها بنصر من عند الله يهبه الله لعباده المتقين حين تصدق الأمة ربها وخالقها وتتوكل عليه وتتوسل إليه، وليس كما يقول البعض: لم يبق أمام العرب سوى استجداء أمريكا.
وصدق الله العظيم القائل: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 13]، وكذب المجرمون الطغاة الذين يقولون: لا تغرنكم النبوءات الكاذبة.
إنها ليست نبوءات ولكنها حقائق ربانية ثابتة ندعو الله أن يحيي هؤلاء الزمرة من الحكام العرب حتى يشهدوا انتصار الإسلام والمسلمين وعودة فلسطين كاملة.
وأدعو الله أن يحفظ فلسطين من كل سوء، وأن يحمي المسجد الأقصى من المجرمين من بني صهيون، وأن يعز المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وأن يحرر فلسطين.
__________
(1) ضعيف جدًا، رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر، وفي إسناده يزيد بن ربيعة قال الهيثمي: "وهو متروك" وقال الجرجاني: "أخاف أن تكون أحاديثه موضوعة"، وقال الألباني: "ضيف جدًا" سلسلة الأحاديث الضعيفة (310).
(2) رواه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب نصرة المظلوم (2446)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم (2585) من حديث أبي موسى.
(3) ضعيف، رواه الطبراني في المعجم الكبير (3/131/ 1) والعقيلي في الضعفاء (6) وأبو نعيم في الحلية (3/345).
قال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه أسد بن عطاء مجهول، ومندل وثقه أبو حاتم وغيره وضعفه أحمد" وقال الألباني: "ضعيف" غاية المرام (448).
(4) صحيح رواه الحاكم في المستدرك (2/4) من حديث ابن مسعود والطبراني في الكبير (10/27) ورواه الشافعي في مسنده 1/233، وابن أبي شيبة (34332)، وقال الألباني: "حديث صحيح جاء من طرق". (تخريج أحاديث فقه السيرة ص 96).
(5) هو تمام الحديث سبق تخريجه تحت رقم (1).
(6) ذكره البخاري معلقًا في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الصبر، ورواه موصولاً إلى عمر أحمد في كتاب الزهد (610) بإسناد صححه ابن حجر في الفتح (11/303).
(7) رواه معمر بن راشد في جامعه موقوفًا على علي (11/469) ونحوه البيهقي في شعب الإيمان (7/124) واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (1569).
(8) منكر رواه أحمد ح 27079 في مسند ميمونة، ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس (1407) وقال الألباني في ضعيف ابن ماجه منكر (298).
------------------
نصرة فلسطين واجب المسلمين(1)
أيها الأخوة المؤمنون
نصرة فلسطين واجب المسلمين، وحديثنا ما زال موصولاً في أجواء نصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ..
لا شك أن من نصرة خاتم الأنبياء نصرة مسراه عليه الصلاة والسلام، ونصرة الأرض المباركة التي بارك الله فيها .. وهنا وقفات تتعلق بما يجد أو جد من الأحداث هنا نرسلها رسائل نخاطب بها أنفسنا ونبعثها إلى إخواننا في أرض فلسطين؛ لأن نصرتنا لهم وصلتنا بهم ليست لمجرد أرض أحتلت وليست لمجرد شعب هُجّر، إن الأمر بيننا وبينهم بيننا وبين تلك الأرض أعظم من كل هذه الصور على ما فيها من اشتجاشت النفوس والعواطف وضعف الهمم والعزائم .
ننصر فلسطين وأهلها ؛ لأننا ندرك المعاني الكثيرة المتصلة بيننا وبين أرض الإسراء :
أولاً : ننصر قبلتنا الأولى
__________
(1) - د. علي بن عمر بادحدح(2/182)
فمنذ أن فرضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمر بالتوجه إلى بيت المقدس فكانت قبلته، طيلة نحو ثلاثة أعوام حتى هاجر، ثم ستة عشر أو سبعة عشر شهرا عند قدومه إلى المدينة، ثم تنزل قول الله سبحانه وتعالى : {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد} فتوجه النبي وتوجهت من وراءه أمة الإسلام إلى البيت الحرم .
فهذه القبلة الأولى لها عندنا مكانة عظيمة، مكانة إيمانية إسلامية، وهي ذات دلالات كثيرة، تدلنا على أن الديانات والرسالات واحدة من عند الله عز وجل، وتبين لنا المفارقة و التميز الذي خص الله به أمة الإسلام، فإن اليهود في المدينة كما روى البخاري وغيره، كانوا يحبون أو أحبوا أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه بقبلته إلى بيت المقدس، ففي رواية البراء الطويلة جاء قوله: وكانت اليهود قد أعجبهم أن كان يصلي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب - أي وأهل الكتاب مثلهم - فلما ولى وجه صلى الله عليه وسلم قبل البيت أنكروا وأرجفوا وخالفوا وتنزلت فيهم آيات كثيرة {ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها} .
قالوا : لئن كان على وجهة صحيحة فقد تحول عنها إلى باطلة، ولئن كان تحول إلى صحيحة فقد كان على باطلة، فتنزلت آيات القرآن تطمئن أمة الإسلام أنكم على نهج قويم صواب في أول الأمر لأنه أمر الله، وصواب فيما تلاه لأنه كذلك أمر الله، لئلا يرجف علينا بنو صهيون كما يرجفون اليوم عبر القنوات والإذاعات ووسائل الإعلام، حتى شككوا كثيرا من المسلمين في ثوابت دينهم وحقائق تاريخهم وصلتهم بأرضهم وديارهم ومقدساتهم.
وننصر كذلك فلسطين لأنها :
ثانياً : مسرى رسولنا صلى الله عليه وسلم
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}
وكان من الممكن أن يكون عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات من البيت الحرام، لكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون إسراء أولا إلى بيت المقدس والمسجد الأقصى ثم عروج من تلك البقعة بعد أن صلّى - صلى الله عليه وسلم - بإخوانه من الرسل والأنبياء، دلالة على أن هذا الدين العظيم هو الدين الخاتم، وأن هذه الرسالة هي الرسالة الجامعة لكل خير مضى في الرسالات السابقة، وأن هذا النبي المعظم صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء وسيدهم وأفضلهم ومقدمهم وإمامهم كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة الكثيرة في قصة الإسراء والمعراج .
أرض سرى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدنسها الصهاينة المحتلون، أفلا تكون من نصرة نبينا نصرة أهلها ونصرتها حتى تتطهر من الأدناس والأرجاس، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيق لمن أراد أن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ويبدي غيرته على شخصه وقدره ومقامه أن ينصر مسرى رسوله صلى الله عليه وسلم .
وكذلكم ننصر تلك البقاع لأنها :
ثالثاً : بشرى نبينا صلى الله عليه وسلم
فقد ثبت الحديث عند الإمام البخاري من رواية عوف بن مالك في قصة غزوة تبوك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في قبة من أدمن أي من جلد ثم خاطب من عنده وقال : ( اعدد ستا بين يدي الساعة قال: أولها: موتي - أي موته صلى الله عليه وسلم- ثم فتح بيت المقدس ... )
فكان فتحه بشارة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذه البشارة حقيق وجدير بكل قلب مؤمن أن يتعلق بها ويأسى لفواتها في زماننا، ويحزن لضياعها من بين أيدينا وتشتعل نيران الحمية والعزيمة والقوة والإصرار في قلبه لا تفتر ولا تخمد ولا تنطفئ ؛ حتى يكون كل منا له سبب ونسب في نصرة تلك البقاع وأهلها حتى يأذن الله عز وجل بنصر من عنده {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}
وننصر أرض الإسراء كذلك لأنها :
رابعاً : وجهة رحالنا
ضمَّ فيها النبي صلى الله عليه وسلم المساجد الثلاثة في حديثه المشهور الصحيح : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا )
هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. يمكن أن يكون هذا التشريع لافتا للنظر، اليوم تشد الرحال من بقاع الأرض إلى مكة المكرمة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كل لحظة يعزم عازم يستطيع غير أن لا أحد في جملة المسلمين ومعظمهم يستطيع أن يشد الرحال إلى المسجد الأقصى، أفلا يدخل ذلك حزنا في قلوبنا، أفلا يجعل ذلك في نفوسنا جذوة لا ينبغي أن تنطفئ حتى نحقق ذلك، بل انظروا إلى هذا الجمع ليس في هذا الحديث وليس في أحاديث بعينها فحسب بل في روح وصور متعددة كانت في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعند أصحابه، فقد روى أبو داود وغيره عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت:يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ! فقال عليه الصلاة والسلام: ( ائتوه فصلوا فيه ) ، وكان ذلك الوقت حرب فقال فليه الصلاة والسلام: ( فإن لم تأتوه فتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله ) .(2/183)
إن حيل بينكم وبينه فلا بد أن تصلوا إليه بجسر، أن تخدموه أن تنصروه بكل وسيلة مؤقتة أو جزئية حتى يكتمل لكم النصر وتعلوا لكم الراية ويمهد لكم الطريق ويؤمن لكم المسير، فتهفوا حينئذ بقلوبكم وأجسادكم إلى المسجد الأقصى كما تفعلون في مسجد البيت الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية هذا الحديث عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم عند ابن ماجة قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ؟ فقال: ( أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه) .
هل رأيتم كيف كان ذلك في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو حدث طويل وفيه:
(من أتى بيت المقدس لا ينهزه -أي لا يحركه ويبعثه- إلا الصلاة فيه؛ خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه)
والحديث إسناده حسن وصححه بعضهم.
وننظر كذلك إلى الحديث المتفق عليه من رواية أبي ذر رضي الله عنه يبين لنا الصلة الوثيقة، قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول، فقال: البيت الحرام، قال: قلت ثم أي، قال: المسجد الأقصى، قال: قلت فكم بينهما، قال: أربعون سنة .
وفي قوله تعالى : {سبحان الذي أسرى بعده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}
نكتة بلاغية عظيمة؛ لم سمي الأقصى بالأقصى، لأنه كان أقصى شيء في هذه المساجد، وعندما تنزلت آيات الإسراء كان النبي في مكة صلى الله عليه وسلم، لم يكن هاجر إلى المدينة لم يكن بني مسجده فكأنه قبل مكة وسيكون مسجد آخر من بعد هو مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أقصى من مكة ثم يأتي من بعده الأقصى وهو بيت المقدس، فهذا رباط وثيق، وهذا جمع كامل، وهذه حلقة وثيقة الروابط، تدعونا حقيقة إلى أن نكون في نصرة خاتم الأنبياء، ضمن نصرة مسرى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
ولو مضيت كثيرا لرأيت في ذلك ما تعلمون، ونحن ندرك ذلك أيضا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في تفضيل الصلوات ومضاعفة أجرها في المساجد الثلاثة، وهذه الأرض أيضا هي أرض البركة {الذي باركنا حوله}
وهي المذكورة في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، وهي التي ذكرت كذلك في قصة موسى عليه السلام، وهي المذكورة كذلك كما أجمع أهل التفسير في قصة أهل اليمن عندما قال الله عز وجل: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة}
قالوا: هي قرى بيت المقدس وأهل الشام .
ثم أخيراً أيها الأخوة الأحبة:
أرض الرباط ، وأرض الجهاد ، وأرض المحشر والمنشر ، وأرض الفصل في المعارك الكبرى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان .. نحفظ الحديث الثابت في البخاري ومسلم وكثير من كتب السنن : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) .
في رواية عند الإمام أحمد في مسنده والراوي معاوية قال رجل فسألت معاذ بن جبل فقال : ( هم أهل الشام ) .
وفي رواية أخرى عند الإمام أحمد أيضا، قال: ( إن عقر دار المؤمنين الشام )
وفي رواية ثالثة: ( سئل عن أولئك القوم أين هم فقال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس )
حق علينا إذاً أن ننصر مسرى رسولنا خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، حق علينا أن نكون مع أهل الرباط في أرض الإسراء، وذلك واجب وهو جزء مما كنا ولا زلنا نتحدث عنه في نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم، والغيرة على مقامه وقدره ومكانه، والحمية ضد كل من يسيء إليه أو يستهزئ به والعياذ بالله، فكيف بمن يغتصب أرضا بشر بفتحها، وكيف يغتصب أرضا صلى فيها إماما بالأنبياء، وكيف وكيف وكيف مما ذكرناه.
ومن هنا أتوجه من بعد إلى الحديث عن هذه النصرة مبتدئا بهذه البلاد وبقادتها، هذه بلاد الحرمين الشريفين وقائدها متشرف باسمه ولقبه خادم الحرمين الشريفين، وأول ما أبدأ به إرجاء الشكر على المواقف الجيدة القوية إزاء فلسطين في الآونة الأخيرة بعد فوز حركة " حماس " وعدم الموافقة لقوى الاستكبار العالمي في المقاطعة أو التضييق أو إيقاف الدعم بل كان الإعلام قويا واضحا جريئا، إخواننا أرضنا بلادنا إسلامنا، ستظل جسورنا ممدودة وعوننا متصل وقريبا بعد أيام سيكون أهل فلسطين وأهل سلطتها ضيوفا لكي يكون هناك وصل وتواصل، وحق على هذه البلاد وقد تسنمت شرف رعاية الحرمين الشريفين ألا تنقطع عن المسجد الثالث، وأن تكون مستحضرة حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( فإن لم تؤتوه فتصلوا فيه فابعثوا بزيت يوقد أو يسرج قناديله)(2/184)
(فابعثوا) فابعثوا جميعا، والأمم والدول والحكومات أولها، وهذه البلاد بفضل الله عز وجل قادة ومجتمعا من مواطنين وغير مواطنين كانوا - دائماً وأبداً - سباقين إلى بذل كل عون مادي ومعنوي وعاطفي وإعلامي وسياسي على نحو ينبغي أن يكون مشكورا مذكورا، وينبغي كذلك من بعد أن يكون متصلا ومتضاعفا ومتناميا، وبذلك نشكر هذا الموقف ونصر على حقيقته وأنه موقف ثابت لا يتغير، كيف نقطع صلتنا بمسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، كيف نوقف دعمنا عن الموطن الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعرف أن هذه الأرض بشرى نبوية وفتوحات عمرية، وتطهيرات أو طهارة صلاحية .. أرض بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم وفتحها الفاروق عمر رضي الله عنه واستردها وطهرها من رجس من دنسها صلاح الدين رحمه الله .. تاريخنا متصل بها، قبور مئات من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأضعافهم من التابعين هناك في أفياء بيت المقدس وفي أكنافه، أفلا نحنُّ إليها، أفلا نجد أن الذين رووا تلك الأرض بدمائهم يوم فتحوها ويوم حاصروها، حق علينا ألا نضيع ما فتحوه وألا نفرط فيما بذلوه من دماء وأرواح، ذلك ما ينبغي أن نقوله وأن نكرره، وأن نقول لهذه البلاد ولقادتها امضوا على ذلك واثبتوا عليه وأوصوا به غيركم، وكونوا قادة في الحق ولا تتراجعوا وكونوا حينئذ أصحاب الرؤوس المرفوعة والأيادي المتوضئة والمواقف النقية المتطهرة عسى الله عز وجل أن يمن بذلك عليكم فتكون لكم أياد بيضاء تمتد إلى المسجد الأقصى بعد أن امتدت إلى المسجدين العظيمين والحرمين الشريفين.
وتوجه إلى أمة الإسلام جميعها وخاصة الحكومات والدول، جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، أعداءنا الذين يسيرون دفة الأمور من الناحية السياسية بقوتهم وسلطانهم في العالم، هددوا وأرعدوا وأزبدوا بقطع مساعداتهم وبمواقفهم السياسية المعادية والمعاندة .. فماذا أنتم فاعلون ؟ هل ستحنون رؤوسكم ذلا ؟ هل ستتراجعون خوفا ؟ هل ستمضون وراء الركب لتكونوا قطيعاً ؟ أم ستكونوا أمة النخوة والعزة، وقبل ذلك أمة الإيمان والإسلام، ينبغي أن تكون مواقفكم في هذه الظروف قوية عظيمة واضحة جلية حتى تكسبوا أولا أجر الله عز وجل ومثوبته وعونه، وتكسبوا ثانيا مواقف شعوبكم وأممكم، التي تسجد لله عز وجل في كل يوم خمس مرات، وتعلم أن إسلامها ودينها يدعوها إلى نصرة أرض الإسراء .
وأتوجه إلي إلى نفسي إليكم إلى كل مسلم في شرق الأرض وغربها، فأقول: تابعوا وتعلقوا، تابعوا الأخبار وتعلقوا بالأحوال، واجعلوا جزءا من فكركم وهمكم وما يشغل بالكم؛ ما يجري هناك على أرض الإسراء، لا ينبغي أن نغفل، لا ينبغي أن ننام، كيف يكون ذلك وقد مضى أكثر من ستين عاماً على الجرائم المتوالية، والاغتصاب والسرقات والانتهاكات والقتل والتدمير وغير ذلك، ثم نحتاج من بعد أن نغفل أو أن ننسى .
وأقول ثانيا: ادعوا وتضرعوا، اليوم نحن في حال أفضل، وأمة الإسلام رغم كل الظروف العصيبة نرى صورا من الإشراق تبشر بأمل وتدفع إلى كثير من العمل، وتنبئ بإذن الله عز وجل عن أمور تنفرج شيئا فشيئا،
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها == فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وأخيرا أقول: أعينوا وتبرعوا ساعدوا أوقدوا تلك القناديل بالزيوت كما قال صلى الله عليه وسلم كما أوصى، كأنما ذلك الحديث يخاطبنا اليوم حيل بينكم وبينه فانتبهوا لذلك، لا تنقطعوا عنه وهذه أمور مهمة.
ووقفة أخيرة مهمة عظيمة إلى أهل فلسطين أنفسهم وإلى قيادتهم الجديدة على وجه الخصوص، حركة المقاومة الإسلامية " حماس " ، قبل أن أشرع في هذا الحديث أسوق المبشرات، إن الخير بحمد الله عز وجل يتعاظم والشر بحمد الله عز وجل يفتضح ويتقزم، وانظروا إلى هذه المقارنات السريعة:
في أرض فلسطين التي تمارس فيها معظم الدول الكبرى ممارسة اليد القذرة التي تقر الظلم وتمنع العدل، التي تنصر الباذي وتمنع المظلوم، التي تفعل وتفعل كما تعلمون، نراها اليوم وقد خسئت وقد نكست على رؤوسها وهي ترى أهل فلسطين أهل أرض الإسراء يقدمون خيار الإسلام وخيار المقاومة ويقولون بأنفسهم وباختيارهم وإرادتهم ينبغي لنا أن نعود إلى جذورنا ينبغي أن نصحح مسارنا ينبغي أن نتشبث بمنهجنا ينبغي أن نعلوا بإسلامنا ونعتز بإيماننا، هذه الرسالة القوية لم تكن هناك فحسب بل تكررت الآن فيما مضى في كثير من البلاد الإسلامية، وشعار كثير وجماهير من هذه الشعوب المسلمة، شعارها الإسلام خيارنا والإسلام هو الحل، انظروا ذلك في كل البلاد ..(2/185)
انظروا في بلاد عربية وأخرى إسلامية، وانظروا في مقابل ذلك، جاء الاحتلال إلى العراق ليحرر فإذا به يحتل، وجاء ليقدم حضارة فإذا هو يبرز الحقارة والنذالة، وجاء ليقول للناس إنه يحمي قيم حقوق الإنسان فإذا به يهينها يذلها كأبشع ما تكون الصورة، افتضحت تلك القوى، لم تعد تسترها حتى ورقة التوت في مبادئها وقيمها بعد السجون المذلة المهينة بعد الفضائح القبيحة المشينة، بعد النكسات السياسية المتوالية والعسكرية المتعاقبة، كلها جراح إثر جراح، وإصابات إثر إصابات، يوشك من بعد أن يخر لها الثور الهائج بإذن الله عز وجل، وإن غدا لناظره قريب، والله عز وجل قال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلما الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } ، {ولتعملن نبأه بعد حين} ، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} .
أقول هذه المقارنات لأنتقل إلى نقطتنا الأخيرة، حركة وليس هناك سكون ولا نوم ولا خمول، ومقاومة فليس هناك استسلام ولا استخذال ولا تراجع، وإسلامية فليست هناك مذاهب أرضية ولا ملل ونحل شرقية أو غربية، تلك هي الكلمات وعندما نجمعها في الحماس كأنما نقول: إننا ينبغي أن نتحمس للحركة وللمقاومة وللإسلام، ونخوض في تلك الميادين بقوة وفتوة، ولعلنا ونحن نقول ذلك، ونبارك لمن تقدموا في هذا نتوجه بالتذكرة والموعظة المهمة التي لا بد أن يسمعها منا إخواننا في أرض فلسطين جميعا وأن يسمعها قادتهم اليوم على وجه الخصوص ممن نسأل الله عز وجل لنا ولهم أن يوفقنا لطاعته ومرضاته ولنصرة دينه ورفع رايته إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه .. أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
إلى إخواننا في أرض فلسطين وقادتهم الجدد نقول: لأولئك القادة أهلا ومرحبا بكم قريبا في بلاد الحرمين، رحب بكم قادتنا ونحن نرحب بكم لتكونوا تكملة للرابطة المنشودة على مستوى الأمة الإسلامية رابطة تربط بين المساجد الثلاثة كلها، وتسعى لخدمتها ولكل ما يعلي راية الإسلام فيها، ونقول لهم من بعد، أخلصوا ولا تغتروا، فما أوتي أحد إلا من قبل غروره وكبرياءه وظنه أنه بلغ ما بلغ بقوته وحوله وطوله، ولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، أما رأيتم كيف كان حاله يوم فتح مكة، يوم دخلها منتصرا على ألد أعداءه من قومه قريش، هل دخل وهو بزهو وفخر وكبرياء؟ أم دخل وهو بتواضع وإقرار بعظمة منة الله عز وجل عليه؟ دخل صلى الله عليه وسلم مطأطئا رأسه وورد في بعض الروايات : (حتى كانت لحيته أن تلامس ظهر دابته)
ما أعظم هذه العظمة النبوية في هذا التواضع لرب الأرباب سبحانه وتعالى الذي يذهب عن النفس غرورا قد يتلف منهجها وقد يضل مسيرها ومسلكها {بل الله أعبد مخلصا له ديني} .
ونقول لهم ثانيا: ابذلوا ولا تفتروا، اليوم يوم العمل {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} ، {قل كل يعمل على شاكلته}
ينبغي اليوم أن تضاعفوا عملكم وجهدكم، لئن كنتم في السابق تعملون لخدمة دينكم وأمتكم من خلال خدمتكم لشعبكم ولقضيتكم فاليوم وقد تصدرتم أصبحت المسئولية أكبر والعمل أعظم {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاً } .
أمانة أمة وليست أمانة شعب فحسب، أمانة قضية هي قضية كل المسلمين وليست قضية أهل فلسطين وحدهم أو فصيل أو جماعة أو حركة واحدة منهم، فانتبهوا لذلك، ونقول: اجمعوا ولا تفرقوا قد بلغتم مبلغا حسنا، وشكر الناس ذلك لكم وشكروا قبل ذلك ربهم على ما هيأ لكم فكونوا بعد نصركم أقرب إلى بقية إخوانكم وكونوا بعد فوزكم أكثر تواضعا إلى سائر أبناء شعبكم، وحركاته وتجمعاته، ألفوا القلوب واحرصوا على وحدة الصفوف واحذروا الفرقة والشقاق والنزاع {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} .
احذروا واحرصوا على حقن الدماء فيما بينكم وتلك وصية رفعتموها وشعار جعلتموه منهجا لكم فاليوم يلزمكم تطبيقه والعمل به ويلزمكم أن تسعوا إلى نشره وإلى إشاعته في مجتمعكم وفي دياركم، ونقول لكم اثبتوا ولا تراجعوا، ما تقدمت إلا بثباتكم، وما نجحتم إلا بإصراركم، وما وصلتم إلا بعزتكم واعتزازكم، فلا تعودوا من بعد تبيعون الذي هو خير بالذي هو أدنى ولا تعودوا تقبلون الفانية وتقدمونها على الباقية، ذلكم ما ينبغي أن تحرصوا عليه، والسياسة ألاعيب وفيها مزالق ولكم في شرع الله عز وجل نور وضياء، ومعالم وضوابط، فما كان من شرع الله سائغا وجائزا، فلا عليكم أن تأخذوا به، واستشيروا علماءكم وعلماء الأمة فليست القضية قضيتكم ولا المسألة مسألتكم.
ومن هنا ينبغي أن تتضافر الجهود كلها معكم، معنوياً وعلمياً ومادياً وسياسياً ليكون ذلك كما ينبغي أن يكون.(2/186)
ونقول كذلك اتصلوا ولا تقطعوا، صلوا أنتم الدول الإسلامية والبلاد الإسلامية وغير الإسلامية، بما توجهون به تلك الجهود والمساعي لما ينفع هذه القضية الإسلامية العظيمة، ولعلنا نستبشر خيرا بكل ما رأيناه من بوادر تلك الانتصارات والتقدم، لا نسرف في ذلك التفاؤل لكن لا ينبغي أن نشيع اليأس، بل كما قلت في جانب الأعداء، نرى بحمد الله عز وجل عثرات إثرها عثرات، وسقطات إثرها سقطات، لعلها كذلك تهيئ لنا أن نتقدم لنسد الثغرة، ونسد الخلة وتتحد الأمة خلف دينها وخلف رسولها صلى الله عليه وسلم، وتكون النصرة التي جاءت بها الأحداث الماضية نصرة عامة شاملة لدين الله عز وجل، ولكل ما يتصل برسوله صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله عز وجل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعته ويذل فيها أهل معصيته.
---------------------
شرعية الجهاد في العراق والرد على المخذّلين
أولاً: الجهاد في العراق فرض عين
تعريف الجهاد هو: بذل الجهد في قمع أعداء الإسلام بالقتال وغيره .( انظر الشرح الممتع 8/5).
والجهاد قسمان:
1- جهاد طلب .
2- جهاد دفع ..ويختلف حكم كل واحد منهما عن الآخر ...
أولاً : جهاد الطلب :
هو أن يغزو المسلمون الكفّار في ديارهم .
والغاية منه هو أن تكون كلمة الله هي العليا ، وقهر أعداء الله واضطرارهم إلى أوكس الأحوال حتى يكون الدين كله لله .. ( انظر الإنجاد للقرطبي 1/42).
وحكمه اختلف فيه أهل العلم فمنهم من قال بأنه فرض عين ومنهم من قال يجب على المرء في كل عام مرة والصحيح أنه فرض كفاية ...
وقال كثير من أهل العلم في حد الأداء لوجوب القيام بفرض الجهاد : هو أن يُدفع العدوّ ، وتُحمى الثغور ، ويُستظهر على أهل الكفر ، فإن قيم بذلك سقط الفرض ( الإنجاد 1/43) ..
فياليت شعري هل وجد من قام بفرض الكفاية في جهاد الطلب ؟!!!
ويكون جهاد الطلب فرض عين في ثلاث حالات :
1-إذا حضر القتال .
2- إذا استنفره الإمام .
3-إذا احتيج إليه .
( انظر الشرح الممتع 8/11)
ويُشترط في جهاد الطلب ما لم يتعيّن شروط منها استئذان الأبوين ومنها استئذان الغريم ومنها وجود الراية ... إلخ
ثانياً : جهاد الدفع :
وهو الدفاع عن ديار المسلمين وثغورهم إذا حاصرها عدوّ أو اعتدى عليها أو احتلها ، وهو من باب دفع الصائل .
والغاية منه حماية بيضة الإسلام وصيانة أعراض المسلمين والدفاع عن حريمهم ...
وحكمه فرض عين بلا خلاف بين علماء المسلمين ( بالإجماع ) !!!
قال الجصاص رحمه الله :
(معلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ، و لم تكن فيهم مقاومة ، فخافوا على بلادهم و أنفسهم و ذراريهم ؛ أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين ، و هذا لا خلاف فيه بين الأمة .) أحكام القرآن ( 4/312).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : (فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه ، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعاً ) الفتاوى الكبرى ( 4/607) .
بهذين النقلين ( ولا أريد الإطالة بإكثار النقول ) يتبيّن أن جهاد الدفع فرض عين بالإجماع ....
ولا يشترط في هذا الجهاد أي شرط لتعيّنه ...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان ) الفتاوى المصرية ( 4 / 508) .
إذا تبيّن هذا فهل الجهاد في العراق جهاد طلب أم جهاد دفع ؟
الجواب :
أن الأمريكان كفارٌ أصليون من شك في كفرهم فهو مثلهم ...
والعراق بلدٌ من بلاد الإسلام لا يُشكُّ في ذلك .
وهؤلاء الكفار ( الأمريكان ) هجموا على بلد من بلاد المسلمين ( العراق ) واحتلوها وعاثوا فيها قتلاً وتشريداً ....
إذن فإن الجهاد في العراق هو جهاد دفع وهو من باب دفع الصائل باتفاق جمهور العقلاء ...
وهو فرض عين على أهل العراق بإجماع علماء الإسلام !!!
انتهينا من هذه المقدمة وندخل الآن إلى المحور الثاني وهو الأدلة على فرضية الجهاد على أهل العراق وكلام السلف والأئمة في ذلك ...
الدليل الأوّل:
قال تعالى ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) (الحج:39)
الدليل الثاني :
قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قُتل دون ماله فهو شهيد و من قتل دون دمه فهو شهيد ) متفق عليه ...(2/187)
ووجه الدلالة من هذين الدليلين هو ما ذكره ابن القيّم رحمه الله فقال : (وجهاد الدفع أصعب من جهاد الطلب ؛ فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل ، و لهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه ، كما قال الله تعالى : ( أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) ، و قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( من قُتل دون ماله فهو شهيد و من قتل دون دمه فهو شهيد ) متفق عليه . إن دفع الصائل على الدين جهاد و قربة ، و دفع الصائل على المال و النفس مباحٌ و رخصة ؛ فإن قُتل فيه فهو شهيد فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب و أعم وجوبا . و لهذا يتعين على كل أحد يقوم و يجاهد فيه ؛ فالعبد بإذن سيده و بدون إذنه ، و الولد بدون إذن أبويه ، و الغريم بغير إذن غريمه ) الفروسية ص 187.
وجميع دليل في الكتاب والسنة دلَّ على وجوب دفع العدو الكافر الصائل فهو دليلٌ على وجوب الجهاد في العراق على أهل العراق ولعلنا نترك بعضها اختصاراً ...
كلام السلف في هذه المسألة وتنزيله على مسألتنا هذه :
1- قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله: ( إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين ، و وجب على الجميع ، فلم يجز التخلف عنه ) المغني ( 10 / 390 ).
وتنزيله على المسألة ( إذا جاء العدو فاحتل العراق صار الجهاد على أهل العراق فرض عين ، و وجب على الجميع ، فلم يجز التخلف عنه ).
2-قال ابن عطية رحمه الله : ( الذي استقر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه و سلم فرض كفاية فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين ، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين ) تفسير القرطبي ( 3/ 312).
وتنزيله على المسألة ( إلا أن ينزل العدوّ بساحة الإسلام كما نزل بساحة العراق فهو حينئذ فرض عين ) .
3-قال الجصاص رحمه الله : ( معلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ، و لم تكن فيهم مقاومة ، فخافوا على بلادهم و أنفسهم و ذراريهم ؛ أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين ، و هذا لا خلاف فيه بين الأمة ) أحكام القرآن ( 4/312).
وتنزيله على المسألة (معلوم في اعتقاد جميع المسلمين هذا فيمن خاف فكيف بأهل العراق الذي أُحتلت بلادهم ؛ ففرض الجهاد في العراق على كافة الأمة فيجب أن ينفر إليهم من يكف عادية الأمريكان عن المسلمين ، و هذا لا خلاف فيه بين الأمة ).
وياليت شعري كيف تجاهل المخالفون هذا الإجماع ؟!!!
4-قال شيخ الإسلام رحمه الله : (إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم ، و على غير المقصودين ، لإعانتهم ، كما قال الله تعالى ( و إن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم و بينهم ميثاق ) السياسة الشرعية .
تنزيله على المسألة ( كلام شيخ الإسلام فيمن أراد من الأعداء فكيف بالأعداء الذين احتلوا بلاد الإسلام لا شك أن دفعهم واجب على أهل العراق كلهم وعلى غير أهل العراق لإعانتهم ).
5-وقال رحمه الله : (فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه ، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعاً ) الفتاوى الكبرى ( 4/607).
تنزيله على المسألة ( فأما إذا هجم الأمريكان على العراق فلا يبقى للخلاف وجه ، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعاً ومن خالف في ذلك فقد خرق الإجماع ) ..
وكلام السلف في ذلك كثير ولعلنا نكتفي بما ذُكر ....
وهنا مسألة :
وهي أن بلاد الإسلام لا يحدّها حدودٌ جغرافية والوجوب على إخواننا في العراق لا يقتصر عليهم بل يعم جميع المسلمين إلى أن تحصل الكفاية بطرد الأمريكان وأذنابهم لذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله : ( وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم ونصوص أحمد صريحة بهذا (الفتاوى الكبرى ( 4 / 609).
الخلاصة :
أن الجهاد في العراق على أهل العراق فرض عين ، ولا يشترط له أي شرط ومن خالف في ذلك فقد خالف إجماع الأمة !!!
ولا شك أن المنع من جهاد شرعي جرمه عظيم قال ابن حزم الأندلسي رحمه الله: ( و لا إثم بعد الكفر أعظم من إثم من نهى عن جهاد الكفار ، و أمر بإسلام حريم المسلمين إليهم ) المحلى ( 7 / 300 ).
ثانياً: الردّ على شبهات المخذّلين
بعد أن تبيّن أن الجهاد في العراق هو فرض عين ليس على أهل العراق فقط بل على عموم المسلمين ولا يسقط الوجوب حتى ينفر إلى العراق من تحصل بهم الكفاية في طرد الأمريكان وأذنابهم ..
نأتي الآن للرد على الشبهات التي أوردها المخذلون ....
الشبهة الأولى :
زعم المخذلون (أن المقاتلين في العراق يعتبرون ضعفاء أمام قوة عدوهم و أن القتال لا يكون مشروعاً إذا لم تكن هناك قدرة ) ...
والردّ على هذه الشبهة من عدة أوجه :
الوجه الأول :
أن المجاهدين في العراق لديهم القدرة التامة على طرد المحتل من العراق ، والقول بعدم وجود القدرة بُني على اعتقاد أن الجهاد في العراق يلزم منه المواجهة المباشرة مع الأمريكان ...(2/188)
وهذا اعتقادٌ خاطئ ففنون القتال اليوم لها أشكال متنوعة و لا يعني بالضرورة المواجهة المباشرة، وحروب التحرير في الغالب لا تعتمد على المواجهة المباشرة بقدر ما تعتمد على استنزاف العدو وعدم تمكينه من الاستمتاع بثمرة النصر، ومثال ذلك حال المقاومة في العراق، فلماذا نتغاضى عن هذه النتائج ونصدر حكما عاجلا لم يعتمد على دراسة واستشارة لأهل المعرفة والخبرة بالقتال.
الوجه الثاني :
أن اشتراط القدرة في الجهاد هنا هو حقٌ أُريد به باطل !!!
لأنه ليس كل ضعف يُسقط وجوب جهاد الدفع ، وإنما الذي يسقط الوجوب هو الضعف الشديد الذي يصل إلى حد العجز عن القتال وهذا ما لا يُنكره عاقل كما كان الحال في مكة ...
وعلى هذا فلا يشترط في صحة جهاد الدفع أن يغلب على ظن الفئة المجاهدة في العراق أنها تملك من القدرة ما يحقق لها الظفر على الأعداء ، بل يكفي أن تتمكن من إحداث نكاية في العدو ولوكان ذلك بمجرد بث الرعب في قلوبهم وهذا حاصلٌ في العراق رغم أنف كل مكابر ...
الوجه الثالث :
أن القدرة شرط لوجوب الجهاد وليست شرطا في صحته ، وفرقٌ بين شرط الوجوب وشرط الصحة ....
فأهل العلم جعلوا القدرة شرط وجوب بمعنى أنه لا يجب جهاد الدفع إلا بشرط القدرة ، والمخذّلون جعلوا القدرة شرط صحة وهذا ما لم يسبقهم به أحدٌ من علماء المسلمين !!!!
ففرقٌ بين قول العلماء يجوز ، أو يرخص ، أو لابأس بترك الجهاد عند عدم القدرة ، وبين قول المخذّلون لا يجوز الجهاد عند عدم القدرة !!!
الوجه الرابع :
وهو مبنيٌ على فهم الوجه الثالث وهو أن النصوص دلّت على جواز الجهاد حتى مع عدم القدرة!!!
فقد دلت النصوص الشرعية أن غير القادر إذا تكلف الجهاد فجاهد لا شيء عليه ، ولو أدى هذا إلى قتله وعدم تحقيق الظفر على الأعداء مادام هذا يحقق مصلحة شرعية كإحداث نكاية في العدو أو بث للرعب في قلوبهم ، أو تجرئة لقلوب أهل الأيمان ونحو ذلك ، ولا يدخل هذا في إلقاء النفس إلى التهلكة كما يظن البعض ...
ومن ذلك حديث سلمة بن الأكوع حين أغار عبد الرحمن الفزاري ومن معه على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقه وقتل راعيه ، فتبعهم سلمة بن الأكوع وحده فمازال يرميهم بنبله حتى استخلص منهم ما أخذوه ، وقد جاء فيه من قول سلمة : " فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر ، قال : فإذا أولهم الأخرم الأسدي على إثره أبو قتادة الأنصاري ...، قال فأخذت بعنان الأخرم ، قال : فولوا مدبرين ، قلت : يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال : ياسلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة ، قال فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن ... وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه ، ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن فطعنه فقتله ، فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ماأرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئا حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له : ذا قرد ، ليشربوا منه وهم عطاش قال فنظروا إلي أعدوا وراءهم فحليتهم عنه (يعني أجليتهم عنه ) فما ذاقوا منه قطرة ... " ، وفيه من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة " أخرجه مسلم في صحيحه.
وقد أورد هذا الحديث ابن النحاس الدمياطي في كتابه : مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق في الجهاد وفضائله ، وبوب عليه بقوله : فضل انغماس الرجل الشجيع أو الجماعة القليلة في العدد الكثير رغبة في الشهادة ونكاية في العدو . ثم قال : ( وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده وإن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان مخلصا في طلب الشهادة ،كما فعل الأخرم الأسدي رضي الله عنه ولم يعب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه ، ولم ينه الصحابة عن مثل فعله ، بل في الحديث دليل على استحباب هذا الفعل وفضله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مدح أبا قتادة وسلمة على فعلهما كما تقدم، مع أن كلا منهما قد حمل على العدو وحده ولم يتأن إلى أن يلحق به المسلمون ) مشارع الأشواق ص 539.
الوجه الخامس :
أننا لو فرضنا عدم القدرة في حال المجاهدين في العراق كما يريد المخذّلون ، فإن الجهاد لا يحرم عليهم كما نصّ على ذلك السلف الصالح الذين هم أسوتنا دون أشباه العلماء !!!
قال ابن قدامة رحمه الله : ( وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب على ظن المسلمين الظفر فالأولى لهم الثبات لما في ذلك من المصلحة ، وإن انصرفوا جاز لأنهم لا يأمنون العطب ...وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والنجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف ، وإن ثبتوا جاز لأن لهم غرضا في الشهادة ويجوز أن يغلبوا أيضا ) المغني ( 13/189 ) .
فلو ثبت أهل العراق مع فرض عدم القدرة لجاز لهم كما نصّ عليه ابن قدامة أفقه أهل زمانه !!!(2/189)
وقال محمد بن الحسن رحمه الله : ( لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين ، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه ، وإن كان قصده إرهاب العدو و ليعلم صلابة المسلمين في الدين ، فلا يبعد جوازه ، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم " الآية إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه ، وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء ) انظر تفسير القرطبي ( 2/364) .
ولا شك أن المجاهدين في العراق يكرّون على أعداء الإسلام وقد والله أحدثوا نكاية في الأمريكان ، وقد والله أرهبوهم ، ونرجو أن يكون شهدائهم في أعلى الدرجات !!!
الوجه السادس :
صرّح شيخ الإسلام رحمه الله بوجوب الجهاد في مسألة هي عين مسألتنا هذه وفيها إلجامٌ لمن تكلف الشروط ليحمي الأمريكان من صولات المجاهدين !!!
قال رحمه الله : ( وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به ، لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا ، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين ، وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم ، فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لايجوز الانصراف فيه بحال ، ووقعة أحد من هذا الباب ) . الاختيارات الفقهية ص 311 .
فلا يجوز أن يترك أهل العراق الجهاد بأي حال من الأحوال وإن رغمت أنوف المخذلين ....
وقال تلميذه ابن القيّم رحمه الله (فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل ... و لا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون ، فإنهم كانوا يوم أحد و الخندق أضعاف المسلمين فكان الجهاد واجبا عليهم لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع لا جهاد اختيار ... و جهاد الدفع يقصده كل أحد ، و لا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً و عقلاً ) .
فجهاد أهل العراق من هذا الباب قطعاً فلا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً و عقلاً ولا ينهى عنه إلا المفتون إما بهواه أو بفعل غيره !!!
الشبهة الثانية :
استدل المخذّلون بالقياس على حال المسلمين في مكة بعدم جواز القتال في العراق ..
والرد على هذا الشبهة أن قياس حال أهل العراق بحال أهل مكة قياسٌ مع الفارق لعدة أوجه...
الوجه الأول :
في مكة لم يكن هناك دولةٌ للإسلام ولا دار عزة ومنعة وهنا في العراق بلاد أسلام وعزة ومنعة أُعتدي عليها واحتُلت وارتفع فيها الصليب بعد أن كانت شعائر الإسلام تُقام فيها ..
الوجه الثاني :
أن أهل مكة كانوا عاجزين عن القتال تماماً ولا يُكلف الله نفساً إلا وسعها ، أما أهل العراق فلديهم القدرة التي تؤهلهم لقتال العدو ، ولو لم يكن لديهم قدرة لما صمدوا كل هذه المدة !!!
الوجه الثالث :
أن وجوب الجهاد قد تدرج كما تدرج تحريم الخمر وأن آية السيف والأمر بقتال الكفار كافة هي ناسخةٌ لبقية الآيات في النهي عن القتال في مكة وغيرها ...
وبهذه الأوجه يتبيّن فساد استدلالات المخذّلين بهذا القياس الفاسد وما ذكروه عن ابن كثير والسعدي وغيرهما إنما يتأتى في حال العجز لا في حال الضعف ...
الشبهة الثالثة :
استدلالهم بقصة عيسى وفعله مع يأجوج وقياسها على ترك الجهاد في العراق
وهذا أيضاً قياسٌ مع الفارق من وجهين:
الوجه الأول :
أن هذه حالةٌ خاصة مع نبي ينزل في آخر الزمان ومثله في هذه كوضعه للجزية فلا يأتي أحدٌ فيقول لا يجوز أخذ الجزية الآن لأن عيسى لا يأخذها في آخر الزمان !!!
الوجه الثاني :
أن الله تعالى لم يأمر عيسى –عليه السلام- بأن يسلم لهم، بل أمره بترك المواجهة والاحتماء بالمسلمين إلى جهة الطور ، وهذا عمل حربي للقائد أن يتخذه إذا رأى أنه يحقق له مصلحة ، والمعارك لا تقتصر على المواجهة فقط بل فيها الكر والفر والخدعة .
أما المخذّلون فهم يدعون العراقيين للاستسلام للأمريكان !!!
الشبهة الرابعة :
زعم المخذّلون أن الجهاد فيه مفسدة على أهل العراق وأن الاستسلام هو المصلحة
والرد على هذه الشبهة من وجهين :
الوجه الأول :
لا أدري هل هناك عقلٌ سليم يعتقد أن تسليم الديار للكفار هو أخفّ مفسدة من قتالهم !!!
ومادام هناك عقولٌ تعتقد المفسدة فإن المرجع في تقدير المصالح والمفاسد راجعٌ لأهل العلم المطلعين على واقع الجهاد في العراق مع الاستعانة بآراء أهل الخبرة العسكرية من المجاهدين في العراق واستشارة من يفيد رأيه في المسالة .
ولا شكّ أن هؤلاء المخذّلين ليسوا من هذا الصنف الذي يحق له تقدير المصالح والمفاسد في جهاد أهل العراق ...
الوجه الثاني :(2/190)
أن حال العراق وحال الدول التي احتلها الكفار عبر التاريخ تدلُّ على أن المصالح المجنيّة من الجهاد هي أعظم من تضييعها بمفسدة محتملة .
فالمقاومة في العراق تملك من القدرة ما يحقق لها الظفر على الأعداء ، بل يكفي أن تتمكن من إحداث نكاية في العدو ولوكان ذلك بمجرد بث الرعب في قلوبهم ، أو أن يحقق للمسلمين مصلحة ولو كانت هذه المصلحة مجرد تجرئة قلوب أهل الأيمان ، وهذا بحمد الله حاصل كما نشاهده في فلسطين وغيرها إذ يقوم المجاهدون هناك مع ضعفهم بمقاومة اليهود ، وأحدثوا مع هذا نكاية قوية باليهود ، فأخافوهم وأضعفوا أمنهم واستنزفوا اقتصادهم .
الشبهة الخامسة :
يزعم المخذّلون أن شيخ الإسلام ترك قتال التتر لعدم القدرة
والردُّ على هذه الشبهة من عدة أوجه :
الوجه الأول :
أن شيخ الإسلام لم يترك قتال التتار لعدم القدرة ولا أدري كيف تجرأ هؤلاء وجعلوا هذا السبب هو الذي دعى لترك شيخ الإسلام الجهاد في تلك الأيام!!!
مع أن الداعي هو عدة أسباب لا سبب واحد ، ولا شك أن القائد قد يؤخر القتال مدة وجيزة لترتيب الصفوف أو لأي مصلحة أخرى لكن أن يستسلم ويأمر الناس بالاستسلام فحاشا شيخ الإسلام أن يكون كذلك كما صوّره المخذّلون ...
الوجه الثاني :
لو سلمنا أن شيخ الإسلام ترك جهاد المُحتل فإنه لم ينهَ أبداً عن قتال المُحتل بل كان من المحرضين على ذلك ، ولا أدري كيف قلب هؤلاء الحقائق فجعلوا من شيخ الإسلام المجاهد رجلاً مخذّلاً...
بل وصف من جاهد في وقت نهيه عن الجهاد بأنهم مأجورون فقال : (وإن كان كثير من المقاتلين الذين اعتقدوا هذا قتالاً شرعياً أجروا على نياتهم ) والقطب المتجمد قال هم آثمون فشتّان بين مشرق ومغرب !!!
فشيخ الإسلام رحمه الله قال إذا رأيتموني في صف التتار وعلى رأسي مصحفٌ فاقتلوني ( فياله من عالم حكيم مجاهد )...
وأنا أقول لمجاهدي العراق من ترونه في صف الأمريكان فاقتلوه ولو كان على رأسه مصحف !!!!
فلا فرق بين التتار الأوَل والتتار الجُدد ....
الوجه الثالث :
لشيخ الإسلام موقفه الصريح في تأييده لمن قاتل المحتل في ذلك الزمان فقد قال رحمه الله : ( أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام، وهم من أحق الناس دخولاً في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)" ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام علماً وعملاً وجهاداً عن شرق الأرض وغربها. . . ) .
فنعت شيخ الإسلام المقاتلين للكفار بالطائفة المنصورة ونعتهم المخذّلون بالآثمون !!!
الشبهة السادسة :
يقول أحد المخذّلين: (يقوم الجزء الأكبر من عمليات المقاومة في العراق على أمر محرم بإجماع المسلمين )
والرد على هذه الشبهة من عدة أوجه :
الوجه الأول :
لا أدري ما هذه الإحصائية المفتعلة الكاذبة الآثمة ، فمعلومٌ من حال المجاهدين في العراق أنهم يحصدون الأمريكان حصد النعاج ومن كان في صفهم فهو منهم ...
وأتحدى هذا المخذّل أن يوثق هذه الإحصائية التي إن دلّت على شئ فإنما تدل على محض الهوى !!!
الوجه الثاني :
من زعم أن المجاهدين يستهدفون المسلمين في العراق فهو أجهل من حمار أهله !!!
كيف يستهدفون المسلمين وهم من بذلوا الغالي والنفيس للدفاع عنهم ؟!!!
الوجه الثالث :
لو تنزلنا وقلنا بوجود مثل هذه الحالات وأنه قد وقع في بعض مواطن الجهاد عدوان أو خطأ و سوء اجتهاد فلا يجوز أن يستدل به على منع الجهاد والتنفير منه ، لأن المجاهدين بشر وليسوا معصومين ، والواجب أن نسددهم ونرشدهم ونقوم أعمالهم وننصحهم مع قيامهم بجهاد الدفع الضروري لا أن نحرّم عليهم ما أوجبه الله !!! .
فلو أن رجالاً استهزؤوا في صلاتهم وسبوا الله علناً فهل يتأتى أن نقول أن الصلاة محرّمة لأنه حصل فيها بعض المفسدة !!!
فالواجب على كل مخذّل أن يُقبّل أقدام هؤلاء المجاهدين لأنهم فعلوا ما يعجز هو وأضرابه عن فعله !!!
وبهذه الردود يتبيّن أن ما جاء به هؤلاء المخذّلون ما هي إلا شنشنة نعرفها من أخزم وشبهات لا تقدح في فرضية الجهاد ، فالجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة بعز عزيز أو بذل ذليل ...
- - - - - - - - - - - - -
الهجرة من دار الإسلام :
لا تجوز الهجرة من دار الإسلام إلى دار الكفر ، إلا إذا تحولت دار الإسلام إلى دار كفر ولم يستطع المسلم إظهار دينه 0
وأما الذين يتركون دار الإسلام عمدا ، وهم آمنون قادرون على إظهار دينهم وتأمين لقمة عيشهم ، إيثارا للعافية أو حبا بالمتاع الرخيص ، فلا يجوز ذلك لهم وهم آثمون بلا شك ، وسوف يخسرون أنفسهم وأهليهم
وسوف يخسرون الدنيا والآخرة ، لأن متاع الدنيا مهما بلغ لا قيمة له أمام متاع الآخرة 0(2/191)
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً* (77) سورة النساء
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس ; الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة , يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين . حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله . فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدرة الله ; وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع , شديد الفزع , حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر - كخشية الله ; القهار الجبار , الذي لا يعذب عذابه أحد , ولا يوثق وثاقه أحد . . (أو أشد خشية) !! وإذا هم يقولون - في حسرة وخوف وجزع - (ربنا لم كتبت علينا القتال ?) . . وهو سؤال غريب من مؤمن . وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين ; ولوظيفة هذا الدين أيضا . .
ويتبعون ذلك التساؤل , بأمنية حسيرة مسكينة ! (لولا أخرتنا إلى أجل قريب !) وأمهلتنا بعض الوقت , قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف !
إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا , قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عندما يجد الجد , وتقع الواقعة . .
بل إن هذه قد تكون القاعدة ! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف . لا عن شجاعة واحتمال وإصرار . كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال . قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة ; فتدفعهم قلة الاحتمال , إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل . دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار . .
حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا , وأشق مما تصوروا . فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا . . على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم , ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ; ويعدون للأمر عدته , ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة , ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف . فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته . .
والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذا ذاك ضعافا , ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور ! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا ; وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك !
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف , الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه ; ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة . فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى , أو حفظ الكرامة . والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار , والتربيةوالإعداد , وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب . فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة ; ولم يعد هناك أذى ولا إذلال , وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص ; لم يعد يرى للقتال مبررا ; أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة !
(فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية , وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب !) .
وقد يكون هذا الفريق مؤمنا فعلا . بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى ! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا . فالإيمان الذي لم ينضج بعد ; والتصور الذي لم تتضح معالمه ; ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض - وأنها أكبر من حماية الأشخاص , وحماية الأقوام , وحماية الأوطان , إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض , وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم ; وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان , يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله ; ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض ; ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة - ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو - وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه . .
وإذن فلم يكن الأمن في المدينة - حتى على فرض وجوده كاملا غير مهدد - لينهي مهمة المسلمين هناك ; وينهى عن الجهاد !(2/192)
الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر ; والاستماع فقط إلى أمر الله وأعتباره هو العلة والمعلول , والسبب والمسبب , والكلمة الأخيرة - سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له - والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض ; ومهمته هو - المؤمن - بوصفه قدرا من قدر الله , ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة . . لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف , الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير ; ويعجب منه هذا التعجيب ! وينفر منه هذا التنفير .
(فلما كتب عليهم القتال , إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا:ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب !) .
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشىء فيه حالة من الخلخلة وينشى ء فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع , وبين الرجال المؤمنين , ذوي القلوب الثابتة المطمئنة ; المستقبلة لتكاليف الجهاد - على كل ما فيها من مشقة - بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضا . ولكن في موضعها المناسب . فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية . أما الحماسة قبل الأمر , فقد تكون مجرد اندفاع وتهور ; يتبخر عند مواجهة الخطر !
وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني:
(قل:متاع الدنيا قليل , والآخرة خير لمن اتقى , ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت , ولو كنتم في بروج مشيدة) . .
إنهم يخشون الموت , ويريدون الحياة . ويتمنون في حسرة مسكينة ! لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت ; ومد لهم - شيئا - في المتاع بالحياة !
والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها ; ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل . .
(قل متاع الدنيا قليل) . .
متاع الدنيا كله . والدنيا كلها . فما بال أيام , أو أسابيع , أو شهور , أو سنين ? ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير . إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا ?! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام , أو أسابيع , أو شهور , أو سنين . ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل ! ?
(والآخرة خير لمن اتقى) . .
فالدنيا - أولا - ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة . . إنها مرحلة . . ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع - فضلا على أن المتاع فيها طويل كثير - فهي(خير) . . (خير لمن اتقى) . . وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها . التقوى لله . فهو الذي يتقى , وهو الذي يخشى . وليس الناس . .
الناس الذين سبق أن قال:إنهم يخشونهم كخشية الله - أو أشد خشية ! - والذي يتقي الله لا يتقي الناس . والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحدا . فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد ?
(ولا تظلمون فتيلا) . .
فلا غبن ولا ضير ولا بخس ; إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا . فهناك الآخرة . وهناك الجزاء الأوفى ; الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعا !
ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه - مع هذا كله - إلى أيام تطول به في هذه الأرض ! حتى وهو يؤمن بالآخرة , وهو ينتظر جزاءها الخير . .
وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة !
هنا تجيء اللمسة الأخرى . اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة , والأجل والقدر ; وعلاقة هذا كله بتكليف القتال , الذي جزعوا له هذا الجزع , وخشوا الناس فيه هذه الخشية !
(أينما تكونوا يدرككم الموت , ولو كنتم في بروج مشيدة) . .
فالموت حتم في موعده المقدر . ولا علاقة له بالحرب والسلم . ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته . ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن ; ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده
هذا أمر وذاك أمر ; ولا علاقة بينهما . .
إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل . بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد . . وليست هنالك علاقة أخرى . . ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال . ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال !
وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر ; وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر . .
إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبه ووقاية . . فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر . وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف . وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة . .
ولكن هذا كله شيء , وتعليق الموت والأجل به شيء آخر . . إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع , وله حكمته الظاهرة والخفية , ووراءه تدبير الله . . وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب - رغم كل استعداد واحتياط - أمر آخر يجب أن يطاع ; وله حكمته الظاهرة والخفية , ووراءه تدبير الله . .
توازن واعتدال . وإلمام بجميع الأطراف . وتناسق بين جميع الأطراف . .
هذا هو الإسلام . وهذا هو منهج التربية الإسلامي , للأفراد والجماعات . . ( الظلال )
--------------------(2/193)
الهجرة وحركة الانسحاب من المجتمع(1)
(ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )
[حديث شريف ]
يمكن أن تكون قضية الهجرة التي تعني بأبسط مدلولاتها الانتقال من مكان أو هجر مكان إلى آخر لأكثر من سبب، قديمة قدم الإنسان على الأرض، وملازمة لحركة الحياة والأحياء على الرغم من قساوة الظروف ووعورة المسالك وعدم توفر الوسائل، وما يمكن أن يعاني المهاجر من ترك مألوفه ومعروفه، لأن الإنسان مدفوع بتحقيق هدفه والبحث عن وسائل سعادته وتأمين مصيره، ودوافع الهجرة كثيرة وكثيرة جداً لكن تشرف التحركات بشرف الغايات وشرعية الوسائل، لذلك تأتي الهجرة إلى الله، من عزائم الأمور، سواءً أكانت نفسية، وذلك بالانخلاع من كل العادات والعبادات والتصورات غير الإسلامية، أم كانت هجرة عملية حركية بالانتقال من موقع تبين أنه عقيم في مجال العطاء الإسلامي، إلى موقع أكثر خصباً ونماءاً أو كانت ابتداءً في الخروج لنشر الدعوة واستنقاذ البشرية من شقوتها بإبلاغها دعوة الله والتمكين لدينه في مواقع أخرى؛ تحقيقاً لمسؤولية المسلم في عملية البلاغ المبين، وثمرة لعالمية الدعوة: قال تعالى:
(وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ) ( الأنعام:92) .
الرؤية الإسلامية لقضية الهجرة
والقضية التي نريد لها أن تكون واضحة ابتداءً: أن الهجرة تعني أول ما تعني معرفة الحق، ومن ثم الارتحال إليه، والالتزام به والثبات عليه، وهي طريق الرسل والذين يسير ون على دربهم، وثمرة الإيمان الطبيعية، التي تقتضي التحرك به، وموقع من مواقع الصراع الدائب بين المؤمنين بقيادة الرسل والكافرين بمناهجهم التي يقف على رأس كل منها شيطان، ونسارع هنا إلى التأكيد: بأن الهجرة في الإسلام حركة إيجابية جهادية تمثل قمة الفاعلية والحركة على أرض المعركة الدائرة بين الإسلام الذي موطنه الدنيا كلها والكفر، ولا تندّ عن ذ لك الهجرة للقيام بتكاليف البلاغ المبين كمسؤولية منوطة بالمسلم كما قدمنا، وليست الهجرة بالمفهوم الإسلامي حركة سلبية انسحابية من المعركة هروبية من الموقع، يؤثر صاحبها السلامة ويختار طريق الدنيا، فإن حصل ذلك لفترة ضعف، أو سقوط أو عجز رؤية، أو غلبة دنيا، فهجرته إلى ما هاجر إليه وليست الهجرة الإسلامية، فالمهاجر في نظر الإسلام لا يزال في ساحة المعركة، وليس خارجاً منها، ذلك أن المعركة قد تبلغ مرحلة معينة تقل معها الفاعلية على هذا الثغر أو تكاد تنعدم فلا بد والحالة هذه من اختيار موقع آخر فاعل أو أكثر فاعلية، لا بد من وجود الرؤية والقدرة على التحرك لقتال، أو التحيز إلى فئة، إنه تغيير الموقع وليس الانسحاب من المعركة على كل حال، وليس تولية الدبر، والتولي عن المواجهة الموُقع في غضب الله قال تعالى:
(يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذٍ دبرهُ إلاّ متحرفاً لقتالٍ أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) (الأنفال: 16 ـ 17).
وليس هذا وحسب، وإنما قد تنتهي المعركة إلى مصلحة الإسلام والمسلمين؛ فلا يعني ذلك الانكفاء والأنانية والاسترخاء، وعدم التطلع إلى مواقع أخرى لمَّا تحرر بعد، ولما تصل إليها دعوة الله بعد، والمسلم مسؤول عنها ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) فلا بد من الانتقال والهجرة إليها وحمل دين الله إلى الإنسانية الحائرة، ولعلنا نلمح ذلك في سبب نزول قوله تعالى:(وأنفقوا في سبيل اللهِ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )
(البقرة: 195) ذلك أن الله اعتبر القعود عن نشر الدعوة والهجرة إلى ذلك رغم الانتصار في الموقع الحالي موقع في التهلكة. أخر ج أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم وغيرهم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سراً، إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعزَّ الإسلام فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها.. فأنزل الله يرد علينا ما قلنا.. فكانت التهلكة: الإقامة على الأموال وترك الجهاد.
__________
(1) - سلسلة كتب الأمة » نظرات في مسيرة العمل الإسلامي »[المحرم1404هـ ـ تشرين الأول (أكتوبر) 1983م](2/194)
وفي رواية أخرى: قال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس ألقي بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية . إنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار تحبباً فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره؛ حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال، والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيها؛ فنزل فينا: (.. ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.. ) فكانت التهلكة في الإقامة وترك الجهاد
[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم].
والهجرة في المفهوم الإسلامي جهاد، وقد تكون من أعلى أنواع الجهاد. قال تعالى بشأن الذين تقاعسوا عن الهجرة إلى المدينة: ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالك اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (التوبة:24).
وهكذا الآية إنما نزلت فيمن آثر القعود وانشدَّ إليه عن الهجرة والجهاد. ويمكننا أن نقول باطمئنان بأنه لولا الهجرات الإسلامية في القديم والحديث لما استقر الإسلام في كثير من بلدان العالم ووصل إليها، ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن بعض بلاد أفريقيا فتحت أكثر من مرة، ولم يستقر الإسلام فيها إلاَّ بالهجرة إليها والاستيطان هناك.
المسلم وعقدة الاغتراب
الأصل أن المسلم لا يعاني من عقدة الاغتراب، ولا يصاب بأمراض وعلل الاغتراب، من الضياع والذوبان والسقوط الحضاري والكثير من الآثار السلبية الأخرى التي تسببها الهجرات، ذلك أنه يعتقد أن الأرض لله يورثاها من يشاء من عباده، وأن الدنيا كلها وطن له ومحل لدعوته، وأن وجود الناس أياً كانوا مجاله، وأن هاجسه الدائم استنقاذهم مما هم فيه وتحقيق سعادتهم في معاشهم ومعادهم، فهو كالقمر الذي لا ينطفىء ضوؤه، فإذا غرب من مكان ظهر في مكان آخر فيكون النور، وكالماء إذا حبس في مكان تفجر في مكان آخر فيكون الزرع ويكون العطاء. وهذا لا يتعارض مع قضية الوطن والعمل على حمايته وتنميته، ولا شك بأن مكة كانت أحب بلاد الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولولا أن قومها أخرجوه منها ما خرج قال تعالى : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )( الأنفال:30)، والجهاد إذا احتل الوطن أو هدد بالاحتلال يصبح فرض عين على الجميع. قال تعالى: ( انفروا خفافاً وثقالاً.. ) (التوبة:41) لكن مع ذلك فالوطن هو القاعدة الأرضية للعقيدة، وقد يصبح بلا معنى إذا حرم المسلم فيه عقيدته التي هي من أولى حاجاته وأهم حقوقه في المواطنة، فنصل إلى المسألة الصعبة التي تعاني منها بعض مجتمعات اليوم: وطن بلا مواطنين ومواطنون بلا وطن..
ولا بد هنا من التفريق ـ بين أمرين ـ بين عقدة الاغتراب كحالة غير سوية، لأنها تؤدي إلى السقوط وضياع الهوية، وبين الحس بالاغتراب، ذلك أن الحس بالغربة حافز للتغيير، وهاجس لصنع الحضارة، وقلق سوي لا يؤدي إلى الانسحاب والهروب والرفض، وإنما يدفع إلى الفاعلية وتلمس وسائل التغيير المشروعة والمجدية؛ لأنه لو لم يشعر الإنسان بهذا التناقض بين القيم التي يؤمن بها والواقع الذي يعيشه، إذا لم يشعر بالتحدي فأنى له اكتساب الأسباب واستكناه السنن ومحاولة التغيير التي تبدأ بنفسه وتنتهي بمجتمعه.
الهجرة من دار الإسلام
دار الإسلام ودار الحرب أو دار الكفر قضية اصطلحها الفقهاء المسلمون لتقرير بعض الأحكام وللتمييز بين موطنين: موطن تسود فيه شريعة الإسلام، وتنفذ أحكامه وتحد حدوده وترفع شعائره وتعتمد تربيته، وتسود فيه قيم العدل في القضاء، والشورى في الحكم، والحرية في المعتقد، والإحسان في التعامل.. مجتمع، خلص الناس فيه من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. أما دار الحرب فهي كل وطن لا تسوده شريعة الله ولا تنفذ فيه أحكامه أو هو بكلمة مختصرة نقيض دار الإسلام .
وقد حذَّر الفقهاء ـ من باب سد الذرائع ـ ولأسباب رأوها في زمانهم من الهجرة إلى دار الحرب أو دار الكفر؛ لما يمكن أن يقع فيه المسلم من الفتنة في دينه والظلم في دنياه، وأفردوا لذلك أحكاماً معروفة في مكانها من الكتب، وقد يكون المطلوب الآخر أكثر من أي وقت مضى إعادة النظر في جميع هذه الأحكام، المبنية على النظر والاجتهاد والأحوال والمشاهدات القائمة وقتها، وذلك لعدة أسباب لسنا الآن بسبيل استقصائها وإنما يهمنا لفت النظر إليها.(2/195)
إن دار الحرب أو دار الكفر إنما تتحدد خارطتها على ضوء وجود دار الإسلام ووضوح حدودها، ونحن الآن لا نجرؤ على نفي الإسلام عن بلاد العالم الإسلامي كما يحلو لبعضهم، ولكننا لانستطيع أيضاً أن نقول بأنها دار الإسلام المستكملة للشروط التي وضعها الفقهاء، إنها ليست دار الإسلام بكل معنى الكلمة.. لكنها ليست دار كفر وحرب وجاهلية كما يحب بعض من يدعو للإسلام أن يتعامل معها أو يصورها.. إنها ليست دار الإسلام بشروطها إنما هي ديار المسلمين على كل حال التي أصابها ما أصابها تاريخياً. إن هذه الأحكام التي قررها الفقهاء قد تكون إلى حد بعيد مرتبطة بجو الحرية الذي من المفروض أ ن يتوفر في دار الإسلام وينعدم في دار الحرب والكفر،وقدرة المسلم على ممارسة الشعائر الإسلامية ونشر الدعوة والتحصن ضد الفتنة ، وفي اعتقادنا أن الأمر قد تغير الآن كما أسلفنا، إن كثيراً من البلاد التي لا يمكن أن توصف بأنها إسلامية يجد فيها الإ نسان نوعاً من الحرية والأمن قد يفتقدها في موطنه، ويستطيع أن يمارس فيه إسلامه على شكل قد لا يتوفر له في بلده، لقد تغيرت الصورة وتغير الواقع، وانتشرت المراكز والجمعيات الإسلامية في العالم كله والتي نرجو الله أن تؤدي رسالتها على الوجه المطلوب، فلا بد والحالة هذه من إعادة النظر في هذه الأحكام الفقهية المبنية على الاجتهاد. والرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه :(اخرجوا إلى الحبشة فإن فيها ملكاً لا يُظلم الناس عنده ).
لقد سمح بالهجرة وأمر بالخروج من مكة إلى الحبشة لما اشتد الظلم، وليست الحبشة دار الإسلام وإنما العدل وعدم الظلم متحقق فيها .
مفهومات مغلوطة
وقضية أخرى: فإذا كان ذلك كما أسلفنا فإن المصطلح أصلاً يصبح محل نظر، ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا استبدلنا أمة الإسلام بدار الإسلام.. وأمة الدعوة بدار الحرب أو الكفر، فقد يكون أكثر دقة وأقرب إلى الصواب.
فالناس قسمان: قسم أسلم، وقسم آخر لا يزال محلاً لدعوة الإسلام.. وقد تنبه لهذا الرازي رحمه الله في وقت مبكر فسمى المؤمنين أمة الاَّتباع، وغير المؤمنين بأمة الدعوة.
وهنا لا بد من إثارة جانب آخر في موضوع دار الإسلام ودار الحرب غير قضية جواز الهجرة وعدم جوازها، وهو لا يقل عنه أهمية: وهو أن بعض مسلمي اليوم يخلو لنفسه وتصوراته الخاصة الناشئة من النظر في بعض الجزئيات بعيداً عن الواقع ويرسم الخارطة العقيدية لدار الكفر ودار الإسلام ، ويعتمد مقدمات خاطئة أو يضع معادلات يخرج بنتيجتها إلى أن بلاد المسلمين الآن لا تعتبر دار إسلام بشروطها المعروفة، وهذا يعني عنده أن له الحق أن يمارس فيها أنماطاً من السلوك وأنواعاً من المعاملات هي محل نظر من الناحية الشرعية، وقد تتطور الأمور عنده أكثر فأكثر فيحقد على المجتمع ويعلن الحرب عليه ـ لأنه غير إسلامي ـ وبذلك يلغي نفسه ويعطل رسالته ويهتك أمته ويسقط عاجزاً عن التعامل مع مجتمعه وحمل الهداية له والخير، ويفوته أن الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم كان يطلق عليه في المجتمع غير الإسلامي قبل البعثة (الأمين ) وأنه بعد البعثة عندما اضطر للهجرة إلى المدينة المنورة وقد ائتمر به المشركون استخلف عليّاً يؤدي الأمانات إلى أهلها على الرغم من أن ذلك كان خطراً على حياته فأين نحن اليوم من منهج الإسلام السليم ؟
حضارة الهداية والأمن
لقد كانت قولة الأنبياء جميعاً على طريق الدعوة إلى الله: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلاّ على الله ) وما من الأنبياء نبي إلاّ كانت له حرفة يعيش منها، لذلك فمن المعالم الأساسية على طريق النبوة أن الحضارة الإسلامية حضارة هداية وليست وسيلة جباية.. ومن هنا فإن عملية الاحتراف بالإسلام والأكل به وقبض ثمن الدعوة الإسلامية والعمل الإسلامي من أخطر التحديات التي تهدد الكيان الإسلامي وتواجه عالم المسلمين اليوم، والفرق بعيد بين الذين يدفعون ثمن عقيدتهم، وتكون حركتهم محكومة بقولة الأنبياء ( قل لا أسألكم عليه أجراً ) وعمل الأنبياء ويكون نشاطهم كله في سبيل الله ، (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) وبين الذين يحاولون قبض ثمن الدعوة سواء أكان ذلك من داخل العمل أم من خارجه ، فالهجرة الإسلامية إنما هي هجرة هداية وليست هجرة جباية فمن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته لله ورسوله، ومن كا نت هجرته لدينا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. لقد انسلك مع المهاجرين وسار معهم وفي طريقهم .. لكن هجرته كانت للجباية .. لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها.
إن حضارة الأمن والهداية للناس لا يمكن أ ن تأتي بالأماني والأحلام والادعاء، وإنما هي جهد ومعاناة وتضحية ابتغاء وجه الله وعدم استعجال وارتجال.(2/196)
قال خبَّاب بن الأرت رضي الله عنه: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، فلقنا : ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال:(قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه، فما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمّن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ).
إنها حضارة الأمن والهداية، وليست جاهلية الإرهاب الفكري، والجباية والحقد، إن إتمام الأمر إنما يكون بتحصيل الأمن للناس وهو أول شروط الحضارة والعطاء، وهذا يذكرنا أيضاً بقولة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته من الهجرة إلى الطائف وبعد أن كان الذي كان من العذاب وبعد أن عرض عليه ملك الجبال إيقاع العقوبة بالناس: (عسى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا ً).
هجرة العقول والسواعد
العقول النابغة والسواعد القوية هي أشبه ما تكون بالمناجم والمواد الخام المركوزة بالدولة المتخلفة التي تعيش عصر ما بعد الاستعمار، والتي تتطلع إليها كثير من دول العالم لاجتيازها وتحويلها إلى دم جديد يدفق في جسم الحضارة الاستعمارية التي تسيطر عليها عقدة التفوق والتعالي؛ وبذلك يبقى الانهدام كبيراً ودائماً بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة، ويستمر امتصاص العقول والخبرات كما تستمر عملية التحكم والاحتواء. ذلك أن الدول المتخلفة يُراد لها أن تبقى عاجزة عن الاستفادة من هذه العقول، تماماً كعجزها عن الاستفادة من الخامات الموجودة في أرضها أو أشد عجزاً، ويأتي التحكم في العالم الإسلامي وامتصاص عقله وخبراته في الطليعة، فالقضية جزء من عملية الصراع الحضاري والخوف التاريخي من يقظة العالم الإسلامي.
والسبب الذي يؤدي إلى الهجرة واضح، فالدول الكبرى الاستعمارية هي القادرة على الاستفادة من هذه العقول وإغرائها بالهجرة إليها بتقديم المال من
جانب، وتدعيم أجواء القمع والإرهاب التي لا تسمح بطبيعة الحال باستيطان هذه العقول من جانب آخر، وإذا تغلبت هذه العقول على الإغراءات والظروف وحيل بينها وبين الهجرة لسبب أولاً فإنها تمارس نوعاً آخر من الهجرة وهي هنا ليست الهجرة إلى خارج الوطن، وإنما هي الهجرة في الوطن نفسه، ذلك أن أجواء القمع والقلق والإرهاب الفكري تصيب ملكات الإنسان بالعطالة الكاملة، فتجعل من العالم والباحث والمفكر إنساناً عادياً يمارس طعامه وشرابه وشهواته كأي مخلوق آخر، وقد يستنفد طاقته ليحصل على ذلك.
فكيف لنا والحالة هذه أن نطلب الإبداع والنبوغ والتقدم للمجتمعات المهاجرة؟!
وفي الحقيقة أن معظم الذين عرضوا لقضية هجرة العقول والخبرات إلى الدول المتقدمة تنازلوا بمعالجاتهم الأغراض والمظاهر، ولم يتناولوا الأسباب الحقيقية للظاهرة؛ لأن تناول الأسباب بجرأة وصدق قد يجعل منهم مهاجرين .
والأمر القديم الجديد الذي يلفت النظر أن الأجواء الرعيبة التي دفعت هذه العقول إلى الهجرة تحاول الامتداد والمطاردة والملاحقة حتى في بلدان المهجر؛ لأن وجود المهاجر مهما كانت الظروف يبقى شاهد إدانة دائم على الأسباب التي اضطرته للخروج؛ فلقد أرسلت قريش في إثر المسلمين المستضعفين إلى الحبشة تغري بهم ملكها ليسلمهم إليها لأنهم آبقون، ونسيت أن الذي دفعهم إلى الهجرة الظلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (إن في الحبشة ملكا لا يظلم الناس عنده )..
والمسلم اليوم أمام هذا أمام هذا المفترق من الطرق وأولى به أن يختار المركب الصعب فيبقى في بلده طالما أمكنه البقاء إذا تبين له أن إمكاناته وطاقاته ستوظف بهجرته إلى أعداء دينه وعقيدته، وإن كان لا مناص من الهجرة لسبب خارج عن إرادته فليبصر أين يضع قدمه؟ وكيف يفيد من ثغره الجديد ؟(1)
=================
إلى أين سيهاجر المسلم اليوم ؟
وأما اليوم فإلى أين يهاجر المسلم ؟ وغالب بلاد الإسلام مستباحة للكفار والفجار
والمسلمون يحاربون في عقر دارهم ومن أبناء جلدتهم قبل غيرهم بحجة محاربة التطرف والإرهاب وغير ذلك من حجج شيطانية ،أملاها عليهم شياطين الإنس والجن ، وكذلك في بلاد الكفار فهو غير آمن على دينه ولا على عرضه ولا على نفسه فإلى أين المفر ؟
لا مفر إلا إلى الله تعالى وحده دون سواه
قال تعالى : { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (50) سورة الذاريات
__________
(1) - قلت : أنا متحفظ على بعض كلامه حول تغيير اسم الدور فهو مخالف للإجماع(2/197)
والتعبير بلفظ الفرار عجيب حقا . وهو يوحي بالأثقال والقيود والأغلال والأوهاق , التي تشد النفس البشرية إلى هذه الأرض , وتثقلها عن الانطلاق , وتحاصرها وتأسرها وتدعها في عقال . وبخاصة أوهاق الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود . ومن ثم يجيء الهتاف قويا للانطلاق والتملص والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود ! الفرار إلى الله وحده منزها عن كل شريك . وتذكير الناس بانقطاع الحجة وسقوط العذر: (إني لكم منه نذير مبين) . . وتكرار هذا التنبيه في آيتين متجاورتين , زيادة في التنبيه والتحذير ! ( الظلال )
------------------
ففروا إلى الله(1)
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، أحمده سبحانه وأشكره جعل الفوز والنجاح لمن استمسك بعرى الدين ، وجعل الوبال والخسران على من أعرض عن طريق الهدى أو كان من الغافلين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمان الخائفين ومجيب دعوة المضطرين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صادق الوعد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين .
أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة المذنبة أولاً بتقوى الله فهي طريق النجاة من النار يوم الدين يقول الله جل جلاله : {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا()ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}([1]) .
أيها الأحبة في الله هل رأى منكم فاراً من مهلكة ؟ ليتصور كل واحد منا كيف يكون حاله إذا برز له أسد فجأة على الطريق وأخذ يعدوا وراءه ، أو برز له عدو مسلح وأخذ يطارده، فكيف يكون ردة فعل المطارد أيمشي على هون ؟ أيتلفت يمنة ويسرة ؟ أم أنه ينطلق بكل ما أوتي من قوة يعدو ولا يشغل باله في تلك اللحظات إلا النجاة والأمان من مطارده ؟
__________
(1) - الدكتور عصام بن هاشم الجفري(2/198)
الفرار ليس له إلا صورة واحدة ألا وهي الانطلاق بكل ما أوتي الفار من قوة طلباً للنجاة ، فهل جرب كل واحد منا الفرار ؟ الفرار أمر حتمي لكل واحد منا لأنه أمر رباني أمرنا الله به ، لكن الفرار إلى أين؟ لقد حدد الله لك الوجهة ورسم لك الطريق فقال سبحانه:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}(2)، نعم إنه الفرار إلى الله ، تفر إلى الله لأن خلفك عدوك إبليس يسعى خلفك جاهداً بكل ما أوتي من قوة ليجعلك من أصحاب السعير أخبرك بذلك ربك وحبيبك يوم أن قال : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(3)، ومع الأسف هناك من الناس من عكس طريق سيره فسار باتجاه عدوه ففرح به ذلك العدو واحتضنه فأصبحت ترى شيطاناً في ثوب إنسان؛ لا يدع طريقاً من طرق الفساد إلا سلكه وبلا تردد وليته سلكه وحده لا بل قام يدعو إليه ويحبب الناس فيه ؛ وأمثلة هذا الصنف في حياتنا عديدة فمنهم المنادون بحرية المرأة وإفسادها ومنهم القائمون على القنوات بفحشها وفجورها والقائمة تطول ، فلماذا كانوا كذلك لأنهم ما استجابوا لنداء اللطيف الخبير : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}، تفر إلى الله لأن خلفك الدنيا بفتنتها وشهواتها وزينتها ؛ فكم من عبد تباطأ في فراره إلى الله والتفت يمنة ويسرة إلى الدنيا فأسرته فشغل عن الفرار إلى الله بعماراته أو شغل عن الفرار إلى الله بأمواله أو شغل عن الفرار إلى الله بزوجته وأولاده أو شغل عن الفرار إلى الله بمنصبه وجاهه فهلك مع الهالكين كم من عبد جعل فراره إلى الدنيا فهو يفر إليها بكل ما أوتي من قوة فمنهم من يسير بسيارته مسرعاً حتى لا تفوته مباراة في كرة القدم حاسمة،ومنهم من يفر بكل قوته حتى لا تفوته صفقة رابحة،ولمثل هؤلاء يقول العليم الحكيم:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(4)، وقد يقول قائل أيعني الفرار إلى الله تعطيل الحياة الدنيا؟ فنقول له: لا.ولكن الله يوم أن أمرنا بالسعي لطلب الرزق لم يأمرنا بالفرار وإنما أمرنا بالمشي يقول الرزاق الكريم:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(5)، والمشي له صور عدة فالصغير يمشي والكبير يمشي والشاب يمشي والعجوز يمشي والمرأة تمشي والرجل يمشي ولكل مشيته فمنهم من يمشي مسرعاً ومنهم من يمشي على مهل، فهل أدرك العباد الفرق بين المشي والفرار ، فالمشي له صورٌ عدة ولكن الفرار ليس له إلا صورة واحدة ، الماشي يمشي وقد يشغل فكره بأمور عدة أو بما يراه أثناء مشيه،ولكن الفارَّ لا تسيطر على عقله إلا فكرة واحدة وهي النجاة،فلمن انشغلوا بدنياهم أقول لهم فروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين،ومن فضل الكريم الرحيم علينا معاشر المؤمنين أنه لم يجعل من عملية الفرار إليه عملية صعبة ولم يجعلها في طريق وعرة بل مهد لنا سبحانه وتعالى بفضله وكرمه طريق الفرار إليه ويسر لنا سبله فأنت تستطيع أن تفر إلى الله على كل حال من أحوالك وأنت سائر وأنت واقف وأنت قاعد وأنت نائم وأنت في بيتك وأنت في حيك وأنت في عملك أو سوقك تستطيع الفرار إلى الله؛ فأنت بخروجك للكسب لتعف نفسك وأهلك عن الحرام تفر إلى الله ، بقيامك للصلاة تفر إلى الله ، بذكرك لله تفر إلى الله ، بقراءتك للقرآن تفر إلى الله، بالصدقة تفر إلى الله، بإهداء كتب الخير وأشرطة الخير للمسلمين تفر إلى الله،بصلتك لرحمك تفر إلى الله ، بأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر تفر إلى الله ، بتربيتك لأولادك وبنياتك على هدى الشريعة تفر إلى الله(2/199)
معاشر الفارين إلى الله إن من رحمة الله تعالى بنا وبكم أنه إذا علم من عبده صدق الفرار إليه أعانه ووفقه ولم يتركه وحده واستمعوا معي إلى وعد من لا يخلف الميعاد يوم أن قال:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(6). ويقول جلت عظمته : {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}(7). وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً))(8).فماذا تنتظروا أيها الأحبة في الله هذه الطريق ميسرة وهذا ربكم معين لكم ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين.أيها الأحبة في الله إني أدعوكم ونفسي لنتأمل في حالنا هل نحن فارون إلى الله كما أمرنا ؟ هل إذا نادى منادي الله حي على الصلاة حي الفلاح فررنا إلى بيوت الله نرتجي الثواب من الله ؟ أم أنا ننتظر الإقامة فإذا قامت الصلاة قمنا للوضوء متثاقلين لا يهمنا أن تفوتنا تكبيرة الإحرام أو تفوتنا ركعة أو ركعتان ؟ هل إذا سمعنا منادي الله ينادي في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم فزعنا من فرشنا وانتزعنا أنفسنا من الفرش الوثيرة والأحضان الدافئة وفررنا إلى الله ؟ هل فررنا إلى الله بتلاوة شيء من كتابه في كل يوم ؟ هل ..وهل..وتطول الأسئلة وكل أدرى بنفسه . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ()وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}(9).
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آ له وصحبه وسلم . أما بعد : فاتقوا الله عباد الله وفروا إلى ربكم واعلموا رحمني الله وإياكم أن معنى الفرار إلى الله أن لا يشغل العبد فكره أو قلبه بشيء من الدنيا وإنما أن تكون الفكرة المسيطرة على حياته هي طلب الرضوان من الله عند ذلك يسخر العبد كل دنياه لله فهو إذا عمل فلله وإذا أكل فلله وإذا شرب فلله وإذا أحب فلله وإذا أبغض فلله ، إذا سيطرت هذه الفكرة على أفراد المجتمع يختفي ما يراه العبد من صراع على الدنيا واقتتال عليها وتحولها من وسيلة إلى غاية ، أخي الحبيب هاهو عمرك ينصرم وتطوى صفحته بكل ما حملته وعملت فيه من خير أو شر فإن كنت في سيرك إلى الله فيما مضى من عمرك بطيئاً ولم تفر إلى الله حق الفرار ففر إليه الآن من هذا المكان المبارك وفي هذا اللحظات الفاضلات اجعل منها نقطة انطلاقك في فرارك إلى ربك وخالقك،اجعلها لحظة استجابة لنداء الله يوم أن ناداك ففروا إلى الله،يا عبد الله إلى متى التسويف ؟ إذا لم تفر إلى الله الآن وأنت بكامل قوتك وعافيتك فمتى تفر ؟ أتفر بعد أن يشيب شعرك وتضعف قوتك وتتراكم على جسدك الأمراض والعلل ؟ أتفر إلى الله بعد أن تشخص عينك وتشل أطرافك وتصبح جثة هامدة ؟ كم من مفرط فرط وفرط حتى فجاءه الموت فقام يصرخ بصوت ملؤه الندم:{... رَبِّ ارْجِعُونِ()لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ()فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ()فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ()وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ()تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}(10) .
----------------------
([1]) مريم:71-72.(2)الذاريات:50.(3)فاطر:6.(4)الحديد:20.(5)الملك:15.(6)العنكبوت:69.(7)النحل:128.
(8) البخاري،كتاب التوحيد،ح6856.(9)الذاريات:50-51.المؤمنون:99-104.
-------------------
الخوف شعار العارفين
إن من أعظم المهمات التي بعث لأجلها النبي صلى الله عليه وسلم تزكية النفوس وتطهيرها، كما قال الله عز وجل: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [الجمعة:2].(2/200)
وقد جعل الله تعالى فلاح العبد منوطًا بتزكية نفسه، فقال سبحانه وتعالى بعد أحد عشر قسمًا متواليًا: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس:9، 10].
ومما لا شك فيه أن من أهم الوسائل لتزكية النفوس هو تربيتها على الخوف من الله عز وجل. قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
"ومن منازل { إياك نعبد وإياك نستعين } منزلة الخوف، وهي من أجلِّ منازل الطريق، وأنفعها للقلب، وهي فرض على كل أحد".
وقال أيضًا رحمه الله :
" القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فُقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر".
وإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها؛ إذ الخوف سوط الله الذي يقوِّم به الشاردين عن بابه ويصدهم به عن نار الجحيم والعذاب الأليم.
قال الفضيل رحمه الله: من خاف الله دله الخوف على كل خير.
واعلم أن الخوف إذا فارق القلب خَرِب، وتجرأ صاحبه على المعاصي.
وكيف لا يخاف العبد في هذه الدار وهو يعلم أنه مقبل على أهوال عظام:
فهو لا يدري بماذا يختم له.. قال سهل: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة، وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال: { وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ...} [المؤمنون:60].
ولما احتضر سفيان الثوري - رحمه الله - بكى بكاءً شديدًا. فقيل له: عليك بالرجاء؛ فإن عفو الله أعظم من ذنوبك. فقال: أو على ذنوبي أبكي؟! لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا.
