قَوْلُهُ : ( أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ) أَيْ وَاجِبَةً . قَوْلُهُ : { تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ * أَيْ عِلْمَ الْفَرَائِضِ ) الْمَفْهُومُ مِنْ تَعَلَّمُوا , وَفِي رِوَايَةٍ : { وَعَلِّمُوهَا * ق ل عَلَى الْجَلَالِ . وَقُدِّمَ فِي الْحَدِيثِ التَّعَلُّمُ عَلَى التَّعْلِيمِ لِأَنَّ التَّعَلُّمَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْلِيمِ طَبْعًا حَالَةَ التَّعَلُّمِ , فَقُدِّمَ وَضْعًا لِتَوَافُقِهِمَا . وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّقَدُّمِ الطَّبِيعِيِّ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُتَأَخِّرِ مُحْتَاجًا إلَى الْمُتَقَدِّمِ وَلَا يَكُونُ الْمُتَقَدِّمُ عِلَّةً لَهُ وَتَعَلُّمُ عِلْمِ الْفَرَائِضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَعْلِيمِهِ كَذَلِكَ , أَمَّا إنَّ التَّعَلُّمَ لَيْسَ عِلَّةً لِلتَّعْلِيمِ فَظَاهِرٌ وَإِلَّا لَزِمَ التَّعْلِيمُ مِنْ حُصُولِ التَّعَلُّمِ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَعْلُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ ضَرُورِيٌّ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ حُصُولِهِ لِأَنَّ النَّاسَ كَثِيرًا مَا يَتَعَلَّمُونَ الْفَرَائِضَ وَلَا يُعَلِّمُونَهَا وَأَمَّا إنَّ تَعْلِيمَ الْفَرَائِضِ مُحْتَاجٌ إلَى تَعَلُّمِهِ فَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نَتَعَلَّمْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَنَا التَّعْلِيمُ وَالْمُرَادُ بِالْفَرَائِضِ أَنْصِبَاءُ الْوَرَثَةِ ا هـ شَرْحُ السِّرَاجِيَّةِ لِلسَّيِّدِ بْنِ الْمُبَارَكِ . قَوْلُهُ : ( مَقْبُوضٌ ) أَيْ مَيِّتٌ . قَوْلُهُ : ( سَيُقْبَضُ ) أَيْ يَنْعَدِمُ بِمَوْتِ أَهْلِهِ لَا بِنَزْعِهِ مِنْ الصَّدْرِ , بِخِلَافِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يُنْزَعُ مِنْ الصُّدُورِ وَالْوَرَقِ فَيُصْبِحُ الرَّجُلُ لَا يَلْقَى مَعَهُ شَيْئًا مِمَّا يَحْفَظُهُ وَيَجِدُ الْمُصْحَفَ وَرَقًا أَبْيَضَ . قَوْلُهُ : ( فَإِنَّهُ ) أَيْ الْعِلْمُ الْمَفْهُومُ مِنْ : تَعَلَّمُوا مِنْ دِينِكُمْ إلَخْ قَوْلُهُ : ( وَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ ) وَلَا يُعَارَضُ ; بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضْلٌ : آيَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مَاضِيَةٌ وَفَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ * فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ , وَبِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّنْصِيفَ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَاعْتِبَارُ التَّثْلِيثِ بِاعْتِبَارِ الْأَدِلَّةِ وَهِيَ فِي هَذَا الْعِلْمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ الْحِسَابِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ . قَوْلُهُ : ( نِصْفَانِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُ الشَّاعِرِ تَحْرِيرَ الْمُنَاصَفَةِ بَلْ انْقِسَامُهُمْ فِيهِ قِسْمَيْنِ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ أَكْثَرَ أَفْرَادًا مِنْ الْآخَرِ ; وَلِذَا قَالَ م ر : الْمُرَادُ بِالنِّصْفِ الشَّطْرُ أَيْ الْجُزْءُ لَا حَقِيقَةَ النِّصْفِ , لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ جُزْءٌ مِنْ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ فَالْعِبَادَاتُ جُزْءٌ مِنْهُ وَالْبُيُوعُ جُزْءٌ مِنْهُ , وَهَكَذَا فَلَا يَكُونُ فِيهِ كَبِيرُ مَدْحٍ لِلْفَرَائِضِ , فَالْأَوْلَى حَمْلُ النِّصْفِ فِيهِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ نَفْعِهِ فِي الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ , وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ النِّصْفِ بِمَعْنَى النِّصْفِ لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ صِنْفٌ مِنْ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ فَلَا يَكُونُ لِلْفَرَائِضِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهَا , وَمِنْ ثَمَّ قَالَ شَيْخُنَا ح ف : الْجَوَابُ الثَّانِي غَيْرُ ظَاهِرٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِذَا حَكَاهُ بِ " قِيلَ " تَدَبَّرْ . وَمِمَّا يُؤَيِّدُ حَمْلَ النِّصْفِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ حَدِيثُ : { التَّدْبِيرُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ * فَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُبَالَغَةُ فِي أَنَّهُ نِصْفَهَا , وَهُوَ مُخَرَّجٌ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُلْزِمُ الْمُثَنَّى الْأَلِفَ مُطْلَقًا أَوْ اسْمُ كَانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ وَالنَّاسُ مُبْتَدَأٌ وَنِصْفَانِ خَبَرٌ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ .
===================
المهاجرون والأنصار ومن اقتفى أثرهم هم المؤمنون حقا
قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* (74) {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* (75) سورة الأنفال
قال الإمام القرطبي رحمه الله(1)
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 2361)(1/278)
الخامسة قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ } يريد من بعد الحُدَيْبِية وبيعة الرضوان . وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقلّ رتبة من الهجرة الأُولى . والهجرة الثانية هي التي وقع فيها الصلح ، ووضعت الحرب أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة . ولهذا قال عليه السلام : " لا هجرة بعد الفتح " فبيّن أن من آمن وهاجر من بعدُ يلتحق بهم . ومعنى «منكم» أي مثلكم في النّصر والموالاة .
السادسة قوله تعالى : { وَأْوْلُواْ الأرحام } ابتداء . والواحد ذو ، والرّحِم مؤنثة ، والجمع أرحام . والمراد بها هاهنا العصبات دون المولود بالرحم . ومما يبيّن أن المراد بالرحِم العصبات قول العرب : وَصَلَتْك رَحِم . لا يريدون قرابة الأُمّ . قالت قُتيلة بنت الحارث أُخت النضر بن الحارث كذا قال ابن هشام . قال السهيليّ : الصحيح أنها بنت النضر لا أُخته ، كذا وقع في كتاب الدلائل ترثي أباها حين قتله النبيّ صلى الله عليه وسلم صَبْراً بالصفراء :
يا راكباً إن الأُثيل مِظنّةٌ ... من صُبح خامسةٍ وأنت مُوَفَّقُ
أبلِغ بها مَيْتاً بأن تحيّة ... ما إن تزال بها النجائب تخفِقُ
منّي إليك وعبرةٌ مسفوحةٌ ... جادت بواكفِها وأُخرى تخنقُ
هل يسمَعني النّضُر إن ناديتُه ... أم كيف يسمع ميّت لا ينطق
أمحمدٌ يا خيرَ ضِنْءِ كريمةٍ ... في قومها والفحلُ فحلٌ مُعرِق
ما كان ضرّك لو مننْتَ وربّما ... مَنّ الفتى وهو المَغِيظ المُحْنَق
لو كنتَ قابلَ فدية لفديتُه ... بأعزَّ ما يُفْدى به ما يُنْفِق
فالنّضرُ أقربُ مَن أسَرْتَ قرابةً ... وأحقُّهم إن كان عِتق يُعتَق
ظلّت سيوفُ بني أبيه تَنوشُه ... للَّه أرحام هناك تُشقَّق
صَبْراً يُقاد إلى المنّية مُتْعَباً ... رَسْفَ المُقَيَّد وهو عانٍ مُوثَق
السابعة واختلف السلف ومَن بعدهم في توريث ذوي الأرحام وهو من لا سهم له في الكتاب من قرابة الميت وليس بعصبة؛ كأولاد البنات ، وأولاد الأخوات ، وبنات الأخ ، والعمة والخالة ، والعمِّ أخ الأب للأُم ، والجدِّ أبي الأُم ، والجدَّة أُمّ الأُم ، ومن أدْلَى بهم . فقال قوم : لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام . ورُوي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر ، ورواية عن عليّ ، وهو قول أهل المدينة ، ورُوي عن مكحول والأُوزاعي ، وبه قال الشافعيّ رضي الله عنه . وقال بتوريثهم : عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدَّرْدَاء وعائشة وعليّ في رواية عنه ، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق . واحتجّوا بالآية ، وقالوا : وقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان القرابة والإسلام؛ فهم أوْلى ممن له سبب واحد وهو الإسلام . أجاب الأوّلون فقالوا : هذه آية مجملة جامعة ، والظاهر بكل رحم قَرُب أو بَعُد ، وآيات المواريث مفسِّرة والمفسّر قاضٍ على المجمل ومبيّن . قالوا : وقد جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الوَلاء سبباً ثابتاً ، أقام المَوْلَى فيه مُقام العصبة فقال : " الولاء لمن أعتق " ونهى عن بيع الولاء وعن هبته . احتج الآخرون بما روى أبو داود والدَّارَقُطْنِيّ عن المِقدام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ترك كَلاًّ فإليّ وربما قال فإلى الله وإلى رسوله ومن ترك مالاً فلورثته فأنا وارث من لا وارث له أعقِل عنه وأرثه والخال وارث من لا وارث له يَعقِل عنه ويرثه " وروى الدَّارَقُطْنِيّ عن طاوس قال قالت عائشة رضي الله عنها : «الله مَوْلَى من لا مَوْلَى له ، والخال وارث من لا وارث له» . موقوفٌ . ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخال وارث " ورُوي عن أبي هريرة قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال «لا أدري حتى يأتيني جبريل» ثم قال : «أين السائل عن ميراث العمة والخالة»؟ قال : فأتى الرجل فقال : «سارّني جبريل أنه لا شيء لهما» " قال الدّارَقطنيّ : لم يسنده غير مَسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف ، والصواب مرسل . ورُوي عن الشّعبي قال قال زياد بن أبي سفيان لجليسه : هل تدري كيف قضى عمر في العمة والخالة؟ قال لا . قال : إني لأعلم خلقِ الله كيف قضى فيهما عمر ، جعل الخالة بمنزلة الأُم ، والعمة بمنزلة الأب .
--------------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله (1):
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا، عطف بذكر ما لهم في الآخرة، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان، كما تقدم في أول السورة، وأنه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوب إن كانت، وبالرزق الكريم، وهو الحسن الكثير الطيب الشريف، دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 99)(1/279)
ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال: { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الآية [التوبة: 100]، وقال: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَااغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [الحشر:10]وفي الحديث المتفق عليه، بل المتواتر من طرق صحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء مع من أحب"، وفي الحديث الآخر: "من أحب قوما حُشر معهُم" (1)
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة". قال شريك: فحدثنا الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
تفرد به أحمد من هذين الوجهين (2)
وأما قوله تعالى: { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } أي: في حكم الله، وليس المراد بقوله: { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة، الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة، بل يُدْلون بوارث، كالخالة، والخال، والعمة، وأولاد البنات، وأولاد الأخوات، ونحوهم، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة، بل الحق أن الآية
__________
(1) جاء من حديث أبي قرصافة وجابر، أما حديث جابر فرواه الطبراني في المعجم الكبير (3/19) من طريق زياد عن عزة بنت عياض عن أبي قرصافة مرفوعا بلفظ: "من أحب قوما حشره الله في زمرتهم"، وفي إسناده من لا يعرف. رواه الخطيب في تاريخه (5/196) من طريق إسماعيل بن يحيى عن سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر مرفوعا بلفظ: "من أحب قوما على أعمالهم. حشر يوم القيامة في زمرتهم، فحوسب بحسابهم وإن لم يعمل أعمالهم" وإسماعيل بن يحيى، ضعيف.
(2) المسند (4/343).
عامة تشمل جميع القرابات. كما نص ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة وغير واحد: على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أو لا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص. ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصِيَّة لوارث"، قالوا: فلو كان ذا حق لكان له فرض في كتاب الله مسمى، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا، والله أعلم.
---------------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا . إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد ; إنما يتحرك ككائن عضوي , تندفع أعضاؤه , بطبيعة وجوده وتكوينه , للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه . فهم بعضهم أولياء بعض طبعاً وحكماً . . ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص , ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى . فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض , فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده . ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام ; وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله ; ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى . وهو أفسد الفساد: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) . .
ولا يكون بعد هذا النذير نذير , ولا بعد هذا التحذير تحذير . . والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة , يتحملون أمام الله - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض , وتبعة هذا الفساد الكبير .
ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم) . .
أولئك هم المؤمنون حقاً . . فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان . . هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين . .
إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ; ولا بمجرد اعتناقها ; ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها . . إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي , إلا إذا تمثل في تجمع حركي . . أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي , لا يصبح [ حقاً ] إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 221)(1/280)
وهؤلاء المؤمنون حقاً , لهم مغفرة ورزق كريم . . والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله . . وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم . بل هي أكرم الرزق الكريم .
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين , كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي:
(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) . .
ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة ; حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته , وانتظم الناس في مجتمعه . فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريباً ; لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام , وقيام القيادة المسلمة على شريعة الله وسلطانه . .
فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية ; وارتفع حكم الله - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض , وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها , ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها . . الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام - كالجولة الأولى - تأخذ - في التنظيم - كل أحكامها المرحلية , حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة ; ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى - بإذن الله - فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل ; كما حدث في الجولة الأولى . .
ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة , وتكاليفها الخاصة . .
قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم , في كل صوره وأشكاله , وفي كل التزاماته ومقتضياته . بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم . . فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية , اللازمة لعملية البناء الأولى , المواجهة لتكاليفها الاستثنائية . وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة - ولكنه في إطار المجتمع المسلم في دار الإسلام:
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . .
فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام , من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام . .
إن هذا يلبي جانباً فطرياً في النفس الإنسانية . ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية , ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي . .
إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية ; ولكنه يضبطها . يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي ; فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها - في إطاره العام . ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة , التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام , التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية . .
وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى ; وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى . .
إن الله بكل شيء عليم . .
وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر , وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها . فهي من العلم المحيط بكل شيء . علم الله تعالى . .
وبعد فإن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ; ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ; ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز "إنسانية الإنسان" وتقويتها وتمكينها , وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني . وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب "الجهالة العلمية ! " مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ; ومرة بأنه مادة كسائر المواد ! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه "الصفات" مع الحيوان ومع المادة له "خصائص" تميزه وتفرده ; وتجعل منه كائناً فريداً - كما اضطر أصحاب "الجهالة العلمية ! " أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا , فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة !
والإسلام - بمنهجه الرباني - يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز "الإنسان" وتفرده بين الخلائق ; فيبرزها وينميها ويعليها . . وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي , التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة , إنما يمضي على خطته تلك . فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في "الإنسان" من "خصائص" . .
إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب , ولا اللغة , ولا الأرض , ولا الجنس , ولا اللون , ولا المصالح , ولا المصير الأرضي المشترك . . فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان . وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع , وإلى اهتمامات القطيع , وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع !(1/281)
أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده , ووجود هذا الكون من حوله تفسيراً كلياً ; كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله , ومصيره ومصير الكون من حوله ; وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى , فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق , والذي ينفرد به عن سائر الخلائق ; والذي يقرر "إنسانيته" في أعلى مراتبها ; حيث يخلف وراءه سائر الخلائق .
ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة ; يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية . فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضاً , لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها . . إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ; ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه ; ولا تغيير اللون الذي ولد به . فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد , لم يكن له فيها اختيار , ولا يملك فيها حيلة . . كذلك مولده في أرض بعينها , ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد , وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ; ومجال "الإرادة الحرة " فيها محدود . .
ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني . . فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج , فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني , ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره ; وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته ; فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه , أو الأرض التي ولد فيها , أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره .
. . وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي . .
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ; ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها , دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة ! ولإبراز "خصائص الإنسان" في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها , دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات , بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة !
وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ; وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ; وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة ; وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة . على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق:العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما "عربية " إنما كانت دائماً "إسلامية " . ولم تكن يوماً ما "قومية " إنما كانت دائماً "عقيدية " . .
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة , وبآصرة الحب , وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . . فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم , وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ; وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة ; وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ; وتبرز فيها "إنسانيتهم" وحدها بلا عائق . . وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ ! . .
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً . فقد ضمت بالفعل أجناساً متعددة ; ولغات متعددة , وأرضين متعددة . . .
ولكن هذا كله لم يقم على آصرة "إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية , وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . .
ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ; ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . .
تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً . . ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه ! تجمعاً قومياً استغلالياً ; يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية , واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها:الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما , والإمبراطورية الفرنسية . .
وكلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت !
وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر , يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة "إنسانية " عامة . إنما أقامته على القاعدة "الطبقية " . .(1/282)
فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع على قاعدة طبقة "الأشراف" ; وذلك تجمع على قاعدة طبقة "الصعاليك" [ البروليتريا ] والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى !
وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن "المطالب الأساسية " للإنسان هي "الطعام والمسكن والجنس" - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام !!!
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال مفرداً . . والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر , يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً !
هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ; ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق . .
وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار ; ويعملون ضد خط الصعود الإنساني ; ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه "البهائم" من الحظيرة والكلأ !
بعد أن رفعه الله إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه "الناس" !
وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصباً وجموداً ورجعية , وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدماً ورقياً ونهضة ; وأن تقلب القيم والاعتبارات كلها ; لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة . . خصيصة الإنسان العليا . .
ولكن الله غالب على أمره . .
وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء . .
وسيكون ما يريده الله حتماً . .
وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم الله الإنسان بها . والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق . وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق , تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام . .
--------------------
وفي التفسير الوسيط (1):
وقوله - تعالى - { والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار .
إذ أن الآية الأولى من هذه الآيات الكريمة قد ساقها الله - تعالى - لإيجاب التواصل بينهم ، أما هذه الآية فقد ساقها سبحانه - للثناء عليهم والشهادة لهم بأنهم هم المؤمنون حق الايمان وأكمله ، بخلاف من أقام من المؤمنين بدار الشرك ، مع الحاجة إلى هجرته وجهاده .
قال الفخر الرازى : أثنى الله - تعالى - على المهاجرين والأنصار من ثلاثة أوجه :
أولها - قوله : { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } فإن هذه الجملة تفيد المبالغة فى مدحهم ، حيث وصفهم بكونهم حقين فى طريق الدين .
وقد كانوا كذلك ، لأن من لم يكن محقا فى دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة ، ولم يفارق الأهل والوطن ، ولم يبذل النفس والمال .
وثانيها - قوله : { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ } والتنكير يدل على الكمال ، أى : مغفرة تامة كاملة .
وثالثها - قوله : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } والمراد منه الثواب الرفيع .
والحاصل : أنه - سبحانه - شرح أحوالهم فى الدنيا والآخرة . أما فى الدنيا فقد وصفهم بقوله : { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } .
وأما فى الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب ، وإما جلب الثواب .
أما دفع العقاب فهو المراد بقوله { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ . . . } وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان القسم الرابع من أقسام المؤمنين فى العهد النبوى فقال : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ . . } .
أى : والذين آمنوا من بعد المؤمنين السابقين إلا الإيمان والهجرة ، وهاجروا إلى المدينة ، وجاهدوا مع المهاجرين السابقين والأنصار من أجل إعلاء كملة الله ، فأولئك الذين هذا شأنهم { مِنكُمْ } أى : من جملتكم - أيها المهاجرون والأنصار فى استحقاق الموالاة والنصرة ، واستحقاق الأجر من الله ، إلا أن هذا الأجر ينقص عن أجركم ، لأنه لا يتساوى السابق فى الإِيمان والهجرة والجهاد مع المتأخر فى ذلك .
قالوا : والمراد بهذا القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، أهل الهجرة الثانية التى وقعت بعد الهجرة الأولى ، وقيل المرد بهذا القسم المهاجرون بعد صلح الحديبية ، أو بعد غزوة بدر ، أو بعد نزول هذه الاية ، فيكون الفعل الماضى { آمَنُواْ } وما بعده بمعنى المستقبل .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1879)(1/283)
وقوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله . . } بيانا لحقوق الأقارب بالنسب .
والأرحام جمع رحم ، وأصله رحم المرأة الذى هو موضع تكوين الولد فى بطنها ، وسمى به الأقارب ، لأنهم فى الغالب من رحم واحدة وأولا الأرحام فى اصطلاح علماء الفرائض : هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب .
أى : وذوو القرابة بعضهم أولى فى التوارث وفى غير ذلك مما تقتضيه مطالب الحياة من التكافل والتراحم .
وقوله : { فِي كِتَابِ الله } أى : فى حكمه الذى كتبه على عباده المؤمنين ، وأوجب به عليهم صلة الأرحام فى هذه الآية وغيرها .
قال الآلوسى : " أخرج الطيالسى والطبرانى وغيرها عن ابن عباس قال : آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه ، وورث بعضعه من بعض حتى نزلت هذه الآية فتكروا ذلك وتوارثوا بالنسب .
أى أن هذه الآية الكريمة نسخت ما كان بين المهاجرين والانصار من التوارث بسبب الهجرة والمؤاخاة .
وقوله : { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تذييل ختمت به السورة الكريمة لحض المؤمنين على التمسك بما اشتملت عليه من آداب وتشريعات وأحكام لينالوا رضاه وثوابه .
أى : إن الله - تعالى - مطلع على كل شئ مما يدور ويجرى فى هذا الكون ، ولا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء ، وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت المهاجرين والأنصار مدحا عظيما ، كما مدحت المؤمنين من بعدهم ، وحضت على الجهاد فى سبيل الله ، وأمرت بالوفاء بالعهود ، وبالوقوف صفا واحدا فى وجه الكفار حتى تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
وبعد : فهذا ما وفق الله إليه فى تفسيره سورة الأنفال ، أو سورة بدر - كما سماها ابن عباس - لأنها تحدثت باستفاضة عن أحداث هذه الغزوة وعن أحوال المشتركين فيها ، وعن باشارت النصر التى تقدمتها وصاحبتها وعن غنائمها وأسراها .
كما تحدثت عن صافت المؤمنين الصادقين ، وعن الأقوال والأعمال التى يجب عليهم أن يتمسكوا بها لينالوا رضا الله ونصره ، وعن رذائل المشركين ومسالكهم القبيحة لمحاربة الدعوة الاسلامية ، وعن المبادئ التى جيب أن يسير عليهم المسلمون فى حربهم وسلمهم ، وعن سنن الله فى خلقه التى لا تتغير ولا تتبدل ، والتى من أهمها :
أنه - سبحانه - لا يسلب نعمة عن قوم إلا بسبب معاصيهم وتنكبهم الطريق القويم ، قال - تعالى - :{ ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } وأنه - سبحانه - قد جعل العاقبة الحسنة للمؤمنين ، والعاقبة السيئية للفاسقين ، وأخبر المنمحرفين عن صراطه بأنه سيغفر لهم ما سلف من خطاياهم متى أقلعوا عنها ، وأخلصوا له العبادة .
قال - تعالى - { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وختاما : نسأل الله - تعالى - أن يوفقنا للمداومة على خدمة كتابه ، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا ، وأن يتم لنا نورنا ويغفر لنا إنه على كل شئ قدير .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
----------------------
وقال السعدي(1) :
الآيات السابقات في ذكر عقد الموالاة بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار.
وهذه الآيات في بيان مدحهم وثوابهم، فقال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ } أي: المؤمنون من المهاجرين والأنصار { هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالاة بعضهم لبعض، وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين.
{ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } من اللّه تمحى بها سيئاتهم، وتضمحل بها زلاتهم، { و } لهم { رِزْقٌ كَرِيمٌ } أي: خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم.
وربما حصل لهم من الثواب المعجل ما تقر به أعينهم، وتطمئن به قلوبهم ، وكذلك من جاء بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار، ممن اتبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل اللّه. { فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } لهم ما لكم وعليهم ما عليكم (1) .
فهذه الموالاة الإيمانية - وقد كانت في أول الإسلام - لها وقع كبير وشأن عظيم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة، غير الأخوة الإيمانية العامة، وحتى كانوا يتوارثون بها، فأنزل اللّه { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فلا يرثه إلا أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض،فإن لم يكونوا، فأقرب قراباته من ذوي الأرحام، كما دل عليه عموم هذه الآية الكريمة،وقوله: { فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي: في حكمه وشرعه.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 327)(1/284)
{ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ومنه ما يعلمه من أحوالكم التي يجري من شرائعه الدينية عليكم ما يناسبها. تم تفسير سورة الأنفال وللّه الحمد.
---------------------
وقال الطاهر بن عاشور (1):
الأظهر أن هذه جملة معترضة بين جملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]، وجملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا} [الأنفال: 75] الآية، والواو اعتراضية للتنويه بالمهاجرين والأنصار، وبيان جزائهم وثوابهم، بعد بيان أحكام ولاية بعضهم لبعض بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] فليست هذه تكرير للأولى، وإن تشابهت ألفاظها: فالأولى لبيان ولاية بعضهم لبعض، وهذه واردة للثناء عليهم والشهادة لهم بصدق الإيمان مع وعدهم بالجزاء.
وجيء باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} لمثل الغرض الذي جيء به لأجله في قوله: {أولئك بعضهم أولياء بعض} كما تقدم.