ثم هو مقبل على القبر وسؤال الملكين، ولا يدري أيثبت أم لا؟.. جلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير قبر فبكى ثم قال: "أي إخواني لمثل هذا فأعدوا".
ثم إذا أعمل فكرة في أهوال الحشر، والميزان، والصراط، وانصراف الناس إما إلى جنة وإما إلى نار لاستولى الخوف على قلبه فحجزه عن الكثير من المحرمات. فكل من خاف شيئًا فر منه، لكن من خاف الله فر إليه: { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } [الذاريات:50]
درجات الخوف :
ذكر بعضهم أن للخوف درجات :
الدرجة الأولى: خوف العقوبة
وهو الخوف الذي يصح به الإيمان، وهو خوف العامة، وهذا الخوف يتولد من تصديق الوعيد، وذكر الجناية، ومراقبة العاقبة، وترحل هذا الخوف من القلب علامة ترحل الإيمان منه.. قال الله تعالى: { وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران:175].
الدرجة الثانية: خوف المكر
فكم من مغبوط بحاله انعكس عليه الحال، ورجع من حسن المعاملة إلى قبيح الأعمال، فأصبح يقلب كفيه ويضرب باليمين على الشمال، فبُدِّل بالأُنس وحشة، وبالحضور غيبة، وبالإقبال إعراضًا، وبالتقريب إبعادًا.
وأعلى الدرجات: خوف العبد الحجاب عن الرب: وهذا خوف العارفين
وكلما كان العبد أعلم بالله وأعرف بصفاته سبحانه كلما كان خوفه أشد.. قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر:28]. ولهذا وجدنا سيد الخلق محمدًا صلى الله عليه وسلم أخوف الناس، فقد قيل له: يا رسول الله شِبْتَ! قال: ( شيبتني هود وأخواتها ) . وهو صلى الله عليه وسلم الذي قال عن نفسه: ( إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية ) .
وقد ذكر بعض العلماء أن الخوف له قصور، وإفراط، واعتدال، فالمحمود منه هو الاعتدال والوسط، وذلك الذي يحمل صاحبه على فعل الواجبات وترك المحرمات، فإن زاد بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والكف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات؛ كان أفضل وأحسن.
وأما القاصر فذلك الذي يجري مجرى رقة النساء، يخطر بالبال عن وجود سبب من الأسباب كسماع آية أو موعظة أو غير ذلك، فتفيض الدموع ويوجل القلب، ثم إذا زال السبب عاد لما كان عليه من الغفلة، فهذا خوف قاصر قليل الجدوى.
وأما الإفراط في الخوف بحيث يخرج صاحبه إلى اليأس والقنوط أو يورث مرضًا أو همًا بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المحبوبة لله، فإن ذلك مذموم غير محمود.
رزقنا الله خشيته ومخافته في السر والعلن، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلم.
----------------
ففروا إلى الله(1)
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فنحن جميعاً ركاب سفينة واحدة إن نجت نجونا جميعاً وإن هلكت هلكنا جميعاً.
ولقد حسم النبي هذه الحقيقة في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير أن رسول الله قال: { مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً }.
__________
(1) - موسوعة الدين النصيحة 1-5 - (ج 2 / ص 40)(2/201)
فواجب على أهل الحق من المصلحين الصادقين أن ينذروا، ويحذروا أهل الفساد، والواقعين في حدود الله عز وجل، وأن يأخذوا على أيديهم قبل أن تغرق السفينة بالجميع.
وهذا الواجب قد جعله رسول الله فرض عين على كل مسلم على اختلاف مراتبه ودرجاته. ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: { من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان }.
وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن مسعود أن النبي قال: { ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل }.
فإن عجز أحد من الناس أن ينكره بيده أو بلسانه فإن إنكار القلب كمرتبة الإنكار فرض عين على كل مسلم ومسلمة ولا يعذر بتركه على الإطلاق.
وذلك بكره المنكر وبغض أهل المنكر، أما هذه السلبية المدمرة القاتلة التي يرفع العلمانيون شعارها بقولهم: ( دع ما لقيصر لقيصر و ما لله لله. فلا سياسة في الدين ولا دين في السياسة. ولكل أحد أن ينتقد ما يشاء وأن يفعل ما يشاء في أي وقت شاء وأن ينطلق ليختار لنفسه من المناهج والقوانين ما يحب ويرضى، وليس من حق أحد أن ينكر عليه أو أن يأخذ على يديه!! ).
بل وقد يتشدق أحدهم كالثعلب في ثياب الواعظين ويردد قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105].
وقديماً خاف صديق الأمة الأكبر أبوبكر وأرضاه خاف هذه السلبية القاتلة، من منطلق فهم مغلوط مقلوب لهذه الآية الكريمة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله يقول: { ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيرون، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب }.
وهكذا فإن وجود المصلحين الصادقين سبب من أسباب النجاة من الإهلاك العام، فإن فقدت الأمة هذا الصنف الكريم الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحل عليها عذاب الله وإن كثر فيها الصالحون الطيبون لأنهم سكتوا حتى كثر الخبث وأصبح أمراً عادياً مستساغاً تألفه النفوس.
وحينئذ يستحق الجميع عقاب الله جل وعلا كما في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها يوماً فزعاً وفي رواية استيقظ يوماً من نومه فزعاً وهو يقول: { لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، لقد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه } وحلق بإصبعيه السباب والإبهام فقالت زينب يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون قال: { نعم إذا كثر الخبث }.
ولقد بوب الإمام مالك رحمه الله في موطئه باب بعنوان ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة.
بل قد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند حسن من حديث عدي عن عمير أن النبي قال: { إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكرون، فإذا فعلا ذلك عذب الله الخاصة والعامة }.
انتكاس الفطرة
حيث أننا نرى مؤامرة مفضوحة يريد أصحابها وأذنابها أن يفرضوا على المجتمعات المسلمة ما وصلت إليه المجتمعات الغربية الكافرة من انتكاس سحيق للفطرة.
فالجاهلية الحديثة في أوروبا وأمريكا لم تكتف بنشر الزنا، والشذوذ الجنسي، ونكاح الحارم بل قننت لهذا.. ! !، وأصبح هذا الانتكاس للفطرة أمراً عادياً عندهم لا يثير الدهشة أو التساؤل.. !!
وهم الآن يريدون أن يملوا ويفرضوا هذا الانحراف الشاذ على المجتمعات المسلمة.
وقد صدرت دراسات عديدة تبين أن اليهود وأتباعهم، قد نجحوا من خلال سيطرتهم على بيوت المال، وأجهزة الإعلان المرئية.. والمسموعة.. والمقروءة، قد نجحوا في نشر الرذيلة في العالم كله بصفة عامة، وفي أوروبا وأمريكا بصفة خاصة. حتى أضحت المشكلة كبيرة وخطيرة بشكل لا يتصور.
وإليك - أخي المسلم - بعض ما جاء في هذه الدراسات:
أولاً: تشير الدراسة إلى أن 90% من غير المتزوجات يمارسن الزنا بطلاقة أو من حين لآخر في أوروبا وأمريكا.
ثانياً: تشير الدراسة إلى أن عدد حالات الإجهاض الجنائي قد بلغ في عام 1983 إلى 50 مليون طفل !!!.
ثالثاً: أصبح الحمل لدى المرهقات، مشكلة كبيرة في أوروبا وأمريكا ففي أمريكا وحدها أكثر من مليون فتاة صغيرة تحمل سنوياً من الزنا.
ولم يتوقف الأمر عند الزنا فقط بل انتشر الشذوذ الجنسي بكل صورة، ما دام بدون إكراه.. !!
بل وتكونت آلاف الجمعيات والنوادي التي ترعى شئون الشاذين والشاذات.
وتشير الدراسات إلى أن عدد الشواذ في أمريكا وحدها أكثر من عشرين مليوناً وأصبحت لهم معابد وكنائس خاصة تقوم بتزويجهم.. أي تزويج الرجال للرجال، وتزويج النساء للنساء.. في حفلات خاصة يدعى إليها الأهل والأصدقاء!!!(2/202)
بل لم يتوقف هذا الانتكاس السحيق عند هذا الحد بل تعداه أيضاً إلى نكاح المحارم من الأمهات والأخوات.
وأول من دعا إلى ذلك فرويد اليهودي الذي جاء بنظريات هابطة لا تقوم إلا على الجنس.
حتى ادعى أن الطفل لا يحب أمه إلا حباً جنسياً محضاً.. !! و لهذا يكره الابن أباه.. !! وسمى فرويد اليهودي هذه الكُره بعقدة "أوديب".
وقال بأن الفتاة أو البنت أيضاً لا تحب أباها إلا حباً جنسياً محضاً.. !! و لذا تكره أمها، و سمى هذه الكُره بعقدة "إليكترا".
ومما يدمي القلب أن هذا الهراء.. والغثاء.. يدرس لأبنائنا وبناتنا في أخطر المراحل الدراسية.. !! على أنه من أبواب علم النفس، وهذا شئ يؤلم النفس ولا يعلمها !!!
ولقد نشرت مجلة التايم الأمريكية تحقيقاً واسعاً عن نكاح المحارم وذكرت فيه تقرير أحد الباحثين:
( لقد آن الأوان لكي نعترف بأن نكاح المحارم ليس شذوذاً.. !!، ولا دليلاً على الاضطراب العقلي.. !! بل قد يكون نكاح المحارم، وخاصة بين الأطفال وذويهم أمراً مفيداً لكليهما.. !!! ) أليس هذا انتكاساً للفطرة؟ !!
قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].
و قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
ونتيجة لهذا الأمن من مكر الله، بل لهذا الكفر بمنهج الله، ابتلي الله هذه المجتمعات الغربية الكافرة بهذه الأمراض الفتاكة الخطيرة التي وقفوا أمامها وقفة العاجز على الرغم مما وصلوا إليه في الجانب العلمي.
عقاب إلهي
نعم إنه عقاب إلهي لكل من خرج من منهج الله وتحدى الفطرة فلقد انتشر الإيدز المعروف بمرض نقص المناعة، وبدأ يتزايد في السنوات الأخيرة بصورة مرعبة فلقد ذكرت منظمة الصحة العالمية في اجتماعها المنعقد في باريس في يونيه عام 1986م ذكرت أن عدد الذين يحملون فيروس الإيدز يتراوحون ما بين خمسة عشر مليون شخص.
هذا في عام 1986م فما بالنا كم بلغ عددهم الآن؟؟!! وقد خصصت أمريكا ألفي مليون دولار سنوياً للإيدز.
ومما يثير الرعب والخوف أن هذا المرض لم ينج من براثنه أحد من المصابين به على الإطلاق حتى الآن رغم هذه الملايين التي تنفق بسخاء في الأبحاث للوصول إلى علاج لهذا المرض الفتاك، ولن يصلوا إلى العلاج الحقيقي على الإطلاق، ما دامت الأسباب الحقيقية لانتشاره لازالت موجودة. وهي انتشار الزنا والشذوذ الجنسي بكل صورة.
وهذا ما أكدته الأبحاث والدراسات العلمية في أن هؤلاء هم أكثر الناس إصابة بهذا المرض الخطير.
هذا بالإضافة إلى الأمراض الخطيرة الأخرى التي انتشرت واستشرت كالسرطان و الزهري والهربس والسيلان وغيرها.
وتحقق قول من لا ينطق عن الهوى إذ يقول: { لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم }.
وأخيراً: لا ملجأ من الله إلا إليه
فلا سعادة للبشرية عامة، وللمسلمين خاصة، إلا بالعودة لمنهج الله عز وجل الذي خلق الإنسان وحده، وهو وحده الذي يعلم ما يسعده و ما يفسده أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
فمنهج الله لا يحارب دوافع الفطة ولا يستقذرها إنما ينظمها ويطهرها ويرفعها عن المستوى الحيواني والبهيمي ويرقيها إلى أسمى المشاعر والعواطف، التي تليق بالإنسان كإنسان، ويقيم العلاقة بين الرجل والمرأة فقط على أساس من المشاعر النبيلة الرقيقة الراقية الطاهرة فيقول سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ويهيئ منهج الله المناخ الطاهر النظيف ليتنفس المسلم في جو اجتماعي طاهر نقي يتفق مع الفطرة السوية.
بل ويحدد منهج الله كثيراً من الضمانات الوقائية التي تحمي المجتمع المسلم من الوقوع في مستنقع الرذيلة الآسن العفن.
ثم يعاقب بعد ذلك من ترك هذه الضمانات طائعاً مختاراً، و راح ليتمرغ في وحل الرذيلة والفاحشة وليعيث في الأرض الفساد.
وهذا هو قمة الخير للإنسانية كلها، ولتعيش الجماعة كلها، في هدوء وأمان. إذ أن منطق العقلاء يقول:
لو أن إنساناً أصيب في طرف من أطرافه بمرض السرطان وقرر الأطباء أنه إذا لم يبتر هذا الطرف فإن الداء سوف يسري في جميع الجسد ويقضي على حياة صاحبه. أما يكون من الرحمة أن نستأصل هذا الطرف للإبقاء على حياته بإذن الله جل وعلا.(2/203)
كذلك الفرد إذا استعصى علاجه ولم تؤثر فيه تربية ولم تنفعه موعظة ولم يقبل نصيحة وتأصلت روح الجريمة في نفسه وقام منتهكاً للأعراض مضيعاً للحرمات.
أيكون الأخذ على يديه لكف شره عن الجماعة كلها قسوةً وعنفاً؟ !! لا والله بل إنها الرحمة والحكمة بعينها مصداقاً لقول ربنا عز وجل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
ومن هنا جاء منهج الله بهذه الأحكام ليحفظ على الإنسانية عرضها وشرفها ونسلها.
فقال الله سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3،2].
أما إذا كان الزاني محصناً فإنه يرجم كما دلت على ذلك السنة الصحيحة.
وقد عاقب الله قوم لوط أشد العقاب لاتنكاس فطرتهم وخروجهم عن منهج الله الذي أمرهم به نبي الله لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام:
قال الله تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ [النمل:54-75].
وقال تعالى في حقهم: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ [الحجر:74].
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : { من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه الفاعل والمفعول به }.
وبعد.. فلقد آن الأوان بعد ما رأينا هذه المآسي أن نفيء جميعاً إلى منهج الله. إذ لا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بالعودة إلى منهج الله بعد أن أحرقنا لفح الهاجرة القاتل، وأرهقنا طول المشي في التيه والظلام.
وها هو الإسلام لازال يعرض نفسه كمخلص للبشرية كلها من كل أمراض وعللها لأن هذه الحيلة البشرية من خلق الله ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله.
وأخيراً أردد مع مؤمن آل فرعون: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
وصلى الله على نبينا محمداً وعلى آله وأصحابه أجمعين.
-----------------
ففروا إلى الله!(1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فإن قلوب العباد أوعية لما أُودِع فيها من العلوم، وظروف لما جُعل فيها من المعارف بالأمور، وهي مع ذلك تصدأ إذا أُهملت كما يصدأ الحديد، وتضطرب وتفور كما يفور المرجل؛ إذا فتحت أبوابها للوساوس والشكوك والشهوات والشبهات، ويعلوها الران إذا تُرِكت نهباً لإبليس وجنوده، حتى إنها لتصير من أثر ذلك معتمة لا تتمكن من الإبصار ومعرفة الحقائق حتى لو كانت في غاية الوضوح، ويزداد الإعتام كلما بَعُدَ الناس عن ربهم حتى تصل إلى درجة الإغلاق التام. قال الله ـ تعالى ـ: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين : 14] فعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء؛ فإذا هو نزع واستغفر وتاب سُقِل قلبه، وإن عاد ِزيدَ فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين : 14]»(1) قال الطبري: «فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختمُ من قِبَل الله ـ عز وجل ـ والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص»(2). وعن حذيفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً؛ فأي قلب أُشْرِبَها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادّاً كالكوز مجخيّاً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشْرِبَ من هواه»(1).
__________
(1) - مجلة البيان - (ج 223 / ص 34)(2/204)
ولا يتمكن العبد من النجاة من ذلك إلا بالفرار إلى الله ـ تعالى ـ والرجوع إلى ربه والإنابة إليه، والذل والخضوع والانكسار بين يديه، والاستغفار والتوبة، والاعتماد عليه ـ تعالى ـ في الأمور كلها؛ فهو ربه ومليكه، وخالقه ورازقه، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، قلبه بين يديه يقلِّبه كيف يشاء، وهذا هو الفرار إليه الذي طلبه الله منا بقوله ـ تعالى ـ: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات : 50] فهو ـ سبحانه ـ الملاذ والملجأ وهو المغيث، ولا ملجأ منه ـ تعالى ـ إلاَّ إليه. يقول ابن جرير: «فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتِّباع أمره، والعمل بطاعته».
والفرار لا يكون إلا إلى الله ـ تعالى ـ ولا يكون إلى أحد من خلقه؛ فإن الله ـ تعالى ـ هو رب العالمين وهو الفعال لما يريد، والخلق بأجمعهم لا يقدرون على شيء إلا ما شاءه الله ـ تعالى ـ: {وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير : 29]، ومن فرَّ إلى غيره لم يمتنع منه، حتى يفر الإنسان من نفسه التي بين جنبيه إلى ربه خالقه ومولاه؛ فراحة الإنسان وأنسه وسعادته وأمنه واطمئنانه إنما يكون بالفرار مما سوى الله إلى الله تعالى.
وقد عبر القرآن عن الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ بلفظ الفرار لبيان الحزم والجدية والفورية التي ينبغي أن يتعامل بها في مثل هذا الأمر؛ فهو ليس أمراً على التراخي؛ فشأن المخالفة والمشاققة لله ولرسوله أمر جلل مخيف حقه أن يُفَرَّ منه ويُقلَع عنه بأقصى ما يمكن.
والتعبير بلفظ الفرار يدل على شدة القيود التي تكبل الإنسان، أو على شدة المغريات التي تأسره حتى يحتاج إلى الفرار؛ وإلا فلا يستطيع أن يخرج من دائرة تأثيرها، كما أن التعبير بالفرار يفصح عن سرعة الإهلاك والعذاب التي تنتظر المتواني أو المتباطئ؛ فالأمر لا يحتمل الإبطاء في الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ فالفرارَ الفرارَ إليه يا عباد الله؛ فإنه لا مهرب منه إلا إليه.
والإنسان في غالب شأنه لا يفر إلا مما يخاف منه أشد الخوف ولا قدرة له على دفع ضره وأذاه، ولا يفر إلى شيء إلا إذا كان يجد عنده الأمن والطمأنينة؛ فكان في هذا التعبير القرآني الموجز أصرح الدلالة على أن الشقاء والبؤس والتعاسة والخسارة الكاملة التي لا ربح بعدها، في البعد عن الله والفرار منه إلى غيره، كما أن الخير والفلاح والربح المضمون الذي لا تعقبه خسارة، في القرب إلى الله والفرار إليه.
والفرار إلى الله كما يكون بالعمل بطاعته والتوبة إليه، يكون أيضاً بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة أو المعصية إلى دار السنة أو الطاعة، ومن أعدائه إلى أوليائه؛ فهو متضمن للولاء والبراء والثبات على الدين؛ فالأول فرار بالقلب، والثاني فرار بالجسد، والثالث فرار بالقلب والجسد معاً، وكل نوع من الفرار مطلوب من المرء كلٌّ على حسب حاله.
والمسلم في حاجة دائمة إلى الفرار إلى الله ـ تعالى ـ والاستغفار والتوبة إليه في كل آن وحين؛ فبالفرار إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ والاستغفار والتوبة يُستَنزَل الغيث، ويستجلَب المال والولد، ويشتد الساعد وتزيد القوة التي يتمكن بها المرء من فعل ما يريد. قال الله ـ تعالى ـ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح : 12]، وقال ـ تعالى ـ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإن تَوَلَّوْا فَإنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود : 3] وقال ـ تعالى ـ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود : 52].
والفرار إلى الله ـ تعالى ـ ليس عملاً قلبياً أو وجدانياً فحسب، ثم ينغلق المرء بعدها على نفسه فلا يكون لذلك الفرار أثر في الواقع، ولكنَّ الفرار مبتداه من القلب، ثم ينساح على الجوارح كلها فيغمرها فيه، حتى تكون تابعة له تعمل ما يأمرها به، ولا تمتنع منه، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»(2). وكما قال الصحابي الجليل أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «القلب ملك وله جنود، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده»(3). وجنود القلب هي أعضاء البدن، فإذا كان الفرار انغلاقاً بالنفس عما حولها بحيث لا يؤثر فيها، فهو انسحاب من الحياة وهروب غير محمود، وهؤلاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما فروا إلى الله غيَّروا وجه الأرض حتى عمَّها التوحيد والعدل بعد أن غلب عليها الشرك والظلم.(2/205)
ولا يكون الفرار انسحاباً محموداً من الحياة إلا في آخر الزمان، عند غلبة الجهل وفساد الناس، حين لا يجدي العمل والدعوة، فيكون الفرار حينئذ حفاظاً على الدين ورعاية له. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن»(1). قال ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ: «والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه»(2).
وقد يقع في ذهن البعض أو الكثيرين أن الفرار إلى الله ـ تعالى ـ والاستغفار والتوبة لا تكون إلا من العاصي أو عند الوقوع في المعصية، وهذا وَهْمٌ غير صحيح، بل العبد محتاج إلى ذلك ولو كان على غير معصية، بل يحتاج إليها مع الطاعة في كل تقلباتها: قبل الطاعة وفي أثناء الطاعة وبعد الانتهاء منها. قال الله ـ تعالى ـ لعباده وهم في أثناء طاعة من أجلِّ الطاعات، وهي فريضة الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة:199]. فأمرهم بالاستغفار وهم يؤدون النُّسُك، كما أمرهم ـ تعالى ـ بالاستغفار بعدما أمرهم بكثير من الأعمال الصالحة والواجبات، فقال ـ تعالى ـ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[المزمل:20]، وقد نادى الله ـ تعالى ـ المؤمنين باسم الإيمان وأمرهم بالتوبة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التحريم:8] وقال ـ تعالى ـ: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وهذا رسولنا الكريم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول لأصحابه: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة»(3)، ويقول: «واللهِ! إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»(4).
لقد كان الفرار إلى الله ـ تعالى ـ هو مصدر القوة والعزة والمنعة التي كان يعيشها المسلمون الأولون، وهو الذي كان سبباً في انتصارهم وظهورهم على من ناوأهم ممن خالفهم وعاداهم؛ حتى إن أحدهم ليسرع الفرار إلى الله ولو كان في ذلك موته؛ فعندما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر للمسلمين محرضاً لهم على القتال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض! قال عُمير بن الحُمام الأنصاري: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم! قال: بَخٍ بَخٍ! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما يحملك على قولك بَخٍ بَخٍ؟ قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتِل»(5)، وتقدم ـ رضي الله عنه ـ للقتال مسرعاً وهو يرتجز ويقول:
ركضاً إلى الله بغير زادِ
إلا التقى وعمل المعادِ والصبر في الله على الجهادِ
وكل زاد عرضة النفادِ غير التقى والبر والرشادِ
والركض إلى الله ـ تعالى ـ هو الفرار إليه.
ثم تغيَّر الحال وضعف المسلمون، وصار كثير منهم يفرون إلى عدو الله وعدو المسلمين، مسارعةً فيهم والتماساً للقوة والعزة منهم، حتى إن منهم من ينصر الكفار على المسلمين من أجل ذلك، وقد نهى الله ـ تعالى ـ المؤمنين عن هذا المسلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] وبيَّن حقيقة من يسلك هذا السبيل فقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]، وقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[النساء:139].
فلا عزَّ لنا ولا نصر ولا كرامة، إلا أن يكون الفرار إلى الله ـ تعالى ـ وحده لا شريك له، دون ما سواه من خلقه أجمعين.
اللهم اجعلنا ممن يفرون إليك!
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب التفسير، رقم (3257).
(2) تفسير الطبري (1/261).(2/206)
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، رقم (207). أسود مربادّاً: شدة البياض في سواد، الكوز مجخياً: منكوساً.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، رقم (52). ومسلم، كتاب المساقاة، رقم (2996).
(3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ 221).
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، رقم (19).
(2) فتح الباري (13/42).
(3) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، رقم (4871).
(4) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، رقم (6307).
(5) أخرجه مسلم كتاب الإمارة رقم (3520).
--------------------
وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله :(1)
الهجرة في النصوص قسمان:
¨ هجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
¨ والثاني هجرة مما سوى الله جل وعلا إلى الله جل وعلا وحده
والأول: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام كهجرة الصحابة من مكة إلى الحبشة، وكهجرة الصحابة أيضا من مكة إلى المدينة، وقد يعرض هذا في أنه يكون هناك هجرة من دار كفر قد تظهر بعد زمن النبوة أو قد ظهرت بعد زمن النبوة إلى دار يعلو فيها الإسلام، وأما قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، فالمقصود منه لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأنه بعد الفتح فمن كان في مكة بعد الفتح فقد أصبحت مكة دار إسلام، فمن كان فيها بعد الفتح فإنه يمكث فيها ولا يلزمه الهجرة إلى المدينة؛ بل يبقى فيها، ولا تزال مكة دار إسلام إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها حرسها الله وبلاد المسلمين.
وهذه الهجرة لها أحكام ولها شروط، وتفصيلها في مواضعه من كتب العلماء في العقيدة أو في التوحيد والفقه ولا نطيل في بيانها في هذا الموطن؛ لكن ننبه إلى أن الهجرة هذه من دار الكفر إلى دار الإسلام هي بشروطها، هي واجبة بشروطها.
وقد يكون ثم هجرة واجبة أخرى أيضا وهي من دار بدعة إلى دار سنة، أو من دار لا يستطيع فيها إظهار الدين إلى دار يستطيع فيها إظهار الدين؛ إلى دار يستطيع فيها أن يظهر دينه، وهذه تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، ولها تفاصيل.
كذلك إذا كان لا يستطيع البقاء في دار بدعة أو تظهر فيها البدع لأجل ما ينوب نفسه من الحزن أو من الضيق على ظهور البدع ولكنه يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلي أمر السنة؛ لكن يريد بلادا يأمن فيها أكثر ولا يعرض فيها دينه للفتن، فهذا يكون حكم الهجرة في هذا الحال مستحبة؛ لأنه يستطيع أن يظهر دينه والبلد أو الدار ليست دار كفر، وإنما هي دار فيها السنة وفيها البدع.
وثَم تفاصيل أخر تطلب من مظانه.
القسم الثاني: الهجرة مما سوى الله جل وعلا إلى الله جل جلاله ? فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ?[الذاريات:50]، بأن يهجر كل ما يُشغِل عن الله جل وعلا ويتجه ويهاجر إلى الله جل وعلا، ولهذا جاء في الحديث «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وهذا يعمّ أشياء كثيرة تدل على أنَّ حقيقة الهجرة هجرة ما لا يحب الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، وهذه يختلف فيها الناس وتختلف مقاماتهم في ذلك بحسب عِظم محبتهم لله جل وعلا ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذه الهجرة مما سوى الله جل وعلا إلى الله جل وعلا وحده تكون في الاعتقادات، وفي عمل القلب، وفي كلام اللسان، وفي استعمال الحواس والجوارح، والأمر فيها عصيب، والفتن بعمومها إنما يبتلى الناس فيها في هذا المقام العظيم؛ هل هاجروا مما نهى الله جل وعلا عنه إلى ما أمر الله جل وعلا به، أم أنهم قصروا في ذلك؟ والتقصير يكون سببه ضعف المحبة وضعف الإيمان، ويكون أصحابه ممن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
----------------
أحوال الإنسان في عباداته
وفي أدب الدنيا والدين(2) :
__________
(1) - كتب صالح آل الشيخ - (ج 73 / ص 164)
(2) - أدب الدنيا والدين - (ج 1 / ص 122)(2/207)
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ فِيمَا كُلِّفَ مِنْ عِبَادَاتِهِ ثَلَاثَ أَحْوَالٍ : إحْدَاهَا أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ فِيهَا وَلَا زِيَادَةٍ عَلَيْهَا . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يُقَصِّرَ فِيهَا . وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا . فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى : فَهِيَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى حَالِ الْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهَا , وَلَا زِيَادَةِ تَطَوُّعٍ عَلَى رَاتِبَتِهَا . فَهِيَ أَوْسَطُ الْأَحْوَالِ وَأَعْدَلُهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فَيُذَمُّ , وَلَا تَكْثِيرٌ فَيَعْجَزُ . وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَيَسُرُّوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ * . وَقَالَ الشَّاعِرُ : عَلَيْك بِأَوْسَاطِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا نَجَاةٌ وَلَا تَرْكَبْ ذَلُولًا وَلَا صَعْبًا وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ : وَهُوَ أَنْ يُقَصِّرَ فِيهَا . فَلَا يَخْلُو حَالَ تَقْصِيرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ : إحْدَاهُنَّ : أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَعْجَزَهُ عَنْهُ , أَوْ مَرَضٍ أَضْعَفَهُ عَنْ أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ . فَهَذَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْمُقَصِّرِينَ , وَيَلْحَقُ بِأَحْوَالِ الْعَامِلِينَ , لِاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ عَلَى سُقُوطِ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَجْزِ . وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ عَامِلٍ كَانَ يَعْمَلُ عَمَلًا فَيَقْطَعُهُ عَنْهُ مَرَضٌ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ ثَوَابَ عَمَلِهِ . * وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ اغْتِرَارًا بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ , وَرَجَاءَ الْعَفْوِ عَنْهُ . فَهَذَا مَخْدُوعُ الْعَقْلِ مَغْرُورٌ بِالْجَهْلِ , فَقَدْ جَعَلَ الظَّنَّ ذُخْرًا وَالرَّجَاءَ عُدَّةٌ . فَهُوَ كَمَنْ قَطَعَ سَفَرًا بِغَيْرِ زَادٍ ظَنًّا بِأَنَّهُ سَيَجِدُهُ فِي الْمَفَاوِزِ الْجَدْبَةِ فَيُفْضِي بِهِ الظَّنُّ إلَى الْهَلَكَةِ , وَهَلَّا كَانَ الْحَذَرُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ . وَحُكِيَ أَنَّ إسْرَائِيلَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي قَالَ : لَقِيَنِي مَجْنُونٌ كَانَ فِي الْخَرَابَاتِ فَقَالَ : يَا إسْرَائِيلُ خَفْ اللَّهَ خَوْفًا يَشْغَلُك عَنْ الرَّجَاءِ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يَشْغَلُك عَنْ الْخَوْفِ , وَفِرَّ إلَى اللَّهِ وَلَا تَفِرَّ مِنْهُ . وَقِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ رحمه الله : أَلَا تَبْكِي ؟ فَقَالَ : تِلْكَ حِلْيَةُ الْآمَنِينَ . وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا حَازِمٍ الْأَعْرَجَ أَخْبَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بِوَعِيدِ اللَّهِ لِلْمُذْنِبَيْنِ , فَقَالَ سُلَيْمَانُ : أَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ ؟ قَالَ : قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : مَا انْتَفَعْت وَلَا اتَّعَظْت بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ كِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَسُرُّهُ دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَيَسُوءُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ , فَلَا تَكُنْ بِمَا نِلْته مِنْ دُنْيَاك فَرِحًا , وَلَا لِمَا فَاتَك مِنْهَا تَرِحًا , وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ , وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ بِطُولِ الْأَمَلِ , فَكَأَنْ قَدْ وَالسَّلَامُ . وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ رحمه الله : أَخَافُ عَلَى الْمُحْسِنِ الْمُتَّقِي وَأَرْجُو لِذِي الْهَفَوَاتِ اُلْمُسِي فَذَلِكَ خَوْفِي عَلَى مُحْسِنٍ فَكَيْفَ عَلَى الظَّالِمِ الْمُعْتَدِي عَلَى أَنَّ ذَا الزَّيْغِ قَدْ يَسْتَفِيقُ وَيَسْتَأْنِفُ الزَّيْغَ قَلْبُ التَّقِيّ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ لِيَسْتَوْفِيَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ بَعْدُ فَيَبْدَأُ بِالسَّيِّئَةِ فِي التَّقْصِيرِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ اغْتِرَارًا بِالْأَمَلِ فِي إمْهَالِهِ , وَرَجَاءً لِتَلَافِي مَا أَسْلَفَ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَإِخْلَالِهِ , فَلَا يَنْتَهِي بِهِ الْأَمَلُ إلَى غَايَةٍ , وَلَا يُفْضِي بِهِ إلَى نِهَايَةٍ ; لِأَنَّ الْأَمَلَ هُوَ فِي ثَانِي حَالٍ , كَهُوَ فِي أَوَّلِ حَالٍ . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ غَدًا , فَإِنَّهُ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَدًا * . وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا صَحِيحٌ ; لِأَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ غَدًا . فَإِذًا يُفْضِي بِهِ الْأَمَلُ إلَى الْفَوْتِ مِنْ غَيْرِ دَرَكٍ , وَيُؤَدِّيهِ الرَّجَاءُ إلَى(2/208)
الْإِهْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَلَافٍ , فَيَصِيرُ الْأَمَلُ خَيْبَةً وَالرَّجَاءُ إيَاسًا . وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَوَّلُ صَلَاحِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ , وَفَسَادُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ * . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله : مَا أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ , إلَّا أَسَاءَ الْعَمَلَ . وَقَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ بِالْبَصْرَةِ : أَلَكَ حَاجَةٌ بِبَغْدَادَ ؟ قَالَ : مَا أُحِبُّ أَنْ أَبْسُطَ أَمَلِي إلَى أَنْ تَذْهَبَ إلَى بَغْدَادَ وَتَجِيءَ . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْجَاهِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى أَمَلِهِ , وَالْعَاقِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى عَمَلِهِ . وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : الْأَمَلُ كَالسَّرَابِ غَرَّ مَنْ رَآهُ , وَخَابَ مَنْ رَجَاهُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزْدَانَ : دَخَلْت عَلَى الْمَأْمُونِ وَكُنْت يَوْمَئِذٍ وَزِيرَهُ فَرَأَيْته قَائِمًا وَبِيَدِهِ رُقْعَةٌ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَقْرَأْت مَا فِيهَا ؟ فَقُلْت : هِيَ فِي يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ . فَرَمَى بِهَا إلَيَّ فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ : إنَّك فِي دَارٍ لَهَا مُدَّةٌ يُقْبَلُ فِيهَا عَمَلُ الْعَامِلِ أَمَا تَرَى الْمَوْتَ مُحِيطًا بِهَا قَطَعَ فِيهَا أَمَلَ الْآمِلِ تَعْجَلُ بِالذَّنْبِ لِمَا تَشْتَهِي وَتَأْمُلُ التَّوْبَةَ مِنْ قَابِلِ وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَعْدَ ذَا بَغْتَةً مَا ذَاكَ فِعْلُ الْحَازِمِ الْعَاقِلِ فَلَمَّا قَرَأْتهَا قَالَ الْمَأْمُونُ رحمه الله تعالى : هَذَا مِنْ أَحْكَمِ شَعْرٍ قَرَأْته . وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ الْأَعْرَجُ : نَحْنُ لَا نُرِيدُ أَنْ نَمُوتَ حَتَّى نَتُوبَ , وَنَحْنُ لَا نَتُوبُ حَتَّى نَمُوتَ . وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : زَائِدُ الْإِمْهَالِ رَائِدُ الْإِهْمَالِ . وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقْصِيرُهُ فِيهِ اسْتِثْقَالًا لِلِاسْتِيفَاءِ , وَزُهْدًا فِي التَّمَامِ , وَاقْتِصَارًا عَلَى مَا سَنَحَ , وَقِلَّةَ اكْتِرَاثٍ فِيمَا بَقِيَ . فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ وَقَصَّرَ فِيهِ غَيْرَ قَادِحٍ فِي فَرْضٍ , وَلَا مَانِعٍ مِنْ عِبَادَةٍ , كَمَنْ اقْتَصَرَ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى فِعْلِ وَاجِبَاتِهَا , وَعَمَلِ مُفْتَرَضَاتِهَا , وَأَخَلَّ بِمَسْنُونَاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا . فَهَذَا مُسِيءٌ فِيمَا تَرَكَ إسَاءَةَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَعِيدًا وَلَا يَسْتَوْجِبُ عِتَابًا ; لِأَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ يُسْقِطُ عَنْهُ الْعِقَابَ , وَإِخْلَالَهُ بِالْمَسْنُونِ يَمْنَعُ مِنْ إكْمَالِ الثَّوَابِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ تَهَاوَنَ بِالدِّينِ هَانَ , وَمَنْ غَالَبَ الْحَقَّ لَانَ . وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَيَصُونُ تَوْبَتَهُ وَيَتْرُكُ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَصُونُهْ وَأَحَقُّ مَا صَانَ الْفَتَى وَرَعَى أَمَانَتُهُ وَدِينُهْ وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ مَفْرُوضِ عِبَادَتِهِ , لَكِنْ لَا يَقْدَحُ تَرْكُ مَا بَقِيَ فِيمَا مَضَى كَمَنْ أَكْمَلَ عِبَادَاتٍ وَأَخَلَّ بِغَيْرِهَا . فَهَذَا أَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ لِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْوَعِيدِ وَاسْتَوْجَبَهُ مِنْ الْعِقَابِ . وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنْ مَفْرُوضِ عِبَادَتِهِ وَهُوَ قَادِحٌ فِيمَا عَمِلَ مِنْهَا كَالْعِبَادَةِ الَّتِي يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ , فَيَكُونُ الْمُقَصِّرُ فِي بَعْضِهَا تَارِكًا لِجَمِيعِهَا فَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ مَا عَمِلَ لِإِخْلَالِهِ بِمَا بَقِيَ . فَهَذَا أَسْوَأُ أَحْوَالِ الْمُقَصِّرِينَ وَحَالُهُ لَاحِقَةٌ بِأَحْوَالِ التَّارِكِينَ , بَلْ قَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا يُسْقِطُ فَرْضًا وَلَا يُؤَدِّي حَقًّا . فَقَدْ سَاوَى التَّارِكِينَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ , وَزَادَ عَلَيْهِمْ فِي تَكَلُّفِ مَا لَا يُفِيدُ . فَصَارَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ . ثُمَّ لَعَلَّهُ لَا يَفْطِنُ لِشَأْنِهِ , وَلَا يَشْعُرُ بِخُسْرَانِهِ , وَقَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ , وَيَفْطِنُ لِلْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ إنْ وَهَى وَاخْتَلَّ . وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَبُنَيَّ إنَّ مِنْ الرِّجَالِ بَهِيمَةً فِي صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ فَطِنٌ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ وَإِذَا يُصَابُ بِدِينِهِ لَمْ يَشْعُرْ
--------------------
الفرار إلى البيوت
وفي المدخل(1) :
__________
(1) - المدخل - (ج 1 / ص 467)(2/209)
فَعَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْفِرَارُ إلَى الْبُيُوتِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى إظْهَارِ مَعَالِمِ الشَّرْعِ , وَالنُّهُوضِ إلَيْهَا فَيُبَادِرُ إلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ يَتَخَوَّفُ مِنْهُ أَعْنِي مِنْ الْبِدَعِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ هَلْ الْمُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ , أَوْ الرُّجُوعُ إلَى بَيْتِهِ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنُوبُهُ فِي الْمَسْجِدِ , أَوْ فِي بَيْتِهِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَفْضَلَ وَأَكْثَرَ نَفْعًا بَادَرَ إلَى فِعْلِهِ سِيَّمَا إذَا كَانَ النَّفْعُ مُتَعَدِّيًا , وَإِنْ كَانَ يَتَخَوَّفُ مِنْ شَيْءٍ فِيهِ فَالرُّجُوعُ إلَى بَيْتِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَإِقَامَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَا ذُكِرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ , إذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ لَحَصَلَ لَهُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ وَزِيَارَةُ جِوَارِ بَيْتِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَالِاعْتِكَافُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ . فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ يُرْشِدُهُ , أَوْ يَسْتَرْشِدُ هُوَ مِنْهُ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ , إذْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ , وَالْمَقْصُودَ مِنْ كَوْنِهِ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ إنَّمَا هُوَ طَلَبُ السَّلَامَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي زَمَنِهِ فَيَكُونُ فِرَارًا بِدِينِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى بَيْتِ رَبِّهِ وَمِنْ بَيْتِ رَبِّهِ إلَى بَيْتِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ * , وَالْفِرَارُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْمُبَادَرَةُ إلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ فَلَا يَتْرُك الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ مَا حَدَثَ مِنْ الْبِدَعِ , إذْ أَنَّ الصَّلَوَاتِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ وَمِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَوَّلُ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَبَدَانِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ صَلَاتِهِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ , بَلْ حَيْثُمَا قَلَّتْ الْبِدَعُ مِنْ الْمَسْجِدِ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ أَوْلَى وَأَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَسْجِدًا سَالِمًا مِمَّا ذُكِرَ وَقَلَّ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ إلَى أَقَلِّ الْمَسَاجِدِ بِدَعًا فَلْيُصَلِّ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ بِدْعَةٌ وَاحِدَةٌ أَشَدَّ مِنْ بِدَعٍ جُمْلَةٍ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ وَلْيُصَلِّ فِيمَا عَدَاهُ , وَإِذَا صَلَّى مَعَ ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ جَهْدَهُ وَيُغَيِّرْ مَا اسْتَطَاعَ بِشَرْطِهِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ , فَإِنْ كَانَتْ لَيْلَةٌ تَزِيدُ فِيهَا الْبِدَعُ وَتَكْثُرُ فَتَرْكُ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ , إذْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا وَلَكِنْ تَكْثِيرُ سَوَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ , وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاجِبٌ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ مُتَعَيِّنٌ فَيَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ لَهُ وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لِلْحَاضِرِينَ فِي أَمَاكِنِ الْبِدَعِ فِي الْإِثْمِ هَذَا وَجْهٌ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَأْنَسُ قَلْبَهُ بِتِلْكَ الْبِدَعِ فَيَئُولُ إلَى تَرْكِ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَدْنَى رُتَبِ التَّغْيِيرِ لِمَا وَرَدَ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحْسِنَ شَيْئًا مِمَّا يَرَاهُ , أَوْ يَسْمَعَ بِهِ , وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا فِيهِ ; لِأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ وَهُوَ الْإِحْدَاثُ فِي الدِّينِ قَالَ عليه الصلاة والسلام : { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ * . يَعْنِي مَرْدُودٌ عَلَيْهِ , وَقَالَ عليه الصلاة والسلام : { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ عَمَلَ امْرِئٍ حَتَّى يُتْقِنَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا إتْقَانُهُ قَالَ : يُخَلِّصُهُ مِنْ الرِّيَاءِ , وَالْبِدْعَةِ * , وَقَدْ وَرَدَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ حَدَثًا : هَبْ أَنِّي أَغْفِرُ لَك مَا بَيْنِي وَبَيْنَك فَاَلَّذِي أَضْلَلْتهمْ مِنْ النَّاسِ * انْتَهَى . فَإِذَا وَقَعَ(2/210)
اسْتِحْسَانُ شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ كَائِنًا مَا كَانَ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ قَلَّ أَنْ يَقَعَ أَعْنِي أَنْ تَعُمَّ تِلْكَ الْبِدَعُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ جَمِيعَ مَسَاجِدِ الْبَلَدِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَمَالُ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَاصِلٌ لَهُ أَعْنِي الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ , أَوْ مِنْ أَكْثَرِهَا , وَلَوْ امْتَنَعَ بَعْضُ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا الْبِدَعُ لَانْحَسَمَتْ الْمَادَّةُ وَزَالَتْ الْبِدَعُ كُلُّهَا , أَوْ أَكْثَرُهَا , أَوْ بَعْضُهَا لَكِنْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ عَلَى تَعَاطِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ , بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ إذَا خَتَمَ وَلَدُهُ الْقُرْآنَ , أَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ . وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , وَقَدْ وَقَعَ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّهُمْ أَوْقَدُوا جَامِعَهَا الْأَعْظَمَ فَزَادُوا فِي الْوَقُودِ الزِّيَادَةَ الْكَثِيرَةَ فَجَاءَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَشْتَالِيُّ رحمه الله تعالى إلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَلَى عَادَتِهِ فَرَأَى ذَلِكَ فَوَقَفَ وَلَمْ يَدْخُلْ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَدْخُلُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ إلَّا ثَلَاثَةُ قَنَادِيلَ , أَوْ خَمْسَةٌ , أَوْ كَمَا قَالَ , فَامْتَثَلُوا إذْ ذَاكَ قَوْلَهُ , وَحِينَئِذٍ دَخَلَ فَوَقَعَ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ بِتَغْيِيرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ الشُّيُوخِ فَكَيْفَ بِهِ لَوْ كَانَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاحِدِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى التَّسَامُحِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى جَرَّ الْأَمْرُ إلَى اعْتِيَادِ الْبِدَعِ وَيَنْسُبُهَا أَكْثَرُ الْعَوَّام إلَى الشَّرْعِ بِسَبَبِ حُضُورِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فَظَنَّ أَكْثَرُ الْعَوَّام أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَشْرُوعِ , وَهَذَا أَعْظَمُ خَطَرًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ; لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ , إذْ ذَاكَ فِي عُمُومِ قوله تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ الْبِدَعِ مَنْ يُصَلِّي فِيهِ فَتَتَأَكَّدُ الصَّلَاةُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ وَحْدَهُ إحْيَاءُ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى , وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ , وَالسَّعَادَةِ مَا فِيهِ , أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ مِنْ { قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الَّذِي يُصَلِّي فِي الْبَرِّيَّةِ وَحْدَهُ إنَّهُ يُصَلِّي عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ يَسَارِهِ مَلَكٌ , فَإِذَا أَذَّنَ لَهَا وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ * . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً , فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ * , وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا لَمْ يَمْتَلِئْ بِالنَّاسِ كُمِّلَ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ , فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي بِصَلَاتِهِ , وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَحْضُرُ مَوْضِعًا إلَّا وَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي قَبُولِ مَا يُعْمَلُ فِيهِ , وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ إذَا حَضَرَ مَوْضِعًا , وَمَنْ هَرَبَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَأَوَى إلَى السُّنَّةِ فِي غَالِبِ أَمْرِهِ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي وِلَايَتِهِ , إذْ أَنَّهُ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ . وَالتَّشَبُّهُ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ , وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رحمه الله تعالى أَنَّ إمَامَ الْمَسْجِدِ إذَا صَلَّى فِيهِ وَحْدَهُ قَامَ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ , فَإِذَا جَاءَتْ جَمَاعَةٌ بَعْدَهُ فَلَا يَجْمَعُونَ فِيهِ وَيُصَلُّونَ أَفْذَاذًا , وَالْإِمَامُ لَا يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ , وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله أَتَى إلَى الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ , وَكَانَ فِيهَا بَعْضُ طِينٍ وَظَلَامٍ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ هُوَ وَخَادِمُهُ , وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا , فَحَصَلَ لَهُ سُرُورٌ فَسَأَلَهُ خَادِمُهُ مَا سَبَبُ سُرُورِهِ فَقَالَ لَهُ : أَلَا تَرَى مَا حَصَلَ لَنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَمَا خَصَّصَنَا بِهِ مِنْ إحْيَاءِ بَيْتِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ(2/211)
وَتَعَالَى وَحْدَنَا وَلَمْ يُشَارِكْنَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَهَذَا فَرَحُهُ رحمه الله تعالى وَمَسْجِدٌ سَالِمٌ مِنْ الْبِدَعِ فَكَيْفَ بِالْهَارِبِ مِنْ مَوَاضِعِ الْبِدَعِ إلَى مَوَاضِعَ تَحْصُلُ فِيهَا السَّلَامَةُ , وَالْخَيْرُ , وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي إحْيَاءِ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى
وفي بريقة محمودية :
( { خُذُوا حِذْرَكُمْ * ) أَيْ حِفْظَكُمْ أَيْ أَسْبَابَ حِفْظِكُمْ يَعْنِي إذَا كَانَتْ دَعْوَةُ الشَّيْطَانِ مَقْصُورَةً لِاتِّبَاعِهِ وَشِيعَتِهِ وَكَانَتْ دَعَوْته رَاجِعَةً إلَى السَّعِيرِ فَالْوَاجِبُ التَّحَفُّظُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَجُنُودِهِ وَاتِّخَاذُهُ عَدُوًّا وَذَلِكَ قَوْلُهُ ( { فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا * ) فَإِنَّ الْعَدُوَّ لَا يَدْعُو عَدُوَّهُ بَلْ الدَّعْوَةُ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ وَلَوْ دَعَا لَا يُجِيبُ وَلَا يَمْتَثِلُ وَالتَّحَفُّظُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْفِرَارِ إلَى اللَّهِ فَفَرُّوا إلَى اللَّهِ بِالتَّعَوُّذِ وَبِالْمُسَارَعَةِ إلَى مَا فِيهِ مَغْفِرَةُ اللَّهِ { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ * لَا سِيَّمَا الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ . وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ { إنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خُرْطُومَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ * وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى { مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * أَنَّهُ قَالَ هُوَ مُنْبَسِطٌ عَلَى قَلْبِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَانْقَبَضَ وَإِذَا غَفَلَ انْبَسَطَ عَلَى قَلْبِهِ . قَالَ تَعَالَى { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ * - ( فَإِنَّهُ كَلْبٌ مُبِيرٌ ) أَيْ مُهْلِكٌ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ كَكَلْبٍ مُبِيرٍ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ الْكَلْبُ مُؤَثِّرٌ فِي إهْلَاكِهِ وَالشَّيْطَانُ لَيْسَ مُؤَثِّرًا لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ مُوَسْوِسٍ إذْ لَا يَلْزَمُ اتِّحَادُ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَأَكْثَرُ تَسَلُّطِهِ فِي خِيَارِ الْأَعْمَالِ سِيَّمَا الصَّلَاةَ . { وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم عَنْ وَسْوَسَةِ الصَّلَاةِ فَقَالَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ إذَا أَحْسَسْت بِهِ فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِك ثَلَاثًا قَالَ فَفَعَلْت ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي * وَيُقَالُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الشَّيْطَانِ سِتَّةٌ الِاسْتِعَاذَةُ وَكَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَالْبَسْمَلَةُ وَتَرْكُ الطَّمَعِ وَتَرْكُ الْأَمَلِ وَتَرْكُ الدُّنْيَا . وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا حِينَ شَكَوْا إلَى الْحَسَنِ مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ إنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي الْآنَ وَيَشْكُو مِنْكُمْ وَقَالَ قُلْ لِلنَّاسِ دَعُوا دُنْيَايَ حَتَّى أَدَعَ دِينَهُمْ ثُمَّ رَبَطَ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ كَلْبٌ يَعْنِي لَا تَغْتَرُّوا بِمَا زَيِّنَّ الشَّيْطَانُ وَلَا تَذْهَلُوا عَنْ مَكَايِدِهِ حَتَّى لَا تُجِيبُوا دَعَوْتَهُ فَخُذُوا أَسْلِحَتَكُمْ خَائِفِينَ مِنْ عَدُوِّكُمْ فَإِنَّ عَدُوَّكُمْ كَلْبٌ مُهْلِكٌ فَيُهْلِكُكُمْ بِلَا خِبْرَةٍ مِنْكُمْ ( فَغَايَةُ بُغْيَتِهِ ) أَيْ نِهَايَةُ مَطْلُوبِهِ وَمُعْظَمُهُ ( سَلْبُ الْإِيمَانِ ) الظَّاهِرُ تَعْلِيلِيَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا أَيْ لَا بِتَأْثِيرٍ بَلْ بِتَشْوِيشِ الْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ وَتَحْسِينِ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ وَأَفْعَالِ الِارْتِدَادِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ السَّكَرَاتِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ بِالشَّدَائِدِ وَالْكُرُبَاتِ لِأَنَّهُ آخِرُ فُرْصَتِهِ لَا يُقْبَلُ التَّدَارُكُ بَعْدَهَا الْعِيَاذُ بِهِ تَعَالَى كَمَا فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ { يَجِيءُ شَيْطَانٌ عَنْ الْيَمِينِ وَيُحَسِّنُ دِينَ الْيَهُودِ وَيُظْهِرُ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ وَيُقَدِّمُ بِقَبُولِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ فَيَجِيءُ شَيْطَانٌ آخَرُ عَنْ يَسَارِهِ عَلَى صُورَةِ أُمِّهِ وَيُحَسِّنُ دِينَ النَّصَارَى كَذَلِكَ * . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { يَقْدَحُ مَاءً بَارِدًا قَائِلًا إنْ أَجَبْتَنِي بِشَيْءٍ مِمَّا يُوجِبُ الْكُفْرَ أُعْطِك * فَاَلَّذِي أَحْكَمَ إيمَانَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ وَلَمْ يَقْنَعْ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ وَحَصَّنَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يُثَبِّتُهُ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ لِلْأَعْمَالِ إعَانَةً قَوِيَّةً فِي رُسُوخِ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي مِنْهَا الْإِيمَانُ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ لِصُلَحَاءِ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي قِصَّةِ(2/212)
بَرْصِيصٍ .
---------------------
وفي شرح النيل(1) :
( وَلَا يُدَارِي مُسْلِمٌ ) لَا يُعْطِي أَمْرًا دُنْيَوِيًّا كَمَالًا لِيَتْرُكَ مَعْصِيَةً بَلْ يَنْهَى وَيَنْصَحُ ; لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُسْلِمٌ لَا يُنَاسِبُ الْمُدَارَاةَ ; لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْحَقَّ فَمُدَارَاتُهُ خَطَأٌ مِنْ مُدَارِيهِ وَفِعْلٌ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَمُدَارَاتِهِ خِيَانَةٌ لَهُ ( إنْ فَعَلَ مُنَقِّصًا أَوْ مُدَنِّسَا ) مِنْ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ أَوْ مَا لَا يَنْبَغِي أَوْ مَا يُكْرَهُ أَوْ مَا يُخَافُ أَنْ يُوصَلَ إلَى بَعْضِ مَا ذُكِرَ كَمَوَاضِعِ التُّهَمِ وَمُخَالَطَةِ الْأَرْذَالِ وَالسُّفَهَاءِ وَالْقُعُودِ مَعَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَالْأَكْلِ فِي السُّوقِ وَالطَّرِيقِ وَمِنْ آدَابِ أَصْحَابِنَا النَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ فِي السُّوقِ وَالطَّرِيقِ وَقُدَّامِ النَّاسِ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { الْأَكْلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ * وَالتَّدْنِيسُ أَعْظَمُ مِنْ التَّنْقِيصِ وَلَوْ اكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا لَكَانَ أَوْلَى , وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْمُنْقِصِ مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةِ وَبِالْمُدَنِّسِ الْمَعْصِيَةُ كَبِيرَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ , وَلَيْسَ فِعْلُ الْكَبِيرَةِ مُعَارِضًا لِتَسْمِيَةِ مُسْلِمًا ; لِأَنَّهَا تَسْمِيَةٌ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ ( فَيَتْرُكُ نَهْيَهُ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يُدَارِي عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ وَهُوَ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ , وَكَأَنَّهُ قَالَ : فَلَا يَتْرُكُ نَهْيَهُ , وَيَجُوزُ نَصْبُ يَتْرُكُ عَلَى أَنَّهُ فِي جَوَابِ النَّفْيِ ( وَيُلَامُ تَارِكُهُ ) أَيْ تَارِكُ النَّهْيِ لِلْمُسْلِمِ عَمَّا يُنْقِصُهُ أَوْ يُدَنِّسُهُ ( لِخَوْفٍ مِنْهُ ) أَيْ لِخَوْفٍ صَادِرٍ مِنْ التَّارِكِ أَيٍّ كَانَ الْخَوْفُ مِنْهُ فَتَرَكَ النَّهْيَ لِلْمُسْلِمِ الْفَاعِلِ لِلْمُنْقِصِ أَوْ الْمُدَنِّسِ وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِخَوْفٍ فَتَرْجِعُ الْهَاءُ لِلْمُسْلِمِ أَوْ الْهَاءُ عَائِدٌ إلَى الْمُسْلِمِ الْفَاعِلِ لِلْمُنْقِصِ ( وَإِنْ عَلَى غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ التَّارِكِ , وَإِنَّمَا يُلَامُ مَعَ أَنَّهُ تَرَكَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخَوْفَ ضَعِيفٌ , لِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ مَا يُنْقِصُهُ أَوْ يُدَنِّسُهُ لَا يُصِرُّ عَلَيْهِ وَلَا يُبَالِغُ فِي تَعُدِّي الْحُدُودِ لَا يَقْتُلُ نَاهِيَهُ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى النَّهْيِ وَلَا يَضْرِبُهُ وَلَا يُجْحِفُ مَالَهُ وَلَا يَفْعَلُ بِهِ فِعْلًا يَطْرَحُ جَاهَهُ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَالزِّنَى بِهِ وَجَرِّهِ بِحَبْلٍ يُقَادُ بِهِ . وَهَكَذَا تَأَوَّلْتُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ رحمه الله وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ رحمه الله هُوَ أَنَّ اللَّوْمَ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْفَاعِلِ لِمَا يُدَنِّسُهُ أَوْ يُنْقِصُهُ إذَا تَرَكُوا نَهْيَهُ خَوْفًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمْ وَأَنَّهُمْ إنْ تَرَكُوا نَهْيَهُ بِتَضْيِيعٍ مِنْهُمْ فَاللَّوْمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُلَامُ هُوَ إلَّا إنْ فَعَلَ فِعْلًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ اللَّوْمَ , يَعْنِي فَتَرَكُوا نَهْيَهُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَانِعِ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنْهَوْهُ عَلَى الْفِعْلِ الْأَوَّلِ , وَلَا يَلْزَمُ الْأَمْرُ أَوْ النَّهْيُ إذَا كَانَ يُوَصِّلُهُ إلَى الْقَتْلِ أَوْ قَطْعِ طَرَفِهِ أَوْ الْمُثْلَةِ بِهِ أَوْ الضَّرْبِ الْمُؤْلِمِ وَإِنْ أَمْرَ أَوْ نَهَى مَعَ ذَلِكَ فَأَحْسَنُ ; لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ الدِّينِ وَتَعْظِيمَهُ وَتَشْجِيعَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ وَكَسْرَ جَاهِ الْفَاسِقِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ إنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ الْجِهَادِ فَلَا يُقَالُ اسْتِبْقَاءُ نَفْسِهِ أَفْضَلُ , وَلَعَلَّ ذَلِكَ إذَا رَجَا أَنْ لَا يَقْتُلَهُ أَوْ كَانَ يُؤَثِّرُ وَلَوْ أَدَّى إلَى الْقَتْلِ مِثْلُ أَنْ يُهْرِقَ خَمْرَهُ أَوْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ يُؤَدِّيهَا أَوْ لَبَّسَ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ الدِّينِ فَأَوْضَحَهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ فَائِدَةٌ تُفْعَلُ , وَإِلَّا فَلَا , مِثْلُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَشْرَبُ هَذِهِ الْخَمْرَ وَيَقْتُلُهُ إنْ نَهَاهُ وَلَا يَطْمَعُ أَنْ يُهْرِقَهَا , وَلَا يَلْزَمُهُ الْأَمْرُ أَوْ النَّهْيُ أَيْضًا إذَا كَانَ يُوَصِّلُهُ إلَى أَنْ تُنْهَبَ دَارُهُ أَوْ يُجْحَفَ بِمَالِهِ أَوْ تُسْلَبَ ثِيَابُهُ , فَإِنْ أَمْرَ أَوْ نَهَى مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ إذْ فَدَى دِينَهُ بِدُنْيَاهُ وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا إذَا كَانَ يُوَصِّلُهُ إلَى طَرْحِ جَاهِهِ بِالْكُلِّيَّةِ , مِثْلُ أَنْ يُجَرَّ بِحَبْلٍ فِي عُنُقِهِ أَوْ يُسَوَّدَ وَجْهُهُ ; لِأَنَّ الْمُرُوءَةَ
__________
(1) - شرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 33 / ص 288)(2/213)
مَأْمُورَةٌ بِحِفْظِهَا شَرْعًا وَأَمَّا إنْ خَافَ زَوَالَ بَعْضِ الْمَالِ أَوْ فَضَلَاتِ الْجَاهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِثْلُ أَنْ يُنْسَبَ لِلرِّيَاءِ أَوْ الْجَهْلِ أَوْ الْفِسْقِ أَوْ النَّقَّاقِ أَوْ يُغْتَابَ أَوْ يُوَاجِهَ بِغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ * وَهَذَا شَأْنُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يُثَابُ عَلَيْهِمَا , فَلَوْ تُرِكَا لِذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ وُجُوبٌ وَلَا يَلْزَمُ الْأَمْرُ أَوْ النَّهْيُ إذَا كَانَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ تُضْرَبَ أَوْلَادُهُ أَوْ أَرْحَامُهُ أَوْ تَنْهَبَ أَمْوَالُهُمْ , وَأَمَّا إنْ يُشْتَمُوا فَلَا يَتْرُكُ لِشَتْمِهِمْ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ يُوَصَّلُ إلَى زَوَالِ بَعْضِ مَا يُؤَدِّي إلَى مَوْتِهِ كَأَخْذِ زَادِهِ أَوْ لِبَاسِهِ , وَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُقْهَرَ أَوْ إلَى أَنْ يُزْنَى بِهِ أَوْ يَزْنِي بِغَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ يُؤَدِّي إلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ . وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ كَبِيرَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةٌ وَأَمَّا تَرْكُ النَّهْيِ عَنْ الصَّغِيرَةِ أَوْ مَا لَا يُدْرَى أَصَغِيرٌ أَمْ كَبِيرٌ فَهُوَ كَذَلِكَ صَغِيرٌ أَوْ لَا يَدْرِي أَصَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ , وَقِيلَ : كَبِيرَةٌ أَيْضًا لِوُرُودِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِ تَارِكِ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَمَنْ لَمْ يَنْهَ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَقِيلَ : عَصَى , وَقِيلَ : لَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي الْكَلَامُ فِي وُجُوبِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَاجِبٌ كَالصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَالزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَنَفَقَةِ مَنْ يَجِبُ نَفَقَتُهُ وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ الَّذِي لَا يَجِبُ فَلَا يَجِبُ الْأَمْرُ بِهِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ رحمه الله فِي كِتَابِ الْأَلْوَاحِ أَنَّ شَيْخًا رحمه الله أَوْصَى أَهْلَ تجديت بِعَشْرِ خِصَالٍ مَنْ يَكُنَّ فِيهِ فَقَدْ فَارَقَ الْإِسْلَامَ : الْأَكْلُ فِي الدِّينِ وَالْمُدَاهَنَةُ فِي الدِّينِ وَإِيثَارُ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ , وَسُوءُ الظَّنِّ , وَسُوءُ الصُّحْبَةِ , وَسُوءُ الْخُلُقِ , وَحُبُّ الشَّرَفِ وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ , وَحُبُّ الْمَحْمَدَةِ وَتَقْلِيدُ الرِّجَالِ . وَذَكَرَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ رحمه الله عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { : لَا تَقِفُنَّ عَلَى رَجُلٍ يُقْتَلُ أَوْ يُضْرَبُ ظُلْمًا فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ حِينَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ * وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { : لَا يَنْبَغِي لِامْرِئٍ يَشْهَدُ مَقَامًا فِيهِ مُنْكَرًا إلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ لَنْ يُقَدِّمَ أَجَلَهُ وَلَنْ يُؤَخِّرَهُ وَلَنْ يُحْرَمَ رِزْقًا هُوَ لَهُ * فَمَنْ عَلِمَ مُنْكَرًا فِي مَوْضِعٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إنْكَارِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْضُرَ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلِذَلِكَ اعْتَزَلَ قَوْمٌ حُضُورَ الْمَجَامِعِ لِمُنْكَرَاتٍ فِيهَا لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُزِيلُوهَا , وَجَاوَرُوا السِّبَاعَ وَرَضُوا بِأَكْلِ الْبُقُولِ فِرَارًا بِدِينِهِمْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : { فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُصَافِحُهُمْ وَيَسْأَلُونَ السَّحَابَ وَالسِّبَاعَ أَيْنَ مَرَّتْ فَتُجِيبُهُمْ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم { : مَنْ حَضَرَ مَعْصِيَةً فَكَرِهَهَا فَكَأَنَّهُ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَأَحَبَّهَا فَكَأَنَّهُ حَضَرَهَا * . يَعْنِي , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَحْضُرَ لِحَاجَةٍ وَيَتَّفِقَ وُقُوعُهَا وَلَا يَسْتَطِيعُ إنْكَارَهَا لَا أَنْ يَحْضُرَ قَصْدًا لَا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُهْلَكُ قَرْيَةٌ وَفِيهَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قِيلَ بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : بِتَهَاوُنِهِمْ وَسُكُوتِهِمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ * وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { : أَوْحَى اللَّهُ إلَى مَلَكٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَنْ اقْلِبْ مَدِينَةَ كَذَا عَلَى أَهْلِهَا قَالَ يَا رَبَّنَا إنَّ فِيهَا عَبْدَكَ فُلَانٌ وَلَمْ يَعْصِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَالَ اقْلِبْهَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَجْهُهُ لِي قَطُّ * وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى(2/214)
عَذَّبَ أَهْلَ قَرْيَةٍ فِيهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ خِيَارِهِمْ وَسِتُّونَ أَلْفًا مِنْ أَشْرَارِهِمْ فَقَالَ : يَا رَبُّ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ فَمَا بَال الْأَخْيَارِ ؟ فَقَالَ : إنَّهُمْ لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ * . وَعَنْ بِلَالِ بْنِ سَعِيدٍ : إنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا أُخْفِيت لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَإِنْ أُظْهِرْت وَلَمْ تُغَيَّرْ أَضَرَّتْ بِالْعَامَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ * وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ لِأَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ كَيْفَ مَنْزِلَتُكَ فِي قَوْمِكَ ؟ قَالَ : حَسَنَةٌ قَالَ : إنَّ التَّوْرَاةَ تَقُولُ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ سَاءَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ قَوْمِهِ , قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ : صَدَقَتْ التَّوْرَاةُ وَكَذَبَ أَبُو مُسْلِمٍ . وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَمَنْ قَدَرَ أَنْ يُنْكِرَ بِيَدِهِ فَلْيَفْعَلْ كَإِهْرَاقِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ وَالْحَبْسِ عَلَى الْحَقِّ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ بِيَدِهِ فَبِلِسَانِهِ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِقَلْبِهِ .
==================
الفرار إلى الله لا يعني ترك تغيير المكنر
ولابد مع الفرار إلى الله من العمل الجاد المتقن في محاولة التغيير ، وليس في الاستكانة ولا الهروب بل لا بد من الوقوف في وجه الباطل
قال تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * (18) سورة الأنبياء
و(بل) للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو ; والعدول عنه إلى الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس . وهو غلبة الحق وزهوق الباطل .
والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية حية متحركة . فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة . تقذف به على الباطل , فيشق دماغه ! فإذا هو زاهق هالك ذاهب . .
هذه هي السنة المقررة , فالحق أصيل في طبيعة الكون , عميق في تكوين الوجود . والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلا , طاريء لا أصالة فيه , ولا سلطان له , يطارده الله , ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله ; ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه !
ولقد يخيل للناس أحيانا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب , ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان , يمد الله فيها ما يشاء , للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ; وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء .
والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده ; وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ; وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه . . فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة ; وأدركوا أنه الابتلاء ; وأحسوا أن ربهم يربيهم , لأن فيهم ضعفا أو نقصا ; وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر , وأن يجعلهم ستار القدرة , فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف . . وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء , وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) والله يفعل ما يريد . ( الظلال )
صرخة الحق قذف الباطل بدماغه فإذا هو زائل ،وللكفار ودعاته الويل مما يصفونه من صفات شنيعة لأهل الحق ودعاتُه ...إنها المعركة المحتدمة بين الحق والباطل ،المعركة بين الإسلام والشرك ،المعركة بين العدل والظلم،المعركة بين النور والظلام، المعركة بين حملة لواء الدعوة وبين حملة لواء الجريمة المنظمة ،وأنى لهذه المعركة الفتور وأنى لأصحاب الباطل نومهم الهاديء ،فيسقض الحق بثباته مضاجعهم ويقلق نومهم ويشوش فكرهم.ويقتل أملهم في الوصول إلى غايتهم ،إنها الإزالة عن الوجود لا محالة بعد ان يميز الله الخبيث من الطيب.(2/215)
إن الله سبحانه وتعالى وعد أولياءه بالنصر والتمكين ان هم نصروه والتزموا أوامره واجتنبوا نواهيه،وقبل كل ذلك وعدَ الله نُصْرَة الحق ، نُصْرَة الدين ، نُصْرَة التوحيد، نُصْرَة الإخلاص، نُصْرَة التقوى على كل من جابه هذه السبل النيرة التي أمر الله بها من فوق سبع سماوات،وعد بظهورها على الغير،وعد بتطبيقها على أرض الواقع ،ولكن طول الطريق قد يدخل الشكوك على نفوس الضعفاء فيحدثون أنفسهم بذلك وما هي في الحقيقة إلا وسوسة الشيطان لهم حتى يضلوا الطريق ،انه انتفاخ الباطل وصورته أمام الناس انه الزبد الذي يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ،انه الطريق الشاق أمام حملة الحق فعليهم توطين أنفسهم حتى يمكن الله لهم،انه الباطل بجولاته التي يوهم فيها الناس ان الحق لا وجود له لقلة الناصرين ووحشة الطريق،واختفاء الصوت إلا من بعيد،من هنا تبدأ المفاصلة ،من هنا يبدأ المحك ،الذي يميز رجال الحق القليلين الغيورين المتربصين المراقبين لأنفسهم كل لحظة لعل الله ان يمن عليهم بالتمكين وهم في ساحة دعاة الباطل في جبهة مقابلة متمترسين خلف الآلاف الذين حمّلوهم الأفكار الباطلة وإلا كيف بنا نشاهد الآلاف المؤلفة تخرج كبوق ناعق في صدى الحق تنادي بنداء الاستعمار هيا لاستقلالنا هيا لانفصالنا عن سوانا ،لان أرضنا ودولتنا وشعارنا ملكا لنا،وفي هذا المجال يقول سيد قطب في الظلال :"ولقد يخيل للناس أحيانا ان واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتعشا كأنه غالب ،ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب.وان هي إلا فترة من الزمان ،يمد الله فيها ما يشاء ،للفتنة والابتلاء .ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض؛وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء...".
هكذا هي حقيقة المؤمنين فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة وأدركوا وأيقنوا انه الابتلاء لان فيهم ضعفا أو نقصا ،وهو يريد ان يعدهم لاستقبال الحق المنتصر ،وكلما سارعوا في العلاج قصر الله في الابتلاء ،فيندفع الباطل ،والله يفعل ما يريد.
نعم إنها الجولة الأخيرة للباطل ،لأنها سنة الكون كثرة الباطل وأهله ،وقلة الحق ونصيره ،وطول طريق العلاج ولكن المحك هو في طريقة العلاج فحملة الحق يصلون ليلهم بنهارهم وهم يفكرون في طرق العلاج حتى يقصر الله في فتنتهم وابتلائهم ،ولكن أهل الباطل يدركون هذه الحقيقة فيصلون ليلهم بنهارهم في الجهة المقابلة وهي كل ما من شانه ان يعطل النصر وان يقصر في علاج الابتلاء.
ان الحق لا محالة ظاهر ،وان الباطل لا محالة زائل ،هكذا وعد الله لأوليائه ،وهكذا هي سنة الكون فستأتي الجولة التي ينتهي فيها حكم الشيطان ،ويبرز فيها حكم الله ،تطبيق العدل ،نشر الدين،بث الحياة في الناس كما أراد الله لهم،وسينتهي الباطل نهاية يسجلها التاريخ لا عودة لها البتة،لان ضربته على دماغه سوف تشل تفكيره في أذى حملة الحق فلا يعاوده ،وان عاوده فلا يأتي بجني ولا بخير ولا بمساهمة ولا بنتيجة،إنها النهاية الشنيعة للباطل وأهله الذي يقض مضجع كل من تسول له نفسه ان يقف في طريق الحق وأهله ،وان تأتيه الصحوة بان الحق لا محالة ظاهر وان جولته سوف تطول بإذن الله كل جلاوزة الظلم وترمي بهم سبعين خريفا في قعر جهنم فهم حصبها وسيظهر المؤمنون بدعوتهم الحق،وينشرون الدين والحياة في البشرية ويعم الخير الذي وعد الله به.
---------------------
ويقول السباعي رحمه الله في كتابه النفيس هكذا علمتني الحياة :
الباطل أكثر أتباعاً
لا يقاس الحق والباطل بقلَّة الأنصار أو كثرتهم، ففي كل عصور التاريخ بلا استثناء كان الباطل أكثر أتباعاً: ? وإن تطع أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله ?.
تألب الناس على الحق
لو كان تألب الناس على الحق دليلاً على بطلانه، لكان حقنا في فلسطين باطلاً، فإسرائيل لا تزال تخدع الرأي العام العالمي بوجهة نظرها، ومع ذلك فنحن لن نتراجع عن حقِّنا بكثرة أنصارها، وقلة أنصارنا.
أتباع الحق وأنصاره
الحق أقل أتباعاً وأقوى أنصاراً، والباطل أكثر أتباعاً وأضعف أنصاراً.
--------------------
الصراع بين الحق والباطل وجد منذ خلق الإنسان(1)
صراع الحق مع الباطل تمتد جذوره منذ أن وجد البشر على وجه الأرض، فهو من سنن الله القدرية التي فطر الخلق عليها، ولأن الشرع الحكيم قام على الحق، وقام ليعالج ما فطر عليه البشر من نوازع ورغبات ليقيمها على ما فيه صلاحها، فقد شرع الله للمسلمين أن يشرعوا ويبدءوا في إزالة الباطل واجتثاثه من جذوره، حتى لا تقوى أصوله، ولا تتجذّر آثاره في حياة الناس والخلق، ولذلك شرع الله الجهاد لعباده، وكان شعار هذا الجهاد هو: إقامة دين الله تعالى وإماتة الشرك...{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.
وقد كشف الله مسيرة الصراع بعبارات رائعة تحمل في طياتها طبيعة الحق، وتكشف حقيقة الباطل، والمنهج القرآني هو منهج الحق والصواب وضدّه هو منهج السحرة والخرافيين.
__________
(1) - مقالات بين منهجين - (ج 1 / ص 22)(2/216)
منهج السحرة هو تزوير الواقع، وإلباسه لبوس الخداع والتمويه، فالساحر هو الذي يقلب لك في نظرك العصا حية، ويزيف لك صورة الأشياء فلا تعد تراها على ما هي عليه. وعلى مدار التاريخ الإنساني كان طواغيت البشر (الآلهة الكاذبة) يستخدمون السحرة في تأليه الناس (أي تعبيد الناس) لهم. والسحر حسب النص القرآني والحديث النبوي يطلق على أمرين:
الأمر الأول: هو الذي يغير صور الأشياء في أعين النظارة دون تغيير لحقيقتها لأنه لا يستطيع أن يخلق إلا الله، فالعصا تتحول إلى أفعى في أعين الناس لا في حقيقتها. قال تعالى: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين، قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} الأعراف، وقال تعالى: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} طه.
الأمر الثاني: هو الذي يغير الحقائق في أذهان الناس عن طريق الخداع البياني والقدرة اللفظية، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحرا)) حديث صحيح، وقال تعالى: {وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدِّقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} الصف، والآية تدل على أن الناس كانوا يطلقون على البيان البليغ سحرا.
وكلا الأمرين يجتمعان في:
(1) تزوير الحقائق بتمويهها في البصر أو في البصيرة.
(2) لا يقع السحر على المسحور إلا باستخدام الإرهاب، "فاسترهبوهم".
(3) اكتشاف الحقيقة تبطل السحر، قال تعالى: {ولو أنزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} الأنعام، والآية تدل على أن المرء إذا أبصر الحق بطريق صحيح (كاللمس بالأيدي) لا يعذر بسحر الساحر له، بل هو كذاب مفتري.
والآن كيف صور القرآن صراع الحق والباطل (السحر):
1 - قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون}. فالحق قذيفة، ولا يكون إلا كذلك، لأن فيه من عوامل القوة الذاتية التي أودعها الله فيه ما يجعله كذلك. وكذلك قوله تعالى: {وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى}طه.
2 - قال تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}الإسراء. ففي هذه الآية بيّن الرحمن سبحانه وتعالى حال الحق حين يظهر أمره بعبارة "جاء الحق" وهي عبارة تلقي في النفس ظلال الحركة الحقيقية التي لا تحمل جهدا عظيما، ولا تكلف عملا شاقا، بل هي مسيرة طبيعية "جاء" على الرغم أن الآية الأولى بينت أن حركة الحق هي حركة (قذيفة)، وهي تجدّ مسرعة في حركتها لتزيل الباطل وتدمره. وليس بين الآيتين تعارض، بل كل حرف في الأولى يشهد لكل حرف في الثانية ويشبهه، وهذا معنى قوله تعالى: {الله نزّل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني}زمر. لكن الباطل في الآيتين (زاهق، زهوقاً): وهي تعني خروج النفس والروح، واضمحلال أمره وخضوعه لغيره، وهي لفظة تثير في النفس حقيقة هذا الباطل، وأنه سريع الزوال لا روح له ولا دوام، قال ابن القيم: واعلم أن الشر بالذات هو عدم ضروريات الشيء وعدم منافعه مثل عدم الحياة وعدم البصر. ا. هـ، فهذا هو الباطل إذ يعني غياب الحق، فإذا جاء الحق (على صورة قذيفة) فإن الشرَّ والباطل لا بد أن يزول كما قال تعالى عن عصى موسى لمّا ظهرت لحبال السحرة: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين}. وهذا كله نراه في الحس والبصر، فإن الظلمة تعني عدم وجود النور، فإذا غلب على الناس الظلمة واستشرى أمرها فهو واقع بحسب غياب النور والهدى.
ومما يخدمنا في هذا الباب الأمور التالية:
أن العلاقة بين الحقّ والباطل وبين الشرِّ والخير، وبين السحر وأمر الله، وبين النور والظلمة، هي علاقة صراع، لا يقع الواحد إلا ويغيب الآخر، ولا يمكن أن يرضى أحدهما بوجود الآخر، ولو أراد أهل الحق التماس الإذن بوجودهم من الباطل - ولو أدى هذا الالتماس إلى إفراغ الحق من طبيعته (أي بكونه قذيفة) - فإن الباطل لن يأذن ولن يسمح، وصورة الإذن الوحيدة هي: {تلقف ما يأفكون}، و {نقذف بالحق على الباطل فيدمغه} و {جاء الحق وزهق الباطل}، أي بأن يقتلع الحق الباطل من جذوره ويخرج روحه منه بيده، وليس عن طريق انتظار أن تخرج روحه منه بنفسه.
وعلى هذا فإن كثيرا من الجماعات الإسلامية التي تنكر الجهاد في هذا العصر أو تدعو إلى (تأجيله) تتهم المجاهدين بأنهم يعطون المبرر للباطل بأن يضربهم ويقتلهم، وهؤلاء جدُّ واهمون، لأنهم جهلوا طبيعة الباطل، وجهلوا أن ذات الحق (دون حركته) لا يرضى عنه ولا بوجوده الكفرُ بحال.(2/217)
وبين يدينا مئات الأمثلة منها: صراع لوط عليه السلام مع قومه، فلماذا عاداه أهل الفاحشة؟ هل لأنه حمل عليهم؟ أو كرَّ عليهم بليل؟ كل هذا لم يحدث، إنما علة محاربته: {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} الأعراف. وانظروا إلى هذا الحديث العجيب بين نبي الله شعيب عليه السلام وبين قومه، وتفكروا في عرض شعيب على قومه وماذا قال لهم: قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام: {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} الأعراف (87). رجل يقول لقومه: أنتم في حالكم ونحن في حالنا، طائفة آمنوا وطائفة لم يؤمنوا، فيا أيها الكافرون لا تعتدوا علينا ولا نعتدي عليكم حتى يقع أمر قدري لا بأيدينا ولا بأيديكم فيكون هو الفصل بين الطائفتين.
فماذا تتوقع أن يكون الجواب؟ الجواب؛ هو جواب كل طاغوت: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} الأعراف (88)، نعم هذا هو جواب قومه (الطاغوت) وهو جواب لا يمكن أن يتخلى عنه الباطل أبدا. فأي ضلال وأي انحراف لرجل علم طبيعة الباطل ثم هو يطلب الإذن منه أن يعمل في نشر حقه؟.
ومن هنا فقد تبين لنا انحراف وجهل تلك الجماعات التي تخلت عن كثير من الحق في سبيل إرضاء الباطل ليقدم لها إذن العمل والممارسة
==================
ويجب أن يعلم أن النصر له ثمن لا بد من دفعه
قال تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ* (214) سورة البقرة
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى , وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها , وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين , الذين يكل إليهم رايته , وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته . وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . .
إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول بالله , والمؤمنين الذين آمنوا بالله . إن سؤالهم: (متى نصر الله ?) ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة . ولن تكون إلا محنة فوق الوصف , تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب , فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: (متى نصر الله ?) . .
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . . عندئذ تتم كلمة الله , ويجيء النصر من الله: (ألا إن نصر الله قريب) . .
إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة . الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله , وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها , فهم يتطلعون فحسب إلى (نصر الله) , لا إلى أي حل آخر , ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة , مستحقين لها , جديرين بها , بعد الجهاد والامتحان , والصبر والثبات , والتجرد لله وحده , والشعور به وحده , وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة , ويرفعها على ذواتها , ويطهرها في بوتقة الألم , فيصفو عنصرها ويضيء , ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية , فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجا كما وقع , وكما يقع في كل قضية حق , يلقي أصحابها ما يلقون في أول الطريق , حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها , وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة , والحرص على الحياة نفسها في النهاية . .
وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها , وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون , والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . .
وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى , وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق:إيمان وجهاد . .
ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . .
وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . . (1)
---------------------
سبب ظهور الباطل على الحق(2)
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 30)
(2) - مقالات بين منهجين - (ج 1 / ص 26)(2/218)
إذا قلنا كما تقدم أن الباطل ليس له حقيقة في نفسه، بل هو يعني غياب الحق كما قال ابن القيم رحمه الله، فسيكون السؤال في الأذهان هو: ما معنى ظهور الباطل على الحق في جولات كثيرة نحسها في عين الزمان، ونراها في واقعنا؟ والجواب على هذا التساؤل يتشعب إلى عدة نقاط سنحاول في هذه العجالة أن نمر على بعضها إن شاء الله تعالى:
البيان الأول: اعلم أن الله قد قرر في كتابه أن الحق لا يهزم أبدا، وقرر سبحانه وتعالى أنه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} النساء. والجاهل يظن أن هذه الآية تنخرم بعض الأحيان لما يرى من ظهور الكفر على الإسلام حينا، وهذا جهل عظيم في دين الله تعالى.
قال الإمام الشاطبي في الموافقات في قوله سبحانه وتعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} قال: إن حمل على أنه إخبار، لم يستمر مخبره، لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله، فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه، وهو تقرير الحكم الشرعي. فعليه يجب أن يحمل. ا. هـ. (ج1،ص100،101). قلت: وهذه لفتة عظيمة من هذا الإمام كان ينبغي الالتفات لها منذ زمان بعيد، لأن ما نعيش فيه هذه الأيام يدل على أننا ابتعدنا كثيرا عن مفاهيم الكتاب والسنة، بسبب تلك الأفكار الدخيلة التي شوهت مفاهيم الإسلام العظيم.
ولتفسير كلام الشاطبي نقول: إن الآية فيها أمر من الله تعالى للمؤمنين أن لا يقبلوا الدنية في دينهم، وأن عليهم أن يبذلوا أقصى طاقاتهم لمنع حصول الذل، فإن حصل ظهور للكفرة عليهم فهو دال على أنهم قصروا في تطبيق أمر الله، فهنا في الآية على الصحيح أمر إلهي ووعد إلهي كذلك؛ أما الأمر: فهو أن يكونوا مؤمنين، والإيمان هنا يعني المدافعة والقتال وطلب الظهور والعزة، وهذا راجع إلى مفهوم أهل السنة لمسمى الإيمان، وقد وقع المعلق على كتاب الشاطبي وهو الأستاذ الفاضل عبد الله درّاز في خطأ حين ظن أن الآية بعريّها عن قوله: وعملوا الصالحات، تحمل على معنى آخر، وذلك لظنه أن الإيمان هنا هو الحكم وليس الدرجة والمرتبة، والصحيح أن قوله سبحانه وتعالى في هذه الآية (المؤمنين) هي قيامهم بواجب الإيمان وهو واجب الدفع والمدافعة، ومثل هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه إلا أن تعودوا لدينكم)) حديث حسن، فمعنى الدين هنا هو معنى الإيمان في الآية السابقة، وهو الجهاد. فإن الذل لا يرفع بالصلاة، ولا بالزكاة، ولا بالحج، ولا بالذكر، وكلها دين وتساعد في رفع الذل، ولكن الذل لا يرفع إلا برفع السبب الذي حصل به الذل وهو ترك الجهاد في سبيل الله تعالى. قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((ما ترك قوم الجهاد إلا ذلّوا)). وعليك أخي المسلم أن تتنبه إلى التنكير الموجود في قوله صلى الله عليه وسلم: (قوم)، لأن ترك القتال من قبل قوم (أي قوم) يؤدي إلى الذلّة، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : ((ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا)).
وعلى هذا فإن الآية تطلب من المؤمنين أن يكونوا مؤمنين أي مجاهدين، كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا} ومثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات} وكقوله: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} وغيرها كثيرا من الآيات العظيمة ولا يظنن ظان أن قوله: {خذوا حذركم} وقوله: {اصبروا} هو أمر زائد عن مسمى الإيمان فإن هذا من غلط أهل البدع وفسادهم، لأنهم يقولون: إن الإيمان هو قول القلب فقط وبعضهم يزيد للدلالة على قول القلب قول اللسان. ولما انتشرت هذه البدعة المبيرة في الناس وهو قولهم: إن الإيمان في القلب. ذهبوا في تفسير هذه الآيات مذاهب شتى وكلها باطلة، فحملوا قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}على مفهوم الوعد فقط فقالوا: إذا حصل إيمان القلب (أي تصديقه) فإن الله سيدافع عنهم بقدرته دون أفعالهم (لأنها لم تذكر في الآية). فنسبوا إلى قول الله الخلف في وعده لما يرونه من الواقع الذي يكذبهم.
أما أنها وعد: فنعم، ولكن على المفهوم الذي تقدم، فإذا قام عباد الله بواجب الدفع والمدافعة، وشرعوا بالجهاد، واستكملت لهم أدواته، فلا بد أن يقع الوعد الإلهي لأن السبب والأثر -في حياة المؤمن- لابد من تلازمها، والتلازم بينهما تلازم مطلق في باب الوعد، بخلاف باب الوعيد، فالتلازم بينهما ولكنه غير مطلق.
والنتيجة: إذا تخلف الوعد دل لزوما على تخلف الأمر في نفس المكلف.
فهل بعد هذا يقول قائل ما معنى ظهور الباطل؟ إن ظهور الباطل مازال يعني غياب الحق. والحق هو الأمر وامتثاله. وظهور الحق هو وعد ترتب على اكتمال الحق وتمامه.
البيان الثاني: إن ظهور الباطل حينا هو مظهر من مظاهر الحكمة الربانية. فإنه لا يقع شيء في الكون إلا لحكمة، وفيه قصد إلهي عظيم ولو ذهبنا نستكشف الحكم الإلهية لضاق بنا المقام، ولكن لنسوق بعضها فيما تحتمله هذه الورقات:(2/219)
أ - الحكمة الأولى : -وهي أعظمها وأجلها- قال تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} يونس.
اعلم أخي في الله أن من أجلِّ أسماء الله تعالى وأعظمها: المتكبر. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه قال: ((العزة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته)) رواه مسلم. فقد سمى الله أشرف صفاته (الكبرياء)، وهذا الاسم هو عنوان ربوبية الرب، وعلى هذا فإن من مظاهر هذا الاسم في هذا الكون أن يأخذ أعداءه لحظة القدرة الكاملة لهم، وهذا من تمام ألوهية الإلهية الحقيقية، ومن تمام كبرياء الله تعالى، ومن تمام خداع الله تعالى للكافرين. قال تعالى: {وأملي لهم إن كيدي متين} الأعراف والقلم. فإذا تمكن الكافر واستعلى في الأرض، وادّعى لنفسه الربوبية فإن هذا من تمام حكمة الله فيه ليأخذه أخذا شديدا، لتعظم المصيبة فيه، وتظهر قدرة الله (الرب الحقيقي) لعباده المؤمنين.
وأعظم مثال على ذلك هو فرعون، قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}. وفرعون هو الذي قال: {ما علمت لكم من إله غيري} وهو الذي قال: {أنا ربكم الأعلى} فهذه خصومة بين رب حقيقي، له صفات الكمال المطلق، وبين رب مزيف كذاب (استخف قومه فأطاعوه).
فما هي النتيجة؟ هي مظهر من مظاهر ربوبية الرب الحقيقي الدالة على كبريائه وعظمته وعلوه فوق خلقه.
قال سبحانه وتعالى: {ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول أمين، وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين...إلى قوله تعالى.. فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} الدخان.
فيا الله ما أعظمك وما أجل حكمتك.
ب - الحكمة الثانية: قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا} الملك. فإن الله خلق عباده للابتلاء والامتحان، وأشد الناس بلاء وامتحانا هم المؤمنون. قال صلى الله عليه وسلم : ((يبتلى الرجل على قدر دينه)) رواه الترمذي. فمن ابتلاء الله المؤمنين أن يمتحنهم بغلبة الكافرين وبظهورهم عليهم، ليعلم الرب من آمن به حق اليقين، وممن في قلبه شك ودخن. وهذا من تمام حكمته وعظمته، فإن الرب لا يرضى من العبد إلا أن يخلص له فلا يكون في قلب العبد إلا الله. وعلى هذا اقرأ قصة قارون وعلوه في الأرض في سورة القصص، وكيف كان كثرة ماله فتنة للناس، وثبت فيها أهل العلم بالله تعالى ثم عقب عليها بقوله: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}.
جـ- الحكمة الثالثة: ومن ابتلاء الله للمؤمنين بعلو الكفر حينا عليهم، ذلك ليرى من يطيعه بقتالهم ومنابذتهم ثقة بوعد الله تعالى، وممن يستكين للكفر ويذل له، كما حدث للصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في حركة الردة، فكان الصحابة هم أهل الإيمان واليقين وهم أحق به وأهله.
فارتفاع الكفر حينا هو فرصة ذهبية للمؤمن ليظهر صدق دعواه في تعلقه بعبودية الرب الحق قال تعالى: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} محمد، وقال الله تعالى لنبيه في الحديث القدسي: ((إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك... إلى قوله... استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك وأنفق عليهم فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك)) رواه مسلم.
يكثر الحديث الشيق في القرآن الكريم عن سنة إهلاك الله تعالى الكافرين، وهو حديث يرطب قلب المؤمن في صحراء الغربة القاحلة، فالمؤمن في زمن الضياع، وزمن قلة الإخوان والخلان، ونضوب القيم والفضائل، واستعلاء الباطل وغطرسته، وتبجّحه أنّه صاحب الأمر والشأن، وأنه لا رادّ لأمره، ولا فناء لملكه، أقول في هذا الزمن يكون الحديث القرآني حادي حق، وصادح أمل للنفوس العطشى، المرتقبة أمر السماء العلوي بحصول القضاء الإلهي العاجل بين المستضعفين وأعدائهم.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعالجات النفسية للمستضعفين في غير موطن فيه، ومنها قوله عن لوط عليه السلام لحظة استعلاء فجور قومه عليه ومراودتهم لضيوفه قال سبحانه وتعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب، وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات، قال هؤلاء بناتي هن أطهر لكم، فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد، قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد، قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، قالوا يا لوط إنّا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} هود.
فتمعن أخي في الله إلى عبارات لوط عليه السلام وما تحمل من آلام نفسية، وما تضمر من مخبآت تبين عن هذه الغربة التي يعيشها نبي الله لوط عليه السلام.
انظر إلى قوله سبحانه وتعالى عنه: {وضاق بهم ذرعا}.(2/220)
نعم لقد ضاقت نفسه، وذهب انبساطها، والعرب تقول ضاق بالأمر ذرعا: أي لم يطقه ولم يقو عليه.
هل رأيتم نبيا عظيما يصل إلى هذه المرحلة وإلى هذه الصورة في استقبال ضيوفه؟، والأنبياء هم الأنبياء، خلقا ودينا، كرما وشجاعة، لكنه عليه السلام: لم يطق ضيوفه، ولم يفرح لقدومهم، بل قال: {هذا يوم عصيب}.
ثم تابع الحدث حكايته، وتزداد الأزمة حبكتها بين طرفين:
الأول: يملك الحق {قوم يتطهرون} ولكنه غريب بحقه، ضعيف بأدوات مصارعته.
والثاني: الباطل بكل صلفه وخبثه، يتحدث حديث الفجور باستعلاء وإعلان: {لقد علمت مالنا في بناتك من حق}.
باطل يتحدث عن الحقوق، ويراعيها، وينبه خصمه إلى قواعد الشرعية الدستورية، ويلبس مسوح الحكماء {لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} انظروا بالله عليكم إلى طريقته في الحديث، واعجبوا كيف صدرت كلمة "الحق" منه، وإلى طريقة تقرير القانون {لقد علمت}، هم أصحاب الحق والقانون، والخصم. لوط عليه السلام. نسي قواعد الحق، والباطل يذكره بها، آه وألف آه!! وصدق من قال: "كم يخيفني الشيطان عندما يذكر اسم الله تعالى"!!.
ثم تواصل القصة. كما يقول البلغاء تأزمها.
هؤلاء قوم: ليس فيهم رجل رشيد، إنهم يتحدثون عن أمور لا رشد فيها ولا عقل ومع ذلك يقولون عن كل هذا الطيش الذي يخرج من رؤوسهم حقا، هل هؤلاء القوم تردهم الكلمة؟ أو تزجرهم الموعظة؟ أو تهديهم النصيحة؟.
هنا في هذه اللحظة تخرج كلمات الأسى والغضب، تخرج هذه الكلمات كأنها الجمر تريد أن تحرق من أمامها، تخرج هذه الكلمات من فم نبي من أنبياء الله تعالى: {لو أن لي بكم قوة} ماذا ستفعل بهذه القوة يا لوط؟ هل تصلح لهم بها بنيانهم؟ هل تصلح بها اقتصادهم؟ هل تدافع بها عن أعداء قومك؟ لا وألف لا:
بل لو أن لي بكم قوة لأدوس بها رؤوسكم العفنة، لو أن لي بكم قوة لأريكم العذاب ألوانا، لو أن لي بكم قوة لصنعت بكم ما صنع خاتم الأنبياء بـ "عكل" و "عرين"، قطع أيديهم وأرجلهم وجدع أنوفهم وقطع آذانهم ثم أحمى الحديد على النار حتى احمرّ ثم كحل عيونهم به ثم رماهم في الحرة يستسقون الماء ولا يسقون، هؤلاء قوم لا تنفع معهم الحكمة، بل من تمام الحكمة معهم أن تبيد خضراءهم وأن تقتلع رؤوسهم عن أكتافهم، وعلى هذا فإن الذين يظنون أن الحق لا يحتاج إلى قوة تحميه وتبيد أعداءه هم أصحاب عقول عفنة لم تفهم سياسة الدنيا والدين.
{لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} إن لوطا عليه السلام نسي. والأنبياء ينسون كما ينسى الناس وآدم من قبل قد نسي. أقول أن عليه السلام نسي أنه هو في ركن شديد، قال ابن كثير: "ورد في الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا وفي ثروة من قومه))". ا. هـ. إن هذه العبارات التي خرجت من فم نبي الله لوط عليه السلام تدل على حالة هي أشد ما يلقى الإنسان من القهر والظلم، ولكن هل انتهى المشهد أم أن هذه بداية النهاية؟. قال تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا} يوسف.(2/221)
في تلك اللحظة أتصور المشهد بالصورة التالية: لوط عليه السلام يقف أمام الباب وهو ينظر إلى تلك الحيوانات البهيمية من قومه، لوط يرتجف غضبا، وحبات العرق النقية تنساب على جبهته، يداه ترتفعان حينا بالتهديد وبالإنذار، وحينا بالرجاء {هؤلاء بناتي هن أطهر لكم}، وأما تلك الحيوانات الإنسية فإن منظرها لن يكون إلا على الصورة التالية: سكرى يتمايلون باستهزاء وسخرية، ويهرشون أبدانهم القذرة ارتقابا بعاجل الشهوة، وليس بعيدا أنهم يحملون معهم بعض الأوراق كتب عليها "الدستور لقرية سدوم" (قرية نبي الله لوط عليه السلام)، وفي هذا الدستور مكتوب فيه: "قرر الشعب أن يختار حرية الجنس بين المتماثلين"، في هذه اللحظات التي امتدت في نفس لوط إلى ملايين السنين، ونسي كل شيء وغابت عنه أعظم الحقائق. وهو كونه يأوي إلى ركن شديد. في تلك اللحظة التي بلغت فيها الأزمة ذروتها يخرج ضيف كأنه البدر ويضرب كتف لوط قائلا له: {إنّا رسل ربك}، أي نحن ملائكة العذاب. يا الله!: جاء الفرج، جاء الفرج، وهنا أخي في الله املأ مخيلتك بمشهد لوط عليه السلام: تخيل ماذا قال؟ وتخيل ماذا فعل؟ نعم في البداية جحظت عيناه من هول المفاجأة ولم يصدق ما سمع، لكنه جزما رأى ابتسامة على وجه الملك ردّت إليه روح الأمل فصرخ: ماذا؟ ملائكة الله؟ ملائكة العذاب؟: هيا عذبوهم، اقتلوهم، أروني بهم ما يسر ويبسط نفسي ويفرح قلبي. أرجوكم الآن لأشفي قلبي منهم. لكنّ الجواب: {إن موعدهم الصبح} هذا جوابهم. قال لوط: ماذا؟ الصبح! الصبح بعيد، وكان الوقت عصرا - كما قال أهل التفسير - أريد أن أشفي قلبي منهم الآن! قال الملائكة: بل انتظر، الصبح قريب. نعم فكان ما كان: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل منضود (أي مصنوعة في السماء) مسومة (أي مختومة بختم الصنع وإما بأسماء أصحابها) عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}، وانتهى المشهد بكل حركته وبكل عظمته، وظهر
أمر الله وهم كارهون.
أخي في الله هذا الحديث القرآني يفيدنا عدة فوائد منها:
أولاً: أن الباطل لابد إلى زوال، وأن فيه عوامل الفناء والفساد، وأنه مهما طال الليل فلا بد من الصبح.
وقد جعل الله الصبح علامة مباركة لأمور عدة أهمها:
أن الصبح هو ميقات حركة الخيل المجاهدة، قال تعالى: {والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا}العاديات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر: ((الله أكبر خربت خيبر إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين)). وكما قال الله تعالى: {أفبعذابنا يستعجلون، فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين}. فعلى الاخوة أن لا ييأسوا، ولا يستبطئوا النصر فإن لكل أجل كتاب، والصبح يأتي في موعده، ولن يطفئ نوره شيء.
ثانياً: أن الهلاك القدري بالسنن الكونية كما كان يقع في الأقوام الكافرة السابقة قد توقف، وأن الله يعذب الكافرين الآن بأيدي المؤمنين، فإذا أراد الله بقوم عذابا أغرى بهم عباده المؤمنين، فنزلوا بساحتهم. قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} القصص. قال ابن كثير في تفسيرها: "يعني أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمّة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا المشركين." ا. هـ. فعلى هذا فإن البديل عن ملائكة العذاب لقوم لوط هم أولئك الفتية صبح الوجوه كما قال أبو الطيب: "من طول ما التثموا مُرد". يضربون وجوه الكفرة بأيد من حديد يتشبهون بالملائكة، فالملائكة: {غلاظ شداد} التوبة، والفتية {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} التوبة، وهم {وليجدوا فيكم غلظة} التوبة، وهم { أشدّاء على الكفار}. ورحم الله من لم يرحم الكافرين، ولا رحم الله من كان في قلبه رحمة للكافرين.
----------------
الطائفة المنصورة
قال تعالى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) [النساء/95، 96] }
نعم .. هم رجال المرحلة .. وشرارة الملحمة .. وقادة الانطلاقة إلى سبيل العزة والسيادة .. والتمكين والريادة، ليس وهما ولا خيالا إنما حقيقة يثبتها الشرع والواقع، بهم غصت السجون، وعلى أيديهم وضعت الأغلال والقيود، ولهم باح الطغاة بالعداوة والبغضاء، وعليهم اتفقت كلمات أئمة الكفر، ولحربهم تصالح الأعداء ونسيت الشحناء
فبدمائهم وأشلائهم، وجهادهم وتضحياتهم، وكدهم وعرقهم، وابتلائهم وصبرهم، يبنون (جسر التمكين) ويمهدون (طريق النصر) ويشقون (معابر العز) ليعبره الجيل اللاحق .. ويسلكه كل هائم، ويسترشد به كل تائه وقاعد، ويستبصر كل حائر(2/222)
إن صفحات التاريخ ستكون خالية قاتمة إ ن لم تسطر بدماء الشهداء وتخطط بعرق المجاهدين، وتبرق بتضحيات الأبطال الشجعان، وتنار بالمعارك التي غدت كالكواكب المنيرة التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ألسنا نستشعر أن تلك التضحيات والمواقف وأولئك الرجال هم خير عدة وأفضل زاد عبر هذا الطريق اللاهب الشاق، ألا نفتخر اليوم بمواقف الأبطال النادرة ونجعلها تاجا يبرق فوق هام هذه الأمة، ألا ننتشي ونحن نتحدث ونذكر بدرا والقادسية واليرموك وحطين والزلاقة،ونتذكر خالدا والقعقاع والبراء بن مالك وصلاح الدين وقطز ويوسف بن تاشفين وغيرهم ممن صنعوا التاريخ
إذن لماذا ينال المجاهدين اليوم كل هذا النقد والتنقيص .. ولم هذا التنكر لمواقفهم والاستهانة بتضحياتهم والتهوين من بذلهم وجهادهم وجهودهم، وعلام الإغضاء من كل جهد مجاهد يواكب الحق ويصدع به؟ لم التفرق والاختلاف وتتبع الأهواء والتشبث بالآراء وإن بان زيغها وزيفها وحيفها؟ لم التجرؤ على الفتوى والإسراع في إطلاق الأحكام جزافا بلا روية ولا دراية؟ لمه إن (فن النقد) قد يجيده كل أحد .. لكن (فن العمل) و (فقة الحركة) و (جدية التفكير) ليس له إلا أهله .. لذلك فإن الذي لا يفهم طبيعة هذا الدين، ولم تربه الأحداث، ولا أيقضته التجارب، سيظن أن العمل والحركة تهور واستعجال، وأن التنظيم بدعة وضلال
إن الذي يعيش خالي البال من الجهد والجهاد ومن معاناة هذا الأمر الشاق العسير سيرى كل عمل لاستئناف حياة إسلامية حقيقية إنما هو لهو ولعب لأنه يعيش لنفسه، ويحمل هم يومه
مبدؤه: نفسي نفسي .. وزوجي زوجي .. وأولادي أولادي .. فصبرا أيها السادة النظار، والنقاد الكرام، فستعلمون حينها أن المصلحة الكبرى هي في تحقيق العبودية بالجهاد في سبيل الله، وفي وجوب الكفر بالطاغوت بإعداد المواجهة والمفاصلة والتبرؤ منه، وفي تحصيل الإيمان الواجب بإحياء فقه الحركة الحقيقي، وبالعمل الجماعي المنظم المعين على البر والتقوى والموصل إلى رحاب الخلافة، وفي دفع ضريبة العز والتمكين تامة كاملة بسخاء وطيب نفس من خلال بذلك الأموال وتقديم المهج واسترخاص كل غال ونفيس، وأن هذا هو أقرب طريق - بل الطريق الوحيد - للتمكين والرفعة وإماطة الذل والهوان عن هذه الأمة، حتى وإن بدا الأمر خلاف ذلك لقاصري النظر وضعاف الهمم، فالشدة والضيق والابتلاء والمحن والحرب والقتال أمور لا بد منها ولا محيص عنها لمن يدعي الإيمان {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}، {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون}، {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}، {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون وسيعلم بعض الذين يمثلون امتدادا للفكر الصوفي في ثوب جديد ممن عطلوا الأسباب وأنكروها وتنكروا لها أن الدين لا ولن يقام بالردود المسجوعة، وعبارات التشقيق والتقعير، ولا بالانشغال بالجزئيات وحدها وتهميش الكليات وإهمالها، لا بل محاربتها وتحريفها وتزييفها .. ولا بدعاوى وطرق ومسالك يرتضيها (ولاة الأمر) بل يدعمونها ويساندونها ويحثون على التمسك بها والسير عليها .. كيف لا .. وهم يحظون من خلالها بالدعاء لهم صباح مساء .. والتمجيد والتبجيل والثناء مما تشمئز وتتقزز منه النفوس السوية، وبإضفاء الشرعية عليهم فوق المنابر وفي المجامع تملقا وزورا مما يثبت عروشهم ويجعلهم في أعين الناس -ولاة أمرهم الذين لهم حق السمع والطاعة- هؤلاء وأمثالهم هم الذين دأبوا على تزيين أعمال الطغاة وأطالوا ويطيلون عمر بقائهم مع فسادهم وإفسادهم وبطشهم وتنكيلهم وبغيهم وطغيانهم، وليس من يواجه الطواغيت ويقارعهم بالبيان والسنان ويلاقي في سبيل ذلك كل عنت ومشقة، هو الذي يزيد في ثباتهم وعنادهم؛ لا كما كتب الدكتور - فتحي يكن - مقالا يذكر ويكرر فيه هذه القضية، حتى خلص إلى أن منافسة هذه الأنظمة تحت (رقبة البرلمان) هو الواجب إشعارا بوجود حركة مضادة حتى ولو صار الدين (لعبة ديمقراطية) أو (قرعة دستورية) أو ورقة تلقى في صندوق هو أشبه ما يكون بصناديق القمامة(2/223)
أفبهذا يقام الدين ويمكن لأهله؟ أهكذا تستأنف الحياة الإسلامية الحقيقية التي تقتلع الجاهلية كل الجاهلية من أصلها أبلغ منا الجبن والخور والشح في دفع التكاليف أن نستخف بعقول الناس وندغدغهم بشيء من الآمال الكاذبة والأماني الخادعة الذاهبة أدراج الرياح؟ أنحن مقتنعون حقا بأننا سنقيم شريعة الله (الكاملة) ونحكم كتابه القويم وننسف نظم ودساتير وآلهة الجاهلية برمتها بوريقة أو وريقات نلقيها في توابيت الكذب والخداع والضلال والتضليل؟، كلا والله .. إن هذا إلا لهو، وهو الجري وراء السراب وتضييع للأعمار وإهدار للأموال، ولئن استطعنا أن نخدع الناس ونخادع أنفسنا فإن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويكفي لتبديد هذه الأكاذيب وتشتيت الألاعيب أن تسمى هذه الطرق عند أهلها وعارفيها بـ(اللعبة والمسلسل) ومتى كان دين الله يقوم باللعب والمسلسلات والاستجداء في طلب الأصوات
وإن تعجب فعجب ممن هذا طريقه وهذه أساليبه في المواجهة والتغيير ..
بالحوار البارد، والعيش الهادئ، والحل السلمي، والتعدد الدستوري ، فهو لم يصنع الأحداث ولا فجر الانطلاقة، ولا بدأ العمل، ولا بعث الحياة والأمل، فضاعت المبادئ في طيات هذه الأسماء المائعة، وشوهت صورة الحق داخل هذا النفق المظلم، وأشربت القلوب حب الدعة والراحة، وجمحت إلى الخضوع والخنوع واستمراء الذل والامتهان، ورغبت عن الحق الجلي إلى دجى الباطل القاتم، فانقلب المعروف منكرا والمنكر معروفا، وصار الجهاد عنفا، وطلب الشهادة تهورا، والقتل والقتال تطرفا، والدستور قناة شرعية، والتعددية حتمية دينية!! فلم تقدر قيمة لدماء الشهداء، وأعراض الأسرى، وأنات الثكالى
لكننا نقول إن هذا هو الطريق منذ عهد المرسلين والمصلحين ليبلو الله الصابرين ويعلم المجاهدين ويكشف زيغ المبطلين وأراجيف المرجفين ..
وطالب الحق لا تتحكم فيه ردود الأفعال، بل يضع نصب عينيه قول الرسول الكريم في صفة الطائفة المنصورة (لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم) .. فلا يؤثر فيه إفراط ولا تفريط ولا انحراف أو تقصير .. بل يمضي في طريقه ثابتا شامخا قائما على المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يلقى ربه .. يواكب ركب الحق بعزة وقوة مرددا قول الشاعر
إن كنت ذا حق فخذه بقوة الحق يأخذه الضعيف فيزهق
لغة السيوف تحل كل قضية فدع الكلام لجاهل يتشدق
وإن معاداة الباطل للحق لهي أبين شاهد وأقوى دليل على ثبات الحق وأهله ..
قال الله تعالى{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} الأنبياء
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [ومن سنة الله أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاق) مجموع الفتاوى
فليثبت (رجال المرحلة) وليصبروا فإنهم على الحق ..
وليستعذبوا مرارته وليحتسبوا أجورهم عند الله فحلاوة أجر المحنة تنسيهم مرارتها
فإن النصر قريب والتمكين آت ولو بعد حين ..
وهذا(أبو العتاهية) شاعر الوعظ والحكمة يوصي صاحب الحق بالصبر فيقول
اصبر على الحق تستعذب مغبته والصبر للحق أحيانا له مضض
وما استربت فكن وقافةٌ حذراً قد يُبرم الأمر أحيانا فينتقض
وقبل ذلك وفوقه وصية ربنا لنبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم:
{فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم} .
والحمد لله رب العالمين
- - - - - - - - - - - - - -
شبهات حول مفهوم الهجرة :
هناك شبهات عديدة في مفهوم الهجرة سادت بين المسلمين اليوم بسبب جهلهم بحقيقة دينهم
وصار يرددها كثير من طلاب العلم دون وعي لما يقولون ومن ذلك :
الخروج في سبيل الله عند جماعة التبليغ :(1)
__________
(1) -جماعة التبليغ والدعوة
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف:
جماعة التبليغ جماعة إسلامية أقرب ما تكون إلى جماعة وعظ وإرشاد منها إلى جماعة منظمة. تقوم دعوتها على تبليغ فضائل الإسلام لكل من تستطيع الوصول إليه، ملزمةً أتباعها بأن يقتطع كل واحد منهم جزءً من وقته لتبليغ الدعوة ونشرها بعيداً عن التشكيلات الحزبية والقضايا السياسية، ويلجأ أعضاؤها إلى الخروج للدعوة ومخالطة المسلمين في مساجدهم ودورهم ومتاجرهم ونواديهم، وإلقاء المواعظ والدروس والترغيب في الخروج معهم للدعوة. وينصحون بعدم الدخول في جدل (*) مع المسلمين أو خصومات مع الحكومات.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
المؤسس الأول هو الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي 1303 ــ 1364هـ ولد في كاندهلة، قرية من قرى سهارنفور بالهند، تلقى تعليمه الأوَّلي فيها، ثم انتقل إلى دهلي حيث أتم تعليمه في مدرسة ديوبند التي هي أكبر مدرسة للأحناف في شبه القارة الهندية وقد تأسست عام 1283هـ / 1867م.
ـ تلقى تعليمه الأولى على أخيه الذي يكبره سناً وهو الشيخ محمد يحيى الذي كان مدرساً في مدرسة مظاهر العلوم بسهارنفور.
ـ الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي 1829 ـ 1905م وقد بايعه الشيخ محمد إلياس على الطريقة سنة 1315هـ.
ـ جدد البيعة على الشيخ خليل أحمد السهارنفوري أحد أئمة الديوبندية.
ـ اتصل بالشيخ عبد الرحيم الرائي فوري واستفاد من علمه وتربيته.
ـ أخذ بعض علومه على الشيخ أشرف علي التهانوي 1280ـــ 1364هـ 1863 ـ 1943م ، وهو الملقب لديهم بـ ( حكيم الأمة).
ـ أخذ عن الشيخ محمود حسن ( 1268 ـ 1339هـ ) ( 1851ـ1920م ) وهو من كبار علماء مدرسة ديوبند ومشايخ جماعة التبليغ.
من رفاقه المقربين:
ـ الشيخ عبدالرحيم شاه الديوبندي التبليغي: قضى مدة كبيرة في أمر التبليغ مع الشيخ محمد إلياس ومع ابنه الشيخ محمد يوسف من بعده.
ـ الشيخ احتشام الحسن الكاندهلوي: زوج أخت محمد إلياس ومعتمده الخاص، قضى مدة طويلة من حياته في قيادة الجماعة ومرافقة الشيخ المؤسس.
ـ الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي: مدير دار العلوم لندوة العلماء لكهنو الهند، وهو كاتب إسلامي كبير على صلة وثيقة بالجماعة.
ـ الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي 1335هـ / 1917 ــ1965م وهو ابن الشيخ محمد إلياس وخليفته من بعده، ولد في دهلي، تنقل كثيراً في طلب العلم أولاً، وفي نشر الدعوة ثانياً، زار السعودية عدة مرات حاجاً، والباكستان بشطريها، كانت وفاته في لاهور، نقل جثمانه بعدها ليدفن بجانب والده في نظام الدين بدهلي.
ـ ألف الشيخ أماني الأخبار وهو شرح معاني الآثار للطحاوي، وكتابه الشهير حياة الصحابة كما خلّف ولداً اسمه الشيخ محمد هارون يسير على منهجه وطريقته.
ـ الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي 1315ـ 1364هـ وهو ابن عم الشيخ محمد يوسف وزوج أخته، وهو الذي أشرف على تربيته وتوجيهه، ويصفونه بأنه ريحانة الهند وبركة العصر، كان شيخ الحديث والمشرف الأعلى لجماعة التبليغ، وليس له نشاط في صفوف الجماعة حالياً.
ـ الشيخ محمد يوسف البنوري: مدير المدرسة العربية بنيوتاون كراتشي وشيخ الحديث فيها، ومدير مجلة شهرية بالأوردية، ومن كبار علماء ديوبند وجماعة التبليغ.
ـ المولوي غلام غوث الهزاردي: من علماء الجماعة، كان عضواً في البرلمان المركزي.
ـ المفتي محمد شفيع الحنفي: وهو (المفتي الأعظم بباكستان) كان مديراً لمدرسة دار العلوم لاندهي كراتشي، وخليفة (حكيم الأمة) أشرف علي التهاوني، ومن علماء جماعة التبليغ.
ـ الشيخ منظور أحمد النعماني: من علماء الجماعة، ومن أصحاب الشيخ زكريا، وصديق للأستاذ أبي الحسن الندوي، ومن علماء ديوبند.
ـ إنعام الحسن: هو الأمير الثالث للجماعة إذ تولاها بعد وفاة الشيخ محمد يوسف وما يزال في منصبه إلى الآن، كان صديقاً للشيخ محمد يوسف في دراسته ورحلاته فهما متقاربان في السن متماثلان في الحركة والدعوة.
ـ الشيخ محمد عمر بالنبوري: من المرافقين للشيخ إنعام ومن مستشاريه المقربين.
ـ الشيخ محمد بشير: أمير الجماعة في الباكستان، ومركزهم الرئيسي فيها (رايوند) بضواحي لاهور.
ـ الشيخ عبد الوهاب: من كبار المسؤولين في ذات المركز بالباكستان.
الأفكار والمعتقدات:
ـ قرر المؤسس لهذه الجماعة ستة مبادئ جعلها أساس دعوته، ويحصرون الحديث فيها في مؤتمراتهم وبياناتهم العامة:
ـ الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
ـ إقامة الصلوات ذات الخشوع.
ـ العلم والذكر.
ـ إكرام المسلمين.
ـ الإخلاص.
تقوم طريقتهم في نشر الدعوة على ما يلي:
ـ تنتدب مجموعة منهم نفسها لدعوة أهل بلد ما، حيث يأخذ كل واحد منهم فراشاً بسيطاً وما يكفيه من الزاد والمصروف على أن يكون التقشف هو السمة الغالبة عليه.
ـ عندما يصلون إلى البلد أو القرية التي يريدون الدعوة فيها ينظمون أنفسهم أولاً بحيث يقوم بعضهم بتنظيف المكان الذي سيمكثون فيه، وآخرون يخرجون متجولين في أنحاء البلدة والأسواق والحوانيت، ذاكرين الله داعين الناس لسماع الخطبة أو (البيان) كما يسمونه.
ـ إذا حان موعد البيان التقوا جميعاً لسماعه، وبعد انتهاء البيان يطالبون الحضور بالخروج في سبيل الله، وبعد صلاة الفجر يقسّمون الناس الحاضرين إلى مجموعات يتولى كل داعية منهم مجموعة يعلمهم الفاتحة وبعض من قصار السور. حلقات حلقات. ويكررون ذلك عدداً من الأيام.
ـ قبل أن تنتهي إقامتهم في هذا المكان يحثون الناس للخروج معهم لتبليغ الدعوة، حيث يتطوع الأشخاص لمرافقتهم يوماً أو ثلاثة أيام أو أسبوعاً... أو شهراً.... كل بحسب طاقته وإمكاناته ومدى تفرغه تحقيقاً لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).
والعدد الأمثل للخروج أن يكون يوماً في الأسبوع وثلاثة أيام في الشهر وأربعين يوماً في السنة وأربعة أشهر في العمر كله.
ـ يرفضون إجابة الدعوة إلى الولائم التي توجه إليهم من أهل البلدة أو الحي؛ حتى لا ينشغلوا بغير أمور الدعوة والذكر، وليكون عملهم خالصاً لوجه الله تعالى.
ـ لا يتعرضون إلى فكرة (إزالة المنكرات) معتقدين بأنهم الآن في مرحلة إيجاد المناخ الملائم للحياة الإسلامية، وأن القيام بهذا العمل قد يضع العراقيل في طريقهم وينفّر الناس منهم.
ـ يعتقدون بأنهم إذا أصلحوا الأفراد فرداً فرداً فإن المنكر سيزول من المجتمع تلقائياً.
ـ إن الخروج والتبليغ ودعوة الناس هي أمور لتربية الداعية ولصقله عملياً؛ إذ يحس بأنه قدوة وأن عليه أن يلتزم بما يدعو الناس إليه.
ـ يرون بأن التقليد(*) في المذاهب(*) واجب ويمنعون الاجتهاد معللين ذلك بأن شروط المجتهد الذي يحق له الاجتهاد مفقودة في علماء هذا الزمان.
ـ تأثروا بالطرق الصوفية المنتشرة في بلاد الهند، وعليه فإنه تنطبق عليهم جملة من الأمور التي يتصف بها المتصوفة من مثل:
ـ لابد لكل مريد من شيخ يبايعه، ومن مات وليس في عنقه بيعة (*) مات ميتة جاهلية(*). وكثيراً ما تتم البيعة للشيخ في مكان عام تُنشر على الناس أردية واسعة مربوط بعضها ببعض مرددين البيعة بشكل جماعي، ويُفعل ذلك في جمع غفير من النساء كذلك.
ـ المبالغة في حب الشيخ والمغالاة كذلك في حب الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يخرجهم في بعض الأحيان عن الأدب الذي يجب التزامه حيال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
ـ إقامة المنامات مقام الحقائق حتى تكون هذه المنامات قاعدة تبنى عليها أمور تترك أثرها على مسيرة الدعوة.
ـ يعتقدون أن التصوف هو أقرب الطرق لاستشعار حلاوة الإيمان في القلوب.
ـ ترد على ألسنتهم أسماء أعلام المتصوفة من مثل عبد القادر الجيلاني المولود في جيلان عام 470هـ، والسهروردي، وأبو منصور الماتريدي ت 332هـ، وجلال الدين الرومي المولود عام 604هـ صاحب كتاب المثنوي.
ـ تقوم طريقتهم على الترغيب و الترهيب والتأثير العاطفي، وقد استطاعوا أن يجذبوا إلى رحاب الإيمان كثيراً من الذين انغمسوا في الملذات والآثام وحوّلوهم إلى العبادة والذكر والتلاوة.
ـ لا يتكلمون في السياسة، وينهون أفراد جماعتهم عن الخوض في مشاكلها، وينتقدون كل من يتدخل فيها، ويقولون بأن السياسة هي أن تترك السياسة، ولعلّ هذه النقطة هي جوهر الخلاف بينهم وبين الجماعة الإسلامية التي ترى ضرورة التصدي لأعداء الإسلام في القارة الهندية.
• المآخذ عليهم:
ـ أنهم لايهتمون ببيان ونشر عقيدة السلف والتوحيد الخالص بين أتباعهم ؛ بل يكتفون بالعموميات التي لاتغني في دين الله شيئًا . كذلك لايُنكرون الشركيات والبدع التي تعج بها بلاد المسلمين ؛ لاسيما الهند والباكستان منشأ الجماعة .
ـ أنهم يتوسعون توسعاً أفقياً كميًّا لا نوعيًّا إذ أن تحقيق التفوق النوعي يحتاج إلى رعاية ومتابعة وهذا ما تفتقده هذه الدعوة، ذلك لأن الشخص الذي يدعونه اليوم قد لا يلتقون به مرة أخرى، وقد يعود إلى ما كان عليه تحت تأثير مغريات الحياة وفتنها.ولذلك فإن تأثيرهم لا يدوم طويلاً أمام التيار المادي الجارف؛ إذ لا بد لمن غرس غرسة أن يتعهدها.
ـ لا يضمهم تنظيم واحد متسلسل، بل هناك صلات بين الأفراد وبين الدعاة تقوم على التفاهم والمودة.
ـ يؤولون أحاديث الجهاد (*) على "الخروج" مما يكاد ينسي الجهاد (*) في سبيل الله، كما يتساهلون كثيراً في رواية الأحاديث الضعيفة مع الإكثار من ذكر الكرامات التي تحصل لأتباعهم ولغيرهم من الصالحين.
ـ يلجأون إلى النوم والأكل في المساجد تقليلاً للنفقة، وينتقدهم البعض لهذا المسلك، وبخاصة في البلاد الأجنبية، ولكن هذا المسلك لا يعيبهم طالما أنهم لا يغادرون المساجد إلا بعد أن تكون أكثر نظافة وأحسن ترتيباً.
ـ لا يكفي عملهم لإقامة أحكام الإسلام في حياة الناس، ولا يكفي لمواجهة التيارات الفكرية المعادية للإسلام التي تجند كافة طاقاتها لحرب الإسلام والمسلمين.
ـ أسلوبهم يترك أثره بشكل واضح على رواد المساجد من المسلمين، أما أولئك الذين يحملون أفكاراً وإيديولوجيات (*) معينة فإن تأثيرهم عليهم يكاد يكون معدوماً.
ـ يقال عنهم بأنهم أخذوا بعضاً من الإسلام وتركوا بعضاً منه، وهذه التجزئة لحقائق الإسلام تتنافى مع طبيعته الواحدة الشمولية، ومنطقهم دائماً يقول: السياسة أن تترك السياسة، ولكنهم برغم ذلك لم ينجوا من ضربات المتسلطين وقد حظر نشاطهم في أكثر من بلد.
ومع ذلك ينبغي أن لا يُغفل ما لهم من جهود، فقد دخل على أيدهم خلقِ كثير إلى الإسلام، وترك آخرون من المسلمين على أيديهم سبل الغواية والرذيلة، بل استطاعوا أن يخترقوا قبل غيرهم الستار الحديدي الذي فرضته الشيوعية على بعض البلاد.
الجذور الفكرية والعقائدية:
• إنها جماعة إسلامية، عقيدة مؤسسيها وكبار علمائها ودعاتها في شبه القارة الهندية هي نفس عقيدة الماتريدية. على أن مذهبهم الفقهي هو المذهب الحنفي.
• تأثروا بالمتصوفة من مثل الطريقة الجشتية في الهند ويقيمون اعتباراً خاصاً لأعلام المتصوفة في التربية والتوجيه.
• هناك من يعتقد بأنهم قد أخذوا أفكارهم عن جماعة النور في تركيا.
• يعتمدون في اجتماعاتهم في البلاد العربية على القراءة من رياض الصالحين وحياة الصحابة ، وفي البلاد الأعجمية على القراءة من تبليغي نصاب ، وهو كتاب مليء بالخرافات والأحاديث الضعيفة.
• يطالبهم العلماء بالإقلاع عن اللجوء إلى كتابة التمائم (*) المملوءة بالطلاسم وترك الأوراد والأذكار البدعية، واعتماد الرؤى والأحلام كمصدر من مصادر الاستدلال والاهتمام بالعلم الشرعي وبخاصة علم التوحيد.
الانتشار ومواقع النفوذ:
• بدأت دعوتهم في الهند، وانتشرت في الباكستان وبنغلاديش، وانتقلت إلى العالم الإسلامي والعالم العربي حيث صار لهم أتباع في سوريا والأردن وفلسطين ولبنان ومصر والسودان والعراق والحجاز.
ـ انتشرت دعوتهم في معظم بلدان العالم في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا، ولهم جهود مشهود لها في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام في أوروبا وأمريكا.
ـ مركزهم الرئيسي في نظام الدين بدهلي، ومنه يديرون شئون الدعوة في العالم.
• التمويل المالي يعتمدون فيه على الدعاة أنفسهم، وهناك تبرعات متفرقة غير منظمة تأتي من بعض الأثريا مباشرة أو بابتعاث الدعاة على حسابهم الخاص.
ويتضح مما سبق:
أن جماعة التبليغ هي: إحدى الجماعات الإسلامية ، وتعتبر سندًا عاطفيًّا واجتماعيًّا لمسلمي شبه القارة الهندية، وهي رمز من رموز الدعوة إلى الله في أوروبا والأمريكتين، وتقوم الدعوة عند هذه الجماعة، على أساس الكلمة الطيبة والخشوع في الصلاة والعلم والذكر وإكرام المسلمين والإخلاص والخروج في سبيل الدعوة. ويمتاز دعاتها بالزهد، ولكنهم يعتقدون أن التصوف (بمفهومه القائم) هو أقرب الطرق لاستشعار حلاوة الإيمان.
( مع ملاحظة ما عليها من مؤاخذات سبق التنبيه على بعضها ، نتمنى من عقلاء الجماعة تداركها ؛ ليحسن عملهم ويتوافق مع الكتاب والسنة ) .
-----------
مراجع للتوسع:
ـ القول البليغ في جماعة التبليغ ، للشيخ حمود التويجري - رحمه الله - .
ـ حياة الصحابة، الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي ـ دار القلم دمشق ط 2 ـ 1403هـ / 1983م.
ـ الموسوعة الحركية، فتحي يكن ـ دار البشير ـ عمان ـ الأردن ـ ط 1 ـ 1403هـ/1983م.
ـ جماعة التبليغ عقيدتها وأفكارها مشايخها، ميان محمد أسلم الباكستاني، وهو بحث مقدم لكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ـ للعام الدراسي 1396/1397هـ.
ـ الطريق إلى جماعة المسلمين، حسين بن محسن بن علي بن جابر ـ دار الدعوة ـ الكويت ـ ط 1 ـ 1405هـ/1984م.
ـ مشكلات الدعوة والداعية، فتحي يكن ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ لبنان ـ ط 3 ـ 1394هـ/ 1974م.
ـ السراج المنير، الدكتور تقي الدين الهلالي.
ـ الدعوة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية، الدكتور صادق أمين ـ جمعية عمال المطابع التعاونية ـ عمان ـ الأردن 1978م.
ـ حقيقة الدعوة إلى الله تعالى وما اختصت به جزيرة العرب، سعد بن عبد الرحمن الحصين، تقديم الشيخ صالح بن فوزان الفوزان.
ـ رأي آخر في جماعة التبليغ ـ سعد الحصين، بحث مقدم إلى ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر ـ البحرين 1405هـ/1985م.
انظر http://www.salafmisr.com/vb/showthread.php?t=1703(2/224)
فجماعة التبليغ قد ميعت معنى الخروج في سبيل الله وقصرته على الخروج مع الجماعة إلى مسجد من المساجد ودعوة أهله هنالك بضعة أيام أو أيام معدودة فقط وهذا هو سبيل الله عند القوم وهذه هي الهجرة !!
وكل ذلك مسخ لمفهوم في سبيل الله ومفهوم الهجرة كما ورد في القرآن والسنة وسارت عليه الأمة .
أما الجهاد في سبيل الله فلا وجود له في قاموس القوم ، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمثله كذلك
ومن ثم فإن هذه الجماعة لا تمنع من العمل ولا من النشاط في أية بلد حتى لو كانت من أشدها عداء للإسلام والمسلمين، وذلك لأن في هذه الدعوة انحرافا خطيرا ومسخا واضحا عن سواء السبيل....
------------------
الخروج من فلسطين :
وفتوى أخرى أشد خطرا تطلب من المسلمين الموجودين في فلسطين الهجرة منها لأنها صارت دار كفر وحرب ، ويجب الخروج من دار الكفر والحرب !!!!
ولكن يظهر أن أصحاب هذه الفتاوى لا يفقهون بالدين ولا بالواقع
فإلى أين سيهاجر الفلسطينيون ؟
لقد فات من يقول بهذه الفتوى الخرقاء ، أن جميع بلاد المسلمين لا تسمح بذلك لأن أمرها ليس بيدها ...
ولو أخذنا بفتواه فكثير من بلاد المسلمين اليوم ليس الإسلام ليس هو الحاكم والمهيمن على حياة الناس بل تحكم بالحديد والنار ويوالون أعداء الإسلام
فإلى أين سيهاجر المسلمون في شرقي البلاد وعرضها ؟؟؟!!!
بل هذا ما يتمناه اليهود منذ زمان حتى يجلبوا جميع اليهود في الأرض إلى فلسطين
لقد فاوت من أفتى بهذه الفتوى الباطلة أن الفلسطينيين الذين فروا بدينهم شتتوا في أصقاع المعمورة ولاقوا من كثير من الأنظمة العربية الأمرين ، وسيموا أشد العذاب .
بل الذين بقوا في فلسطين وتحت الاحتلال هم الذين خرج منهم جيل الشيخ أحمد ياسين رحمه الله ومن معه ..
لقد تكونت حركة الجهاد الإسلامي داخل فلسطين، وليس خارجها لأن الفلسطينيين في داخل فلسطين كانوا أكثر حرية من جميع الفلسطينيين الذين هجِّروا من فلسطين
قال تعالى :
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ* (46) سورة الحج
وقال بعض العلماء تعليقا على الفتوى(1) :
الحمد لله رب العالمين. يتعين الجهاد على المسلمين في حالات عدة، منها: إذا نزل العدو في ساحتهم، واستولى على أرضهم وديارهم.
قال ابن قدامة في المغني 9/163: يتعين الجهاد في ثلاثة مواضع، منها: إذا نزل الكفار ببلد، تعين على أهله قتالهم ودفعهم ا- هـ.
قلت: فإن لم يقدروا على ذلك بمفردهم ينتقل الفرض إلى من يُجاورهم من المسلمين .. وهكذا يتوسع الفرض إن حصل العجز عن إخراجهم، ودفعهم إلى أن يشمل جميع أبناء الأمة.
فالواجب على المسلمين في فلسطين الثبات وجهاد اليهود المغتصبين والمحتلين للأرض ..
وهذا هو الأصل ..
أما الهجرة تكون في حالات استثنائية طارئة ومقيدة .. ومن أجل استئناف الجهاد والقتال من جديد.
فتفريغ الساحة الفلسطينية من أهاليها الأصليين من المسلمين .. يُعين على تكريس الاعتداء والاحتلال .. ويُطيل من أمد معاناة الشعب المسلم في فلسطين.
هذا وجه، ومن وجه آخر فإن بديل الهجرة بالنسبة للشعب المسلم في فلسطين ـ في ظل بلاد الطوق العربية المحيطة بفلسطين والتي تقوم بدور كلاب الحراسة الشرسة والأوفياء لحماية دولة يهود ومصالح بني يهود ـ خيار صعب جداً .. وهو أصعب عليهم وأكثر كلفة وتضحية من خيار الثبات والجهاد في سبيل الله.
والذي يتتبع سيرة الفلسطينيين المهجرين وما تعرضوا له من مجازر، وتصفيات، وانتهاكات، وإذلال في بلاد الطوق وغيرها من البلدان يدرك حقيقة ما ذكرناه.
لم تكن يوماً من الأيام ضريبة الثبات والجهاد في سبيل الله أكثر كلفة من ضريبة الذل، والخنوع، والركون إلى الظالمين .. وإلى رحمتهم!!
ضريبة امتطاء السلاح .. وصعود قمم الجبال .. دفاعاً عن النفس والحرمات ـ مهما عظمت ـ لن تكون أكثر كلفة من ضريبة افتراش المخيمات على الحدود .. والوقوف ـ الساعات الطوال ـ في طوابير الذل من أجل استلام المؤن والمواد الغذائية التي توزّع من قبل أمم الكفر!
والذي قال بهذه قد أخطأ .. وخطؤه مرده إلى أمرين:
أولهما: أنه نظر إلى جانب واحد من جوانب المسألة، وإلى باعث واحد من بواعث الهجرة من دون النظر إلى الموضوع بمجموعه وكلياته: وهو أنه شعب يُقتّل، ويُضطهد، ولم يعد آمناً على نفسه .. ماذا يفعل ؟!
قال: يُهاجر .. مستثنياً خيار الجهاد والمقاومة .. والدفاع عن النفس وهو الخيار الأول والأصل .. وساهياً عن أبعاد المسألة وما يمكن أن يترتب على قوله " هاجروا " من مفاسد عظيمة للإسلام والمسلمين .. وفي المقابل ما يترتب من مصالح عظيمة لبني يهود ..!
فالشيخ عندما قال: هاجروا .. فهو بذلك مثله مثل من أفتى رجلاً سطا لصٌّ على بيته وماله، فقال له: هاجر من بيتك .. ودعه ومالَك للص المعتدي!
__________
(1) - انظر كتاب الهِجْرَةُ مسائِلٌ .. وأحكام ص 63 فما بعدها(2/225)
هذا توجيه الشيخ .. بينما توجيه النبي صلى الله عليه وسلم ـ إضافة لما تقدم ـ فإنه يحض على قتال اللص .. وعدم إعطائه المال .. فإن قُتل اللص فهو في النار، وإن قُتل المُعتدَى عليه فهو شهيد .. وفي الجنة.
كما في الحديث عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال:" فلا تعطه مالك "، قال: أرأيت إن قاتلني ؟ قال:" قاتله "، قال: أرأيت إن قتلني ؟ قال:" فأنت شهيد "، قال: أرأيت إن قتلته ؟ قال:" هو في النار " مسلم.
وفي رواية عند النسائي:" قاتل دون مالِك، حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك "[ صحيح سنن النسائي: 3803.].
وقال صلى الله عليه وسلم :" من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد .. ومن قُتل دون مظلمته فهو شهيد "[ صحيح سنن النسائي: 3817 و 3818.].
قلت: فكيف إذا كان هذا المال المعتدَى عليه .. وهذه الحقوق المعتدى عليها .. هي فلسطين الذي فيها " الأقصى " مسرى النبي صلى الله عليه وسلم .. وأولى القبلتين .. وكان اللص المعتدي هم اليهود الذين قال الله تعالى فيهم:? لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ?المائدة:82. لا شك أن القتال في سبيل الله دونها حينئذٍ يكون أوكد وأوجب!
هذا هو توجيه النبي صلى الله عليه وسلم في حال اعتدي على الحرمات والحقوق .. وكان لا يمكن أن يُزاد عن الحرمات .. وتُرد الحقوق إلى أصحابها إلى بالقتال .. وليس بعد توجيه النبي صلى الله عليه وسلم توجيه .. فأمره هو النافذ .. وهو الذي يجب أن يمضي في الأمة ويُعمل به ..
وكل ما خالفه فهو مردود على صاحبه .. أياً كان صاحبه.......
====================
فتوى أخرى تأمر بالهجرة والجهاد :
وهناك فتوى أخرى لبعض الدعاة الذين لا نشك في حسن نواياهم يأامرون الناس بالهجرة والجهاد استنادا لمثل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* (72) سورة الأنفال
ولكن إلى أين سيهاجرون ؟
وكل بلاد الإسلام سواء في هذا الأمر
إنما يجب عليهم البقاء وتحمل المشاق والصعاب في سبيل الله تعالى
قال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ* (142) سورة آل عمران
وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* (16) سورة التوبة
وأما الجهاد فواجب بلا ، فيجب عليهم أن يجاهدوا القريب قبل البعيد وهذا بلا خلاف ، والمحتلون الغزاة في طول البلاد وعرضها
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ* (123) سورة التوبة
قال ابن كثير رحمه الله(1) :
أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام؛ ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة، والطائف، واليمن واليمامة، وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لكونهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهْد الناس وجَدْب البلاد (1) وضيق الحال، وكان ذلك سنة تسع من هجرته، عليه السلام. (2)
ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجته حَجَّة الوداع. ثم عاجلته المنية، صلوات الله وسلامه عليه، بعد الحجة بأحد وثمانين يوما، فاختاره الله لما عنده.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 237)(2/226)
وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر، رضي الله عنه، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل، فثبته الله تعالى به فوطد القواعد، وثبت الدعائم. ورد شارد الدين وهو راغم. ورد أهل (3) الردة إلى الإسلام، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام، وبين الحق لمن جهله، وأدى عن الرسول ما حمله. ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عَبَدَةِ الصلبان (4) وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنفس كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد. وأنفق كنوزهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك رسول الإله.
وكان تمام الأمر على يدي وصيّه من بعده، وولي عهده الفاروق الأوّاب، شهيد المحراب، أبي حفص عمر بن الخطاب، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقًا وغربًا. وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدًا وقُربا. ففرقها على الوجه الشرعي، والسبيل المرضي.
ثم لما مات شهيدًا وقد عاش حميدًا، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار. على خلافة أمير المؤمنين [أبي عمرو] (5) عثمان بن عفان شهيد الدار. فكسى الإسلام [بجلاله] (6) رياسة حلة سابغة. وأمدت (7) في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة، وظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمة الله وظهر دينه. وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، فكلما عَلَوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار، امتثالا لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } وقوله تعالى: { وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [أي: وليجد الكفار منكم (8) غلظة] (9) عليهم في قتالكم لهم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر، كما قال تعالى: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة: 54]، وقال تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 73، والتحريم: 9]، وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا الضَّحوك القَتَّال"، يعني: أنه ضَحُوك في وجه وليه،قَتَّال لهامة عدوه.
وقوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي: قاتلوا الكفار، وتوكلوا على الله، واعلموا أن الله معكم إن اتقيتموه وأطعتموه.
وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة، في غاية الاستقامة، والقيام بطاعة الله تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سَفال وخسار. ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدموا إليها، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، ولله، سبحانه، الأمر من قبل ومن بعد. فكلما قام ملك من ملوك الإسلام، وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية الله. والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم.
--------------------
وقال السيد رحمه الله (1):
فقد سارت عليها الفتوح الإسلامية , تواجه من يلون "دار الإسلام" ويجاورونها , مرحلة فمرحلة . فلما أسلمت الجزيرة العربية - أو كادت ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف قوة يخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة - كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم . ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس , فلم يتركوا وراءهم جيوبا ; ووحدت الرقعة الإسلامية , ووصلت حدودها , فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء , متماسكة الأطراف ; . . ثم لم يأتها الوهن فيما بعد إلا من تمزقها , وإقامة الحدود المصطنعة فيما بينها على أساس ملك البيوت , أو على أساس القوميات ! وهي خطة عمل أعداء هذا الدين على التمكين لها جهد طاقتهم وما يزالون يعملون . وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام "أمة واحدة " في "دار الإسلام" المتصلة الحدود - وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان - ستظل ضعيفة مهيضة إلا أن تثوب إلى دينها , وإلى رايته الواحدة ; وإلا أن تتبع خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدرك أسرار القيادة الربانية التي كفلت لها النصر والعز والتمكين .
ونقف مرة أخرى أمام قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة , واعلموا أن الله مع المتقين) . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 243)(2/227)
فنجد أمرا بقتال الذين يلون المسلمين من الكفار . لا يذكر فيه أن يكونوا معتدين على المسلمين ولا على ديارهم . . وندرك أن هذا هو الأمر الأخير , الذي يجعل "الانطلاق" بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد , وليس هو مجرد "الدفاع" كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة المسلمة في المدينة .
ويريد بعض الذين يتحدثون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام , وعن أحكام الجهاد في الإسلام , وبعض الذين يتعرضون لتفسير آيات الجهاد في القرآن . . أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيدا من النصوص المرحلية السابقة ; فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء ! والنص القرآني بذاته مطلق , وهو النص الأخير ! وقد عودنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام , أن يكون دقيقا في كل موضع ; وألا يحيل في موضع على موضع ; بل يتخير اللفظ المحدد ; ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص . إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص .
ولقد سبق لنا في تقديم السورة في الجزء العاشر , وفي تقديم آيات القتال مع المشركين والقتال مع أهل الكتاب , أن فصلنا القول في دلالة النصوص والأحكام المرحلية والنصوص والأحكام النهائية على طبيعة المنهج الحركي للإسلام فحسبنا ما ذكرناه هناك .
إلا أن الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام , وعن أحكام الجهاد في الإسلام , والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذه الأحكام , يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام ! وأن يكون الله - سبحانه - قد أمر الذين آمنوا أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار , وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار , كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار ! . . يتعاظمهم ويهولهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا , فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة ; ويجدون هذه القيود في النصوص المرحلية السابقة !
إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو . .
إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله" . . جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله . . جهاد لتحرير "الإنسان" من العبودية لغير الله , ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد . . (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) . . وأنه ليس جهادا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله . إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد ! وليس جهادا لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم , إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد ! وليس جهادا لإقامة مملكة لعبد , إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض . . ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في "الأرض" كلها , لتحرير "الإنسان" كله . بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها . . فكلها "أرض" يسكنها "الإنسان" وكلها فيها طواغيت تعبد العباد للعباد !
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج , وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم . . إنها في هذا الوضع لا تستساغ ! وهي فعلا لا تستساغ ! . . لولا أن الأمر ليس كذلك . وليس لهشبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش ! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية . فليس لواحد منها أن يقول:إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء ! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية ; ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعا من ذلة العبودية للعباد ; ويرفع البشر جميعا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك !
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوما صليبيا منظما لئيما ماكرا خبيثا يقول لهم:إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف , وأن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية ; وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد !(2/228)
والمسألة على هذا الوضع لا تكون مستساغة . . لولا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق . . إن الإسلام يقوم على قاعدة: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) . . ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيف مجاهدا ; ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) ? . . إنه لأمر آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد . . بل لأمر مناقض تماما للإكراه على العقيدة . . إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد ! . . لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد ; يواجه دائما طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد . ويواجه دائما أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد ; تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور ; وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية ; كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم , أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل . . وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله . . ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة , ويدمر هذه القوى التي تحميها . . ثم ماذا ? . . ثم يترك الناس - بعد ذلك - أحرارا حقا في اختيار العقيدة التي يريدونها . إن شاءوا دخلوا في الإسلام , فكان لهم ما للمسلمين من حقوق , وعليهم ما عليهم من واجبات , وكانوا إخوانا في الدين للسابقين في الإسلام ! وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية , إعلانا عن استسلامهم لانطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة ; ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يستسلموا بعد , وتكفل العاجز منهم والضعيف والمريض كالمسلمين سواء بسواء .
إن الإسلام لم يكره فردا على تغيير عقيدته ; كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوبا بأسرها - كشعب الأندلس قديما وشعب زنجبار حديثا - لتكرههم على التنصر . وأحيانا لا تقبل منهم حتى التنصر , فتبيدهم لمجرد أنهم مسلمون . .
وأحيانا لمجرد أنهم يدينون بمذهب نصراني مخالف لمذهب الكنيسة الرسمية . . وقد ذهب مثلا اثنا عشر ألفا من نصارى مصر ضحايا بصور بشعة إذ أحرقوا أحياء على نار المشاعل لمجرد مخالفتهم لجزئية اعتقادية عن كنيسة روما تتعلق بإنبثاق الروح القدس من الآب فقط , أو من الآب والابن معا ! أو يتعلق بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية , أو طبيعة لاهوتية ناسوتية . . . إلى آخر هذه الجزيئات الإعتقادية الجانبية !
وأخيرا فإن صورة الإنطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيا في هذا الزمان وتتعاظمهم ; لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الإنطلاق فيهولهم الأمر . . وهو يهول فعلا ! . . فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين , وهم شعوب مغلوبة على أمرها ; أو قليلة الحيلة عموما ! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعا بالقتال , حتى لا تكون فتنة ويكونالدين كله لله ?! إنه لأمر لا يتصور عقلا . . ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلا !
ولكن فات هؤلاء جميعا أن يروا متى كان هذا الأمر ? وفي أي ظرف ? لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله ; دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين , ونظمت على أساسه . وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق , فنصرها الله يوما بعد يوم , وغزوة بعد غزوة , ومرحلة بعد مرحلة . . وأن الزمان قد إستدار اليوم كهيئته يوم بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ليدعو الناس - في جاهليتهم - إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فجاهد والقلة التي معه حتى قامت الدولة المسلمة في المدينة . وأن الأمر بالقتال مر بمراحل وأحكام مترقية حتى انتهى إلى تلك الصورة الأخيرة . . وأن بين الناس اليوم وهذه الصورة أن يبدأوا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول . . ثم يصلوا - يوم أن يصلوا - إلى هذه الصورة الأخيرة بإذن الله . .
ويومئذ لن يكونوا هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والمناهج والأهواء ; والذي تتقاسمه الرايات القومية والجنسية والعنصرية . ولكنهم سيكونون العصبة المسلمة الواحدة التي ترفع راية:لا إله إلا الله . ولا ترفع معها راية أخرى ولا شعارا , ولا تتخذ لها مذهبا ولا منهجا من صنع العبيد في الأرض ; إنما تنطلق بإسم الله وعلى بركة الله . .
إن الناس لا يستطيعون أن يفقهوا أحكام هذا الدين , وهم في مثل ما هم فيه من الهزال ! إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض ومكافحة ألوهية الطواغيت !
إن فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذ عن القاعدين , الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة ! إن فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق . وحفظ ما في متون الكتب . والتعامل مع النصوص في غير حركة , لا يؤهل لفقه هذا الدين , ولم يكن مؤهلا له في يوم من الأيام !(2/229)
وأخيرا فإن الظروف التي نزل فيها قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة , واعلموا أن الله مع المتقين) . .
تشير إلى أن أول المقصودين به كانوا هم الروم . . وهم أهل كتاب . . ولكن لقد سبق في السورة تقرير كفرهم الاعتقادي والعملي , بما في عقيدتهم من انحراف , وبما في واقعهم من تحكيم شرائع العبيد . .
وهذه لفتة لا بد من الوقوف عندها لفقه منهج هذا الدين في الحركة تجاه أهل الكتاب , المنحرفين عن كتابهم , المحتكمين إلى شرائع من صنع رجال فيهم ! . . وهي قاعدة تشمل كل أهل كتاب يتحاكمون - راضين - إلى شرائع من صنع الرجال وفيهم شريعة الله وكتابه , في أي زمان وفي أي مكان !
ثم لقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار وليجدوا فيهم غلظة , وعقب على هذا الأمر بقوله: (إن الله يحب المتقين) . .
ولهذا التعقيب دلالته . .
فالتقوى هنا . . التقوى التي يحب الله أهلها . .
هي التقوى التي تنطلق في الأرض تقاتل من يلون المسلمين من الكفار ; وتقاتلهم في "غلظة " أي بلا هوادة ولا تميع ولا تراجع . .
حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
ولكنه ينبغي أن نعرف وأن يعرف الناس جميعا أنها الغلظة على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم - وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين - وليست هي الغلظة المطلقة من كل قيد وأدب !
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* (73) سورة التوبة
===================
هجرة اليهود إلى فلسطين :
وأما هجرة اليهود إلى فلسطين فهي من أشد المحرمات ويجب قتلهم أينما كانوا وقتل كل من يمكِّنهم من ذلك ، وفي أي مكان في هذه الأرض وجدوا (1)
===============
اختلاط الدارين مع بعضهما البعض
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2):
773 - 2 مَسْأَلَةٌ : فِي بَلَدِ " مَارِدِينَ " هَلْ هِيَ بَلَدُ حَرْبٍ أَمْ بَلَدُ سِلْمٍ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُقِيمِ بِهَا الْهِجْرَةُ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يُهَاجِرْ وَسَاعَدَ أَعْدَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ , هَلْ يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ , وَهَلْ يَأْثَمُ مَنْ رَمَاهُ بِالنِّفَاقِ وَسَبَّهُ بِهِ أَمْ لَا ؟
الْجَوَابُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالُهُمْ مُحَرَّمَةٌ حَيْثُ كَانُوا فِي مَارِدِينَ أَوْ غَيْرِهَا , وَإِعَانَةُ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمَةٌ , سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ مَارِدِينَ أَوْ غَيْرَهُمْ , وَالْمُقِيمُ بِهَا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ دِينِهِ وَجَبَتْ الْهِجْرَةُ عَلَيْهِ , وَإِلَّا اُسْتُحِبَّتْ وَلَمْ تَجِبْ وَمُسَاعَدَتُهُمْ لِعَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ , مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ , وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَمْكَنَهُمْ مِنْ تَغَيُّبٍ , أَوْ تَعْرِيضٍ , أَوْ مُصَانَعَةٍ , فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْهِجْرَةِ تَعَيَّنَتْ , وَلَا يَحِلُّ سَبُّهُمْ عُمُومًا وَرَمْيُهُمْ بِالنِّفَاقِ , بَلْ السَّبُّ وَالرَّمْيُ بِالنِّفَاقِ يَقَعُ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , فَيَدْخُلُ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ مَارِدِينَ وَغَيْرُهُمْ . وَأَمَّا كَوْنُهَا دَارَ حَرْبٍ أَوْ سِلْمٍ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ فِيهَا الْمَعْنَيَانِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ دَارِ السِّلْمِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ , لِكَوْنِ جُنْدِهَا مُسْلِمِينَ , وَلَا بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي أَهْلُهَا كُفَّارٌ , بَلْ هِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ يُعَامَلُ الْمُسْلِمُ فِيهَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَيُقَاتَلُ الْخَارِجُ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ .
===================
( الغاية من الهجرة )
عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا ، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » أخرجه البخاري (3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (4):
__________
(1) - وانظر كتابنا هجرة اليهود إلى فلسطين دروس وعبر ففيه تفصيل كامل لهذه القضية الجلل
(2) - الفتاوى الكبرى - (ج 5 / ص 225)
(3) - برقم( 1 ،54 ، 2529 ، 3898 ، 5070 ، 6689 ، 6953 )
(4) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 114)(2/230)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } لَيْسَ هُوَ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ لَكِنَّهُ إخْبَارٌ بِأَنَّ مَنْ نَوَى بِعَمَلِهِ شَيْئًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَا نَوَاهُ أَيْ : مَنْ قَصَدَ بِهِجْرَتِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَصَلَ لَهُ مَا قَصَدَهُ وَمَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْهِجْرَةَ إلَى دُنْيَا أَوْ امْرَأَةٍ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ فَهَذَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ذَكَرَ أَنَّ لِهَذَا مَا نَوَاهُ وَلِهَذَا مَا نَوَاهُ . وَالْهِجْرَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْهَجْرِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ } كَمَا قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ لِكَمَالِ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ كَمَا قَالَ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافُ } إلَخْ وَقَدْ يُشْبِهُ هَذَا قَوْلَهُ : { مَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : مَنْ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ . قَالَ : لَيْسَ هَذَا الْمُفْلِسُ وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتِ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَيَأْتِي وَقَدْ ضَرَبَ هَذَا ؛ وَشَتَمَ هَذَا ؛ وَأَخَذَ مَالَ هَذَا ؛ فَيُعْطِي هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ؛ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ حَسَنَةٌ أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ؛ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ } . وَقَالَ : { مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : مَنْ لَا يُولَدُ لَهُ . قَالَ : الرَّقُوبُ مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصَّرْعَةِ وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } . لَكِنْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَقْصُودٌ وَبَيَانُ مَا هُوَ أَحَقُّ بِأَسْمَاءِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِمَّا يَظُنُّونَهُ . فَإِنَّ الْإِفْلَاسَ حَاجَةٌ وَذَلِكَ مَكْرُوه فَبَيَّنَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ إنَّمَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَذَلِكَ عَدَمُ الْوَلَدِ تَكْرَهُهُ النُّفُوسُ لِعَدَمِ الْوَلَدِ النَّافِعِ فَبَيَّنَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْوَلَدِ حَقِيقَةً إنَّمَا يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ قَدَّمَ أَوْلَادَهُ بَيْن يَدَيْهِ وَكَذَلِكَ الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ مَحْبُوبَةٌ فَبَيَّنَ أَنَّ قُوَّةَ النُّفُوسِ أَحَقُّ بِالْمَدْحِ مِنْ قُوَّةِ الْبَدَنِ وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ كَمَا قِيلَ لِبَعْضِ سَادَاتِ الْعَرَبِ : مَا بَالُ عَبِيدِك أَصْبَرُ مِنْكُمْ عِنْدَ الْحَرْبِ وَعَلَى الْأَعْمَالِ ؟ قَالَ : هُمْ أَصْبَرُ أَجْسَادًا وَنَحْنُ أَصْبَرُ نُفُوسًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : فِي اسْمِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ : فِي الْمُسْلِمِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْمُهَاجِرِ وَالْمُجَاهِدِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَنْفِي مُسَمَّى اسْمٍ شَرْعِيٍّ إلَّا لِانْتِفَاءِ كَمَالِهِ الْوَاجِبِ ؛ فَإِنَّ هَجْرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَاجِبٌ ؛ وَسَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عُدْوَانِ الْإِنْسَانِ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَاجِبٌ وَالْمُؤْمِنُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لَا يَكُونُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ إلَّا إذَا كَانَ أَمِينًا وَالْأَمَانَةُ وَاجِبَةٌ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُعْرَفُ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِعْطَاءِ مِمَّنْ أَظْهَرَ حَاجَتَهُ وَسُؤَالَهُ وَعَطَاؤُهُ وَاجِبٌ وَتَخْصِيصُ السَّائِلِ بِالْعَطَاءِ دُونَ هَذَا لَا يَجُوزُ بَلْ تَخْصِيصُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ أَوْلَى وَأَوْجَبُ وَأَحَبُّ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ؛ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ؛ وَإِذَا اسْتَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا } وَقَالَ { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ } وَكِلَاهُمَا حَقٌّ . فَالْأَوَّلُ أَرَادَ بِهِ الْهِجْرَةَ الْمَعْهُودَةَ فِي زَمَانِهِ وَهِيَ الْهِجْرَةُ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ فَإِنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً لَمَّا كَانَتْ مَكَّةُ وَغَيْرُهَا دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ وَكَانَ الْإِيمَانُ بِالْمَدِينَةِ فَكَانَتْ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَاجِبَةً لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ(2/231)
وَصَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَتْ الْعَرَبُ فِي الْإِسْلَامِ صَارَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ كُلُّهَا دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ } وَكَوْنُ الْأَرْضِ دَارَ كُفْرٍ وَدَارَ إيمَانٍ أَوْ دَارَ فَاسِقِينَ لَيْسَتْ صِفَةً لَازِمَةً لَهَا ؛ بَلْ هِيَ صِفَةٌ عَارِضَةٌ بِحَسَبِ سُكَّانِهَا فَكُلُّ أَرْضٍ سُكَّانُهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ هِيَ دَارُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكُلُّ أَرْضٍ سُكَّانُهَا الْكُفَّارُ فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكُلُّ أَرْضٍ سُكَّانُهَا الْفُسَّاقُ فَهِيَ دَارُ فُسُوقٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنْ سَكَنَهَا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَتَبَدَّلَتْ بِغَيْرِهِمْ فَهِيَ دَارُهُمْ . وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ إذَا تَبَدَّلَ بِخَمَّارَةٍ أَوْ صَارَ دَارَ فِسْقٍ أَوْ دَارَ ظُلْمٍ أَوْ كَنِيسَةً يُشْرِكُ فِيهَا بِاَللَّهِ كَانَ بِحَسَبِ سُكَّانِهِ ؛ وَكَذَلِكَ دَارُ الْخَمْرِ وَالْفُسُوقِ وَنَحْوُهَا إذَا جُعِلَتْ مَسْجِدًا يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ جَلَّ وَعَزَّ كَانَ بِحَسَبِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ يَصِيرُ فَاسِقًا وَالْكَافِرُ يَصِيرُ مُؤْمِنًا أَوْ الْمُؤْمِنُ يَصِيرُ كَافِرًا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كُلٌّ بِحَسَبِ انْتِقَالِ الْأَحْوَالِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً } الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ لَمَّا كَانَتْ دَارَ كُفْرٍ وَهِيَ مَا زَالَتْ فِي نَفْسِهَا خَيْرَ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبَّ أَرْضِ اللَّهِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ سُكَّانَهَا . فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا : { أَنَّهُ قَالَ لِمَكَّةَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ : وَاَللَّهِ إنَّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْك لَمَا خَرَجْت } وَفِي رِوَايَةٍ : { خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَيَّ } فَبَيَّنَ أَنَّهَا أَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَانَ مَقَامُهُ بِالْمَدِينَةِ وَمَقَامُ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنْ مَقَامِهِمْ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ أَنَّهَا دَارُ هِجْرَتِهِمْ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الرِّبَاطُ بِالثُّغُورِ أَفْضَلُ مِنْ مُجَاوَرَةِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلُ الْأَرْضِ فِي حَقِّ كُلِّ إنْسَانٍ أَرْضٌ يَكُونُ فِيهَا أَطْوَعَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَلَا تَتَعَيَّنُ أَرْضٌ يَكُونُ مُقَامُ الْإِنْسَانِ فِيهَا أَفْضَلَ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ كُلِّ إنْسَانٍ بِحَسَبِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ وَالْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالْحُضُورِ وَقَدْ كَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إلَى سَلْمَانَ : هَلُمَّ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ سَلْمَانُ : أَنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْعَبْدَ عَمَلُهُ . { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ } وَكَانَ سَلْمَانُ أَفْقَهَ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي أَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي كَانَ بِهَا أُولَئِكَ الْعَمَالِقَةُ ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ هَذَا دَارَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَرْضِ مِصْرَ الَّتِي أَوْرَثَهَا اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ فَأَحْوَالُ الْبِلَادِ كَأَحْوَالِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ الرَّجُلُ تَارَةً مُسْلِمًا وَتَارَةً كَافِرًا وَتَارَةً مُؤْمِنًا ؛ وَتَارَةً مُنَافِقًا وَتَارَةً بَرًّا تَقِيًّا وَتَارَةً فَاسِقًا وَتَارَةً فَاجِرًا شَقِيًّا . وَهَكَذَا الْمَسَاكِنُ بِحَسَبِ سُكَّانِهَا فَهِجْرَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ مَكَانِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي إلَى مَكَانِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ كَتَوْبَتِهِ(2/232)
وَانْتِقَالِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ إلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَهَذَا أَمْرٌ بَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } . قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ آمَنَ وَهَاجَرَ وَجَاهَدَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَكَذَا قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا كُلُّ مَنْ فَتَنَهُ الشَّيْطَانُ عَنْ دِينِهِ أَوْ أَوْقَعَهُ فِي مَعْصِيَةٍ ثُمَّ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ وَجَاهَدَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهَا مِنْ الْعَدُوِّ وَجَاهَدَ الْمُنَافِقِينَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَصَبَرَ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
===================
وَقَالَ الشوكاني في السيل الجرار(1) :
ودار الإسلام ما ظهرت فيه الشهادتان والصلاة ولم تظهر فيها خصلة كفرية ولو تأويلا إلا بجوار وإلا فدار كفر وإن ظهرتا فيها خلاف م وتجب الهجرة عنها وعن دار الفسق إلى خلي عما هاجر لأجله أو ما فيه دونه بنفسه وأهله إلا لمصلحة أو عذر ويتضيق بأمر الإمام].
قوله: "فصل ودار الإسلام" الخ.
أقول : الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الإسلام فهذه دار إسلام ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية وإذا كان الأمر العكس فالدار بالعكس.
وأما قوله: "ولو تأويلا" فباطل من القول وخطل من الرأي فإن هذه المسائل التي اختلف فيها أهل الإسلام وكفر بعضهم بعضا تعصبا وجرأة على الدين وتأثيرا للأهوية لو كان ظهورها في الدار مقتضيا لكونها دار الكفر لكانت الديار الإسلامية بأسرها ديار كفر فإنها لا تخلوا مدينة من المدائن ولا قرية من القرى من ذاهب إلى ما تذهب إليه الأشعرية أو المعتزلة أو الماتريدية وقد اعتقدت كل طائفة من هذه الطوائف ما هو كفر تأويل عند الطائفة الأخرى وكفاك من شر سماعه والحق أنه لا كفر تأويل أصلا وليس هذا موضع البسط لهذه المسألة فخذها كلية تنج بها من موبقات لا تحصى ومهلكات لا تحصر وسيأتي عند الكلام على قوله والمتأول كالمرتد ما ينبغي أن يضم إلى ما هنا لتكمل الفائدة.
واعلم أن التعرض لذكر دار الإسلام ودار الكفر قليل الفائدة جدا لما قدمنا لك في الكلام على دار الحرب وأن الكافر الحربي مباح الدم والمال على كل حال ما لم يؤمن من المسلمين وأن مال المسلم ودمه معصومان بعصمة الإسلام في دار الحرب وغيرها وإن كانت الفائدة هي ما تقدم من كونهم يملكون علينا ما دخل دراهم قهرا فقد أوضحنا لك هنالك أنهم لا يملكون علينا شيئا وإن كانت الفائدة وجوب الهجرة عن دار الكفر فليس هذا الوجوب مختصا بدار الكفر بل هو شريعة قائمة وسنة ثابتة عند استعلان المنكر وعدم الاستطاعة للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم وجود من يأخذ على أيدي المنتهكين لمحارم الله فحق على العبد المؤمن أن ينجو بنفسه ويفر بدينه إن تمكن من ذلك ووجد أرضا خالية عن التظاهر لمعاصي الله وعدم التناكر على فاعلها فإن لم يجد فليس في الإمكان أحسن مما كان وعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه كما أرشد إلى ذلك الصادق المصدوق فيما صح عنه وإذا قدر على أن يغلق على نفسه بابه ويضرب بينه وبين العصاة حجابه
كان ذلك من أقل ما يجب عليه وقد أوضحت أمر الهجرة وما هو باق منها وما قد نسخ في شرحي للمنتقى فليرجع إليه.
وأما ما ذكره المصنف من إثبات دار الفسق تقليدا لمن شذ من المعتزلة فلا وجه لذلك أصلا ولا تتعلق به فائدة قط وإن زعم ذلك من لم يكن مستبصرا.
واما قوله: "إلا خلى عما هاجر لأجله" فوجهه ظاهر لأن الانتقال من شر إلى شر ومن دار عصاة إلى دار عصاة ليس فيه إلا إتعاب النفس بقطع المفاوز فإن كان التظاهر بالمعاصي في غير بلده أقل مما هو ببلده كان ذلك وجها للهجرة وفي الشر خيار.
وأما قوله: "إلا لمصلحة" فوجهه ظاهر فإنها إن كانت المصلحة العائدة على طائفة من المسلمين ببقائه ظاهرة كأن يكون له مدخل في بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في تعليمه معالم الخير بحيث يكون ذلك راجحا على هجرته وفراره بدينه فإنه يجب عليه ترك الهجرة رعاية لهذه المصلحة الراجحة لأن هذه المصلحة الحاصله له بالهجرة على الخصوص تصير مفسدة بالنسبة إلى المصلحة المرجوة بتركه للهجرة.
__________
(1) - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار - الرقمية - (ج 1 / ص 976)(2/233)
وأما كون الهجرة تتضيق بأمر الإمام بها فوجهه ما قدمنا من وجوب طاعة الأئمة فيما يأمرون به من الطاعة والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة جدا.
===================
هل الهجرة لبلاد الغرب اليوم يثاب المهاجر عليها ؟
قد كثر في الآونة الأخيرة هجرة كثير من المسلمين إلى بلاد الغرب .. فهل هؤلاء تكتب لهم هجرة في سبيل الله أم أن لهم حكم آخر ..؟ (1)
الجواب: الحمد لله رب العالمين. المسألة مردها إلى أمرين: الباعث الذي حمله على الهجرة، ونيته من وراء هجرته إلى بلاد الغرب أو غيرها.
أما الباعث: فيكون بالنظر إلى السبب الذي حمله على الهجرة، فإن كان سبباً وجيهاً ومعتبراً في الشرع؛ كأن يكون في بلده الأصلي غير قادر على إظهار دينه، وممارسة شعائر دينه .. أو كان مهدداً ـ ظلماً وعدواناً ـ بالقتل أو السجن ونحوه .. ولم يجد بلداً إسلامياً يأويه أو يجيره .. ولم يجد سبيلاً لدفع هذا الظلم عن نفسه .. ووجد في البلد الغربي المهاجر إليه الأمان على نفسه وأهله .. والفرصة السانحة له لإظهار دينه .. وعبادة ربه على وجه أفضل مما يكون عليه وهو في بلده الأصلي .. فالباعث حينئذٍ يكون مشروعاً ومستساغاً.
أما النية: لا بد أن تكون نيته من وراء هجرته وإقامته في بلاد الغرب طلب السلامة لدينه ونفسه وأهله .. وعبادة ربه على الوجه الأكمل .. وليس طلب الدنيا وزينتها، أو امرأة ينكحها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه " متفق عليه.
أقول: إن صلحت النية .. وصلح الباعث على الهجرة وكان معتبراً في الشرع .. كتبت هجرته ـ إن شاء الله ـ هجرة في سبيل الله .. ولو كان بلد المهجر هي من دول الغرب .. مع ضرورة المحافظة على النية الصادقة بالخروج والهجرة منها عندما يتسنى له الخروج إلى دارٍ أكثر إيمانٍ وأمان .. وأقل فتنة على نفسه ودينه.
وإن فسدت النية .. وفسد السبب الباعث على الهجرة .. لا تعتبر هجرته هجرة في سبيل الله .. وربما يقع في الإثم والوزر بحسب المزالق التي يقع فيها في تلك الديار.
فإن قيل أين الدليل على ما تقدم ..؟
أقول: فقد هاجر الصحابة إلى الحبشة، وكانت دار كفر .. ولكن لما صلحت النية .. ووجد الباعث المعتبر على الهجرة .. كتبت لهم هجرة في سبيل الله.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله (2):
" قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّ مَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْكُفْرِ وَالْحَرْبِ مُخْتَارًا مُحَارِبًا لِمَنْ يَلِيهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , فَهُوَ بِهَذَا الْفِعْلِ مُرْتَدٌّ لَهُ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ كُلُّهَا : مِنْ وُجُوبِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ , مَتَى قُدِرَ عَلَيْهِ , وَمِنْ إبَاحَةِ مَالِهِ , وَانْفِسَاخِ نِكَاحِهِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ , لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْرَأْ مِنْ مُسْلِمٍ .
وَأَمَّا مَنْ فَرَّ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ لِظُلْمٍ خَافَهُ، وَلَمْ يُحَارِبْ الْمُسْلِمِينَ، وَلا أَعَانَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجِدْ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُجِيرُهُ، فَهَذَا لا شَيْءَ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ مُضْطَرٌّ مُكْرَهٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزُّهْرِيَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِم بْنِ شَهَابٍ: كَانَ عَازِمًا عَلَى أَنَّهُ إنْ مَاتَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَحِقَ بِأَرْضِ الرُّومِ، لأَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ كَانَ نَذَرَ دَمَهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَانَ الْوَالِي بَعْدَ هِشَامٍ فَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ مَعْذُورٌ.
وَكَذَلِكَ: مَنْ سَكَنَ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، وَالسِّنْدِ، وَالصِّينِ، وَالتُّرْكِ، وَالسُّودَانِ وَالرُّومِ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ لا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ هُنَالِكَ لِثِقَلِ ظَهْرٍ، أَوْ لِقِلَّةِ مَالٍ، أَوْ لِضَعْفِ جِسْمٍ، أَوْ لامْتِنَاعِ طَرِيقٍ، فَهُوَ مَعْذُورٌ.
فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ مُعِينًا لِلْكُفَّارِ بِخِدْمَةٍ، أَوْ كِتَابَةٍ: فَهُوَ كَافِرٌ - وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُقِيمُ هُنَالِكَ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، وَهُوَ كَالذِّمِّيِّ لَهُمْ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى اللِّحَاقِ بِجَمْهَرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْضِهِمْ، فَمَا يَبْعُدُ عَنْ الْكُفْرِ، وَمَا نَرَى لَهُ عُذْرًا - وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
__________
(1) - انظر كتاب الهجرة مسائل وأحكام لأبي بصير
(2) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 11 / ص 249) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 6451) والمحلى لابن حزم - (ج 7 / ص 157)(2/234)
وَلَيْسَ كَذَلِكَ: مَنْ سَكَنَ فِي طَاعَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ الْغَالِيَةِ؛ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، لأَنَّ أَرْضَ مِصْرَ وَالْقَيْرَوَانِ، وَغَيْرَهُمَا، فَالإِسْلامُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَوُلاتُهُمْ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ لا يُجَاهِرُونَ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الإِسْلامِ، بَلْ إلَى الإِسْلامِ يَنْتَمُونَ، وَإِنْ كَانُوا فِي حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ كُفَّارًا.
وَأَمَّا مَنْ سَكَنَ فِي أَرْضِ الْقَرَامِطَةِ مُخْتَارًا فَكَافِرٌ بِلا شَكٍّ، لأَنَّهُمْ مُعْلِنُونَ بِالْكُفْرِ وَتَرْكِ الإِسْلامِ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ سَكَنَ فِي بَلَدٍ تَظْهَرُ فِيهِ بَعْضُ الأَهْوَاءِ الْمُخْرِجَةِ إلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ لَيْسَ بِكَافِرٍ، لأَنَّ اسْمَ الإِسْلامِ هُوَ الظَّاهِرُ هُنَالِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، مِنْ التَّوْحِيدِ، وَالإِقْرَارِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ الإِسْلامِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ الإِسْلامُ وَالإِيمَانُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ " (1) يُبَيِّنُ مَا قُلْنَاهُ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ دَارَ الْحَرْبِ، وَإِلا فَقَدْ اسْتَعْمَلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عُمَّالَهُ عَلَى خَيْبَرَ، وَهُمْ كُلُّهُمْ يَهُودُ.
وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي مَدَائِنِهِمْ لا يُمَازِجُهُمْ غَيْرُهُمْ فَلا يُسَمَّى السَّاكِنُ فِيهِمْ - لإِمَارَةٍ عَلَيْهِمْ، أَوْ لِتِجَارَةٍ - بَيْنَهُمْ: كَافِرًا، وَلا مُسِيئًا، بَلْ هُوَ مُسْلِمٌ حَسَنٌ، وَدَارُهُمْ دَارُ إسْلامٍ، لا دَارُ شِرْكٍ، لأَنَّ الدَّارَ إنَّمَا تُنْسَبُ لِلْغَالِبِ عَلَيْهَا، وَالْحَاكِمُ فِيهَا، وَالْمَالِكُ لَهَا.
وَلَوْ أَنَّ كَافِرًا مُجَاهِدًا غَلَبَ عَلَى دَارٍ مِنْ دُورِ الإِسْلامِ، وَأَقَرَّ الْمُسْلِمِينَ بِهَا عَلَى حَالِهِمْ، إلا أَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لَهَا، الْمُنْفَرِدُ بِنَفْسِهِ فِي ضَبْطِهَا، وَهُوَ مُعْلِنٌ بِدِينٍ غَيْرِ الإِسْلامِ لَكَفَرَ بِالْبَقَاءِ مَعَهُ كُلُّ مَنْ عَاوَنَهُ، وَأَقَامَ مَعَهُ - وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ - لِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا مَنْ حَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ مِنْ أَهْلِ الثَّغْرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَعَانَ بِالْمُشْرِكِينَ الْحَرْبِيِّينَ، وَأَطْلَقَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى قَتْلِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ سَبْيِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ هِيَ الْغَالِبَةُ وَكَانَ الْكُفَّارُ لَهُ كَأَتْبَاعٍ، فَهُوَ هَالِكٌ فِي غَايَةِ الْفُسُوقِ، وَلا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا، لأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ شَيْئًا أَوْجَبَ بِهِ عَلَيْهِ كُفْرًا: قُرْآنٌ أَوْ إجْمَاعٌ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْكُفَّارِ جَارِيًا عَلَيْهِ فَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لا يَجْرِي حُكْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ فَمَا نَرَاهُ بِذَلِكَ كَافِرًا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنَّمَا الْكَافِرُ الَّذِي بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. "
قلت: الزهري ـ وهو من كبار علماء السلف الصالح ـ همّ أن يهاجر إلى بلاد الروم طلباً للنجاة مع وجود أرض الإسلام .. ودولة وخلافة الإسلام .. ولكن لما كان مكرهاً كان معذوراً كما يقول ابن حزم.