وهذه الصيغة صيغة قصر، أي قصر الإيمان عليهم دون غيرهم ممن لم يهاجروا، والقصر هنا مقيد بالحال في قوله: {حَقّاً}. فقوله: {حَقّاً} حال من {الْمُؤْمِنُونَ} وهو مصدر جعل من صفتهم، فالمعنى: أنهم حاقون، أي محققون لإيمانهم بأن عضدوه بالهجرة من دار الكفر، وليس الحق هنا بمعنى المقابل للباطل، حتى يكون إيمان غيرهم ممن لم يهاجروا باطلا، لأن قرينة قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] مانعة من ذلك، إذ قد أثبت لهم الإيمان ونفي عنهم استحقاق ولاية المؤمنين.
والرزق الكريم هو الذي لا يخالط النفع به ضر ولا نكد، فهو نفع محض لا كدر فيه.
[75] {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}.
بعد أن منع الله ولاية المسلمين للذين آمنوا ولم يهاجروا بالصراحة، ابتداء ونفي عن الذين لم يهاجروا تحقيق الإيمان، وكان ذلك مثيرا في نفوس السامعين أن يتساءلوا هل لأولئك تمكن من تدارك أمرهم برأب هذه الثلمة عنهم، ففتح الله باب التدارك بهذه الآية. {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}.
فكانت هذه الآية بيانا، وكان مقتضى الظاهر أن تكون مفصولة غير معطوفة، ولكن عدل عن الفصل إلى العطف تغليبا لمقام التقسيم الذي استوعبته هذه الآيات. ودخول الفاء على الخبر وهو {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} لتضمين الموصول معنى الشرط من جهة أنه جاء كالجواب عن سؤال السائل، فكأنه قيل: وأما الذين آمنوا من بعد وهاجروا الخ، أي: مهما يكن من حال الذين آمنوا ولم يهاجروا، ومن حال الذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا، ف {الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} وبذلك صار فعل {آمَنُوا} تمهيدا لما بعده من {هاجروا وجاهدوا} لأن قوله: {مِنْ بَعْدُ} قرينة على أن المراد: إذا حصل منهم ما لم يكن حاصلا في وقت نزول الآيات السابقة، ليكون أصحاب هذه الصلة قسما مغايرا للأقسام السابقة. فليس المعنى أنهم آمنوا من بعد نزول هذه الآية، لأن الذين لم يكونوا مؤمنين ثم يؤمنون من بعد لا حاجة إلى بيان حكم الاعتداد بإيمانهم، فإن من المعلوم أن الإسلام يجب ما قبله، وإنما المقصود: بيان أنهم إن تداركوا أمرهم بأن هاجروا قبلوا وصاروا من المؤمنين المهاجرين، فيتعين أن المضاف إليه المحذوف الذي يشير إليه بناء {بَعْدُ} على الضم أن تقديره: من بعد ما قلناه في الآيات السابقة، وإلا صار هذا الكلام إعادة لبعض ما تقدم، وبذلك تسقط الاحتمالات التي تردد فيها بعض المفسرين في تقدير ما أضيف إليه "بعد".
وفي قوله: {مَعَكُمْ} إيذان بأنهم دون المخاطبين الذين لم يستقروا بدار الكفر بعد أن هاجر منها المؤمنون وأنهم فرطوا في الجهاد مدة.
والإتيان باسم الإشارة للذين آمنوا من بعد وهاجروا، دون الضمير، للاعتناء بالخبر وتمييزهم بذلك الحكم.
و"من" في قوله: {مِنْكُمْ} تبعيضية، ويعتبر الضمير المجرور بمن، جماعة المهاجرين أي فقد صاروا منكم، أي من جماعتكم وبذلك يعلم أن ولايتهم للمسلمين.
{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
قال جمهور المفسرين قوله: {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} أي مثلكم في النصر والموالاة قال مالك: إن الآية ليست في المواريث وقال أبو بكر بن العربي: قوله: {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} يعني في الموالاة والميراث على اختلاف الأقوال، أي اختلاف القائلين في أن المهاجر يرث الأنصاري والعكس، وهو قوله فرقة. وقالوا: إنها نسخت بآية المواريث.
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 9 / ص 173)(1/285)
عطف جملة على جملة فلا يقتضي اتحادا بين المعطوفة والمعطوف عليها ولكن وقوع هذه الآية بإثر التقاسيم يؤذن بأن لها حظا في إتمام التقسيم وقد جعلت في المصاحف مع التي قبلها آية واحدة.
فيظهر أن التقاسيم السابقة لما أثبتت ولاية بين المؤمنين، ونفت ولاية من بينهم وبين الكافرين، ومن بينهم وبين الذين آمنوا ولم يهاجروا حتى يهاجروا، ثم عادت على الذين يهاجرون من المؤمنين بعد تقاعسهم عن الهجرة بالبقاء في دار الكفر مدة، فبينت أنهم إن تداركوا أمرهم وهاجروا يدخلون بذلك في ولاية المسلمين وكان ذلك قد يشغل السامعين عن ولاية ذوي أرحامهم من المسلمين، جاءت هذه الآية تذكر بأن ولاية الأرحام قائمة وأنها مرجحة لغيرها من الولاية فموقعها كموقع الشروط وشأن الصفات والغايات بعد الجمل المتعاطفة أنها تعود إلى جميع تلك الجمل، وعلى هذا الوجه لا تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضته الآيات قبلها من الولاية بين المهاجرين والأنصار بل مقيدة الإطلاق الذي فيها.
وظاهر لفظ {الْأَرْحَامِ} جمع رحم وهو مقر الولد في بطن أمه، فمن العلماء من أبقاه على ظاهره في اللغة فجعل المراد من أولي الأرحام ذوي القرابة الناشئة عن الأمومة، وهو ما درج عليه جمهور المفسرين، ومنهم من جعل المراد من الأرحام العصابات دون المولودين بالرحم. قاله القرطبي، واستدل له بأن لفظ الرحم يراد به العصابة، كقول العرب في الدعاء "وصلتك رحم"، وكقول قتيلة بنت النضر بن الحارث:
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تمزق
حيث عبرت عن نوش بني أبيه بتمزيق أرحام.
وعلم من قوله: {أَوْلَى} هو صيغة تفضيل أن الولاية يين ذوي الأرحام لا تعتبر إلا بالنسبة لمحل الولاية الشرعية فأولوا الأرحام أولى بالولاية ممن ثبتت لهم ولاية تامة أو ناقصة كالذين آمنوا ولم يهاجروا في ولاية النصر في الدين إذ لم يقم دونها مانع من كفر أو ترك هجرة فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء ولاية الإيمان، وأولو الأرحام منهم بعضهم لبعض أولياء ولاية النسب، ولولاية الإسلام حقوق مبينة بالكتاب والسنة، ولولاية الأرحام حقوق مبينة أيضا، بحيث لا تزاحم إحدى الولايتين الأخرى، والاعتناء بهذا البيان مؤذن بما لوشائج الأرحام من الاعتبار في نظر الشريعة فلذلك علقت أولوية الأرحام بأنها كائنة في كتاب الله أي في حكمه.
وكتاب الله في قضاؤه وشرعه، وهو مصدر، إما باق على معنى المصدرية، أو هو بمعنى المفعول، أي مكتوبة كقول الراعي:
كان كتابها مفعولا"1"
وجعل تلك الأولوية كائنة في كتاب الله كناية عن عدم تعبيرها لأنهم كانوا إذا أرادوا توكيد عهد كتبوه. قال الحارث بن حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ين ... قض ما في المهارق الأهواء
فتقييد أولوية أولي الأرحام بأنها في كتاب الله للدلالة على أن ذلك حكم فطري قدره الله وأثبته بما وضع في الناس من الميل إلى قراباتهم، كما ورد في الحديث إن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة الحديث. فلما كانت ولاية الأرحام أمرا مقررا في الفطرة، ولم تكن ولاية الدين معروفة في الجاهلية بين الله أن ولاية الدين لا تبطل ولاية الرحم إلا إذا تعارضنا، لأن أواصر العقيدة والرأي أقوى من أواصر الجسد، فلا يغيره ما ورد هنا من أحكام ولاية الناس بعضهم بعضا، وبذلك الاعتبار الأصلي لولاية ذوي الأرحام كانوا مقدمين على أهل الولاية، حيث تكون الولاية، وينتفي التفضيل بانتفاء أصلها، فلا ولاية لأولي الأرحام إذا كانوا غير مسلمين.
واختلف العلماء في أن ولاية الأرحام هنا هل تشمل ولاية الميراث: فقال مالك ابن أنس هذه الآية ليست في المواريث أي فهي ولاية النصر وحسن الصحبة، أي فنقصر على موردها ولم يرها مساوية للعام الوارد على سبب خاص إذ ليست صيغتها صيغة عموم لأن مناط الحكم قوله: {أَوْلَى بِبَعْضٍ}.
وقال جماعة تشمل ولاية الميراث، ثم اختلفوا فمنهم من قال: نسخت هذه الولاية بآية المواريث فبطل توريث ذوي الأرحام بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" فيكون تخصيصا للعموم عندهم.
وقال جماعة يرث ذوو الأرحام وهم مقدمون على أبناء الأعمام وهذا قول أبي حنيفة وفقهاء الكوفة، فتكون هذه الآية مقيدة لإطلاق آية المواريث، وقد علمت مما تقدم كله أن في هذه الآيات غموضا جعلها مرامي لمختلف الأفهام والأقوال. وأياما كانت فقد جاء بعدها من القرآن والسنة ما أغنى عن زيادة البسط.
وقوله: {نَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل هو مؤذن بالتعليل لتقرير أولوية ذوي الأرحام بعضهم ببعض فيما فيه اعتداد بالولاية، أي إنما اعتبرت تلك الأولوية في الولاية لأن الله قد علم أن لا صرة الرحم حقا في الولاية هو ثابت ما لم يمانعه مانع معتبر في الشرع لأن الله بكل شيء عليم وهذا الحكم مما علم أن إثباته رفق ورأفة بالأمة.
ـــــــ
"1" أول البيت.
حتى إذ اقرت عجاجة فتنة عمياء كان كتابها مفعولاً
---------------------
وقال الجصاص(1) :
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 7 / ص 327)(1/286)
قوله تعالى : { إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * قَالَ قَتَادَةُ : " هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْوَلِيِّ " وَقَالَ مُجَاهِدٌ : " عَلَى الْمَقْتُولِ " . وَقِيلَ : " هُوَ مَنْصُورٌ إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ , وَنَصْرُهُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ أَعْنِي لِلْوَلِيِّ " . وَقِيلَ : " نَصْرُهُ أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعِينُوهُ " . وقوله تعالى { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا * قَدْ اقْتَضَى إثْبَاتَ الْقِصَاصِ لِلنِّسَاءٍ لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُنَا هُوَ الْوَارِثُ كَمَا قَالَ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا * إلَى قَوْلِهِ : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * وَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * فَنَفَى بِذَلِكَ إثْبَاتَ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ إلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ , ثُمَّ قَالَ : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ * فَأَثْبَتَ الْمِيرَاثَ بِأَنْ جَعَلَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ , وَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * فَأَثْبَتَ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمْ بِذِكْرِ الْوِلَايَةِ . فَلَمَّا قَالَ { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا * اقْتَضَى ذَلِكَ إثْبَاتَ الْقَوَدِ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّمَ مَوْرُوثٌ عَنْ الْمَقْتُولِ أَنَّ الدِّيَةَ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ الْقِصَاصِ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ , وَلَوْ لَمْ تَكُنْ النِّسَاءُ قَدْ وَرِثْنَ الْقِصَاصَ لَمَا وَرِثْنَ بَدَلَهُ الَّذِي هُوَ الْمَالُ , وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرِثَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ مِنْ بَعْضِ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ وَلَا يَرِثُ مِنْ الْبَعْضِ الْآخَرُ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ . وَقَوْلُ مَالِكٍ : " إنَّ النِّسَاءَ لَيْسَ إلَيْهِنَّ مِنْ الْقِصَاصِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ لِلرِّجَالِ فَإِذَا تَحَوَّلَ مَالًا وَرِثَتْ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ " وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ : " لَيْسَ إلَى النِّسَاءِ شَيْءٌ مِنْ الْعَفْوِ وَالدَّمِ " , وَمِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا : " إنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ لِكُلِّ وَارِثٍ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بِقَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ " .
----------------
وفي الفصول في الأصول (1):
__________
(1) - الفصول في الأصول - (ج 2 / ص 63)(1/287)
بَابٌ آخَرُ فِي النَّسْخِ رُوِيَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ وَبِالْهِجْرَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ . وَأَنَّ الرَّحِمَ ( بَعْدَ ) قوله تعالى { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ * وَقَالَ تَعَالَى { الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَقَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * . فَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ * . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ نَسْخًا , وَيَقُولُ : إنَّمَا حَدَثَ وَارِثٌ أَوْلَى مِنْ وَارِثٍ قَالَ : فَأَمَّا الْمِيرَاثُ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ فَقَائِمٌ لَمْ يُنْسَخْ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ اسْتَحَقَّ ( الْحَلِيفُ ) الْمِيرَاثَ , إذَا كَانَ عَاقَدَهُ وَوَالَاهُ عَلَى ( أَنَّهُ ) يَرِثُهُ إذَا مَاتَ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ هَمْدَانَ مَا أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ وَلَا يَتْرُكُ وَارِثًا مِنْكُمْ , فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ , فَلْيَضَعْ أَحَدُكُمْ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ ) . وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِمَا وَصَفْنَا : إنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ , لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لَمْ يَسْقُطْ , وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ , كَمَا أَنَّ الْأَخَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ وَلَا يَرِثُ مَعَ الِابْنِ , وَلَا يَكُونُ مِيرَاثُهُ مَنْسُوخًا عِنْدَ وُجُودِ الِابْنِ , كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مِنْ ( ذِي رَحِمٍ ) أَوْ وَلَاءٍ , فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَضَعَ مِيرَاثَهُ حَيْثُ شَاءَ , بِحُكْمِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا إيجَابُ التَّوَارُثِ بِالْمُعَاقَدَةِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاَلَّذِي نَقُولُ فِي ذَلِكَ : وُجُوبُ الْإِرْثِ بِالْمُعَاقَدَةِ مَنْسُوخٌ لَا مَحَالَةَ فِي حَالِ وُجُودِ ذِي الرَّحِمِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ أَوْجَبَهُ لِلْحَلِيفِ مَعَ وُجُودِ ذِي الرَّحِمِ , وَمَعَ عَدَمِهِمْ , وَجَعَلَهُ أَوْلَى مِنْهُمْ , فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ * . فَقَدْ صَرَفَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا كَانَ جَعَلَهُ لَهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي رَحِمِ الْمَيِّتِ , فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَسْخَ مِيرَاثِ الْحَلِيفِ وَالْمُعَاقِدِ , فِي حَالِ وُجُودِ ذَوِي الرَّحِمِ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذُو رَحِمٍ : فَحُكْمُ الْإِرْثِ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ , فَكَأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا وَرَدَ عَلَى إحْدَى حَالَيْ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِالْمُعَاقَدَةِ وَالْحَلِفِ ( وَهِيَ حَالُ وُجُودِ ذَوِي الرَّحِمِ دُونَ غَيْرِهَا , وَنُفِيَ هَذَا الْحُكْمُ ) فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَتْرُكُ الْمَيِّتُ فِيهَا ذَا رَحِمٍ عَلَى مَا أَوْجَبَتْهُ الْآيَةُ الْمُوجِبَةُ لِمِيرَاثِ الْحَلِيفِ وَالْمُعَاقَدَةِ . وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا وَلَيْسَ بِنَسْخٍ قوله تعالى { لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ * الْآيَةَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ النَّاسُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سُتُورٌ , فَكَانَ خَادِمُ الرَّجُلِ يَدْخُلُ إلَيْهِ وَهُوَ مَعَ أَهْلِهِ , فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ لِذَلِكَ , فَلَمَّا أَتَى اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَاِتَّخَذُوا السُّتُورَ وَالْحِجَالَ رَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَوْ عَادَ لَعَادَ الْحُكْمُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ , لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بَاقٍ , وَلَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِحُدُوثِ سَبَبٍ , مَتَى زَالَ السَّبَبُ عَادَ الْحُكْمُ , كَالْحَائِضِ لَا صَلَاةَ عَلَيْهَا , لِأَجْلِ وُجُودِ الْحَيْضِ الَّذِي إذَا زَالَ لَزِمَتْهَا الصَّلَاةُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ لِلصَّلَاةِ عَنْهَا , لِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِحُدُوثِ سَبَبٍ , مَتَى زَالَ عَادَ حُكْمُ لُزُومِهَا , وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ , فَنُقِلَتْ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ , وَإِنَّمَا وَرَدَتْ الْآيَةُ فِي إيجَابِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَسْبَابِ السَّاتِرَةِ لَهُمْ عَنْ أَعْيُنِ الدَّاخِلِينَ إلَيْهِمْ , مِنْ خَدَمِهِمْ , وَأَوْلَادِهِمْ , فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِئْذَانِ(1/288)
مَقْصُورًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ , وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ نُقِلُوا عَنْهُ بِالْآيَةِ إلَى غَيْرِهِ ( فَمَتَى زَالَ السَّبَبُ ) الَّذِي مِنْ ( أَجْلِهِ ) أُمِرُوا بِذَلِكَ ( زَالَ ) الْحُكْمُ
----------------
وقال ابن العربي(1) :
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَارِثَةَ : يَا حَارِثَةُ ، كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ قَالَ : مُؤْمِنًا حَقًّا .
قَالَ : لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ ، فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِكَ ؟ قَالَ : عَزَفَتْ نَفْسِي عَنْ الدُّنْيَا ؛ فَاسْتَوَى عِنْدِي حَجَرُهَا وَذَهَبُهَا ، وَكَأَنِّي نَاظِرٌ إلَى عَرْشِ رَبِّي .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَرَفْت فَالْزَمْ } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يُدْرِكُ أَحَدُكُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي النَّارِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : كَرِيمٌ .
وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ حَقًّا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي اسْتِقَامَةِ الْأَعْمَالِ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ .
وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ ، وَإِذَا كَانَ مَجَازًا قَصَّرَتْ الْجَوَارِحُ فِي الْأَعْمَالِ ؛ إذْ لَمْ تَبْلُغْ قُوَّتُهُ إلَيْهَا .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { مِنْ بَعْدُ } : يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا أَمَرْتُكُمْ بِالْمُوَالَاةِ ، هَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ، إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُرِيدُ مِنْ بَعْدِ الْإِيمَانِ الْأَوَّلِ وَالْهِجْرَةِ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْهِجْرَةَ طَبَقَاتٌ : الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ ، وَبَعْدَهُمْ مَنْ هَاجَرَ فِي بُحْبُوحَةِ الْإِيمَانِ وَقَبْلَ الْفَتْحِ ، وَهُمْ طَبَقَاتٌ عِنْدَنَا وَدَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } : يَعْنِي فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنْ تَوَلَّى قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ بِاعْتِقَادِهِ مَعَهُمْ ، وَالْتِزَامِهِ لَهُمْ ، وَعَمَلِهِ بِعَمَلِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذِهِ الْآيَةُ نَسْخٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُوَالَاةِ بِالْهِجْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا هِجْرَةٌ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ عُمُومٌ فِي كُلِّ قَرِيبٍ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِقَوْلِهِ : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى عُصْبَةٍ ذَكَرٍ } ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ .
وَكِتَابُ اللَّهِ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ ، فَتَجْرِي الْأَحْكَامُ عَلَى مَا سَطَّرَ فِيهِ مِنْ نَسْخٍ وَثُبُوتٍ وَإِمْضَاءٍ وَرَدٍّ .
------------------
وفي المحلى (2) :
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 4 / ص 184)
(2) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 8 / ص 293) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 4595) والمحلى لابن حزم - (ج 5 / ص 223)(1/289)
1746 - مَسْأَلَةٌ : وَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ , وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ - الْمُرْتَدُّ وَغَيْرُ الْمُرْتَدِّ سَوَاءٌ - إلَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُذْ يَرْتَدُّ فَكُلُّ مَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ مَالِهِ فَلِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ - رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا , أَوْ قُتِلَ مُرْتَدًّا , أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ - وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ مِنْ مَالِهِ حَتَّى قُتِلَ أَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا : فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْكُفَّارِ , فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَهُ , أَوْ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ مَاتَ مُسْلِمًا . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ * وَهَذَا عُمُومٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّكُمْ تَقُولُونَ : إنْ مَاتَ عَبْدٌ نَصْرَانِيٌّ , أَوْ مَجُوسِيٌّ , أَوْ يَهُودِيٌّ - وَسَيِّدُهُ مُسْلِمٌ - فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ , لَا بِالْمِيرَاثِ , لَكِنْ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ أَخْذَهُ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالْعَبْدُ لَا يُورَثُ بِالْخَبَرِ الَّذِي جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مِيرَاثِ الْمُكَاتَبِ فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْجُزْءِ الْمَمْلُوكِ مِيرَاثًا - لَا لَهُ وَلَا مِنْهُ - . وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَعْضِ هَذَا - : فَرُوِّينَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ , وَمُعَاوِيَةَ , وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ , وَإِبْرَاهِيمَ , وَمَسْرُوقٍ : تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ , وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ - : وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ , وَهُوَ عَنْ مُعَاوِيَةَ ثَابِتٌ . كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ نا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ , وَلَا يُوَرِّثُ الْكَافِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ . قَالَ مَسْرُوقٌ : مَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ قَضَاءٌ أَعْجَبُ إلَيَّ مِنْهُ ؟ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمٌ أَعْتَقَ كَافِرًا فَإِنَّهُ يَرِثُهُ - وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ النَّصْرَانِيَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَا لَمْ يَقُلْ " سَمِعْت , أَوْ أَنَا , أَوْ أَرِنَا " تَدْلِيسٌ , وَلَوْ صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ : إلَّا عَبْدُهُ , أَوْ أَمَتُهُ , وَلَا يُسَمَّى الْمُعْتَقُ , وَلَا الْمُعْتَقَةُ : عَبْدًا , وَلَا أَمَةً . وَاخْتَلَفُوا فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ : فَصَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ - : كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ نا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ : أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَعَلَ مِيرَاثَ الْمُرْتَدِّ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ - وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ , وَلَمْ يَصِحَّ . وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ : سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ الْمُرْتَدِّ هَلْ يَرِثُ الْمُرْتَدَّ بَنُوهُ ؟ فَقَالَ : نَرِثُهُمْ وَلَا يَرِثُونَنَا , قَالَ : وَتَعْتَدُّ امْرَأَتُهُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ , فَإِنْ قُتِلَ : فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا . وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُطَيِّبُونَ مِيرَاثَ الْمُرْتَدِّ لِأَهْلِهِ إذَا قُتِلَ . وَرُوِيَ تَوْرِيثُ مَالِ الْمَقْتُولِ عَلَى الرِّدَّةِ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَالشَّعْبِيِّ , وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ , وَالْأَوْزَاعِيُّ , وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : مَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي مِلْكِهِ إلَى أَنْ ارْتَدَّ فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَمَا كَسَبَ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ - وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ فَمَالُهُ فَإِنْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ(1/290)
بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَا كَسَبَ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , وَمَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَلِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَيَقْضِي الْقَاضِي بِعِتْقِ مُدَبِّرِيهِ , وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ , فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَخَذَ مَا وَجَدَ مِنْ مَالِهِ بِأَيْدِي وَرَثَتِهِ ; وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا أَكَلُوهُ , أَوْ أَتْلَفُوهُ , وَكُلُّ مَا حَمَلَ مِنْ مَالِهِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَهُوَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ إذَا ظُفِرَ بِهِ , لَا لِوَرَثَتِهِ , فَلَوْ رَجَعَ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذَ مَالًا مِنْ مَالِهِ فَنَهَضَ بِهِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَظُفِرَ بِهِ , فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , فَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَمَتَانِ إحْدَاهُمَا مُسْلِمَةٌ , وَالْأُخْرَى كَافِرَةٌ , فَوَلَدَتَا مِنْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ - مُذْ ارْتَدَّ - فَأَقَرَّ بِهِمَا لَحِقَا بِهِ جَمِيعًا , وَوَرِثَهُ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ , وَلَمْ يَرِثْهُ ابْنُ الذِّمِّيَّةِ . قَالَ : وَلَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ - مُذْ يَرْتَدُّ - إلَى أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يَمُوتَ , أَوْ يُسْلِمَ أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا الْكُفَّارِ أَصْلًا . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ : - كَمَا رُوِّينَا عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : مِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَبِهِ يَقُولُ رَبِيعَةُ , وَابْنُ أَبِي لَيْلَى , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَبُو ثَوْرٍ . وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ قُتِلَ , أَوْ مَاتَ , أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , فَهُوَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ فَمَالُهُ لَهُ , فَإِنْ ارْتَدَّ عِنْدَ مَوْتِهِ , فَإِنْ اُتُّهِمَ : إنَّمَا ارْتَدَّ لِيَمْنَعَ وَرَثَتَهُ ؟ فَمَالُهُ لِوَرَثَتِهِ - هَذَا مَعَ قَوْلِهِ : إنَّ مَنْ ارْتَدَّ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَرِثْهُ امْرَأَتُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ بِأَنَّهُ يَرْتَدُّ لِيَمْنَعَ أَخْذَ الْمِيرَاثِ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ : مِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ إنْ قُتِلَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْكُفَّارِ . وَقَالَ أَشْهَبُ : مَالُ الْمُرْتَدِّ - مُذْ يَرْتَدُّ - لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ : فَظَاهِرُ الِاضْطِرَابِ وَالتَّنَاقُضِ كَمَا ذَكَرْنَا , وَحُكْمٌ بِالتُّهْمَةِ ؟ وَهُوَ الظَّنُّ الْكَاذِبُ الَّذِي حَرَّمَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْحُكْمَ بِهِ , وَأَمَّا قَوْلُ سُفْيَانَ : فَتَقْسِيمٌ فَاسِدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ قُرْآنٍ , وَلَا سُنَّةٍ , وَلَا قِيَاسٍ , وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ . وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - فَوَسَاوِسُ كَثِيرَةٌ فَاحِشَةٌ - : مِنْهَا : تَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ . وَمِنْهَا : تَوْرِيثُهُ وَرَثَتَهُ عَلَى حُكْمِ الْمَوَارِيثِ وَهُوَ حَيٌّ بَعْدُ . وَمِنْهَا : قَضَاؤُهُ لَهُ إنْ رَجَعَ بِمَا وَجَدَ , لَا بِمَا اسْتَهْلَكُوا - وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجَبَ لِلْوَرَثَةِ مَا قَضَوْا لَهُمْ بِهِ , أَوْ لَمْ يَجِبْ لَهُمْ , وَلَا سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ . فَإِنْ كَانَ وَجَبَ لَهُمْ ؟ فَلِأَيِّ شَيْءٍ يَنْتَزِعُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ - وَهَذَا ظُلْمٌ وَبَاطِلٌ وَجَوْرٌ . وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجِبْ لَهُمْ ؟ فَلِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَحَلُّوا أَنْ يَقْضُوا لَهُمْ بِهِ حَتَّى أَكَلُوهُ , وَوُرِثَ عَنْهُمْ , وَتَحَكَّمُوا فِيهِ , وَلَئِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى الْمُرَاجِعِ إلَى الْإِسْلَامِ ؟ فَمَا الَّذِي خُصَّ بِرُجُوعِهِ إلَيْهِ مَا وَجَدَ دُونَ مَا لَمْ يَجِدْ ؟ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ , فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَضَوْا لَهُ بِهِ ؟ إنَّ هَذَا لَضَلَالٌ لَا خَفَاءَ بِهِ وَأَعْجَبُ شَيْءٍ اعْتِرَاضُ هَؤُلَاءِ النَّوْكَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نِكَاحِهِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ صَفِيَّةَ , وَجَعْلِهِ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا بِقَوْلِهِمْ السَّخِيفِ : لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ أَمَةٌ , فَهَذَا لَا يَجُوزُ , أَوْ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ مُعْتَقَةٌ - فَهَذَا نِكَاحٌ بِلَا صَدَاقٍ , مَعَ إجَازَتِهِمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ هَذِهِ الْحَمَاقَاتِ , وَالْمُنَاقَضَاتِ , وَمَا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةَ رضي الله عنها إلَّا وَهِيَ حُرَّةٌ مُعْتَقَةٌ بِصَدَاقٍ قَدْ صَحَّ لَهَا وَتَمَّ , وَهُوَ عِتْقُهُ لَهَا . ثُمَّ تَفْرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ مَالٍ تَرَكَهُ فِي أَرْضِ(1/291)
الْإِسْلَامِ , أَوْ مَالٍ حَمَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ إلَى أَرْضِ الْكُفْرِ , وَمَالٍ تَرَكَهُ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ فَحَمَلَهُ - فَهَذَا مِنْ الْمُضَاعَفِ نَسْجُهُ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ التَّخْلِيطِ - مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْفَاسِدَةَ لَا تُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَلَا عَنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ قَبْلَ مَنْ ضَلَّ بِتَقْلِيدِهِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : بِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَلَا حُجَّةَ لِهَذَا الْقَوْلِ إلَّا التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ , وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ مُؤْمِنًا مِنْ كَافِرٍ ؟ فَيُقَالُ لَهُمْ : لَقَدْ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ ذَلِكَ , وَأَنْتُمْ قَدْ مَنَعْتُمْ الْمُكَاتَبَ مِنْ الْمِيرَاثِ وَالْقُرْآنُ يُوجِبُهُ لَهُ , وَالسُّنَّةُ كَذَلِكَ , وَمَنَعْتُمْ الْقَاتِلَ بِرِوَايَةٍ لَا تَصِحُّ , وَمَنَعْتُمْ سَائِرَ الْكُفَّارِ مِنْ أَنْ يَرِثَهُمْ الْمُسْلِمُونَ ؟ وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ السَّلَفِ ؟ وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا وَجْهَ لَهُ , فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَاَلَّذِي نَقُولُ بِهِ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ , بُرْهَانُنَا عَلَى ذَلِكَ - : أَنَّ كُلَّ مَا ظُفِرَ بِهِ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ مَالُ كَافِرٍ , لَا ذِمَّةَ لَهُ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ * وَلَا يُحَرَّمُ مَالُ كَافِرٍ إلَّا بِالذِّمَّةِ , وَهَذَا لَا ذِمَّةَ لَهُ , فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَرْجِعْ إلَّا وَقَدْ بَطَلَ مِلْكُهُ لَهُ , أَوْ عَنْهُ , وَوَجَبَ لِلْمُسْلِمِينَ , فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ إلَّا كَأَحَدِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا مَا لَمْ يُظْفَرْ بِهِ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ وَصَحَّ مِنْ مِلْكِهِ لَهُ [ فَهُوَ لَهُ ] مَا لَمْ يَظْفَرْ الْمُسْلِمُونَ بِهِ , لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ . فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ الْكُفَّارِ خَاصَّةً , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * وَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ , فَلَا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِهَا إلَّا مَا أَخْرَجَهُ نَصُّ سُنَّةٍ صَحِيحٌ . فَإِنْ كَانُوا ذِمَّةً سَلَّمَ إلَيْهِمْ مَنْ ظَفِرَ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوهُ بِالْمِيرَاثِ . وَإِنْ كَانُوا حَرْبِيِّينَ أُخِذَ لِلْمُسْلِمِينَ مَتَى ظُفِرَ بِهِ . فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ لَهُ يَرِثُهُ عَنْهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا حُكْمُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ , وَمُوجَبُ الْإِجْمَاعِ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
----------------
1841 -(1) مَسْأَلَةٌ : وَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ وَلِيًّا لِلْمُسْلِمَةِ , وَلَا الْمُسْلِمُ وَلِيًّا لِلْكَافِرَةِ , الْأَبُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ , وَالْكَافِرُ وَلِيٌّ لِلْكَافِرَةِ الَّتِي هِيَ وَلِيَّتُهُ يُنْكِحُهَا مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ . بُرْهَانُ ذَلِكَ - : قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * . وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَفِظْنَا قَوْلَهُ , إلَّا ابْنَ وَهْبٍ صَاحِبَ مَالِكٍ قَالَ : إنَّ الْمُسْلِمَ يَكُونُ وَلِيًّا لِابْنَتِهِ الْكَافِرَةِ فِي إنْكَاحِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ أَوْ مِنْ الْكَافِرِ - وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 8 / ص 747) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 4942)(1/292)
وَمَنْ قَالَ : بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَلَا بُدَّ , دُونَ ذِكْرِ اسْتِتَابَةٍ أَوْ قَبُولِهَا : كَمَا أَوْرَدْنَا عَنْ مُعَاذٍ , وَأَبِي مُوسَى , وَأَنَسٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَمَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بِالِاسْتِتَابَةِ أَبَدًا وَإِيدَاعِ السِّجْنِ فَقَطْ : كَمَا قَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِمَّا قَدْ أَوْرَدْنَا قَبْلُ , وَوُجُوبُ الْقِتَالِ : هُوَ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ وُجُوبِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ , فَإِنَّ قِتَالَ مَنْ بَغَى عَلَى الْمُسْلِمِ , أَوْ مَنَعَ حَقًّا قِبَلَهُ , وَحَارَبَ دُونَهُ : فَرْضٌ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ - وَلَا حُجَّةَ فِي قِتَالِ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - أَهْلَ الرِّدَّةِ , لِأَنَّهُ حَقٌّ بِلَا شَكٍّ , وَلَمْ نُخَالِفْكُمْ فِي هَذَا , وَلَا يَصِحُّ - أَصْلًا - عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ ظَفِرَ بِمُرْتَدٍّ عَنْ الْإِسْلَامِ غَيْرِ مُمْتَنِعٍ بِاسْتِتَابَةٍ , فَتَابَ , فَتَرَكَهُ , أَوْ لَمْ يَتُبْ فَقَتَلَهُ - هَذَا مَا لَا يَجِدُونَهُ . وَأَمَّا مَنْ بَدَّلَ كُفْرًا بِكُفْرٍ آخَرَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ : أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ . قَالَ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابُهُمَا : لَا يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا . ثُمَّ اخْتَلَفُوا - فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يُنْبَذُ إلَيْهِ عَهْدُهُ , وَيُخْرَجُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , فَإِنْ ظُفِرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَمَرَّةً قَالَ : إنْ رَجَعَ إلَى دِينِهِ الْكِتَابِيِّ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ أُقِرَّ عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَتُرِكَ . وَمَرَّةً قَالَ : لَا يُتْرَكُ بَلْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ . وَبِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا - إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ إلْحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ , بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا قُتِلَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَلَمَّا اخْتَلَفُوا نَظَرْنَا فِي ذَلِكَ : فَوَجَدْنَا مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ , يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * وَأَمْرِهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ مُخَاطِبًا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * , إلَى آخِرِ السُّورَةِ . قَالُوا : فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفْرَ كُلَّهُ دِينًا وَاحِدًا . قَالُوا : وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ * فَكَانَ هَذَا ظَاهِرًا يَمْنَعُ مِنْ إكْرَاهِهِ عَلَى تَرْكِ كُفْرِهِ . قَالُوا : وَلَا يَخْلُو إذَا أُجْبِرَ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ الَّذِي خَرَجَ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ , وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا : إمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دِينِهِ الَّذِي خَرَجَ عَنْهُ - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ - أَوْ يُجْبَرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ , كَمَا قَالَ هُوَ فِي قَوْلِهِ الثَّانِي , وَأَصْحَابُكُمْ , فَإِنْ أُجْبِرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دِينِهِ فَقَدْ أُجْبِرَ عَلَى اعْتِقَادِ الْكُفْرِ , وَعَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْكُفْرِ . قَالُوا : وَاعْتِقَادُ جَوَازِ هَذَا كُفْرٌ ؟ قَالُوا : إنْ أُكْرِهَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ دُونَ سَائِرِ أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ , فَهُوَ كَافِرٌ , وَهُمْ كُفَّارٌ , وَلَا فَرْقَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَهَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ مِنْ النُّصُوصِ , إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ : أَرَأَيْت مَنْ أَحْدَثَ فِي نَصْرَانِيَّةٍ , أَوْ يَهُودِيَّةٍ , أَوْ مَجُوسِيَّةٍ : رَأْيًا لَمْ يَخْرُجْ بِهِ عَنْ جُمْلَتِهِمْ أَتُجْبِرُونَهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الرَّأْيِ وَالرُّجُوعِ إلَى جُمْلَتِهِمْ , أَوْ إلَى الْإِسْلَامِ ؟ وَأَرَأَيْتُمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَلْكَانِيَّةٍ إلَى نُسْطُورِيَّةٍ , أَوْ يَعْقُوبِيَّةٍ , أَوْ قَادُونِيَّةٍ , أَوْ مَعْدُونِيَّةٍ , فَدَانَ بِعُبُودِيَّةِ الْمَسِيحِ , وَأَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ , وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ؟ أَتُجْبِرُونَهُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى التَّثْلِيثِ , أَوْ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ رَبَّانِيَّةٍ إلَى عَامَانِيَّةٍ , أَوْ إلَى عِيسَوِيَّةٍ , أَتُجْبِرُونَهُ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلَى(1/293)
الْكُفْرِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ التَّشْنِيعِ وَكُلُّ هَذَا عَائِدٌ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * فَحَقٌّ , وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَقَطْ , وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمُ إقْرَارِهِمْ , وَلَا حُكْمُ قَتْلِهِمْ , وَلَا حُكْمُ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمْ أَصْلًا . وَكَذَلِكَ قوله تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * إلَى آخِرِهَا لَيْسَ فِيهَا أَيْضًا إلَّا أَنَّنَا مُبَايِنُونَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ فِي الْعِبَادَةِ , وَالدِّينِ , وَلَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِمْ , لَا مِنْ إقْرَارِهِمْ وَلَا مِنْ تَرْكِ إقْرَارِهِمْ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَنَا { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ * فَمَنْ تَوَلَّاهُمْ مِنَّا فَهُوَ مِنْهُمْ , كَمَا قَالَ تَعَالَى إنَّ { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * . فَهَلَّا تَرَكُوا الْمُرْتَدَّ إلَيْهِمْ مِنَّا عَلَى رِدَّتِهِ ؟ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مِنْهُمْ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةً فِي إقْرَارِ الْمُرْتَدِّ مِنَّا إلَيْهِمْ عَلَى ذَلِكَ , ذَانِكَ النَّصَّانِ لَيْسَا بِحُجَّةٍ فِيمَا أَرَادُوا التَّمْوِيهَ بِإِيرَادِهِمَا مِنْ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ يُقَرُّ عَلَى ذَلِكَ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ * فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ كُلِّهَا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى إكْرَاهِ الْمُرْتَدِّ عَنْ دِينِهِ , فَمِنْ قَائِلٍ : يُكْرَهُ وَلَا يُقْتَلُ , وَمِنْ قَائِلٍ , يُكْرَهُ وَيُقْتَلُ . فَإِنْ قَالُوا : خَرَجَ الْمُرْتَدُّ مِنَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ ؟ قُلْنَا لَهُمْ : وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ بِدَلِيلٍ آخَرَ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ , وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا قُلْتُمْ , وَإِنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ * فِي أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَشَيْءٌ وَاحِدٌ : هُمْ أَوَّلُ مَنْ نَقَضَ الِاحْتِجَاجَ وَخَالَفَهُ , وَفَرَّقُوا بَيْنَ أَحْكَامِ أَهْلِ الْكُفْرِ , فَكُلُّهُمْ مُجْمِعٌ مَعَنَا عَلَى : أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مَنْ تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ , وَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ , وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ , وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : لَا يَخْلُو مَنْ أُجْبِرَ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ الَّذِي خَرَجَ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْكُفْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ , وَإِمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْإِسْلَامِ ؟ فَنَعَمْ : أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِهِمَا - وَاَلَّذِي نَقُولُ بِهِ : فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا بُدَّ , وَلَا يُتْرَكُ يَرْجِعُ إلَى الدِّينِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا ؟ فَجَوَابُنَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقُمْ بُرْهَانٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ إجْبَارِهِ , وَإِلَّا فَهُوَ قَوْلُكُمْ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : إنْ خَرَجَ مِنْ فِرْقَةٍ مِنْ النَّصَارَى إلَى فِرْقَةٍ أُخْرَى فَإِنَّنَا لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَبَقِيَ الْآنَ الْكَلَامُ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ * فَوَجَدْنَا النَّاسَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ , وَالثَّانِي : أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ . فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ , فَيَحْتَجُّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْبَلْ مِنْ الْوَثَنِيِّينَ ؟ فَيُقَالُ لَهُمْ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - لَمْ يَخْتَلِفْ مُسْلِمَانِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْبَلْ مِنْ الْوَثَنِيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ(1/294)
إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ - إلَى أَنْ مَاتَ عليه السلام - فَهُوَ إكْرَاهٌ فِي الدِّينِ , فَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ , فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى خَاصَّةً , كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِعَجُوزٍ نَصْرَانِيَّةٍ : أَيَّتُهَا الْعَجُوزُ أَسْلِمِي تَسْلَمِي , إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إلَيْنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ ؟ فَقَالَتْ الْعَجُوزُ : وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ وَأَمُوتُ إلَى قَرِيبٍ ؟ قَالَ عُمَرُ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ , لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ . وَبِمَا رُوِّينَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتْ امْرَأَةٌ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إنْ عَاشَ وَلَدُهَا تُهَوِّدُهُ , فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ , فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ * . فَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ إلَى أَنْ مَاتَ عليه السلام حَتَّى أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ . وَصَحَّ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ فِي الدِّينِ , ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ * الْآيَةَ إلَى قوله تعالى { فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ * . وَنَزَلَ قوله تعالى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ * إلَى قوله تعالى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَأَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ قوله تعالى { فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ * . فَيُقَالُ لَهُمْ : لَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ " بَرَاءَةٌ " فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّ " بَرَاءَةٌ " نَسَخَتْ كُلَّ حُكْمٍ تَقَدَّمَ , وَأَبْطَلَتْ كُلَّ عَهْدٍ سَلَفَ بِقَوْلِ تَعَالَى { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ * وَإِنَّمَا كَانَتْ آيَةُ النَّبْذِ عَلَى سَوَاءٍ أَيَّامَ كَانَتْ الْمُهَادَنَاتُ جَائِزَةً , وَأَمَّا بَعْدَ نُزُولِ { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ * فَلَا يَحِلُّ تَرْكُ مُشْرِكٍ أَصْلًا , إلَّا بِأَنْ يُقْتَلَ , أَوْ يُسْلِمَ , أَوْ يُنْبَذَ إلَيْهِ عَهْدُهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَتْلِهِ حَيْثُ وُجِدَ , إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَبْنَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَيُقَرَّ عَلَى الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى , أَوْ يَكُونَ مُسْتَجِيرًا فَيُجَارَ حَتَّى يُقْرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ , ثُمَّ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ وَلَا بُدَّ , إلَى أَنْ يُسْلِمَ , وَلَا يُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ , أَوْ رَسُولًا فَيُتْرَكَ مُدَّةَ أَدَاءِ رِسَالَتِهِ , وَأَخْذِ جَوَابِهِ , ثُمَّ يُرَدَّ إلَى بَلَدِهِ , وَمَا عَدَا هَؤُلَاءِ فَالْقَتْلُ وَلَا بُدَّ , أَوْ الْإِسْلَامُ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَصِّ الْقُرْآنِ , وَمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَإِنْ ذَكَرُوا : مَا أَنَا حُمَامٌ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَشْوَرِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ : حَيْثُ رُفِعَ إلَى عَلِيٍّ فِي يَهُودِيٍّ تَزَنْدَقَ وَنَصْرَانِيٍّ تَزَنْدَقَ ؟ قَالَ : دَعُوهُ يُحَوِّلُ مِنْ دِينٍ إلَى دِينٍ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : هَذَا لَمْ يَصِحَّ عَنْ عَلِيٍّ ; لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَلَمْ يُولَدْ ابْنُ جُرَيْجٍ إلَّا بَعْدَ نَحْوِ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ عَامًا مِنْ مَوْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - وَلَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَمْ مِنْ قَوْلَةٍ لِعَلِيٍّ صَحِيحَةٍ قَدْ خَالَفُوهَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
--------------
وفي المغني (1):
__________
(1) - المغني - (ج 12 / ص 457)(1/295)
( 4568 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْكَافِرِ الْتِقَاطُ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ , وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَفْتِنَهُ وَيُعَلِّمَهُ الْكُفْرَ , بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَبِّيه عَلَى دِينِهِ , وَيَنْشَأُ عَلَى ذَلِكَ , كَوَلَدِهِ . فَإِنْ الْتَقَطَهُ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ . وَإِنْ كَانَ الطِّفْلُ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ , فَلَهُ الْتِقَاطُهُ ; لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ( 4947 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَيَتَوَارَثُونَ , إذَا كَانَ دِينُهُمْ وَاحِدًا , لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ خِلَافًا , وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ * دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرِثُ بَعْضًا . وَقَوْلُهُ : { لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى * . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ * . دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَقِيلًا وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ دُونَ جَعْفَرٍ , وَعَلِيٍّ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ , وَكَانَ عَقِيلٌ عَلَى دِينِ أَبِيهِ , مُقِيمًا بِمَكَّةَ , فَبَاعَ رِبَاعَهُ بِمَكَّةَ , فَلِذَلِكَ لَمَّا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا ؟ قَالَ : { وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ * . وَقَالَ عُمَرُ فِي عَمَّةِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْس : يَرِثُهَا أَهْلُ دِينِهَا . فَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَدْيَانُهُمْ , فَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ , فَرُوِيَ عَنْهُ , أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ , يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . رَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ , وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ . وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ , وَابْنُ شُبْرُمَةَ , وَأَبُو حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيُّ , وَدَاوُد ; لِأَنَّ تَوْرِيثَ الْآبَاءِ مِنْ الْأَبْنَاءِ , وَالْأَبْنَاءِ مِنْ الْآبَاءِ , مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرًا عَامًّا , فَلَا يُتْرَكُ إلَّا فِيمَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ , وَمَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ الشَّرْعُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ , وَلِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * عَامٌ فِي جَمِيعِهِمْ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ , أَنَّ الْكُفْرَ مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ , لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ , وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى * . يَنْفِي تَوَارُثَهُمَا , وَيَخُصُّ عُمُومَ الْكِتَابِ , وَلَمْ نَسْمَعْ عَنْ أَحْمَدَ تَصْرِيحًا بِذِكْرِ أَقْسَامِ الْمِلَلِ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : الْكُفْرُ ثَلَاثُ مِلَلٍ : الْيَهُودِيَّةُ , وَالنَّصْرَانِيَّةُ , وَدِينُ مَنْ عَدَاهُمْ ; لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ يَجْمَعُهُمْ أَنَّهُمْ لَا كِتَابَ لَهُمْ . وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ , وَعَطَاءٍ , وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَالضَّحَّاكِ , وَالْحَكَمِ . وَالثَّوْرِيِّ , وَاللَّيْثِ , وَشَرِيكٍ , وَمُغِيرَةَ الضَّبِّيِّ , وَابْنِ أَبِي لَيْلَى , وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ , وَوَكِيعٍ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ . وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ , وَالثَّوْرِيِّ , الْقَوْلَانِ مَعًا . وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ مِلَلًا كَثِيرَةً , فَتَكُونُ الْمَجُوسِيَّةُ مِلَّةً , وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ مِلَّةً أُخْرَى , وَعِبَادَةُ الشَّمْسِ مِلَّةً , فَلَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ . وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ , وَرَبِيعَةُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ , وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ , وَإِسْحَاقُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى * . وَلِأَنَّ كُلَّ فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ لَا مُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ , وَلَا اتِّفَاقَ فِي دِينٍ فَلَمْ يَرِثْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , كَالْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ , وَالْعُمُومَاتِ فِي التَّوْرِيثِ مَخْصُوصَةٌ , فَيُخَصُّ مِنْهَا مَحِلُّ النِّزَاعِ بِالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ , وَلِأَنَّ مُخَالِفِينَا قَطَعُوا التَّوَارُثَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ , مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْمِلَّةِ , لِانْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ , فَمَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ أَوْلَى . وَقَوْلُ مَنْ حَصَرَ الْمِلَّةَ بِعَدَمِ الْكِتَابِ غَيْرُ صَحِيحٍ , فَإِنَّ هَذَا وَصْفٌ عَدَمِيٌّ , لَا يَقْتَضِي حُكْمًا , وَلَا جَمْعًا , ثُمَّ لَا بُدَّ لِهَذَا الضَّابِطِ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ(1/296)
عَلَى اعْتِبَارِهِ , ثُمَّ قَدْ افْتَرَقَ حُكْمُهُمْ , فَإِنَّ الْمَجُوسَ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ , وَغَيْرُهُمْ لَا يُقِرُّ بِهَا , وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْبُودَاتِهِمْ , وَمُعْتَقِدَاتِهِمْ , وَآرَائِهِمْ , يَسْتَحِلُّ بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ , وَيُكَفِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , فَكَانُوا مِلَلًا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ , رَوَى عَنْ الشَّعْبِيِّ , عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّهُ جَعَلَ الْكُفْرَ مِلَلًا مُخْتَلِفَةً . وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ , فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
. ( 5179 )(1) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَلَا يُزَوِّجُ كَافِرٌ مُسْلِمَةً بِحَالٍ , وَلَا مُسْلِمٌ كَافِرَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ سُلْطَانًا , أَوْ سَيِّدَ أَمَةٍ ) أَمَّا الْكَافِرُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مُسْلِمَةٍ بِحَالٍ , بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ , مِنْهُمْ ; مَالِكٌ , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَبُو عُبَيْدٍ , وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الذِّمِّيِّ : إذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِهِ , هَلْ يَلِي نِكَاحَهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ; أَحَدُهُمَا , يَلِيهِ ; لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ , فَيَلِي نِكَاحَهَا كَالْمُسْلِمِ , وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَيْهَا فَيَلِيهِ كَإِجَارَتِهَا . وَالثَّانِي , لَا يَلِيهِ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * وَلِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَلَا يَلِي نِكَاحَهَا كَابْنَتِهِ . فَعَلَى هَذَا يُزَوِّجُهَا الْحَاكِمُ وَهَذَا أَوْلَى ; لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْكَافِرَةِ , غَيْرَ السَّيِّدِ وَالسُّلْطَانِ وَوَلِيِّ سَيِّدِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ ; وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * . وَلِأَنَّ مُخْتَلِفَيْ الدِّينِ لَا يَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ , وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ , فَلَمْ يَلِ عَلَيْهِ , كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا . وَأَمَّا سَيِّدُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ , فَلَهُ تَزْوِيجُهَا لِكَافِرٍ ; لِكَوْنِهَا لَا تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ , وَكَذَلِكَ وَلِيُّ سَيِّدِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ يَلِي تَزْوِيجَهَا لِكَافِرٍ ; لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ بِالْمِلْكِ , فَلَمْ يَمْنَعْهَا كَوْنُ سَيِّدِ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ مُسْلِمًا , كَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ , وَلِأَنَّ هَذِهِ تَحْتَاجُ إلَى التَّزْوِيجِ . وَلَا وَلِيَّ لَهَا غَيْرُ سَيِّدِهَا فَأَمَّا السُّلْطَانُ , فَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى مَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ عَلَى أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَهَذِهِ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ , فَتَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا , كَالْمُسْلِمَةِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ , فَتَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ , عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُسْلِمِينَ , وَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ , وَيُخَرَّجُ فِي اعْتِبَارِ عَدَالَتِهِ فِي دِينِهِ وَجْهَانِ , بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي اعْتِبَارِهَا فِي الْمُسْلِمِينَ .