أقول: كيف بزماننا وقد اشتد ظلم وإرهاب حكام بني جلدتنا على الإسلام والمسلمين .. إلى أن وصل بهم ظلمهم وكفرهم ـ كما في كثير من البلدان ـ أن يعتبروا اللحية وارتداء الزي الإسلامي جريمة نكراء يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ..!
إضافة إلى ذلك انتفاء وجود الأرض الإسلامية التي يمكن أن يلتجئ إليها كل من اضطهد في دينه من المسلمين .. لا شك أن اعتبار الإكراه في مثل هذه الظروف والقول به أولى من الظرف أو الإكراه الذي تعرض له الإمام الزهري .. والله تعالى أعلم
وفي الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن المستورد القرشي قال وهو عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" تقوم الساعة والروم أكثر الناس "، فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقةً بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرَّة، وخيرهم لمسكين ويتيمٍ وضعيف، وخامسةٌ حسنةٌ جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.(2/235)
هذه الخصال الحسنة التي استنبطها الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه من الحديث قبل أكثر من ( 1400 ) سنة .. نلمس كثيراً منها يُعمل بها في بعض الدول الغربية السائدة في هذا الزمان .. وبخاصة خصلة " وأمنعهم من ظلم الملوك "..!
هذه الخصال التي كان الأولى بحكام المسلمين أن يتخلقوا بها لو كانوا مسلمين!
هذه الشهادة ـ التي نطق بها الصحابي ـ لا ينبغي أن يصدنا عنها ما بيننا وبين القوم من عداء .. فديننا قائم على العدل وبالعدل .. والشهادة بالعدل حتى على من يناصبنا العداء والقتال، كما قال تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ?المائدة:8
وقال تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ?النساء:135.
==================
هل يجوز العمل مع جيوش الكفار المحاربين ؟(1)
عُرف عن بعض المسلمين المقيمين في أمريكا وبعض دول الغرب أنهم يعملون كجنود في جيوش تلك الدول ..
فما حكم الشرع في ذلك .. وما حكم من يُكره على قتال المسلمين مع تلك الجيوش .. وهل هو من الإكراه المعتبر؟؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. العمل في جيوش الكفر كجنود ومقاتلين لا يجوز وهو من المظاهرة والموالاة التي نهى الشارع عنها وعدها من الكفر الأكبر الذي يخرج صاحبها من الملة..!
قال تعالى:? {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ?المائدة:51.
قال القرطي في التفسير:? فإنه منهم ? بين تعالى أن حكمه كحكمهم؛ وجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم ا- هـ.(2)
ومن أعظم نواقض الإسلام التي عدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، واستدل بقوله تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(3) ?.
وقال الشيخ سليمان آل الشيخ في رسالته " أوثق عرى الإيمان ": إن كانت الموالاة في مساكنتهم في ديارهم، والخروج معهم في قتالهم ونحو ذلك، فإنه يحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى:? ومن يتولهم منكم فإنه منهم ?ا- هـ.(4)
قال ابن حزم : (5)
وصح أن قوله تعالى:? ومن يتولهم منكم فإنه منهم ? إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين ا- هـ.
قلت: ومنه نعلم فساد وبطلان فتوى القرضاوي ـ الواسعة الانتشار ـ لما أفتى للمسلمين المقيمين في أمريكا بجواز القتال مع الجيش الأمريكي ضد المسلمين المستضعفين في أفغانستان .. معللاً بوجوب تقديم الولاء الوطني .. وللجنسية التي يحملها المسلم على الولاء للدين وللعقيدة، ولأخوة الإسلام ..!!
فالقرضاوي في هذه الفتوى الجائرة وقع في ناقضين للإسلام: أولهما أنه أحل وأجاز ما هو معلوم حرمته من الدين بالضرورة .. وهو مظاهرة المشركين على المسلمين ..!!
والثانية: أنه قدّم الولاء للوطن وللجنسية على الولاء للعقيدة والدين .. وهذا قول مؤداه إلى إبطال عقيدة الولاء والبراء في الإسلام .. وإلى موالاة أشد أعداء الله عداوةمن المشركين والكافرين!
وهو إضافة لما تقدم شريك الأمريكان في كل جريمة يرتكبونها بحق المسلمين في أفغانستان .. وفي كل قنبلة يلقونها على أرض أفغانستان .. وعلى أطفال ومسلمي أفغانستان ..!!
فليعدّ القرضاوي جواباً ـ وأنّى له! ـ يوم يتعلق بتلابيبه وعنقه آلاف الأطفال والنساء والشيوخ من مسلمي أفغانستان ـ ممن قتلتهم قنابل الأمريكان ـ ويسألونه أمام أحكم الحاكمين وأعدل العادلين: كيف تفتي للكفرة الأمريكان بجواز قتالنا وقتلنا .. فضلاً عن أن تفتي للمسلمين بجواز مشاركة الأمريكان في قتلنا وقتالنا ..؟!!
__________
(1) - الهجرة مسائل وأحكام ص 52 فما بعدها
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1735)
(3) - نواقض الإسلام - (ج 1 / ص 3) والولاء والبراء - (ج 1 / ص 61) والدرر السنية كاملة - (ج 2 / ص 271)
(4) - الدرر السنية كاملة - (ج 50 / ص 61)
(5) - في المحلى 12/33(2/236)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يَجِىءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِى. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ لِمَ قَتَلْتَهُ فَيَقُولُ قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ. فَيَقُولُ فَإِنَّهَا لِى. وَيَجِىءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ إِنَّ هَذَا قَتَلَنِى. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ لِمَ قَتَلْتَهُ فَيَقُولُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلاَنٍ فَيَقُولُ إِنَّهَا لَيْسَتْ لِفُلاَنٍ فَيَبُوءُ بِإِثْمِهِ »أخرجه النسائي (1).
فماذا تراه سيجيب القرضاوي يومئذٍ عندما يأتي الشيخ الأفغاني، والطفل الأفغاني .. والمرأة الأفغانية .. وغيرهم من عباد الله المسلمين الذين قتلتهم قنابل الكفر الأمريكي ..فيقول:يا رب هذا القرضاوي قد أعان الأمريكان على قتلي بفتواه الجائرة .. والقول عليك بغير علم ..؟!
فماذا تراه سيجيب: لكي تكون العزة لله تعالى .. أم لكي تكون العزة لأمريكا، وطغيانها وظلمها .. ولا عزة إلا لله ..؟!
فإن قيل: فما العمل إن أُكره المسلم على الخروج مع المشركين لقتال المسلمين ..؟
أقول: إن كان إكراهه غير معتبر؛ بحيث أنه كان يستطيع النفاد من سلطانهم قبل أن يُكره على القتال معهم لكنه إيثاراً للوطن والدنيا وزينتها لم يفعل .. فإنه لا يُعذر وهو منهم وله حكمهم في الدنيا والآخرة .. واعتذارهم بالإكراه لا يُقبل منهم كما تقدم.
قال القرطبي في التفسير(2): عن عكرمة قال: كان الناس بمكة أقروا بالإسلام ولم يُهاجروا، فأُخرج بهم كرهاً إلى بدر، فقتل بعضهم، فأنزل الله فيهم? الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ? ا- هـ.
أما إن كان مكرهاً بحيث كان لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً للهجرة ممن عناهم الله تعالى بقوله:?{ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } ?النساء:98. ثم اضطروه للخروج والقتال معهم .. فالحكم فيه أن لا يرمي المسلمين أو يقصدهم بسوء وإن رموه أو قصدوه بسوء .. فللمسلمين أن يرموه وليس له أن يرميهم، وإن أدى ذلك إلى قتله أو سجنه من قبل المشركين؛ فدمه ليس أغلى من دم إخوانه المسلمين .. والإكراه وإن كان عذراً في مواطن إلا أنه لا يجوز أن يكون عذراً في قتل المسلم لأخيه المسلم؛ لاستواء نفسيهما في الحرمة.
ثم إذا كان في قتال الفتنة ـ مسلمين بعضهم مع بعض ـ يجب على المسلم أن يتخذ سيفاً من خشب، وأن يلقي سلاحه وإن أدى ذلك إلى قتله .. ليبوء القاتل بكامل الإثم والوزر .. فمن باب أولى أن يتلف سلاحه وأن لا يوجهه نحو صدر أخيه المسلم .. في قتاله ضد المسلمين وهم يُقاتلون ويجاهدون ضد ملل أهل الكفر والشرك.
عَنْ أَبِى بُرْدَةَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ وَفُرْقَةٌ وَاخْتِلاَفٌ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأْتِ بِسَيْفِكَ أُحُدًا فَاضْرِبْهُ حَتَّى يَنْقَطِعَ ثُمَّ اجْلِسْ فِى بَيْتِكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ يَدٌ خَاطِئَةٌ أَوْ مَنِيَّةٌ قَاضِيَةٌ ». فَقَدْ وَقَعَتْ وَفَعَلْتُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-.أخرجه ابن ماجة (3)
وقال صلى الله عليه وسلم:" إِذَا كَانَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَّخِذُ سَيْفًا مِنْ خَشَبٍ فَإِنْ شِئْتَ خَرَجْتُ مَعَكَ. قَالَ لاَ حَاجَةَ لِى فِيكَ وَلاَ فِى سَيْفِكَ.(4)!
فإن قيل: إن قتل على يد المسلمين .. فما حكمه؟
أقول: يُبعث على نيته .. وليس على المسلمين شيء؛ لأنهم لا يقدرون ـ في أجواء القتال ـ على أن يميزوه عن غيره من الكافرين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية(5): "ونحن لا نعلم المكره، ولا نقدر على التمييز، فإذا قتلناهم بأمر الله كنا في ذلك مأجورين ومعذورين، وكانوا هم على نياتهم، فمن كان مكرهاً لا يستطيع الامتناع فإنه يُحشر على نيته يوم القيامة، فإذا قُتل لأجل الدين لم يكن ذلك بأعظم من قتل من عسكر المسلمين" ا- هـ.
وقال: لو أكره رجلٌ رجلاً على قتل مسلم معصوم، فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين وإن أكرهه بالقتل؛ فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس ا- هـ.
قلت: وفي حال خير المسلم بين الخروج للقتال مع عسكر الكفر والشرك ـ ولو على سبيل تكثير سوادهم فقط ـ وبين السجن .. أرى من الواجب عليه أن يقدم السجن على الخروج معهم .. ولو كان هذا الخروج لا يزيد عن كونه رقماً في صفوفهم!
==================
حكم المسلمين الأصليين في بلاد الكفر(6)
ما حكم المسلمين المقيمين في بلاد الكفر، الذين هم مواطنون أصليون ومن مواليد تلك البلاد .. وما هو الواجب بحقهم ؟
الجواب:
__________
(1) - برقم(4014 ) وهو صحيح
(2) -5/349
(3) - سنن ابن ماجه برقم(4097 ) وهو صحيح
(4) - سنن ابن ماجه برقم( 4095 ) وهو حديث حسن
(5) - في الفتاوى 28/547
(6) - انظر كتاب الهجرة مسائل وأحكام(2/237)
الحمد لله رب العالمين. المسلمون الذين هم من مواليد الدول الكافرة يتجاوز تعدادهم مئات الملايين .. وبالتالي لا يمكن أن توجه لهم نداء أو فتوى تلزمهم بالهجرة والخروج من ديارهم إلى حيث لا يعلمون ..!
والذي يمكن قوله كجواب على هذه المسألة: أن المسلم الذي هو من مواليد تلك الدول الكافرة .. مخير شرعاً بين ثلاث خيارات .. ينظر منها أيها أفضل لدينه ونفسه:
1- أن يبقى في سلطانهم ويرضى بأمانهم وعهدهم وما يفرضون له من حقوق .. على أن لا يغدر بعهدهم أو يعتدي على حرماتهم في شيء .. وبخاصة إن كان يستطيع أن يُظهر دينه .. ويقوم بالواجبات الدينية المفروضة عليه .. ويمارس مهمة الدعوة إلى الله تعالى.
فإن قيل: هذا العقد الوطني بين المسلم ودولته الكافرة .. يترتب عليه حقوق وواجبات .. ومن الواجبات ما يتعارض مع الشرع ..؟!
أقول: لا مانع شرعاً من الوفاء لهم بجميع الحقوق والواجبات التي لا تتنافى مع شرعنا الحنيف .. وأي عمل يتنافى مع شريعة الإسلام وعقيدته .. يجب أن يعتذر عنه .. وأن يتفادى الوقوع تحت طائلة المخالفات الشرعية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .. لأنه لا طاعة لمخلوق ـ أياً كان هذا المخلوق ـ في معصية الخالق!
مع التنبيه ـ كما أشرنا من قبل ـ أن المسلمين في كثير من البلدان وبخاصة منها الأوربية يستطيعون أن يُظهروا دينهم وعقيدتهم .. ويأمروا بلسانهم بالمعروف وينهوا عن المنكر .. ويُمارسوا الواجبات الدينية بكامل الحرية .. أكثر من المسلمين المقيمين في غالب البلاد العربية أو غيرها من البلدان التي تسمي نفسها إسلامية ..!!
2- أن ينبذ إليهم عهدهم وأمانهم ويعلن عن جهادهم وقتالهم إن استطاع إلى ذلك سبيلاً .. وكانت المصلحة الشرعية تقتضي أن يبدأهم بذلك .. وفي هذه الحالة يكون في حل منهم ومن عهودهم .. وهم كذلك يكونون في حلٍّ منه ومن عهوده ومواثيقه .. ومن التزاماتهم نحوه .. وكل منهما حلال للآخر.
3- أن يُهاجر إن وجد إلى الهجرة سبيلاً .. وبديلاً أفضل .. مع ضرورة مراعاة المصالح والمفاسد .. والبواعث والغايات، والتفصيل المتقدم عند الحديث عن أحكام الهجرة.
فإن قيل: فإن لم يجد بديلاً أفضل ..؟
أقول: في هذه الحالة غير ملزم بالهجرة .. ومثله مثل العاجز الذي لا يقدر على الهجرة الذي يسقط عنه التكليف كما تقدم.
فالانتقال من شرٍّ إلى شرٍّ يُساويه .. فيه إضاعة للجهود والطاقات والأوقات من غير طائل ولا فائدة وهو من العبث الذي نهى الشارع عنه.
فهذه خيارات ثلاث ـ وضعها الإسلام بين يديه ـ يرى أي الخيارات يقدر عليها .. ويكون فيها الخير لدينه ونفسه وأهله وأمته .. فيختارها ويقدم عليها، والله تعالى أعلم.
==================
هل يهاجر من بلاد المسلمين التي ارتد حكامها جهارا ؟(1)
الجواب:
الحمد لله رب العالمين. الواجب على الأمة عندما يرتد حكامها وينقلبون عليها وعلى ثوابتها ومصالحها، ويدخلون في موالاة أعدائها .. أن تعلن النفير العام لجهادهم وقتالهم وإراحة الأمة من شرهم وكفرهم وزندقتهم، لا أن تخلي لهم الديار .. ليعيثوا في الأرض فساداً .. بذلك أوصى وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عبادة بن الصامت قال:" دعانا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعُسرنا ويُسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من اللهِ فيه برهان " متفق عليه.
فتأمل كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه أصحابه إلى خيار جهاد وقتال الأئمة إن طرأ عليهم الكفر البواح، وخرجوا على ثوابت الأمة .. ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يخلوا البلاد والعباد لهم ليعيثوا في الأرض فساداً ..؟!
وفي رواية عند مسلم: قالوا ـ أي الصحابة ـ أفلا نقاتلهم؟ قال صلى الله عليه وسلم:" لا، ما صلوا ".
أي لا تقاتلوهم إلا أن تروا منهم كفراً بواحاً، ومن الكفر البواح تركهم للصلاة .. وترك الأمر بها .. ولم يقل لهم لا تقاتلوهم .. وعليكم بالهجرة!
وفي رواية عند مسلم كذلك، قال صلى الله عليه وسلم:" خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويُحبونكم، وتصلون عليهم ويُصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلنونكم "، قالوا: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال:" لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة ".
__________
(1) - انظر كتاب الهجرة مسائل وأحكام
هل تجب الهجرة من بلاد المسلمين التي يحكم فيها بالقانون؟
الجواب:
البلد التي يحكم فيها بالقانون؛ ليست بلد إسلام، تجب الهجرة منها.
وكذلك إذا ظهرت الوثنية من غير نكير ولا غيرت؛ فتجب الهجرة.
فالكفر؛ بفشو الكفر وظهوره، هذه بلد كفر.
أما إذا كان قد يحكم فيها بعض الأفراد، أو وجود كفريات قليلة لا تظهر؛ فهي بلد إسلام.
[فتاوى ورسائل الشيخ ابن إبراهيم، 1451، ج: 6](2/238)
فتأمل كيف أن توجّه الصحابة كان إلى قتالهم وجهادهم .. لا إلى تفريغ الديار لهم إن وصلوا إلى هذا الموصل .. ثم تأمل كذلك توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه .. وتحديد التوقيت المناسب الذي فيه يبدأونهم القتال والجهاد .. ولم يطرح عليهم مطلقاً خيار الهجرة على مستوى الأمة والشعوب كلها .. إذا الواجب عليهم في مثل هذه الحالات القتال والجهاد والثبات لا الفرار من الزحف وترك البلاد لزنادقة وكفرة الأمة ..!
وهذا لا يعني إغلاق باب الهجرة على الأمة .. لا .. فالهجرة كما تقدم ماضية ما جوهد العدو، وإلى قيام الساعة .. ولكن الهجرة هنا تكون حالة استثنائية ضيقة وفردية .. ووفق الضرورات المبينة من قبل .. وبحسب ما تقتضيه مصالح الجهاد في سبيل الله .. فالفقه يقتضي أن ننظر إلى جميع البواعث معاً، وعلى ضوئها يكون الحكم أو التقرير.
فإن قيل: إن عجزت الأمة عن جهادهم وقتالهم .. فما البديل؟!
أقول: إن عجزت الأمة عن جهادهم واستئصالهم .. ولن تعجز إلا من عند أنفسها .. فالبديل حينئذٍ يكمن بالإعداد والتربص إلى أن تتوفر للمسلمين المقدرة على جهادهم واستئصالهم وإراحة الأمة منهم، ومن شرهم .. ولو بعد حين .. لا أن يتيهوا في الأرض ـ إلى حيث لا يعلمون ـ كتيهان بني إسرائيل، كما قال تعالى:? { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} ْ?الأنفال:60.
فالمسلم يتنقل بين خيارين: إما الجهاد في سبيل الله وإما الإعداد للجهاد .. فإن عجز عن الجهاد باشر الإعداد ليدفع عن نفسه العجز في جهاد أعداء الله .. والهجرة حالة طارئة استثنائية .. تكون له خيار ثالث عندما يعجز عن الجهاد والإعداد .. ولا يجوز افتراض العجز في مجموع الأمة الذي يزيد تعدادها عن مليار مسلم ..!!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (1):
"يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز؛ فإن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب" ا- هـ. …
إضافة إلى ذلك فإن طواغيت الحكم كاللصوص؛ كما أن اللص الذي يسطوا على البيوت من مناه وكامل مصلحته أن تُفرغ له البيوت من ساكنيها الحقيقيين ليقوم بالنهب والسلب بهدوء وبكل أمن وأمان .. كذلك طواغيت الحكم فإن من مناهم وسياستهم منذ القدم أن يفرغوا البلاد من أهلها وساكنيها الحقيقيين ممن لا يرضون بالضيم، وجور الكافرين، ممن يقومون بمعارضتهم أو الإنكار عليهم .. لتحلو لهم الحياة .. ويخلو لهم ولفسادهم وجندهم الجو، وحتى يفعلوا ما شاءوا من غير حسيب ولا رقيب.
وهذه السياسة سلكها الطواغيت من قبل ولا يزالون يسلكونها إلى الساعة وإلى أن تقوم الساعة، كما قال تعالى عنهم:? وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ?الأعراف:82.
وقال تعالى:?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ?إبراهيم:13.
قال ذلك الذين كفروا لجميع الرسل ـ من دون استثناء ـ على مدار أحقابهم وأماكن تواجدهم .. ? لنخرجنكم من أرضنا ? لأن وجودكم ووجود أتباعكم وإيانا في أرضٍ واحدة يعكر علينا طريقة حياتنا الفاسدة، ونظام حكمنا .. لذا لا بد من التخلص منكم ..
ولا خيار لكم ولمن اتبعكم إلا الموت والقتل أو الدخول في ملتنا وديننا وطريقتنا!
هذا هو خيار الظالمين من قبل ومن بعد .. فلا ينبغي على الأمة وطليعتها من المجاهدين أن يُحققوا لهم هذا المطلب من تلقاء أنفسهم، وبطريقة سهلة .. فيدخلوا على قلوب الطواغيت الظالمين السرور والسعادة وهم لا يشعرون!
===================
حكم هجر الظالمين (2)
هل هجر الظالمين يكون على الإطلاق .. أم في المسألة تفصيل .. ولها ضوابط ؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين. الظالمون أنواع .. لكل نوع منهم الفقه الذي يضبط كيفية التعامل معهم، والقدر الذي يستحقونه من الوصل أو الهجر، وهم:
أولاً: الكفار، والكفار المرتدون:
عندما يأبى الكافرون، والكافرون المرتدون إلا العناد، والإعراض عن الحق .. فإنه يتعين هجرهم واعتزالهم، واعتزال مجالسهم، وبخاصة إن كانوا في مجالسهم يخوضون في آيات الله بغير حق، لقوله تعالى:? وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?الأنعام:68.
__________
(1) - في الفتاوى 28/259
(2) - انظر المصدر السابق(2/239)
وقال تعالى:?{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } ?النساء:140.
وقال تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام :?{ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً } ?مريم:48.
فاعتزال المجرمين ومجالسهم من ملة إبراهيم التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه، كما قال تعالى:?{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } ?البقرة:130.
وقال تعالى:? فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً ?مريم:49. فمن بركات اعتزاله للظالمين وما يَعبدون من دون الله أن وهبه الله تعالى إسحاق ويعقوب .. جزاء اعتزاله لهم!
قلت: ولا أرى للعقيم دواء كاعتزاله للمجرمين الظالمين وما يعبدون من دون الله تعالى .. ابتغاء مرضاة الله!
وقال تعالى عن أصحاب الكهف:? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ?الكهف:16. فلما اعتزلوا قومهم وما يعبدون من دون الله وآووا إلى الكهف .. نشر ربهم عليهم من رحمته ورضوانه.
فأصل العلاقة بين المؤمنين والكافرين المجرمين قائمة على العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله تعالى وحده، كما قال تعالى:? قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ?الممتحنة:4.
ولما سأل نوح عليه السلام ربَّه أن ينجي ولدَه من الغرق .. بعد أن أبى ولده إلا الإعراض، والكبر، والعناد للحق .. فظن أن الجبل عاصمه من الغرق .. جاءه العتاب الرباني:? قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ?هود:46. لأن الجاهلين هم الذين يقدمون رابطة الدم والنسب على رابطة العقيدة والتوحيد.
فإن قيل: هل جميع الكفار يستوون في الهجر والاعتزال ..؟
أقول: وإن كان الأصل في التعامل مع الذين كفروا الهجر والاعتزال .. إلا أن ذلك يتفاوت بحسب درجة عناد وعداوة كل كافر أو طائفة من طوائف الكفر .. فلا ينبغي أن يُعامل الكافر المستجير ـ من حيث الهجر والاعتزال ـ الذي يريد أن يسمع كلام الله تعالى كالكافر المعاند المعرض، المحارب .. ولا المؤلفة قلوبهم، كالمحاربين المعاندين!
وعليه فإننا نستطيع أن نقول: كلما تغلظ كفر الكافر .. واشتد عناده، وإعراضه عن الحق، كلما تعين الهجر والاعتزال بحقه .. وكلما ظهر للكافر ميله إلى الحق، وظهرت رغبته فيه .. كلما خفت حدة الهجر والاعتزال بحقه، وكان للوصل مبرراته، ومسوغاته الشرعية، والله تعالى أعلم.
ـ استدراك وتنبيه:
الأصل ـ كما تقدم ـ في التعامل مع الكافرين المعرضين الهجر والاعتزال .. وهذا الأصل هو حكم عام توجد له حالات خاصة مستثناة يشرع فيها الوصل بقدْر، يحسن ـ تتمة للفائدة ـ بيانها:
منها: إحسان الولد المسلم لأبويه الكافرين، ووصلهما بالمعروف .. على أن لا يُطيعهما في الشرك، أو في شيء فيه معصية الله، كما قال تعالى:? وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ? لقمان:15.
وقال تعالى:? وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ? العنكبوت:8.
قلت: ومن وصلِهما وبرهما، والإحسان إليهما المواظبة على نصحهما ـ بالتي هي أحسن ـ .. عسى الله تعالى أن يشرح صدرهما للإسلام .. وينقذهما من النار على يديه.
وفي الحديث، عن أسماء بنت أبي بكرٍ الصديق، قالت: قدِمت عليَّ أمي وهي مشركةٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، قلت: قدمت عليَّ أمي وهي راغبةٌ، أفأصل أمي ؟ قال صلى الله عليه وسلم :" نعم صِلي أمَّكِ " متفق عليه. وقولها " وهي راغبة " أي وهي طامعة بما عندي من مال، تريد شيئاً منه .. فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تصلها وتعطيها.(2/240)
ومنها: عندما يستجير المشرك بالمسلمين .. ويطلب منهم الجوار ليسمع
كلام الله ونحو ذلك .. ففي مثل هذه الحالة يحسن أن يُستجار ويوصل بالقدر الذي يحقق الغرض من إجارته، كما قال تعالى:? وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ?التوبة:6.
ومنها: إذا قُدر للمسلم أن يُجاور كافراً أو مشركاً .. فحينئذٍ ينبغي عليه أن يُحسن التعامل مع جاره، ويصله بالمعروف؛ لأن للجار حقاً وإن كان كافراًً، كما في الحديث عن عبد الله بن عمرو: أنه ذبح شاةً، فقال: أهديتم لجاري اليهودي؟ فإني سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثُه "[ صحيح]. أي حتى ظننت أنه سيجعله من الورثة الذين يستحقون أن يرثوا الميت!
ومنها: إن كان الكافر من المؤلفة قلوبهم .. وظهرت عليه القرائن الدالة على ميوله ورغبته في الإسلام .. فيستحسن حينئذٍ وصله والإحسان إليه .. تثبيتاً له على الحق، كما قال تعالى:? إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ?التوبة:60.
فكان ممن نفلهم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الخلق إلي، فمازال يُعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي !!
فقوله " لأبغض الخلق إلي " يعني أنه كان كافراً .. ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصله بالعطاء؛ لما رأى في العطاء تأليفاً لقلبه على الإيمان، ودواء لقلبه من أمراضه وآفاته ..!
ومنها: الخلطة التي لا بد منها للداعية إلى الله تعالى .. فيأتي نواديهم ومجالسهم ليدعوهم إلى الإسلام، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر .. ويصبر على أذاهم في سبيل الله .. فمثل هذا لا حرج فيه إن شاء الله، بل هو من أحسن الأعمال التي يُتقرب بها إلى الله تعالى، كما قال تعالى:? وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ?فصلت:33. …
لكن يُشترط على من يتصدى لهذه المهمة العظيمة شروط، أهمها:
1- أن يكون عالماً بما سيأمرهم به وينهاهم عنه .. إذ جاهل الشيء كفاقده لا يمكن أن يُعطيه!
ومن العلم أن لا ينكر المنكر بما هو أنكر منه .. وأن لا يزيل الفتنة بفتنة أعظم منها!
2- أن لا يطيل المكث في مجالسهم أكثر مما تقتضيه ضرورة تبليغ الدعوة .. وقيام الحجة عليهم.
3- أن ينكر المنكر إذا رآه؛ حتى لا يُفسر سكوته على أنه إقرار لمنكرهم وباطلهم.
4- إن عجز عن إنكار المنكر أو أنكر عليهم منكرهم فلم ينتهوا .. تعين عليه القيام من مجلسهم ومفارقتهم؛ حتى لا يُحمل عليه قوله تعالى:? إنكم إذاً مثلهم ?.
بهذه الشروط نجيز للداعية بأن يقتحم مجالس القوم .. وإلا، فلا!
ومنها: أن يُقابل جميل أو معروف الكافر بمعروف آخر مشروع .. فمثل هذا الوصل والإحسان لا حرج فيه إن شاء الله.
فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتن ـ يعني أسرى بدر ـ لأطلقتهم له ". وذلك أن مطعماً
كان قد أجار النبي صلى الله عليه وسلم لأيامٍ في مكة أيام الشدة .. فلم ينسها النبي صلى الله عليه وسلم له، وأراد أن يكافئه بصنيع جميل آخر؛ وهو أن يُطلق له أسرى بدر الذين يزداد تعدادهم عن السبعين رجل .. لكن مُطعماً قد مات على الشرك قبل ذلك!
وكان ابن عباس يقول: لو قال لي فرعون:بارك الله فيك، قلت: وفيك، وفرعون قد مات!![ ]. وهذا كله من قبيل مقابلة الحسنة بالحسنة .. ورد المعروف بمعروف آخر، والله تعالى أعلم.
خلاصة القول: أن هذا النوع من الوصل والإحسان ـ وفق الحالات المبينة أعلاه ـ هو وصل مشروع لا حرج فيه إن شاء الله .. لا ينبغي أن نترفع عنه أو نزهد به وبفضله، وآثاره الحسنة .. ونحن في غمرات الحماسة والعمل من أجل استئناف حياة إسلامية راشدة .. كما لا ينبغي أن يُفسر على أنه مناقض لعقيدة الولاء والبراء التي جاء بها الإسلام .. وللأصل العام الذي ينص على مبدأ الاعتزال والمفاصلة كما هو مبين في مطلع هذه المسألة!
ثانياً: سلاطين الجور والفجور:
وهؤلاء وإن كان ظلمهم لا يرقى بهم إلى درجة الكفر والخروج من الإسلام، إلا أن السنة قد مضت فيهم أن يُهجروا، ويُهجر العمل عندهم .. تبكيتاً لهم، وحتى لا يتقووا بالصالحين على ظلمهم، وباطلهم، ومنكرهم!
فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ليأتينَّ عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منهم فلا يكوننَّ عريفاً ولا شرطياً، ولا جابياً ولا خازناً "[ أخرجه ابن حبان، السلسلة الصحيحة: 457.].(2/241)
وقال صلى الله عليه وسلم :" يليكم عمال من بعدي يقولون ما يعلمون، ويعملون بما يعرفون، وطاعة أولئك طاعة، فتلبثون كذلك دهراً، ثم يليكم عمال من بعدي يقولون ما لا يعلمون، ويعملون ما لا يعرفون، فمن ناصحهم ووازرهم وشد على أعضادهم، فأولئك قد هلكوا وأهلكوا، خالطوهم بأجسادكم وزايلوهم بأعمالكم "[ أخرجه الطبراني، السلسلة الصحيحة: 457. ].
فقد هلكوا وأهلكوا .. لما يترتب على المناصحة والمؤازرة والخلطة لسلاطين الجور من تقويتهم على باطلهم وظلمهم وإعانتهم على منكرهم .. ولما يترتب عليه من إضلال للناس .. وتزيينٍ لباطل السلاطين هؤلاء في أعين الناس .. فيقولون: لولا يكون هذا الحاكم أو السلطان على حق وصواب لما خالطه هؤلاء .. ولما ناصحوه، وآزروه .. وبخاصة إن كان هؤلاء من ذوي العلم والشرف، والمكانة الرفيعة في أعين الناس!
وقال صلى الله عليه وسلم :" سيكون أمراءٌ تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سَلِم، ومن خالطَهم هلك "[ أخرجه الطبراني، صحيح الجامع: 3661. ].
وقال صلى الله عليه وسلم :" اسمعوا هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بواردٍ علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يُعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه، وهو واردٌ علي الحوض "[ صحيح سنن الترمذي: 1843.].
وقال صلى الله عليه وسلم :" من أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً "[ أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة:1272.].
وقال صلى الله عليه وسلم :" من أعان ظالماً بباطلٍ ليدحض بباطله حقاً برئ من ذمة الله تعالى وذمة رسوله "[ السلسلة الصحيحة: 1020.]. وغيرها كثير من الأحاديث التي تحض على اعتزال سلاطين الجور .. واعتزال العمل عندهم!
قلت: إذا كان هذا هو موقف الشرع من سلاطين الجور من المسلمين .. فكيف يكون الموقف من سلاطين الكفر والردة .. لا شكّ أن الاعتزال حينئذٍ يكون أوكد .. وأكثر إلحاحاً!
ـ استدراك وتنبيه: وهو من نقطتين:
1- ما تقدم لا يتعارض مع ما يجب على المسلم ـ وبخاصة إن كان من ذوي العلم ـ من الصدع بالحق أمام سلاطين الجور .. وما يجب عليه نحوهم ونحو غيرهم من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ..!
كما في الحديث:" سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائرٍ فأمره ونهاه فقتله "[ أخرجه الحاكم، السلسلة الصحيحة:491.].
وعن عبادة بن الصامت، قال:" بايعنا رسول الله على أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومةَ لائمٍ " متفق عليه.
لكن ينبغي الانتباه أن لا يكون ذلك ذريعة للخلطة، والركون للظالمين والميل إليهم وإلى مجالسهم .. إذ لا يسلم من ذلك إلا من رحم الله؛ فكم من عالم دخل على سلاطين الجور ليأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر .. فغير وبدل ـ رهبةً أو رغبةً ـ فأمرهم بالمنكر، ونهاهم عن المعروف .. وأثنى، ومجّد، وبجّل بالباطل .. وبما ليس فيهم .. فكان بذلك كشاهد زور!!
2- رغم ما يجب على المسلمين من اعتزال سلاطين الجور كما تقدم .. إلا أنه يجب عليهم طاعتهم بالمعروف .. وأن ينفروا معهم لجهاد العدو من الكفرة المجرمين لو استنفروهم؛ لأن عقيدة أهل السنة والجماعة قد مضت بأن الجهاد ماضٍ مع كل برٍّ وفاجر .. لا يجوز تعطيله في أي حالٍ من الأحوال .. لما يترتب على تعطيله من مفاسد جسام لا يُحمد عقباها ..!
ثالثاً: الظالمين من ذوي الذنوب والمعاصي:
ونعني بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر .. وهجر هؤلاء يحتاج لفقه وتقوى .. إذ الهجر يكون على قدر الذنوب والمعاصي وحصول الانحراف .. وفي حال رجح الظن أن هذا النوع من الهجر هو نافع لهؤلاء الظالمين .. ولغيرهم ممن قد يتأثرون بهم .. كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر الصحابة الذين تخلفوا عن الغزو معه في تبوك .. وقد حصل لهم من جراء هذا الهجر الخير الكثير.
أما إن ثبت أن هذا الهجر يضر ولا ينفع .. وهو لا يزيد أصحاب الذنوب إلا غياً وفساداً .. فحينئذٍ يحرم هجرهم لحصول المفسدة .. ولوجود عقد الإسلام الذي يوجب الموالاة والوصل.
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثِ ليالٍ " متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم :" لا يكون لمسلمٍ أن يهجر مسلماً فوق ثلاثةٍ، فإذا لقيه سلّم عليه ثلاثَ مرارٍ كل ذلك لا يردُّ عليه، فقد باء بإثمه ".
==================
هل خص الشارع أرضا معينة واستحسن الهجرة إليها ؟(1)
الجواب:
الحمد لله رب العالمين. قد وردت بعض الأحاديث في بيان فضل ملازمة بعض المواطن والأمصار، وفضل السُّكنى فيها، منها: المدينة المنورة، والشام.
__________
(1) -انظر المصدر السابق(2/242)
أولاً: ما قيل في المدينة المنورة، وفضل السُّكنى فيها: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الأحاديث في فضل السُّكنى في المدينة، منها قوله صلى الله عليه وسلم :" المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحدٌ رغبة عنها؛ إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحدٌ على لأواها وجَهدها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة " مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم :" ليأتينَّ على المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف، يلتمسون الرخاء، فيجدون رخاءً، ثم يأتون فيتحمّلون بأهليهم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون "[ أخرجه أحمد وغيره، صحيح الترغيب:1189 ].
وقال صلى الله عليه وسلم :" تُفتح اليمن فيأتي قوم يَبُسّون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتُفتح الشام، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتُفتح العراق، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم :" إنه سيأتي على الناس زمانٌ تُفتح فيه فتحات الأرض،
فيخرج إليها رجالٌ يصيبون رخاءً وعيشاً وطعاماً، فيمرون على إخوانٍ لهم حجّاجاً أو عُماراً فيقولون: ما يُقيمكم في لأواء العيش وشدة الجوع ؟! فذاهب وقاعد ـ حتى قالها مراراً ـ والمدينة خير لهم، لا يثبتُ بها أحدٌ، فيصبر على لأوائها وشدتها حتى يموت؛ إلا كنت له يوم القيامة شهيداً أو شفيعاً "[ أخرجه الطبراني وغيره، صحيح الترغيب:1192. ].
وقال صلى الله عليه وسلم :" من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها"[ أخرجه الترمذي وغيره، صحيح الترغيب: 1193. ].
وفي رواية:" من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت، فإنه من مات بها؛ كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة ".
ثانياً: ما قيل في فضل السكنى في الشام والهجرة إليها(1): فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الأحاديث في بيان فضل السكنى في الشام والهجرة إليها، منها قوله صلى الله عليه وسلم :" يا طوبى للشام، يا طوبى للشام، ياطوبى للشام " قالوا: يا رسول الله وبم ذلك؟ قال:" تلك ملائكة الله باسطوا أجنحتها على الشام "[ ].
عن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ستجندون أجناداً، جنداً بالشام، وجنداً بالعراق، وجنداً باليمن " قال عبد الله: فقمت فقلت خِرْ لي يا رسول الله! فقال:" عليكم بالشام، فمن أبى فليلحق بيمنه، وليستقِ من غُدُره، فإن الله تعالى قد تكفل لي بالشام وأهله ".
قال ربيعة: سمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث، يقول: ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم :" إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا هو نور ساطع عُمد به إلى الشام، ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام ".
وقال صلى الله عليه وسلم :" إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة " وفي رواية:" وهم بالشام ".
وعن عبد الله بن حوالة أنه قال: يا رسول الله اكتب لي بلداً أكون فيه، فلو أعلم أنك تبقى لم أختر على قربك. قال:" عليك بالشام، عليك بالشام، عليك بالشام ". فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كراهيته للشام قال: هل تدرون ما يقول الله تعالى ؟ يقول: أنت صفوتي من بلادي أُدخل فيكِ خيرتي من عبادي .. ورأيت ليلة أسري بي عموداً أبيض كأنه لؤلؤ تحمله الملائكة. قلت: ما تحملون؟ قالوا: نحمل عمود الإسلام، أُمرنا أن نضعه بالشام ".
وقال صلى الله عليه وسلم :" عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده ".
وقال صلى الله عليه وسلم :" ستخرج نار في آخر الزمان من حضرموت، تحشر الناس. قلنا فماذا تأمرنا يا رسول الله؟ قال:" عليكم بالشام ".
وقال صلى الله عليه وسلم :" فسطاط المسلمين ـ أي مدينتهم ـ يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يُقال لها دمشق من خير مدائن الشام ".
وقال صلى الله عليه وسلم :" يوم الملحمة الكبرى، فسطاط المسلمين بأرض يُقال لها: الغوطة فيها مدينة يُقال لها: دمشق؛ خير منازل المسلمين يومئذٍ "[ ].
وقال صلى الله عليه وسلم :" سيكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ".
قلت: ومهاجر إبراهيم عليه السلام هي فلسطين وضواحيها من بلاد الشام .. والحديث فيه ترغيب لأهل فلسطين في البقاء والثبات في أرض فلسطين .. مهاجر إبراهيم عليه السلام .
وقال صلى الله عليه وسلم :" عقر دار المؤمنين بالشام "[ ].
__________
(1) - المراد بالشام؛ الشام الكبرى وهي: فلسطين، وسوريا، ولبنان، والأردن إلى تبوك.(2/243)
قلت: والأفضل من السكنى في المدينة والشام وما سواهما من الأماكن والأمصار ملازمة مواطن الرباط والجهاد في سبيل الله .. وشد الرحال إليها أينما كانت .. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" رباط يومٍ في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوطِ أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها " متفق عليه.
والرباط: ملازمة جبهات القتال والخط الفاصل بين المسلمين وأعدائهم .. استعداداً للقتال، ولحراسة المسلمين منهم.
وقال صلى الله عليه وسلم :" رباط يومٍ وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان " مسلم. والفتان: هما منكر ونكير اللذان يفتنان المرء في قبره.
وقال صلى الله عليه وسلم :" موقف ساعةٍ في سبيل الله؛ خير من قيام ليلة القدر عند
الحجر الأسود "[ ].
وقال صلى الله عليه وسلم :" رباطُ يوم في سبيل الله؛ خير من ألف يومٍ فيما سواه من المنازل "[ ].
وفي رواية عند ابن ماجة، قال صلى الله عليه وسلم :" من رابط ليلةً في سبيل الله؛ كانت كألف ليلةٍ صيامها وقيامها "[ ].
وقال صلى الله عليه وسلم :" مقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة الرجل ستين سنة "[ ].
الله أكبر .. مقام الرجل في الصف استعداداً للقتال الذي قد لا يستغرق ساعة أفضل عند الله تعالى من عبادة ما سواه ستين سنة .. إنه والله سبق كبير .. لا طاقة للقاعدين مهما أتوا من نشاط وقدرة على العبادة أن يبلغوا معشار مبلغه أو درجته ..!!
وعن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله! ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال:" لا تستطيعونه ". فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول:" لا تستطيعونه " ثم قال:" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانتِ بآيات الله، لا يفتُرُ من صلاةٍ ولا صيامٍ حتى يرجع المجاهدُ في سبيل الله "متفق عليه.
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن امرأة أتتْه فقالت: يا رسول الله! انطلق زوجي غازياً، وكنت أقتدي بصلاته إذا صلى، وبفعله كله، فأخبرني بعمل يُبلغني عمله حتى يرجع. قال لها:" أتستطيعين أن تقومي ولا تقعدي، وتصومي ولا تفطري، وتذكري الله تعالى ولا تفتُري حتى يرجع ؟". قالت: ما أطيق هذا يا رسول الله! فقال:" والذي نفسي بيده لو طوِّقتِيه ما بلغت العُشر من عمله "[ ].
قلت: والمرأة في المدينة .. وزوجها في الثغور خارج المدينة ..!
هذا غيض من فيض .. فيما صح من روايات في فضل ملازمة منازل الرباط والجهاد أردنا منه التمثيل والتذكير لا الاستقصاء .. إذ الاستقصاء قد يستغرق مجلداً كبيراً .. نرجو الله تعالى أن يعيننا على جمعه وإنجازه ـ خدمة للجهاد والمجاهدين ـ إنه تعالى على ما يشاء قدير.
ـ تنبيه: اعلم أن الأرض مهما شرفت فإنها لا تعظِّم ولا تُقدس ساكنيها من الناس .. وإنما الذي يقدس المرء .. ويجعله عظيماً في الدنيا والآخرة هو عمله .. وجهاده في سبيل الله.
ولما دعا أبو الدرداء رضي الله عنه سلمان الفارسي رضي الله عنه للهجرة إلى الأرض المقدسة؛ وهي الشام، أجابه سلمان: إن الأرض المقدسة لا تقدِّسُ أحداً، وإنما يُقدس الإنسان عمله.
وكذلك لما أرسل عبد الله بن المبارك رحمه الله بقصيدته الجميلة المعروفة للفضَيل بن عياض؛ حيث كان فضيل في مكة ملازماً للحرم الشريف ـ الذي تعادل الصلاة فيه مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد ـ وكان ابن المبارك مرابطاً في الثغور في طرسوس .. ومما جاء في قصيدته، قوله:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا … لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضِبُ جيدَهُ بدموعه .. فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ
أوْ كان يُتعِبُ خيلَهُ في باطلٍ .. فخيولنا يومَ الصبيحةِ تتعبُ
ريحُ العبير لكم ونحنُ عبيرُنا رهَجُ السنابكِ والغُبارُ الأطيبُ
ولقد أتانا من مقالِ نبينا … قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذبُ
لا يستوي وغُبار خيل الله في أنف امرئٍ ودُخانُ نارٍ تلهَبُ
هذا كتابُ الله ينطق بيننا … ليس الشهيدُ بميتٍ لا يُكذَبُ
ولما ألقي بكتاب ابن المبارك إلى الفضيل وكان في الحرم، قرأه وبكى، ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح[أنظر سير أعلام النبلاء: 8/412].
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
?…تعريفها لغة واصطلاحا :…8
?…الخلاصة في تعريفها :…15
بواعث وغايات الهجرة …18
?…تاريخها :…27
1.…الهجرة إلى الحبشة …27
أسباب الهجرة إلى الحبشة:…27
وقت خروج المهاجرين، وسرية الخروج والوصول إلى الحبشة:…31
دروس وعبر وفوائد من هجرة الحبشة:…40
2.…الهجرة إلى المدينة…53
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه…68
الدروس والعبر من الهجرة للمدينة المنورة …87
3.…خصائص المجتمع الإسلامي…113
نَقْلةٌ بَعِيدَة…113
اسْتِعْلاءُ الإِيمَان…123
دروس من الهجرة النبوية…130
4.…انقطاع الهجرة إلى المدينة بعد الفتح…140
5.…هل الهجرة تهدم ما قبلها ؟…152
تَكْفِيرُ الْحَجِّ لِلْكَبَائِرِ :…182(2/244)
?…أنواع الهجرة : للهجرة أنواع عدة وهي…184
1.…هجر المعاصي…184
حول إسلام معاوية رضي الله عنه…184
هل يتميز أولياء الله عن غيرهم بشيء ؟…199
2.…الانتقال من مكان إلى مكان…203
3.…التهجير والطرد…204
أحكام الهجرة في القرآن الكريم…206
?…الحث على الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام (1)…206
?…الحث على الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام (2)…222
?…بعض أحكام الهجرة في القرآن الكريم…242
1.…تحريم الإقامة في دار الحرب للمستطيع…242
حكم السفر إلى ديار الكفار والسكنى بين ظهرانيهم من غير ضرورة…332
وفي الموسوعة الفقهية :إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ :…339
شُرُوطُ جَوَازِ التَّقِيَّةِ :…340
دَارُ الْحَرْبِ …343
حكم الغدر …344
الإعلام بوجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام…346
المقدمة…346
أولاً : المقصود بالدار…348
ثانياً : أنواع الدور :…349
ثالثاً : تعريف الهجرة في اللغة والشرع أو الاصطلاح…350
رابعاً : حكم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام…350
خامساً : حالات المهاجر الأربع وأحكامها…352
سادساً : القول الأول في الحالة الرابعة والأدلة…355
سابعاً : القول الثاني في الحالة الرابعة والأدلة…357
ثامناً :الراجح…357
تاسعاً : المقصود بإظهار الدين…358
عاشراً : أسس على طريق الهجرة…360
الختام…364
2.…الهجرة إلى الله:…365
الهجرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم…388
تأملات في معاني الهجرة…395
الهجرة إلى الله في عصر الإنترنت…399
من أحكام الهجرة…403
قراءة في الواقع الإسلامي المعاصر…418
3.…الهجرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم…422
?…الهجرة لله…427
4.…المهاجرون أولياء بعضهم البعض…437
5.…المهاجرون والأنصار ومن اقتفى أثرهم هم المؤمنون حقا…470
اخْتِلَافُ الدِّينِ…508
6.…المهاجر والمجاهد في سبيل الله أعظم درجة عند الله…518
7.…رضى الله عن المهاجرين والأنصار…535
. فَصْلٌ فِي عَقْدِ [ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَصَاحِبِ حُجَّةٍ ]…594
[ طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ ] الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ :…596
[ الْأَدِلَّةُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ ]…600
8.…توبة الله تعالى على المهاجرين والأنصار…609
9.…مغفرة ذنوب من تاب وهاجر وجاهد في سبيل الله…650
93 - 9 مَسْأَلَةٌ : عَنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ ؟…657
مَا يَنْبَغِي لِلْآخِذِ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُرَاعِيَهُ :…662
10.…الرزق الحسن في الدارين :…663
11.…العفو عن هفوات المهاجرين…676
العفو…709
خلق العفو والصفح …712
12.…الحث على الزواج من المهاجرات :…719
مِمَّا يَجِبُ أَنْ تَتَّصِفَ بِهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ :…774
13.…فقراء المهاجرين لهم حق في الغنيمة :…776
وفي تفسير الألوسي :…777
مَصَارِفُ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ :…803
الْخَرَاجُ فِي الْإِسْلَامِ :…807
الرِبَاعٌ …809
14.…وجوب مواساة المهاجرين :…810
الْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ :…874
الإيثار والأثرة…876
الإيثار…882
15.…لا ولاية بيننا وبين من لم يهاجرو هو قادر :…886
16.…امحتان المهاجرات :…928
بُطْلَانُ زَوَاجِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمُسْلِمَاتِ :…1014
التَحَرِّي…1014
وفي الأم :جِمَاعُ الصُّلْحِ فِي الْمُؤْمِنَاتِ .…1016
أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعَةِ :…1037
17.…أحكام الدور الثلاث :…1040
دَارُ الْإِسْلَامِ…1040
تَحَوُّلُ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ كُفْرٍ :…1041
دُخُولُ الْحَرْبِيِّ دَارَ الْإِسْلَامِ :…1042
مَالُ الْمُسْتَأْمَنِ وَأَهْلُهُ :…1042
اسْتِيطَانُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ دَارَ الْإِسْلَامِ :…1042
إحْدَاثُ دُورِ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ :…1043
اللَّقِيطُ وَأَثَرُ الدَّارِ فِي دِينِهِ :…1043
إحْيَاءُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ مَوَاتَ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَحَفْرُ مَعَادِنِهِ…1043
دَارُ الْحَرْبِ…1043
التَّزَوُّجُ فِي دَارِ الْحَرْبِ :…1044
الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ :…1044
إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ :…1045
حَدُّ مَنْ أَصَابَ حَدًّا مِنْ أَفْرَادِ الْجَيْشِ :…1046
حُصُولُ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ :…1046
قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ :…1047
اسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَثَرُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ :…1048
قَضَاءُ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ فِي مُنَازَعَاتٍ حَدَثَتْ أَسْبَابُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ :…1049
عِصْمَةُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ :…1050
التِّجَارَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ :…1051
أَثَرُ اخْتِلَافِ الدَّارِ فِي أَحْكَامِ الْأُسْرَةِ وَالتَّوَارُثِ :…1052
دَارُ الْعَهْدِ …1052
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْعَهْدِ :…1052
الْأَمَانُ لِأَهْلِ دَارِ الْعَهْدِ :…1054
إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ :…1059
…حكم الإقامة في دار الكفر وشروطها :…1060(2/245)
تجوز الإقامة في دار الكفر إذا كان هناك مصلحة دينية تترتب على بقائه…1060
وهناك أمران مهمان وهما :…1068
1.…بقاؤهم مرهون برغبة الإمام وحاجة المسلمين لهم…1068
2.…وجوب الدفاع عنهم وحمايتهم…1068
حَالَةُ الْمُسْتَغِيثِ :…1070
وجوب نصرة المسلمين في البوسنة والهرسك…1070
نصرة المسلمين الشيشان…1073
نداء من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة للمسلمين كافة…1075
من العرب وغيرهم في كل مكان…1075
حكم الجهاد بالنفس…1090
وجوب نصرة طالبان وحكم من ظاهر الأمريكان عليها…1093
الطالبان ودولة الإسلام في أفغانستان…1099
وجوب نصرة المسلمين في فلسطين…1103
نصرة فلسطين واجب المسلمين…1109
شرعية الجهاد في العراق والرد على المخذّلين…1120
?…الهجرة من دار الإسلام :…1134
الهجرة وحركة الانسحاب من المجتمع…1139
?…إلى أين سيهاجر المسلم اليوم ؟…1148
ففروا إلى الله…1148
الخوف شعار العارفين…1152
ففروا إلى الله…1155
ففروا إلى الله!…1162
وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله :…1167
الهجرة في النصوص قسمان:…1167
أحوال الإنسان في عباداته…1169
الفرار إلى البيوت…1172
الفرار إلى الله لا يعني ترك تغيير المكنر…1179
الباطل أكثر أتباعاً…1182
تألب الناس على الحق…1182
أتباع الحق وأنصاره…1182
--------------------…1182
الصراع بين الحق والباطل وجد منذ خلق الإنسان…1182
ويجب أن يعلم أن النصر له ثمن لا بد من دفعه…1186
سبب ظهر الباطل على الحق…1188
الطائفة المنصورة…1196
?…أخطاء في مفهوم الهجرة :…1200
1.…الخروج في سبيل الله عند جماعة التبليغ :…1200
2.…الخروج من فلسطين :…1206
3.…فتوى أخرى تأمر بالهجرة والجهاد :…1209
4.…هجرة اليهود إلى فلسطين :…1217
5.…اختلاط الدارين مع بعضهما البعض…1217
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :…1217
( الغاية من الهجرة )…1218
وَقَالَ الشوكاني في السيل الجرار :…1221
هل الهجرة لبلاد الغرب اليوم يثاب المهاجر عليها ؟…1223
هل يجوز العمل مع جيوش الكفار المحاربين ؟…1228
عُرف عن بعض المسلمين المقيمين في أمريكا وبعض دول الغرب أنهم يعملون كجنود في جيوش تلك الدول ..…1228
فما حكم الشرع في ذلك .. وما حكم من يُكره على قتال المسلمين مع تلك الجيوش .. وهل هو من الإكراه المعتبر؟؟…1228
حكم المسلمين الأصليين في بلاد الكفر…1232
ما حكم المسلمين المقيمين في بلاد الكفر، الذين هم مواطنون أصليون ومن مواليد تلك البلاد .. وما هو الواجب بحقهم ؟…1232
هل يهاجر من بلاد المسلمين التي ارتد حكامها جهارا ؟…1233
حكم هجر الظالمين …1236
هل هجر الظالمين يكون على الإطلاق .. أم في المسألة تفصيل .. ولها ضوابط ؟…1236
هل خص الشارع أرضا معينة واستحسن الهجرة إليها ؟…1243(2/246)
الباب الثاني
فتاوى حول الهجرة
تفسير آية ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم...) وواقع المسلمين
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 2 / ص 23)
تفسير آية ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم...) وواقع المسلمين المعاصر رقم الفتوى:10043تاريخ الفتوى:13 جمادي الثانية 1422السؤال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
وبعد .. عند تصفحي للفتوى المتعلقة بالهجرة - رقم 2007 - أود استفسارا و توضيحا أكثر في هذا الموضوع :
* ما تفسيسر قوله تعالى " ألم تكن أرضي واسعة فتهاجروا فيها..."؟
* إذا علمنا أن أغلب الدول العربية والإسلامية حكوماتها تظطهد مواطنيها وتسلب حقوقهم المادية والمعنوية و حتى التضييق في الشعائر الدينية ، و أن الدول الغربية - الكافرة - تصبح منبرا حرا للتعبير والمساواة . ماتعليقكم على هذا و جازاكم الله خيرا.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد جاء في تفسير الآية المذكورة ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم فيرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل، فأنزل الله ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) انتهى.
وقال ابن كثير في تفسيره نقلاً عن الضحاك -: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص الآية، حيث يقول الله تعالى: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) أي بترك الهجرة: (قالوا فيم كنتم) أي لما مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة (قالوا كنا مستضعفين في الأرض) أي لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض ( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة...الآية) انتهى. قال القرطبي: يفيد هذا السؤال والجواب أنهم كانوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا.
هذا وإن كانت الآية فيمن لم يتمكن من إظهار دينه بين الكفار، إلا أن فيها دلالة على أنه ينبغي الهجرة من البلد الذي يغلب عليه الكفر والمعاصي إلى غيره مما لا يوجد به ذلك. قال القرطبي: ( وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي، وقال سعيد بن جبير إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها وتلا ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) انتهى. وقال الشوكاني ( وقد استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك أو دار يعمل فيها بمعاصي الله جهاراً، إذا كان قادراً على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين) انتهى.
أما إذا اضطهد المسلم في بلده وخاف على دينه فعليه أن يهاجر منه إلى بلد يأمن فيه على نفسه ودينه، فإن وجد من بلاد الإسلام فذاك، وإلا جازت له الهجرة إلى بلاد الكفر بشرط أن يأمن فيها على دينه ونفسه.
والله أعلم
===============
الحجاب... وإلا وجبت الهجرة
رقم الفتوى:10334تاريخ الفتوى:27 جمادي الثانية 1422السؤال : ما هو حكم أب ربى بناته على ارتداء الحجاب حتى بلغت أصغرهن 20 سنة ولأسباب اضطرارية هاجر بهن إلى فرنسا وهذا البلد ارتداء الحجاب فيه لمن اضطر للشغل أو الدارسة شبه مستحيل ، في هذا الوضع الصعب الأب مصر على ارتداء الحجاب والبنات يرفضن بحجة الدرسة أو العمل مع العلم أن الأسرة لاتستطيع العودة إلى بلدها الأصلي لظروف سياسية، والأب في حرج من أمره فما هو الحل في هذه الحالة وشكرا لكم.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإننا أولاً نشكر هذا الأب على تربيته لبناته، وتوجيهه الطيب، ونسأل المولى عز وجل أن يجازيه على عمله، وأن يزيده حرصاً على التمسك بدينه، وحمل من حوله على ذلك، ثم نقول له: يجب عليك الهجرة من هذا البلد الذي قد تضطر فيه بناتك إلى التخلي عن رمز عفتهن وصيانتهن، ويرغمن فيه على التبرج والسفور، فلا يجوز لك المقام فيه والتخلي عن مسؤليتك عن بيتك، بحجة الاضطرار إلى عمل البنات أو دراستهن أو غير ذلك، وإذا كنت لا تستطيع العودة إلى بلادك لظروف ما، فإن بلاد الله واسعة، فعليك أن تبحث لنفسك وأهلك عن بلد آمن تحفظ فيه نفسك، وتتمكن فيه من إقامة دينك والمحافظة على عرضك، ولعل هذا الذي ذكر في السؤال من استحالة ارتداء الحجاب في هذا البلد الكافر هو أحد الأسباب التي جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا برئ من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين" لما في الإقامة بين أظهرهم من الخطر على الدين والأخلاق، ولا سيما على النساء والأطفال، وضعاف الدين، وقليلي العلم، وفي رفض بناتك اللاتي ربيتهن على الحجاب ارتداءه بحجة الدراسة أو العمل في هذا البلد، أقوى دليل وأكبر شاهد على خطورة المقام بهن في هذا البلد.
فإن لم يتيسر لك الانتقال إلى بلد آخر وجب عليك إلزامهن بالحجاب ولو أدى ذلك إلى تركهن الدراسة أو العمل.
والله أعلم.
===============(3/1)
الزواج على الورق لأجل الحصول على الجنسية
رقم الفتوى:11173تاريخ الفتوى:12 شعبان 1422السؤال : زوجي يريد أن يتزوج من امرأة أمريكية زواج علي ورق فقط هذا ما يدعيه أمامي ويقنعني به وذلك حتي يأخذ الجنسية الأمريكية وذلك لمستقبل أفضل له ولي وللأولاد ، فأرجو أن تفدوني بشرعية هذا الزواج وهل أقبل أم لا ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فهذا السؤال يتضمن عدة أمور يحسن تفصيلها:
الأول: أن هذا الرجل يريد الزواج من امرأة أمريكية، ولم يشر إلى ديانتها، فإن كانت مسلمة أو كتابية (يهودية أو نصرانية)، فيجوز الزواج منها إذا كانت محصنة، أي عفيفة عن الزنا، لقوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) [المائدة:5].
وإن كانت وثنية مشركة أو ملحدة لا دين لها، فلا يجوز للمسلم الزواج بها حتى تؤمن بالله، لقوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) [البقرة:221].
الثاني: قوله: إن هذا الزواج يكون على ورق فقط للحصول على الجنسية.
وللجواب على هذا نقول: الزواج إما أن يستوفي شروطه وأركانه من رضا الطرفين، والصداق (المهر) والشاهدين، وولي المرأة.
فهذا زواج صحيح، سواء وثق على ورق أم لم يوثق، وتترتب عليه آثاره من نسبة الأولاد إلى الزوج والتوارث....إلخ.
ويستوي فيه الجاد والهازل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جدّ، وهزلهن جدّ: النكاح، والطلاق، والرجعة" رواه أصحاب السنن.
وإما أن لا يستوفي الزواج شروطه وأركانه، فهو زواج باطل شرعاً، سواء وثق على ورق أم لم يوثق، ويستوي فيه الجاد والهازل أيضاً، ولا يجوز للرجل في هذه الحالة معاشرة المرأة لأن الزواج غير ثابت شرعاً، ولو حدث ذلك كان زناً، والعياذ بالله.
الثالث: كونه يريد الحصول على جنسية دولة كافرة، فلماذا يريد ذلك؟ هل لمجرد الرفاهية أم للاضطرار؟ وهل سيتمكن من إقامة شعائر دينه؟ إلخ.
ونحيلك على الأجوبة التالية أرقامها: 2007، 530، 1267. في موضوع الهجرة إلى بلاد الكفار.
وعلى كل، فليس في الشرع ما يسمى زواجاً على ورق فقط، فالزواج إما زواج شرعي حقيقي، وإما زواج باطل يوجب غضب الله ومقته.
الرابع: أما قولك: هل أقبل بهذا الزواج أم لا؟
فنقول: إن هذا الأمر يرجع إليك، فإذا تزوج زوجك من امرأة أخرى بحضور شاهدين وولي، وكان هدفه من الزواج الاستمرار فيه، ولم يشترط في العقد مدة معينة كسنة أو سنتين أو غير ذلك، أو أنه سيطلقها حال حصوله على الجنسية، فالزواج صحيح وهو من تعدد الزوجات الذي شرعه الله.
وبالتالي فليس لك الحق في الاعتراض عليه:
أما إذا لم يستوف ما سبق، أو شرط فيه شرط مما تقدم، فهو زواج باطل غير معتبر شرعاً، وعليك الاعتراض عليه من باب تغيير المنكر، ونحيلك على جواب سابق في الموضوع وهو برقم: 8003.
ونسأل الله أن يوفقكم الله لما يحبه ويرضاه.
والله أعلم.
=================
الواجب على من يقيم في بلاد الكفر
رقم الفتوى:11316تاريخ الفتوى:18 شعبان 1422السؤال : كيف أصنع في مجتمع لا يعرف الإسلام؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا كان المجتمع المذكور مجتمع كفر -كما هو ظاهر السؤال- فالواجب عليك هو الهجرة من هذا البلد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن أقام بين أظهر المشركين ، وقال: "لا تتراءى ناراهما" وذلك لما للإقامة في بلادهم من المفاسد على المقيم وزوجه وأولاده. إلا إذا عجزت عن الهجرة فالواجب عليك حينئذ هو إقامة دينك حسب ما تستطيع ، والحفاظ على أولادك وزوجك من الضياع ، والسعي بقدر ما تستطيع للهجرة ، ولا بأس أن يقيم من عنده علم راسخ ، وإيمان ثابت ، من أجل الدعوة إلى الله عز وجل ، وتعليم الناس الخير ، بشرط أن يأمن على نفسه ، وأولاده ، وزوجه من الوقوع في المنكرات. ويمكن للأخ السائل أن يراجع الفتوى رقم: 2007 فإن فيها زيادة بيان.
والله أعلم.
===================
حكم بقاء من أسلم من أهل البلدان غير الإسلامية في بلده
رقم الفتوى:12829تاريخ الفتوى:06 ذو القعدة 1422السؤال : أني مسلم إيطالي، اسمي محمد عبد الله (ماريو كافالارو) دخلت في السلام قبل 17 سنة، ثم درست اللغة العربية، والعلوم الشرعية في المدينة المنورة.
لقد سألني أحد الاخوان من الإيطاليين عن الإقامة في بلدان الغير الإسلامية، فإنا نعلم أنه لا يجوز لمسلم الهجرة إليها من البلدان الإسلامية إلا في حالات خاصة، فما حكم من أسلم من سكان تلك البلدان الغير الإسلامية، هل يجب عليهم الهجرة إلى بلد إسلامي أم يجوز له البقاء فيها؟ وهل يجوز لمن دخل في الإسلام أن ينتقل من بلده إلى بلد غير إسلامي آخر؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالحكم بوجوب الهجرة أو عدمه يختلف باختلاف أحوال الناس والبلدان، وفي ذلك يقول ابن قدامة في المغني: فالناس في الهجرة ثلاثة أضرب:(3/2)
أحدها: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة، لقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء:97]. وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها، إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والوالدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه، لقول الله تعالى: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) [النساء:98-99]. ولا توصف باستحباب لأنها غير مقدور عليها.
والثالث: من تستحب له، ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه، وإقامته في دار الكفر، فتستحب له، ليتمكن من جهادهم، وتكثير المسلمين، ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار، ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه، لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة، وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيماً بمكة مع إسلامه، وروينا: أن نعيم النحام، حين أراد أن يهاجر، جاءه قومه بنو عدي، فقالوا له: أقم عندنا، وأنت على دينك، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا، وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم، فتخلف عن الهجرة مدة، ثم هاجر بعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قومك كانوا خيراً لك من قومي لي، قومي أخرجوني، وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك"، فقال: يا رسول الله: بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله، وجهاد عدوه، وقومي ثبطوني عن الهجرة، وطاعة الله، أو نحو هذا القول".
وعلى ما تقدم، فإن المسلم الذي يأمن على نفسه وماله وأهله، ولا يخشى عليه، ولا عليهم من الوقوع في المنكرات، ويستطيع إقامة شعائر دينه في بلد من البلدان غير الإسلامية لا تجب عليه الهجرة من هذا البلد، ولكن يستحب له استحباباً مؤكداً أن يهاجر إلى بلاد المسلمين للإقامة بينهم، فإن النعم التي يحصلها المؤمن بالسكن في بلاد المسلمين لا يمكن حصرها، ومنها: نعمة صلاة الجماعة، ونعمة سماع الأذان، ورؤية الصالحين من المسلمين، وقلة المنكرات، وكثرة الخير والمعروف، وغير ذلك من المنافع والمصالح التي تعود على المرء بصلاحه واستقامته.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، فمحمول على من لم يأمن على دينه.
أما انتقال المسلم من بلد غير إسلامي إلى بلد غير إسلامي آخر، فإن بلاد الكفر غير الحربية تتساوى في الحكم المتقدم، فلا بأس بانتقال المسلم من بلد منها إلى بلد آخر، خصوصاً إذا كانت هناك مصلحة شرعية معتبرة من طلب علم، أو دعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أو التعاون على البر والتقوى.
والله تعالى أعلم.
=================
إعادة إقامة الخلافة واجب شرعي على المسلمين
رقم الفتوى:1411تاريخ الفتوى:16 صفر 1420السؤال : ما هو الحكم الشرعي في إقامة دولة الخلافة الإسلامية لتطبيق شرع الله في الأرض والعمل لاستئناف الحياة الإسلامية وتطبيق الأحكام الشرعية ونشر الإسلام في كافة أرجاء المعمورة.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/3)
فإن أول ما تحتاج إليه الدعوة الإسلامية في هذا العصر أن تقيم (( دار الإسلام )) أو (( دولة للإسلام )) تتبنى رسالة الإسلام عقيدة ونظاماً، وحياة وحضارة. وتقيم حياتها كلها: المادية والأدبية، على أساسٍ من هذه الرسالة الشاملة، وتفتح بابها لكل مؤمن يريد الهجرة من ديار الكفر والظلم والابتداع. هذه الدولة المنشودة ضرورة إسلامية، وهي أيضاً ضرورة إنسانية، لأنها ستقدم للبشرية المثل الحيّ، لاجتماع الدين والدنيا، وامتزاج المادة بالروح، والتوفيق بين الرقي الحضاري، والسمو الأخلاقي ، وتكون هي اللبنة الأولى لقيام دولة الإسلام الكبرى ، التي توحد الأمة المسلمة تحت راية القرآن ، وفي ظل خلافة الإسلام . لكن القوى المعادية للإسلام ، تبذل جهوداً جبارة مستمرة دون قيام هذه الدولة في أي مكان وفي أي رقعة من الأرض ، وإن صغرت مساحتها وقلّ سكانها . قد يسمح الغربيون بدولة ماركسية ، أو دولة شيوعية ، وقد يسمح الشيوعيون بدولة لبرالية ، ولكن لا هؤلاء ولا أولئك يسمحون بدولة إسلامية تقيم الإسلام شريعة ونظاما للحياة . ولأجل ذلك لا تكاد تسمع باسم الإسلام في أي مكان إلا وتجد أنهم ينقضون عليه إنقضاض الباز على الفريسة . والله غالب على أمره ، وليس ببعيد عليه جل جلاله أن يرد للمسلمين مجدهم في تكوين دولة إسلامية تحفظ لهم دينهم ودنياهم ، وتجعلهم مرة أخرى سادة الأرض، وقادة الإنسانية إلى الخير، وما ذلك على الله بعزيز ، وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
===================
قصة حديث "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين
" رقم الفتوى:15053تاريخ الفتوى:28 محرم 1423السؤال : السلام عليكم ورحمة الله
روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين, قالوا يا رسول الله ولم, قال : لا تتراءى ناراهما". رواه مسلم و الترمذي
أطلب منكم بكل تقدير واحترام أن تخبروني ما هي القصة التي قال الرسول فيها هذا الحديث الشريف. علما بأني أسكن في بلد غير مسلم لأجل لقمة العيش وأدرس في نفس الوقت. ولا أزكي نفسي عندما أقول لكم بأنني شاب ملتزم وأحب ديني الإسلام,أرجوا منكم أن توضحوا لنا هذا الأمرلأنه تشبه علينا, وجزكم الله عنا كل الجزاء,
الفتوى : الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن جرير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سارية إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بنصف العقل، وقال " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال: لا ترايا ناراهما " وليس الحديث في صحيح مسلم هذا فيما يتعلق بقصة الحديث. أما ما يتعلق بأحكام الهجرة والعيش في بلاد الكفار فقد تقدم ذلك برقم 8614
والله أعلم.
=================
شروط جواز إعانة مريد الهجرة إلى بلاد الكفر
رقم الفتوى:15708تاريخ الفتوى:14 صفر 1423السؤال : السلام عليكم ورحمة الله
ما حكم الشرع في إنسان يقيم في أوربا وله أصحاب في البلاد الإسلامية يريدون منه أن يساعدهم على الهجرة إلى أوربا علما أن إقامة هذا الإنسان في أوربا مؤقتة؟
والسلام عليكم
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ....
أما بعد :
فلا تجوز الهجرة إلى بلاد الكفار بقصد الإقامة فيها إلا إذا دعت ضرورة لذلك، وكذلك لا يجوز الذهاب إليها للسياحة والتنزه، وذلك لما في هذه البلاد من المنكرات الشائعة، والفتنة التي لا ينجو منها إلا من رحمه الله تعالى، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " رواه أبو داود .
أما إذا كان السفر إليها لأجل الدعوة إلى الله، وتعليم الناس دين الله، فلا بأس لما في ذلك من المصلحة الراجحة، ويشترط لهذا أن يكون المرء آمنا على نفسه من الوقوع في تلك الفتن، وهو صعب المنال.
ومن خلال ما تقدم يتبين أنه لا يجوز لك إعانة أحد على هذه الهجرة، لأنه من التعاون على الإثم والعدوان الذي نهى عنه محكم القرآن، كما في قوله تعالى : ( وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: من الآية2)، إلا إذا كان هذا الذي ستساعده يريد الذهاب للدعوة، بشرط ألا ينوي الإقامة الدائمة، بل ينوي أن يرجع إذا أحس أنه سيتضرر أو أن مهمته قد انقضت، أو يكون ممن هم مضطرون اضطرارا حقيقياً إلى الذهاب إلى تلك البلاد ممن يخشون على أنفسهم القتل أو السجن إن هم بقوا في البلاد الإسلامية، وراجع الفتاوى رقم :
2007 ورقم: 714
والله أعلم.
==================(3/4)
الأفضل أن تستبدل الكلمة بـ(الهجرة)
رقم الفتوى:16302تاريخ الفتوى:24 صفر 1423السؤال : فقط أريد معرفة هل يعتبر قول (إن النبي هرب) إساءة وطعنا إن قصد فيها معنى الخروج من بطش الكفار فلقد قرأت لأحدهم هذه العبارة... وحق له أن يهرب فقد هرب النبي صلى الله عليه وآله من المشركين وهاجر إلى المدينة... وهرب موسى عليه السلام من فرعون... ولم يكن يقصد بها الإساءة بل وصف حال ولكن البعض كفره بسبب كلمته فهل بها إساءة؟
والسلام عليكم.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقول الشخص: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هارباً ليس ذماً بإطلاق، بل فيه تفصيل.
فإن قصد القائل أنه خرج هارباً نتيجة جبن وخور وفرار من تبليغ رسالة الله تعالى ومواجهة المشركين ونحو ذلك، فهذا كافر لأنه طعن في النبي صلى الله عليه وسلم وتنقص، وهو كفر بإجماع.
وإن كان قصد القائل أنه خرج بإذن الله وهرباً من أذى قومه بعد اتفاقهم على قتله ونحو ذلك، فلا شيء عليه، والأولى تجنب هذه اللفظة الموهمة، واستبدالها بلفظ الهجرة.
ويدل على أنه خرج مهاجراً بإذن الله ما أخرجه أحمد والترمذي والحاكم والضياء وصححوه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأمر بالهجرة من مكة، وأنزل عليه (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً) [الإسراء:80] .
وروى ابن إسحاق والطبراني عن أسماء رضي الله عنها أن أبابكر رضي الله عنه أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي" ، فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي وأمي أنت؟ قال: "نعم..." .
فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مهاجراً بإذن الله وأمره، ولا يتنافى هذا مع القول بأنه خرج مطارداً خائفاً من قومه، كما يدل عليه ما رواه البخاري أن ورقة بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ليتني أكون فيها جذعاً، إذ يخرجك قومك، قال: "أومخرجيَّ هم؟!!" ، قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي وأخرج...
وما أخرجه أحمد بسند صححه ابن حجر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: لو شئتم قلتم: "جئتنا خائفاً فآمناك، وطريداً فآويناك، ومخذولاً فنصرناك" ، فقالوا: بل المن علينا لله ورسوله.
وقد تقرر في معتقد أهل السنة والجماعة أن الخوف الطبيعي من العدو، واتخاذ الأسباب الواقية من شره لا يقدح في العقيدة، ولا ينافي التوكل.
والله أعلم.
==================
الهجرة على ثلاثة أضرب
رقم الفتوى:16686تاريخ الفتوى:10 ربيع الأول 1423السؤال : إذا كنا نعيش في بلد للمنافقين فهل يجب علينا تركه أم نستطيع العيش معهم؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن النفاق مذموم كله، وهو قسمان :
نفاق أصغر غير مخرج من الملة، وهو التخلق بأخلاق المنافقين من الكذب ونقض العهد وخلف الوعد والخيانة و.....
ونفاق أكبر مخرج من الملة، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام. ولا ندري أيهما أراد السائل.
وعلى العموم فإن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه الهجرة، وهو من لا يستطيع إظهار شعائر الدين وهو قادر على الهجرة.
والثاني: من لا هجرة عليه، وهو من عجز عنها لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف كالنساء والولدان ونحوهم.
والثالث : من تستحب له الهجرة، وهو من يقدر عليها ويستطيع إظهار شعائر الدين.
والله أعلم.
==================
شروط الاستعانة بالكافر والسلام عليه
رقم الفتوى:17051تاريخ الفتوى:17 ربيع الأول 1423السؤال : ما حكم أن تستعين بنصراني للحصول على عمل أي يساعدك في الحصول على الوظيفة وهل وده والسؤال عنه وعن صحته والسلام عليه جائز؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنه يجوز للمسلم أن يستعين بالكافر المسالم للمسلمين في الأمور التي لا تتصل بالدين مثل: الطب، والزراعة، والصناعة، وغير ذلك من الأمور الدنيوية، والوظيفة من هذه الأمور، فقد استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط ليدله على الطريق في الهجرة، وهو يومئذ مشرك، كما يجوز أيضاً للمسلم أن يقبل هدية الكافر ويهدي له، فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية الملوك، وقد قال الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8] .
فمن مقتضيات هذه العلاقة تبادل المصالح والمنافع، وهذا المعنى لا يدخل في نطاق النهي عن الموالاة، إذ أن النهي عن الموالاة يقصد به النهي عن محالفتهم ضد المسلمين، وعن الرضا بما هم فيه من الكفر والتشبه بهم ومحبتهم.(3/5)
وأما السلام عليهم، فقد أجازه بعض العلماء مثل: سفيان بن عيينة فقد سئل هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم. قال الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الممتحنة:8] .
وقال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) [الممتحنة:4] ، وقال إبراهيم لأبيه: (سَلامٌ عَلَيْكَ) [مريم:47] .
وأما حديث النهي عن البدء بالسلام على اليهود والنصارى، فقد قال القرطبي إنه محمول على ما إذا كان السلام لغير حاجة، وهناك حديث أسامة بن زيد المتفق عليه وهو: "أنه صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه مسلمون ويهود ومشركون، فسلم عليهم". وهو يدل على جواز السلام على الكفار لحاجة، إذ أنه صلى الله عليه وسلم سَلَّم على الجميع، وقد جاء يدعو المجلس إلى الإسلام -أعني غير المسلمين منه-، وقد سلم عبد الله بن مسعود على كافر كان قد سافر معه. قال علقمة : فقلت له: يا أبا عبد الله، أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام؟ قال: نعم، ولكن لحق الصحبة.
فتبين من هذا أن السلام على الكافر لا بأس به إن كان لحاجة أو لصحبة.
وأما السؤال عن حاله فلا شيء فيه من باب أولى، وقد جاء في الحديث أن غلاماً من اليهود كان مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه... إلى آخر الحديث. وهو في البخاري وأبي داود ومسند الإمام أحمد. وفيه دلالة على جواز السؤال عن حال الكافر، لأن العيادة أخص من السؤال عن الحال.
والله أعلم.
=================
الهجرة واجبة لمن لم يتمكن من أداء شعائر الدين
رقم الفتوى:17898تاريخ الفتوى:07 ربيع الثاني 1423السؤال: السلام عليكم و رحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإني يا أخي العزيز لي موضوع متعلق بمستقبل حياتي بأسره ألا وهو أنا تلميذ أبلغ من العمر 18 غير أني أعيش في بلد لا حرية إسلامية فيه فالإسلام يضطهد والمسلمون يعيشون حالة قمع وذلك لأسباب" سياسية " فسؤالي يا أخي العزيز هل بإمكاني الهجرة والرحيل إلى أي بلد من البلاد الإسلامية فيمكنني أن أتعلم القرآن وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم علي أحسن ما يكون، فيا أخي العزيز أسأل الله أن يثبتك حتى يمكنك مساعدتي علما وأني يا أخي لي أم وأب وأخ وأخت أخاف أن يمسهم سوء من جراء رحيلي.
أخي الكريم بكل بكل بساطة أريد أن أقول هل الهجرة أوالرحيل في حالتي هذه فرض. وجزاكم الله كل خير
الفتوى: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن كنت لا تتمكن من إقامة شعائر الإسلام في هذا البلد الذي أنت فيه فيجب عليك الهجرة إلى بلد مسلم تتمكن فيه من عبادة ربك والقيام بشعائر دينك، وأقنع أهلك وأقرباءك بوجوب ذلك عليهم أيضاً، وإن كنت تتمكن من إقامة دينك وعبادة ربك فالهجرة مستحبة في حقك وليست واجبة. وفي حالة الاستحباب لا بد من إذن الوالدين لك بالهجرة، وألا تخشى عليهما ضيعة في حال هجرتك، وانظر الفتوى رقم:
8614 والفتوى رقم: 12829.
والله أعلم.
================
من وسائل المبشرين لتدنيس هوية المسلم
رقم الفتوى:18150تاريخ الفتوى:11 ربيع الثاني 1423السؤال : بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد أشرف الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين
السادة مشرفو مركز الفتوى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السؤال :
نحن مقيمون في بلد من البلاد الغربية لفترة مؤقتة ، وزوجتي تذهب إلى إحدى المدارس القريبة من المنزل يومين في الأسبوع لتتعلم الحياكة وبعض الإنجليزية ، وهناك يقدمون مأكولات وملابس بعضها جديد والباقي مستعمل بالإضافة إلى العديد من الخدمات.
وزوجتي تحضر معها في كل مرة مأكولات وملابس ولعب للأطفال (على الرغم من قدرتنا المالية)، فهل أخذ هذه الأشياء حلال أم حرام علما بأن العديد من الجنسيات الأخرى يكونون موجودين ويأخذون من هذه الأشياء أيضا.
أفيدونا أفادكم الله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أبو سلمى
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقبل الإجابة على السؤال لا بد من بيان حكم الإقامة في بلاد الكفر، لأنها من المسائل المهمة ولها علاقة بواقع الحالة التي وردت في السؤال، فإنه بالنظر إلى نصوص الشرع، واستناداً إلى واقع الحال، لا يشك أحد في عدم جواز الإقامة في ديار الكفر لأدلة وردت في ذلك، ومن هذه الأدلة:
1- ما ثبت في سنن أبي داود وسنن الترمذي بإسناد حسن عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما " ولأن المسلم مأمور بالهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وجوباً أو استحباباً حسب الحال، كما في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها " هذا بالإضافة إلى أن الواقع يشهد بأن بلاد الكفر فيها إباحية وأسباب للفتن لا تحصى ولا تعد، والمسلم مأمور بالفرار بدينه من أسباب الفتن.(3/6)
وقد تكون هنالك بعض الحالات يجوز فيها السفر لبلاد الكفر للحاجة أو الضرورة، من ذلك:
1-الذهاب بقصد القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، ولا يتم ذلك إلا بالسفر إليها، وما لا يتم المأمور به إلا به فهو مأمور به. هذا مع مراعاة تسلح هذا الداعية بعلم يتقي به الشبهات، وإيمان يحتمي به من الشهوات.
2- حالات العلاج التي قد لا تتيسر في بلد مسلم.
أما موضوع السؤال فنقول في الإجابة عليه: إن مثل هذه المؤسسات التي يقوم عليها غير المسلمين، والنصارى خاصة، يكون دورها في الغالب تبشيرياً، وغزواً فكرياً لطمس هوية المسلم، وكثيراً ما يستخدمون مثل هذه المساعدات للتأثير على النفوس بجانب الإحسان، وهذا أمر معلوم متواتر، وصدق الله عز وجل حيث يقول: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنفال:36] فنصيحتنا هو ألا تأخذوا هذه الأشياء، بل ننصح بعدم ذهاب زوجتك لهذا المكان، بل والعودة إلى بلادكم أو الذهاب للإقامة في أي بلد مسلم، فإن أرض الله واسعة، ورزق الله تعالى متوفر في كل مكان.
والله أعلم.
================
الإسلام يهدم ما كان قبله
رقم الفتوى:18958تاريخ الفتوى:25 ربيع الثاني 1423السؤال : عمري 16 سنة تعرفت على شاب مصري نصراني فضحك علي الشيطان وآمنت بدينه لمدة 6 أشهر وكنت أصلي معه.
وذا الوقت الحمد لله تعالى عرفت أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذا الوقت أصلي لكنني أريد أن أعرف إذا كان علي أن أعمل شيئاً تجاه قضيتي هذه ؟ وشكراً......
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فأعلم أخي أن الإسلام يجب ما قبله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص وفي آخر الحديث قال عمرو : يا رسول الله، أنا أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها.
ولكن عليك أن توثق صلتك بالله تعالى وتتزود من الطاعات والدعاء بأن يثبتك الله على دين الإسلام حتى تلقاه، وانظر الفتوى رقم:2924 والفتوى رقم:16351.
والله أعلم.
================
هل ترخص الهجرة لديار الكفر لتحسين المعيشة
رقم الفتوى:20063تاريخ الفتوى:15 جمادي الأولى 1423السؤال : بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
أنا شاب مسلم من الجزائر مداوم على استقبال فتاوى الشيخ الدكتور عبد الله الفقيه حفظه الله.
يا شيخ لقد استعسرت لدينا الأمور في بلدنا نظراً لما نعيشه من فتن نتيجة البعد عن دين الله سبحانه وتعالى فالسكن غير موجود والمعيشة صعبة نتيجة الظروف الاجتماعية السيئة نريد الزواج لنتحصن ونريد اتساعا في الرزق يساعدنا على ذلك ولكن هذا مفقود عندنا السؤال:
هل يجوز لي الهجرة إلى أوروبا للعمل هناك لفترة حتى أتمكن من تكوين نفسي ثم أعود إلى بلدي أو أستقر في بلد مسلم أعيش فيه كريما أم أن الضرورة التي أتكلم عنها لا تصل إلى درجة التفكير في الهجرة إلى بلاد الكفر؟
وجزاكم الله عنا كل خير.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن السفر إلى بلاد الكفر فيه خطرٌ عظيمٌ على الدين والأخلاق، لما في تلك البلاد من ما يدعونه من الحريّة، وعدم إنكار المنكر، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تَرَاءَى ناراهما" رواه أبو داود والترمذي.
أما إذا كان المهاجر عنده علمٌ وبصيرةٌ، وكان ذهابُه إلى هناك للدعوة إلى الله، وبيان محاسن الإسلام، فيجوز لهذا وأمثاله الهجرة إلى هناك بهذا المقصد الشرعي بشرط أن يأمن على نفسه الوقوع فيما حرم الله، وهذا أمر عسير جداً بالنسبة للشاب غير المتزوج، فأبواب الفتنة هنالك مفتحة على مصاريعها، ومن خسر دينه فقد خسر كل شيء، والصبر على بعض منغصات الحياة أهون من الصبر على نار جهنم، ومصاعب الدنيا وملذاتها كل ذلك إلى زوال، والعاقل يركز تفكيره على وضع يجعل إذا خرج من هذه الحياة خرج وربه عنه راض، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.
والله أعلم.
================
لا تجوز الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد غير المسلمين إلا في حال الضرورة
رقم الفتوى:2007تاريخ الفتوى:18 ذو القعدة 1421السؤال : ما حكم الشرع في الهجرة إلى الدول الأجنبية مع العلم أنني متزوج ولي ثلاثة أطفال أعمارهم مابين ال12 و 3 سنوات. وأنا أعمل مهندس بترول وأحيا حياة مادية مستقرة لكن هناك الكثير من المنغصات التي تدفعني إلى التفكير في الهجرة ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/7)
فلا تجوز الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد غير المسلمين لمن لا يستطيع أن يقيم شعائر الدين ، ولا يأمن على نفسه الوقوع في الفتنة ، وذلك لما يترتب على السكنى بين ظهراني الكافرين من محاذير جسيمة ومخاطر عظيمة . منها أنه سيجعل على نفسه سبيلاً للكافرين، والله تعالى يقول: ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) [النساء : 141 ] . ومنها أنه بمساكنته لهم واختلاطه معهم قد يتأثر في عقيدته فيواليهم محبة وإعجاباً بهم ، لما يرى مما عندهم من زهرة الحياة الدنيا وزينتها مما لا يزن عند الله جناح بعوضة . ومنها أنه قد يخف عنده الشعور بالكراهية لما هم عليه من كفر بالله تعالى ومنكرات وانحلال فالنفس تألف ما اعتادته ، وفي هذا من الخطر ما لا يخفى ولن يبقى مع المرء أدنى مقومات الإيمان ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن . ومنها أنه لا يأمن أن يصاب هؤلاء بعذاب من عند الله تعالى وهو بين أظهرهم فيصيبه ما أصابهم . ومنها أنه يعرض ذريته للفساد وأنت عليم أن الطفل في كثير من بلاد الكفار لا سيطرة لأبيه عليه ، ولعلك إذا تأملت هذه المخاطر العظيمة فهمت قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" خرجه أصحاب السنن . لذلك عليك أن تحمد الله تعالى على ما منّ عليك به من نعمة الإيمان وكفى بها نعمة ، وعلى ما من عليك به من استقرار مادي، وتصرف ذلك فيما يرضى الله تعالى وتحافظ على تربية أطفالك تربية صالحة على وفق شرع الله تعالى ، فإن أعظم ما ينبغي أن يحرص عليه الأباء هو صلاح أبنائهم ليكونوا لهم قرة عين في حياتهم ، ومادة لزيادة حسناتهم بعد مماتهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له" والحديث في صحيح مسلم . واعلم أنه من الغفلة عن حقائق الأمور بمكان - أن يظن أحد أنه سيعيش في الدنيا بدون منغصات. وأسعد الناس حالاً فيها من آمن بالله تعالى وصدق رسوله واهتدى بشرعه وكان آمناً معافىً عنده قوت يومه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا " أخرجه الترمذي وابن ماجه . ومن أراد أن يتهنأ بما آتاه الله من نعمة فليتمثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: " انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فذلك أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" ، كما في المسند والسنن.
والله أعلم.
================
حكم العمل في ديار الكفر
رقم الفتوى:20391تاريخ الفتوى:23 جمادي الأولى 1423السؤال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
- ما حكم من يعمل في بلد الكفر؟
وشكرا لكم
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فيحرم البقاء والإقامة في بلاد الكفر لمجرد العمل لمن لا يستطيع أن يقيم شعائر الدين ، ويخشى على نفسه الفتنة، لما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين".
ولا تجوز الهجرة إلى بلاد الكفر إلا تحت الضرورة الملحة أو لغرض الدعوة، وبشرط أن يغلب على ظن المهاجر أنه سيسلم من الوقوع في ما لا يرضي الله، وانظر الفتوى رقم: 2007.
والله أعلم.
20392
عنوان الفتوى:حكم من طلق زوجته ثلاث مرات متفرقات رقم الفتوى:20392تاريخ الفتوى:21 جمادي الأولى 1423السؤال : السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
ما هو الحكم الشرعي في من طلق زوجته ثلاث تطليقات متفرقات بسبب الغضب تارة وطلب الزوجة تطليقها تارة أخرى ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فننصح الزوجين كليهما بتقوى الله تعالى وأن يؤدي كل منهما لصاحبه ما أوجب الله عليه من الحقوق، وأن يتغاضى ويتسامح مع صاحبه في التقصير الذي يحصل منه.
وأن يتحمل الزوج النصيب الأكبر من ذلك لأن الله تعالى جعل بيده القوامة.
وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالنساء، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً. وفي رواية : وكسرها طلاقها.
وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم. رواه الترمذي وابن حبان.
وعليها هي أن تطيع زوجها وتعلم أن في ذلك استقرار حياتها الزوجية والأهم من ذلك وهو رضى الله عز وجل، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة. رواه الترمذي والحاكم وصححه.(3/8)
وبالنسبة لما يخص من طلق زوجته ثلاث مرات متفرقات على نحو ما في السؤال فالجواب عنه أنها بانت منه بينونة كبرى لا تحل له بعدها إلا أن ينكحها زوج آخر نكاح رغبة ويدخل بها. هذا إذا لم يصل بالمطلق الغضب إلى حالة يفقد فيها وعيه ويغيب عنه عقله، وعلى كل حال فإنا ننصح السائلة بالتوجه إلى المحكمة الشرعية، وتشرح لها ملابسات الطلاق مباشرة، وسوف تجد عندها الحل الشرعي الشافي إن شاء الله تعالى.
والله أعلم.
================
البديل المأمون بلاد المسلمين
رقم الفتوى:21228تاريخ الفتوى:10 جمادي الثانية 1423السؤال : السلام عليكم.... أما بعد:
سيدي الفاضل أبدأ كلامي بعنوان لإحدى الخطب الشباب أمل وألم أنا شاب اكتب إليكم للسؤال عن حكم الإسلام في الهجرة من بلادالإسلام إلى بلاد الغرب، سيدي الكريم لقد منع الحجاب وأحل التبرج، لقد منعت السنة وأحلت البدعة، لقد ضاقت بنا الدنيا بما رحبت، جزاكم الله عنا كل خير والسلام عليكم ورحمة الله.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز للمسلم السفر إلى بلاد الكفر، والإقامة بين أظهرهم إلا إذا وجدت حاجة بالغة تدعو إلى ذلك، كعلاج مرض تعذر علاجه في بلاد المسلمين، أو دراسة علم لا يوجد في بلاد المسلمين، ونحو هذا، وذلك لما يترتب على الإقامة المذكورة من مخاطر عظيمة ذكرت في فتوى سابقة برقم:
2007.
وعلى هذا فما ذكره السائل لا يعد مسوغاً كافياً للهجرة إلى بلاد الكفر لأن الذي هرب منه في بلده سيجد ما هو أشد منه، وأعظم في البلاد التي يريد أن يهاجر إليها.
وعليه.. فنصيحتنا للأخ أنه إذا لم يستطيع أداء شعائر دينه في بلده فليهاجر إلى بلد إسلامي آخر.
ثم إذا لم يجد سبيلاً إلى ذلك وأصبح مضايقا في بلده، فعليه أن يزن الأمور بدقة، فإن وجد أن بلاد الكفر سيجد فيها حرية لممارسة شعائر دينه لا يجدها في بلده، فلا مانع من الهجرة حينئذ، وإن كنا نشك في وجود مثل هذا في هذه الأيام.
والله أعلم.
================
كيف تكون داعية ناجحاً ومؤثراً
رقم الفتوى:21651تاريخ الفتوى:20 جمادي الثانية 1423السؤال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرجو منكم مساعدتي في كيفية دعوة أخواتي وأخي الوحيد إلى الله إنهم أكبر مشكلة في حياتي فأنا متزوجة ولا أعيش معهم واثنتان من أخواتي متزوجتان والباقي الأربعة يعيشون مع أمي وأبي، المشكلة هي أنهم لا يصلون ولا يذكرون الله ويعيشون تقريبا كما يعيش الأوربيون ومع العلم فنحن نعيش في بلد أوربي كافر
إنهم يلبسون ويتعاملون ويتصرفون مثل الكفار وجميعهن يأخذن من حواجبهم أي النمص وإني أراهن يفعلن ذلك أمامي ولكن لا أقدر أن اقول شيئاً لأنني أعلم أنهن سوف يتشاجرن معي ولن يسمعوا كلامي
أرجو من الله ثم منكم أن تساعدونني وتعطوني نصائح في كيفية إنقاذهن من النار أرجو أن تعطوني الجواب قريبا فأنا ليس لي أحد أساله إلا الله ثم أنتم.
والسلام عليكم
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإننا لنشكر للأخت السائلة غيرتها على الدين وحرصها على الخير والدعوة إليه، وشفقتها على أهلها، فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
ونهدي إليها هذه التوجيهات لعلها تعينها على القيام بهذه المهمة العظيمة والتوجيهات هي:
أولاً: الإخلاص واحتساب الأجر في بذل النصح، لأن هذا يعينها على الصبر على أذاهم.
ثانياً: العلم النافع من الكتاب والسنة الذي يعينها على دفع الشبهات التي قد ترد منهم.
ثالثاً: أن تكون قدوة صالحة في سلوكها وأخلاقها، فلا ترد الإساءة بمثلها بل تعفو وتصفح، وتحسن إليهم وتظهر الشفقة عليهم.
رابعاً: استغلال الأحداث المؤثرة، وما أكثرها في الغرب، كحوادث الانتحار وغيرها، لأن ذلك قد يكون أبلغ في التأثير.
خامساً: عدم اليأس، وبعث الأمل في النفس، والتفاؤل بإمكان هدايتهم مع الإكثار من الدعاء لهم.
ولتعلم الأخت السائلة أن الإقامة في بلاد الكفر لا تجوز إلا لضرورة، كالدعوة إلى الله تعالى ونحو ذلك، والعيش بين الكفار أصل كل بلية، والهجرة من ديارهم إلى بلد إسلامي واجبة، ولتراجع الفتوى رقم:
10334.
والله أعلم.
==============
الحكم من استئجاره عليه الصلاة والسلام دليلاً لطريق الهجرة
رقم الفتوى:22328تاريخ الفتوى:07 رجب 1423السؤال : من الذي سار مع الرسول صلى الله عليه وسلام ليلة الهجرة هو وأبوبكر من هذا الرجل
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مليئة بالدروس والعظات والعبر، وكذلك سيرته كلها؛ بل وحياته كلها.
فعلى المسلم أن يتعلم من ذلك ما يدعوه إلى محبته صلى الله عليه وسلم،(3/9)
فإن ذلك واجب على المسلم، ولا يكمل إيمانه حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، ومن نفسه التي بين جنبيه .
ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
وفي هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بصحبته أبوبكر رضي الله عنه -كما أشار السائل- وكان معهما عبد الله بن أريقط الدؤلي وكان مشركاً ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأجره ليدله على الطريق وكان خريتاً ماهراً.
وبعض الروايات تقول: إن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر كان بصحبتهما وكان يخدمهما، وكان قد أسلم قبل ذلك، والمتأمل في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أخذه لكافة الاحتياطات اللازمة يعلم أن المسلم يجب عليه أن يأخذ بالأسباب ثم بعد ذلك يتوكل على الله تعالى، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لأبي بكر "ما ظنك باثنين الله ثالثهما". رواه البخاري ومسلم، وكان بإمكانه ألا يتخذ سبباً وهو على يقين بأن الله ناصره، ولكنه صلى الله عليه وسلم مشرع لأمته فيبين لهم أنه لابد من أخذ الأسباب، ولهذا السبب استأجر ذلك الرجل المشرك عبد الله بن أريقط ليدله على الطريق .
والله أعلم.
===============
مرتكب الكبائر هل يدخل في مسمى (الكفر)
رقم الفتوى:22426تاريخ الفتوى:09 رجب 1423السؤال : ما مصير المهاجر وأبنائه كمسلمين وماهو الحرام في ترك البلاد الأم (الإسلامية) والهجرة إلي بلاد المهجر كما هو الحال عندي والعديد من المسلمين. كما أريد أن أشير إلى أن بلداننا أصبحت اليوم أكثر كفراً ( إن صح التعبير) بكثرة فساد أبنائها وخاصة المفسدات منهن وكثرة اللصوص والراشين والمرتشين خاصة وغيرها من المحرمات. . . . شكرا على إجابتكم
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تقدم بيان حكم السفر إلى بلاد الكفار والمفاسد المترتبة على ذلك في فتوى سابقة برقم:
2007 فلترجع إليها.
وأما ما ذكره السائل من أن بلاد المسلمين أصبحت أكثر كفراً لما عدده هو في سؤاله من بعض المعاصي والمنكرات.. فكلام غير صحيح لأن السرقة والرشوة والزنى وشرب الخمر، وما يشابه ذلك في كونه من كبائر الذنوب كل ذلك ليس كفراً، وعلى المسلم أن يحذر من أن يصف مسلماً بالكفر بسبب ذنب ارتكبه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه. رواه مسلم.
والله أعلم.
=============
لهذه الاعتبارات نرى أن العمل الدعوي للمرأة هو الأسلم
رقم الفتوى:2334تاريخ الفتوى:15 جمادي الأولى 1422السؤال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... هناك مسجد في ولاية أمريكية يصلي فيه الرجال مع النساء بالشكل الشرعي الرجال أولاً ثم النساء خلفهم ، وترغب النساء في القاء موعظة اسبوعية لمدة عشرين دقيقة على الرجال والنساء من ميكروفون متحرك بحيث يبقى الرجال في وضعهم في الصلاة والنساء من خلفهم دون النظر إليهم . فهل يجوز شرعاً ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:(3/10)
فإن مبدأ مشاركة المرأة في التعليم والدعوة والإصلاح بحسب طاقتها وسعتها أمر مطلوب شرعاً ، فالمرأة كالرجل مسؤولة عن علمها ماذا عملت به ، كما أنه مطلوب منها أن تكتب وتنقد ، ويقرأ لها الرجال . وفي عصور الإسلام الزاهرة ، حيث الفضيلة والاحتشام ، وانحسار أسباب الفتنة ، كانت النساء تقعد للتعليم من وراء حجاب تروي الأحاديث وتشرح المسائل ، وكانت النساء تنافس الرجال في طلب العلم ، لكن بأدب الإسلام ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم : غلبنا عليك الرجال يا رسول الله فاجعل لنا يوماً من نفسك ، فوعدهن النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن ، رواه البخاري . فلم تطلب النساء المزاحمة ، بل رغبن في الاختصاص. ومع كثرة النساء العالمات الحافظات لم يذكر التاريخ إلا نسوة قليلات كانت لهن مجالس يتلقى عنهن الرجال فيها العلم ، وكانت من وراء الحجاب ، لكن كانت النساء تحضر مجالس العلم التي يعقدها الرجال ، وهي لا تحصى كثرة ، تحضرها النساء محتشمات ، يقعدن في مكان بحيث يسمعن العلم ولا يخالطن الرجال .. وعلى هذا درج عمل المسلمين . وفي العصر الحاضر ، ومع تنامي الهجرة إلى البلاد غير الإسلامية ، جاءت ضرورة اجتماع المسلمين في المهجر في المراكز والمساجد ، لحماية أنفسهم وأولادهم ، يتلقون فيها العلوم الشرعية ، ويمارسون فيها المناشط الدعوية وغيرها .. وهنا كان لا بد للمرأة أن تشارك في هذه الأعمال ، ولكن بأي صفة وكيفية ؟ الذي نرى أنه الصواب في مثل هذه الظروف ، والذي يحقق طموح المرأة في المشاركة ، ويحفظ لها خصوصيتها ضمن أدب الإسلام ، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي نراه الصواب في ذلك أن تمارس المرأة نشاطها الدعوي والتعليمي بين بنات جنسها من النساء ، وألا تتعدى ذلك إلى الرجال ، بأي حال ، وذلك لأسباب منها : - أن المرأة مطلوب منها التستر ، وألاّ تتحدث إلى الرجال
إلا وفيه من الرجال أضعاف ما فيه من النساء من حيث العلم والفقه في الدين ، فالأولى تفعيل دور الرجال ، وجعل النساء في محيطهن الملائم لطبيعتهن. - وفي حال عدم وجود الكفاية في مكان ما ، فإنه يمكن الاستعانة بآخرين وهذا معمول به ، وقد أثبت نجاحه . - أن فتح هذا الباب - برغم التحفظ في البداية - فإنه سيجر إلى مضاعفات لا تحمد ، وسيكون سنة سيئة لغيركم ، قد لا تسلمون من وزرها ، فترك ذلك سداً للذريعة ، واتباعاً لسنة المسلمين في التعليم والدعوة ، وصيانة لجناب المرأة المسلمة أن تقف مواقف محرجة .. لذلك كله نرى عدم المضي في العمل المقترح ـ وأن فيه من المحاذير الشرعية ما يجعل تركه مصلحة شرعية راجحة يجب الأخذ بها ، وأن ما فيه من مصالح هي مصالح مرجوحة ، فهي ملغاة يجب اطراحها . يؤيد هذا أن رفع الصوت بالتلبية في الحج والعمرة أمر مطلوب شرعاً واستثنى الشارع من هذا الطلب النساء كما استثناهن من الأمر بالجهر بالقراءة في الصلاة ومن الأمر بالأذان لحاجة المؤذن إلى أن يرفع صوته ، وما استثناهن في هاتين الشعيرتين(الصلاة والجمع) وهما ركنين من أركان الإسلام ألا وهو يعلم أن رفع الصوت فيهما قد يجلب من المفاسد أكثر مما يرجى منه من المصالح: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ، فالحاصل أن ما يرجى من هذا الأمر من مصالح - على افتراض حصولها - قد قابله ما هو أعظم منه من المفاسد ومن مقررات قواعد الأصول : أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح إذا تعارضا .
والله أعلم .
==================
مسائل في أحكام دار الإسلام ودار الحرب
رقم الفتوى:24428تاريخ الفتوى:24 شعبان 1423السؤال : - ما هو تعريف الدارين أي دارالإسلام ودارالكفر؟
- ما هي العلاقة بين الدارين أي ( دار الإسلام ودارالكفر)؟
- وما حكم الإقامة في دار الكفر الأصلي؟
- ما هي شروط دارالإسلام؟
- وأخيراً كيفية استئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة إسلامية؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تقدم الكلام عن معنى دار الحرب ودار الإسلام، وشروط دار الإسلام، وذلك في الفتوى رقم: 7517.
وتقدم الكلام عن أحكام الإقامة في دار الحرب، والهجرة إليها، وذلك في الفتوى رقم: 8614.
وتقدم الكلام عن العلاقات بين دار الحرب ودار الإسلام، وذلك في الفتوى رقم: 20632.
وتقدم الكلام عن استئناف الحياة الإسلامية، وإقامة دولة إسلامية، وذلك في الفتوى رقم: 1411.
والله أعلم.
================
شروط جواز الهجرة لديار الكفر
رقم الفتوى:24699تاريخ الفتوى:29 شعبان 1423السؤال : ما حكم العمل في بلاد الكفار خصوصا إن كان السائل من الدول الإسلامية التي تحارب الالتزام بشرع الله وتعذب الملتزمين
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/11)
فالأصل هو عدم جواز الهجرة إلى بلاد الكفر والإقامة فيها كما بينا في الفتوى رقم 2007 لكن من لم يأمن على نفسه أو دينه أو أهله في بلده، ولم يجد بلداً مسلماً يأوي إليه أو تعذر عليه ذلك، فلا حرج عليه في الهجرة إلى بلاد الكفر إذا كان سيأمن فيها على نفسه ودينه، وعليه أن يسعى جاهداً في الحفاظ على دينه، وأن يقلل من الاختلاط بالناس، ومن التواجد في أماكن الفتن خصوصاً فتن النساء.
والله أعلم.
===============
هجر المسلم...المشروع منه والممنوع
رقم الفتوى:25074تاريخ الفتوى:11 رمضان 1423السؤال : ماهو حكم من يهجرأخاه أخطأ ثم اعتذر عن الخطأ وهو يرجو أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ورد في سنن أبي داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال.
والمعنى: لا تتعاطوا أسباب البغض، ولا يتمنى بعضكم زوال نعمة بعض، سواء أرادها لنفسه أم لا، ولا تقاطعوا، ولا تولوا ظهوركم عن إخوانكم ولا تعرضوا عنهم، فوق ثلاث ليالٍ بأيامها. كما في شرح السنن.
وإنما جاز الهجر في هذه المدة وأقل منها لما جبل عليه الآدمي من الغضب، فسومح بهذا القدر ليرجع ويعود إلى عقله ورشده، وهذا فيما يكون بين المسلمين من عقاب وموجدة أو تقصير يقع في حقوق ذوي القرابات والصحبة.. دون ما كان من ذلك في جانب الدين، فإن هجر أهل الأهواء والبدع مطلوب على مر الأوقات ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق.
وما لم يكن الاختلاط بهم لأجل دعوتهم وتوجيههم وأرجى لأن يؤثر فيهم فهو حينئذٍ أولى.
وورد كذلك في سنن أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم. زاد أحمد: وخرج المسلِّم من الهجرة.
وفي حديث آخر: فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار.
وفي حديث آخر أيضًا: من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تفتح أبواب الجنة كل يوم اثنين وخميس، فيغفر في ذلك اليومين لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا من بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا.
فواجبك أيها الأخ المسلم أن تتوب إلى الله تعالى وتعود إلى علاقتك بأخيك، إن كان لا يرفض ذلك؛ لأن المسلمين إخوة، ولأن الصفح والتسامح من أخلاق الإسلام، فإن أبى هذا الأخ عن قبول اعتذارك إليه وواصل الاستمرار في هجرك، فلا تقطعه وصله وسلِّم عليه كلما لقيته، وعده إذا مرض، وأدِ إليه جميع الحقوق التي جعلها الله للمسلم على أخيه، ودعه يبوء بإثمه وحده، ولا تكن شريكه في الإثم.
وفقنا الله وإياك لما يستوجب الرحمة والمغفرة منه تعالى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.. آمين.
والله أعلم.
=================
هجرة الإنسان من مكان المعصية إلى مكان الطاعة واجبة
رقم الفتوى:25370تاريخ الفتوى:18 رمضان 1423السؤال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أنا في بلد الزنى فيه يكاد أن يكون مباحاً وبأرخص الأثمان وكم أجاهد النفس وأتمسك بالسنة والصلاه وخاصة الفجر ... فكيف نتقي الفتن وهي حتى في البيوت والشوارع إلخ تلحقنا .. إني أحبكم في الله والسلام عليكم .
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فأحبك الله الذي أحببتنا فيه، ونسأل الله لنا ولك الثبات على دينه، واعلم أن العيش في بلاد تشيع فيها الفاحشة وينتشر فيها الفساد، ويشق على المرء فيها الالتزام بأوامر الله، واجتناب حرماته لا يجوز، ويجب عليه الهجرة من تلك البلاد إن أمكنه ذلك إلى بلد يستطيع فيه الاستقامة على شرع الله وإلزام نفسه بطاعته تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: فأحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلماً وتارة كافراً وتارة مؤمناً وتارة منافقاً وتارة براً تقياً وتارة فاسقاً وتارة فاجراً شقياً، وهكذا المساكن بحسب سكانها. فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة. انتهى
فاعلم أن فساد المجتمع لا يسوغ الوقوع في المعصية فيلزمك الاستقامة على شرع الله والابتعاد عن معاصيه والاحتراز عن فساد المجتمع.
ومما يعينك على ذلك المحافظة على الفرائض والإكثار من النوافل لاسيما الصوم فإنه وجاء.
واشغل وقتك بما يعود عليك بالنفع في دنياك، وعليك أن تبادر إلى الزواج إن كنت غير متزوج، واختر ذات الدين لتكون عوناً لك على الطاعة.(3/12)
واختر لك صحبة صالحة ترافقهم وتقضي معهم أوقات فراغك يدلونك على الخير ويعينونك عليه، ويبعدونك عن الشر ويحذرونك منه، وإياك وصحبة الفساق ومجالستهم فهي من أكبر وسائل الإغواء والإضلال، وابتعد عن كل مواطن الفتنة، وأسباب الإثارة، والجأ إلى الله سبحانه بالدعاء أن يعصمك من كل معصية وفتنة.
إذا لم تستطع الزواج وغلبك وخشيت على نفسك الوقوع في الزنا بحيث لم يصبح أمامك إلا أن تزني أو تستمني، فافعل الاستمناء لدفع فاحشة الزنا بارتكاب أخف الضررين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما إنزاله باختياره بأن يستمني بيده فهذا حرام عند أكثر العلماء، وهو إحدى روايتين عن أحمد بل أظهرها، وفي رواية إنه مكروه.
لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف على نفسه الزنى إن لم يستمن أو يخاف المرض، فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، وقد رخص في هذه الحالة طوائف من السلف والخلف، ونهى عنه آخرون.
فتاوى شيخ الإسلام61/1
وإذ استشعرت دائماً مراقبة الله هان عليك تجنب المعاصي. نسأل الله لنا ولك السلامة.
والله أعلم.
=================
حكم اللجوء لبلاد الكفر لتحصيل لقمة العيش
رقم الفتوى:25755تاريخ الفتوى:03 شوال 1423السؤال : ما حكم الشرع فيمن يهاجر من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفر في الدول الأوروبيه طلبا للعيش الكريم حيث تقدم تلك الدول للمهاجرين الراتب الشهري والتعليم والصحه لهم. فعلى سبيل المثال فأنا أب لأربعة أطفال وكنت أعمل في أبوظبي وقد أنهيت خدماتي قبل ثلاث سنوات واضطررت للعودة إلى فلسطين ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث عن عمل ودون جدوى وأخيراً فإنني أفكر بالهجرة إلى دولة أوروبية لإيجاد لقمة العيش لأولادي علما بأن الدولة العربية يوجد فيها فرص للعمل ولكن وللأسف الشديد ليست للمسلمين وأنما للسيخ والهندوس والكفار. وأنا متردد خوفا على أولادي من الضياع في تلك الدول الكافرة , فأين الدول الإسلامية؟ وجزاكم الله خيراً...
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن لم يتيسر لك عمل ببلدك، وضاقت بك السبل، وتمكنت من العمل ببلاد أوروبا، وأمنت على نفسك وأهلك وولدك الفتن، وقدرت على إقامة شعائر الإسلام، فلا بأس في إقامتك بتلك البلاد على أن يكون بنية العودة متى ما يتيسر لك الأمر ببلد مسلم، وإن لم تأمن الفتنة في دينك فلا يجوز لك الإقامة ببلاد الكفر.
وانظر الفتاوى التالية:
12829 -
8614 -
20063.
والله أعلم.
================
أحوال الهجرة من بلاد الكفر
رقم الفتوى:28551تاريخ الفتوى:23 ذو الحجة 1424السؤال : أدرس في دولة من دول الاتحاد السوفييتي السابق تسمى (أرمينيا) وأنا الآن في السنة الدراسية الثالثة
من الدراسة التي مدتها خمس سنوات وأنا هنا أعاني من مشاكل وهي عدم وجود مسجد لإقامة صلاة الجماعة
هذا يعني أني لا أصلي الصلاة جماعة مع الكفر والفجور والإباحية والخلاعة الموجودة في هذا البلد وأردت أن أعلم الفتوى في بقائي هنا وإكمال مدة دراستي ( سنتان ونصف) هذا وقد طلبت إفتائي في هذا الأمر من قبل وقد أفتيتم بترك هذا البلد والاستدلال بقوله تعالى(( ومن يتق الله يجعل له مخرجا)) وقد حاولت ترك هذا البلد والذهاب إلى بلد آخر فلقيت المجابهة والمعارضة من كل مكان من أسرتي وأصدقائي ومن كل مكان
وبما أنني أدرس في اللغة الإنجليزية هذا يعني أنني لا أستطيع الذهاب إلا إلى دولة تدرس في اللغة الإنجليزية ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد نصحناك في الفتوى المشار إليها والتي هي برقم: 15462، بأن تترك الدراسة في بلاد الكفر وتتحول إلى بلاد الإسلام؛ لأنك ذكرت أن ذلك ممكن إلا أنه سيؤخرك سنة، ولأن ذلك هو الأفضل والأسلم لك في دينك وعرضك.
وقد أحلناك في الفتوى المشار إليها على فتاوى فيها تفصيل الأحكام المتعلقة بالعيش في بلاد الكفار والهجرة منها، وخلاصة ما في تلك الفتاوى أن الناس في الهجرة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من لا يستطيع الهجرة لمرض وعجز ونحو ذلك فهؤلاء لا تجب عليهم الهجرة.
والثاني: من يستطيع الهجرة إلا أنه يستطيع أن يقيم شعائر دينه ويأمن على نفسه الفتنة فهذا تستحب له الهجرة ولا تجب عليه.
والثالث: من يستطيع الهجرة ولا يستطيع أن يقيم شعائر الدين أو لا يأمن على نفسه الفتنة فهذا تجب عليه الهجرة.
وأنت أخبر بحالك وحال البلد التي أنت فيها، أما عن معارضة أهلك فراجع الفتوى رقم:
20969.
والله أعلم.
===================
من شروط حِلِّ ذبيحة الكتابي
رقم الفتوى:28914تاريخ الفتوى:16 ذو الحجة 1423السؤال : السلام عليكم(3/13)
أعيش في مدينة شمال السويد ولا يوجد مكان للذبح الحلال الجميع هنا سامحهم الله يأكلون لحماً غير مذبوح نحن فقط عائلتان هنا نأكل لحما حلالاً مجمدا ونحن نعاني من فقر دم مما يستدعي لحما طازجا وكبدة تعرفنا على واحد سويدي يعمل في مجزرة وافق أن نكون معه في الذبح بأن نسمي اسم الله عليها ونعمل الطقوس الخاصة بالذبح بشرط أن يذبحها هو ويقوم بتخدير الدابة قبل ذبحها مع العلم أنه نصراني ونحن نكمل عملية تعليق وسلخ الحيوان وتقطيعه يعني هو فقط يذبح لأسباب قانونية أرجو منكم إفادتنا لأننا بأمس الحاجة للأكل الصحي نحن وأطفالنا ولا نريد أن نقع بالمحظور ونغضب الله علما بأنني سنية على المذهب الحنفي
جزاكم الله خيراً... السلام عليكم
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا بأس أن يذبح لكم هذا النصراني، وأن تأكلوا من ذبيحته؛ لأن الله تعالى أباح ذلك في كتابه الكريم من سورة المائدة الآية (5) : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ .
والمقصود بطعام أهل الكتاب ذبائحهم، وهذا بالإجماع، وإنما اختلف الفقهاء في أكل ما هو محرم عليهم في شريعتهم مثل: الجمل والأرنب على اليهودي، وجمهورهم على إباحة الأكل منه خلافًا للإمام مالك رحمه الله. والذي نرجحه هو ما ذهب إليه الجمهور لأدلة ليس هذا موضع بسطها.
فالحاصل أنه إذا لم يذبح على غير اسم الله تعالى فيجوز لكم الأكل من ذبيحته، وما ذكرته من أن أحدكم يقوم بذكر اسم الله على الذبيحة مع مباشرة غيره للذبح لا يغير شيئاً، فالفقهاء نصوا على أن من شرط الذكاة أن يكون الذابح هو الذاكر لا غيره، مع أنكم غير مكلفين بذلك ولا بالقيام بعملية السلخ ونحوه، فالله عز وجل أباح لنا ذبيحة الكتابي إذا لم يهل لغير الله بها. فلله الحمد وله الشكر على تيسيره وتسهيله.
ولكن ننصح لكم بالهجرة إلى بلاد الإسلام؛ لأنه يحرم على المسلم أن يقيم في بلاد الكفر إلا أن يكون ذلك لحاجة أو مصلحة معتبرة شرعاً، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الإقامة في بلاد الكفار وغلظ في ذلك بقوله: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، ولم ؟ قال: لا تراءى ناراهما. رواه أبو داود والنسائي.
والله أعلم.
==================
تستطيع القيام بكثير من أمور الدين
رقم الفتوى:29232تاريخ الفتوى:23 ذو الحجة 1423السؤال : هل تستطيع المرأة عدم التّديّن عندما تكون خائفة على نفسها من السّجن أو الطرد من الشّغل فهنا في بلادنا يمنعون التّديّن رغم أنّه بلد عربيّ مسلم ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فيجب على المسلم إن كان في بلد عجز فيه عن إظهار شعائر الدين الهجرة إلى بلد يتمكن فيه من عبادة ربه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:97]، وقال تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56].
وقد سبق الكلام عن أحكام الهجرة في الفتوى رقم: 12829.
وتعبير الأخ السائل بلفظ "عدم التدين" غير صحيح؛ لأن كثيراً من أمور الدين يمكن القيام بها دون علم أحد كالصيام والصلاة والذكر، وعلى ذلك فقس.
وقد سبقت لنا فتاوى عن حكم كشف المرأة لوجهها عند الضرورة أو قول كلمة الكفر عند الإكراه الملجئ، وذلك تحت الأرقام التالية:
12489، 12498، 12633.
والله أعلم.
=================
الغيرة منها المحمود ومنها المذموم
رقم الفتوى:30856تاريخ الفتوى:17 صفر 1424السؤال : ماذا أفعل لزوجي وغيرته الزائدة وخاصة أنا أعيش فى بلاد الكفر وحيث يوجدالنساء بدون حجاب؟ وشكراً.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فنصيحتنا لك ولزوجك أن تهاجرا من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وقد سبق بيان حكم الهجرة في الفتوى رقم: 12829.
وأما الغيرة من الزوجة على زوجها ومن الزوج على زوجته فمنها المحمود ومنها المذموم، وتفصيل ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية:
9044، 9390، 17659، 21303، 24118.
والله أعلم.
================
الحياة السعيدة يكون باتباع هدي الكتاب والسنة
رقم الفتوى:3093تاريخ الفتوى:19 ربيع الثاني 1422السؤال :
كيف السبيل إلى حياة دينية سليمة فى ظل متغيرات تحض على الفساد ؟ و هل الهجرة عن بلاد غاب عنها الدين و انعدم الضمير هي الحل؟
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:(3/14)
فإن الحياة السعيدة السليمة هي بالتمسك بكتاب الله تعالى واتباع هداه كما قال سبحانه وتعالى ( فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [البقرة 38] قال المفسرون لا خوف عليهم في الدنيا من الفتن والمضلات ولا هم يحزنون في الآخرة. وقال تعالى ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) [طه 123 ] أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. فعلى الجميع أن يتمسكوا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حسب فهم سلف هذه الأمة، وأن يلزموا جماعة المسلمين، والصحبة الصالحة منهم. وأن يكثروا من الالتجاء إلى الله ودعائه والتضرع إليه أن يحفظ الجميع من نزعات الهوى ومضلات الفتن. وأن يكثروا من الأعمال الصالحة فسيحيون حياة سعيدة طيبة كما وعد الله تعالى حيث يقول: ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) [النحل: 97] أما بالنسبة لمسألة الهجرة فقد نص أهل العلم على أن الإنسان يجب عليه أن يهاجر من بلد يرى فيه المنكرات ويخشى على نفسه الوقوع فيها وليهاجر إلى بلد لا توجد فيه منكرات فإن لم يجده فإلى بلد تقل فيه نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.
والله أعلم
===================
وسائل المحافظة على الإيمان والدعوة وتحصيل العلم
رقم الفتوى:31768تاريخ الفتوى:06 ربيع الأول 1424السؤال : نريد بيئة إيمانية لنتعلم العلم ولنحفظ إيماننا ولكن في هذا الوقت أنتم أعلم بالوضع حيث يوجد درس واحد أو درسان في الأسبوع في المسجد ناهيك عن المخابرات والمباحث والتضييق على التجمعات باختصار يوجد شباب مسلم التزموا ولكن لم يستطيعوا أن يجدوا بئيات صالحة فارتدوا على أعقابهم وهنا أريد أن تجدوا حلا غير الإنترنت لأن أكثر الذين يستخدمون الإنترنت لطلب العلم في لحظة ذهبوا من طلب العلم إلى طلب الشهوة
أرجو أن تركزوا على هذا الموضوع وأرجو أن تأخذوا سؤالي على محمل الجد لأن عملكم أو وظيفتكم في بيئة صالحة تحث على الخير لكن غيركم الله أعلم ببيئتهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإنا نسأل الله أن يزيدك حرصاً، وأن يجعلنا وإياك من الذين أوتوا العلم والإيمان، ولا شك أنه لا بد من التعاون على إيجاد وسائل للمحافظة على الإيمان وتحصيل العلم.
ومن أهم هذه الوسائل البيئات الصالحة -كما تفضلت- ويدل لأهميتها تحريض النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الهجرة إليه، وقد لوحظ أن الذين لم يهاجروا من الأعراب ارتد كثير منهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل لأهميتها أيضاً نصحُ العالِم الرجلَ الذي قتل مائة نفس ثم أراد التوبة بأن يذهب إلى أرض يوجد بها أناس صالحون وأن يعبد الله معهم، كما في حديث الصحيحين أنه قال: انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء..
وعلى هذا، فحبذا لو هاجر من استطاع الهجرة من مكان لا يقيم فيه دينه إلى مكان يحافظ فيه على إيمانه واستقامته، ولو لفترة يأخذ فيها زاداً إيمانياً ومعلومات أساسية يستنير بها في حياته، وينير بها الطريق لغيره.
ومن الوسائل المهمة المعينة على حفظ الإيمان، كثرة المطالعة في الترغيب والترهيب وأحوال القبور والآخرة، ولا شك أن الاطلاع على أهوال القيامة من أعظم ما يقمع الأهواء والشهوات؛ كما يدل عليه الحديث: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله. رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
ومن الوسائل المهمة المعينة على حفظ الإيمان القيام بما تيسر من الدعوة الفردية وقيام الليل والمحاسبة والاستفادة من النشرات والأشرطة والكتب الصغيرة النافعة.
ثم اعلم أخي أن ما ذكرت من المضايقات ينبغي التعامل معها باتباع الهدي النبوي في التعامل مع الأحوال التي مرت بها الدعوة في العهد المكي والعهد المدني.
فقد كانت للنبي صلى الله عليه وسلم حياة مكية لم تكن الأحوال فيها مساعدة، فكان يتعهد صحبه في بيت الأرقم بن أبي الأرقم بالتعليم سراً، كما ذكر الذهبي في السير وابن كثير في البداية، وذكره أيضاً غيرهما ممن ألف في السير والتاريخ، ولم يكن يهتم في هذه الفترة بالاجتماعات الكبيرة الظاهرة، ولما كثر الصحب أمرهم بالهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة.
وكانت له حياة مدنية كان يجمع الصحابة في المسجد ويعظهم ويعلمهم بعد الصلوات وفي الجمع والأعياد والمجالس، وفي البيوت وغير ذلك، فينبغي لمن كانت حاله مكية أن يحرص على حسن التدبير، والقيام بما أمكن من النشاط العلمي والدعوي، وأن يعلم أن أحب الأعمال إلى الله أدومها، وإن قلَّ كما في الحديث: أحب الأعمال إلى الله أدومها، وإن قل. رواه البخاري ومسلم.(3/15)
وينبغي الاعتناء بالدعاء أوقات الإجابة والاستعاذة بالله من كل شر، ومن الأدعية المأثورة في هذا المجال قوله صلى الله عليه وسلم: قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثاً تكفيك من كل شيء. رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع.. ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال: إذا كان على أحدكم إمام يخاف تغطرسه أو ظلمه فليقل: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم كن لي جاراً من فلان بن فلان وأحزابه من خلائقك أن يفرط علي أحد منهم أو أن يطغى، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله إلا أنت. رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا أتيت سلطاناً مهيباً تخاف أن يسطو بك، فقل: الله أكبر، الله أعز من خلقه جميعاً، الله أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو الممسك السماوات السبع أن يقعن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه من الجن والإنس، اللهم كن لي جاراً من شرهم، جل ثناؤك وعز جارك وتبارك اسمك ولا إله غيرك، ثلاث مرات. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
ثم إنه ينبغي أن يعلم أولئك الذين يضايقون الشباب الملتزمين أن الإيمان هو مصدر عز الأمة وفلاحها ونصرها، وأمنها والدفع عنها والتمكين لها، ومحبة الله لها وفتح أبواب البركات والحياة الطيبة، إلى غير ذلك من الوعود الصادقة المهمة.
كما قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، وقال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وقال: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96]، وقال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وقال: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
فعلى جميع المجتمع المسلم أن يتعاونوا على تحصيل الإيمان حتى يكسبوا هذه الوعود الطيبة، وينبغي للأغنياء أن يتعاونوا على توفير أشغال للشباب في البلاد المسلمة تغنيهم عن الهجرة إلى الأماكن الفاسدة، ويتعين على الشباب أن يبادروا بالزواج، وعلى المجتمع أن يساعدهم على إزاحة العقبات التي تعوق دون المبادرة به.
وأما الإنترنت فلا شك أن لها مخاطر ويمكن الرجوع إلى الفتوى ذات الأرقام التالية: 1568، 3024، 6617، 8254 لمعرفة كيفية توقي مخاطرها والاستفادة منها.
ولكن لا بأس أن يتفق شابان أو ثلاثة على وقت يجتمعون فيه ويطلعون على بعض المواقع المهمة، فيسمعون محاضرة أو يتابعون درساً أو يبحثون عن فتاوى أو يراسلون أحد العلماء، فلا شك أن اطلاع مجموعة في وقت واحد يمنع الشيطان من جرهم إلى المواقع الخبيثة، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: عليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم، وقال عنه شعيب الأرناؤوط إسناده حسن.
والله أعلم.
==============
متى تباح الدراسة في بلاد الكفر
رقم الفتوى:31862تاريخ الفتوى:09 ربيع الأول 1424السؤال : أريد السفر إلى فرنسا للدراسة فقيل لي يجب عليك حلق اللحية للحصول على التأشيرة علما بأنني سأعفيها بعد الذهاب للدراسة، ما حكم الشرع؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الدراسة التي تحاول السفر من أجلها إلى بلاد الكفر إن كانت ممكنة في بلاد المسلمين فلا يجوز السفر من أجلها إلى بلاد الكافرين؛ لما يترتب عليه من المخاطر على دينك، لأن الهجرة إلى بلاد الكفر لا تباح إلا في حالة الضرورة الملحة كعلاج أو دراسة تخصص لا يوجد في بلاد المسلمين.
ويمكنك الرجوع إلى الفتوى رقم: 2007، أما حكم حلق اللحية بغية الحصول على غرض شرعي أو الخوف من ضرر، فالجواب مفصل في الفتوى رقم: 3198.
والله أعلم.
=================
بيع المرأة وشراؤها وقت النداء يوم الجمعة
رقم الفتوى:33146تاريخ الفتوى:06 ربيع الثاني 1424السؤال:(3/16)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا أعيش في بريطانيا وأعلم أن البيع والشراء محرم في وقت صلاة الجمعة ولكن هل كوني امرأة وكوني أعيش في بلد غير إسلامي يجيز لي التسوق في وقت صلاة الجمعة مع العلم بأنني لا أرغب في ذلك إلا اضطرارا؟ إذا كان لا يجوز فهل يتغير الوضع إن كنت حائضا؟ أفيدونا؟ نوِرالله بصائركم وجزاكم الله عنا كل خير.
الفتوى: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سبق الجواب عن مثل سؤالك في الفتوى رقم: 24492فراجعيها للأهمية، وكونك تبيعين أو تشترين في وقت صلاة الجمعة وأنت حائض، أو كونك في بلد غير إسلامي لا أثر له في تغيير الحكم، إذ ا لأصل جواز بيع وشراء من لا تجب عليهم الجمعة في وقتها ومنهم المرأة حائضا كانت او غ ير حائض، مع النصيحة لك بالهجرة إلى بلاد المسلمين إن لم تكن هنالك ضرورة أو حاجة ش ديدة تجعلك تقيمين هناك، فقد روى أبو داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أن ا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تراءى ناراهما.
والله أعلم.
==================
ماهي دار الكفر و ما هو حكم الذين يعيشون في هذه الدار، هل هم مسلمون أم كفار أم مشركون، أرجو الإجابة بالتفصيل.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن دار الكفر هي الدار التي تجري فيها أحكام الكفر، ولا يكون العز والمنعة فيها للمسلمين، وقد سبق بيان ذلك مدعمًا بأقوال أهل العلم في الفتوى رقم: 7517.
وقد يعيش في هذه الدار المسلم أو الكافر، إذ لا يلزم من مجرد الإقامة في دار الكفر كفر من فعل ذلك إن كان في الأصل مسلمًا، لكن قد يحكم عليه بوجوب الهجرة من دار الكفر أو استحبابها حسبما تقتضيها حاله من حيث تمكنه من إقامة شعائر دينه أو عدم تمكنه من ذلك على تفصيل قد سبق أن بيناه في الفتوى رقم: 12829.
والله أعلم.
===============
يزداد المسلم رسوخا في الإسلام بحسب استسلامه وانقياده
رقم الفتوى:34585تاريخ الفتوى:09 جمادي الأولى 1424السؤال : هل نحن مسلمون حقا؟!
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد سأل رجل الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد: أمؤمن أنت؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا به مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً[الأنفال:2 - 4] فوالله ما أدري أنا منهم أم لا. ذكره القرطبي في تفسيره.
وبناءً على هذا فنقول: إن المسلم يدخل في دائرة الإسلام بمجرد شهادته بالتوحيد والرسالة وإقراره بالمضمون مع سلامته من الإتيان بناقض من نواقض الإسلام قوليًّا كان أو عمليًّا، والدليل لما قلناه هو في حديث مسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاكٍ فيحجب عن الجنة. ، ولما في حديث الصحيحين: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.
ثم إنه يزداد المسلم تمكنًا في الإسلام وقوة في الإيمان بحسب ما يكون عنده من تمام الاستسلام والانقياد، وبقدر ما يتحلى به من شعب الإيمان، كما يضعف إيمانه بقدر قيامه بالمعاصي وتقصيره في الطاعات.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. أخرجه مسلم وأخرج البخاري بعضه.(3/17)
وقد ألف البيهقي رحمه الله كتابًا في شعب الإيمان، فيمكن الرجوع إليه. وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري عند شرح هذا الحديث تلخيصا لما أورده بعض أهل العلم فيها فقال: فائدة قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان، اهـ، ولم يتفق من عدَّ الشُّعب على نمط واحد وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه، وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب وأعمال اللسان وأعمال البدن. فأعمال القلب: فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان بالله: ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط والجنة والنار، ومحبة الله والحب والبغض فيه، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه: الصلاة عليه، واتباع سنته. والإخلاص: ويدخل فيه: ترك الرياء والنفاق والتوبة والخوف والرجاء والشكر والوفاء والصبر والرضا بالقضاء والتوكل والرحمة والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير وترك الكبر والعجب وترك الحسد وترك الحقد وترك الغضب وأعمال اللسان وتشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن وتعلم العلم وتعليمه، والدعاء والذكر، ويدخل فيه الاستغفار واجتناب اللغو وأعمال البدن، وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة، منها ما يختص بالأعيان، وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حسا وحكما، ويدخل فيه اجتناب النجاسات وستر العورة والصلاة فرضا ونفلا، والزكاة كذلك، وفك الرقاب، والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف والصيام فرضا ونفلا، والحج والعمرة كذلك، والطواف والاعتكاف، والتماس ليلة القدر، والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك، والوفاء بالنذر، والتحري في الإيمان، وأداء الكفارات، ومنها ما يتعلق بالاتباع، وهي ست خصال: التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق وتربية الأولاد، وصلة الرحم، وطاعة السادة أو الرفق بالعبيد، ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود والجهاد، ومنه المرابطة وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله، وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف، ورد السلام وتشميت العاطس، وكف الأذى عن الناس، واجتناب اللهو، وإماطة الأذى عن الطريق، فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدها تسعا وسبعين خصلة باعتبار إفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر والله أعلم.
والله أعلم.
==============
الأكل من اللحوم المذكاة في بلد انتشر فيه فساد العقيدة
رقم الفتوى:34830تاريخ الفتوى:14 جمادي الأولى 1424السؤال : هل يجوز أكل اللحم دون التثبت من ذبحه؟ هل بسمل؟
خصوصا أنّي في بلد كثرت فيه الكفريات بشكل كبير [الذين يسبون الدين والجلالة نسبة تفوق الخيال، وإن لم يسبوا فهم يسمعون دون إنكار بسبب الجهل المتفشي...فإنكم إذا مثلهم]
هل تجوز الصلاة وراءهم؟هل تجوز معاملتهم كمسلمين؟
فوالله إنها لفتنة عظيمة..........
القرى الصغيرة، فأحرى في المدن الكبيرة. والله تعالى لم يكلف عباده فوق طاقتهم، ولا بما فيه حرج. قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا[البقرة:286]، وقال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78].
وعليه فإذا كان البلد الذي تسكن فيه بلدًا مسلمًا، فلا حرج عليك في الأكل من اللحوم المذكاة فيه ولو انتشر فيه ما انتشر من فساد العقائد والجهل، إلا إذا تحققت أن الذي ذكى هذا اللحم يسب الله تعالى ويستهزئ بالدين ونحو ذلك من الأمور الكفرية الصريحة، فحينئذ تكون ذبيحته كذبيحة المجوس.
وأهل هذا البلد الذي ذكرت يعاملون كمسلمين يصلى خلف أئمتهم، ويصلى على أمواتهم ما لم يظهر من أحدهم ما يقتضي كفره الصريح، فيعامل عندها معاملة الكافر وحده. وعن حكم تكفير المعين تراجع الفتوى رقم: 721 والفتوى رقم: 12800.
والله أعلم.
==============
الهجرة للإقامة والعمل في البلاد الأجنبية
رقم الفتوى:3497تاريخ الفتوى:16 صفر 1420السؤال : هل يجوز التقدم بطلب هجرة للإقامة والعمل في البلاد الأجنبية مثل كندا وأستراليا..وهل يتعارض ذلك مع حديث(إني برىء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)؟ أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وجزاكم الله خيراً.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/18)
فلا تجوز الهجرة إلى بلاد الكفر إلا تحت ضرورة ملحة أو لغرض دعوي واضح ممن هو أهل للدعوة إلى الله، بشرط أن يغلب على ظنه أنه سيسلم من الوقوع في المنكرات المنتشرة في بلادهم انتشاراً مذهلاً ، وذلك للحديث الذي أشرت إليه، وهو حديث ثابت رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه ، ولمزيد من التفصيل يراجع الجواب : 2007
والله أعلم.
==============
الهجرة أحيانا تكون واجبة
رقم الفتوى:35254تاريخ الفتوى:21 جمادي الأولى 1424السؤال : زوجي يريد أن نهاجر في سبيل الله، وأنا أمتنع عن ذلك، أريد لأبنائي الاستقرار، وخصوصا أنه يعيل خمسة أطفال، فبم تنصحونني؟ هل لي الحق في ذلك؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا كنت تقصدين بالهجرة في سبيل الله مفارقة بلاد تنتشر فيها الفواحش وتخشون من الوقوع فيها أنتم أو أولادكم، فإن الهجرة واجبة عليكم. وراجعي للأهمية الفتوى رقم: 530 والفتوى رقم: 714.
وإذا كنت تقصدين غير ذلك فبينيه لنا حتى تتسنى لنا الإجابة عليه.
والله أعلم.
===============
هل تجوز الهجرة لإنسان ضاق به العيش فى مجتمع يشوبه الجهل والتخلف والتعسف؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإذا كان هذا المجتمع الذي ذكرت مجتمعاً مسلماً في الأصل، فلا ينبغي لهذا الإنسان أن يهاجر عنه إذا كان باستطاعته أن يدعو إلى الله تعالى، ويعلم شرعه، ويبصر الناس فيه، ويعلمهم ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم، لأن ذلك من النصح لعامة المسلمين.
وفي صحيح مسلم وغيره عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" أما إذا كان هذا الإنسان لا يستطيع نفعهم وخاف على دينه أو نفسه أو عرضه فعليه أن يهاجر عنهم إلى بلد يأمن فيه على دينه ونفسه وعرضه.
وإن كان الباعث لهذا الإنسان على الهجرة من بلده، هو طلب الرزق وسعة العيش، فلا حرج في ذلك بشرط أن لا يكون في تركه للبلد الذي هو فيه تضييع لبعض الحقوق والواجبات عليه، وأن لا يكون البلد الذي سينتقل إليه فيه خطر عليه في دينه، أو نفسه.
والله أعلم.
===============
يجوز استخدام المشرك
رقم الفتوى:36333تاريخ الفتوى:19 جمادي الثانية 1424السؤال : الحمد لله وبعد:
فقد ثبت في الصحيح أن يهوديا يقال عنه إنه عبد القدوس كان خادما للنبي .. فالسؤال هل هذا كان في المدينة أو في مكة؟ وإن كان في إحداهما فهل كان في أول فترة مكة أو في أول فترة الهجرة؟ مع ذكر الدليل لذلك، وبالله التوفيق
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلم نقف على تحديد السنة ولا المكان الذي تمت فيه هذه الحادثة، ولكن ظاهرها يدل على أنها كانت في المدينة؛ لأنها هي محل تواجد اليهود يومئذ، وسواء وقعت هذه الحادثة في أول الهجرة أو بعد ذلك بزمن، فإن ذلك لا يغير من الحكم شيئًا، فزيارة الكافر - يهوديًّا كان أو غيره - مشروعة للمصلحة، لا سيما إذا كان ذا قرابة أو جوار ورُجِي إسلامه.
وينبغي للزائر أن يعرض عليه الإسلام ويبين له محاسنه برفق وحكمة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة. قال البخاري رحمه الله تعالى: باب عيادة المشرك ، وأورد هذا الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال ابن بطال: إنها إنما تشرع عيادة المشرك إذا رُجِي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا. والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى اهـ، وقال الحافظ أيضًا: وفي الحديث جواز استخدام المشرك...
وتتميمًا للفائدة نذكر الحديث بتمامه، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم فمرض، فأتاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أَسْلِمْ. فنظر إلى أبيه وهو عنده. فقال: أطع أبا القاسم. فأسلم، فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار. رواه البخاري.
والله أعلم.
================
هاجر للدراسة فشعر باليأس والفشل
رقم الفتوى:38352تاريخ الفتوى:10 شعبان 1424السؤال : أنا شاب أدرس في أمريكا، وعندما كنت في بلادي قبل 5 أعوام كنت جيدا في الدراسة، والآن فقدت الأمل ولم أعد آمل بالنجاح، وأشعر باليأس والفشل، فكيف أفعل؟ لأرجع إلى صوابي؟! انصحوني وجزاكم الله خيرا.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فبداية، ننبه الأخ الكريم إلى أن الإقامة في بلاد الكفر لا تجوز إلا لضرورة ملجئة، أو حاجة تنزل منزلة الضرورة، لما في البقاء في بلاد الكافرين من محاذير كثيرة، ومن أمثلة الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة: تعلم علم ينفع المسلمين، ولا يمكن تعلمه إلا في بلاد الكفر.
ومتى ارتفعت الضرورة أو الحاجة وجبت عليه الهجرة إلى بلاد المسلمين.
وراجع لمعرفة أدلة ذلك الفتوى رقم: 2007، والفتوى رقم: 20969.(3/19)
أما بالنسبة لما تشعر به من فقدٍ للأمل ويأسٍ و إحباط، فعلاجه يتمثل في تقوية الإيمان بالله، لأن هذه الأمور التي تشكو منها هي أعراض ضعف الإيمان، لأن المسلم يستصحب دوما روح الأمل لاتصاله بربه وثقته بوعده، وما دام يؤمن إيمانا كاملا بأن الله رحمن رحيم لطيف خبير، رؤوف جواد كريم، عفو غفور، تواب، مدبر لكل ما في هذا الكون، فكيف يتسرب إليه اليأس والإحباط؟!
وللمزيد حول هذه النقطة، نرجو مراجعة الفتوى رقم: 18771.
ولمعرفة وسائل تقوية الإيمان راجع الفتوى رقم: 19370.
ثم عليك بتنظيم وقتك بما يمكنك من القيام بواجبات دينك ودنياك، وصحبة الصالحين من أصحاب الهمم العالية الذين يحرصون على النبوغ في مجال تخصصهم لخدمة دينهم وأمتهم.
وراجع لزاما الفتوى رقم: 35559، والفتوى رقم: 1492، والفتوى رقم: 20725، والفتوى رقم: 16790، والفتوى رقم: 33707.
والله أعلم.
==============
الفرق بين السفر والهجرة
رقم الفتوى:41509تاريخ الفتوى:23 شوال 1424السؤال : ما حكم السفر إلى البلدان الغربية بقصد العمل أو الدراسة؟ ما الفرق بين السفر والهجرة إلى البلدان الغربية؟
ما حكم استعمال العطر في شهر رمضان؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تقدم الكلام عن حكم الإقامة في بلاد الكفار على الإجمال، وذلك في الفتوى رقم: 8614.
وتقدم الكلام عن الإقامة فيها لأجل الدراسة، وذلك في الفتوى رقم: 1620.
وتقدم الكلام عن الإقامة فيها لأجل العمل، وذلك في الفتوى رقم: 20391.
وتقدم الكلام عن المخاطر والمقاصد التي تترتب على الإقامة فيها، وذلك في الفتوى رقم: 2007.
أما عن الفرق بين السفر والهجرة إلى البلاد الغربية، فاعلم أولا أن الهجرة الشرعية لا تكون من دار الإسلام إلى دار الكفر، ولا من دار الكفر إلى دار كفر أخرى، وعليه، فالسفر إلى البلاد الغربية الكافرة لا يعد هجرة شرعية، نعم يسمى هجرة في اللغة، أما عن الفرق بين الهجرة والسفر لغة: فإن بينهما عموما وخصوصا، فقد يكون السفر لأجل الهجرة، وقد يكون لأجل غرض آخر، والهجرة قد تكون بسفر وقد تكون بلا سفر إذا كانت المسافة دون مسافة السفر.
وأما عن استعمال العطر في شهر رمضان، فقد تقدم الكلام عن ذلك في الفتوى رقم: 892.
والله أعلم.
===============
ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها
.." رقم الفتوى:41709تاريخ الفتوى:27 شوال 1424السؤال : في حديث يحكي بمعنى إذا هاجر الشخص لينكح مرأة فهجرته إلى ما هاجر إليه، أرجو توضيح هذا
إذا هاجر الشخص للزواج من امرأة وتوفي؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالحديث الذي أشرت إليه هو قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه. متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا مالكا
وهو يعني أن الأمور تبع لمقاصدها، فالذي يدعي أنه يهاجر إلى الله ورسوله وهو يريد غرضا آخر، فإنه مذموم من حيث كونه يظهر من العبادة خلاف ما يبطن، وأما من هاجر يطلب التزويج، أو يريد الهجرة إلى الله والتزويج معا ولم يبطن من القصد خلاف ما يظهر، فليس في فعله هذا مذمة، قال ابن حجر في "فتح الباري": فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة، فإنه يثاب على قصد الهجرة، لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط، لا على صورة الهجرة لله، لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف...
ومن هذا تعرف أن من هاجر للزواج من امرأة ثم توفي فلا مذمة في فعله ذلك، وقد يكون مأجورا عند الله تعالى.
والله أعلم.
=================
اكتساب الخبرات النافعة من الكفار مشروع
رقم الفتوى:46936تاريخ الفتوى:21 صفر 1425السؤال:
أولا نشكركم على هذه الجهود المبذولة .. نسأل الله أن
يجعل ذلك في موازين حسناتكم ..
أعمل طبيبا في أحد مستشفيات الرياض .. وقد حصلت على ابتعاث لاكمال دراسة الطب في كندا..وقد عينت في مستشفى يهودي غالبية الاطباء والمرضى يهود.
سؤالي حول حكم العمل في مستشفى يهودي علما بأن غالبية العاملين في المستشفيات الأخرى يهود..وما حكم الدراسة في بلاد الكفار من أجل الحصول على تدريب أفضل ..علما بأن التدريب في بلادنا ليس بالسيء..وهل يعتبر من الضرورة..
وجزيتم خيرا..
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(3/20)
فإن الأصل في السفر إلى مثل البلاد المذكورة في السؤال لغرض دنيوي المنع، وهو شامل للدراسة، وذلك لما يخشى من حصول المفاسد الدينية، وكثرة رؤية الفساد، وغير ذلك مما يكون ضرره أعظم من النفع المتوقع، والأصل تقديم دفع المفاسد على جلب المصالح، وقد استثنى من ذلك ما كان لضرورة علاج أو تحصيل تخصص يحتاجه المسلمون، ولا يوجد في بلاد الإسلام، قال ابن جزي في القوانين: لا تجوز التجارة إلى أرض الحرب، قال سحنون: هي جرحة ولا يدخل المسلم بلادهم إلا لمفاداة مسلم، وينبغي للإمام أن يمنع الناس من الدخول إليها، ويجعل على الطريق من يصدهم.
وأما الدراسة في تلك البلاد لتحصيل تدريب أفضل مع أنه يمكن التدريب في بلاد المسلمين فلا تعتبر ضرورة، ويتأكد الأمر إذا عرفنا أن اليهود لا يجودون بخبراتهم الجيدة للمسلمين، وكذا إذا عرفنا أن فضيلة التدريب هناك إذا قورنت بما يخشى من خطر فساد الدين والأخلاق وجدنا أن المفسدة أعظم من المصلحة، والقاعدة الفقهية هي: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وأما العمل في المستشفى اليهودي للتدرب واكتساب الخبرة مع التوقي من أضرار مخالطتهم فهو جائز ما لم تترتب عليه مفسدة شرعية.
فقد كان الصحابة يتعاملون مع اليهود في التجارة.
ويعملون معهم بالأجرة فقد أجر كعب بن عجرة نفسه عند يهودي، فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن كعب بن عجرة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متغيراً فقلت بأبي أنت مالي أراك متغيراً، قال: ما دخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث، قال فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلا له فسقيت له على كل دلو بتمرة فجمعت تمراً فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أين لك يا كعب فأخبرته... الحديث.
والحديث حسنه الألباني في صحيح الترغيب.
وقد جوز أهل العلم اكتساب الخبرات النافعة في الدنيا من الكفار، واستدلوا على ذلك باستدلال النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة بعبد الله بن أريقط، وهو كافر، وباستفادته من تجربة الخندق وهي مأخوذة من أهل فارس وبفدائه أسارى بدر بتعليم الصبيان الكتابة.
إلا أنه من المفاسد الشرعية في العمل بمستشفى بكندا توقع التأثر بفساد دين أهل تلك البلاد وأخلاقهم، فليلاحظ ذلك، هذا من ناحية بيان الحكم في المسألة أصلاً، وأما إذا سافرت بالفعل وباشرت عملك، فإنا نرى أن عليك أن تنظر في نفسك فإن أمكنك الحفاظ والاستقامة على دينك والاتصال بالمراكز الإسلامية والصلاة مع أهلها في المساجد والتعاون معهم على الدعوة إلى الله تعالى إضافة إلى القيام بواجبك الدراسي، فاصبر على ذلك واستعن بالله في إنجاح مهمتك الدعوية والدراسية وفي سلامتك من مخاطر تلك البلاد على أخلاقك، فقد جوز أهل العلم السفر لبلاد الكفر لغرض الدعوة إلى الله ما لم يترتب على ذلك محظور شرعي، وإن كنت تخشى على دينك ولم تجد ما يعينك على الاستقامة فلا شك أن دينك هو أهم ما يجب أن يحافظ عليه، فبادر بالهجرة إلى أرض الإسلام، ففي صحيح مسلم: أن الرجل العالم لما استرشده التائب القاتل مائة قال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء... إلى آخر الحديث.
والله أعلم.
==================
حكم إقامة من يستطيع إقامة شعائر دينه في بلاد الكفر
رقم الفتوى:47026تاريخ الفتوى:22 صفر 1425السؤال :
أنا شاب مسلم ومتزوج أعمل بالولايات المتحدة كمحلل نظم بشركة برمجيات هناك.
السؤال هو أنني قرأت حديثاً صحيحاً للرسول عليه الصلاة و السلام يقول : \"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين\" ، فهل نحن من نعيش في دولة غير مسلمة كأمريكا المقصودين بذلك رغم أنني أحافظ على شعائر ديني وأستطيع الصلاة والصيام وأداء صلاة الجمعة بالمسجد.
جزاكم الله خيرا عنا.
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا حكم الهجرة إلى بلاد الكفر في فتاوى سابقة، وقلنا فيها إن من لم يستطع القيام بشعائر دينه في بلاد الكفر فسفره إليها حرام، وإلا فمكروه، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 2007.
ثم إنا ننبهك إلى أنه ينبغي أن تنظر في طبيعة عمل الشركة، فإن كان عملها وبرامجها لا تخدم شيئاً محرماً في الشرع فلا حرج في العمل بها، وإن كان يخدم شيئاً محرماً فيحرم العمل بها، لما فيه من العون على المعاصي، وراجع الفتوى رقم: 9832، والفتوى رقم: 3143، والفتوى رقم: 18462.
هذا وقد ذكر أهل العلم أن السفر لبلاد الكفر بقصد الدعوة إلى الله تعالى جائز.
وعليه؛ فإن أمكنك الاتصال بالعاملين للإسلام هناك، والتعاون معهم على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، وتتخذ منهم صحبة صالحة تعينك على الاستقامة على الدين والمحافظة على الأعمال الصالحة، وتحفظ أسرتك من مخاطر الإقامة بدار الكفر، فاحرص على ذلك، وإن علمت أنك لن تستطيع الحفاظ على دينك فبادر بالهجرة إلى بلاد الإسلام، فإن دينك هو أهم ما يجب أن تحافظ عليه.
وراجع الفتوى رقم: 20063.
والله أعلم.
===============(3/21)
حكم الهجرة إلى بلاد الكفر لمن لم يستطع إقامة شعائر دينه في بلده
رقم الفتوى:47032تاريخ الفتوى:23 صفر 1425السؤال:
ما هو حكم الهجرة إلى بلد كافر ككندا أو فرنسا للدراسة، علما بأني أعيش في بلد أصله مسلم ولكن للأسف أداء الشعائر الدينية في كندا أيسر بكثير من أدائه في بلدي (مثلاً هنا تمنع السلطات إطالة اللحية ولو قليلاً مع التهديد اللفظي والبدني أيضاً فهي تهدد كل من ترتدي الحجاب وتمنعهن من دخول المدارس كذلك فهي تمنع الطلبة من أداء الصلاة في المعاهد والكليات...)، وكل هذا الأشياء لا تمنع في كندا!! فهل يجوز أن أهاجر إلى هذا البلد للدراسة إن لم أتمكن من الذهاب إلى بلد مسلم آخر تتوفر فيه دراستي؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من كان في بلد لا يستطيع فيه إظهار شعائر دينه والقيام بأوامر ربه يتعين عليه الهجرة منه إلى مكان يعبد فيه ربه ويدل لذلك قول الله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا* وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء].
وإذا أراد الهجرة فعليه أن يختار أفضل البلاد وأرفعها مستوى في الدين حتى يجد بيئة صالحة وصحبة صالحة تعينه على الطاعة، ويدل لذلك ما في صحيح مسلم أن العالِم لما سأله التائب عن التوبة قال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.
وبناء عليه؛ فإنه يتعين عليك البحث أولاً عن دولة مسلمة تتوفر فيها حرية الدين، فإن لم تتيسر وكانت هناك بعض دول الكفر تعطي حرية للمسلم في عبادة الله تعالى فلا شك أن الهجرة إليها أولى من البقاء في الدولة التي لا تعطي الحرية للمسلم في العبادة.
ولكن ينبغي أن يلاحظ أنه لا بد للمسلم المهاجر إلى دول الكفر من التحفظ من مخاطر بلاد الكفر والتفقه في أمور دينه والارتباط بالمساجد وأهلها والإكثار من حضور مجالس العلم التي تصله بالله وتلاوة القرآن والحفاظ على الأذكار المأثورة وصلوات الفرض والنفل والبعد عن أجواء السوء والرذيلة ورفاق الشر والفجور، ويتعين عليه الاتصال بالعلماء مباشرة أو عن طريق وسائل الاتصال ليستفتيهم فيما يعرض له من إشكالات في أمور دينه.
ويستحسن أن يحصل دائماً في كل يوم حفظ آيات وأحاديث في موضوع معين ويقدم فيه درساً لزملائه الطلاب ولأهل المسجد حتى تكون هجرته بغرض الدعوة إلى الله ولتكون تلك الأنشطة حماية له من أسباب الفساد وشياطين الإنس والجن، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 8614، 38634.
والله أعلم.
===================
الهجرة من دار الفسق والبدعة مشروعة
رقم الفتوى:48193تاريخ الفتوى:14 ربيع الأول 1425السؤال:
أعيش في بلد يكثر فيه فعل الحرام والمنكرات وعدم تطبيق حكم الله في الحياة اليومية, أخاف على نفسي وأهلي من الفتن المنتشره. وينقصنا من العلماء مَنْ يعلمنا ديننا على مذهب أهل السنة والجماعة، هل اللوم يقع علي لأني أتيت بأهلي ليعيشوا هنا، حيث أنني مواطن, دلوني على حل وأريحوني من الهم والغم؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كان الإنسان يعيش في بلاد الفسق أو بلاد البدعة وكان لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه أو لا يأمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتنة فإنه يجب عليه أن يهاجر من هذه الأرض، أما إذا كان يستطيع أن يقيم شعائر الدين ويأمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتنة فإنه يستحب له أن يهاجر من هذه الأرض ولا يجب عليه ذلك، وفي حالة وجوب الهجرة فإن الإنسان ملام على عدم الهجرة إن كان يقدر على ذلك، فإن كان لا يقدر على الهجرة فليجتهد وسعه في الحفاظ على دينه ودين أهله حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً، وراجع للمزيد من الفائدة الفتوى رقم: 25370، والفتوى رقم: 8328.
والله أعلم.
================
حكم صلاة الفريضة في السيارة خشية التعرض للأذى
رقم الفتوى:48229تاريخ الفتوى:12 ربيع الأول 1425السؤال :(3/22)
16490، فإذا خشيتم خروج وقت الصلاة مع عدم إمكان الصلاة بالشارع لخوف الأذى على النفس أوالمال فصلوا في السيارة بحسب ما تستطيعون وعليكم إعادة ما صليتم من الصلوات في هذه الحالة بعد وصولكم إلى المسجد أو المنزل احتياطا، ويمكن الرجوع إلى الفتوى رقم: 14833.
ولمعرفة حكم الهجرة إلى بلاد ا لكفر تراجع الفتوى رقم: 2007.
والله أعلم.
===============
هل يلزم الزوج التطليق إن طلبته الزوجة
رقم الفتوى:50499تاريخ الفتوى:10 جمادي الأولى 1425السؤال :
29948، 30519، 40543، فارجعي إليها واعرضيها على ابنتك وخوفيها من عقاب الله وذكريها بمضار الطلاق، واستعيني على ذلك بدعاء الله عز وجل لها بالهداية والصلاح، ثم بمن له تأثير عليها من أقاربها وصواحبها.
فإن تمكنت من إقناعها بالعدول عن الطلاق فحسن، وإلا فلا يلزم الزوج التطليق وإن طلبته الزوجة إلا في حال الشقاق بين الزوجين وثبت أن الزوج لا يعاشر بالمعروف فيُلزِم الحاكم الزوج عند بعض العلماء بالطلاق، فإن كانت القوانين في البلد الذي أنتم فيه تلزم الزوج بالطلاق وكان لا بد من حدوثه وحدث فعلا فننصحك أن تبحثي لابنتك عن رجل صالح يناسبها قبل أن يكون ما لا يحمد عقباه، وننصحكم أيضا بالهجرة إلى بلاد المسلمين صيانة لأنفسكم من فساد تلك المجتمعات.
وأما تزويجك لبنتك وهي صغيرة فمما تحمدين عليه، فالزواج المبكر علاج نافع في الحماية من الانحراف والفساد، وانظري الفتوى رقم: 34483.
ونصيحتنا لهذه البنت أن تتقي الله وأن تصبر على زوجها، فإن الحياة تصلح بحسن الخلق والتفاهم والكلمة الطيبة، فإن خافت أن لا تقيم حدود الله إن هي استمرت مع هذا الرجل جاز لها طلب الخلع ويسن له إجابتها.
والله أعلم.
==============
المسلم مطالب بالدعوة إلى الله على حسب استطاعته
رقم الفتوى:50919تاريخ الفتوى:22 جمادي الأولى 1425السؤال:
بسم الله الرحمن الرحيم
ما هي الحالة الأفضل مقاطعة شبان لا يرجى فيهم خير أم مخالطتهم و توعيتهم مع العلم أنهم تاركو صلاة يسبون الدين والجلالة ولا يرجى فيهم خير؟ وإن كانت الإجابة بالمقاطعة فهذا يعني أني سأقاطع على الأقل 80% من الناس في هذا البلد(والله هذا تقديري وتقدير من هم أعلم مني بدون مبالغة) الذي لا أستطيع الهجرة منه لأنى متمسك بديني لذلك منعت من السفر خارج الوطن في عديد من المرات؟
وجزاكم الله كل خير.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأفضل أن تجمع بين نصحهم وإرشادهم وبين عدم الإكثار من مخالطتهم، فإن المسلم مطالب بالدعوة إلى دين الله عز وجل على حسب استطاعته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم. رواه الشيخان.
فإن علمت من حالهم أنهم لا يستجيبون وأنهم معرضون إعراضاً تاماً فلا خير لك في صحبتهم، ومقاطعتهم أسلم لدينك، وانظر الفتوى رقم: 9163، والفتوى رقم: 20995 في خطورة قرناء السوء.
وأعلم أن ترك الصلاة وسب الدين وسب الله عز وجل من أكبر الكفر والعياذ بالله، وانظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 39575، 33915، 18080، 767، 47738، 11652، 133، 1846.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينك على طاعته وأن يجعل لك من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً وأن ينصر دينه وأن يخذل أعداءه المجرمين الذين يحاربون أولياءه.
والله أعلم.
===============
البقاء في بلاد غير المسلمين يختلف باختلاف حال المقيم
رقم الفتوى:51334تاريخ الفتوى:04 جمادي الثانية 1425السؤال :
ما هي صحة الحديث التالي: (أنا بريء من من عاش أربعين يوما بين ظهرانية الكفار)، وما هو حكم الشرع في الذي يعيش في بلد الكفر بغرض العمل، لأن بلده لا توفر له نفس الراتب، وما هو حكم الشرع فيمن يعيش في بلد الكفر بغرض الدراسة؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن اللفظ الصحيح للحديث هو: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا لم يا رسول الله قال لا تراءى ناراهما. رواه أبو داود والترمذي والطبراني في المعجم الكبير وهو حديث صحيح، قال الحافظ ابن حجر: وهذا محمول على من لم يأمن على دينه. انتهى.
وأما عن حكم الإقامة في بلد الشرك بغرض العمل أو الدراسة ممن كان يأمن على دينه بدار الكفر بحيث يقدر على إقامة شعائر دينه وعنده من العلم ما يدفع به الشبهات التي قد ترد عليه ومن التقوى ما يدفع به الشهوات، من كان هذا حاله جاز له البقاء في دار الكفر، سواء للعمل أو لغيره.
ومن لم يأمن على دينه لم يجز له البقاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. رواه أبو داود، قال الحافظ بن حجر: وهذا محمول على من لم يأمن على دينه.
قال في فتح الوهاب وهو من كتب الشافعية: وسن لمسلم بدار كفر أمكنه إظهار دينه لكونه مطاعاً في قومه أو له عشيرة تحميه ولم يخف فتنة في دينه ولم يرج ظهور إسلام ثم بمقامه هجرة إلى دارنا لئلا يكيدوا له.(3/23)
ووجبت عليه إن لم يمكنه ذلك أو خاف فتنة في دينه وأطاقها أي الهجرة لآية: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء97].انتهى بتصرف، والحاصل أن البقاء هناك يختلف باختلاف حال المقيم، وانظر الفتاوى رقم: 28551، 2063، 2007.
والله أعلم.
==================
الأذن في المرأة من العورة
رقم الفتوى:52088تاريخ الفتوى:28 جمادي الثانية 1425السؤال:
هل يجوز للمرأة المسافرة مع زوجها أن تكشف أذنها عند التصوير إذ كان هذا شرطا أساسيا للدولة المعنية، علما بأن نية السفر للدراسة الأكاديمية، والعمل والدولة ليست إسلامية؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كشف المرأة للمصور الأجنبي عن أذنها محرم لأن الأذن عورة يجب سترها عن غير الزوج والمحارم، ففي الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على أن الأذن في المرأة من العورة، ولا يجوز إظهارها للأجنبي.
وإذا أمكن أن يصورها الزوج أو المحرم فإن ذلك متعين، إلا أن نظر الأجنبي للعورة المصورة حرمه كثير من أهل العلم المعاصرين، فقد أفتى به الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، وقد سبق أن بينا حرمة النظر إلى الصور العارية في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1256، 1935، 2862، 50182.
فإذا تقرر هذا فليعلم أنه يتعين التنبه إلى عدة نقاط تتعلق بالسؤال:
1- لا يجوز اقتراف المحرم طلبا للحصول على كسب مادي ما لم تلجئ الضرورة أو الحاجة الشديدة إليه لأن الغاية لا تبرر الوسيلة، وقد يبتلى مقترف المعاصي بالحرمان مما يطلبه، لما في الحديث: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. رواه أحمد وابن ماجه والحاكم، وحسنه الهيثمي والأرناؤوط والألباني، وفي الحديث: ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته. رواه البزار وصححه الألباني.
2- أن السفر لبلاد الكفر لمن لا يستطيع التمسك بدينه فيه كثير من المخاطر، وقد بيناها في الفتوى رقم: 2007.
3- أنه تحرم على المرأة طاعة زوجها فيما حرمه الله؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وصححه غير واحد.
4- أن الله تعالى فتح للمسلم كثيراً من أبواب الرزق، فعليه أن يبتعد عن الرضوخ للشروط التي توقعه في الإثم، ويبحث عن وسيلة للحصول على مراده غير تلك الوسيلة، فيمكن للباحث عن العمل أو الدراسة أن يطلب تخصصا آخر في دولة لا تشترط عليه هذه الشروط.
5- أنه يتعين على الأمة الإسلامية أن تتعاون على إنشاء مؤسسات تعليمية واقتصادية لتغني أبناءها عن الهجرة لبلاد غير المسلمين التي تفسد دينهم وأخلاقهم وتوقعهم في الآثام والأمراض الفتاكة.
6- أن على المسلم أن يستعين بالله في جميع أموره ويجعل الأعمال الصالحة سببا لقضاء حاجاته، وليوقن بوعد الله تعالى الذي وعد به المؤمنين المتقين، قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {المؤمنون:1}، وقال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {البقرة:189}.
والله أعلم.
=================
السفر لبلاد الكفار للعمل والدراسة والسياحة
رقم الفتوى:53139تاريخ الفتوى:23 رجب 1425السؤال :
أريد أن أعرف رأي الشرع حول حكم من يعمل ويدرس ويسافر للسياحة في بلاد ليست مسلمة..فهل ماله الذي تحصل عليه من العمل حرام؟ وماذا عن الدراسة والسياحة؟
وجزاكم الله خيرا.
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تقدم الكلام عن الإقامة في بلاد غير المسلمين لأجل العمل أو الدراسة أو غير ذلك من الأغراض وذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية:51334 ،17945 ، 41509. وخلاصة ما في تلك الفتاوى أن الناس في الهجرة من تلك الديار على ثلاثة أقسام: القسم الأول: من لا يستطيع الهجرة لمرض وعجز ونحو ذلك فهؤلاء لا تجب عليهم الهجرة. والقسم الثاني: من يستطيع الهجرة إلا أنه يستطيع أن يقيم شعائر دينه ويأمن على نفسه الفتنة فهذا تستحب له الهجرة ولا تجب عليه. والقسم الثالث: من يستطيع الهجرة ولا يستطيع أن يقيم شعائر الدين أو لا يأمن على نفسه الفتنة فهذا تجب عليه الهجرة. أما عن المال الذي تحصل عليه المرء من العمل في بلاد غير المسلمين فهو راجع إلى نوع العمل فإذا كان العمل محرما فالمال المتحصل منه حرام، وإذا كان مباحا فالمال المتحصل منه مباح.
والله أعلم.
==============
الدفن في التابوت ودفن الميت في بلد غير الذي مات فيه
رقم الفتوى:54552تاريخ الفتوى:28 شعبان 1425السؤال:(3/24)
كما لايخفى على فضيلتكم ما تعانيه الجالية الإسلامية في بلاد الغرب من الأخطار وذلك نتيجة الإقامة في تلك البلاد فنسأل الله أن يجعل العواقب كلها خير. فضيلة الشيخ. لدينا سؤال نريد أن نطرحه على فضيلتكم وذلك حول مسألة ( ترحيل جثة الميت إلى بلده الأصلي أو دفنه حيث مات) وحول هذا الموضوع تكون عندنا سؤالان : 1- دفن الميت حيث مات في بلاد الكفر وذلك حتى يتم التعجيل بدفنه ؟ ولكن في هذه الحالة بعض المفاسد منها : أ- أن الدفن عندنا يكون داخل مقبرة كبيرة الحجم ويدفن فيها جميع المِلل من اليهود والنصارى والمسلمين مع بعضهم البعض علماً بأن الحاجز بين قبور المسلمين وغيرهم هو فاصل من الأشجار فقط وليس بينهم طريق .ب - أن الميت يدفن بالتابوت .ج- أن القبر سوف ُينبش بعد عشر سنوات إذا لم يتم تسديد ثمن القبر وهذا هو القانون عندهم 2-نقل الميت إلى بلده أي بلد الإسلام ؟ وفي هذه المسألة أيضاً بعض المفاسد منها :أ- أن عملية التجهيز والترحيل للميت تتطلب عدة أيام للبقاء في ثلاجة الموتى وذلك لإستكمال الإجراءات القانونيه المتعلقة بذلك وفي هذا مخالفة لأمر النبي صل الله عليه وسلم بالتعجيل بالدفن . ج - أن قانون نقل الميت إلى بلده لابد أن تكون فيه المعاملة الربوية وهى ما تسمى اليوم (بالتأمين) علما ً بأن هذا النوع من التأمين ليس إجباريا. فأي من الحالتين أفضل وأقل ضررا ً . وكذلك ونأمل من فضيلتكم توجيه النصح والإرشاد وذلك لمن يقيم في بلاد الكفر ولديه الاستطاعة في الهجرة إلي بلاد الإسلام فيُعرض نفسه وأسرته للمخاطر التي طمت وعمت ولاتخفى على أحد .
وجزاكم الله خيراً ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا حكم الهجرة من بلاد الكفار في الفتوى رقم: 8614، ورقم: 2007. وبينا في الفتوى رقم: 4003، جواز نقل الميت إلى بلد آخر لمصلحة، ولا يضر تأخير دفنه لأجل تلك المصلحة بشرط ألا يحصل خلال ذلك تمزق أعضاء الميت ونحو ذلك، وقد توفر اليوم من وسائل الحفظ ما يمنع ذلك وعليه فالمفاسد المترتبة على دفن المسلم في بلاد الكفار أعظم من نقله إلى بلد إسلامي في الصورة المسؤول عنها لأن دفن المسلم في مقابر الكفار محرم بالاتفاق، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في المجموع: اتفق أصحابنا ـ الشافعية ـ رحمهم الله على أنه لا يدفن مسلم في مقبرة كفار ولا كفار في مقبرة مسلمين. وبقية المذاهب كمذهبهم، وأما النقل مع حفظ الميت فالأكثر على جوازه، قال الحافظ في الفتح: واختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد، فقيل يكره لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته، وقيل يستحب والأولى تنزيل ذلك على حالتين، فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح كالدفن في البقاع الفاضلة وتختلف الكراهة في ذلك، فقد تبلغ التحريم والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل كما نص الشافعي على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة كمكة وغيرها. ولمالك في الموطأ: أنه سمع غير واحد يقول إن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ماتا بالعقيق فحملا إلى المدينة ودفنا بها. قال الشوكاني رحمه الله: قوله فحملا إلى المدينة، فيه جواز نقل الميت من الموطن الذي مات فيه إلى موطن آخر يدفن فيه، والأصل الجواز فلا يمنع من ذلك إلا لدليل. وفي حالة المسلم في مقبرة الكفار فإنه ينقل منها إلى مقبرة المسلمين الخاصة بهم، والدفن في التابوت مكروه، قال الخطيب الشربيني: ويكره دفنه في تابوت بالإجماع لأنه بدعة ( إلا في أرض ندية... أو رخوة). وهي ... ضد الشديدة فلا يكره للمصلحة ولا تنفذ وصيته به إلا في هذه الحالة. وفيه تعريض لإهانة المسلم بنبش قبره عند عدم تسديد ثمن القبر وعليه فلا مانع من نقله. والله أعلم.
==============
تفنيد بعض الفتاوى الصادرة عن برنامج( صناع الحياة)
رقم الفتوى:55432تاريخ الفتوى:21 رمضان 1425السؤال :(3/25)
منذ فترة وأنا أتابع برنامج الأستاذ عمرو خالد يسمي ب\"صناع الحياه\" . الفكرة الأساسية لهذا البرنامج هو دعوة الشباب خاصة إلى التفكير بمستقبل الأمة والتحرك بإيجابية نحو التغيير للأفضل من خلال استغلال الطاقات والمشاركة الفعالة في المجتمع. ولكننا فوجئنا بتحول من الأستاذ عمرو (الذي كان يصر دائماً أنه ليس أهلاً للفتوى) في إحدى الحلقات التي أسماها \"ظلم المرأة\" و أدرج في هذه الحلقة ما يرى من وجهة نظره أنه ظلم للمرأة و أدرج تحتها : الختان ، التعدد بدون سبب ، لزوم السفر بمحرم ، و عدم مشاركتها في الحياة السياسيه. وكان من رأيه أنه يجب على صاحب العمل أن يرجح المرأة على الرجل إذا تقدم الإثنان لشغل وظيفه معينة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون قال حديث ( النساء ناقصات عقل و دين...) على سبيل الدعابة!!!!. وفي حلقة أخرى تسمي الثقافه والفن أطلق الفتوي بأن الموسيقى (المعازف) حلال ويجب أن نستغلها في الدعوة إلى الله وقدم للجمهور مطربا جديدا الذي فيما بعد أقام عدة حفلات وأقبل عليها الشباب بشكل كبير ظناً منهم أنه من المساهمة في نهضة الدين. وفي حديث له في إحدى المجلات المحلية انتقد الفنانات المعتزلات لتركهم الوسط الفني وناشدهم بالرجوع إلى عملهم وأن يساهموا في النهضة بأعمال هادفة بدلاً من أن يتركوا الوسط الفني للأعمال الهابطة!!!!!! يرجى الدخول إلى هذا الرابط لسماع المحاضرة كاملةhttp://www.amrkhaled.net/multimedia/multimedia495.html. وقد نتج عن ذلك أن منتدى عمرو خالد دوت نت أصبح يواجه فتنة رهيبة بين من يدافع عن الحق بالأدلة الشرعية و بين من يرى أن الأستاذ عمرو على حق دائماً ولا يلتفت إلى الأدلة الشرعية. بفضل الله قام الكثير من الإخوة بالرد على بعض الشبهات السابقة و لكننا نريد من حضرتكم الإفادة فيما إذا كان متابعة هذه الحلقات فيها أي مخالفة شرعية؟ و ما إذا كان الأستاذ عمرو معه أي دليل على ما عرضه علينا ولو بحجة النهضة أو فقه الأولويات كما يسميه..و بماذا تنصح من يسلم بكل ما يقوله الأستاذ عمرو دون تمييز. ونسألكم سرعة الإجابه لأهمية الأمر
وجزاكم الله خيراً .