----------------
وفي الطرق الحكمية (2):
__________
(1) - المغني - (ج 14 / ص 400)
(2) - الطرق الحكمية - (ج 1 / ص 242)(1/297)
79 - ( فَصْلٌ ) الطَّرِيقُ السَّابِعَ عَشَرَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا صُورَتَانِ : إحْدَاهُمَا : شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ . وَالثَّانِيَةُ : شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى , فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا , فَقَالَ حَنْبَلٌ : حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ , حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ , عَنْ الشَّعْبِيِّ , قَالَ : " تَجُوزُ شَهَادَةُ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ " . قَالَ حَنْبَلٌ : وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , فَأَمَّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَجُوزُ , وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالْمَرُّوذِيِّ وَحَرْبٍ وَالْمَيْمُونِيِّ وَأَبِي الْحَارِثِ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَيَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ وَأَبِي طَالِبٍ - وَاحْتَجَّ فِي رِوَايَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ * - وَصَالِحٍ ابْنِهِ , وَأَبِي حَامِدٍ الْخَفَّافِ , وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيِّ , وَإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ , وَمُهَنَّا بْنِ يَحْيَى , فَقَالَ لَهُ مُهَنَّا : أَرَأَيْتُ إنْ عَدَلُوا ؟ قَالَ : فَمَنْ يَعْدِلُهُمْ ؟ الْعِلْجُ مِنْهُمْ ؟ وَأَفْضَلُهُمْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُ الْخِنْزِيرَ , فَكَيْفَ يَعْدِلُ ؟ فَنَصَّ فِي رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ : أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ أَلْبَتَّةَ , لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ * وَلَيْسُوا مِمَّنْ نَرْضَاهُ . قَالَ الْخَلَّالُ : فَقَدْ رَوَى هَؤُلَاءِ النَّفَرِ - وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا - كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , خِلَافَ مَا قَالَ حَنْبَلٌ . قَالَ : نَظَرْتُ فِي أَصْلِ حَنْبَلٍ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ , عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَنِي عِصْمَةُ عَنْ حَنْبَلٍ , وَلَا شَكَّ أَنَّ حَنْبَلًا تَوَهَّمَ ذَلِكَ , لَعَلَّهُ أَرَادَ : أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : لَا تَجُوزُ , فَغَلِطَ فَقَالَ : تَجُوزُ , وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : قَالَ أَبِي : لَا تَجُوزُ , وَقَالَ أَبِي : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ حُصَيْنٍ , عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : قَالَ أَبِي : لَا تَجُوزُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ * وَلَيْسُوا هُمْ مِمَّنْ نَرْضَى , فَصَحَّ الْخَطَأُ هَاهُنَا مِنْ حَنْبَلٍ . وَقَدْ اخْتَلَفُوا عَلَى الشَّعْبِيِّ أَيْضًا , وَعَلَى سُفْيَانَ , وَعَلَى وَكِيعٍ , فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ , وَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ , فَمَا اخْتَلَفَ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ إلَّا مَا غَلِطَ حَنْبَلٌ بِلَا شَكٍّ , لِأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَذْهَبُهُ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُجِيزُهَا أَلْبَتَّةَ , وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ * , وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِعُدُولٍ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ * , وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ تَكُونُ بَيْنَهُمْ أَحْكَامٌ وَأَمْوَالٌ , فَكَيْفَ يَحْكُمُ بِشَهَادَةِ غَيْرِ عَدْلٍ ؟ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ * . وَبَالَغَ الْخَلَّالُ فِي إنْكَارِ رِوَايَةِ حَنْبَلٍ , وَلَمْ يُثْبِتْهَا رِوَايَةً , وَأَثْبَتَهَا غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا , وَجَعَلُوا الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . قَالُوا : وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَوَازِ , فَهَلْ يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ الْمَسْأَلَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ , وَنَصَرُوا كُلُّهُمْ عَدَمَ الْجَوَازِ إلَّا شَيْخُنَا فَإِنَّهُ اخْتَارَ الْجَوَازَ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ نَصْرَانِيٍّ عَلَى مَجُوسِيٍّ , أَوْ مَجُوسِيٍّ عَلَى نَصْرَانِيٍّ . وَصَحَّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ : تَجُوزُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ , وَعَلَى النَّصْرَانِيِّ , كُلُّهُمْ أَهْلُ شِرْكٍ . وَصَحَّ هَذَا أَيْضًا عَنْ الشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ . وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ , قَالَ : سَأَلْتُ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ - عَنْ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضُهُمْ عَلَى(1/298)
بَعْضٍ , فَقَالَ : تَجُوزُ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ : سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ , فَقَالَ : تَجُوزُ , وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَوَكِيعٍ , وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ . وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : " تَجُوزُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ " . وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيِّ : تَجُوزُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ , وَالْيَهُودِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ , وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ , عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ , عَنْ يُونُسَ , عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : إذَا اخْتَلَفَتْ الْمِلَلُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ . وَكَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ : لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ عَلَى غَيْرِ مِلَّتِهَا إلَّا الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا أَحَدُ الرِّوَايَاتِ عَنْ الشَّعْبِيِّ . وَالثَّانِي : الْجَوَازُ . وَالثَّالِثُ : الْمَنْعُ . كَذَلِكَ قَالَ النَّخَعِيُّ : لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَّةٍ إلَّا عَلَى مِلَّتِهَا : الْيَهُودِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ , وَالنَّصْرَانِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ . وَقَالَ مَالِكٌ : تَجُوزُ شَهَادَةُ الطَّبِيبِ الْكَافِرِ حَتَّى عَلَى الْمُسْلِمِ لِلْحَاجَةِ . قَالَ الْقَائِلُونَ بِشَهَادَتِهِمْ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ * , فَأَخْبَرَ أَنَّ مِنْهُمْ الْأَمِينَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ , وَلَا رَيْبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا أَمِينًا عَلَى قَرَابَتِهِ ذَوِي مَذْهَبِهِ أَوْلَى . قَالُوا : وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * فَأَثْبَتَ لَهُمْ الْوِلَايَةَ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا , وَهِيَ أَعْلَى رُتْبَةٍ مِنْ الشَّهَادَةِ , وَغَايَةُ الشَّهَادَةِ : أَنْ تُشَبَّهَ بِهَا , وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ , وَيَلِي مَالَ وَلَدِهِ , فَقَبُولُ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ أَوْلَى وَأَحْرَى . قَالُوا : وَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَهَادَتِهِمْ فِي الْحُدُودِ . قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ : حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ , عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ , عَنْ الشَّعْبِيِّ , عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما : { أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا , فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ائْتُونِي بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ يَشْهَدُونَ , قَالُوا : وَكَيْفَ ؟ * الْحَدِيثَ . وَاَلَّذِي فِي " الصَّحِيحِ " : { مُرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ قَدْ حُمِّمَ , فَقَالَ : مَا شَأْنُ هَذَا ؟ فَقَالُوا : زَنَى , فَقَالَ : مَا تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ ؟ * وَذَكَرَ الْحَدِيثَ , فَأَقَامَ الْحَدَّ بِقَوْلِهِمْ , وَلَمْ يَسْأَلْ الْيَهُودِيَّ وَالْيَهُودِيَّةَ , وَلَا طَلَبَ اعْتِرَافِهِمَا وَإِقْرَارِهِمَا , وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ بِجَمِيعِ طُرُقِهَا , لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَلْبَتَّةَ أَنَّهُ رَجَمَهُمَا بِإِقْرَارِهِمَا , وَلَمَّا أَقَرَّ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ وَالْغَامِدِيَّةُ : اتَّفَقَتْ جَمِيعُ طُرُقِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْرَارِ . قَالُوا : وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ { أَنَّهُ مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمٍ ; فَقَالَ : مَا بَالُهُ ؟ قَالُوا زَنَى , قَالَ : ائْتُونِي بِأَرْبَعَةٍ مِنْكُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ * . قَالُوا : وَقَدْ أَجَازَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَاجَةِ ; وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّ الْكُفَّارَ يَتَعَامَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمُعَامَلَاتِ ; مِنْ الْمُدَايَنَاتِ , وَعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا ; وَتَقَعُ بَيْنَهُمْ الْجِنَايَاتُ ; وَعُدْوَانُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ; وَلَا يَحْضُرُهُمْ فِي الْغَالِبِ مُسْلِمٌ , وَيَتَحَاكَمُونَ إلَيْنَا , فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى تَظَالُمِهِمْ ; وَضَيَاعِ حُقُوقِهِمْ , وَفِي ذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ ; فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى قَبُولِ(1/299)
شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ . قَالُوا : وَالْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي دِينِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ , صَادِقَ اللَّهْجَةِ عِنْدَهُمْ , فَلَا يَمْنَعُهُ كُفْرُهُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِمْ إذَا ارْتَضَوْهُ , وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ يَصْدُقُ فِي حَدِيثِهِ , وَيُؤَدِّي أَمَانَتَهُ , بِحَيْثُ يُشَارُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَيَشْتَهِرُ بِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ , وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , بِحَيْثُ يَسْكُنُ الْقَلْبَ إلَى صِدْقِهِ , وَقَبُولِ خَبَرِهِ وَشَهَادَتِهِ مَا لَا يَسْكُنُ إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ , وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُعَامَلَتَهُمْ , وَأَكْلَ طَعَامِهِمْ ; وَحِلَّ نِسَائِهِمْ , وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الرُّجُوعَ إلَى أَخْبَارِهِمْ قَطْعًا , فَإِذَا جَازَ لَنَا الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِهِمْ , فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَا مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي تَحِلُّ وَتَحْرُمُ , فَلَأَنْ نَرْجِعَ إلَى أَخْبَارِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى , فَإِنْ قُلْتُمْ : هَذَا لِلْحَاجَةِ , قِيلَ : وَذَلِكَ أَشَدُّ حَاجَةً . قَالُوا : وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إمَّا إيجَابًا وَإِمَّا تَخْيِيرًا , وَالْحُكْمُ إمَّا بِالْإِقْرَارِ وَإِمَّا بِالْبَيِّنَةِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ مَعَ الْإِقْرَارِ لَا يَرْفَعُونَ إلَيْنَا , وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْحُكْمِ غَالِبًا , وَإِنَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْحُكْمِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ وَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ , وَهُمْ فِي الْغَالِبِ لَا تَحْضُرُهُمْ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ مَقْصُودُهُ الْعَدْلُ , وَإِيصَالُ كُلِّ ذِي حَقٍّ مِنْهُمْ إلَى حَقِّهِ , فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ مُدَّعِيهِمْ بِمَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ الشُّهُودِ الَّذِي يَرْتَضُونَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَلَا سِيَّمَا إذَا كَثُرُوا , فَالْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ أَقْوَى مِنْ الْحُكْمِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِ نَاكِلِهِمْ أَوْ يَمِينِهِ , وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا . قَالُوا : وَأَمَّا قوله تعالى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ * وَقَوْلُهُ : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ * وَقَوْلُهُ : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ * : فَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ فِي ذَلِكَ , فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ * وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ * - إلَى قوله تعالى - { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ * وَكَذَلِكَ قَالَ فِي آيَةِ الْمُدَايَنَةِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ * - إلَى قَوْلِهِ - { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ * فَلَا تَعَرُّضَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِحُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَلْبَتَّةَ . وَأَمَّا قوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ * فَهَذَا إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ : الْعَدَاوَةُ الَّتِي بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , أَوْ يُرَادَ بِهِ الْعَدَاوَةُ الَّتِي بَيْنَ فِرَقِهِمْ , وَإِنْ كَانُوا مِلَّةً وَاحِدَةً , وَهَذَا لَا يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , فَإِنَّهَا عَدَاوَةٌ دِينِيَّةٌ , فَهِيَ كَالْعَدَاوَةِ الَّتِي بَيْنَ فِرَقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ , وَإِلْبَاسِهِمْ شِيَعًا , وَإِذَاقَةِ بَعْضِهِمْ بَأْسَ بَعْضٍ . وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ إلَى أَنْ يَكْذِبَ عَلَى مِثْلِهِ أَقْرَبُ , فَيُقَالُ : وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَالْخَوَارِجُ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ لَهْجَةً , وَقَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ , وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ صَادِقُونَ غَيْرُ كَاذِبِينَ , فَهُمْ مُتَدَيِّنُونَ بِهَذَا الْكَذِبِ , وَيَظُنُّونَهُ مِنْ أَصْدَقِ الصِّدْقِ . وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ أَيْضًا بِأَنَّ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إكْرَامًا لَهُمْ , وَرَفْعًا لِمَنْزِلَتِهِمْ وَقَدْرِهِمْ , وَرَذِيلَةُ الْكُفْرِ تَنْفِي ذَلِكَ . قَالَ الْآخَرُونَ : رَذِيلَةُ الْكُفْرِ لَمْ تَمْنَعْ قَبُولَ قَوْلِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِلْحَاجَةِ , بِنَصِّ الْقُرْآنِ , وَلَمْ تَمْنَعْ وِلَايَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , وَعِرَافَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَكَوْنُ بَعْضِهِمْ حَاكِمًا وَقَاضِيًا(1/300)
عَلَيْهِمْ , فَلَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ شَاهِدًا عَلَى بَعْضٍ , وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْرِيمٌ لَهُمْ , وَلَا رَفْعٌ لِأَقْدَارِهِمْ , وَإِنَّمَا هُوَ دَفْعٌ لِشَرِّهِمْ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ , وَإِيصَالُ أَهْلِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ إلَى حُقُوقِهِمْ بِقَوْلِ مَنْ يَرْضَوْنَهُ , وَهَذَا مِنْ تَمَامِ مَصَالِحِهِمْ الَّتِي لَا غِنًى لَهُمْ عَنْهَا . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ , أَنَّهُمْ إذَا رَضُوا بِأَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ , وَرَضُوا بِقَبُولِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , فَأَلْزَمْنَاهُمْ بِمَا رَضُوا بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ بَيْنَهُمْ مِمَّنْ يَثِقُونَ بِهِ , فَلَوْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ لَمْ نَقْبَلْهُ , وَلَمْ نُلْزِمْهُمْ بِشَهَادَتِهِ .