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(3/26)
فقد أجمع العلماء على تحريم سفر المرأة بلا محرم، وإن اختلفوا بعذ ذلك في بعض المسائل كسفرها للحج والعمرة والهجرة من دار الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. رواه مسلم. وأصله في الصحيحين، وانظر الفتوى رقم: 6693. وعلى ذلك، فإن من ادعى أن اشتراط المحرم لسفر المرأة ظلم لها، فقد رد حكم الله، وقد يصل ذلك بصاحبه إلى الكفر بالله العظيم، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ {الأحزاب: 36}. وقال أيضاً: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً {النساء:65}. وكذلك الزعم بأن ختان المرأة فيه ظلم لها ـ جهل بالشريعة، لأن نبينا صلى لله عليه وسلم قد شرعه لنا، فقد قال للمرأة التي كانت تختن الإناث: إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي. رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة. وانظر الفتاوى ذات الأرقام التالية: 4487، 17741 ، 31783. والشأن في المسلم أن ينقاد ويستسلم لأمر الله، قال سبحانه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون َ{النور:51}. بينما بين سبحانه وتعالى أن من صفات المنافقين أنهم: َإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ {النور:48}. هذا، وإن الذي يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن النساء إنهن : ناقصات عقل ودين. على سبيل الدعابة ولم يرد إثبات النقص حقيقة ـ فقد افترى على رسول الله الكذب، لأن نبينا صلى الله عليه وسلم قد بين نقصان عقلها ودينها في الحديث، وانظر الفتاوى: 7520 ، 15621 ، 33323 ، 16032. وكذلك الزعم بأن تعدد الزوجات بدون سبب فيه ظلم للمرأة رد لحكم الله تعالى، وذلك لأن الله أباح للرجال أن ينكحوا ماطاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع، والذي يقيد حكم الله، ويجعل الإباحة لأسباب فقد رد حكم الله، وأتى بحكم يوافق هواه،: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ {القصص: 50}. وانظر الفتاوى: 310 ، 1660 ، 2286 ، 3002 ، 10298.هذا، ولا ندري لماذا يحرص البعض على أن تتولى النساء شؤونهم وأن يدبرن أمورهم !! وانظر حكم تولي المرأة الولايات العامة في الفتوى رقم: 3935. ولمعرفة ضوابط عمل المرأة انظر الفتاوى: 7550 ، 522 ، 648 ، 1665. ولبيان حكم الإسلام في المعازف، انظر الفتويين: 987 ، 5555.هذا، وإن من علامات الساعة أن يتصدر من لم يتأهل، وأن يلتمس العلم عند الأصاغر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً ـ اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا. رواه البخاري ومسلم. وعلى المستفتي أن لا يأخذ دينه إلا ممن يوثق بعلمه وأمانته واتباعه للحق، فقد قال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. وأما أخذ الفتوى من الجاهل الذي يفتي بغير علم، فهو سبب للضلال، وافتراء على الله، وإن الفتيا بغير علم من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب، ولقد جعل الله ذلك قرين الشرك به، فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {لأعراف:33}. وقال سبحانه أيضاً: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ {النحل:116}. وانظر الفتوى رقم: 14585. فإن فيها مزيد بيان. هذا، وإن خطر الفتوى بغير علم لا يقتصر على صاحبه، بل ربما يتعداه إلى باقي المجتمع فيفسده ويضله عن دين الله تعالى، وهنا يكون الخطر الأعظم والإثم الأكبر، لأن المعصية المتعدية أعظم من المعصية القاصرة، وإن من أفتى بغير علم، فإن كل ما يترتب على فتواه من مخالفة الشرع، فإنه يتحمل وزرها، لقوله صلى الله عليه وسلم: من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه. رواه أبو داود والحاكم، وحسنه الألباني. ولقد كان سلفنا الصالح رضي الله تعالى عنهم يتحرجون من الفتوى ويتدافعونها ـ مع كثرة علمهم وحرصهم على إفادة الناس وإيصال النفع لهم ـ ولكن لخطورة شأن الفتوى كان بعضهم يحيلها إلى بعض، وربما عادت إلى الأول. وإن ما صدر منهم من فتاوى، كان الحامل عليهم هو خوفهم من كتمان العلم الذي حذر منه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
==============(3/27)
الصلاة على السقط ودفنه
رقم الفتوى:57141تاريخ الفتوى:09 ذو القعدة 1425السؤال :
أنا مسلم مقيم في فرنسا وقد حملت زوحتي وفي الأسبوع التاسع عشر وثلاثة أيام أجهضت ومات الجنين، هل يجوز الصلاة عليه ودفنه، في فرنسا القانون لا يسمح بذلك إلا إذا تجاوز الجنين اثنين وعشرين أسبوعاً أو خمسمائة جرام وزنا، ولهذا لم يسلم لي لدفنه فذهبت إلى المستشفى لرؤيته وصليت عليه أنا وحدي وتركته لهم لحرقه كما قالوا لي لأني لا أستطيع فعل أكثر من هذا، هل ما فعلت جائز؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا خلاف بين أهل العلم في أن السقط إذا استبان بعض خلقه يجب أن يوضع في خرقة ويدفن، ولك أن تراجع في هذا فتوانا رقم: 26940.
وأما الصلاة عليه، فقد اختلف فيها، فقال جمهور أهل العلم بأنها لا تجب إلا إذا استهل صارخاً، وقال أحمد بوجوبها إذا مضى له أربعة أشهر، وهذا القول الأخير هو الذي نراه أصوب، ولك أن تراجع في هذا الموضوع فتوانا رقم: 7135.
واعلم -أيها الأخ الكريم- أن المسلم لا يجوز أن يقيم في بلد لا يتمكن فيه من ممارسة واجبات دينه وشعائره.
وعليه، فنقول لك إنك معذور في عدم دفنك لولدك لما ذكرته من قانون البلد الذي أنت مقيم به، فإنه: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا {البقرة:286}، ولكن واجبك من الآن هو أن تبادر إلى الهجرة إلى حيث يمكنك أن تمارس دينك على الوجه الكامل.
والله أعلم.
===============
من خشي الفتنة على نفسه في ديار الكفر وجب عليه الخروج
رقم الفتوى:57842تاريخ الفتوى:27 ذو القعدة 1425السؤال:
أنا مسلم أعيش في الغرب فقد أكملت دراستي وأصبح لي أكثر من عامين وإني أشتغل هنا, إني متزوج وأب لابنتين الحمد لله مشكلتي أنني قررت قبل شهرين أن آخذ عائلتي إلى الجزائر خوفا عليهم من هذه البيئة ولي مصاعب مادية أيضا. رجعت إلى الغربة لكي أدخر مبلغاً من المال وأرجع به إلى الجزائر لأفتح به مكتبا في تخصصي. لقد وجدت نفسي مفتوحا للفتن وما أكثرها في هذا البلد و أريد الرجوع إلى بلدي وأهلي رغم أنني لم أحصل المبلغ الكافي. أنا أخشى حقا على ديني في هذه الديار ولكني أعلم أنني سأجد مشقة في تحصيل وظيفة في بلدي. هل أكون آثما إذا رجعت إلى بلدي وعلامة نقص في صبري وإيماني أم أصبر على هذا الوضع حتى أجد منصب شغل في بلدي أو بلد مسلم آخر أو أجمع المبلغ الكافي للرجوع إلى بلدي. عفوا على الاطالة و جزاكم الله خيراً على مجهودكم. في أمان الله.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الإقامة في مثل تلك البلاد لا تجوز لمن خشي الفتنة في دينه. وعليه؛ فإذا كانت ظروف بلدك لا تناسب الآن، أو أنك ستجد مشقة فابحث عن بلد آخر تقيم فيه، وتطمئن على دينك وتربية أولادك ريثما تتناسب ظروفك للإقامة في بلدك.
وهذه الهجرة بالدين إذا فعلتها نجوت بنفسك وأهلك، وكانت دليلاً على صبرك وإيمانك، وأما البقاء في بلاد يتم فيها تعريض النفس والأهل للفتن فهذا هو الدليل الواضح على نقص الإيمان وقلة الصبر.
والله أعلم.
=================
ضوابط لمشروعية هجر أهل المعاصي
رقم الفتوى:58252تاريخ الفتوى:11 ذو الحجة 1425السؤال:
زوجة أخي ارتدت عن الإسلام ودخلت فى الديانة المسيحية على حد قولها لي، وقد حاولت كثيراً الاستعانة بالله أولاً ثم ببعض علماء الدين فى محاولة لإثنائها عن ذلك ولكن باءت كل المحاولات بالفشل، وبناءً عليه طلبت من أخي أن يطلقها، ولكنه أبى ذلك وتحجج بالأولاد وأن بينهما أملاكاً مشتركة، فقررت مقاطعة أخي تماماً ولمدة حوالي العام، بعدها صالحته إرضاءً لوالدي وضغوط الأهل وبعد أن حلف أخى لي وأقسم أنها عادت للإسلام، ولكني أشاهدها بملابسها الخليعة وسفورها مما يجعلني أشك فى إسلامها لأنني كنت أتوقع الندم الشديد والعودة إلى الله وارتداء الحجاب، ولكن أي شيء من هذا لم يحدث، أرجو أن تفتوني فى أمري هل أعود لمقاطعة أخي مرة أخرى أم يبقى الوضع على ماهو عليه؟ جزاكم الله كل خير.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن رابطة الأخوة الإيمانية التي تربط المسلم بالمسلم تمنع من هجر المسلم لأخيه المسلم فوق ثلاث ليال إلا لعذر شرعي، فقد قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ {الحجرات:10}، وهذه بعض النصوص الزاجرة والمحذرة من الهجر والقطيعة للمسلم، والقريب المسلم من باب أولى:
1- عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. رواه البخاري ومسلم.
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرءا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا. رواه مسلم.(3/28)
3- وعن أبي خراش رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه. رواه أبو داود وصحح إسناده النووي والأرناؤوط وقال الألباني صحيح.
هجران الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة حتى صحت توبتهم عند الله، فأعلمه فعاد إليهم. عارضة الأحوذي 8/91.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب ما يجوز من الهجران لمن عصى. وقال كعب حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا وذكر خمسين ليلة.
وقال الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري: أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز لأن عموم النهي مخصوص لمن لم يكن لهجره سبب مشروع، فبين هنا السبب المسوغ للهجر وهو لمن صدرت منه معصية، فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها.
وعليه، فلا بأس بهجر أخيك ومقاطعته حتى يرتدع عن الإمساك بعصمة الكافرة المرتدة، والله تعالى يقول: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ {الممتحنة:10}، لكن بشرطين:
الأول: كون هذا الهجر لحق الله وليس لحظ النفس وهواها.
الثاني: التأكد من كون زوجة أخيك لم تتب من ردتها، وبقائها على كفرها، مع مراعاة ضوابط الهجر التي سبق بيانها في الفتوى رقم: 18120.
وننبه هنا الأخ المتزوج من هذه المرأة إلى أن الزوجة إذا ارتدت عن الإسلام فلا يجوز له وطؤها، فإذا انقضت العدة قبل رجوعها إلى الإسلام فقد انفسخ عقد النكاح ولا بد من عقد جديد، أما إذا رجعت إلى الإسلام في العدة فلا ينفسخ النكاح، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الأم: وإذا ارتدا أو حدهما منعا الوطء، فإن انقضت العدة قبل اجتماع إسلامهما انفسخ النكاح، ولها مهر مثلها إن أصابها في الردة، فإن اجتمع إسلامهما قبل انقضاء المدة فهما على النكاح. انتهى.
والله أعلم.
================
من مفاسد الإقامة في ديار الكفر
رقم الفتوى:58361تاريخ الفتوى:28 ذو الحجة 1425السؤال:
أسأل الله أن يبارك فيكم و يجعل أعمالكم خالصة لوجه الله تعالى وأن يضعها في ميزان حسناتكم... أما بعد:
إنني فتاة أبلغ الثامنة عشرة من عمري، أقيم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنتين ونصف تقريبا مع والدي واثنين من إخوتي، كان السبب لقدومي إلى هنا لرؤية والدي الذي لم نره لمدة أربع سنوات والحمد لله الذي يسر لنا السبل للقدوم، كنت في السادسة عشر من عمري وكان يجب علي أن أكمل تعليمي لأن هذا ما اعتاد عليه العصر، لم أكن أعلم عن طريقة العيش هنا ولا كيفية تفكيرهم جيدا لكنني كثيرا ما سمعت عن السلبيات التي تحدث في هذا المجتمع بسبب فساد أخلاقهم وتفكيرهم، كنت ملتزمة بالحجاب الشرعي بفضل الله قبل قدومي إلى هنا لكنني بعد أن أتيت طلب مني والدي خلع الجلباب عند الذهاب للمدرسة وخلع المنديل... لكنني لم أوافق إلا على عدم الالتزام بالجلباب لأنه لم يتوفر لدي إلا اثنان وكان من الصعب الالتزام به لأنني كنت أحتاج لكل يوم إلى تغييره وكنت أجد صعوبة في الحركة عند ارتدائه... فما كان لي إلا أن وافقت على ارتداء لباس القميص مع بنطال من قماش \"لكنه للأسف لم يكن يطابق صفات اللباس الشرعي\" المهم بعد أن دخلت عالم المدرسة الذي يشيع بالفواحش والإثم والعصيان بدأت قصتي التي بسببها جعلت نظرتي للعيش هنا مستحيلا أو شيئا من الصعب أن أقبله أو أستمر به.(3/29)
في البداية, كنت بفضل الله محافظة على قراءة الأذكار مثل الصباحية والمسائية وغيره من الأمور التي كنت أحافظ عليها وأنا في بلدي، وكنت أيضا أحافظ على إشغال نفسي بقراءة القرآن في المدرسة حتى لا أطلع على ما يفعلون ولا أنشغل بهم بوقت الفراغ الذي يكون بآخر الحصة أو عند تغيب أحد المدرسين، كنت الوحيدة التي ترتدي الحجاب في المدرسة والتي تظهر شعائرها الدينية كمسلمة، حاولت احتمال ما كنت أرى وأواجه من أمور تخل بالشرف والأخلاق ولا يرضي بها عاقل مثل الاختلاط وغيره من الأمور التي كان من الصعب أن تغض بصرك عنها أو تجنبها حتى، لقد بينت لوالداي بأنني لا أحتمل البقاء هنا لما أراه في المدرسة لكنهما لم يأخذا ذلك بعين الاعتبار مما أدى إلى الرضا بما أنا عليه والتهاون بما أراه، بعد فترة من الزمن بدأ إيماني يضعف قليلا قليلا وبدأت أتأثر بهم والميل إلى قبول ما يفعلون، والمصيبة الكبرى هي التحدث إلى الجنس الآخر والشعور بالراحة والانشراح للتحدث إليهم كأن الأمر طبيعيا ولا يوجد أي شيء في ذلك، وبعدها أصبحت أتحدث إلى طالب نصراني مما أدى إلى حدوث علاقة بيني وبين ذلك الطالب والتحدث إليه عن طريق الهاتف والخروج معه من دون علم الأهل وأحمد الله أنه أبقاني لهذه اللحظة حتى أكفر عما فعلت وفتح باب التوبة لي قبل أن ينتهي أجلي وأنني ما زلت عذراء، إنني الآن انتهيت من الدراسة في تلك المدرسة التي كانت أسوأ مدرسة في الحي وعلمت ذلك بعد أن انتهى كل شيء ووقعت فيما لا يرضي الله عز وجل، ولقد مررت أيضا باختبار صعب خلال دراستي فيها؛ لقد حاول المدرسون والطالبات والمشرفون أن انضم إلى ديانتهم إلى أن أصبحت أفكر بتغيير ديانتي واعتناق الديانة الكاثوليكية، لكن الحمد لله الذي ثبتني على دين الحق وأسأله الثبات حتى الممات.
شيخنا الفاضل.. إنني الآن بفضل الله عدت إلى رشدي واستقمت وأحاول قدر المستطاع الالتزام بما أمر الله به وبما أوصاني به الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنني الآن أواجه ضغوطات من قبل الوالدين لأنني على هذا القدر من التدين بحيث لا أخرج معهم إلى الأسواق المختلطة إلا إذا اضطررت إلى ذلك بشكل كبير وعدم الجلوس معهم عندما يأتي ابن عمتي لزيارتنا ويربطون رفضي لعدم تلبية رغبتهم لمثل هذه معصية وعدم احترام والتقليل من شأنهم وهو عكس ذلك تماما، إنني أريد أن أعيد الحياء الذي فقدته بسبب وجودي في تلك المدرسة والابتعاد عن مكان الشبهات وتطبيق ما أمرني به الله والرسول عليه الصلاة والسلام، إنني في الحقيقة كرهت الإقامة هنا وأكره الارتباط بأي شخص يريد الإقامة هنا لأنني أريد أن أنسى ما حصل لي ولا أريد تربية أولادي هنا أيضا، لا يوجد لدي صديقات لتعينني على طاعة الله ورسوله وأواجه الكثير من الفتن في البيت وأحاول تجنبها مثل سماع الأغاني ومشاهدة التلفاز والاختلاط وغيره من الأمور التي لا ترضي الله عز وجل, وأيضا لتربية أخي الصغير الذي يمشي في طريق الانحراف قليلا قليلا على تعاليم الدين الإسلامي وغرس الإيمان في قلبه وهو يبلغ من العمر تسع سنوات، إن أهلي طيبون ويخافون علينا من أمور الدنيا لكنهم لا يدركون كثيرا الواقع الذي سيكون بعد الموت أو عند الوقوف بين يدي الله عز وجل عما نفعل ولم يغرسوا فينا كثيرا من الأمور التي ينبغي أن يغرسوها منذ الصغر كالصلاة، إنني أخشى على نفسي من الفتن والانحراف وأحاول إقناعهم بالنزول إلى البلد العربي الذي يتواجد فيه بقية إخوتي غير المتزوجين هناك ولدي عم وخالة ليس لديهم أي اعتراض على الاهتمام بي والحرص علي وبالطبع لن يصلوا إلى الحد الذي يكون من قبل والداي حفظهما الله من الرعاية والحرص على ما ينفعني، وأمي تخاف ويصعب عليها أن أكون بعيدة عنها لأنني الوحيدة لها، أقدر لها ذلك لكنني في الحقيقة أخشى على نفسي وأواجه الصعويات الكثيرة في هذه البلاد التي تضعف همتي وإيماني أحيانا، فهل إذا رجعت إلى هناك بهدف الحفاظ على ديني والحفاظ على صحتي لأنني لا أستطيع الكشف على صحتي هنا لأنها مكلفة وأبي غير قادر على تحملها وأعذره على ذلك ولا ألومه -أسأل الله أن يبارك فيه وأن يوفقه لما يحب ويرضى- وأيضا لتربية أخي التربية الصحيحة البعيدة عن مواطن الفتن والفواحش من غير الحصول على موافقتهما بعد محاولتي بإقناعهما لكن من غير جدوى أكون آثمة أم لا، والرجاء نصحي بهذا الشأن.
أعتذر كثيرا على الإطالة لكنني فضلت وضع التفاصيل حتى تكون على بينة من الأمر ويكون واضحا وأسأل الله أن يكون شرحي لمسألتي قد أعانك للحكم على ما سألتك عنه يا شيخنا الفاضل وجزاك الله خير الجزاء وأحسن إليك.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله لك الثبات والتوفيق والهداية ونوصيك بالتوبة الصادقة، ونقول لك إن الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام عند عجز المسلم عن إقامة شعائر دينه أو الخوف من الوقوع في المعاصي والذنوب بسبب الفساد المنتشر واجب وعليه فيجب أن تهاجر المرأة ولو لم يأذن لها أبوها ولا زوجها وتذهب ولو وحدها كما نص على ذلك العلماء.(3/30)
ونصيحتنا لوالدك أن يتقي الله تعالى، فإن الحياة لا تدوم وهي دار ممر، لا مقر لأحد فيها، فكيف لا يهتم بدين بنته وهي تعرض عليه ما تجد من الفتن والبلايا ، ويكفي لمعرفة الحال مطالعة السؤال، فقد حمل في طياته عظة وعبرة لمن كان يعقل، والله المستعان، وننصح بمطالعة الفتوى رقم: 5045، والفتوى رقم: 12829.
والله أعلم.
================
تأخير الهجرة من دار الكفر لتجديد الإقامة
رقم الفتوى:62584تاريخ الفتوى:20 ربيع الثاني 1426السؤال:
لمن يخاف على دينه, وكلنا يعرف قدر الفتن والمغريات التي يتعرض لها المسلم في تلك البلاد، لذلك فقد عزم على الرجوع إلى بلده العربي، لكنه لا يدري هل يجوز له البقاء في تلك البلاد لمدة لا تتجاوز أربعة أشهر التي هي موعد تجديد أوراق الإقامة في تلك البلاد وذلك بغية الاستفادة من امتيازاتها، مثلا لشراء سلع وبيعها في بلده العربي, أو في حالة مرض أحد الآباء يذهب به للعلاج في تلك البلاد، مع العلم بأن تلك المدة -أربعة أشهر- ستمكنه من جمع أمواله التي معظمها عند أصدقاء استلفوها منه؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام عند عجز المسلم عن إقامة شعائر دينه، أو الخوف من الوقوع في المعاصي والذنوب بسبب الفساد المنتشر واجبة.
وعلى المسلم الذي أراد التوبة من إقامته في البلاد الفاسدة أن يبادر إلى ذلك، ما دام لا يستطيع إقامة شعائر دينه من صلاة ونحوها . أما إذا كان يستطيع أن يؤدي شعائر دينه من صلاة وأن يجتنب المحرمات، فلا يجب عليه الخروج من تلك البلاد مع أنه هو الأولى، وليحرص على كل حال على أداء الفرائض، وليغض من بصره، وليحفظ فرجه، ويكف أذاه، وليبتعد عن سائر المحرمات، ولا ينجرف في تيارات المدنية ومغريات الحياة، وسفور النساء، وابتذال الأخلاق، فإنها حبائل الشيطان يصطاد بها أولياءه، ونسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.
والله أعلم.
=================
هجرة من لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه
رقم الفتوى:63482تاريخ الفتوى:09 جمادي الأولى 1426السؤال:
المعذره لا أجيد كتابة العربية أنا شاب مغربي مقيم ببلجيكا أريد الزواج لكن الظروف غير مواتية الفتاة تريد أقصى مدة خطوبة ممكنة لا زلت أتابع الدراسة متبق لي عامان، لكني أعمل في نفس الوقت وأربح ما يكفي لأعيش والسلطات البلجيكية تعين العاطلين عن العمل بنسبة للزوج، كما ورد في إحدى فتاواكم أن الإقامة في بلاد غير مسلمة محرمة، فهل من حل آخر سوى الزواج والبقاء هنا أم علي العودة إلى بلادي، علما بأن هنا مساجد كثيرة وعددا مهما من المسلمين وأن فرص العمل في المغرب شبه منعدمة، ما سيدفع بي إلى ترك فكرة الزواج وربما الانحراف عن الطريق المستقيم؟ وشكراً.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يهديك ويقيك من الانحراف عن الطريق المستقيم، وييسر لك من الظروف ما تتمكن معه من الالتزام بكافة أمور دينك، وقد بينا من قبل حكم الهجرة إلى بلاد الكفر في فتاوى سابقة، وقلنا فيها إن من لم يستطع القيام بشعائر دينه في بلاد الكفر فسفره إليها حرام، وإلا فمكروه، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 2007.
وعليه فإذا كنت مطمئناً على إقامة شعائر دينك، والنجاة من الفتن، فلا مانع من بقائك في تلك البلاد حتى تنهي دراستك وتتيسر لك ظروف عمل تعود بها إلى بلدك، ولا شك أن الزواج أولى لك من عدمه، خاصة أنك ذكرت أنك تربح ما يكفي لعيشك، وأن السلطات البلجيكية تعين العاطلين عن العمل.
والله أعلم.
==============
واجب من لا يستطيع إقامة شعائر دينه في بلده
رقم الفتوى:63926تاريخ الفتوى:19 جمادي الأولى 1426السؤال:
في بلدنا الذي يهتم بدينه ويحاول التفقه فيه والذي يكون مواظبا على صلاة الجماعة يكون مآله السجن والتعذيب فماذا نفعل؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن كان لا يستطيع إقامة دينه ولا إظهاره في بلد وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر يمكن له أن يمارس فيه شعائر دينه بأمان، هذا إن كان يستطيع الهجرة، كما أوضحنا في الفتوى رقم: 17898، والفتوى رقم: 8614.
فإن كان لا يستطيع الهجرة أو كان قادراً ولا يجد جهة يهاجر إليها، فالواجب عليه أن يصبر على دينه بحيث يؤدي الصلاة في وقتها مع التفقه في أمر دينه، ولو أدى ذلك خفية إن خشي ضرراً، وهنالك أمور هي من الدين ومن مظاهره إلا أنه إن كان يترتب على إظهارها ضرر كبير مثل السجن أو الضرب، فإنه يجوز حينئذ التخلي عنها ارتكاباً لأخف الضررين، ومن هذه الأمور اللحى والمواظبة على الصلاة في المسجد مثلاً إن ترتب على ذلك مثل ما ذكرنا، ولمزيد الفائدة طالع الفتوى رقم: 3198، 37674.
ونذكر السائل الكريم بما في سنن الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يأتي على الناس زمان القابض فيهم على دينه كالقابض على الجمر.(3/31)
قال الألباني: صحيح، قال في تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي: قال الطيبي: معناه كما لا يقدر القابض على الجمر أن يصبر لإحراق يده كذلك المتدين يومئذ لا يقدر على ثباته على دينه لغلبة العصاة والمعاصي وانتشار الفسق وضعف الإيمان. قال: وقال القارئ: الظاهر أن معنى الحديث كما لا يمكن القبض على الجمرة إلا بصبر شديد وتحمل غلبة المشقة كذلك في ذلك الزمان لا يتصور حفظ دينه ونور إيمانه إلا بصبر عظيم. انتهى
والله أعلم.
=============
الابتلاء من سنن الله في خلقه
رقم الفتوى:64120تاريخ الفتوى:26 جمادي الأولى 1426السؤال :
أرجو المساعدة من أصحاب الشهامة، أكتب إليكم قصتي لعلي أجد من يساعدني بينكم.. أنا اسمي جوني من مواليد 1976.. الجنسيه عراقي من بغداد مسيحي أتكلم اللغه المسيحية الكلدانيه بتاريخ 22- 6- 1997 من يوم الأحد الساعة 10 مساء قبل صلاة العشاء بالضبط جدا أعلنت إسلامي على يد الشيخ بكر السامرائي في الحضرة القادرية، وقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما... بدأت معاناتي مع الأهل حين عرفوا بإسلامي وعرفو عشيرتي ثم أصدقائي وبدأوا يهددوني بالقتل ويهددوني بإيذائي وحاولو ايذائي ثم بدأوا بي حين أثبت بأني مسلم عذبوني جسديا ونفسيا عذبوني حتى أجريت 4 عمليات جراحية الأولى قرحة في المعدة كان طعامي فطورا وغداء وعشاء كل الأطعمة الحارة ثم أجريت عملية الزائدة الدودية ثم أجريت عملية البواسير مع خراج وبعدها مرت الأيام وقلت لهم بأني لست مسلما وتركت الإسلام.... لكن بقيت في قلبي والحمد لله أخرج إلى مكان بعيد جداً لأصلي وأخرج إلى الصلاة...... لذا حاولت الكنيسه إيذائي وحاول أصدقائي قتلي لولا تدخل أحد المسلمين بجانبي........ والكل الآن لا أحد يحبني والكل يكرهني لا أحد يحبني ولا أحد يمشي معي... لذا أرجو المساعدة منكم أريد أن أكون مسلما حرا في الصلاة أذهب إلى الجامع دون خوف أو مراقبه من الأهل والأصدقاء أو العشيرة أريد أن أكون مسلما حرا حالي حال أي مسلم يذهب إلى الجامع أو يذهب لقراءة القرآن الكريم دون خوف أو مراقبه أتمنى أن أحج إنها أمنيه حياتي وقلبي وعقلي لذا أرجو منكم المساعدة لإيجاد عمل لي، أي عمل أعيش وأصبح حرا مسلما ، إني أناشدكم بالله ورسوله قال الله في كتابه الكريم... بسم الله الرحمن الرحمن فمن يعمل مثقال ذره خيرا يره صدق الله العظيم......... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.... من ستر مسلم ستره الله في الدنيا والآخره، لذا أرجو منكم المساعدة يا أمة الإسلام
أنا لا أريد منكم المال ولا أريد منكم بيتا أو امرأة كل ما أريد هو العيش مسلما حرا وإيجاد عمل شريف لي، ..... وهذا الإيميل أرجو إرسال الجواب
أرجو الرد لأني متلهف جداً والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين.
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبك بعد إذ هداك ويهب لك من لدنه رحمة ويهيئ لك من أمرك رشداً، كما نسأله سبحانه أن يفرغ عليك صبراً وليثبتك في وجه تلك الفتن والمحن إنه سميع مجيب، ولك في بلال وصهيب وخبيب أسوة حسنة؛ بل في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه فقد أوذوا في سبيل الله بكل أنواع الإذاية والإهانة بالضرب والشتم والسب والكراهة والمقاطعة، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، لقد كان بلال يوضع في بطحاء مكة وعلى ظهره وبطنه الحجارة الحارة فيقول: أحد أحد، وقتل خبيب ومزق إربا إربا فما ثناه ذلك عن إيمانه بل قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
وتلك سنة من سنن الله أن يبتلي عباده المؤمنين حتى يتبين من بكى ممن تباكى، ومن هو صادق في إيمانه ولو كلفه ذلك بذل مهجته، قال الله تعالى: ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:1-2-3}، وأخرج البخاري في صحيحه من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا، قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه.(3/32)
فننصحك بالصبر على ما أنت فيه، واعلم أنك مأجور فما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم حتى الشوكه يشاكها يكفر الله بها من سيئاته، كما في الحديث عند مسلم وغيره، واعلم أن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا، فتمسك بإيمانك واثبت عليه ثبوت الجبال الراسيات، وإن أمكنك الهجرة عن القرية التي أنت فيها إلى غيرها فهو أولى لك، ولن يضيعك الله، فقد قال: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {النساء:100}، وإن كنت لا تستطيع إقامة شعائر دينك في ذلك المكان فيجب عليك مغادرته والهجرة عنه إلى حيث تستطيع إقامة شعائر دينك بحرية تامة، وذلك لقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا {النساء:97}.
وأما والداك إن جاهداك على أن تكفر بالله وتشرك به ما ليس لك به علم فلا تطعهما، كما قال الله تعالى: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {لقمان:15}، وقد رخص الله سبحانه وتعالى لمن أكره أن يقول كلمة الكفر إذا لم يعتقد ذلك وكان قلبه مطمئنا بالإيمان؛ كما في قوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ {النحل:106}، ولكن حيث أمكنه ترك الكفار والهجرة عنهم فلا عذر له، قال البغوي: والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية وعدم إمكان الفرار وهي رخصة، فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم.
ولا ينبغي للمسلم أن يجعل فتنة الناس كعذاب الله، فيستسلم لذلك ويترك إيمانه لكره الناس أو إذايتهم له، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ {العنكبوت:10}، فعليك بالصبر والدعاء وراجع الفتوى رقم: 32179.
وأما العمل فنسأل الله تعالى أن ييسره لك ، ونعتذر إليك لأن ذلك ليس من اختصاصنا فجهد الشبكة ينصب على تبصير الناس بأمور دينهم وإجابة الأسئلة ذات الفتاوى الشرعية والاستشارات الطبية والنفسية ونحو ذلك من الأمور الدعوية والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم.
=================
الإكراه المعتبر في جواز النطق بالكفر
رقم الفتوى:64166تاريخ الفتوى:25 جمادي الأولى 1426السؤال :
جزاكم الله خيراً، نحن جماعة نقول إن الإنسان إذا تعرضت أمواله وعرضه للهلاك أنه يجوز له أن ينطق بكلمة الكفر هل هذا كفر أم لا، هل هذا من الإكراه المعتبر شرعا، لأن هناك أقوالا للعلماء كابن حزم في المحلى، والمغني كتاب الطلاق والشاطبي في الموافقات.. ألخ، جزاكم الله خيراً نريد أن نقنع الفريق الآخر؟
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن مذهب الجمهور عدم اعتبار حفظ المال إكراهاً مبررا للوقوع في الكفر، قال الجصاص عند تفسير الآية الأولى من سورة الممتحنة: وفي هذه الآية دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر، وأنه لا يكون بمنزلة الخوف على نفسه لأن الله نهى المؤمنين عن مثل ما فعل حاطب مع خوفه على أهله وماله.. إلى أن قال: ويدل على أن الخوف على المال لا يبيح التقية أن الله فرض الهجرة على المؤمنين ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأهلهم فقال: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. وقال: قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا. انتهى.
وقال خليل بن إسحاق في مختصره في الفقه المالكي: وأما الكفر وسبه عليه السلام وقذف المسلم فإنما يجوز للقتل.
وقال المواق في شرحه ناقلا عن سحنون وغيره: إن أكره على كفر أو شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو قذف مسلم بقطع عضو أو ضرب يخاف منه تلف بعض أعضائه لا تلف نفسه لم يجز له ذلك؛ إنما يسعه ذلك لخوف القتل لا لغيره، وله أن يصبر حتى يقتل وهو أفضل.(3/33)
وما ذكره المواق وغيره من تفضيل الصبر على القتل والامتناع عن النطق يؤيده ما في قصة خبيب رضي الله عنه أنه صبر على القتل ولم يرضخ لقريش، وما في حديث البخاري عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا، فقال: كان يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه. وما يدل له ما في قصة سحرة فرعون أنهم لم يرضخوا للتهديدات التي هددهم بها بعد إسلامهم.
هذا، ويتعين على المضطر دائماً أن يحرص على التورية في النطق بكلمة الكفر، وللمزيد والاطلاع على مسألة تكفير المكره راجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 26496، 12633، 721.
والله أعلم.
================
تجب الهجرة من بلاد الكفر لمن خشي على انحراف أبنائه
رقم الفتوى:64452تاريخ الفتوى:02 جمادي الثانية 1426السؤال:
58361.
وأما إذا كنت تستطيع أن تقيم شعائر الإسلام من صلاة وغيرها وقادرا على اجتناب المحرمات فلا يجب عليك الخروج من تلك البلاد، وعليك حينئذ أن تحرص على التمسك بدينك، ولمعرفة وسائل الاستقامة على دين الله تعالى راجع الفتوى رقم: 1208 والفتوى رقم: 13135 مع العلم أن الأولى أن يعيش المسلم في بلاد المسلمين حفاظا على دينه ودين أهله.
وأما بخصوص البحث عن عمل في البلاد الإسلامية فيمكنك أن تستعين بمواقع التوظيف على شبكة الإنترنت فإنها قد تسهل لك ذلك، وكثير من الجهات تعلن على مواقعها عن الوظائف الشاغرة لديها.
نسأل الله تعالى أن يعينك على الاستقامة على دينه وعلى تربية أولادك تربية صالحة.
والله أعلم.
=============
للمؤمن أسوة حسنه في الأنبياء والصالحين في مواجهة الابتلاء
رقم الفتوى:64559تاريخ الفتوى:03 جمادي الثانية 1426السؤال :
اللهم لك الحمد بأن وجدت من أبوح له بسري ويوجهني فيما أعمل... وأرجو المعذرة لكثرة الأسئلة، ولكن لارتباط الموضوع ولتعقيده نوعا ما (لملازمته لي منذ الصغر)، أنا ابن لعائلة من غير السنة... ولكن ولله الحمد أنا سني، تقريبا منذ الصغر، والآن أنا أبلغ من العمر 28 سنة أهلي لا يعلمون عن ذلك وتقريبا لا أحد سوى الرحمن جل في علاه، ومدرس في الابتدائية ثم أنتم والله أعلم على كل حال، لديّ تقريبا ثلاث مشاكل بسبب هذا التوجه الصحيح...
1- أعلم أن الواجب علي نصح أهلي ودعوتهم إلى السنية ولكن أواجه صعوبة في ذلك الأمر، حيث إني منذ صغري وأنا مزعج أهلي بكثرة مشاكلي ووقوفهم بجانبي بشكل صحيح أو غير صحيح لجهل منهم في هذا المجال لأنها قد تكون مشاكل جديدة بالنسبة لهم، ولدي إحساس قوي بأني إذا أعلنت لهم عن حقيقة الأمر قد يصاب أبي وأمي بمشاكل صحية كبيرة إن لم تصل إلى السكتة القلبية والعياذ بالله، اللهم احفظهم وعافهم في الدنيا والآخرة ولمن يقرأ هذه المقال، أو يبتعد عني أهلي وربعي وجميع قبيلتي يتجنبني إن لم يصل الأمر إلى إيذائي أو قتلي (وأتوقع أن الأمر لن يصل إلى هذا بإذن الله)... مع أن أهلي وربعي هم أقرب الناس إلي والحياة بدونهم ستكون صعبة لأني تربيت وعشت معهم طول عمري (مع العلم بأن العائلات غير أهل السنة نوعا ما منعزلة بشكل كبير عن المجتمعات الأخرى لكي تكون التربية نوعا ما أقوى)، أرجو التوجيه.
2- من ناحية الزواج أهلي يريدون مني الزواج من بنت عمي ويضغطون علي في ذلك، وهي جميلة ومهذبة وتنتمي إلى نفس القبيلة، أي تفهم العادات والتقاليد والأساليب التي تربيت عليها منذ صغري... ولكني أخاف على أولادي حيث إني أحلم وأتخيل وأتمنى أطفالاً ملتزمين أقوياء في دينهم وطائعين لله ويبتغون مرضات الله في كل شيء في حياتهم وحافظين لكتاب الله وسنة نبيه من صغر سنهم... لكن من بنت عمي أخاف أو لا أعلم ما قد يحدث، حيث ستكون صلتي بعائلتي أكبر وسيكون وقع الحدث أقوى وأكبر، فقلت لأهلي بطريقة غير مباشرة لخوفي عليهم أنني لا أستطيع الزواج من بنت عمي لسبب لا داعي لذكره... فبدا الحزن والغضب إلى اليوم في العائلة... وأفكر في الزواج من بلد آخر حيث إن زواجي من قبيلة أخرى لن يكون سهلا مع مشاكلي المذكورة وبدون وجود والدي ووالدتي أو أهلي على الأقل، أرجو الإفادة ما العمل.(3/34)
3- أنا أنتمي إلى عائلة أو قبيلة مشهورة ولله الحمد بالكرم والمروءة وكل الصفات الحميدة ولكن عيبها الوحيد المذهب الذي ينتمون إليه (ويا ليته عيب فقط من وجهة نظري) ولكي لا أفقد أصدقائي ولتكوين علاقات جديدة جيدة، لا أبلغهم عن اسم قبيلتي ولا إلى اسم المنطقة التي أنتمي إليها لكي لا يعلموا أن أهلي من غير أهل السنة أو ظنهم أني من غير أهل السنة ويفرون مني أو يتجنبوني وإلى غير ذلك... وهذه الطريقة التي اتبعتها لها تاثير على ظهوري في المجتمع أيضا حيث عدم إحساسي بالانتماء له تأثير واضح على أسلوب تفكيري وحياتي... أرجو التوجيه على ذلك، أرجو المعذرة على هذه الأسئلة المعقدة والغريبة... مع العلم بأني اختصرت فيها بشكل كبير ولم أذكر بعض الأحداث لتوقعي عدم تأثيرها الكبير على الإجابات بشكل واضح أو جذري، ولكن هذه القصة حدثت لي منذ صغري وهي متراكمة الأحداث ومعقدة في التفاصيل وحلولي المؤقته الخاطئة لصغر سني أو لجهلي عقدة الموضوع أكثر... وكذلك أسلوبي في الكتابة (زاد الطين بله!!!)؟ ولكم جزيل الشكر والتقدير.
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهنيئاً لك نعمة الهداية إلى الحق وهي نعمة تستوجب الشكر، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياك على الحق حتى نلقاه.
ولا شك أنك في ابتلاء عظيم، ومن شأن المؤمن الصبر على البلاء، روى مسلم عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. فنوصيك بالصبر، فعاقبة الصبر خير الدنيا والآخرة.
واعلم أن هذه الحياة الدنيا دار فانية، وأن الآخرة هي الدار الباقية، ومن شأن المؤمن أن يؤثر الباقية على الفانية، وأن يؤثر الحق على الخلق، ولك أسوة حسنه في الأنبياء والمرسلين والفضلاء الصالحين، والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، فنوصيك بقراءة سيرتهم، لمعرفة ما بذلوه من جهد مع قومهم، وما واجهوا من مصاعب في دعوتهم، وصبرهم على أذاهم، ونصر الله تعالى إياهم وجعله العاقبة لهم، قال الله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا {الأنعام:34}، بل ومنهم من ترك الديار والأوطان والأموال وخرج مهاجراً فراراً بدينه، قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {الحشر:8}.
ومن أهم ما نرشدك إليه في هذا الصدد أن تتعلم العلم النافع المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتسلم من غوائل الشبهات، وأن تحرص على مصاحبة من هم على المنهج الحق الذي أنت عليه ليكونوا عوناً لك في سبيل الحق والسلامة من فتن الشهوات، ونوصيك بالتعاون معهم في القيام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر على ما قد تجد من أذى في هذا السبيل، وإذا تعينت الهجرة سبيلاً للنجاة من الفتنة وجبت عليك الهجرة إلى بلد تأمن فيه على دينك ونفسك، ولك في رسول الله الأسوة الحسنة، فقد خرج من مكه مهاجراً وهي أحب البلاد إليه، روى أبو يعلى في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال: أما والله لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي، وأكرمه على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت.
وأما الزواج فاعلم أولاً أن رفضك الزواج ممن لا ترغب في الزواج منها ليس فيه عقوق لوالديك، ثم إن لك الحق في أن تتزوج من قبيلة أخرى أو بلد آخر، ولا شك أن موافقة والديك وأهلك وحضورهم هذا الزواج لو تم لكان أمراً حسناً، ولكن لا تترك الزواج لأجل عدم حضورهم أو عدم موافقتهم.
وأما عدم إظهارك الانتماء لهذه القبيلة لئلا تعير من قبل أصدقائك فلا حرج عليك فيه، وإذا سئلت عن شيء من ذلك فيمكنك الانتماء إلى القبيلة الأم والتي هي أصل لقبيلتك أو أن تستخدم شيئاً من التورية، دون أن تقع في الكذب الصريح أو الانتماء إلى قبيلة أخرى.
والله أعلم.
================
هذه الأعذار ليست كافية لترك الصلاة
رقم الفتوى:65429تاريخ الفتوى:26 جمادي الثانية 1426السؤال:
أنا مسلم وأصلي كل الأوقات والآن مهاجر إلي بلاد الغرب وأنا في طريق سفري مخاطر من جراء السفر لأن السفر تهريب (مشي على الأقدام لمدة 7 أو 10 أيام، مرات لمدة 9 ساعات متواصلة وفي بعض الأحيان لا يوجد ماء والتعب والعطش والنجاسة في حالة الاحتلام والتبرز والتبول السريع) عموما السؤال هو: مرات عديدة لا أصلي تكاد تصل لخمسة أيام ماذا أفعل؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(3/35)
فإن السفر وقلة الماء أو عدم الماء ووجود الجنابة أو النجاسة لا يبيح كل ذلك ترك الصلاة، وكان الواجب عليك أن تصلي الصلاة في وقتها ، فإن وجدت الماء تطهرت، وإن لم تجده تيممت وصليت، والآن يجب عليك قضاء صلاة هذه الأيام التي تركت الصلاة فيها، ولمزيد من الفائدة في ذلك طالع الفتوى رقم: 35136، والفتوى رقم: 25764، والفتوى رقم: 35545.
وعلى الأخ السائل أن يعلم أنه لا يجوز السفر إلى بلاد غير المسلمين لمن لا يستطيع إقامة شعائر دينه ولا يأمن على نفسه الفتنة، أضف إلى ذلك إن كانت الهجرة بطريق غير قانونية لما قد يترتب عليها من مخاطر، ومن إذلال المسلم نفسه، كما سبق توضيحه في الفتوى رقم: 2007، والفتوى رقم: 9262.
فإذا علمت أن هذا النوع من السفر غير مباح فعليك أن تتوقف عنه وتطلب رزق الله في بلاد المسلمين، وعليك أن تقضي الصلوات التي فاتت عليك تامة.
والله أعلم.
===============
لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه
رقم الفتوى:65814تاريخ الفتوى:06 رجب 1426السؤال:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا لي سؤال وأتمنى من القائمين على هذا الموقع أن يجيبوني عليه بأقرب فرصة ممكنة.
أنا شاب مسلم وأعيش في السويد وذلك مؤخرا وأنا وحيد هنا وليس لي معين إلا الله عز وجل وأنا أدعوه ليل نهار بأن يعينني ويصبرني وأنا أتيت إلى أوروبا بغاية العلم وقد كنت في أسبانيا لفترة ستة أشهر وأتيت إلى السويد لأن في السويد يقومون بتقديم عون للطلاب لكي يستطيعوا الدراسة وذلك إن كانوا يملكون الإقامة في هذا البلد وأنا لا أملكها ولا يمكن الحصول عليها إلا بالزواج وقد رأيت الكثير من الناس حصلوا عليها عن طريق زيارة الديسكوتيكات وإقامة علاقات مع فتيات سويديات وما إلى ذلك وأنا لا أريد أن أصل إلى هذه الأماكن ولكن في بعض الأحيان لا أرى سبيلا آخر وأنا تعبان جدا من الذل والهوان اللذين أعيش فيهما لأجل ذلك أرجوكم أن تساعدوني وأن تعطوني جوابا أستطيع من خلاله تحديد ما أستطيع فعله وهل يجوز أن أزور تلك الأماكن أو لا؟ أو كيف أستطيع الزواج بمسلمات هنا فأنا لا أريد الوصول إلى تلك الأماكن وإن شاء الله لن أصل ولا أريد الزواج بكافرات وأنا بالفعل أريد الستر لنفسي في هذا المجتمع الكافر لأن الحرام مباح في هذا المجتمع وأنا شاب في العشرين من عمري وأنا والحمد لله لم أخطئ في حياتي أبدا ولن أخطئ إن شاء الله.
أرجو أن تجيبوني وأن تعطوني حلا أو جوابأ يعينني لاتخاذ قراري والله المستعان.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يجوز للمسلم الهجرة إلى بلاد الكفر إذا كان لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه، ولا يأمن على نفسه من الوقوع في الحرام، أو كان ذلك يؤدي إلى إهانته ومذلته.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم وصححه الألباني.
ولهذا، فإن كان المقام هناك يعرضك للوقوع في الفتن أو الإهانة والمذلة، فإن عليك أن تترك تلك البلاد وتتحول إلى غيرها من بلاد الله الواسعة التي تجد فيها ما يعينك على إقامة دينك وتأمن فيه من الفتن والمخاوف.
ولا يجوز لك بحال من الأحوال ارتياد الأماكن المحرمة وإقامة العلاقات المحرمة مع الفتيات بأي وجه من الوجوه.
وبإمكانك أن تتصل بالجالية المسلمة هناك وبالمركز الإسلامي ليرشدوك وتستعين بهم للوصول إلى ما تريد من الإقامة والدراسة، وما يعينك على طاعة الله فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه.
وهذا ما ننصحك به ونؤكد عليك لأن الإنسان في الغربة ضعيف وعرضة لأن تجتاحه شياطين الإنس والجن.
نسأل الله تعالى أن يحفظك من كل مكروه وأن يعينك على طاعته ويجنبك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وللمزيد من الفائدة نرجو الاطلاع على الفتاوى التالية: 2007، 8003، 31200.
والله أعلم.
================
السفر إلى بلاد الكفر أو القرض الربوي لتحصيل مسكن
رقم الفتوى:66311تاريخ الفتوى:20 رجب 1426السؤال :
كنت قد طرحت عليكم سؤالا حول الموضوع المتعلق بالهجرة إلى البلاد غير الإسلامية حيث إن هدفي من ذلك هو الحصول على مسكن فكان الرد بأنه لا يجوز، وقد تراجعت عن هذه الفكرة, لكن عندما لجأت إلى البحث عن مسكن وجدت أن كل المعاملات تتم بالربا إذ يبيعون لك البيت ويقتطعون من راتبك الشهري على فترة قد تصل إلى أكثر من عشر سنوات، أنا استحوذت علي فكرة الهجرة ولكن لمدة قصد جمع رأس مال يمكنني من الحصول على بيت في بلدي المغرب، أريد تفصيلا واضحا ولا أريدكم أن تحيلوني على سؤال آخر؟ وجزاكم الله عني خيراً.
الفتوى :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأصل أنه لا يجوز الاقتراض بالربا مهما كان السبب الداعي إلى ذلك، لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {البقرة:278}.(3/36)
لكن نصوص وقواعد الشريعة وأصولها دلت على أنه يجوز للمسلم فعل المحرم عند الاضطرار إليه، ومن ذلك قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ {الأنعام:119}، ولقاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها، لقول الله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ {البقرة:173}.
ومعلوم أن المسكن الذي يأوي إليه المرء من ضروراته المؤكدة، فمن لم يجد مالاً ليشتري به مسكناً، وكان لا يقدر على الاستئجار نظرا لقلة ما يحصل عليه من أجر مقابل عمله جاز له أن يشتري بيتا بقرض ربوي إن لم يجد قرضاً حسناً.
ولكن ينبغي أن تعلم أن ما ذكرته في سؤالك ليس من المعاملات المحرمة، فكون المقرضين في بلدك يبيعون لك البيت ويقتطعون من راتبك الشهري على فترة قد تصل إلى أكثر من عشر سنوات لا يعتبر ربا، طالما أن فترة الاقتطاع محددة.
وأما عن هجرتك إلى بلاد الكفر لتحصيل أمر لم يتيسر لك في غيرها، فإن أمنت على نفسك وأهلك الفتن، وقدرت على إقامة شعائر الإسلام فلا بأس بها، وإن لم تأمن الفتنة في دينك فإنها لا تجوز لك.
والله أعلم.
===============
سفر المرأة مع صبي لها
رقم الفتوى:66905تاريخ الفتوى:07 شعبان 1426السؤال:
أرجو التكرم بالإجابة على سؤالي هذا تحديدا دون تحويل الأمر إلى فتوى سابقة أو رد على سؤال سابق السؤال هل يجوز أن أسمح لزوجتي ومعها ابني وعمره عام ونصف بالسفر إلى أمريكا لزيارة أختها المتزوجة هناك وأخيها؟
ولكم جزيل الشكر.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يجوز لك أن تأذن للمرأة بالسفر بدون محرم إلى أمريكا ولا إلى غيرها، لما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم منها. والحديث في الصحيحين .
ولا شك أن السفر بدون محرم يزداد تحريماً إذا كان إلى بلاد الكفر التي نهى الشرع عن الإقامة فيها، إضافة إلى ما هم عليه من الانحلال والتفسخ والفساد الأخلاقي، قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم. وفي رواية: فوق ثلاث. وفي رواية: ثلاثة. وفي رواية: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم. وفي رواية: لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها. وفي رواية: نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين. وفي رواية: لا يحل لامرأة مسلمة تسافر ليلة إلا ومعها ذو حرمة منها. وفي رواية: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم.
وفي رواية: مسيرة يوم وليلة. وفي رواية: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. هذه روايات مسلم.
وفي رواية لأبي داود: ولا تسافر بريداً. والبريد مسيرة نصف يوم. قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين، واختلاف المواطن، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد، قال البيهقي: كأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم فقال: لا. وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال: لا. وسئل عن سفرها يوما فقال: لا. وكذلك البريد. فأدى كل منهم ما سمعه، وما جاء منها مختلفاً عن رواية واحدة فسمعه في مواطن، فروى تارة هذا، وتارة هذا، وكله صحيح، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفراً، فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين، أو يوماً، أو بريداً، أو غير ذلك، لرواية ابن عباس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السابقة: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً. والله أعلم. انتهى من شرح مسلم للنووي.
وقد حكي الإجماع على تحريم سفر المرأة بلا محرم، إلا السفر للحج والعمرة، والخروج من دار الشرك، أو الفرار من الأسر، قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث الصحيحين السابق: واستدلوا به على عدم جواز السفر للمرأة بلا محرم، وهذا إجماع في غير الحج والعمرة، والخروج من دار الشرك.
ونقل النووي عن القاضي عياض قوله: واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم، إلا الهجرة من دار الحرب فاتفقوا على أن عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام، وإن لم يكن معها محرم...
قال القاضي عياض: قال الباجي: هذا عندي في الشابة، وأما الكبيرة غير المشتهاة فتسافر في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم.
وهذاالذي قاله الباجي لا يوافق عليه، لأن المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة. ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس، وسقطهم ما لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها، لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته، وخيانته، ونحو ذلك. والله أعلم. انتهى من شرح النووي.(3/37)
واعلم أن الولد الصغير لا يعتبر محرماً للمرأة لأن المحرم المطلوب في السفر لابد أن يكون بالغاً عاقلاً على الراجح من أقوال أهل العلم، قال ابن قدامة: ويشترط في المحرم أن يكون بالغاً عاقلاً، قيل لأحمد: فيكون الصبي محرماً؟ قال: لا، حتى يحتلم لأنه لا يقوم بنفسه فكيف يخرج مع امرأة؟. وذلك لأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة، ولا يحصل إلا من البالغ العاقل فاعتبر ذلك.
وقال الأحناف كما نص عليه صاحب الهداية: ولا عبرة بالصبي والمجنون لأنه لا تتأتى منهما الصيانة.
وقال زكريا الأنصاري الشافعي في شرح البهجة: وينبغي عدم الاكتفاء بالصبي لأنه لا يحصل معه الأمن على نفسها، إلا مع مراهق ذي وجاهة، بحيث يحصل معه الأمن لاحترامه.
والله أعلم.
=============
حكم عمل المرأة مضيفة في الطائرة
رقم الفتوى:6693تاريخ الفتوى:22 شوال 1421السؤال : بسم الله الرحمن الرحيم
جزاكم الله خيراً ماحكم عمل الفتاة كمضيفة ضمن الطائرات في شركة خارج بلدها علماً أن الشركة تابعة لبلد إسلامي وتم إخبار الفتاة أن الشركة تعتبر محرماً لها وما حكم الأجور التي تقاضتها تلك الفتاة من هذا العمل؟
أفتونا رحمكم الله
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالذي يظهر أنك على معرفة بوجوب وجود محرم يصحب المرأة أثناء سفرها، وهذا الحكم ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بعدة ألفاظ في الصحيحين وغيرهما، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
وهذا الحديث واضح الدلالة في عدم جواز سفر المرأة بدون محرم لها، قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه على صحيح مسلم: (فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك، لرواية ابن عباس المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السابقة "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" وهذا يتناول جميع ما يسمى سفراً. والله أعلم). انتهى.
وقد حُكي الإجماع على تحريم سفر المرأة بلا محرم، إلا السفر للحج والعمرة، والخروج من دار الشرك، أو الفرار من الأسر.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): (واستدلوا به على عدم جواز السفر للمرأة بلا محرم، وهذا إجماع في غير الحج والعمرة، والخروج من دار الشرك).
وقال القاضي عياض (واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم، إلا الهجرة من دار الحرب، فاتفقوا على أن عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام، وإن لمن يكن معها محرم). نقله النووي في شرح مسلم.
أما الحج والعمرة فقد اختلف فيهما العلماء، فمنهم من أوجب وجود المحرم للمرأة، ومنهم من أجاز سفرها مع الرفقة المأمونة.
وعليه فسفرك للرحلات الداخلية أو الخارجية داخل في ما اتفق عليه الفقهاء من المنع من السفر إلا مع وجود المحرم.
ومحرم المرأة هو زوجها أو من يحرم عليه نكاحها تحريماً مؤبداً، كالأب والابن والأخ.
ومن قال إن الشركة تعد محرماً فقد أخطأ خطأ بينا، ولعل مراده أنها رفقة مأمونة، لكن هذا فيمن أرادت الحج أو العمرة ـ كما سبق ـ وليس في كل سفر.
ونحوه مع التبرج والسفور... الخ. ولهذا لا يستريب عالم في منع المرأة من هذا العمل، ولو كانت قارَّة في بلدها لا ترحل عنه.
وأما الأجور المترتبة على هذا العمل، فهي أجور محرمة ولا شك، فإن العمل المحرم لا يعقبه راتب حلال.
ولهذا ننصحك بتقوى الله تعالى والخوف من عقابه، والحذر من فتنة الدنيا وزينتها، فإن الدنيا إلى زوال، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، وغدا توفى النفوس ما كسبت، ويحصد الزارعون ما زرعوا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وفقنا الله وإياك لطاعته ومرضاته.
66935
فتاوى
عنوان الفتوى:إعطاء المال لفقير غير الذي حدده المتصدق رقم الفتوى:66935تاريخ الفتوى:07 شعبان 1426السؤال:
20147، 17640، 57330.
أما عن إعطاء هذا المال للأسرة المذكورة، فإنه لا يجوز لك أن تخالف فيه أمر موكلك بإيصال هذا المال إليهم، لكن إذا تيقنت أو غلب على ظنك أنهم يستعينون بهذا المال على معصية الله تعالى فلا يجوز لك أن تتولى إيصاله إليهم، وعليك أن تنصح المتصدق به دون أن تتصرف فيه بما يخالف أمره، فإن انتصح فالحمد لله، وإن أبى إلا ذلك رددت المال إليه ورفضت توكيله لك، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 11560، 32258، 45446، 26720.
والله أعلم.
===============
الهجرة بالمال إلى الغرب للعمل
رقم الفتوى:67136تاريخ الفتوى:14 شعبان 1426السؤال:
ماحكم.الاسلام في الهجرة بالمال إلى أوروبا من أجل العمل .؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(3/38)
فالأصل أنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار إلا لضرورة كطلب علم لا يوجد في بلاد المسلمين مع حاجة الفرد أو جماعة المسلمين إليه، وكذا الدعوة إلى الله تعالى ونحو ذلك، ومما يجيز للتاجر المسلم السفر إلى بلاد الكفار جلب البضائع النافعة لبلاد المسلمين مما ليس في بلادهم، وكذا قصد الحصول على الربح دون الإقامة في بلادهم، وذلك لما يترتب على الإقامة هناك من مفاسد لا تحصى وأضرار بالغة تعود على النفس والزوجة والأولاد، هذا فضلا عما ورد من النهي عن الإقامة في ديار الكفار كما بيناه في الفتوى رقم: 2007، ومع ذلك فإن المرء إذا أمن على نفسه وأهله من الوقوع في الفتن، وقدر على إقامة شعائر الإسلام فإن أهل العلم لا يرون بأسا في هجرته بماله إلى أوروبا أو غيرها من بلاد الكفر من أجل العمل.
والله أعلم.
==============
الإقامة في بلاد الكفر لأجل العمل وتسديد الديون
رقم الفتوى:67829تاريخ الفتوى:06 رمضان 1426السؤال :
3497، أنه لا تجوز الهجرة إلى بلاد الكفر إلا تحت ضرورة ملجئة أو غرض دعوي بشرط أن يتمكن المهاجر من إقامة دينه ويأمن على نفسه من الوقوع في الفتن، فتن الشهوات والشبهات.
فإذا كان حال السائل كما ذكر من أنه مدين وقد يتعرض للسجن في بلده لعدم تمكنه من سداد ديونه، وأنه على استقامة ودين فلا حرج في إقامته إن شاء الله تعالى في بلاد الكفر لأجل العمل وتسديد الديون وهذه ضرورة.
ولكن يحرم عليه أن يكذب في إقامته كأن يطلب اللجوء السياسي في تلك الدول وهو في الحقيقة ليس مضطهدا سياسيا في بلده ونحو ذلك، بل الواجب عليه الصدق، وإن كان لا بد من طلب اللجوء ولا يتمكن من الإقامة إلا بذلك فليقل الصدق وسبب طلبه للجوء كما هو الواقع، أو يطلب ما يعرف باللجوء الإنساني، مع الإكثار من ذكر الله تعالى والاستغفار واللجوء إليه عز وجل لعل الله أن يجعل له مخرجا.
والله أعلم.
==============
بقاء الأسرة في الدولة الكافرة عند الحاجة
رقم الفتوى:69518تاريخ الفتوى:28 شوال 1426السؤال:
أرجو من فضيلتكم أن تفتوني فى أمري، فأنا أقيم مع زوجي ببلد أجنبي من أجل أن يكمل زوجي تخصصه وتدريبه الطبي، وقد أكمله الآن، والآن لا ندري هل إقامتنا لفترة أطول شرعية أم لا، لأننا ندفع ضريبة ولا ندري فيما تستخدم وعودتنا لبلدنا الآن يؤثر على تعليم أطفالنا بشكل كبير خاصة وأن أحدهم مصاب بداء التوحد ولديه صعوبة فى التعليم ويتلقى مساعدة فى المدرسة وفى بلدي يتعرض مثله للتوبيخ والنعت بألقاب وربما الضرب فى المدرسة لصعوبة الحفظ لديه وضعف مقدراته وهنالك مدرسة واحدة تتبع للبلد الذي أقيم به الآن وبها نفس نظام التعليم وسألنا مديرها بواسطة الإيميل إن كان بإمكانهم قبول ابننا بعد أن شرحنا له وضعه فأجاب بإنه لا يمكنه أن يقرر قبل أن يقابله فى مطلع العام الدراسي القادم وهذا يجعل الأمر أكثر صعوبه إذ إننى لا بد أن أرتب أمر المدارس لإخوته قبل بداية العام الدراسي بدون أن أضمن له مقعد بتلك المدرسة وإذا لم يقبل ابني فسيكون محطما نفسيا لحساسيته الشديدة أفتوني؟ جزاكم الله خيراً، فأنا قلقة على أبنائي، ولكن لا أريد أن نبيع آخرتنا بعرض زائل؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا نسأل الله أن يصلح أبناءكم ونوصيكم بالدعاء لهم بصلاح حال الدارين، فدعاء الوالد مستجاب كما في حديث الترمذي ومما ثبت من الدعاء في ذلك، قوله تعالى: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ {البقرة:128}، وقوله تعالى: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {الأحقاف:15}، وقوله تعالى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ {إبراهيم:35}.
وليعلم أن بقاء الإنسان في دول الكفر يختلف الحكم فيه بحسب تمكن العبد من القيام بشعائر دينه، وسلامته من التأثر بالباطل المحيط به، وإمكان تربية الأولاد على ذلك، فإن لم يستطع القيام بدينه تعينت عليه الهجرة إلى بلد يقيم فيه دينه ويربي أولاده عليه، وأما إن استطاع الحفاظ على دينه في ذلك البلد فلا تجب عليه الهجرة منه ولكنها تستحب.
وليعلم أن الأولاد الصغار لا بد لتربيتهم وتعليمهم من مساهمة الوالدين وإشرافهم فلتباشري بنفسك تعليم الولد المذكور، وانظري في المدرسة المناسبة له، واستعيني بالوسائل المعاصرة في تعليمه وراسلي المدارس لتعرفي أيها أصلح له، ويمكن استشارتك للأطباءفي علاج موضوعه، وراجعي في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 46936، 12829، 57580، 12982.
والله أعلم.
============
ترك الدراسة بل عدم الإقامة في دار الكفر
رقم الفتوى:70872تاريخ الفتوى:16 ذو الحجة 1426السؤال:
10308.(3/39)
وننبه إلى أن المسلم إذا خشي على دينه بالإقامة في بلاد الكفر فتجب عليه الهجرة منها إلى بلد آمن، فإن كان حالك كذلك فتجب عليك الهجرة، وإن كنت تقيمين مع أهلك في تلك البلاد فينبغي أن تناصحيهم بالهجرة إلى بلد تأمنون فيه على دينكم. وراجعي الفتوى رقم: 10334 ، والفتوى رقم: 2007.
وثم أمر آخر ينبغي التنبه له وهو أنه ينبغي للمسلم عند الفتن أن يزداد تمسكا بدينه وإقبالا على ربه فذلك أعظم لأجره. وراجعي الفتوى رقم: 35951 ، والفتوى رقم: 63743.
والله أعلم.
============
بلاد الملحدين وبلاد أهل الكتاب
رقم الفتوى:71176تاريخ الفتوى:24 ذو الحجة 1426السؤال:
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد :
أريد أن أستفسر عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول في حق المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفار \" أنا برئ ممن يعيش بين ظهرانيهم \" والحديث الآخر الذي يقول \" المسلم والكافر لا تتراءى نارهما \" ، السؤال هو : هل هذان الحديثان ينطبقان على البلاد أو الدول الملحدة فقط أم على بلاد أهل الكتاب أيضاً ، وإن كان الأمر الثاني كذلك فهل ينطبق على جميع بلاد أهل الكتاب وإن كان فيها مدن خاصة بالمسلمين فيها مساجدهم ومصالحهم الخاصة وأعمالهم وهم منفصلون تماماً عن الكفار ويستطيعون إقامة دينهم بدون أي مضايقة من الحكومة أفتونا جزاكم الله ؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن بلاد الملحدين وبلاد أهل الكتاب سواء في الديار ، وليعلم أن السكن ببلاد غير المسلمين يختلف الحكم فيه بحسب تمكن العبد من القيام بشعائر دينه وسلامته من التأثر بالباطل المحيط ، فإن خاف على نفسه مما يفسد عقيدته أو يوقعه في المعاصي تعينت عليه الهجرة والفرار بدينه ، وأما إن استطاع الحفاظ على دينه والقيام بما أمكن من الدعوة إلى الله تعالى والتأثير في البلد الذي هو فيه فلا حرج عليه في البقاء به ، وأما المدن الخاصة بالمسلمين فإنها تعتبر دار إسلام إن كان المسلمون مستقلين فيها ومنفصلين عن الكفار وأحرارا في عباداتهم وآمنين من دخول الكفار عليهم بفجورهم ، وأما إن كان الكفار أحرارا في الدخول بقرى المسلمين وإقامة أعمال الفجور كفتح دور البغاء والرقص والسينما فإنها تصبح حينئذ مثل باقي المدن ، وراجع الفتاوى التالية أرقامها : 69518 // 3497 // 65814 // 2007 // 64452 // 51334 .
والله أعلم
===============
لا يجوز البقاء في مكان يغلب على الظن الفتنة في الدين
رقم الفتوى:71214تاريخ الفتوى:24 ذو الحجة 1426السؤال:
أنا موظف وأتقاظى راتبا 5000 درهم في دبي متزوج وعندي 4 أطفال موجودون في سوريا لا أستطيع أن أبقيهم معي ولي 11 سنة في العمل ويوجد لي والد مسن يريد أحدا أن يعتني به وكنت في صراع مستمر من الفتن وإجازتي شهر في السنة أقسمها إلى ثلاث سفرات ولكن وجدت الحل أن أستقيل وأرجع إلى سوريا لكي لا أرتكب أي معصية وأنا الآن قدمت الاستقالة ولكن زوجتي تعارض ذلك مع أني استخرت الله وتوكلت عليه وأني قلت الرزق واحد فأرجو أن تفيدوني بذلك هل ما قمت به صحيح ؟
جزاكم الله خيرا.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز البقاء في مكان يغلب على الظن الفتنة في الدين بالبقاء فيه ، وكما يشرع الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فيشرع الهجرة من بلاد المعصية والفسق إلى بلاد الطاعة ، وانظر الفتوى رقم : 25370 ، والفتوى رقم : 48193 ، وعليه فما فعلته صحيح من هذا الجانب ، وصحيح من جانب آخر وهو قربك من والدك المسن خاصة إذا كان بحاجة إليك .
واعلم أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .
والله أعلم .
===============
ذات الدين إذا كان أولياؤها عقيدتهم منحرفة
رقم الفتوى:72846تاريخ الفتوى:25 صفر 1427السؤال:(3/40)
جزاكم الله خيراً على هذا الموقع، سؤالي: تعرفت على فتاة منذ خمس سنوات في حياتي الجامعية، هي من عائلة مسلمة ولكن تعيش بمنطقة فيها ديانة تسمى الإسماعيلية لا يعترفون بالإسلام، حاولت التقدم لها ولكن أهلها لا يرضون تزويجها خارج تلك المنطقة ويفضلون الكافر من نفس المدينة على المسلم من مدينة أخرى، سافرت إلى السعودية خمس سنوات لم أستطع خلالها أن أنساها ولا تنساني، طوال خمس سنوات أنا وهي ندعو الله تعالى أن ييسر أمورنا ونيتنا الوحيدة بناء بيت مسلم مثالي وإصلاح ما يمكن إصلاحه من أهلها وحولهم، خلال الخمس سنوات تحجبت هذه الفتاة كخطوة أولى لإرضاء الله رغم معارضة أهلها للحجاب، وطيلة الخمس سنوات وأنا أحاول أنا وهي مع أهلها، ولكن كل مرة يضعون سببا وكلما أحققه لهم يرجعون بكلامهم، وعندما رجعت لبلدي بعد الخمس سنوات حاولت مرات كثيرة ولكن الموضوع بيد أمها لأن أباها متوفى، دائما تقول لي أمها أنها ستزوجها كافرا خيراً مني، وعندما أكلمها بالدين والآيات والأحاديث تقول إنها غير مكترثة لا بجنة ولا نار ولا يهمها ما يقول الله ورسوله وتعيرني بأنني إذا تزوجتها سوف ألبسها الخمار وهي تريد رجلا لبنتها يلبسها على الموضة ويخلع حجابها، الفتاة رفضت جميع من تقدم لها منذ خمس سنوات حتى هذه اللحظة لأن أغلبهم غير مسلمين، أهل الفتاة يرفضون تماما حتى مقابلتي ويهددونني بالقتل والفتاة من المستحيل أن تفكر بغيري لأنني حولتها بإذن الله من إنسانة لأخرى من حيث علاقتها بالله، وتتوسل إلى الله دائما أن أكون زوجا لها لكي أعينها على دينها، أنا الحمد لله عندي دخل يكفيني وبيت مستقل وقادر على الزواج ومعروف بديني وأخلاقي وأشتغل بوظيفة ممتازة، الفتاة أصبح عمرها 30 سنة وأنا 28 سنة، ومن المستحيل أن يوافق أهلها حتى إذا صار عمرنا أربعين أو خمسين سنة لأن أختها الأكبر عانت من نفس المشكلة ولم يزوجوها حتى أصبح عمرها 37 سنة لنفس السبب، وسؤالي هو:
هل يحق لنا شرعا أن نتزوج بحيث يصبح القاضي هو ولي أمر الفتاة، حيث إننا سنتزوج بعلم أهل الفتاة ولكن بدون موافقتهم على أمل أن نسعى بعد الزواج لاسترجاع العلاقات وتحسنها، لأن للفتاة فقط أخوين وكلاهما لا يحركان ساكنا بدون موافقة والدتهم رغم أنهم يعرفون أنها على باطل، أرجوكم أنقذونا لأن الفتن تكاد تفتك بنا عند هذا العمر؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أولاً أنه لا يجوز للمسلم أن يكون على علاقة عاطفية مع امرأة أجنبية عليه لأنها ذلك ذريعة إلى الشر والفساد، وتراجع في ذلك الفتوى رقم: 30003.
ولو قدر أن وقع في قلب الرجل حب امرأة فإن خير علاج لهذا الحب هو زواجه منها، لما روى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم ير للمتحابين مثل النكاح. وتراجع الفتوى رقم: 9360.
وعليه فإن كانت هذه الفتاة على ما ذكرت من كونها على دين وخلق فينبغي أن تسعى في الزواج منها، والذي يتولى تزويجها وليها، فإن كان جميع أوليائها على عقيدة وأفكار هذه الطائفة المنحرفة، أو وجد من أوليائها من هو على عقيدة سليمة وامتنع عن تزويجها لغير مسوغ شرعي جاز لها أن ترفع أمرها إلى المحكمة الشرعية ليزال عنها الضرر، فيتولى القاضي تزويجها بنفسه أو يوكل من يزوجها، وتراجع في ذلك الفتوى رقم: 3804.
وينبغي لهذه الفتاة أن تجتنب الإقامة في هذه البيئة الفاسدة وأن تجتهد قدر الإمكان في الهجرة منها إلى مكان تأمن فيه على دينها ونفسها، وقد تتعين هذه الهجرة إن غلب على الظن أن تفتن في دينها، وتراجع في ذلك الفتوى رقم: 12829.
وننبه إلى بعض الأمور ومنها:
الأمر الأول: أن الأم لا ولاية لها في أمر النكاح، وأنها لا تجب طاعتها في منعها ابنتها الزواج من الكفء، وتراجع في ذلك الفتوى رقم: 20914.
الأمر الثاني: أن أم هذه الفتاة إن ثبت عنها ما ذكر من إنكارها الجنة والنار، وعدم مبالاتها بقول الله ورسوله فقد أتت الكفر الصريح، فالواجب نصحها وتذكيرها بالله تعالى، وبسوء عاقبتها إن هي ماتت على هذا الحال.
والله أعلم.
==============
النطق بكلمة الكفر عند الاضطرار
رقم الفتوى:72942تاريخ الفتوى:28 صفر 1427السؤال:(3/41)
مشكلتي إني تزوجت إنسانا متزوجا وعنده عيال ، عند تقدمه للخطبة قال لأهلي إنه لا يريد ترك زوجته من أجل الأولاد فقط. ولا يوجد بينه وبينها أي علاقة شرعية وإنها مسامحته في ذلك. وعلى هذا الأساس وافق أهلي وبعد ذلك ذهبت لزيارة أهله بعد الزواج. ولكني اكتشفت بأن زوجته غير راضية بوضعها الحالي ودعت أمرها لله يأخذ حقها من من ظلمها وأمه أيضاً غير راضية عن ولدها وهو ليس لديه أي رغبة برجوعه لها. أو معاشرتها وإنه لا يطيقها. والآن أنا في حيرة من أمري. فأمي غير راضية على رجوعه لزوجته الأولى وهددتني إذا ذهب لها وعاشرها فإنها سوف تقاطعني إلى يوم القيامة ولا تريد رؤيتي وعذرها أننا قبلنا به على شروط معينه وهو وافق عليها. وأنا خائفه من عقاب الله ولا أدري إذا كان علي ذنب أو لا ؟ وماذا أفعل هل أطلب الطلاق؟ مع العلم إني لدي طفل منه. دلوني إلى طريق الخير هداكم الله. وأرجو الرد بأسرع وقت وعدم تحويل سؤالي إلى فتوى أخرى ؟
جزاكم الله خيرأً .
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب عليك أيتها الأخت الكريمة أن تطيعي زوجك ، وتقومي بحقه عليك ، وليس عودته إلى زوجته بأمر يستدعي أن تفارقيه وتهدمي حياتك الزوجية ، بل ننصحك أيتها الأخت الكريمة بأن تنصحي زوجك بالعدل في المبيت والنفقة الواجبة بينك وبين ضرتك ، وأن ذلك واجب عليه ، فإنك إن فعلت ذلك أديت واجب النصيحة ، وزادت محبتك في قلب زوجك ، ورفعت عن زوجك إثم الظلم لزوجته الأولى ، إلا أن تكون قد أذنت هي بالتنازل عن حقها في المبيت ، وحتى لو تنازلت وأرادت بعد زمن الرجوع إلى حقها فلها ذلك كما سبق في الفتوى رقم : 66581 .
ولا يجب طاعة الأم فيما طلبته منك ، ولكن احرصي على طلب رضاها بالكلمة الطيبة والزيارات المتكررة ، والهدية ونحو ذلك .
والله أعلم .
==============
حكم الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا
رقم الفتوى:72947تاريخ الفتوى:28 صفر 1427السؤال:
ما حكم الهجرة غير الشرعية من الجزائر نحو أوروبا مع العلم بأن معظم المهاجرين فقراء ؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الهجرة غير الشرعية إلى أوربا أو إلى غيرها لا تجوز من الجزائر ولا من غيرها لما فيها من تسبب المسلم في إذلال نفسه ومن المخاطر التي تترتب عليها ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه ، قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يعرض نفسه من البلاء لما لا يطيق . رواه الترمذي ، وصححه الألباني .
وروى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا .
ولا يبرر هذا النوع من الهجرة أن أصحابه فقراء فقد يتعرضون للضياع في البحر أو في الصحراء وقد يهلكون أو يعتقلون ، والله تعالى يقول : وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ {البقرة: 195 } ويقول تعالى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {النساء: 29 } فصاحب هذه الهجرة معرض للهلاك أو الاعتقال والإذلال ، ولهذا فإنها لا تجوز .
والله أعلم .
================
الإقامة في ديار الكافرين وشفاعة سيد المرسلين
رقم الفتوى:73671تاريخ الفتوى:21 ربيع الأول 1427السؤال:
أرجو منكم الإجابة على سؤالي مباشرة دون تحويلي إلى إجابات أخرى من فضلكم، هل يشفع الرسول في من تبرأ منهم حسب الحديث الشريف: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. وهل مصير من يقيم في بلاد المشركين من أجل توفير حياة مادية وثقافية أفضل هو من أصحاب النار خالدين فيها، أفيدوني؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن إقامة المسلم بين الكفار جائزة إذا أمن المسلم على دينه وكان قادراً على إقامة شعائر الإسلام، وإذا أقام بنية دعوة الناس إلى الله تعالى كان مأجوراً على ذلك إن شاء الله، والأدلة الواردة في عدم جواز الإقامة في بلاد الكفار محمولة على من يكون غير قادر على إقامة شعائر الإسلام وغير آمن على دينه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تراءى ناراهما. رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وصححه الألباني. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا الحديث: وهذا محمول على من لم يأمن على دينه.
وكقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {النساء:97}، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص الآية.(3/42)
وأما إذا كان المسلم لا يأمن الفتنة على دينه أو كان غير قادر على إقامة شعائر الإسلام، فإن إقامته حينئذ بين الكفار معصية من المعاصي، والمعاصي إذا كانت من موحد لا تخلد صاحبها في النار، ولا تمنع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. رواه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان والحاكم والذهبي والألباني وغيرهم.
ولحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة, فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً. رواه مسلم في صحيحه.
ولكن لا يجوز أن يفهم من هذا الكلام التهوين من شأن المعاصي، اتكالاً على ثبوت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وسعة عفو الله تعالى وفضله ورحمته، فإن الله تعالى كما أنه غفور رحيم، فإنه كذلك شديد العقاب، شديد الغيرة على محارمه, وقد جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تتوعد من انتهك حرمات الله تعالى بالعذاب الأليم يوم القيامة. والواجب على المسلم أن لا يغلب جانب ما جاء من نصوص الوعد في القرآن والحديث على ما جاء فيهما من الوعيد، لئلا يفضي به ذلك إلى ارتكاب ما حرمه الله تعالى، وإلى أمن مكره عز وجل، وقد قال الله تعالى: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ {الأعراف:99}، والمقيم في بلاد الكفار إذا كان غير آمن على دينه، قد يتعرض للفتنة في عقيدته، وقد يؤدي ذلك إلى انعدام الإيمان والردة عن الدين بالكلية نسأل الله السلامة والعافية، فيموت على الكفر، فلا تنفعه شفاعة الشافعين، بل يدخل النار خالداً مخلداً فيها والعياذ بالله.
وعليه فإن كان الذي يريد أن يحسن من وضعه المادي بالإقامة في بلاد الكفار قادراً على إقامة شعائر دينه وعنده من العلم ما يدفع به الشبهات التي قد ترد عليه, ومن التقوى ما يدفع به الشهوات، من كان هذا حاله جاز له البقاء في دار الكفر، سواء للعمل أو لغيره، ومن لم يأمن على دينه لم يجز له البقاء هناك، وللمزيد من التفصيل والفائدة حول حكم الإقامة في بلاد غير المسلمين، راجع في ذلك الفتوى رقم: 2007.
والله أعلم.
==============
التمسك بالدين عند الفتن
رقم الفتوى:73749تاريخ الفتوى:26 ربيع الأول 1427السؤال:
سؤالي لا أعرف ماذا ستردون علي ولكن أريد أن تتيحوا لي الفرصة.
أنا وكثير من أمثالي في تونس نشتكي ونعاني من الاضطهاد والظلم وكثرة البدع والمنكرات وعدم وجود بنوك إسلامية و ووووو.....
ليس لدينا علماء يدلونا وعندما نطلب فتوى نجد الرد وفقا لواقع المفتي وليس وفقا لواقعنا، نريد حلا، نريد حلا نريد حلا، لا تقولوا لي صبرا أعرف ذلك ,لا تقولوا لي الهجرة لأنها مستحيلة مع عدم وجود موارد مالية.
أريد حلا؟ إني متعب متعب جدا جدا.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعلى المؤمن أن يصبر ويتمسك بدينه ويعض عليه بالنواجذ حتى يأتي أمر الله بالنصر للمسلمين. فهذا الذي ذكرت هو الزمان الذي وصف النبي صلى الله عليه وسلم كثرة الفتن فيه، وشدة ابتلاء المؤمن بدينه فيه، ففي سنن الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر. وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعرب من شر قد اقترب، فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر. وقال صلى الله عليه وسلم: إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله أو منهم، قال: بل منكم. رواه الطبراني، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة. وقال صلى الله عليه وسلم: العبادة في الهرج كهجرة إلي. رواه مسلم. قال الإمام النووي: المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس. وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد. انتهى.
فعليك أيها الأخ أن تعي هذه الحقيقة وتعلم هذه السنة الإلهية وتتقي الله تعالى ما استطعت وتهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عجزت عن تطبيقه من ذلك عمليا عجزا حقيقيا فإنك غير مؤاخد به عند الله تعالى إذا كان ميلك حقيقة هو إلى ما يحب الله ورسوله. قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا{التغابن:16}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ... وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم. متفق عليه.
ونسأل الله أن يعينكم على التمسك بدينكم ويثبتكم ويهديكم صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
=============
دلالات الدين الحق
رقم الفتوى:74500تاريخ الفتوى:22 ربيع الثاني 1427السؤال:(3/43)
أنا شاب أبلغ من العمر الآن 35 سنة وقد اعتنقت المسيحية منذ 14 سنة تقريبا وهذا الأمر جعلني أسير في هذا الركب وأقتنع بالعقيدة المسيحية ولكن الآن لا أعرف يوجد في داخلي صوت يقول لي ارجع إلى الإسلام أحيانا أسكت هذا الصوت لكن العقيدة الإسلامية بالنسبة لي ذات صورة مشوهة كثيرا كثيرا حتى عندما أسمع القرآن أسمعه وأفسره حسبما درسته عند المسيحيين فأسمعه ليس كما يسمعه المسلم وأما الأحاديث فلها نفس الشيء ممكن كنت قبل ذلك أعتبر نفسي من أتعس الناس ماديا واجتماعيا وعلاقتي بالمسيحيين غيرت كثيرا من ذلك حتى إن اسمي تغير وهم يحبونني وأراهم هم الأمة الأقوى ووضعهم هو الأعظم وحقيقة صعب أن أتركهم. إن أصحابي كلهم مسيحيون ما عدا زملائي في العمل فمنهم مسلمون وأنا أيضا قد تزوجت من مسلمة ولي ابنتان وولد وهذا الأمر أخفيه عن الجميع لا أعرف ماذا أفعل وإلى متى؟ رغم ذلك كله أعتبر نفسي مسلما أرجو الرد لأني بعثت لأكثر من موقع إسلامي لكن لا جواب فهل المسلمون فقدوا من الأرض؟
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى وعصمنا وإياك من مضلات الفتن ومسالك الردى أن الظاهر من حالك أنك كنت مسلما وارتددت عن الإسلام, وانبهرت وتأثرت بحال النصارى الذين خالطتهم، فلم يعد اعتبارك نفسك مسلما نافعا لك حتى توقن بتوحيد الله وبالرسالة, إلا انه لا تزال فطرتك الأصلية تراودك على التمسك بالإسلام ولكنه تشوش ذهنك بسبب انبهارك بحال الكفار فحسبت أنهم فائزون وسعداء، وهم في الحقيقة خاسرون وأشقياء, ولا أدل على ذلك من انتشار الانتحار والأمراض النفسية والجسمية الفتاكة فيهم, إضافة للتفكك الاجتماعي والفضائح والجرائم الأخلاقية, وأخطر من ذلك حرمانهم الأبدي من رضا الله ورؤية وجهه ودخول جنته والإقامة الأبدية في نار جهنم.
كما قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ. {البيِّنة:6} وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ. وقال تعالى: إِنَّ اللهَ لَعَنَ الكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا {الأحزاب: 64-66}
فكيف يظن سعيدا من يلهو ويغفل عن مصير ه ويتمادى في غروره حتى يخلد في النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين .
ثم إن الشك في أصول الدين ومسلمات العقيدة كتوحيد الله تعالى، ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصدقه فيما جاء به عن الله تعالى، والاقتداء بالكفار في فهم النصوص الواردة في ذلك من أخطر ما يخطر على القلوب فهو من خطوات الشيطان، ومزلات الأقدام، ومواطن الهلكة، فيجب على من أصيب بشيء من ذلك أن يفزع إلى الله تعالى، ويستغيث به، ويعتصم بحبله المتين، وأن يسأله في السر والعلن، وبالتضرع والإلحاح أن يبعد ذلك الشك عن قلبه، وأن يصرف تلك الشبهات عنه، ويرزقه اليقين بالله وبدينه، فلا يكون العبد مؤمنا إلا إذا كان موقنا يقينا جازما بمدلول شهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{الحجرات:15}، وقال صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة. رواه مسلم، فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط، ثم عليك أن تفزع إلى كتاب الله تعالى قراءة وتدبرا، وتسأل الله أن يهديك به ففيه شفاء لما في الصدور، يقول الله سبحانه وتعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {الإسراء:82}. ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {يونس:57}. ويقول: هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى {فصلت:44}.
إلى غير ذلك من النصوص الصريحة الدالة على أن القرآن هو الشفاء النافع لكل ما يعتري القلوب من شكوك، والسلاح الدافع لكل ما يرد عليها من شبهات وفتن.
ثم عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي مبينة لكتاب الله تعالى مفسرة له، وفيها من التوجيهات النبوية ما يرشد الحيران ويهدي من أراد الهدى.(3/44)
واعلم أن من دلائل صدق القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيب الذي لا يعلمه الخلق، ولا يمكنهم افتراؤه، وما فيه من الإعجاز العلمي الذي لم يكتشف إلا مؤخرا، وما فيه من الأساليب العجيبة البليغة التي عجز العرب عن محاكاتها مع تمكنهم من التعبير بشتى أساليب الخطاب، وقد شاهد الناس صدق كثير مما جاء في القرآن من الأخبار المستقبلية، فمن ذلك غلبة الروم، وهزيمة جمع قريش، كما اكتشف العلم الحديث مؤخرا أطوار الجنين في البطن، ووجود الحاجز المائي بين العذب والمالح في البحر إلى غير ذلك.
ومن أعظم دلائل كونه من عند الله بقاؤه محفوظا بين أيدينا أربعة عشر قرنا لم يحرف ولم يبدل، ولم يَخْلَق على كثرة الرد, ولا يسأم منه قارئوه مهما كرروا تلاوته.
وأما صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يشهد له تبشير رسول الله عيسى ابن مريم برسالته، وثبوت أمره في التوراة والإنجيل، وقد شهد بذلك بعض أهل الكتاب الذين لم يعمهم التعصب كبحيرا الراهب وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وعبد الله بن سلام وزيد بن سعنة، إضافة إلى كثير من المعجزات التي تشهد برسالته، ومنها: شهادة الأشجار والحيوانات برسالته صلى الله عليه وسلم، ومنها: انشقاق القمر, ومنها: إخباره بأشياء مستقبلية ظهر صدقه فيها كفتح الشام والعراق والقسطنطينية.
وهذه المعجزات تكلم عليها أهل العلم في كتبهم فمنها دلائل النبوة للبيهقي، ومنها كتاب البداية والنهاية لابن كثير، فقد ذكر في المجلد السادس كثيرا من المعجزات، وكتاب الرسل والرسالات للدكتور عمر سليمان الأشقر, وراجع مواقع الإعجاز العلمي على الإنترنت، وما قاله الشيخ الزنداني وزغلول النجار فيه.
ثم عليك بمجالسة الصالحين من أهل العلم وتلقي العلم الشرعي عنهم، والانشغال بذلك عن مجالسة أهل الباطل، وصحبة الكفار، واحرص على دفع ما في نفسك من حب العاجلة ولذاتها إلى التعلق بمنال السعادة الحقيقية في الدارين, ففي نفس الإنسان عموما نزوع إلى الهوى والشهوة، وقد يجره للكفر والعياذ بالله, وعلاج ذلك بالخوف من الله وتذكر الآخرة والهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى {النازعات:40-41]. وقال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ {آل عمران:14}.
فمن أهم عوامل دفع النفس عن الهوى علمه بربه، وخوفه من عقابه، و مما يعين على ذلك استشعار عظمة الله في القلب، والإكثار من تلاوة القرآن بتدبر، والتأمل في أسماء الله وصفاته، والنظر فيما في القرآن من الحديث عن أهوال القيامة وإهلاك الله وعقوبته لمن عصاه في الدنيا والآخرة، والتأمل كذلك في كتب السنة فإن فيها كثيرا من الأحاديث المخوفة من عقاب الله والمرغبة في طاعته والمبينة لعظمته وجبروته, ومن أعظم ما صنف في هذا كتاب العظمة لأبي الشيخ، وكتاب الترغيب والترهيب للمنذري، ورياض الصالحين،
ومن ذلك مجاهدة الإنسان لنفسه حتى يحملها على الهدى، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ {العنكبوت:69}.
ومن العوامل المؤثرة في الإنسان البيئة، والرفقة: فالمرء على دين خليله، وجاء في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل الجليس الصالح كمثل العطار إن لم يعطك من عطره أصابك من ريحه.
ومنها: مقدار الصلاح العام، أو الفساد العام في المجتمع، فلا بد من الهجرة عن المجتمع الذي يقوى فيه الفساد على الصلاح، فقد ورد في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا. فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب. فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا. فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله. فكمل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم. فقال: إنه قتل مائة نفس. فهل له من توبة؟ فقال: نعم. ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا. فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم. ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.
واعلم أن الكفر لا يسبب تحقيق أي منفعة بل هو سبب للحرمان، كما يدل له الحديث: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. رواه أحمد وابن ماجه.
واعلم أن الإيمان هو مصدر عز الأمة وقوتها وتحسين وضعها وفلاحها ونصرها، وأمنها والدفع عنها والتمكين لها، والرفعة والعلو والغلبة، ومحبة الله لها ومعيته وفتح أبواب البركات والحياة الطيبة، وتيسير الأمور وتفريج الكروب إلى غير ذلك من الوعود الصادقة المهمة.(3/45)
كما قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ {المؤمنون:1}، وقال الله تعالى: وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ {المنافقون:8}، وقال: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ {الروم:47}، وقال: الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ {الأنعام:82}، وقال: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا {مريم:96}، وقال: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {الأعراف:96}، وقال: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {النحل:97}. وقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا {الطلاق:4} وقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ {الطلاق:2، 3}. وقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {البقرة:189}.وقال تعالى: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {المجادلة:11} وقال تعالى: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {آل عمران:139}، وقال تعالى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ {الصافات:173}، وقال تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ{النور:55}.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: هذا وعد من الله لرسوله بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض فتصلح بهم البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلهم بعد خوفهم أمنا وحكما، وفي الحديث: بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض. رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وقال الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ {المائدة:56}، وقال الله تعالى: أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ{المجادلة:19}.
وقد أخبر الله تعالى أنه يدافع عن المؤمنين وأنه معهم وأنه وليهم، فقال: إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا {الحج:38}، وقال تعالى: وَأَنَّ اللهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ {الأنفال:19}، وقال الله تعالى: إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ {النحل:128}، وقال الله تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا {البقرة:257}، وقال الله تعالى: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ {الأعراف:196}.
وقد أخبر أن مكر الكفار سيحيق بهم وأنهم سيغلبون، قال الله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا {فاطر:43}، وقال الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ{آل عمران:12}.
قال ابن كثير في تفسير الآية: ستغلبون في الدنيا، وتحشرون إلى جهنم يوم القيامة.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق بعدة بشائر، فقال: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس. رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل به الكفر. وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية. رواه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عدي بن حاتم، وصححه الشيخ الألباني.(3/46)
وفي المسند عن عدي بن حاتم قال: لما بلغني خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهت خروجه كراهة شديدة خرجت حتى وقعت ناحية الروم فكرهت مكاني ذلك أشد من كراهيتي لخروجه، قال: فقلت: والله لولا أتيت هذا الرجل، فإن كان كاذبا لم يضرني وإن كان صادقا علمت. قال: فقدمت فأتيته فلما قدمت قال الناس: عدي بن حاتم عدي بن حاتم. قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ثلاثا قال: قلت: إني على دين، قال: أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: نعم، ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟ قلت: بلى، قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك، قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، فقال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب! أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قال: قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد. قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها. قال شعيب الأرنؤوط: بعضه صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل أبي عبيدة.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أو رومية؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولاً. يعني قسطنطينية. رواه أحمد والدارمي وابن أبي شيبة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني. وقد تحقق فتح القسطنيطينية بتاريخ 2/7/857هـ الموافق 29/5/1453م.
ولتفتحن رومية عاصمة إيطاليا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ومن البشائر عودة الخلافة الراشدة، التي تقيم العدل وتحكم بالشرع ويدمغ الله بها الباطل وهذا ما يبشرنا به الحديث: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت. رواه أحمد والبزار والطبراني وصححه العراقي ووافقه الشيخ الألباني.
ومنها: تسليط الله المسلمين على اليهود ونصرهم عليهم؛ كما في الحديث: تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله. رواه البخاري ومسلم.
وهذه البشائر الصادقة والوعود المحققة لأهل الإيمان الذين لا يقتصر الإسلام على وثائقهم الرسمية ولا على مساجدهم وجنائزهم، بل يعيشون حياة الإسلام في مساجدهم وبيوتهم وأخلاقهم ومعاشراتهم ومعاملاتهم ومحاكمهم، وبقدر نقص الإيمان في حياتهم يبتليهم الله بما شاء لعلهم يرجعون ويتوبون، قال الله تعالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {الروم:41}.
وفي الحديث: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم. رواه أبو داود وصححه الألباني.
وفي الحديث: ما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وما بخس قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل إلا سلط عليهم عدوهم فاستنقذوا بعض ما في أيديهم، وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيه إلا جعل الله بأسهم بينهم. رواه البيهقي والحاكم وصححه الألباني في صحيح الترغيب.
وإذا لم يمتثل المسلمون لهذا الأمر ونبذوا كتاب ربهم ولم يستمسكوا بالدين، ولم يستقيموا على أمر الله تخلفت عنهم شروط النصر، قال تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ {محمد: 7}. وقال أيضا: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ{العنكبوت: 69}.
وبناء عليه.. فلا تغتر بحال المسلمين المعاصرين وتزن الإسلام بحالهم فتكون من الخاسرين المعذبين، ولا بحال الكفار المستدرجين من النصارى والكفار الذين يعيشون لبطونهم وفروجهم، ثم يضطرون في النهاية لعذاب النار؛ كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ{محمد:12} فما ينعم الله به على الكفار من نعم الدنيا ليس مباركة منه سبحانه، وإنما هو استدراج لهم. كما قال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ {الأعراف:182-183}.(3/47)
والآيات التي فيها أن ما يعطاه الكفار من النعيم إنما هو استدراج كثيرة، ومنها قوله تعالى: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ {البقرة: 126}. وقوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ {آل عمران:196-197}. وقوله تعالى: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ {يونس:70}. وقوله تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ {القصص:61}. وقوله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ {الزخرف:33-35}.
والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة أيضا ومنها:
-قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. رواه البخاري ومسلم.
-وقوله صلى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. رواه مسلم.
وفي الحديث: إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. رواه أحمد والبيهقي في الشعب، والطبراني في الكبير وصححه الألباني.
واعلم أن النصرانية المحرفة لا تملك حجة صحيحة لإثبات مبادئها، فضلا عن إبطال مبادئ مخالفها، وكلها نقاط ضعف ووهن، ويظهر ضعف ديانتهم في نقاط عدة منها:
1/ سند الأناجيل التي بين أيدي النصارى، فليس في هذه الأناجيل ما يمكن أن يقال عنه إنه الإنجيل الذي نزل على عيسى عليه السلام، فقد كتبت جميعا بعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وهي أشبه بكتب السيرة والتراجم، تحكي ما حصل لعيسى عليه السلام، ويرد في ثناياها أن عيسى كان يكرز (يعظ) بالإنجيل، فأين هذا الإنجيل المنزل الذي تتحدث عنه الأناجيل؟
بل الباحث في الأناجيل الأربعة يعلم قطعا أنه لا يمكن نسبتها إلى هؤلاء الأربعة بدليل صحيح.
2/ التناقض الظاهر، والاختلاف البين، والأغلاط الواضحة في هذه الأناجيل، مما يقطع بأنها من عند غير الله، قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا {النساء:82}.
وقد بين العلامة رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) وجود 125 اختلافا وتناقضا في الكتاب المقدس، ووجود 110 من الأغلاط التي لا تصح بحال، ووجود 45 شاهدا على التحريف اللفظي بالزيادة، وعشرين شاهدا على التحريف اللفظي بالنقصان.
وقد ذكرنا أمثلة لذلك في فتوانا رقم: 2105.
3/ ما اشتمل عليه هذا الكتاب المقدس - بزعمهم - من نسبة العظائم والقبائح إلى أنبياء الله ورسله الكرام، كالباطل الذي ينسبونه إلى لوط، ونوح، وداود عليهم السلام، وغيرهم.
4/ قضية التثليث والصلب، فما أشد التناقض والاضطراب الواقع في الأناجيل في هاتين القضيتين، رغم أنهما من ركائز دين النصرانية المحرف.
5/ دراسة تاريخ المجامع النصرانية، ونقض بعضها لبعض، بل تكفير بعضهم لبعض: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا).
ومن تأمل تاريخ هذه المجامع علم أن اختيار هذه الأناجيل الأربعة دون سواها، وتقرير ألوهية المسيح وبنوته، وألوهية الروح المقدس لم يكن لها سند إلا هذه المجامع التي لم يؤخذ فيها حتى برأي الأغلبية؛ وإنما كانت الكلمة لمن وافق الرومان في وثنيتهم وضلالهم، وكان التحريم والعقاب لمن تمسك بالتوحيد.
فقد جاءت الكتب السماوية السابقة مبشرة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبصفاته، ومن هذه الكتب الإنجيل، وفي إنجيل برنابا في الباب الثاني والعشرين: وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعته.اهـ. وكذا في (سفر أشعيا وسفر حبقوق) وراجع كتب ومحاضرات الشيخ أحمد ديدات وكتاب الشيخ عبد المجيد الزنداني (البشارات بمحمد في الكتب السماوية السابقة).
ومن الكتب النافعة في ذلك:
1/ كتاب: إظهار الحق للعلامة رحمة الله الهندي.
2/ اليهودية والنصرانية للدكتور: أحمد شلبي.
3/كتاب: محاضرات في النصرانية للشيخ: محمد أبو زهرة.
4/ كتاب: العقائد الوثنية في الديانة النصرانية: لمحمد طاهر التنير.
5 / إضافة إلى الكتب المتقدمة: كالجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية. وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن قيم الجوزية.
إضافة إلى الاستفادة من بعض المواقع المهتمة بالرد على النصارى، ومنها:
موقع: المسيحية بمنظور إسلامي.(3/48)
وموقع: هداية الحيارى من النصارى.
وموقع: للنصارى فقط.
ويمكنك الدخول إلى هذه المواقع عن طريق:
www.sultan.org
كما يمكنك تحميل كتاب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: شهادة الإنجيل على أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
وكتابه: الرد على أسئلة توني بولدر وجوفاك وتشكيكاته حول القرآن الكريم، والنبي العظيم.
وذلك من خلال موقع الشيخ:
www.salafi.net
في محور كتب ورسائل.
كما يمكنك الاطلاع على الفتاوى التالية في موقعنا: 6828، 9732، 8210.
والله أعلم.
================
من حصل على منحة دراسية بشرط العمل لدى الجهة المانحة ولا يريد العودة لبلده
رقم الفتوى:74608تاريخ الفتوى:24 ربيع الثاني 1427السؤال:
طالب صاحب منحة في بلاد غربية يشترط علي العودة للعمل في بلادي الأصلية لكني أخشى على نفسي الفتنة في بلادي فكلما ذهبت هناك انخفض مستوى إيماني إلى حد أدنى بسبب الجهالات والضعوط التي نعاني منها. كما أنني أجد في هذه البلاد الغربية أحسن الظروف لممارسة ديني والدعوة الى الله.فهل يمكنني العمل بهذه البلاد خوفا على ديني وقد أعود إلى وطني ولا أنفع لا نفسي ولا إخواني علما أن الأمر ليس ماديا تماما إنما هو الخوف على إيماني في بيئة قد تقتله تماما. بارك الله فيكم.
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عليك أن تفي بالشرط الذي اتفقت عليه مع الجهة التي وفرت ظروف الدراسة في الخارج فالمسلمون على شروطهم، فقد روى الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما. صححه الألباني، وقال مالك في الموطأ: ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم، لكن إذا كنت تخشى الفتنة في دينك عندما تذهب إلى بلادك فعليك أن تخبر صاحب المنحة أو الجهة التي اتفقت معها واشترطت عليك الرجوع إلى بلدك، فإن شاء واصلها لك وإن شاء قطعها عنك، وإذا طالبك بما صرف عليك فله الحق في ذلك ما لم يتنازل عنه.
ثم إن الخشية على الدين وعدم استطاعة إظهار شعائره وظهور المنكرات وعدم النهي عنها لا شك أنها من دواعي الهجرة وما يستوجبها، فإذا كنت تخاف على دينك إذا عدت إلى وطنك وكان المكان الذي تقيم فيه تستطيع أن تقيم فيه شعائر دينك وتدعو إليه فلا شك أن الإقامة في غير وطنك أفضل وأسلم، وربما تكون واجبة، فالسلامة في الدين لا بعد لها شيئ وخاصة إذا كان معها إمكان الدعوة إليه بحرية، فالمحافظة على الدين هي أولى الضروريات الخمس، ولهذا فإننا نوصيك بتقوى الله والحذر من مخالطة الفتن المنتشرة في بلاد غير المسلمين والتي يتعرض لها كثير من أبناء المغتربين، ومما يساعدك على القيام بواجبك صحبة الأخيار هناك وإعداد برنامج تتفقه من خلاله في دينك وتحافظ على دعوتك
والله أعلم .
===============
التخوف من إنجاب الأطفال
رقم الفتوى:74633تاريخ الفتوى:24 ربيع الثاني 1427السؤال:
أختكم في الله,
أنا امرأة متزوجة منذ. 3 أ عوام من أروبي مسلم الحمد لله, مشكلتي هو أني أخشى أن أرزق بأطفال لسببين
-هو أن عمري 42 عاما وأعيش في بلد الكفر, وتعلمون أن تربية الأطفال في هذه البلاد ليس سهلا وأخشى أن لا يتبعوا الطريق المستقيم.
- هو أن زوجي عنده عدد قليل من الحيونات المنوية و ليست سريعة ونضطر للجوء لأطفال الأنابيب.زوجي متخوف منtrisomie 21 التي تظهر مع تقدم السن.فهل يجوز هذا التخوف.
أ ما بالنسبة لي,فأنا حائرة جدا ,هل يجوز لي شرعا أن أتخوف .هذا التخوف يجعلني في بعض المرات أرتاح عندما تأتيني الدورة الشهرية.هل أنا آثمة لأن الغيب لا يعلمه إلا الله علام الغيوب.
صليت صلاة الاستخارة وأقول أفوض أمري إلي الله,ولكن هذا التخوف يألمني كثيرا.....لأنني لو فوضت أمري إلى الله ما تخوفت
أفيدوني أفادكم الله
جزاكم الله كل خير.
السلام عليكم
الفتوى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا حرج عليك إن شاء الله في التخوف من الإنجاب إن كان الحال ما ذكرت من كون سبب هذا التخوف ما تخشين على عقيدة وأخلاق الأولاد بالإقامة في بلاد الكفر وإنجاب هؤلاء الأولاد عن طريق التلقيح الاصطناعي فإن الإقامة في بلاد الكفر لا تخلو من مخاطر وكذا التلقيح الاصطناعي وراجع الفتويين:2007، 5995.
ومع هذا، فلا مانع شرعا من إنجاب أطفال عن طريق التلقيح الاصطناعي إن لم يكن هناك سبيل آخر مشروع إن كان هذا التلقيح عن طريق بعض الصور التي أجازها مجمع الفقه الإسلامي، وروعيت الضوابط الشرعي في ذلك، وراجع هذه الصور الجائزة وضوابطها بالفتوى المذكورة آنفا: 5995.
وإذا قدر وجود أطفال فينبغي الاجتهاد وبذل الحيلة في الحفاظ على دينهم وأخلاقهم ومن سبل تحقيق ذلك الهجرة إلى بلد مسلم إن أمكن وتعليم هؤلاء الاولاد وتوجيههم في أمور دينهم.
والله أعلم.
==============(3/49)
الفرار بالدين... أم البقاء مع الزوج في بلاد الكفر
رقم الفتوى:7930تاريخ الفتوى:12 صفر 1422السؤال : أنا امرأة متزوجة ولدي ستة أولاد وأعيش مع زوجي في بلاد الغرب وكلما طلبت من زوجي السماح لي بالعودة إلى بلدي (الجزائر). احتج بعدم إمكانية الاستقرار في الجزائر وعدم توفر السكن. وقد سبق لي أن طلبت من أمي إن كانت موافقة على عيشي عندها مع أولادي فوافقت، وفي المقابل زوجي يأمرني بالبقاء معه حتى يجمع المال الكافي لشراء مسكن . وإنني متيقنة أن الله لن يضيعني إن اخترت الهجرة من بلاد الكفر. إنني في حيرة من أمري، و أخشى إن تصرفت بما يرضي ضميري وهوالهجرة؛ أن أتسبب في ضياع أولادي .
فماذا أفعل؟ هل أبقى معه وأخاطر بأولادي أم أتوكل على الله و أفر بديني؟ .فهل أجد لديكم ما يدفعني للمضي قدما مطمئنة القلب دون خوف أو تردد؟ .أسأل الله ذلك و السلام عليكم و رحمة الله . أختكم في الله.
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن طاعة المرأة زوجها في المعروف واجبة، ومن المعروف ألا يأمرها بمعصية الله، ووعد الله جل وعلا المرأة على هذه الطاعة والصبر عليها بالأجر الجزيل. فقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت". رواه أحمد. وقال صلى الله عليه وسلم: " خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك". ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( الرجال قوامون على النساء...) [النساء:34] رواه الطبري وأبو حاتم. ولاشك أن المرأة لا يجوز لها أن تطاوع زوجها على الإقامة الدائمة في بلاد الكفر من غير ضرورة ملجئة، لأنها معصية عظيمة فقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم" رواه أبو داود والترمذي والنسائي والطبراني. وقال صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال: " لا ترايا ناراهما" رواه أبو داود والترمذي. فإذا كان زوجك لا يعارض الرجوع إلى بلدكم، ولكن يريد أن يهيئ الظروف المناسبة لذلك، فإن طاعتك له في الانتظار لا تعد من باب المعصية، بشرط أن لا تطول مدة الانتظار بحيث يفتن الأولاد، فإن كانت فتنة الأولاد وشيكة وقد ظهرت علاماتها بتأثرهم بمساكنة الكفار، فالواجب هو الخروج بهم فوراً إلى ديار المسلمين. وحاولي إقناع زوجك بذلك، ولتضعوا حداً وزمناً معيناً لا تتجاوزنه. وإذا كانت ظروف بلادكم لا تناسب، فابحثوا عن مكان آخر أقل فتنة حتى تتدبروا أمركم. وإذا كان زوجك صالحاً مستقيماً فخذي الأمر معه برفق، وتفهمي ظروفه، فإن طال الأمر، وغلب على الظن الافتتان أو الخروج، فإن أصر على البقاء فالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أولى بالطاعة. فرتبي لنفسك وأولادك أمر الهجرة من تلك البلاد متوكلة على الله، والله لا يضيع من توكل عليه.
والله أعلم.
=============
حكم الإقامة في الدول الإسلامية المطبقة للقوانين الوضعية
رقم الفتوى:8614تاريخ الفتوى:21 ربيع الأول 1422السؤال : بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فنشكركم على هذه الخدمة التي يستفيد منها الكثير من المشاركيين راجين العلي القدير أن يجعلها في ميزان حسناتكم.
السؤال نحن نعيش في دولة تطبق الدستور أي قوانيين وضعية وضعها أشخاص . ما حكم العيش في هذه الدولة التي لا تطبق الشريعة الاسلامية ؟
الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/50)
فلاشك أن تنحية شريعة الله عن الحكم، وإحلال القوانين الوضعية مكانها من البلاء الذي استشرى في كثير من الدول الإسلامية، فضلاً عن الدول الكافرة - الغربية أو الشرقية - التي لا تحكم شرع الله أصلاً، كما هو معلوم ومعروف لدى الصغير والكبير، ولكن المسلم إذا كان يأمن على نفسه وماله وأهله، ويستطيع إقامة شعائر دينه في بلدة من البلدان، لم تجب عليه الهجرة حينئذ من هذه البلدة، ولو كانت لا تطبق الشريعة الإسلامية، مالم يكن الفساد منتشراً فيها، بحيث يخشى على نفسه وأولاده الوقوع فيه. والأصل في الهجرة أنها - كما قال الإمام ابن قدامة -: الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام. قال تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) الآيات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: "لا تراءا ناراهما" رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ومعناه: لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، وحكم الهجرة باق، لا ينقطع إلى يوم القيامة في قول عامة أهل العلم....). ثم قال: (إذا ثبت هذا، فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: أحدهما: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، أو لا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة، لقول الله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً) [النساء: 97].
وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه، لقول الله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً)، ولا توصف باستحباب لأنها غير مقدور عليها.
والثالث: من تستحب له، ولا تجب عليه، وهو: من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إقامة دينه،وإظهاره في دار الكفر، فتستحب له لتكثير المسلمين، ومعونتهم، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة، وقد كان العباس عمّ النبي صلى الله عليه وسلم مقيماً بمكة مع إسلامه، وروي أن نعيماً النحام، حين أراد أن يهاجر جاء قومه بنو عدي، فقالوا له: أقم عندنا وأنت على دينك، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكفنا ما كنت تكفينا، وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم، فتخلف عن الهجرة مدة، ثم هاجر بعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قومك كانوا خيراً لك من قومي لي، قومي أخرجوني وأرادوا قتلي، وقومك حفظوك ومنعوك"، فقال: يا رسول الله، بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله، وجهاد عدوه، وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله، أو نحو هذا القول). انتهى.
انظر: المغني لابن قدامة (10/513) مع الشرح الكبير.
وعلى هذا، فلا تجب عليك الهجرة إلا إذا كنت لا تتمكن من إقامة شعائر دينك، أو كنت لا تأمن على نفسك وعرضك ومالك، وحيث أمكنك أن تهاجر إلى بلد آخر تتمكن فيه من المحافظة على ذلك.
والله أعلم.
==============
حكم من ركب البحر ومات في ما يسمى (بالهجرة السرية)
رقم الفتوى:9262تاريخ الفتوى:27 ربيع الثاني 1422السؤال: كيف تعتبر وفاة شخص قام بالهجرة السرية من بلاده نحو بلاد أخرى ثم توفي في البحر؟
الفتوى: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الأصل في ركوب المراكب البحرية هو الجواز إذا كانت السلامة غالبة، وكانت وجهة السفر من الوجهات التي أذن الشرع في السفر إليها.
ولا شك أن أيا من الشرطين لا يتوفر الآن فيما يسمى بالهجرة السرية، فلا السلامة غالبة، ولا الوجهة يجوز السفر إليها إلا في نطاق ضيق، فإذا نظرنا إلى ما يحف بهذه الهجرة من المخاطر والتعرض للمطاردات التي قد تنتهي في أحيان كثيرة بغرق هؤلاء المهاجرين، أو بإلقاء القبض عليهم والزج بهم في السجون وغير ذلك من الإهانة، رأينا أنها تتنافى مع ما اتفقت عليه جميع الأديان السماوية من وجوب حفظ النفس، كما أنها تؤدي إلى الاستسلام للكفرة، وإذلال النفس لهم، والمسلم لا يجوز له أن يذل نفسه، وقد أعزه الله تعالى، كما قال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8].
يضاف إلى ذلك أن هذه الهجرة غالباً ما تكون إلى بلاد الكفر، وقد برئ النبي صلى الله عليه وسلم من المسلم الذي يقيم بين أظهر المشركين، كما في سنن أبي داود والترمذي.
والحاصل أن من أقحم نفسه في البحر مهاجراً على نحو ما ذكر، فقد عرض نفسه للتهلكة، وإن مات مات في سفر معصية، وأقل أحواله أن يكون آثماً معرضاً نفسه لما يجب عليه حفظها وصيانتها منه.(3/51)
والله تعالى أعلم.
=============
حكم السفر إلى بلاد الكفار؟ وحكم السفر للسياحة؟
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 3 / ص 10)
(388) وسئل فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: عن حكم السفر إلى بلاد الكفار؟ وحكم السفر للسياحة؟
فأجاب قائلاً: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك.
فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة وفيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار.
أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به.
وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن والحمد لله أصبحت بلاداً سياحية في بعض المناطق فبإمكانه أن يذهب إليها ويقضي زمن إجازته فيها.
================
وسئل أيضاً: عن حكم الإقامة في بلاد الكفار؟
فأجاب فضيلة الشيخ بقوله: الإقامة في بلاد الكفار خطر عظيم على دين المسلم، وأخلاقه، وسلوكه، وآدابه وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فُسّاقاً، وبعضهم رجع مرتدّاً عن دينه وكافراً به وبسائر الأديان ـ والعياذ بالله ـ حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهُوِيّ في تلك المهالك.
فالإقامة في بلاد الكفر لابد فيها من شرطين أساسيين:
الشرط الأول: أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ وأن يكون مضمراً لعداوة الكافرين وبغضهم مبتعداً عن موالاتهم ومحبتهم، فإن موالاتهم ومحبتهم مما ينافي الإيمان قال الله تعالى:(لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم(1) الآية. - وقال تعالى- :(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين(2) وثبت في الصحيح عن النبي، صلى الله عليه وسلم: "أن من أحب قوماً فهو منهم، وأن المرء مع من أحب".
ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي، صلى الله عليه وسلم، "من أحب قوماً فهو منهم".
__________
(1) سورة المجادلة، الآية "22".
(2) سورة المائدة، الآيتان "51-52".
الشرط الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ، قال في المغني ص457 جـ8 في الكلام على أقسام الناس في الهجرة: أحدها من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً(1). وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أ.هـ.
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفر إلى أقسام:
القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه فهذا نوع من الجهاد فهي فرض كفاية على من قدر عليها، بشرط أن تتحقق الدعوة وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الاستجابة إليها، لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين وهي طريقة المرسلين وقد أمر النبي، صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان فقال ـصلى الله عليه وسلم ـ : "بلغوا عني ولو آية".
__________
(1) سورة النساء، الآية "97".(3/52)
القسم الثاني: أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة، وبطلان التعبد، وانحلال الأخلاق، وفوضوية السلوك ليحذر الناس من الاغترار بهم ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضاً لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه، لأن فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. لكن لابد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامته، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وأئمة الإسلام وجب الكف لقوله تعالى:(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون(1)
ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عيناً للمسلمين، ليعرف ما يدبرونه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون، كما أرسل النبي، صلى الله عليه وسلم، حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم.
القسم الثالث: أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دولة الكفر كموظفي السفارات فحكمها حكم ما أقام من أجله. فالملحق الثقافي مثلاً يقيم ليرعى شؤون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندرئ بها شر كبير.
القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفار للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
__________
(1) سورة الأنعام، الآية "108"
القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس ما قبلها إقامة لحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي ذلك إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال. والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط:
الشرط الأول: أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد فأما بعث الأحداث "الصغار السن" وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإن كثيراً من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في ديانتهم، وأخلاقهم، وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.
الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقاً أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل.
وفي الدعاء المأثور "اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي فأضل".
الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم. فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوعة فإذا صادفت محلاً ضعيف المقاومة عملت عملها.
الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيرة لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله لما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق، وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.(3/53)
القسم السادس: أن يقيم للسكن وهذا أخطر مما قبله وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة، وموالاة، وتكثير لسواد الكفار، ويتربى أهله بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلدوهم في العقيدة والتعبد ولذلك جاء في الحديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله". وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله ولم؟ قال لا تراءى نارهما" رواه أبو داود والترمذي وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن أبي حازم عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال الترمذي سمعت محمداً ـ يعني البخاري ـ يقول الصحيح حديث قيس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، مرسل. أ.هـ. وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بإذاًيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم.
هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر نسأل الله أن يكون موافقاً للحق والصواب.
===============
رجل أسلم في دار الحرب هل يبقى فيها
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 3 / ص 17)
(390)سئل فضيلة الشيخ: عن رجل أسلم وأحب الإسلام وأهله ويبغض الشرك وأهله، وبقي في بلد يَكْرَهُ أهلها الإسلام ويحاربونه ويقاتلون المسلمين، ولكنه يشق عليه ترك الوطن فلم يهاجر، فما الحكم؟
فأجاب بقوله: هذا الرجل يحرم عليه بقاؤه في هذا البلد ويجب عليه أن يهاجر فإن لم يفعل فليرتقب قول الله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً(1) فالواجب على هذا إذا كان قادراً على الهجرة أن يهاجر إلى بلد الإسلام، وحينئذ سوف ينسلخ من قلبه محبة البلد التي هاجر منها وسوف يرغب في بلاد الإسلام، أما كونه لا يستطيع مفارقة بلد يحارب الإسلام وأهله لمجرد أنها وطنه الأول فهذا حرام ولا يجوز له البقاء فيها.
ولا يجوز كذلك أن يبدؤوا بالتحية كأهلاً وسهلاً وما أشبهها لأن في ذلك إكراماً لهم وتعظيماً لهم، ولكن إذا قالوا لنا مثل هذا فإننا نقول لهم مثل ما يقولون، لأن الإسلام جاء بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، ومن المعلوم أن المسلمين أعلى مكانة ومرتبة عند الله - عز وجل - فلا ينبغي أن يذلوا أنفسهم لغير المسلمين فيبدؤوهم بالسلام.
إذاً فنقول في خلاصة الجواب: لا يجوز أن يبدأ غير المسلمين بالسلام لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك، ولأن في هذا إذلالاً للمسلم حيث يبدأ بتعظيم غير المسلم، والمسلم أعلى مرتبة عند الله - عز وجل - فلا ينبغي أن يذل نفسه في هذا. أما إذا سلموا علينا فإننا نرد عليهم مثل ما سلموا.
وكذلك أيضاً لا يجوز أن نبدأهم بالتحية مثل أهلاً وسهلاً ومرحباً وما أشبه ذلك لما في ذلك من تعظيمهم فهو كابتداء السلام عليهم.
(391) وسئل: عن حكم مخالطة المسلمين لغيرهم في أعيادهم؟
فأجاب قائلاً:مخالطة غيرالمسلمين في أعيادهم محرمة لما في ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان وقد قال الله تعالى:(وتعاونوا على البروالتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان(2). ولأن هذه الأعياد إن كانت لمناسبات دينية فإن مشاركتهم فيها تقتضي إقرارهم على هذه الديانة والرضاء بما هم عليه من الكفر، وإذا كانت الأعياد لمناسبات غير دينية فإنه لو كانت هذه الأعياد في المسلمين ما أقيمت فكيف وهي في الكفار؟ لذلك قال أهل العلم إنه لا يجوز للمسلمين أن يشاركوا غير المسلمين في أعيادهم، لأن ذلك إقرار ورضا بما هم عليه من الدين الباطل، ثم إنه معاونة على الإثم والعدوان.
واختلف العلماء فيما إذا أهدى إليك أحد من غير المسلمين هدية بمناسبة أعيادهم هل يجوز لك قبولها أو لا يجوز؟فمن العلماء من قال :لا يجوز أن تقبل هديتهم في أعيادهم، لأن ذلك عنوان الرضاء بها، ومنهم من يقول :لا بأس به. وعلى كل حال إذا لم يكن في ذلك محظور شرعي وهو أن يعتقد المهدي إليك أنك راض بما هم عليه فإنه لا بأس بالقبول وإلا فعدم القبول أولى. وهنا يحسن أن نذكر ما قاله ابن القيم - رحمه الله - في كتاب أحكام أهل الذمة 1/205 "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب.. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك" أ.هـ.
==============(3/54)
حكم السلام على غير المسلمين
(392) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم السلام على غير المسلمين؟
فأجاب بقوله: البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" ولكنهم إذا سلموا وجب علينا أن نرد عليهم لعموم قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها((2) وكان اليهود يسلمون على النبي، صلى الله عليه وسلم، فيقولون: "السام عليك يا محمد" والسام بمعنى الموت، يدعون على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالموت. فقال النبي، عليه الصلاة والسلام: "إن اليهود يقولون : السام عليكم فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم". فإذا سلم غير المسلم على المسلم وقال: "السام عليكم" فإننا نقول: "وعليكم". وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "وعليكم" دليل على أنهم إذا كانوا قد قالوا: السلام عليكم فإن عليهم السلام فكما قالوا نقول لهم، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن اليهودي أو النصراني أو غيرهم من غير المسلمين إذا قالوا بلفظ صريح:"السلام عليكم" جاز أن نقول: عليكم السلام.
__________
(1) سورة النساء، الآيتان "97-98".
(2) سورة المائدة، الآية "2"
(2) سورة النساء، الآية "86"
================
ما حكم الهجرة من بلاد المسلمين إلى دولة غربية أو كافرة؟
لقاءات الباب المفتوح - (ج 213 / ص 12)
الجواب: الهجرة بارك الله فيك هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وليس من بلد الإسلام إلى بلد الشرك، اللهم إلا أن يضطهد الإنسان في بلد الإسلام، ويمنع من إقامة شعائر دينه، ويكون في بلد الكفر يستطيع أن يقيم شعائر الدين وأن يدعو إلى الله عز وجل، فهنا انتقاله خير من بقائه، إلا إذا كان انتقاله يسبب ضرراً على الآخرين الملتزمين، يعني لو قلنا: ارتحلوا من هذه البلاد التي يضطهد فيها الملتزم ثم رحلوا واحداً واحداً بقيت البلاد على المفسدين، ففي هذا الحال نقول: اصبر وابق في بلدك وتساعد مع إخوانك في إصلاح الأمور بالتي هي أحسن. حتى أنا أرى ما دام بقاؤه فيه مصلحة للموجودين الإخوة الآخرين الملتزمين فليبق وإن شاء الله سوف يفرج الله له.
=============
فتوى حول الهجرة من فلسطين
يسألونك فتاوى - (ج 2 / ص 93)
يقول السائل : ما رأيكم فيما نقل عن الشيخ ناصر الدين الألباني في فتواه حول دعوته لأهل فلسطين للهجرة ، وما رأيكم فيما نشر من ردود على تلك الفتوى ؟
الجواب : لا شك لدي بأن ما نقل عن الشيخ الألباني-إن صح ذلك عنه-أنه خطأ واضح وأن الشيخ الألباني قد جانب الصواب في هذه الفتوى .
ولا أريد أن أناقش هذه الفتوى لأن الحق فيها واضح ولكني أريد أن أتحدث عن بعض الردود وخاصة أن بعضها قد صدر عمن ينتسبون للعلم الشرعي ولا أعتب على بعض الصحافيين الذين وصفوا الشيخ الألباني بأوصاف لا تليق واستخدموا عبارات مجانبة للحوار والاختلاف البناء ولكني أسفت لما صدر عن بعض المشايخ من تفوهات وألفاظ مؤسفة وصف الشيخ الألباني بها بل أن بعضهم قد جرده من كل مؤهل وأنه يهرف بما لا يعرف وأنه دعي من الأدعياء ونقول لهؤلاء وأولئك : أنى لأي عالم مهما بلغ في العلم أن ينجو من الوقوع في الخطأ ؟ فكل العلماء معرضون للوقوع في الأخطاء وكما يقال لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة ولا عصمة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولله در الإمام مالك إمام جار الهجرة رحمه الله عندما قال :[ كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر ] وأشار بيده إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولو ذهبنا نحصي أخطاء علماء المسلمين لما سلم من ذلك إلا من رحم الله منهم.
إن وقوع أي عالم في خطأ ما مهما كان هذا الخطأ لا يعني أن نجرده من كل علم وأن نصفه بأقبح الأوصاف وأن نلصق به شتى التهم ومختلف النقائص فإن هذا ليس من منهج علماء المسلمين في نقد آراء العلماء لأن النقد العلمي يجب أن يبنى على الحجج والبراهين والأدلة بأسلوب يتضمن الأدب والخلق الرفيع وينطوي على احترام الآخرين فالتهجم والتجريح ليس من شيم علماء المسلمين وكذلك الطعن في المخالفين وتجريدهم من الدين والعلم والفضل والخلق ليس من منهج النقد العلمي البناء .
إن علماء المسلمين لهم احترامهم ولهم مكانتهم في قلوب المسلمين وينبغي التعامل معهم بكل أدب واحترام يليق بهم وإن صدرت عنهم آراء مجانبة للحق والصواب ولا يحق لأحد مهما كان أن يتناول العلماء بلسانه فإن لحوم العلماء مسمومة كما قال الحافظ ابن عساكر في كلمته النيرة التي تستحق أن تكتب بحروف من ذهب :[ اعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب ].
وأود ان أذّكر من لا يعرف الشيخ الألباني وفضله وخدمته الجليلة لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ببعض ذلك فأقول :(3/55)
لا شك أن الشيخ الألباني هو محدث الديار الشامية في القرن الرابع عشر الهجري بلا منازع وأن جهوده الضخمة في خدمة السنة النبوية لا ينكرها إلا مكابر ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل فالشيخ الألباني قام ومنذ سنين طويلة بالعمل على خدمة السنة النبوية وأصدر عشرات المؤلفات التي استفاد منها طلبة العلم الشرعي في الجامعات والمعاهد وفي حلقات العلم في المساجد وأذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر :
1. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ، وهو كتاب ضخم يقع في ثمانية مجلدات خرج فيه أحاديث كتاب منار السبيل من كتب فقه الحنابلة وبلغ عدد أحاديثه أكثر من 2700 حديث .
2. سلسلة الأحاديث الصحيحة وصدر منها إلى الآن خمس مجلدات بلغت أحاديثها 2500 حديث .
3. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة صدر منها إلى الآن أربع مجلدات بلغت أحاديثها 2000 حديث .
4. صحيح الجامع الصغير وزيادته في ثلاثة مجلدات كبيرة مع ضعيف الجامع وبلغت أحاديثه أكثر من أربعة عشر ألف حديث .
5. صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم .
6. أحكام الجنائز .
7. جلباب المرأة المسلمة .
8. تخريج أحاديث الحلال والحرام .
9. الأجوبة النافعة .
هذه بعض مؤلفات الشيخ الألباني وله غيرها كثير .
وفي الختام أدعو المنتسبين للعلم الشرعي أني يراعوا أدب الأسلام في الاختلاف وأن يتبعوا المنهج العلمي في النقد وأن يرتفعوا عن المهاترات وأن يلتزموا بقول الله تعالى :
( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ).
=================
التزام المسلمين بالأحكام الشرعية في بلاد غير المسلمين
يسألونك فتاوى - (ج 2 / ص 303)
يقول السائل : إنه سمع قولاً لأحد العلماء حول التزام المسلم الذي يعيش في بلاد غير المسلمين بالقوانين التي يضعها غير المسلمين وأن على المسلم احترام تلك الأنظمة وإن خالفت الدين الإسلامي مثل منع المرأة المسلمة من ارتداء الجلباب الشرعي فعلى المسلمة أن تطيع ذلك ولا تلبس الجلباب الشرعي فما قولكم في ذلك ؟
الجواب : إن على المسلم الذي يقيم في ديار غير المسلمين أن يفرق بين الأنظمة التي يضعها أهل تلك البلاد والتي لا تتعارض مع أحكام ديننا الإسلامي الحنيف وبين الأنظمة والقوانين التي تعارض أحكام الشرع الثابتة بنصوص صريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو التي اتفق عليها أكثر أهل العلم .
فمثلاً إذا كان نظام السير في دولة غربية يفرض على السائق أن لا يحصل على رخصة السياقة إلا إذا بلغ سناً معيناً وأن على السائق أن يجري فحصاً سنوياً لسمعه وبصره أو نحو ذلك فالمسلم الذي يعيش في تلك البلاد يطيع ذلك النظام ولا بأس عليه .
وأما إذا فرض القانون على المسلم الذي يعيش في ديار غير المسلمين أن لا يصلي أو أن لا يصوم أو فرضوا على المرأة المسلمة ألا تلبس الجلباب الشرعي وأن تخرج سافرة فيحرم على المسلم طاعتهم لأن الطاعة لها حدود لا يجوز تجاوزها فإذ أُمِرَ المسلم بالقيام بمعصية سواء أكان الآمر مسلماً أو غير مسلم حاكماً أو غير حاكم فلا يجوز للمسلم الطاعة في المعصية .
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) رواه البخاري .
وقد نص العلماء على أن الطاعة تكون في غير معصية فقد روى الإمام البخاري الحديث السابق في ( باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية ) صحيح البخاري مع فتح الباري 16/239 .
وقال ابن خواز منداد من كبار فقهاء المالكية :[ وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة ولا تجب فيما كان فيه معصية ] تفسير القرطبي 5/259 .
ومما يدل على أن الطاعة تكون في المعروف ما ثبت في الحديث الصحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال :( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية وأمَّر عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه . فغضب عليهم وقال : أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني ؟
قالوا : بلى . قال : عزمت عليكم لما جمعتم حطباً وأوقدتم ناراً ثم دخلتم فيها . فجمعوا حطباً فأوقدوا ولما هموا بالدخول نظر بعضهم إلى بعض ، فقال بعضهم : إنما تبعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فراراً من النار أفندخلها ؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً إنما الطاعة في المعروف ) رواه البخاري .
وجاء في حديث آخر عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا طاعة لأحد في معصية الخالق ) رواه احمد والبزار وقال الحافظ ابن حجر : وسنده قوي. فتح الباري 5/241 ، وقال الألباني : وإسناده صحيح على شرط مسلم .
وجاء في رواية أخرى :( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وهي رواية صحيحة . راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني 1/137-144 .(3/56)
إذا ثبت هذا فأقول إن على المسلم الذي يعيش في ديار غير المسلمين أن ينظر وأن يقيس الأمور بمقياس الشرع فإذا كان ما ألزم به من أنظمة وقوانين تلك البلاد لا يعد معصية فلا بأس أن يعمل بها وأما إن كان في ذلك معصية ومخالفة واضحة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتحرم عليه الطاعة .
قال الحافظ ابن حجر :( فإذا داهن فعليه الإثم ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض ) فتح الباري 5/241 .
وأوضح الأمر بمثال عملي مما يتعرض له المسلمون في بعض البلاد الغربية فقد ألزمت بعض المؤسسات التعليمية في إحدى الدول الغربية الفتيات المسلمات بخلع الجلباب الشرعي ومنعتهن من الدخول إلى تلك المؤسسات إلا باللباس الذي يظهر العورة ولا يستر البدن .
والسؤال الذي طرح نفسه هو : ما حكم ارتداء المرأة المسلمة للجلباب الشرعي ؟
الجواب : إن اللباس الشرعي الذي يستر ما أمر الله بستره فرض في حق المرأة المسلمة فلا يجوز لها الخروج من البيت إلا إذا سترت ما أمر الله بستره قال تعالى
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) سورة الأحزاب 59 .
وقال تعالى :( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ) سورة النور الآية 31 .
وبناءاً على هذه النصوص الشرعية وغيرها يحرم على المرأة المسلمة أن تخرج من بيتها إلى السوق أو المدرسة أو الجامعة أو المؤسسة التي تعمل فيها إلا وهي ملتزمة باللباس الشرعي الذي أوجبه الله تعالى فإذا ألزمت المرأة المسلمة بنظام أو قانون بأن تخلع اللباس الشرعي فلا يجوز لها أن تطيع من أمرها بذلك لأنه يأمرها بمعصية الله تبارك وتعالى ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .وينبغي التنبيه على أنه لو تعلق الأمر بمسألة خلافية بين فقهاء المسلمين فاخذ الإنسان بالرأي الأخف فلا حرج في ذلك وإن كان فيه موافقة لنظام وقوانين غير المسلمين .
فمثلاً لو منعت امرأة من تغطية وجهها في مؤسسة أو جامعة أو مصنع فالتزمت بذلك فلا حرج عليها إن لم تغط وجهها لأن تغطية الوجه ليس فرضاً متفقاً عليه بين علماء المسلمين فكثير من الفقهاء يرون عدم وجوب تغطية المرأة لوجهها وهذا الرأي معتبر ومستند على أدلة قوية فلو أن المرأة المسلمة أخذت بهذا الرأي فلا حرج عليها إن شاء الله .
============
وصية ابن باز للأقليات الإسلامية
فتاوى ابن باز 1-18 - (ج 2 / ص 351)
ووصيتي لإخواني المسلمين في الأقليات الإسلامية وفي كل مكان ، أن يتقوا الله وأن يتفقهوا في دينهم ، ويسألوا أهل العلم عما أشكل ، وأن يحرصوا على تعلم اللغة العربية ليستعينوا بها على فهم كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأول ذلك الاهتمام بكتاب الله فهما وعملا ، كما جاء في الحديث الصحيح خيركم من تعلم القرآن وعلمه ، ثم قراءة كتب الحديث الموثوقة المعتبرة . وغيرها من كتب الفقه والعقيدة المعتمدة عند أهل السنة والجماعة . وأن يتلقوا كل ذلك على أيدي علماء معروفين بالصلاح والتقوى وحسن العقيدة ، والعلم الصحيح .
وعلى الإخوة العلماء في المجتمعات ذات الأقلية المسلمة أن ينشطوا في مجال الدعوة إلى الله بين إخوانهم وغيرهم ، ولهم الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى .
وهذا العمل من أجل الأعمال وأعظمها كما تقدم في قوله تعالى : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثم بعد ذلك يجب عليهم تبليغ هذا الدين إلى من حولهم من الأمم الأخرى ، لأنه دين الإسلام للناس كافة قال تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا
وهذه المجتمعات بأشد الحاجة إلى هذا الدين ، والداعي إلى الله يحصل له الأجر العظيم إذا كان سببا في هداية هؤلاء وإرشادهم لما خفي عليهم من أمور دين الإسلام كما تقدم في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم
فبهذه الدعوة يدخل في دين الله - دين الإسلام إن شاء- أفواج ويقل عدد الكفار فتصبح الغلبة إن شاء الله تعالى للمسلمين ، وإن لم يتمكن المسلم في تلك البلاد من الدعوة فعليه أن يلتزم بدينه وأن يتخلق بالأخلاق والآداب الإسلامية ، لأنها دعوة بالفعل ، ولأنها محببة لذوي العقول الصحيحة فيتأثر الناس غالبا بهذه الصفات الحميدة ، ولقد دخل الإسلام إلى بعض جنوب شرق آسيا بأخلاق التجار من الأمانة والصدق في المعاملة .(3/57)
ومتى عجز المسلم عن إظهار دينه في بلد إقامته ، بحيث لا يأمن على دينه وعرضه وماله ، فإنه يجب عليه الهجرة إلى بلاد آمنة يستطيع فيها أن يؤدي شعائر دينه بأمن وراحة بال إذا استطاع ذلك ، عملا بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك .
==============
حكم السفر إلى بلاد المشركين
فتاوى ابن باز 1-18 - (ج 9 / ص 244)
س : ما حكم السفر لبلاد المشركين ومرافقة الزوجة لزوجها ؟
ج : نصيحتي لكل مسلم ومسلمة عدم السفر إلى بلاد المشركين لا للدراسة ولا للسياحة لما في ذلك من الخطر العظيم على دينهم وأخلاقهم . وعلى كل واحد من الطلبة والطالبات الاكتفاء بالدراسة ببلده أو في بلد إسلامي يأمن فيه على دينه وأخلاقه ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين وقد أخبر الله سبحانه عمن لم يهاجر من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام بأنه قد ظلم نفسه ، وتوعده بعذاب جهنم في قوله سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا فأخبر سبحانه في هذه الآية أن الملائكة تقول لمن توفي من المسلمين في بلاد الشرك ولم يهاجروا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ بعدما أخبر سبحانه أنهم قد ظلموا أنفسهم بإقامتهم بين الكفار وهم قادرون على الهجرة ، فدل ذلك على تحريم السفر إلى بلاد المشركين ، وعلى تحريم الإقامة بين ظهرانيهم لمن استطاع الهجرة .
ويستثنى من ذلك عند أهل العلم من سافر للدعوة إلى الله من أهل العلم والبصيرة ، وهو قادر على إظهار دينه ، آمن من الوقوع فيما هم عليه من الشرك والمعاصي . فهذا لا حرج عليه في السفر إلى بلاد المشركين للدعوة والتوجيه وإبلاغ رسالة الله إلى عباده بالشروط المذكورة ، والله ولي التوفيق .
إجابة عن سؤال وجهه إلى سماحته مندوب من صحيفة المسلمون في 10/11/1416هـ
===============
لا تجوز الإقامة في بلد يظهر فيه الشرك والكفر إلا للدعوة إلى الله
فتاوى ابن باز 1-18 - (ج 9 / ص 316)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الأخ المكرم ن . م وفقه الله لما فيه رضاه وزاده من العلم والإيمان آمين .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فإشارة إلى رسالتك التي تذكر فيها أنك شاب مسلم تقيم في إيطاليا ، وأن بها شبابا من المسلمين كثيرين ، وأن أغلبهم استجاب لرغبة الصليبيين في إبعادهم عن دين الإسلام وتعاليمه السامية ، فأصبح أغلبهم لا يصلي ، وتخلق بأخلاق سيئة ، ويعمل المنكرات ويستبيحها . . إلى غير ذلك مما ذكرته في رسالتك .
وأفيدك بأن الإقامة في بلد يظهر فيها الشرك والكفر ، ودين النصارى وغيرهم من الكفرة لا تجوز ، سواء كانت الإقامة بينهم للعمل أو للتجارة أو للدراسة ، أو غير ذلك؛ لقول الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ولقول النبي صلى الله عليه وسلم ك أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين
وهذه الإقامة لا تصدر عن قلب عرف حقيقة الإسلام والإيمان ، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين ، ورضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا .
فإن الرضا بذلك يتضمن من محبة الله ، وإيثار مرضاته ، والغيرة لدينه ، والانحياز إلى أوليائه ما يوجب البراءة التامة والتباعد كل التباعد من الكفرة وبلادهم ، بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة ، لا يجتمع مع هذه المنكرات ، وصح عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال : تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين أخرجه أبو عبد الرحمن النسائي وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث السابق ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين وقال عليه الصلاة والسلام : لا يقبل الله عز وجل من مشرك عملا بعدما أسلم؛ أو يفارق المشركين والمعنى حتى يفارق المشركين .(3/58)
وقد صرح أهل العلم بالنهي عن ذلك ، والتحذير منه ، ووجوب الهجرة مع القدرة ، اللهم إلا رجل عنده علم وبصيرة ، فيذهب إلى هناك للدعوة إلى الله ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وشرح محاسن الإسلام لهم ، وقد دلت آية سورة براءة : قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ على أن قصد أحد الأغراض الدنيوية ليس بعذر شرعي ، بل فاعله فاسق متوعد بعدم الهداية إذا كانت هذه الأمور أو بعضها أحب إليه من الله ورسوله ، ومن الجهاد في سبيل الله . وأي خير يبقى مع مشاهدة الشرك وغيره من المنكرات والسكوت عليها ، بل وفعلها ، كما حصل ذلك من بعض من ذكرت من المنتسبين للإسلام .
وإن زعم المقيم من المسلمين بينهم أن له أغراضا من الأغراض الدنيوية ، كالدراسة ، أو التجارة ، أو التكسب ، فذلك لا يزيده إلا مقتا . وقد جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى الوعيد الشديد والتهديد الأكيد على مجرد ترك الهجرة ، كما في آيات سورة النساء المتقدم ذكرها ، وهي قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآيات 97 وما بعدها . فكيف بمن يسافر إلى بلاد الكفرة ، ويرضى الإقامة في بلادهم ، وكما سبق أن ذكرت أن العلماء رحمهم الله تعالى حرموا الإقامة والقدوم إلى بلاد يعجز فيها المسلم عن إظهار دينه ، والمقيم للدراسة أو للتجارة أو للتكسب ، والمستوطن ، حكمهم وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق ، إذا كانوا لا يستطيعون إظهار دينهم ، وهم يقدرون على الهجرة .
وأما دعوى بغضهم وكراهتهم مع الإقامة في ديارهم فذلك لا يكفي ، وإنما حرم السفر والإقامة فيها لوجوه ، منها :
1- أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة متعذر وغير حاصل .
2- نصوص العلماء رحمهم الله تعالى ، وظاهر كلامهم وصريح إشاراتهم أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه ، ويستطيع المدافعة عنه ، ويدفع شبه الكافرين ، لا يباح له السفر إليهم .
3- من شروط السفر إلى بلادهم : أمن الفتنة بقهرهم وسلطانهم وشبهاتهم وزخرفتهم ، وأمن التشبه بهم والتأثر بفعلهم .
4- أن سد الذرائع وقطع الوسائل الموصلة إلى الشرك من أكبر أصول الدين وقواعده؛ ولا شك أنما ذكرته في رسالتك مما يصدر عن الشباب المسلمين الذين استوطنوا هذه البلاد هو من ثمرات بقائهم في بلاد الكفر ، والواجب عليهم الثبات على دينهم والعمل به ، وإظهاره ، واتباع أوامره ، والبعد عن نواهيه ، والدعوة إليه ، حتى يستطيعوا الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام .
والله المسئول أن يصلح أحوالكم جميعا ، وأن يمنحكم الفقه في دينه والثبات عليه ، وأن يعينكم على الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وأن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لكل ما يحبه ويرضاه ، وأن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من مضلات الفتن ومن نزغات الشيطان ، وأن يعيننا جميعا على كل خير ، وأن ينصر دينه ، ويعلي كلمته ، وأن يصلح ولاة أمور المسلمين ويمنحهم الفقه في دينه ، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في بلادهم ، والتحاكم إليها ، والرضا بها ، والحذر مما يخالفها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
===============
ما حكم الهجرة؟.
فتاوى الزحيلي - (ج 2 / ص 343)
الهجرة من الديار الإسلامية لبلاد غير إسلامية حرام ، إلا لضرورة أو حاجة كالتعلم والتجارة أو الارتزاق لمدة مؤقتة ، ونشر الدعوة الإسلامية. أما الهجرة لبلد إسلامي أو عربي فهي جائزة لا إشكال فيها.
==============
ما حكم الهجرة إلى كندا؟
فتاوى الزحيلي - (ج 2 / ص 269)
الهجرة إلى أي بلد غير مسلم بقصد الاستيطان الدائم حرام ، فإن كان القصد التعليم مثلاً أو إمضاء فترة في التجارة أو غيرها مثلاً فلا مانع بقدر تحقيق الغاية ، هذا مع العلم بأن المهاجرين إلى كندا سرعان ما يرجعون لبلادهم ، لأن ظروف العمل في كندا غير متوافرة في الواقع ، وقد رجع الكثيرون ، ولا ينخدع أحد بتلك الهجرة.
============
حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 3 / ص 424)
المجيب د. خالد بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ 6/5/1422
السؤال
ما حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم الذي يأتي للبلاد الأوروبية فارّاً بدينه من الظلم الذي وقع عليه في بلده الأصلي، وفقد فيه هويته، وفقد أمل الرجوع إلى وطنه ، وجزاكم الله خيراً .
الجواب
ج : للجواب على هذا السؤال يلزم بيان أمرين :
الأول : كون الإقامة في بلد الكفار جائزة .
الثاني : قيام الحاجة إلى أخذ الجنسية .(3/59)
تفصيل الأمر الأول: الإقامة في بلاد الكفار لا تجوز إلا بالشروط الآتية :
1- وجود الحاجة الشرعية المقتضية للإقامة في بلادهم ولا يمكن سدّها في بلاد المسلمين ، مثل التجارة ، والدعوة ، أو التمثيل الرسمي لبلد مسلم ، أو طلب علم غير متوفر مثله في بلد مسلم من حيث الوجود، أو الجودة والإتقان ، أوالخوف على النفس من القتل أو السجن أو التعذيب ، وليس مجرد الإيذاء والمضايقة ، أو الخوف على الأهل والولد من ذلك، أو الخوف على المال .
2- أن تكون الإقامة مؤقتة ، لا مؤبّدة ، بل ولا يجوز له أن يعقد النية على التأبيد ، وإنما يعقدها على التأقيت؛ لأن التأبيد يعني كونها هجرة من دار الإسلام إلى دار الكفر، وهذا مناقضة صريحة لحكم الشرع في إيجاب الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام .
ويحصل التأقيت بأن ينوي أنه متى زالت الحاجة إلى الإقامة في بلد الكفار قطع الإقامة وانتقل .
3- أن يكون بلد الكفار الذي يريد الإقامة فيه دار عهد ، لا دار حرب ، وإلا لم يجز الإقامة فيه .
ويكون دار حرب إذا كان أهله يحاربون المسلمين .
4- توفر الحرية الدينية في بلد الكفار، والتي يستطيع المسلم بسببها إقامة شعائر دينه الظاهرة .
5- تمكنه من تعلم شرائع الإسلام في ذلك البلد . فإن عسر عليه لم تجز له الإقامة فيه لاقتضائها الإعراض عن تعلم دين الله .
6- أن يغلب ظنه بقدرته على المحافظة على دينه، ودين أهله وولده . وإلا لم يجز له؛ لأن حفظ الدين أولى من حفظ النفس والمال والأهل .
فمن توفرت فيه هذه الشروط -وما أعسر توفرها- جاز له أن يقيم في بلاد الكفار ، وإلا حرم عليه؛ للنصوص الصريحة الواضحة التي تحرم الإقامة فيها، وتوجب الهجرة منها ، وهي معلومة ، وللخطورة العظيمة الغالبة على الدين والخلق ، والتي لا ينكرها إلا مكابر .
ثانياً : تحقق الحاجة الشرعية لأخذ الجنسية ، وهي أن تتوقف المصالح التي من أجلها أقام المسلم في دار الكفار على استخراج الجنسية ، وإلا لم يجز له ، لما في استخراجها من تولى الكفار ظاهراً ، وما يلزم بسببها من النطق ظاهراً بما لا يجوز اعتقاده ولا التزامه، كالرضا بالكفر أو بالقانون ، ولأن استخراجها ذريعة إلى تأبيد الإقامة في بلاد الكفار وهو أمر غير جائز - كما سبق -
فمتى تحقق هذان الأمران فإني أرجو أن يغفر الله للمسلم المقيم في بلاد الكفار ما أقدم عليه من هذا الخطر العظيم ، وذلك لأنه إما مضطر للإقامة والضرورة تتيح المحظورة ، وإما للمصلحة الراجحة على المفسدة ، والله أعلم .
==============
الإقامة في بلد الكفار
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 3 / ص 461)
المجيب خالد بن عبد الله البشر
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
العقائد والمذاهب الفكرية/الولاء والبراء
التاريخ 29/08/1425هـ
السؤال
فضيلة الشيخ سلمه الله: أود من فضيلتكم الإجابة عن السؤال التالي: عرض علي العمل وفتح مكتب لإعانة المسلمين؛ للهجرة إلى دولة غربية، والقضية تشمل التالي:
أولاً:منهم المضطر وغير المضطر للهجرة.
ثانياً: المتدين دينياً، وغير المتدين.
ثالثاً: ومنهم من يريد مخرجاً لنفسه وأولاده من المعاناة، وليس قصده الهجرة بحد ذاتها والحصول على أوراق تسهل عليه المعيشة.
رابعًا: هل ينطبق عليهم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "أنا بريء ممن أقام بين ظهراني الكفار؟".
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
الهجرة في الإسلام : هي الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام. وكل دار يحكمها الكفار، وتجري فيها أحكام الكفر فهي دار كفر. ودار الإسلام: هي كل بلاد يحكمها المسلمون، وتجري فيها أحكام الإسلام.ومن الخطأ أن يُسمى الانتقال من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر هجرة؛ لأن الانتقال إلى بلاد الكفر معصية وكبيرة من كبائر الذنوب وصاحبها متوعد من الله.قال تعالى : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " [سورة النساء 97-98].وتبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- ممن يقيم بين الكفار كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (2645)، والترمذي (1604) وغيرهما بإسناد حسن، قال عليه الصلاة والسلام : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ".وقال عليه الصلاة والسلام : " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ". أخرجه أبو داود(2787) من حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه-. وقال عليه الصلاة والسلام : " لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا ". أخرجه الحاكم في المستدرك (2627) من حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال الذهبي: صحيح على شرط البخاري.(3/60)
والهجرة من بلاد الكفر باقية إلى قيام الساعة وواجبة على كل مسلم في بلاد الكفر، وطاعة وقربة إلى الله -عز وجل- ويثاب فاعلها. قال عليه الصلاة والسلام : "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " أخرجه أبو داود (2479) من حديث معاوية -رضي الله عنه-. وقال عليه الصلاة والسلام : "لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يُقاتل". أخرجه أحمد (1674) من حديث عبد الله بن السعدي -رضي الله عنه- بإسناد حسن. فالأصل أن الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام واجبة على كل مسلم ومسلمة، ويستثنى من هذا المستضعفون الذين لا يستطيعون أن يهاجروا من بلاد الكفر، ولا يجدون السبيل إلى ذلك، كذلك لا يجوز السفر إلى بلاد الكفر إلا لحاجة لا تُقضى في بلاد الإسلام؛ كالعلاج والتجارة وطلب العلم والدعوة إلى الله، ونحوها من الحاجات التي لا يمكن تحصيلها في بلاد الإسلام، ويكون السفر قدر الحاجة، فإذا انتهت حاجته رجع إلى بلاد الإسلام.
كما لا يجوز إعانة أحد من المسلمين في الذهاب إلى بلاد الكفر واستيطانها من غير حاجة كما سبق بيانه.والإسلام يُحرّم السفر إلى بلاد الكفر واستيطانها؛ لما يترتب عليه من عواقب وخيمة، ونتائج خطيرة على دين المسلم وعلى أخلاقه، وعلى أهله وذريته الذين ينشؤن في بلاد الكفر، كما أن اتساع بلاد الإسلام فيه غنية لمن أراد من المسلمين الانتقال من بلاده الإسلامية، ولا يستطيع البقاء في بلاده، وعلى من اضطر إلى الانتقال عن بلاده البحث عن بلاد إسلامية أخرى، تتيسر فيها أسباب معيشته، ويأمن فيها على دينه، وأن يحتسب الأجر من الله في ذلك، ومن ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه. ونسأل الله أن يمنَّ علينا وعليكم بنعمه وفضله، وأن يغنينا وإياكم بحلاله عن حرامه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن تبعهم بإحسان.
============
ديار الكفر وديار الإسلام
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 5 / ص 7)
المجيب أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ 16/12/1423هـ
السؤال
الإخوة الأحبة في الموقع؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فسؤالي عن تحديد ديار الكفر وديار الإسلام، وهل الديار التي غالبية شعبها مسلمون ولكن تحكمها الأنظمة الكافرة أو التي لا تطبق شرع الله وكانت سابقا من ديار المسلمين هل تعتبر بهذه الصفة ديار كفر أم ديار إسلام؟ وهل يجوز السفر إليها للسياحة مع تجنب الذهاب إلى مواطن المنكرات فيها؟ وهل تجب الهجرة منها لمن هو قادر على ذلك؟ والسلام عليكم
أرجو الإجابة في أقرب وقت.
الجواب
بلاد الإسلام هي: البلاد التي يحكمها المسلمون وتجري فيها الأحكام الإسلامية ويكون النفوذ فيها للمسلمين ولو كان أغلب السكان كفاراً أو يهوداً أو نصارى أو وثنيين، وبلاد الكفر عكس هذا تماماً، وقد تكون دار الكفر للكفار الحربيين أو داراً للكفار المهادنين والمعاهدين ويكفر الحاكم إذا حكم بغير ما أنزل الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة زعماً منه بأن حكم غير الله أفضل من حكمه أو مساوياً له. أما إذا حكم بغير شرع الله وهو يعلم أن حكم الله هو الذي لا يصلح للبشر غيره ولكنه حكم بخلافه نتيجة شهوة مادية أو مجبراً من هو أقوى منه ويهدده إن حكم بشرع الله وهو ممن إذا قال فعل - فهذا الحاكم حينئذ لا يكفر كفراً ينقله من الملة ولكنه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب عليه المبادرة للتوبة منها عسى الله أن يتوب عليه.
والهجرة الشرعية من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لا تجب شرعاً إلا إذا عجز المرء عن إظهار شعائر دينه الاعتقادية والتعبدية وإظهار الدين ضد إخفائه فالمظهر لدينه هو الذي يتمكن من إعلانه ولا يضطهد من أجل ذلك. والعاجز عن إظهار ذلك هو العاجز شرعاً، وشعائر الاعتقاد والتعبد مجتمعة في أركان الإسلام والإيمان والإحسان أما الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس وجوده أو عدمه شرطاً في الهجرة والإقامة اللهم إلاّ الإنكار بالقلب. وإذا نظرنا في واقع أكثر بلاد الكفر في الشرق والغرب وجدنا المسلم - في الغالب - يستطيع إظهار دينه ومعتقده وذلك لوجود الحرية الشخصية فيها، وإن حصل تقصير من المسلمين المقيمين بين الكفار فلكثرة الشر هناك ولضعف الإيمان عند بعض أولئك المسلمين لا غير، وقوة الإيمان أو ضعفه ليست شرطاً في الهجرة.
أما البلاد التي كانت سابقاً من بلاد المسلمين كبلاد الأندلس - أسبانيا والبرتغال حالياً، فتعتبر الآن بلاد كفر. أما السفر لغرض السياحة إلى هذه البلاد وغيرها الأصل فيه أنه مباح إذا اجتنبت فيها المنكرات ودواعيها. وأنصح بعدم السفر للسياحة في بلاد الكفار خاصة بالأطفال والنساء لغير ضرورة. وفق الله الجميع إلى كل خير آمين.
================
إعانة المهاجرين على إقامة غير نظامية في أوربا
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 7 / ص 442)
المجيب سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(3/61)
الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ 3/1/1425هـ
السؤال
ما حكم من يساعد بعض المهاجرين الذين ليس لهم إقامة قانونية في بلاد أوروبا وغيرها في جوازات سفر قصد مساعدتهم على الإقامة؟ علما أن هذه المساعدة مخالفة لقانون البلد. وأين يمكن تصنيف هذا العمل؟ في المباحات، أو المحرمات، أو المتشابهات. وإذا كان في المحرمات، فما حكم الأموال التي أخذت من هذا العمل من قبل؟ ماذا يعمل بها صاحبها؟ أفيدونا جزاكم الله كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإذا كانت هذه الإعانةُ تخالف نظام البلد فهي لا تجوز؛ لأن الله قال: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)، (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً)، وأنت إنما أذن لك أولئك الكفار بالإقامة في ديارهم بشرط الالتزام بنظامهم، فيلزمك ما ألزموك إلا إذا كان يخالف شريعة الله، فإما أن تلتزم بها، وإما أن ترجع إلى ديارك.
وعلى هذا فالتكسب بهذا العمل القبيح حرام، ولا يليق أن يكون من خلق المسلم.
كما أن في هذا إعانةً للمسلم على الهجرة إلى بلاد الكفر، وتعريضاً له للفتنة في الدين، ولا شك أن حفظ الدين أولى من طلب المال والغنى.
فأخشى أن تكون بعملك هذا قد أعنت أخاك المسلم على التعرض للبلاء والفتنة في دينه.
وأما ما اكتسبته من الأموال من هذا الوجه من قبل فإن كنت جاهلاً حرمة ذلك فأرجو أن يعفو الله عنها، كما قال -سبحانه-: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
==============
الهجرة إلى بلد غير مسلم
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 8 / ص 83)
المجيب د. عبد الله بن المحفوظ بن بيه
وزير العدل في موريتانيا سابقاً
التصنيف الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ 5/4/1424هـ
السؤال
في كل يوم يشتد الظلم في العالم العربي من قبل الحكومات، فهل يجوز للمسلم أن يهاجر إلى بلد آخر يتوفر فيه العدل بين الناس؟ مع العلم بأن غالبية سكان هذا البلد من غير المسلمين.
الجواب
الأصل ألا يترك الإنسان بلداً إسلامياً، من أجل ظلم لا يتعلق بالدين، أو من أجل ظلم غير كبير جداً، لكن إذا كان الإنسان يخاف على نفسه أو دينه أو ماله؛ فلينتقل إلى بلد، ولو كان هذا البلد غير إسلامي، بشرط أن يكون قادراً على إقامة شعائر دينه، وبذلك ينطبق عليه الحديث الذي ذكره ابن حبان في صحيحه (4861) وهو حديث فديك - رضي الله عنه - وكان قد أسلم، وأراد أن يهاجر فطلب منه قومه وهم كفار أن يبقى معهم، واشترطوا له أنهم لن يتعرضوا لدينه، ففر فديك بعد ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر، هلَكَ فقال النبي - عليه الصلاة والسلام - حسب الحديث الذي يرويه ابن حبان: "يا فديك أقم الصلاة، وآت الزكاة واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت"، وظن الراوي أنه قال: "تكن مهاجراً".
إذاً يجب أن نعي هذه الألفاظ كاملة: (أقم الصلاة)، فمن يريد أن يقيم في دار الكفر فعليه أن يجعل من هذا الحديث دستوراً لحياته.
"أقم الصلاة واهجر السوء"، اترك الأعمال السيئة، لا ترتكب الفواحش، ولا تشرب خمراً، وأقم من دار قومك حيث شئت، وحديث ابن حبان رجاله ثقات، والحديث الذي يرويه الإمام أحمد في مسنده (1420) وفيه: "البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، وحيثما أصبت خيراً فأقم"، فهذا الحديث أصل في الإقامة في بلاد الكفر لمن يستطيع أن يظهر شعائره، وبصفة عامة فإن ثلاثة من المذاهب تميل إلى جواز هذه الإقامة، وهي: الشافعية، والحنابلة والأحناف، مع خلاف داخل هذه المذاهب، أما مالك - رحمه الله تعالى - والظاهرية فهؤلاء لا يجيزون الإقامة في دار الكفر، ويعملون بأحاديث أخرى منها: "لا تراءى ناراهما"، رواه أبو داود (2645)، والترمذي (1604)، والنسائي (4780) من حديث جرير بن عبد الله مع اختلاف في صحة هذه الأحاديث، وفي تأويلها أيضاً.
فحاصل الجواب: أنه إذا كان في بلاد العرب أو بلاد الإسلام يلقى عنتاً وظلماً فإنه يجوز له أن يقيم في ديار غير المسلمين، بشرط أن يكون قادراً على إقامة شعائره، ولعلنا أن نضيف شرطاً آخر، هو: أن يستطيع أن يربي أولاده تربية إسلامية.
===============
الإقامة في بلاد الكفر لتحصيل الجنسية
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 8 / ص 85)
المجيب د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
عضو البحث العلمي بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ 17/7/1424هـ
السؤال
السلام عليكم, أنا شاب حديث الزواج أعيش في كندا، وزوجتي تعمل في بلدي الأصل، وأدرس في الوقت الراهن، حيث سأنهي دراستي في العام القادم إن شاء الله، لكن أمامي عرض أخذ الجنسية الكندية إذا ما بقيت عاما آخر هنا, هل أعود إلى زوجتي، أم أصبر لأخذ الجنسية من أجل الحصانة في بلادي?.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(3/62)
إذا كان حصولك على الجنسية الكندية لا يتضمن محذوراً شرعياً، ولا التزاماً يخل بأمر دينك حاضراً ومستقبلاً، وفيه مصلحة لك، فلا حرج أن تبقى عاماً إضافياً، ملتزماً بتقوى الله ما استطعت، ويمكنك زيارة أهلك أو دعوتهم للحضور إليك، ولو لمدة محدودة. وفقك الله.
==============
التجنس بجنسية الدولة الكافرة
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 8 / ص 86)
المجيب خالد بن عبد الله البشر
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ 06/02/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله.
ما حكم الاشتراك في منافسة اللوتري(lottery) الأمريكية للحصول على الهجرة والدراسة هناك، وما حكم التجنس الأمريكية؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
في هذا السؤال ثلاث مسائل:
المسألة الأولى : حكم التجنس بجنسية دولة كافرة.
المسألة الثانية : حكم الهجرة إلى بلاد الكفر.
المسألة الثالثة : حكم الاشتراك بمسابقة اللوتيري [lottery].
أما المسألة الأولى : حكم التجنس بجنسية دولة كافرة.
الجنسية عقد بين الدولة (صاحبة الجنسية) والفرد (طالب الجنسية)، وفي حقيقتها دخول الفرد تحت ولاية الدولة، وقد حرّم الله عز وجل الدخول في ولاية الكفر فقال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [المائدة:51].
وينتج عن هذه الجنسية حقوق وواجبات، ومن هذه الواجبات التحاكم إلى قانون الدولة المخالف للإسلام، وهو محرم؛ قال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً"[النساء:65]، وأن يدافع عن الدولة ولو كانت في حرب ضد دولة إسلامية وهو محرم؛ قال صلى الله عليه وسلم : "من حمل علينا السلاح فليس منا" أخرجه البخاري (7070) ومسلم (98). كما أن هذه الواجبات تمنح الفرد حق الإقامة الدائمة في الدولة الكافرة مع أن أصل إقامة المسلم في بلاد الكفر حرام قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" أخرجه أبو دادو (2645)، والترمذي (1604) بسند صحيح. وكذلك دخول أبنائه مدارسهم التي يُدرَّس فيها دين النصرانية، وما يتبع ذلك من الانحلال الأخلاقي بشتى صوره.
وبناء على ما سبق فإن الأصل العام في المسألة أنه: يحرم على المسلم أن يتجنس بجنسية دولة كافرة.
وأما حالات الضرورة في التجنس: فإن المفتي ينظر كل حالة على حده؛ ليتحدد الضرورة من عدمها، فإن من المسلمين من يدّعي الضرورة في التجنس؛ ولا ضرورة؛ بل هو من قبيل الحصول على الامتيازات الدنيوية.
وحيث إن السائل من بلد عربي مسلم، يأمن أهله المسلمون على دينهم ودمائهم وأعراضهم وأموال، فإنه يحرم عليك التجنس بالجنسية الأمريكية.
المسألة الثانية : حكم الهجرة إلى بلاد الكفر.
فمن الخطأ تسمية الانتقال إلى بلد الكفر هجرة؛ لأن الهجرة في الإسلام هي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، بل الانتقال إلى بلد الكفر معصية وكبيرة من كبائر الذنوب، وقد فصلتُ في هذا المسألة في جواب سابق من خلال هذا الموقع .
(الإقامة في بلد الكفار)
المسألة الثالثة : حكم الاشتراك بمسابقة اللوتيري [lottery].
مسابقة اللوتيري [lottery]: عبارة عن لعبة تُبَاع فيها تذاكر مرقمة؛ مقابل ربح جوائز للذين تُختار أرقامهم، على أساس عشوائي.
وهذا ما يسمى باليانصيب، وهو القمار المحرم الذي سماه الله في كتابه بالميسر فقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون"[المائدة 90-91].
والله أعلم.
===============
الهجرة إلى بلد مسلم
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 8 / ص 93)
المجيب د. عبد الله بن المحفوظ بن بيه
وزير العدل في موريتانيا سابقاً
التصنيف الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ 05/08/1425هـ
السؤال
نريد أن نهاجر لدولة مسلمة،كيف نستطيع الخروج من بلد كافر إلى بلد مسلم، والبلد المسلم لا يقبل بنا، والأسوأ أنهم يفضلون الكفار في العمل لديهم، مع أن لدينا شهادات أفضل من الكفار، نريد أن نتوقف عن دفع الضرائب لهم، فهم يستخدمون هذه الأموال لضرب المسلمين، وتبقى معهم في بلدهم، في نفس الوقت نريد من يقف معنا في هذه الشدائد ويساعدنا في التوجه لبلد مسلم، ونهاجر في سبيل الله.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هذا السؤال ذو شعب مختلفة:(3/63)
أولاً: السائل يسأل عن كيفية الخروج من بلد غير مسلم إلى بلد مسلم، وهذه الكيفية كما هو معروف تحكمها أنظمة وقوانين وأعراف تخضع لتأشيرة، وتخضع لطلب عمل، وتخضع لأشياء قد لا يكون موقعنا هذا (موقع الإسلام اليوم)، قادرًا على توفيرها لكل مسلم يريد أن يخرج من بلد كفر إلى بلد إسلام؛ لأن الدول الإسلامية لها أنظمتها ولها جهات مختصة بهذا.
الأمر الآخر هو: أن السائل يقول: إنه لا يريد أن يقيم في دار الكفر، وهذا شعور طيب، لكن مع ذلك نقول له: ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)]البقرة:من الآية286[. وإذا كان يستطيع إقامة شعائره، ويستطيع أن يعبد الله سبحانه وتعالى، في هذه الديار - ديار الكفر- فلا يجب عليه أن يخرج منها؛ لحديث فديك، رضي الله عنه، وهو حديث رواه ابن حبان (4861) ورجاله ثقات، وفيه يقول عليه الصلاة والسلام: "يا فُدَيْكُ أَقِمْ الصَّلاةَ،واهْجُرِ السُّوءَ، واسْكُنْ مِن أرضِ قَوْمِكَ حَيْثُ شِئْتَ". وظن الراوي أنه قال: "تَكُنْ مُهَاجِرًا". وكانت قبيلة فديك كافرةً، وكان يسكن معهم، وكان يسأل ويستفتي عن الهجرة، لهذا بنى ثلاثة من الأئمة، وفي أغلب المذاهب الثلاثة مذهب الشافعي والحنبلي والحنفي بأن الخروج إذا كان الإنسان قادرًا على إقامة شعائره ليس واجبًا، وأن الهجرة ليست واجبة، ورأى مالك - رحمه الله تعالى- وأهل الظاهر وجوبها، فالمسألة فيها سعة، و ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا). فإذا استطاع أن يذهب إلى بلد مسلم يقيم الدين، فهذا شيء حسن، لكن إذا لم يستطع ذلك - أيضًا- فليعلم أنه في سعة من أمره، ويرى بعض العلماء كالماوردي والشافعية أنه إذا كان يستطيع أن يؤدي شعائر دينه فلا يجوز له الخروج أصلاً، بل يجب البقاء في ذلك البلد؛ لأن البلد بخروجه ستخلو من المسلمين، أي لا يبقى فيها مسلم، والمسألة فيها سعة، ونسأل الله أن يوفقنا ويوفقه، ويوفق ديار المسلمين على أن تستقبل أبناء المسلمين بدلاً من أن تستقبل غيرهم، وأن تستعملهم بدلاً من استعمال غيرهم، وبخاصة إذا كانوا يتمتعون بالكفاءات التي أشار إليها السائل.
أما قضية أنه يدفع الضرائب لهم، فهذا عليه أن يدفع ضرائبه لحماية نفسه وحماية ممتلكاته، وهذا أمر لا بأس به- إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
================
هل هذا يوجب الهجرة من بلدي؟!
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 16 / ص 177)
المجيب د. محمد بن عبد العزيز المبارك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/الجديد
التاريخ 23/12/1426هـ
السؤال
أنا طالب في جامعة مختلطة أريد أن أقطع دراستي، وأريد الهجرة للسعودية للدراسة، علماً بأنه لا توجد جامعة غير مختلطة في بلدي، فهل هذا يكفي للهجرة؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. وبعد:
فإنما تجب الهجرة على من لم يستطع أن يقيم شعائر دينه، ولا يأمن على نفسه الوقوع في الفتنة، واعلم أخي الكريم أنه من الغفلة عن حقائق الأمور بمكان أن يظن أحد أنه سيعيش في الدنيا بدون منغصات، قال الله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في كبد" [البلد:4]، وقال تعالى: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" [البقرة:155-157]. وقال تعالى: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" [العنكبوت:2].
وجاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي (2398) عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة".
وجاء في حديث آخر أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (24/245) عن أخت حذيفة بن اليمان فاطمة أو خولة -رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل".
وإن أسعد الناس حالاً في هذه الدنيا من آمن بالله تعالى وصدق رسوله -صلى الله عليه وسلم- واهتدى بشرعه، وكان آمناً معافى عنده قوت يومه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا " أخرجه الترمذي (2346)، وغيره.
فإذا كنت تستطيع أداء الشعائر الدينية من صلاة وزكاة وصوم وغيرها في مكانك الذي أنت فيه، ولا ترتكب محرمات فلا يجب عليك أن تهاجر من مكانك، بل أرجو أن يكون بقاؤك مع الصبر والنصيحة أولى وأفضل، أما إذا كنت مجبراً على الامتناع عن واجباتك، أو مجبراً على ارتكاب المحرمات ولا تستطيع مقاومة ذلك وتستطيع الهجرة إلى بلاد أخرى تقيم فيها شعائرك الدينية وتتوقى فيها من الوقوع في الحرام فعليك أن تهاجر فرارا بدينك.(3/64)
وفقك الله لما يحبه ويرضاه، وجعل لك من كل ضيق مخرجا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
==============
الهجرة إلى بلاد الكفار
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 16 / ص 483)
المجيب عبد الحكيم محمد أرزقي بلمهدي
كلية الشريعة/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/الجديد
التاريخ 30/05/1427هـ
السؤال
ما حكم الهجرة السرية من الجزائر إلى أوروبا؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن تعميم الحديث عن أحكام الهجرة إلى بلاد الكفر والإقامة فيها من أشكل المسائل اليوم؛ وذلك لكثرة تفاصيلها وتنوع حالاتها، واختلاف أعذار الناس الذين يرغبون في الهجرة إليها، ولكن هناك قواعد عامة إذا راعاها الفرد ربما يستطيع الاهتداء بها:
أولا: إن القاعدة العامة هي عدم جواز الإقامة في بلاد الكفر، وبين ظهراني المشركين، لقوله صلى الله عليه وسلم : "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين". رواه أبو داود (2645)، والترمذي (1604).
ثانيا: إن من اضطر إلى الإقامة في تلك الديار، فللضرورة أحكام، والضرورة تقدر بقدرها.
ثالثا: أن على المقيم في تلك الديار ألا يكف عن البحث عن موقع في بلاد الإسلام يهاجر إليه.
رابعا: إن من غلب على ظنه أنه لا يقدر على وقاية نفسه وأهله في تلك الديار، فقد وجبت في حقه الهجرة.
خامسا: إن من الأسباب المبيحة للإقامة في بلاد الكفر: الخروج لأجل تحصيل علم، أو ممارسة دعوة، أو الخوف على النفس والمال من ظالم وهو يجد الأمان في بلاد الكفر...
وعلى كل راغب من غير من سبق أن يستفتي فتوى خاصة ممن يثق بدينه وعلمه.
ولا فرق عندي بين الهجرة السرية والعلنية في الحكم، وإن كانت الهجرة السرية فيها تعريض النفس للإهانة والصَّغار فيما لو قبض على الشخص. والله أعلم.
==================
دخول المسلم إلى دولة غير إسلامية والإقامة فيها
د- عبد الكريم زيدان
والسؤال عن مدى جواز دخول المسلم إلى دولة غير إسلامية ومدى جواز إقامته فيها ومدة هذه الإقامة وهل تلزمه الهجرة منها بعد قضاء مدة إقامته أو لا ، وماله علاقة بهذه التساؤلات والجواب ما يأتي:
أولاً: تمهيد: يقسم الفقهاء المسلمون البلاد والدول إلى قسمين كبيرين:
الأول: يطلقون عليه " دار الإسلام".
الثاني: يطلقون عليه " دار الحرب" ويريدون بهذا الإطلاق " دار الحرب " البلاد أو الدول غير الإسلامية، وقد عرف الفقهاء دار الإسلام ودار الحرب فقالوا عن دار الإسلام بأنها كل موضع أو أرض يحكمه المسلمون ويظهرون فيه شعائر الإسلام وأحكامه.
ويعرفون دار الحرب بأنها الدار أو البلد أو الدولة التي يحكمها غير المسلمين ويطبقون فيها أحكامهم.
ويلاحظ في هذا التعريف أن المنظور إليه في كون هذا البلد يوصف بأنه إسلامي أو أن هذه الدولة توصف بأنها إسلامية أي "دار الإسلام" حسب استعمال الفقهاء ينظرون إلى من يسيطر عليها ويحكمها فإن رأوا أن السيطرة للمسلمين وحاكمها مسلم قالوا دار إسلام ولا يقولون ويطبق فيها أحكام الإسلام.
وبعض الفقهاء يقولون إنها الدار التي يحكمها المسلمون ولا يقولون بتطبيق أحكام الإسلام فيها، والسبب في ذلك هو أن من البديهيات عند فقهائنا ومن اللوازم الضرورية أن كون هذا البلد يحكمه حاكم مسلم فالنتيجة البديهية هو أنه لا يحكم بغير الإسلام ولذلك لا يقولون يحكمها المسلمون ويطبقون أحكام الإسلام وبعضهم يذكر الأمرين زيادة في التوضيح.
ومما يؤكد هذا الذي أقوله أن فقهاء الشافعية أو بعضهم عرف دار الإسلام فقال:
(وليس من شرط دار الإسلام أن يكون فيها مسلمون بل يكفي أن تكون في قبضة الإمام وإسلامه أي أن تكون السلطة بيد هذا الإمام المشروط فيه أن يكون مسلماً) وهذا يؤكد أن النظر في كون الدار دار إسلام هو كونها تحت سلطان المسلمين الذين لا يكون حاكمهم إلا مسلماً، والشأن في الحاكم المسلم أن يطبق أحكام الإسلام، فلا يمنع هذا الإطلاق أن لا يوجد في هذه الدار أناس مسلمون مادام الحاكم يطبق حكم الإسلام.
وأما دار الحرب فيعرفها الفقهاء بأنها الدار التي يسيطر عليها غير المسلمين ويطبقون فيها أحكامهم وهذا التعريف يلتقي في نظرته مع النظرة في تعريف دار الإسلام وهو من يستولي على هذه الدار (المسلمون أو غيرهم) لأن تطبيق الأحكام يتبع ملة أو دين الحاكم الذي يختاره أهل تلك الدار.
ويلاحظ هنا أن بلاد المسلمين أو دولهم حتى ولو تعددت وصار لكل دولة من هذه الدول حاكم مسلم فإنها تعتبر في نظر الشرع بمنزلة دار واحدة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - (وبلاد الإسلام وإن تعددت فهي بمنزلة البلدة الواحدة)، وأهل هذه الدول الإسلامية المتعددة يعتبرون أمة واحدة وشعباً واحداً تجمعهم عقيدة الإسلام ، قال تعالى: ? إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ?[ سورة : الأنبياء آية 92].
ومن هنا لم يعتبر فقهاء الإسلام المسلمين في مصر مختلفين في شيء عن المسلمين في بغداد.(3/65)
وإن كان لكل منهما حاكم مستقل، وكذلك لما قامت دولة إسلامية في أسبانيا ظل ارتباطهم بهم كأنهم أهل بغداد فلا فارق بينهم في شيء قط .
ويلاحظ أن الأصل أن يكون للمسلمين دولة واحدة وخليفة أو حاكم واحد وهذه الحالة التي كان عليها المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ثم بقى الحال كذلك زمن الدولة الأموية، ولكن بعد هذه الدولة صار المسلمون دولاً شتى فأخذ الفقهاء يقدمون التبريرات لمثل هذا التعدد للمسلمين في دولهم حتى يعتذروا بأن حكام هذه الدول حكام شرعيون يجب لهم الطاعة، ولكنهم لم يتنازلوا قط عن المطلوب شرعاً وهو أن يكون للمسلمين دولة واحدة وخليفة واحد وأن قبول هذا التعدد للضرورة وليس تطبيقاً لمقصد شرعي وهذا القبول من الفقهاء للتعدد وقف عند هذا الحد ولم يرتبوا عليه شروطاً أو واجبات بعد الدولة الأموية والعباسية ، ولا تزال هذه النظرة الفقيهة يؤخذ بها في وقتنا الحاضر وبيان الجواب للسؤال السابق يظهر فيما يلي :
أولاً : الأصل في دخول المسلم داراً غير إسلامية هو الحظر والاستثناء هو الجواز بشرط أن يكون هناك مبرر لدخوله هذا أو إقامته في البلد غير الإسلامي الذي انتقل إليه ولا خلاف في هذا بين الفقهاء وإذا وجد سبب ما في هذا البلد غير الإسلامي كما لو كان غير مسلم أو مسلما ودخل دار الحرب وزال المبرر الشرعي لدخوله وجب عليه الخروج من هذه الدار إن أمكنه ذلك ولم تكن هناك حاجة ملحة أو مصلحة مؤكدة لبقائه إلى حين كما نبين ذلك إن شاء الله .
المبررات الشرعية لدخول المسلم دولة غير إسلامية ومدة إقامته فيها
المبرر الأول : الدخول لغرض التجارة المباحة :
ودليل هذا الجواز ما صرح به الفقهاء بناء على إقرار من الخليفة عمر رضي الله عنه دون مخالف له في هذا الإقرار ، فمن أقوالهم ما قاله صاحب المغنى ابن قدامه الحنبلي رحمه الله : (إنه مازالت عادة جارية في دخول تجارهم - تجار دار الحرب - إلى دارنا ، ودخول تجارنا إلى دارهم) وعمدتهم في ذلك أن الجابي للضرائب التي كان يستوفيها المسلمون من تجار أهل دار الحرب عند دخولهم دار الإسلام كانت بإذن وتقييم من عمر - رضي الله عنه- ، وقد ذكر ذلك الأحناف في كتبهم كما ذكر ذلك غيرهم من أن جباة الضرائب التجارية التي كان يستوفيها المسلمون من تجار دار الحرب إذا دخلوا دار الإسلام سأل أحدهم عمر - رضي الله عنه- كم نأخذ ضريبة من تجار أهل دار الحرب إذا دخلوا ؟ فقال كم يأخذون ضريبة من تجارنا إذا دخلوا دارهم فخذوا منهم بقدر ما يأخذون من تجارنا .
ففي هذا السؤال والجواب والتنزيل فيما يخص الضرائب التجارية دون إنكار من أحد صار دخول المسلم لغرض التجارة إلى دار الحرب أمراً مشروعا لأنه حظي بهذا الإجماع وتطبيقه من جهة السماح للتجار المسلمين بالدخول إلى دار الحرب ، ولتجار غير المسلمين بالدخول إلى دار الإسلام واستيفاء الضرائب المسماة (بالعشور) وجابيها العاشر وسميت بذلك لأن الغالب هو العشر أو ما ينسب إليه كنصف العشر أو ضعف العشر، والإجماع دليل شرعي، ويبقى التاجر في إقامة مباحة في دار الحرب قدر ما تقتضيه تجارته وهذا المقرر في الذهاب والإياب ، ولا تقيد إباحة الدخول للتجارة ببضاعة معينة لأن الجواز جار مطلقاً ولم يسأل سيدنا عمر ولم يقيدهم بتجارة معينة ، فيبقى القيد العام وهو الإباحة الشرعية فلا يجوز الاتجار بشيء محرم شرعاً ، حتى ولو كان هذا المحرم مباحا في دار الحرب فلا يجوز مثلاً للمسلم أن تكون بضاعته المسكرات بأنواعها أو المخدرات أو ما يتبعها لأن الحرام لا يجوز أن يتعاطاه المسلم لنفسه كما لا يجوز أن يعين على تعاطيه من قبل غير المسلم، وفي القاعدة الفقهية (ما حرم أخذه حرم إعطاؤه) ومن أحكام هذا الدخول أن يلتزم المسلم بأخلاق الإسلام في تعاطيه التجارة فلا يغش ولا يخادع ولا يجوز له أن يخون أو يحتال على غير المسلم في تعامله مع المسلم في التجارة أو يسعى لسرقتهم ومخادعتهم لأنه لما أعطي الأمان والإذن في دخوله إلى دارهم فهذا الإذن والأمان تقتضيه هذه الالتزامات التي أشرت إليها .
ويلاحظ هنا أن هذا المبرر (التجارة) يشمل دخوله لبيع بضاعته في دار الحرب ويشمل شراء مباح من دار الحرب لجلبه إلى دار الإسلام وبيعه فيها ، فلا يجوز له أن يأخذ شيئاً محرماً ليبيعه في دار الحرب ، ولا أن يشتري شيئاً محرما ليبيعه في دار الإسلام .
ويلاحظ هنا أن المقصود في هذه الإباحة قدر ما تقتضيه أمور التجارة وهي مقصورة على بيع بضاعته التي اتجر فيها ولا تشمل إقامته الدائمة ليفتح مركزاً تجارياً يتخذه مقراً يربط إقامته بها .
المبرر الثاني : الدخول للدعوة إلى الله تعالي :(3/66)
والمقصود بالدعوة إلى الله تعالى أي إلى دين الإسلام فينتقل المسلم من بلده الإسلامي إلى بلد غير إسلامي ويقيم فيه هناك ليقوم بتبليغ الدعوة إلى الله لأهل تلك البلاد غير المسلمين ويقيم في تلك البلاد بالقدر الذي يحتاجه لهذا التبليغ ، ودليلنا على ذلك أن الإسلام دعوة عالمية لجميع البشر وأن نبينا صلى الله عليه وسلم هو رسول لجميع البشر ، قال تعالى : ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاس? [ سبأ: جزء من الآية28]، وقوله تعالى : ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ? [لأعراف: جزء من الآية158] ، ومن حق عموم الناس أن تصلهم هذه الدعوة كما أن من الواجب على المسلم أن يسعى لإيصالها إلى من يستطيع إيصالها إليهم ، إتباعاً لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة ، وتنفيذاً لقوله تعالى ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ? [ سورة : يوسف- آية 108] فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يتبعونه في نهجه ومنهجه للدعوة إلى الله ومن منهجه صلى الله عليه وسلم عدم الاكتفاء بالبقاء في بلده الذي كان فيه وهو مكة فقد خرج منها إلى الطائف يبلغ أهلها الذين فينبغي أيضاً للمسلم أن يقتضي أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فينتقل إلى البلد غير الإسلامي لتبليغ أهله معاني الدعوة إلى الله لأن الطائف ما كانت بلداً إسلامياً وما كنت من محلات مكة بل كانت تحتاج إلى نقله وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ، وحيث لما كان الإسلام دعوة عالمية وأن من واجبات المسلمين القيام بتبليغ هذا الإسلام إلى عموم البشر وأن هذا التبليغ العام يحتاج إلى انتقال وإقامة في تلك البلاد الإسلامية والقاعدة تقول : (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ، فإن هذه النقلة من دار الإسلام إلى دار الحرب أمر مرغوب فيه قطعاً وقد يكون من الواجبات الكفائية على القادر عليها أو من الواجبات العينية حسب قدرة المسلم وأقل درجة لهذا المطلوب الشرعي من المسلم أن يكون مستحبا لكل مسلم ولو لم يكن ما يعرفه من معاني الإسلام إلا القليل لأن هذه القليل هو مهم وضروري ليعرفه غير المسلم في غير بلاد المسلمين ، والإسلام إنما انتشر في كثير من البلاد بهذه النقلة التي قام بها المسلمون كما في جنوب شرق آسيا وهو معروف في تأريخ الدعوات ، ويستطيع الداعية أن يقيم في هذا البلد الذي قصده ما يشاء من المدة ما دامت الإقامة لغرض الدعوة إلى الله تعالى ، ولا نبالغ إذا قلنا إنه من الواجبات الشرعية الملحة في العصر الحاضر أن يقوم ولاة الأمور في البلاد الإسلامية بتنظيم هذه التنقلات من دار الإسلام إلى دار الحرب للدعوة إلى الإسلام من قبل القادرين والمؤهلين للقيام بها ، وإن لم يكن هناك قدرة على ذلك فعلى المسلمين أن يكونوا الجماعات التي تقوم بهذا الأمر للانتقال إلى البلاد غير الإسلامية حسب تمويل المقيمين فيه ، والمأمول من ولاة أمور المسلمين في البلاد الإسلامية أن ينهضوا بهذا الأمر فيرسلوا الدعاة إلى الله ويهيئوا ما يلزمهم للدعوة إلى الله ويجعلوا هذا الأمر من مهماتهم الأصلية ، فإذا قصروا في هذا الأمر وجب على المسلمين أن يقيموا هذا الواجب بتشكيل الجمعيات والجماعات وتمويل البعوث الإسلامية بالمال اللازم للقيام بمهمة الدعوة إلى الله وتمكينهم من البقاء في تلك الديار وتهيئة ما يلزمهم في الإقامة الدائمة ، ويلاحظ هنا أن ما قلناه وإن كان موجهاً إلى البلاد غير الإسلامية فإنه يشمل الانتقال إلى البلاد غير الإسلامية لتثقيف وتفقيه من أسلم بمعاني وأحكام الإسلام وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم فقد أرسل مصعب بن عمير إلى المدينة لتعريف من أسلم منهم معاني الإسلام ، ولدعوة من لم يسلم إلى الإسلام ، وكذلك يشمل هذا الجواز النقلة إلى البلاد الإسلامية التي فشا فيها الجهل والمعاني المخالفة للإسلام لأجل تبصيرهم بالحقائق الإسلامية وإبعادهم عن هذه المخالفات الشرعية .
المبرر الثالث : طلب العلم النافع ومدته إكمال مدة التحصيل :
طلب العلم من مطلوبات الشرع التي تتدرج مشروعيتها من الفرضية إلى الإباحة حسب العلم المطلوب والشخص المعين، والذي يقيد العلم المطلوب شرعاً هو العلم النافع وأعظم العلوم النافعة علم الآخرة أي العلم الذي يقربك من الله وتظفر فيه بمرضاة الله ودخول جناته والنجاة من سخطه وعقابه ، ويكون القدر المفروض على المسلم هو ما يلزمه لأداء ما يجب عليه شرعاً ، وهذا يختلف باختلاف الأفراد ، فإذا غلب الأمر صار واجبا عليه أن يتعلم فروض العبادات وكيفية الصلاة الشرعية ، وإذا دخل رمضان عليه أن يتعلم أحكام الصيام ، وعند حصول المال يجب تعلم أحكام الزكاة ، وإذا كان بالغا عليه أن يعرف الحلال من الحرام في المعاملات التجارية وهذا يختلف باختلاف الإنسان وأطوار حياته .(3/67)
والنوع الآخر العلوم الدنيوية وهي أنواع منها : الفرض والمستحب والمباح وكل علم يعم نفعه المسلمين ويحقق مطلوباً شرعياً يكون في مقدمة العلوم ومثل هذا تعلم العلوم التي هي وسائل القوة ، قال تعالى : ? وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ? [ سورة :الأنفال- الآية60] ، فنتعلم ما يلزم ويحقق القوة بتحصيل وسائلها من الأدوات والآلات المختلفة المحتاج إليها في الحروب والقتال ، ويتدرج بعد هذه المرتبة مرتبة لأخرى تحفظ بها صحتهم وعافيتهم التي يتمكنون بها من أداء ما افترضه الله عليهم بهذه النية ، وهكذا كل علم يحقق مصلحة للمسلمين بجماعتهم أو أفرادهم أو للمتعلم نفسه يدخل في دائرة الغرض الشرعي وجوباً أو استحباباً ، وما لا ينفع فهو مضيعة للوقت والعمر كعلم الفلسفة وما سواه من أسماء أخرى كالسحر ، وما يعين على الفجور، وأما ما هو مباح كالتوسع في معرفة ما يوسع على الإنسان في معيشته والأدوات المعيشية فإن والعاقل لا يربط نفسه إلا بتعلم ما هو الأهم فالأهم، وبعد هذه المقدمة يجوز للمسلم الانتقال إلى دار الحرب فيمكث فيها المدة الكافية لتعلم العلوم التي تنفع المسلمين وتسهل لهم وسائل القوة والعافية واستثمار خيرات بلادهم ونحو ذلك، مما يقوى المسلمين في جميع مجالات الحياة في شئون الحرب والصناعة والزراعة وغير ذلك، وبهذه العلوم النافعة يتحقق لهم العلو والتمكين وتكون لهم وسائل القوة في الحياة الدنيا فضلا عن أن الحق الذي يحملونه لابد له من قوة تحفظه وتدافع عنه وتحميه من الشرور وتمكن لأهله في الأرض، ويجب على ولاة الأمور أن ينظروا إلى هذه الأمور فيرسلوا الطلاب لتعلم هذه الأمور في غير بلاد المسلمين ليمكثوا المدة اللازمة لدراستها ، ومما يزيد في فرضية أو استحباب ذلك ونقله إلى ديار غير المسلمين الذين يملكون هذه العلوم أن الله تعالى أمر بالعلم النافع ولم يقيده بمكان معين وإنما قيده بكونه علماً نافعاً مشروعاً مباحاً مرغوباً فيه ، أما المكان والمعلم فلا يشترط فيه أن يكون في دار الإسلام وأن يتلقاه من مسلم ، وإنما يتلقاه من أهله وإن كانوا في غير بلاد المسلمين .
ويلاحظ هنا أن طلب العلم النافع إذا كان يمكن تحصيله في دار الإسلام فلا يكون هناك مبرر للانتقال إلى دار الحرب لتعلم العلم إلا إذا كان في هذه الدار زيادة علم عما هو في دار الإسلام ومما ينبغي ملاحظة عند طلب العلم النافع الذي يستلزم النقلة إلى تلك الديار اختيار الرجل القوي في دينه وأمانته وإن كان مبعوثا من قبل الدولة فعليها أن تلاحظ هذه الملاحظة وتعين المراقبين لمتابعة هؤلاء لأن الحفاظ على عقيدة المسلم أهم من الإرسال إن كان في هذا الطلب تعريض لعقيدته بالزوال
المبرر الرابع : اللجوء السياسي(3/68)
ويقصد بهذا الاصطلاح أن الإنسان لا يجد له ملجأ منيعاً آمنا في بلده وقد يجده في غير بلده فيسعى إلى موافقة هذا البلد غير الإسلامي بأن يقبله ويقبل إقامته فيه فإن كان سبب قبول إقامته فيه بمعنى سياسي لكونه يخاصم دولته ويخشى على نفسه بطشها فإذا قبلت إقامته فيها سمى انتقاله (باللجوء السياسي) فإذا انتقلنا إلى حال المسلم الذي لا يجد بلداً إسلامياً يقبل لجوءه إليه فهل يجوز له أن يلتجئ إلى بلد غير إسلامي يقبل هذا اللجوء إليه ويوطن له الأمن والأمان أو لا يجوز ذلك ؟ والجواب على هذا السؤال : أنه يجوز له أن يطلب ويسعى من أجل اللجوء السياسي في بلد غير إسلامي إذا تعذرت عليه الإقامة في وطنه ، وتعذر عليه قبول إقامته في بلد إسلامي آخر ، والدليل على ذلك السنة النبوية الصحيحة الثابتة فإن المسلمين في مكة جردوا وعذبوا وأوذوا كثيراً وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم- يراهم ولا يقدر على دفع الأذى عنهم فقال لهم : (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه) فالنبي -صلى الله عليه وسلم- جند ورغب وليس مجرد الإذن فقط ليدفع عنهم الأذى، وما كانت أرض الحبشة دار إسلام وذكر العلة أنهم يجدون الأمن والعدل المفقود في مكة وجعل السماح والإذن إلى أن يفرج الله عنهم ويزيل الاضطهاد بالتمكين وقد حصل وكذا تنكيس راية الشرك وقد حصل وقد خرج في شهر رجب سنة ( 5 هجرية) جماعة من المسلمين إلى الحبشة وكان عددهم قليلاً مع جماعة نسوة وهذا واضح الدلالة في جواز هذا اللجوء أو الانتقال إلى دار الحرب بسبب الاضطهاد ، ومدة هذا اللجوء مدة بقاء سبب اللجوء فإذا زال أو غلب زواله رجع إلى بلده المسلم ، ولما سمع المهاجرون أن قريشا خففت الاضطهاد رجع بعضهم فتبين أن ما سمعوه ليس صحيحاً فمنهم من دخل متخيفا ومنهم من دخل في جوار كافر كعثمان بن مظعون دخل في جوار المغيرة وأبو سلمة ابن أخت أبي طالب دخل في جوار خاله أبي طالب ، ومنهم من رجع ، ثم خرجوا في الهجرة الثانية لطلب الأمن والأمان ، وكان عدد المهاجرين في الفوج الأول (الهجرة الأولى إلى الحبشة) اثني عشر رجلاً وأربع نسوة رئيسهم عثمان بن عفان ومعه السيدة رقيه بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وفي الهجرة الثانية كان عددهم ثلاثاً وثمانين رجلاً إن كان فيهم عمار فإنه يشك فيه وثماني عشرة أو تسع عشرة امرأة وبالأول جزم العلامة محمد بن سليمان المنصور فوري كما صرح بذلك مؤلف الرحيق المختوم.
المبرر الخامس : التداوي والعلاج من الأمراض :
التداوي في حكم الشرع يدخل في حكم المباح وإن قال بعض الفقهاء من الشافعية إنه مستحب ، ومن قال بأنه مكروه أو مناقض للتوكل فقوله ضعيف والأدلة تدفعه ففي قوله تعالى ممتنا على عباده بما يخرج من بطون النحل من شراب مختلف ألوانه قال تعالى : ? فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس? [ سورة: النحل - الآية69] ، وكونه شفاء فيه إشارة إلى أنه يمكن تعاطيه لتحقيق هذا المعنى وهو الشفاء والبرء من المرض كما في الحديث الشريف " لكل داء دواء" ، وفي حديث آخر " تداووا عباد الله فإن الله لم ينزل داء إلا وجعل معه دواء علمه من علمه وجهله من جهله" واستثنى الهرم ، فدرجة مشروعية الدواء الإباحة ولو تركه المسلم حتى مات بسبب مرضه لا يكون آثماً ، ولا ينزل منزله قاتل نفسه خلافاً للممتنع عن أكل الطعام حتى مات جوعاً فإنه يأثم وينزل منزلة قاتل نفسه والسبب في ذلك أن الامتناع عن الطعام امتناع عما يؤدي إلى الهلاك يقيناً حسب سنة الله في الهلاك أو الموت بخلاف الامتناع عن الدواء فإنه لم يصل إلى درجة اليقين في دفع الهلاك عند عدم استعماله ، وبعد هذه المقدمة يجوز للمسلم أو المسلمة تعاطي الدواء في دار الإسلام بل يجوز أن يكشف من عورته ما يقتضيه ويستلزمه ويحتاجه العلاج سواء كان ذلك للرجل أو للمرأة بل قال الفقهاء يجوز للمرأة أن تكشف من عورتها للطبيب إذا لم تكن هناك امرأة تعالجها كما قرر الفقهاء أنه يجوز لغير المسلم أن يعالج المريض المسلم وذهب بعضهم إلى أن الطبيب غير المسلم إذا كان أكثر علماً ودراية وحرصاً وتجربة من الطبيب المسلم فلا بأس أن يرجحه المريض المسلم على الطبيب المسلم الذي لم يصل علمه إلى درجة الطبيب غير المسلم ولم يقيدوه بكون العلاج في دار الإسلام وبالتالي إذا رأي المريض المسلم أو المسلمة أن العلاج أو الدواء في بلد غير إسلامي أكثر احتمالا لحصول الشفاء له مما هو متيسر في دار الإسلام فلا بأس من الذهاب إلى هذا البلد غير الإسلامي والإقامة فيه بقدر ما يتطلبه العلاج .
والسؤال هنا : هل يمكن أن يصل العلاج إلى درجة الوجوب؟
الظاهر لنا أنه لا يصل وإنما قد يصل إليه فيكون مندوباً كلما كان هذا النوع من العلاج أو الدواء أو العملية الغالب فيها الشفاء والنادر فيها الهلاك ، وأن الغالب في ترك العلاج هلاك المريض في هذه الأحوال فيمكن أن يقال إن تعاطي العلاج أو الدواء يكون مندوباً ندباً شديداً نستطيع إيصاله إلى درجة الوجوب التي من تركها كان آثماً .(3/69)
المبرر السادس : الإطلاع على أحوال البلاد الكافرة:
وإذا أراد المسلم أن يسافر إلى بلد غير إسلامي لغير الأسباب التي ذكرت سابقاً وإنما لمجرد الإطلاع والرغبة في معرفة أحوال تلك البلاد أو ما يسمى عند البعض بالسياحة فلا نرى مانعاً يمنع من ذلك على أن لا يعقد معها رغبة في الإقامة في تلك البلاد واحتمال التأثر بما لا يجوز شرعاً ، فإن عريت من هذه المفاسد والاحتمالات فيجوز للمسلم أن يسافر أو ينتقل إلى بلد غير إسلامي للإطلاع على أحوال تلك البلاد ويستحسن في هذه الحالة أن لا يخلو المسلم من نية التبليغ للدعوة بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة والاستمساك بالمظاهر الإسلامية في قوله وفعله ولباسه ومعاملته وامتناعه من الاختلاط المحرم بالنساء وغير ذلك بحيث يعرف أهل تلك البلاد غير المسلمين بأن هذا مسلك المسلم وأدبه مما يدعوهم إلى التأثر أو الإعجاب به أو الإقبال على دراسة الإسلام ونحو ذلك .
خلاصة وتوضيح
وخلاصة ما ذكرناه هو أن المقصود من جعل هذه المبررات لدخول دار الحرب والمنع من هذا الدخول إذا خلت من هذه المبررات إنما نقصد بهذا المنع من الإقامة في دار الحرب أولاً ، ونقصد ثانياً المنع من الدخول إليها إذا خيف على المسلم التأثر بأي مفسدة منهي عنها شرعاً لأن درأ المفاسد أولى من جلب المصالح وإن كانت مصلحة المتعة أو السياحة .
مسألة : مشاركة المسلم في بعض المؤسسات في البلد غير الإسلامي:
قد يكون وجود المسلم سبباً في تمتعه بحق المشاركة في انتخابات المجالس النيابية لكونه قد تجنس بجنسية ذلك البلد أو لأي سبب آخر كما لو ولد لمسلم هناك مولود فحاز جنسية ذلك البلد بحكم الولادة فيها ، وكان مقيماً في ذلك البلد وصار له حق الاشتراك في الانتخابات النيابية فهل يجوز له الاشتراك في هذه الانتخابات أو لا ؟
والجواب على ذلك على ما نرى : يجوز له ذلك كلما كان في مشاركته هذه مصلحة للمسلمين في ذلك البلد أو للمسلمين خارج هذا البلد ودليلنا على ذلك ما يأتي :
أولاً : أن من أصول الشريعة رعاية المصالح ما دامت لا تخالف الشرع لأن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا لتحقيق المصالح ودرأ المفاسد ، وتقليل المفاسد وتكثير المصالح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله - ونبه علي ذلك علماء كثيرون كتلميذه ابن القيم والشاطبي صاحب الموافقات والعز بن عبد السلام وغيرهم ، ومع وجود هذا الأصل والغرض من وضع الشريعة فهناك أصل آخر نحتاجه للجواب عن ما سألنا عنه ، وهذا الأصل هو :
(يجوز الأخذ بجزئية نافعة للمسلمين أو للمسلم من نظام كافر ولا يعتبر هذا الأخذ إتباعاً للنظام الكافر أو رضاء به) ودليلنا على هذا الأصل المهم جداً هو ما يأتي :(3/70)
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بجزئية الجوار المأخوذ به في نظام كفار قريش وكفار سائر العرب ومعنى الجوار هو أن يجير رجل ذو نفوذ وسلطة شخصاً آخر ويعلن هذا الجوار وبمقتضاه يكون أي اعتداء على الممنوح له هذا الجوار اعتداءً على المجير نفسه فقد أخذ كما قلت النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الجزئية من نظام الجاهلية ، ومن الوقائع التي تشهد على ما قلناه أن النبي صلى الله عليه وسلم رضي بجوار عمه أبي طالب وبحمايته له ، وأنه عليه الصلاة والسلام لما رجع من الطائف أرسل عبد الله بن أريقط إلى المطعم بن عدي بشأن جواره له في دخول مكة فقال المطعم للرجل نعم أنا أجيره فأمره أن يأتي إلينا وينام عندنا الليلة فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم وبات عنده ثم خرج مطعم والنبي صلى الله عليه وسلم وبنو المطعم وكان ستة أو سبعة متقلدين سيوفهم فدخلوا المسجد الحرام فقال أبو سفيان : أمجير أنت أم تابع ؟ فقال أنا مجير ، قال أبو سفيان : لا تخفر ذمتك ، وكان رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف التي ذهب إليها بعد وفاة عمه أبي طالب الذي كان قد أعلن حمايته لابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن أحكام الجوار أن الذين هاجروا إلى الحبشة ورجعوا إليها وكان من جملتهم أبو سلمة الذي دخل في جوار خاله أبي طالب فجاء قوم من بنى مخزوم قالوا له : يا أبا طالب : لقد منعت ابن أخيك أي أجرته ، فما لك ولصاحبنا أبي سلمه تمنعه أيضا ، قال : لقد استجار بي وإن لم أمنعه وهو ابن أختي ، فلا امنعه ابن أخي يقصد النبي صلى الله عليه وسلم فلما أراد أبو بكر أن يهاجر إلى الحبشة لقيه ابن الدغنه فقال : إلى أين ؟ قال : أهاجر ، قال : مثلك لا يَخرُج ولا يُخرَج وأنت في جواري فرجع أبو بكر إلى جوار ابن الدغنة ، وقد أجار العاصي بن وائل السهمي عمر بن الخطاب عندما علمت قريش بإسلامه وعندما رجع المهاجرون من الحبشة إلى مكة في الهجرة الأولى وقد سمعوا خفة العذاب عن المسلمين ثم تبين لهم خلاف ذلك دخل عثمان بن مظعون في جوار كافر وكل أولئك لم يكونوا مسلمين وقبل النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذكرنا جوارهم فدل ذلك على جواز أن يستعين المسلم بجزئية من النظام الكافر إذا كان من شأن الاستعانة أن تؤدي إلى مصلحة دون أن تخدش هذه الجزئية إيمان المسلم أو معنى من معانيه وعلى هذا إذا كان في نظام البلد الكافر جزئية تجيز الاشتراك في الانتخابات فيجوز للمسلم انتخاب الكافر لعضوية المجلس إذا كان انتخابه يحقق مصلحة للمسلمين في داخل ذلك البلد أو خارجه لكونه يدافع عن حقوقهم أو يمنع الظلم عنهم أو على الأقل لا يعين على المسلمين ، فالدخول لتحقيق هذه الجزئية أمر جائز قياساً على جواز الاستعانة بجزئية الجوار في نظام الجاهلية ، وإن كان بوسع المسلم وطائفته اختيار مسلم فعليهم اختيار المسلم ولكن إذا علموا أن أصواتهم لا تمكنهم من انتخاب المسلم فعليهم أن ينتخبوا من هو أقل شرا وأكثر دفاعاً عن حقوقهم بما يبيحه لهم قانون البلد ، وبناءً على هذه الجزئية يجوز للمسلم أن يطالب بحقوق المسلمين بحجة أن ذلك من حقوق الإنسان ويستنكر ظلم ولاة الأمور على أساس أن ذلك من حقوق الإنسان وأن قوانينهم تمنع التعسف في نظام السلطة .
2- وكذلك يجوز للمسلم في تلك البلاد أن يشارك في انتخاب مجالس البلدية التي ليس فيها سن قوانين لكونه من المقيمين ـ يجوز له ذلك فينتخب مسلماً فإن لم يتيسر له فينتخب من هو أقرب نفعاً للمسلمين في تلك المجالس البلدية لأن مشاركة المسلم في هذه المجالس فيها احتمال تحقيق المصلحة وتقليل المفسدة قدر الإمكان أما الامتناع عن المشاركة فليس فيها أي مصلحة ولا أي دفع للمفسدة بل ربما سيختار من هو أشد ضرراً فلا خير في هذا الشر وليس في الترك أي معنى مرغوب شرعاً علماً بأننا نعالج هذه المسألة باعتبار أن المسلم له حق المشاركة لحمله جنسية ذلك البلد بالتجنس الاختياري أو الإجباري المبنى على الولادة في ذلك البلد ولسنا من المحرضين على التجنيس لإمكان المشاركة وإنما نعالج هذا الأمر الواقعي ، وبإمكاننا أن نقول إن للمسلم أن يحتج بقوانين البلد لدفع ضرر عن نفسه قياساً على جزئيه الجوار .
الخروج من دار الحرب
إذا كان المسلم في بلد غير إسلامي لسبب ما فهل يجب عليه الخروج من هذه الدار أو الهجرة منها ؟
أجاب الفقهاء عن ذلك في ضوء قوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض?[ سورة:النساء- الآية97]، وفي ضوء هذه الآية الكريمة قرروا ما يأتي :(3/71)
ذكر الفقهاء عن الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام تفصيلاً فقال بعضهم : إن الهجرة انقطعت بحجة ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" ، وقال آخرون الهجرة باقية إلى يوم القيامة واستدلوا بحديث ، عن معاوية- رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " والمقصود بالهجرة أن البلد غير الإسلامي إذا فتحه المسلمون وصار دار سلام وحكمه المسلمون لا تتعين الهجرة منه لكونه صار دار إسلام ومثله مكة لما فتحت والقول الثاني هو الصحيح وهو أن حكم الهجرة قائم واجب ما دام سببه قائماً .
فإذا كان المسلم في دار الكفر يقدر على الهجرة ويقدر على إقامة أمور دينه وواجباته فهذا لا تجب عليه الهجرة ، أما إذا لم يستطع أن يقوم بواجبات دينه ومتطلباته وهو قادر على الهجرة فتجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام لأن قيامه بواجبات دينه واجب عليه "و ما لا يتم ويتأتى الواجب إلا به فهو واجب" وحيث أن الواجبات لا تكون إلا بهجرته فواجب عليه ذلك .
وأما العاجزون كالشيوخ والنساء والولدان فهؤلاء لا توصف هجرتهم بالوجوب لأنهم إما عاجزون ولا يكلفون بما يكلف به القادر ، أو هم غير مكلفين كالولدان وذكرهم للإشعار بأهمية الهجرة بحيث لو كانوا يقدرون على ذلك لكان مطلوبا منهم الهجرة كما ذكر ذلك أهل التفسير .
وأما من يقدر أن يقوم بواجباته فيستحب له الهجرة من دار الكفر حتى لا يكثر العدد ويعرض نفسه للتأثر بعادات وأخلاق وعقائد أهل دار الكفر ولأن في انتقاله إلى دار الإسلام تكثيراً لعدد المسلمين وكل هذه الأمور يستحب مراعاتها ، فيقال له رحيلك إلى دار الإسلام مرغوب ومستحب والتعقيب على هؤلاء المدعين إقامة الدين في دار الكفر أن يقال لا يمكن أبداً أن تقيموا ذلك إذا كان هدفكم العلاج أو السياحة ، وإنما يؤدي أحدكم الصلاة والصيام فقط ، بعيداً عن إزالة المنكرات ومع الخضوع لقوانينهم فضلاً عن تعرضه لعادات القوم والاحتمال الشديد لتأثره على غالب الظن وفي أمور المعاملات لا ينظر إلى الغالب بل إلى الاحتمال كما هي القاعدة ، ووجوده دون مبرر يحتمل عليه التأثر خاصة للأولاد والفتيات كما هو معلوم ومشاهد .
زواج المسلم في دار الحرب
المقصود زواج المسلم بامرأة كتابية وتفصيل ذلك كما يلي :
أولاً : المرغوب فيه أن يتزوج المسلم امرأة مسلمة لا امرأة كتابية لسببين :
( أ) لئلا تكثر العوانس من النساء المسلمات .
( ب) ثم إن المرأة المسلمة تربي أولادها على الإسلام ، والطفل يتأثر بأمه كثيراً خاصة حال سن الطفولة.
ومع ما ذكرناه فيجوز ولا يحرم نكاح الكتابية بعد أن أباحه الله ولكن لا يمنع أن نقول إن الأرجحية تكون في زواج المسلم بالمسلمة .
ثانياً : إذا تزوج فليتزوج امرأة مسلمة هناك وهو تقوية لإيمانها خير من التزوج بكتابية غير مسلمة .
ثالثاً : ليحذر المسلم أن يقع في مسألة وهي أن يتزوج كتابية أو مسلمة تحمل جنسية ذلك البلد لقصد الحصول على جنسية ذلك البلد حسب قوانينهم في تجنيس من يتزوج امرأة منهم ، وهذا ما فعله بعض الشباب المسلم هناك فيحصل على الجنسية ثم يطلقها لوجود معنى التوقيت والإضرار بالزوجة والعون على ردة المسلمة، والأمور بمقاصدها ولا ضرر ولا ضرار، وهو من باب الصد عن سبيل الله والمعاونة على الارتداد عن دين الله، وقدوة سيئة للكتابيات اللواتي يردن الإسلام .
رابعاً : قد يتشبث بعضهم بموضوع (الزواج بنية الطلاق) وهذا القول دون نظر وغوص إلى اعتبار النيات والنيات بمحل اعتبار شرعاً والنظر إلى المقصود والنيات مطلوب والمحلل الذي يتزوج المطلقة ثلاثاً لتحل لمطلقها الأول يحرم فعله وقد ، قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية يصدق عليه اسم الشيء المستعار ، وقوله صحيح فلا يقع الطلاق بالنية ولا الوقف بالنية ثم لماذا ينوي الشر مقدماً؟ ولا يحصل هذا إلا من شرير فيفعل الشيء وينوي ضده ثم عليه أن يصارحها بهذا ، فسد الذرائع والنظر إلى المآلات أصل من أصول الدين .(3/72)
ولا عبرة بمجرد مشروعية الظاهر ودليلنا على ذلك أن المنافقين الذي بنوا مسجد الضرار في المدينة ولا يهمهم إلا من يقصده للصلاة وقد طلب المنافقون الصلاة فيه من النبي عليه الصلاة والسلام فوافق عند رجوعه من تبوك فنزل قول الله تعالى : ? وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ? [ سورة: التوبة- الآية107] ، ووجه الدلالة في الآية أنهم بنوا مسجداً ولم يبنوا حانة للخمور ولا محلاً للرقص ولكن قصدهم تجميع المنافقين فلم ينههم الله عن الصلاة فيه فقط بل أمرهم بهدمه ، لئلا يبقى المباح شرعاً في الظاهر المؤدي إلى مفاسد فعلى المسلم أن لا يقف عند الظاهر فقط بل ينظر إلى الدوافع والقصود فإذا ظهرت النية بالقرينة الصالحة لم يعد أمراً مستترا بل يصبح أمراً منكشفاً والسريرة إذا انكشفت صارت أمراً ظاهرا ولا يقال الشريعة على الظاهر والله يتولى السرائر احتجاجاً بقول الشافعي وحق المسجد والمنارة الهدم وهؤلاء الطلاب يكون هذا حكمهم .
البداية والنهاية ،ج3/ 66.
أخرجه البخاري ، ج3/ 796، برقم 2158.
أخرجه احمد ، ج1/ 446 ، برقم 4267.
انظر البداية والنهاية ، ج3/ 94.
أخرجه البخاري ، ج3/1025، برقم 2631.
أخرجه أبو داوود ،ج2/5، برقم 2479 ، وصححه الألباني ، ج2/470، برقم 2166.
=======================
البلد الذي يُحكم بالقانون الوضعي؛ هل هو بلد كفر؟ تجب الهجرة منه؟
[الكاتب: محمد بن إبراهيم آل الشيخ]
هل تجب الهجرة من بلاد المسلمين التي يحكم فيها بالقانون؟
الجواب:
البلد التي يحكم فيها بالقانون؛ ليست بلد إسلام، تجب الهجرة منها.
وكذلك إذا ظهرت الوثنية من غير نكير ولا غيرت؛ فتجب الهجرة.
فالكفر؛ بفشو الكفر وظهوره، هذه بلد كفر.
أما إذا كان قد يحكم فيها بعض الأفراد، أو وجود كفريات قليلة لا تظهر؛ فهي بلد إسلام.
[فتاوى ورسائل الشيخ ابن إبراهيم، 1451، ج: 6]
==================
الهجرة مفاهيم وآثار
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
من أحداث الإسلام البارزة حدث الهجرة النبوية المباركة، ذلك الحدث الذي غيَّر الله به حال المسلمين في الجيل الأول من الضعف إلى القوة ومن الشتات إلى الدولة ذات العزة والقوة والمنعة.
ولم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أمراً اقتضته ظروفٌ معينة وأسبابٌ خاصة فحسب، بل هي سمةٌ بارزةٌ وخصيصةٌ تكاد أن تكون ملازمة لطريق الأنبياء في الدعوة إلى الله وإقامة منهجه عبر تاريخ البشرية الطويل، وهي صورة من صور المواجهة بين الأنبياء وخصومهم في المعركة الدائمة بين الحق والباطل، قال الله تعالى {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودُنَّ في ملتنا فأوحى إليهم ربُهم لنهلكنَّ الظالمين}.
وقد أُخرج نبي الله إبراهيم عليه السلام {قال أراغبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً}.
وهاجر نبي الله موسى عليه السلام فاراً بدينه من طغيان فرعون وجبروته، قال الله تعالى {وجاء رجلٌ من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين}.
وقال تعالى في قصة نبي الله شعيب عليه السلام {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنَّك يا شعيب والذين ءامنوا معك من قريتنا أو لتعودنَّ في ملتنا قال أو لو كنا كارهين}.
وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم كان أمر الهجرة عنده واضحاً منذ الأيام الأولى من البعثة، عندما قال له ورقة بن نوفل (ياليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك)، قال: (أو مخرجي هم ؟)، قال: (نعم لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي) [رواه البخاري]، وقال الله تعالى له {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}، وقال تعالى {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً}.
ثمار الهجرة:
فالهجرة في سبيل الله شأنها عظيم وأمرها كبير، فهي ثمرة من ثمرات الإيمان بالله عز وجل وتوحيده والخضوع لأمره، بل هي من أبرز تكاليف الولاء والبراء، الذي هو شرط لا يتحقق التوحيد بدونه.
والهجرة في أصل شرعيتها انتصارٌ للإيمان واستعلاء به وتخليص للنفس المؤمنة من أسر الطغيان وقيود الكفر، ذلك أن الإسلام دين العزة ودين القوة يأبى على معتنقيه أن يستذلوا للكفار، ويريد لهم أن يمتلئوا قوةً وعزةً وأن يكونوا متبوعين لا تابعين، ويريد الإسلام للمسلم أن يكون ذا سلطان ليس فوقه إلا سلطان الله تعالى، كما قال سبحانه {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}.(3/73)
ومن ذلك منع الإسلام من الإقامة بين ظهراني غير المسلمين لما تُشعره الإقامة بينهم من الوحدة والضعف وقد تدعوه إلى الاستحسان ثمَّ المتابعة، ومن هنا كان وعيد الله تعالى في حق من لم يهاجر شديداً، قال الله تعالى {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}، وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم (أنا برئٌ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)، قيل: (يا رسول الله ولم ؟)، قال: (لا تراءى نارهما... الحديث).
قال ابن حزم رحمه الله: (من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتدٌ له أحكام المرتد كلها، من وجوب القتل عليه متى قُدِرَ عليه، ومن إباحة ماله وانفساخ نكاحه وغير ذلك) اهـ
وقال: (وأما من فرَّ إلى أرض الحرب لظلم خافه ولم يحارب المسلمين ولا أعان عليهم ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شئ عليه لأنه مضطر مكره) اهـ
وقال (وإن كان إنما يقيم هناك لدنيا يصيبها وهو كالذمي لهم وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم فما يبعد عن الكفر وما نرى له عذراً، ونسأل الله العافية) [مجلد 13 / المحلى].
ولاتؤتي الهجرة ثمارها التي أرادها الله عز وجل من إعزاز للمسلم وانتصار لمنهجه إلاَّ إذا كانت وفق فهم الجيل الأول لدار الكفر ودار الإسلام، ذلك التقسيم الحق والتصنيف الفريد للعالَم والذي على ضوئه يعرف المسلم أين يعيش وإلى أين يهاجر.
فدار الإسلام كما عرَّفها أهل العلم: هي الدار التي تعلوها أحكام الإسلام وشريعته ويحكمها المسلمون ولو كان غالب سكانها كفاراً، والعكس: فدار الكفر هي التي تعلوها أحكام الكفر وشريعة الأهواء والشيطان ويحكمها الكفار ولو كان غالب سكانها مسلمين
والهجرة لا تكون إلا من دار الكفر إلى دار الإسلام، لذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) [متفق عليه].
الهجرة.. ومعناها:
فالهجرة في معناها العام يشترك فيها المسلم والكافر بل يشترك فيها الحيوان مع الإنسان.
وهي لغةً: الانتقال من بلد إلى بلد ومن مكان إلى آخر.
أما الهجرة المعتبرة شرعاً والمأمور بها ديناً ؛ فهي الهجرة إلى الله تعالى والى رسوله صلى الله عليه وسلم، أي إلى الدار التي يُحكم فيها بالكتاب والسنة، وأما غير ذلك فهي هجرة مثل هجرة الطيور تقطع البلدان بحثاً عن فتات تأكله أو دفء تتمرغ فيه.
وأما إذا عُدمت دار الإسلام وأُقصيت شريعة الله تعالى عن أن تحكم في واقع الناس وانفرط عقد المسلمين وتغلب الكفار على بلادهم، فالهجرة في هذه الحالة إنما هي هجرة للجهاد والإعداد وإن كانت في كل أحوالها مقدمة للجهاد وقرينة له لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الهجرة لا تنقطع ما دام الجهاد) [رواه أحمد].
الهجرة.. والجهاد:
والجهاد في سبيل الله ماضٍ إلى يوم القيامة كما أخبر صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، والله تعالى ذكر الهجرة مقرونة مع الجهاد في كثير من المواضع في كتابه، كقوله سبحانه {إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض}، وقوله تعالى {والذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً}.
فالهجرة إذاً ليست انسحاباً من المعركة وتخلياً عن نصرة الحق وإيثاراً للراحة والسلامة، بقدر ماهي فتنةٌ وامتحان من الله تعالى ليعلم سبحانه من ينصره ودينه، ولهذا لما ركن بعض المسلمين أول الإسلام إلى أموالهم وأبنائهم وتركوا الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل الله تعالى لهم ولاية ولا على المؤمنين نصرة إلا إذا استنصروهم في الدين وعلى قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد أو ميثاق، قال الله تعالى {والذين ءامنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وان استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق}.
وخلاصة القول:
أن الهجرة في سبيل الله تعالى ليست خلوداً للراحة ولا حباً في الحياة ولا استكانة للذل، ولكنها متابعة لمسيرة الحق في أبعاد جديدة، وتجميعٌ للقوة في تنظيم متماسك، وانطلاقةٌ واعية لإعداد القوة ورباط الخيل لإرهاب أعداء الله تعالى، ثم هي عودة للجهاد والاستشهاد وتقديم الغالي والرخيص في سبيل الحق الذي قامت عليه الأرض والسماوات
مفهوم الهجرة اليوم:
وقد كان مفهوم الهجرة عند الجيل الأول واضحاً لم يشبه غبش ولم تدخله الأهواء ولم تؤثر فيه أفكار العقول التي لا تستنير بهدي الكتاب والسنة.(3/74)
أما اليوم - وللأسف - فإن آثار الفهم المِعْوَجّ للهجرة في سبيل الله ظاهرة لا تحتاج إلى مزيد بيان، فلم يعد في حس كثير من الدعاة إلى الإسلام - فضلاً عن غيرهم - معناً لدار الإسلام ودار الحرب، ولم تعد موالاة الكافرين والدخول في طوائفهم وعساكرهم قدحاً في الإيمان ولا حتى مؤثرة فيه، وصارت بذلك الهجرة انتقالاً في الأرض من أجل حياة أفضل وعيش أرغد تحت أي مظلة كانت على أي أرض وُجدت.
ولا عجب إذاً - وفهم الجيل الأول لمعنى الهجرة في سبيل الله تعالى قد غاب عند كثير من المتأخرين وصار رهين الكتب وحبيس الماضي - أن ينتشر المسلمون بل خيرتهم وذوو التخصصات العلمية منهم في بقاع الأرض، ضعافاً بلا قوة وشتاتاً بلا دولة تقيم دينهم وتحقق عبودية الله تعالى في الأرض بإقرار منهجه وتحكيم شرعه.
ولا عجب كذلك أن يدعو الطواغيت المرتدون شعوبهم للهجرة والخروج من أرضهم، بل صارت لبعضهم إدارات للجهرة ومؤسسات ترعاها وتسهلها، لأن الهجرة فقدت معناها الذي أراده الله تعالى، وصارت انشغالاً بالزرع واتباعاً لأذناب البقر وتركاً للجهاد الذي أمر الله تعالى به وفرض الهجرة من أجله وجعلها مقدمة له ومقرونة معه، وصدق في المسلمين قول الشاعر:
كسرنا قوس حمزة عن جهالة ……وحطمنا بلا وعيٍ نباله
وصارت أمة الإسلام حيرى ……وعاش دعاتها في شر حالة
والله المسؤول أن يعيد المسلمين إلى فهم الجيل الأول ومنهج السلف الصالح، فإن حال آخرهم لا يصلح إلا بما صلح به حال أولهم.
والحمد لله رب العالمين
[عن مجلة الفجر]
=================
حكم الهجرة إلى بلاد الكفر الأصلية لتحسين المعيشة
[الكاتب: أبو محمد المقدسي]
ما حكم الهجرة إلى بلاد الكفر الأصلية - كأمريكا وأوروبا... الخ - لتحسين وضع المعيشة مثلا؟
الجواب:
أما عن حكم الهجرة إلى بلاد الكفر الأصلية - كأمريكا وأوروبا... الخ - والاستيطان بها لتحسين وضع المعيشة؛ فلا ينبغي للمسلم أن يقدم عليه.
وانما اجاز من اجاز الهجرة الى بلاد الكفر عند عدم وجود دار اسلام يأوي اليها المسلم، فيما إذا اضطر المسلم لذلك، بمعنى ان يؤذى في بلده ويضطر للخروج كما خرج المهاجرون الأولون من مكة الى الحبشة..
اما ان يهاجر الى البلاد المسؤول عنها ويستوطنها لغير ضرورة بل للدنيا وتحسين المعيشة - كما في السؤال - مع ما هو مشهور من مفاسدها وفتنها على دين المسلم وعرضه وأهله؛ فهذا مما لا ينبغي ان يتساهل فيه المسلم الحريص على دينه وأهله.
والسعيد من وعظ بغيره...
فكل من نعرفه هناك من الاخوة المسلمين العاقلين يحذرون من الهجرة لغير المضطر، لأن كثيرا من البلاد المنتسبة للإسلام اليوم على كفر انظمتها وفسادها اهون على دين المرء واقل شرا على اهله وعرضه.
وقد قيل؛ حنانيك بعض الشر أهون من بعض...
وعليه؛ فنحن لا ننصحك بالهجرة الى امثال امريكا واوروبا ونحوها من البلاد المسؤول عنها ما دمت متمكنا من العيش فيما هو اهون منها واقل فسادا وفتنة على دينك.
وفي صحيح البخاري: (باب؛ من الدين الفرار من الفتن).
حفظك الله من كل سوء وأعاذنا وإياك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
والسلام.
أخوك؛ أبو محمد المقدسي
================
التحذير من السفر إلى بلاد المشركين
[الكاتب: حمد بن علي بن عتيق]
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد...
فالواجب على المؤمن رد ما تنازع فيه الناس إلى الله ورسوله وأن يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون الله إلهه ومعبوده، والرسول صلى الله عليه وسلم إمامه ومتبوعه، وأن يرغب في الحق ويلزمه ويعض عليه بالنواجذ، وإن أعرض عنه الأكثرون، ويحذر الباطل ويجتنبه، وإن رغب فيه الأكثرون، فمن عرف الحق واتبعه سعد، ومن اغتر بالكثير غوى وبعد.
ومن أعظم الواجبات على محبة الله ومحبة ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال الظاهرة والباطنة، وكذلك محبة ما يحبه من الأشخاص، كالملائكة وصالحي بني آدم، وموالاتهم وبغض ما يبغضه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وبغض من فعل ذلك كائنا من كان.
فإذا رسخ هذا الأصل في قلب المؤمن لم يطمئن إلى عدو الله ولم يجالسه ولم يساكنه، ولأساءه النظر إليه.
فلما ضعف هذا الأصل من قلوب كثير من الناس واضمحل؛ صار حال كثير منهم مع أعداء الله كحاله مع أولياء الله، يلقى كلا منهم بوجه طلق، وصارت بلاد الحرب عنده كبلاد الإسلام، ولم يخش غضب الله الذي لا تطيق غضبه السماوات والأرض ولا الجبال الراسيات.(3/75)
ولما عظمت فتنة الدنيا في صدور كثير من الناس وصارت أكبر هممهم ومبلغ علمهم حملهم ذلك على التماسها وطلبها ولو بوجه يسخط الله، فسافروا إلى أعداء الله في بلادهم وخالطوهم في أوطانهم، ولبس الشيطان عليهم أمر دينهم فنسوا عهد الله وميثاقه الذي أخذه عليهم في مثل قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: من الآية 7].
ونسوا ما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه عند البيعة، فكان يأخذ البيعة على أحدهم؛ ألا ترى نارك نار المشركين، إلا أن تكون حربا لهم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تراءى نارهما)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله).
وقد سئل بعض أبناء شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله وعفا عنهم عن السفر إلى بلاد المشركين للتجارة؟
فأجابوا بما حاصله؛ أنه يحرم السفر إلى بلاد المشركين للتجارة، إلا إذا كان المسلم قويا له منعة يقدر على إظهار دينه.
وإظهار الدين؛ تكفيرهم وعيب آلهتهم والطعن عليهم والبراءة منهم، والتحفظ من موادتهم والركون إليهم واعتزالهم، وليس فعل الصلاة فقط إظهار الدين.
وقول القائل: "إنا نعتزلهم في الصلاة ولا نأكل ذبيحتهم"؛ حسن لكن لا يكفي في إظهار الدين وحده بل لابد مما ذكر.
وقول القائل: "إنهم لا ينكرون علينا"؛ قول فاسد، وإنكارنا على من يظن به الخير ممن يخالطهم يخاف عليه إن سلم من الردة ألا يسلم من الكبيرة الموبقة.
وأما من يظن موالاة الكفار، وموادتهم ويظن أنه يرى أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين؛ فليس للكلام معه كبير النفع، والله يهدي من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم.
وقد ألزم الله المؤمنين أن يأخذوا ما آتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وينتهوا عما نهاهم عنه، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم شديدا حذرهم عما حذرهم منه نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه أقسم ألا يظله سقف وهو قاطع رحم حذرا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع)، فكيف بمن جالس كافرا وواكله وألان له الكلام؟!
ويذكر عن عيسى عليه السلام أنه قال: (تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالبعد عنهم واطلبوا رضا الله بسخطهم)، فإذا كان هذا مع أهل المعاصي فكيف بالمشركين والكافرين والمنافقين؟!
قال الله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} [هود: 113].
قال أبو العالية: (أي؛ لا تميلوا إليهم كل الميل في المحبة ولين الكلام).
وتوعد سبحانه بمسيس من ركن إلى أعدائه ولو بلين الكلام، لأن الله افترض على عباده جهادهم والغلظة عليهم، كما قال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التوبة: من الآية 73]، وقال تعالى لما ذكر حال المنافقين: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء: 63].
قال بعض المفسرين: أمر الله نبيه بالإعراض عن المنافقين وإغلاظ القول عليهم وألا يلقاهم بوجه طلق، بل يكون وجهه مكفهرا عابسا متغيرا من الغيظ والبغض.
فإذا كان هذا مع المنافقين الذين هم بين أظهر المسلمين ويصلون ويزكون ويصومون ويحجون ويجاهدون معهم، فكيف بمن سافر إلى أعداء الله في بلادهم وخالطهم في أوطانهم، واستأذن عليهم في بيوتهم، وأقام بين أظهرهم أياما وليالي، وبدأهم بالسلام وأكثر لهم التحية، وألان لهم الكلام، وليس له عذر إلا طلب العاجلة؟!
ولم يجعل الله الدنيا عذرا لمن اعتذر بها، قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة: 24]، وقوله تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى} [الأعلى: 17 - 16]، قال تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} [الشورى: 20]، وقوله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا} [الاسراء: 18]، وقوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم} [المجادلة: من الآية 22].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنه ربه تبارك وتعالى في الحديث الطويل الذي قال فيه: (ولا يحملنكم الشيطان باستبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعة).
ولما نهى الله سبحانه عباده المؤمنين عن حمل المشركين إلى بيته وعلم من خلقه الاعتذار بالحاجة، قال تعالى: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} [التوبة: من الآية 28]، فلم يعذر الله بالفقر والحاجة إلى ما في أيديهم، وأخبر أنه هو الرزاق ذو القوة المتين.(3/76)
والموجب لهذه النصيحة؛ الشفقة عليكم، مخافة أن توادوهم فتكونوا مثلهم، والكلام في هذا مع مؤمن عاقل يخاف مقام ربه ونهى نفسه عن هواها، وأما المنافق والمرتاب ومن يرد الله فتنته فالله له بالمرصاد، {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 89].
والواجب على العاقل الناصح لنفسه؛ النظر في أمره والفكرة في ذنوبه ومجاهدة نفسه على التوبة النصوح والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود، والتبديل بالعمل الصالح، وتقديم محبة الله على جميع المحاب، وإيثار مرضاته على حظوظ النفوس، فإن كل شيء ضيعه ابن آدم ربما يكون له من عوض، فإن ضيع حظه من الله لم يكن له منه عوض، وقد خاب من كان حظه من الله دنيا يحتلب درهما، والخاسر من خسر دينه وإن أفاد.
نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يأخذ بنواصينا إليه وأن يلزمنا كلمة التقوى وأن يجعلنا من أهلها.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه
================
حكم السفر إلى بلاد الكفر لأجل التجارة؟
[الكاتب: سليمان بن عبد الله آل الشيخ] هل يجوز للمسلم أن يسافر إلى بلد الكفار الحربية لأجل التجارة أم لا؟
الجواب:
الحمد لله.
• إن كان يقدر على إظهار دينه، ولا يوالي المشركين؛ جاز له ذلك.
فقد سافر بعض الصحابة رضي الله عنهم - كأبي بكر رضي الله عنه وغيره من الصحابة - إلى بلدان المشركين لأجل التجارة ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم - كما رواه أحمد في مسنده وغيره -
• وإن كان لا يقدر على إظهار دينه، ولا على عدم موالاتهم؛ لم يجز له السفر إلى ديارهم - كما نص على ذلك العلماء -
وعليه تحمل الأحاديث التي تدل على النهي عن ذلك.
ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان؛ العمل بالتوحيد، وفرض عليه؛ عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسبباً إلى إسقاط ذلك؛ لم يجز.
وأيضاً؛ فقد يجره ذلك إلى موافقتهم، وإرضائهم - كما هو الواقع كثيراً ممن يسافر إلى بلدان المشركين، من فساق المسلمين - نعوذ بالله من ذلك.
[الدرر السنية: ج8/ ص 162 - 163
=================
فصل؛ في وجوب الهجرة وبيان أحكامها
[الكاتب: أحمد بن حمود الخالدي]
فإن وجدت الداران كانت الهجرة واجبة من دار الكفر إلى دار الإسلام ((والهجرة في اللغة: الإنتقال من أرض إلى أرض وفي الشرع الإنتقال من مواضع الشرك والمعاصي إلى بلد الإسلام والطاعة فكل موضع لايقدر الإنسان فيه على إظهار دينه يجب عليه أن يهاجر إلى موضعٍ يقدر فيه على إظهار دينه)) قاله الشيخ سعد بن عتيق.
قال الله تعالى: {قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم - إلى قوله تعالى - أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لايهدي القوم الفاسقين} ولقوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً} ولقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين)، وفي حديث: (لاتتراءى ناراهما)، وفي حديث آخر (من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله) وكلها في السنن فمن تركها - الهجرة - وهو قادر عليها فهو مرتكبُ حراماً بالإجماع ومتى تمكن المرء من إظهار دينه أستحبت له لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة الطويل: (أؤمرهم أن يتحولوا من دارهم إلى دار المهاجرين فإن أبو فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين) رواه مسلم.
وأما المستضعفون وهم الذين لايتمكنون من إظهار دينهم لضعفهم وعدم المنَعَة ولا يستطيعون الهجرة لعجزهم وعدم قدرتهم عليها فقد استثناهم الله في قوله تعالى: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لايستطيعون حيلة ولايهتدون سبيلا}, وفي الآية الأخرى: {ومالكم لاتقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنآ أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصراً} فهم لايستطيعون النهوض والخروج ولو استطاعوا لم يهتدوا إلى ذلك سبيلا وهم مع ذلك يدعون ربهم أن يخرجهم من دار الكفر إلى دار الإسلام وأن يؤيدهم بالأنصار والأولياء الذين يستنقذونهم من أيدي الكفار.
وإذا ظهرت البدع وانتشر الفسق في دار الإسلام شرعت الهجرة إلى دار السنة والإيمان فإن عدمت دار الإسلام وجبت الهجرة إلى أخف الضررين من أجل إقامة الدين والقيام به كأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى أرض الحبشة وهي دار النصارى في ذلك الوقت وقال إن فيها ملكاً لايظلم عنده أحد وقد قال تعالى: {يا عبادي الذين ءامنوا إن أرضي واسعة فإياى فاعبدون} [36].
هذا وقد تم المقصود مما أردناه.
وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ًكثيراً
تم الفراغ منها في 24 / 4/ 1422
الأحساء / الهفوف(3/77)
[36] الدرر السنية (8/496 - 10/140)، مجموعة التوحيد (1/371)، تفسير ابن جرير آية (23، 24) من سورة التوبة، آية (97) من سورة النساء، تفسير ابن كثير، الدررالسنية (8/290،428, 429 - 9/258).، مجموعة التوحيد (1/366إلى 375)، مجموع الفتاوى (28/291)، الدررالسنية (8/457،291 - 9/258).، تفسير ابن جرير آية (56) من سورة العنكبوت،تفسير السعدي، ابن كثير.
===================(3/78)
حكم غنائم المعارك التي يخوضها المسلمون
سؤال:
في موقف يكون المسلمون مشتركون في الجهاد ضد معتدين مثلما حدث في البوسنة ، حينما يقاتل المجاهدون فإنهم يأسرون أرضاً ومغانم ، مال ، أسلحة الخ حينما نتكلم من الناحية الإسلامية فإن السرقة في الإسلام حرام ولكن هل هذه سرقة؟ إذا لم تكن كذلك حينئذ :
كيف يجب أن يستخدم هذا المال ؟ من يستطيع أن يستخدمه ؟ هل يجب أن يوزع ؟ إلى من ؟
ماذا يقصد بالخمس ؟ جزاك الله خير.
الجواب:
الحمد لله
شرع الله تعالى الجهاد في سبيله لغايات ومقاصد عظيمة ، منها نشر هذا الدين ، وتعريف الناس به وبحقيقة الغاية التي من أجلها خلقهم الله تعالى ، ومنها ردُّ ودفع عدوان أعداء هذا الدين الذين يحاربونه لإطفاء نوره ، ويسعون للقضاء عليه وعلى أهله ، والأصل فيه قوله تعالى ( أُذِنَ للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) [ سورة النور ] . وإنَّ ما يحدث في البوسنة وكوسوفا والشيشان ونحوها من بلاد الإسلام هو مما أخبر الله تعالى عنه بقوله عن الكفار ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) وقال تعالى ( وودوا لو تكفرون ) وقال سبحانه ( ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) وقال تعالى ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) .
وكذلك فإن القتال الدّائر بين المسلمين والكفّار هو من التدافع الذي هو من سنن الله الكونية وقد ذكرها الله بقوله : ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وءاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(251) سورة البقرة ، وكذلك في قوله : ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40) سورة الحج
وقتال المسلمين اليوم لأعدائهم من الصرب والروس وغيرهم من الكفرة ما هو إلا ردٌ للعدوان والبغي والظلم ، وهو من جهاد الدّفع المشروع وتنطبق عليه أحكام الجهاد في الإسلام ، وما يأخذه المسلمون في هذه الحروب من أموال وأسلحة وآلات وأمتعة وعقارات ونحوها هي في الجملة للمسلمين ، وهي مال حلال لهم كما قال تعالى ( فكلوا مما غنتم حلالاً طيباً ) والمقصود بالغنيمة هي هذه الأموال النقدية والعينية ونحوها مما ينتفع به التي يأخذها المجاهدون في سبيل الله في حربهم مع الكفار . وليس هذا من باب السرقة أبداً ، وذلك لعدة أمور :
1 - أن السرقة هي أخذ مال على وجه الاختفاء من حرزه بغير حق ، وهذا مخالف له تماماً ، إذ أن أموال الجهاد من الفيء والغنيمة تؤخذ من الكفار بحقّ وهو الإذن الشرعي فيه بإباحته لنا بقوله تعالى ( فكلوا مما غنتم حلالاً طيباً ) ولفعله صلى الله عليه وسلم في حروبه وجهاده مع الكفار ، وسلبه لأمتعتهم وأموالهم .
2 - أن السرقة تكون في الأموال المعصومة المحترمة ، وأموال الكفار المحاربين ليست معصومة ولا محترمة .
3 - أن أقل ما يقال فيه أن هذا من باب الأخذ بالمثل ، وذلك لأن المسلمين هناك أخذت أموالهم وهضمت حقوقهم وسلبت ديارهم ، فهذا من استرداد حقوقهم وما اغتصب من أيديهم ، وهو من باب إرجاع الحق لهم ، والله تعالى يقول ( ولمن انتصر من بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ) أي إثم وجناح ( إنما السبيل على الذين يظلمون الناس بغير حق ) . إذ عُلِمَ هذا فإن جميع الأموال التي يحصل عليها المجاهدون في حربهم مع الكفار تسمى شرعاً ( غنيمة ) و ( فيئا ) والفرق بينهما أن الأول يكون في المال الذي أُخِذَ بقتال ، وأما الثاني فيكون مما أخذَ بدون قتال أي تركه الكفار وانهزموا أو استسلموا دون معركة ولا عمليات عسكرية ، والواجب الشرعي في الغنيمة هو أن يقوم الإمام أو أمير المجاهدين أو المسؤول والقائد فيهم بجمعها وتقسيمها إلى خمسة أقسام ، قسم منها يوزّع على الجهات التي ذكرها الله تعالى في قوله ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) وأما الأربعة أقسام الأخرى فتوزع بين المجاهدين المقاتلين الذين شاركوا في القتال ، وذلك بإعطاء سهم للراجل وللفارس ثلاثة أسهم ؛ ( سهم له وسهمان لفرسه وهذا إذا استعملت الخيل في القتال ) . ويكون هذا المال حلالا طيبا لجيش المسلمين قد أباحه الله تعالى لهم بقوله ( فكلوا مما غنتم حلالاً طيباً ) .
وأما المقصود بالخمس فهو ما أشارت إليه الآية الكريمة وهي مصرف هذه القسم الأول
وهم :
1 - سهم لله ولرسوله : يصرف في مصالح المسلمين العامة ، من غير تعيين ، لأن الله جعله له ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله غنيان عنه ، فعلم أنه لعباد الله ، فإذا لم يعين الله له مصرفاً ، دلَّ على أن مصرفه للمصالح العامة . ( تفسير ابن سعدي 3 / 169 ) .
2 - سهم منه لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام من بني هاشم وبني المطلب ، ويستوي فيه غنيهم وفقيرهم ، ذكرهم وأنثاهم .
3 - اليتامى : وهم الذين فقدوا آباءهم وهم صغار دون البلوغ .
4 - الفقراء المحتاجون .
5 - ابن السبيل وهو المسافر المنقطع الذي يحتاج إلى مال ليرجع إلى بلده .
وقال بعض المفسرين ( إن خمس الغنيمة لا يخرج عن هذه الأصناف ، ولا يلزم أن يكونوا فيه على السواء ، بل ذلك تبع للمصلحة ) وهذا ما رجحه الشيخ ابن سعدي رحمه الله .
ولمزيد من الفائدة انظر تفسير ابن كثير ( 2 / 269 ) وزاد المعاد لابن القيم ( 3/ 100 - 105 ) .
والله تعالى اعلم .
الشيخ محمد صالح المنجد
==============
المواصفات الواجب توافرها في البلاد المهاجر إليها
سؤال:
السؤال :
ما الشروط الواجب توفرها في بلد حتى تكون دار حرب أو دار كفر ؟.
الجواب:
الجواب :
الحمد لله
كل بلاد أو ديار يقيم حكامها وذوو السلطان فيها حدود الله ، ويحكمون رعيتها بشريعة الإسلام ، وتستطيع فيها الرعية أن تقوم بما أوجبته الشريعة الإسلامية عليها ؛ فهي دار إسلام ، فعلى المسلمين فيها أن يطيعوا حكامها في المعروف ، وأن ينصحوا لهم ، وأن يكونوا عونا لهم على إقامة شؤون الدولة ، ودعمها بما أوتوا من قوة علمية وعملية ، ولهم أن يعيشوا فيها ، وألا يتحولوا عنها إلا إلى ولاية إسلامية ، تكون حالتهم فيها أحسن وأفضل ، وذلك كالمدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها ، وإقامة الدولة الإسلامية فيها ، وكمكة بعد الفتح ؛ فإنها صارت بالفتح وتولي المسلمين أمرها دار إسلام بعد أن كانت دار حرب تجب الهجرة منها على من فيها من المسلمين القادرين عليها .(3/78)
وكل بلاد أو ديار ، لا يقيم حكامها وذوو السلطان فيها حدود الله ، ولا يحكمون في الرعية بحكم الإسلام ، ولا يقوى المسلم فيها على القيام بما وجب عليه من شعائر الإسلام ؛ فهي دار كفر ، وذلك مثل مكة المكرمة قبل الفتح ، فإنها كانت دار كفر ، وكذا البلاد التي ينتسب أهلها إلى الإسلام ، ويحكم ذوو السلطان فيها بغير ما أنزل الله ، ولا يقوى المسلمون فيها على إقامة شعائر دينهم ، فيجب عليهم أن يهاجروا منها ، فرارا بدينهم من الفتن ، إلى ديار يحكم فيها بالإسلام ، ويستطيعون أن يقوموا فيها بما وجب عليهم شرعا ، ومن عجز عن الهجرة منها من الرجال والنساء والولدان فهو معذور ، وعلى المسلمين في الديار الأخرى أن ينقذوه من ديار الكفر إلى بلاد الإسلام ، قال الله تعالى : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من النساء والرجال والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " النساء :97-99 ، وقال تعالى : " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا " النساء : 75 ، أما من قوي من أهلها على إقامة شعائر دينه فيها ، وتمكن من إقامة الحجة على الحكام وذوي السلطان ، وأن يصلح من أمرهم ، ويعدل من سيرتهم ، فيشرع له البقاء بين أظهرهم ؛ لما يرجى من إقامته بينهم من البلاغ والإصلاح ، مع سلامته من الفتن .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
=============
حكم الصور والأشكال على المشغولات الذهبية
سؤال:
السؤال :
ما حكم التالي :
أولاً : المشغولات المدون عليها لفظ الجلالة أو بعض الأسماء ( عبد الرحمن ، عبد الله .. الخ ) ؟
ثانياً : المشغولات التي تكون على شكل أبراج ( كبرج الحمل - العقرب - الميزان .. ألخ ) سواء كانت صورة مطبوعة أو مجسمة ولها ظل ، وحكم الصلاة فيها ؟
ثالثاً : المشغولات التي لا يكون فيها إلا صورة رأس فقط بدون الجسم ؟
رابعاً : بعض العمل الذهبية والتي تضاف إلى بعض الحلي ، ويكون فيها صورة جانبية لوجه رجل ، كجنيه جورج وغيره ؟
خامساً : نجمة إسرائيل أو الصليب أو ما يمت لليهود والنصارى بشيء من شعائرهم ؟
سادساً : الخواتم من الذهب المخصصة للرجال ، والتي يقول أصحاب المحلات : إنهم لا يبعونها على المسلمين ؟ .
الجواب:
الجواب :
الحمد لله
أولاً : لا يجوز شغل المعادن والأحجار بالآيات القرآنية ولفظ الجلالة لما في هذا العمل من صرف هذه الآيات عن المقصود العظيم منها ، وما يخشى من تعريضها وتعريض لفظ الجلالة للامتهان .
ثانياً : عمل هذه الأبراج فكرة جاهلية يجب على المسلم أن يبتعد عنها وعن كل ما فيه من إحياء لهذه الأفكار الجاهلية ، فضلاً عما تحمله من صور لذوات الأرواح ، وعليه فلا يجوز شغل المصوغات بأشكالها ولا يجوز اقتناؤها ، ولا الصلاة فيها .
ثالثاً ورابعاً : الأحاديث المحرمة لصور ذوات الأرواح عامة ، فتشمل كل صورة يطلق عليها أنها صورة يطلق عليها أنها صورة لذي روح ، ومن ذلك صورة الرأس ، وعليه فلا يجوز شغل هذه المصوغات بها .
وبيع صور ذوات الأرواح وشراؤها محرم ، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) متفق عليه البخاري 3/43 ، ومسلم 3/1207 ، ولما قد يسببه ذلك من غلو في أهلها ، كما وقع ذلك في قوم نوح ، فقد جاء في ( صحيح الإمام البخاري ) رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : ( وقالوا لا تذرن ألهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ) نوح/23 ، قال : ( أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت ) أخرجه البخاري 6/73 ولغير ذلك من النصوص الكثيرة التي وردت في تحريم التصوير واستعمال صور ذوات الأرواح .
هذا بالنسبة لما هو على شكل صور ذي روح ، أما ما كان عليه صور شيء من ذوات الأرواح سواء كان عملة ذهبية أو فضية أو ورقية أو كان قماشاً أو آلة ، فإن كان تداوله بين الناس لتعليقه في الحيطان ونحوها مما لا يعتبر امتهاناً له ، فالتعامل فيه محرم لشموله بأدلة تحريم التصوير ، واستعمال صور ذوات الأرواح ، وإن كان ما عليه الصورة من ذلك يمتهن ، كآلة يقطع بها أو بساط يداس أو وسادة يرقد عليها ونحو ذلك فيجوز ، لما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عتها أنها نصبت ستراً وفيه تصاوير ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزعه ، قالت : فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما ، وفي لفظ أحمد : قطعته مرفقتين ، فلقد رأيته متكئاً على إحداهما وفيها صورة البخاري 6/103،214،247 ، ومسلم 3/1168-1169 برقم (2107) ، مع العلم بأن تصوير ذوات الأرواح محرم ، لا يجوز فعله لا في العمل ولا في الملابس ولا غير ذلك ، لما تقدم من الأدلة في ذلك .
خامساً : لا يجوز عمل هذه المصوغات بما يحمل شعارات الكفر ورموزه ، كالصليب ونجمة إسرائيل ورموزه ، كالصليب ونجمة إسرائيل وغيرهما ، ولا يجوز بيعها ولا شراؤها .
سادساً : لا يجوز بيع خواتم الذهب المخصصة للرجال إذا كانوا يلبسونها ، وقول أصحاب المحلات إنهم لا يبيعونها على المسلمين لا يبرر عملهم ، فهم في ديار الإسلام ، وعلى من كان فيها ألا يتعامل إلا بما تجيزه شريعتها المطهرة ، وهذه الحجة نظير حجة من يبيع الخمرة ويقول : لا أبيعها إلا على الكفار لأن خاتم الذهب محرم على الرجال .
من فتاوى اللجنة الدائمة ج13/68-69-73.
=============
حكم وصية المسلم للكافر والكافر للمسلم
سؤال:
السؤال:
ما حكم وصية المسلم للكافر بأن يجعل له شيئا من ماله أقلّ من الثلث وما حكم العكس أي هل يقبل المسلم مالا من كافر إذا أوصى إليه ؟
الجواب:
الجواب:
الحمد لله
يتفق الفقهاء المسلمون من الحنفية والحنابلة وأكثر الشافعية على صحة الوصية إذا صدرت من مسلم لذميّ ، أو من ذمي لمسلم ، بشروط الوصية الشّرعية ، واحتجوا لذلك بقوله تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) سورة الممتحنة /8 ، ولأن الكفر لا ينافي أهلية التملك ، وكما يصح بيع الكافر وهبته فكذلك تصحّ وصيته .
ورأى بعض الشافعية أنها إنما تصح للذمي إذا كان معيّناً ، كما لو قال : أوصيت لفلان ، أما لو قال : أوصيت لليهود أو للنصارى .. فلا تصح ، لأنه جعل الكفر حاملاً على الوصية ، أما المالكية فيوافقون من سواهم على صحة وصية الذمي لمسلم ، أما وصية المسلم لذمي فيرى ابن القاسم وأشهب الجواز إذا كانت على وجه الصّلة ، بأن كانت لأجل القرابة ، وإلا كُرهت ، إذ لا يوصي للكافر ويدع المسلم ، إلا مسلم مريض الإيمان . الموسوعة الفقهية 2/312(3/78)
واليوم نرى بعض المسلمين مع الأسف وخصوصا من المقيمين في بلاد الكفار يوصون بمبالغ طائلة من أموالهم لجمعيات نصرانية أو يهودية أو غيرها من جمعيات الكفار بحجة أنها جمعيات خيرية أو تعليمية أو إنسانية ونحو ذلك مما لا وجه لانتفاع المسلمين به ، ولا ينتفع بهذه المبالغ إلا الكفّار ويتركون إخوانهم المسلمين المضطهدين والمشردين والجياع في العالم دون إعانة ولا إغاثة وهذا من ضعف الإيمان ومن علامات انحلاله وهو كذلك من دلائل الولاء للكفّار ومجتمعاتهم الكافرة والإعجاب بهم نسأل الله السلامة والعافية وصلى الله على نبينا محمد .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد
=============
هل يسافر لدول الكفر أم يعمل في مدينة سياحية ؟
سؤال:
أنا طالب بكلية التجارة السنة الرابعة ، وأود أن تنتهي فترة الدراسة بأسرع ما يمكن لتحقيق هدفين :
1. تلبية متطلبات عائلية هامة وعاجلة .
2. البدء في مشروع حياتي ...
وأمامي الآن عرضان :
1. العمل ابتداء من الصيف المقبل ( بعيداً عن تخصصي ) بمنطقة سياحية ساحلية - بمرتب مُغري .
2. السفر لأي دولة غربية حيث أنوي إكمال دراسة معتمدة ، وفي نفس الوقت أعمل أي عمل لسداد تكاليف هذه الدراسة بالإضافة إلى تحقيق الهدف .
أرجو نصيحتكم في اختيار أحد الأمرين مع اعتبار أن المشكلة المشتركة بين هذين الأمرين أنني شاب أعزب وأخشى على نفسي الفتنة لكني أتساءل كيف يعيش الشباب المسلمون الملتزمون في المجتمعات الغربية ؟.
الجواب:
الحمد لله
أولاً :
نشكر لك حرصك على تحري العمل الحلال وطلب المشورة ، وكذا حرصك على أهلك في تلبية مطالبهم ، ونسأل الله تعالى أن يوفقك لما فيه خيرك وسعادتك في الدنيا والآخرة .
ثانياً :
بما أن دراستك في " كلية التجارة " فإن عليك تحري الوظيفة المباحة ؛ لأن فرص العمل الحلال لمثل هذه التخصصات قليلة ، فإن عامة الشركات والمؤسسات الآن تتعامل بالربا أو التأمين أو غير ذلك من المعاملات المحرمة ، مما يجعل عمل المحاسب فيها نوعاً من معاونتهم على الإثم والعدوان .
ثالثاً :
السفر إلى الدول الغربية محفوف بالمخاطر على دين المرء وخلقه ، وقَلَّ من سافر إلى هناك وحافظ على دينه ولم يضيعه ، بسبب ما تعج به تلك البلاد من أفكار ومذاهب باطلة ، وانحراف في السلوك والأخلاق لا يخفى على أحد ، حتى صار بعض عقلائهم يحذرونهم من عاقبة هذا .
ولذلك كان من محاسن شرعنا الحكيم أن حرم على المسلم الإقامة في بلاد الكفر ، وقد سبق بيان ذلك في عدة أجوبة ، منها : (10338) ، (14235) .
ومن اضطر أو احتاج إلى السفر إلى هذه البلاد فلا بد من توفر شروط حتى يكون سفره مباحا ، وأهم ذلك : أن يكون على علم يقي به نفسه من الشبهات ، وأن يكون على دين وتقوى يقي به نفسه من الشهوات ، وقد يتعين عليه أن يصطحب معه زوجته إذا كان لا يعصم نفسه من الشهوات إلا بهذا .
وقد ذكرت أنك أعزب ، وتخاف على نفسك الفتنة فلا ينبغي لك الإقدام على مثل هذا الأمر والمخاطرة بدينك .
رابعاً :
وأما العمل في مكان في منطقة سياحية ساحلية بعيد عن تخصصك فهو بلا شك خير من ذهابك إلى تلك البلاد الكافرة ، لكن يجب عليك التنبه لما يلي :
1 - أن تكون طبيعة العمل حلالاً .
2- أن تكون بعيداً عن مواطن الفتنة ، كأن يكون العمل فيه اختلاط ، أو أن تكون طبيعة المنطقة فيها فسق وفجور لكونها سياحيَّة .
3- أن لا يكون عملك فيه إعانة لبعض هؤلاء السياح على ما يفعلونه من منكر ، فإنك بذلك تكون شريكاً لهم في الإثم .
فإذا خلا العمل من هذه المحظورات فلا حرج فيه إن شاء الله تعالى .
ونسأل الله لك التوفيق والسداد .
وأما سؤالك : كيف يعيش الشباب المسلمون الملتزمون في المجتمعات الغربية ؟
فلا شك أنهم يعانون كثيراً ، وكثير منهم ندم على قدومه إلى تلك البلاد ، وتجد كثيراً من مشكلاتهم في أسئلتهم الواردة إلى هذا الموقع ، مع أننا لا ننكر أن منهم من هو متمسك بدينه ، بل بعضهم كان السفر خيراً له ، غير أن هؤلاء قلة قليلة .
نسأل الله تعالى أن يثبتنا والمسلمين حتى نلقاه على دينه .
والله الموفق .
الإسلام سؤال وجواب
=============
تريد النصيحة للمسلمات اللاتي يعشن في الغرب
سؤال:
أنا امرأة مسلمة أعيش في دولة أجنبية مع زوجي لطلب العيش ، أرجو أن تذكروا الالتزامات والقواعد والواجبات التي يجب على المرأة المسلمة الالتزام بها وتحافظ عليها ؛ وذلك لكثرة عدد المسلمات في الدول الأجنبية .
الجواب:
الحمد لله
1. أول ما يجب عليكم هو ترك تلك الديار الكافرة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بَرِئ ممن أقام بين أظهر المشركين ، ولذلك فإنه يحرم عليكم البقاء في بلاد الكفر ، وخاصة أنكم فيها من أجل العمل ، وليس هذا من الأعذار الشرعية التي تجيز لكم البقاء فيها .
انظر السؤال (13363) و (27211) عن تحريم الإقامة في بلاد الكفر ، وشروط جواز ذلك في بعض الحالات .
2. وعليكم أن تختاروا من البلاد الإسلامية الأقرب إلى الستر والعفاف والاستقامة على الدين ، ومن المعلوم أن البلاد الإسلامية تتفاوت فيما بينها في هذه الأمور ، وليست كل البلاد يمكنكم الإقامة فيها - للأسف - بل يتبع هذا لجنسيتكم وقوانين البلد .
3. فإن لم يحصل منكم مغادرة لتلك البلاد : فعليكن بتقوى الله تعالى ، والاستقامة على أمره عز وجل في كل شئونكن ، وأول ذلك : الحرص على أسركن من التفكك والضياع في تلك البلاد التي تساهم في هذا ، فيجب عليكن الاهتمام بأولادكن ذكوراً وإناثاً وتربيتهم تربية إسلامية وربطهم بالتاريخ الإسلامي وتعليمهم الأحكام الشرعية ، وتقوية اللغة العربية عندهم .
4. يجب أن يكون مكان سكن الأسر المسلمة بعيداً عن أماكن الفجور والانحلال ، ولا بدَّ من اجتماع الأسر المسلمة المحافظة في مكان واحد من أجل أن يقوِّي أحدهم الآخر ، ويعين بعضهم بعضاً على طاعة الله تعالى ، ويساهمون بالتالي في حسن تربية أنفسهم وأبنائهم .
5. يحرم عليكن ترك الحبل على غاربه في علاقات أولادكم بأولاد الكفار ، ولا يجوز لكم تمكينهم من مشاهدة البرامج والأفلام الهابطة التي تدمر الأخلاق ، كما يجب الاهتمام بقراءاتهم ومراقبتها حتى لا تضل أفكارهم أو يفقدوا دينهم .
6. ينبغي أن يكون لكم في أسرتكم أوقات محددة ولو كانت قصيرة تلتقي فيها الأسرة جميعها لمتابعة بعضهم بعضا ، وللوقوف على مشاكل كل واحد من الأسرة قبل تفاقمها وصعوبة أو استحالة حلها .
7. كما يجب عليكن حسن اختيار الصحبة للأسر التي تختلطون بها ؛ خشية أن يكون لبعضهم تأثير سلبي على أفراد أسرتكم فتضيع جهودكم في التربية والتوجيه .
8. عليكن تبغيض هذه الحضارة وأخلاقها في نفوس أولادكم ، وإعلامهم بمخالفتها للشرائع والفطَر السليمة ، وضرب الأمثلة على ذلك ، وربطهم بالحضارة الإسلامية وأخلاقها ، وتنبيههم على أن بقاءكم في تلك الديار لن يطول .
9. وعليكن بكثرة زيارة البلد الله الحرام مكة المكرمة ، فاحرصوا على الحج كل عام ، وعلى العمرة أكثر من مرَّة في العام الواحد إن تيسر تقويةً لإيمانكم وتعليقاً لقلوب أولادكم بالإسلام والمسلمين ، وللأسف نرى تقصيراً واضحاً من الجاليات المسلمة في بلاد الكفر في هذا الجانب .(3/78)