-------------------
وفي الموسوعة الفقهية (1):
اخْتِلَافُ الدِّينِ
1 - اخْتِلَافُ الدِّينِ يَسْتَتْبِعُ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً مُعَيَّنَةً , كَامْتِنَاعِ التَّوَارُثِ . وَاخْتِلَافُ الدِّينِ الَّذِي يَسْتَتْبِعُ تِلْكَ الْأَحْكَامَ إمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافًا بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ , فَهَذَا يَسْتَتْبِعُ أَحْكَامَ اخْتِلَافِ الدِّينِ اتِّفَاقًا , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّخْصَانِ كَافِرَيْنِ , إلَّا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتْبَعُ غَيْرَ مِلَّةِ صَاحِبِهِ , كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَهُودِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا . وَفِي هَذَا النَّوْعِ اخْتِلَافٌ يَتَبَيَّنُ مِمَّا يَلِي : وَمِنْ أَهَمِّ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى اخْتِلَافِ الدِّينِ : أ - التَّوَارُثُ : 2 - اخْتِلَافُ الدِّينِ أَحَدُ مَوَانِعِ التَّوَارُثِ , لِبِنَاءِ التَّوَارُثِ عَلَى النُّصْرَةِ , فَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ اتِّفَاقًا . إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ يَرَى تَوْرِيثَ الْكَافِرِ بِالْوَلَاءِ مِنْ عَتِيقِهِ الْمُسْلِمِ . وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ وَرِثَ عِنْدَ أَحْمَدَ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ . وَفِي مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُرْتَدِّ خِلَافٌ . وَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ كَافِرًا , عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَرُوِيَ تَوْرِيثُهُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ , لِمَا فِي الْحَدِيثِ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى * وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ { الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ * . وَأَمَّا تَوَارُثُ أَهْلِ الْكُفْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ , فَعِنْدَ الْإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ : يَثْبُتُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فِي مُعَادَاةِ الْمُسْلِمِينَ . وَعِنْدَ مَالِكٍ : هُمْ ثَلَاثُ مِلَلٍ : فَالْيَهُودُ مِلَّةٌ , وَالنَّصَارَى مِلَّةٌ , وَمَنْ عَدَاهُمْ مِلَّةٌ . وَعِنْدَ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : هُمْ مِلَلٌ شَتَّى ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا * وَلِحَدِيثِ : { لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى * .
ج - وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ .
4 - اخْتِلَافُ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ أَحَدُ مَوَانِعِ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ . فَلَا يَلِي كَافِرٌ تَزْوِيجَ مُسْلِمَةٍ , وَلَا مُسْلِمٌ تَزْوِيجَ كَافِرَةٍ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا * . وَاسْتَثْنَوْا جَمِيعًا تَزْوِيجَ الْمُسْلِمِ أَمَتَهُ الْكَافِرَةَ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يُزَوِّجُهَا بِالْمِلْكِ لَا بِالْوِلَايَةِ , وَتَزْوِيجَ السُّلْطَانِ الْمُسْلِمِ أَوْ نَائِبِهِ الْمَرْأَةَ الْكَافِرَةَ إنْ تَعَذَّرَ وَلِيُّهَا الْخَاصُّ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : إنْ زَوَّجَ الْمُسْلِمُ ابْنَتَهُ الْكَافِرَةَ لِكَافِرٍ , يُتْرَكُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ , وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ . أَمَّا إنْ اخْتَلَفَ الدِّينُ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ , كَتَزْوِيجِ الْيَهُودِيِّ مُوَلِّيَتَهُ النَّصْرَانِيَّةَ , وَعَكْسِهِ , فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ ذَلِكَ . وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ غَيْرُهُمْ , وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَتَخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي التَّوْرِيثِ , وَالْمُقَدَّمُ مَنْعُهُ .
------------------
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 690)(1/301)
وفي السياسة الشرعية (1):
وَوَلِيُّ الْأَمْرِ إذَا تَرَكَ إنْكَارَ الْمُنْكَرَاتِ , وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهَا , بِمَالٍ يَأْخُذُهُ , كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُقَدَّمِ الْحَرَامِيَّةِ , الَّذِي يُقَاسِمُ الْمُحَارِبِينَ عَلَى الْأَخِيذَةِ وَبِمَنْزِلَةِ الْقَوَّادِ الَّذِي يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ ; لِيَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى فَاحِشَةٍ , وَكَانَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ عَجُوزِ السُّوءِ امْرَأَةِ لُوطٍ الَّتِي كَانَتْ تَدُلُّ الْفُجَّارَ عَلَى ضَيْفِهِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ * وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلَّا امْرَأَتَكَ إنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ * فَعَذَّبَ اللَّهُ عَجُوزَ السُّوءِ الْقَوَّادَةَ , بِمِثْلِ مَا عَذَّبَ قَوْمَ السُّوءِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ الْخَبَائِثَ , وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا جَمِيعَهُ أَخْذُ مَالٍ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ , وَوَلِيُّ الْأَمْرِ إذَا نُصِبَ لِيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ , وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ , وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ فَإِذَا كَانَ الْوَالِي يُمَكِّنُ مِنْ الْمُنْكَرِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ , كَانَ قَدْ أَتَى بِضِدِّ الْمَقْصُودِ , مَنْ نَصَّبْتَهُ لِيُعِينَكَ عَلَى عَدُوِّكَ , فَأَعَانَ عَدُوَّكَ عَلَيْكَ , وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ مَالًا لِيُجَاهِدَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , فَقَاتَلَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ الْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , فَإِنَّ صَلَاحَ الْمَعَاشِ وَالْعِبَادِ , فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَبِهِ صَارَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ * . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ * . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ * وَقَالَ تَعَالَى عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ , لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَذَابَ لَمَّا نَزَلَ , نَجَّى الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ , وَأَخَذَ الظَّالِمِينَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ . وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ * وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ , أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ * . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا أُخْفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا , وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ أَضَرَّتْ الْعَامَّةَ * وَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحُكْمِ , فِي حُدُودِ اللَّهِ وَحُقُوقِهِ وَمَقْصُودِهِ الْأَكْبَرِ , هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ , فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ , وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمَانَةِ , وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ , وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ , وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَمِيعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ وَيُعَاقِبُ التَّارِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ كَانَ التَّارِكُونَ طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً قُوتِلُوا عَلَى تَرْكِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , وَكَذَلِكَ يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ , وَالصِّيَامِ
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 305) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 381)(1/302)
, وَغَيْرِهِمَا , وَعَلَى اسْتِحْلَالِ مَا كَانَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا , كَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَكُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ الْتِزَامِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ , يَجِبُ جِهَادُهَا , حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ , بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , وَإِنْ كَانَ التَّارِكُ لِلصَّلَاةِ وَاحِدًا فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يُصَلِّيَ , وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ , فَإِنْ تَابَ وَصَلَّى , وَإِلَّا قُتِلَ , وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا فَاسِقًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ كَافِرًا , وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا . أَمَّا إذَا جَحَدَ وُجُوبَهَا , فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , وَكَذَلِكَ مَنْ جَحَدَ سَائِرَ الْوَاجِبَاتِ , وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَاتِ , هُوَ مَقْصُودُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ بِاتِّفَاقٍ , كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ . { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ : لَا تَسْتَطِيعُهُ , أَوْ لَا تُطِيقُهُ قَالَ : أَخْبَرَنِي بِهِ ؟ قَالَ : هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ , وَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ ؟ قَالَ : وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * وَقَالَ : { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ , بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ , أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ * كِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { : رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ , وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ , وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ , ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * . وَقَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * .
-------------------
وفي تحفة الحبيب (1):
__________
(1) - حاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 12 / ص 452)(1/303)
وَكَانَ الْجِهَادُ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَرْضَ كِفَايَةٍ , وَأَمَّا بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم فَلِلْكُفَّارِ حَالَانِ : الْحَالُ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونُوا بِبِلَادِهِمْ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا فَعَلَهُ مَنْ فِيهِمْ كِفَايَةٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ . ( وَشَرَائِطُ وُجُوبِ الْجِهَادِ ) حِينَئِذٍ ( سَبْعُ خِصَالٍ ) : الْأُولَى ( الْإِسْلَامُ ) لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا * الْآيَةَ فَخُوطِبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَوْ ذِمِّيًّا لِأَنَّهُ يَبْذُلُ الْجِزْيَةَ لِنَذُبَّ عَنْهُ لَا لِيَذُبَّ عَنَّا . ( وَ ) الثَّانِيَةُ ( الْبُلُوغُ وَ ) الثَّالِثَةُ ( الْعَقْلُ ) فَلَا جِهَادَ عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ * الْآيَةَ قِيلَ : هُمْ الصِّبْيَانُ لِضَعْفِ أَبْدَانِهِمْ وَقِيلَ : الْمَجَانِينُ لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ , وَلِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَ عُمَرَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَجَازَهُ فِي الْخَنْدَقِ * . ( وَ ) الرَّابِعَةُ ( الْحُرِّيَّةُ ) فَلَا جِهَادَ عَلَى رَقِيقٍ وَلَوْ مُبَعَّضًا أَوْ مُكَاتَبًا لقوله تعالى : { وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ * وَلَا مَالَ لِلْعَبْدِ وَلَا نَفْسَ يَمْلِكُهَا فَلَمْ يَشْمَلْهُ الْخِطَابُ حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ وَلَيْسَ الْقِتَالُ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الْمُسْتَحَقِّ لِلسَّيِّدِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَقْتَضِي التَّعَرُّضَ لِلْهَلَاكِ . ( وَ ) الْخَامِسَةُ ( الذُّكُورَةُ ) فَلَا جِهَادَ عَلَى امْرَأَةٍ لِضَعْفِهَا . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ * وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ يَنْصَرِفُ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ { وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ وَقَدْ سَأَلَتْهُ فِي الْجِهَادِ : لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ * . ( وَ ) السَّادِسَةُ ( الصِّحَّةُ ) فَلَا جِهَادَ عَلَى مَرِيضٍ يَتَعَذَّرُ قِتَالُهُ أَوْ تَعْظُمُ مَشَقَّتُهُ . ( وَ ) السَّابِعَةُ ( الطَّاقَةُ عَلَى الْقِتَالِ ) بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ فَلَا جِهَادَ عَلَى أَعْمَى وَلَا عَلَى ذِي عَرَجٍ بَيِّنٍ , وَلَوْ فِي رِجْلٍ وَاحِدَةٍ لقوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ * فَلَا عِبْرَةَ بِصُدَاعٍ وَوَجَعِ ضِرْسٍ وَضَعْفِ بَصَرٍ , إنْ كَانَ يُدْرِكُ الشَّخْصَ وَيُمْكِنُهُ اتِّقَاءَ السِّلَاحِ . وَلَا عَرَجٍ يَسِيرٍ لَا يَمْنَعُ الْمَشْيَ وَالْعَدْوَ وَالْهَرَبَ وَلَا عَلَى أَقْطَعِ يَدٍ بِكَمَالِهَا , أَوْ مُعْظَمِ أَصَابِعِهَا بِخِلَافِ : فَاقِدِ الْأَقَلِّ أَوْ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ إنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ بِغَيْرِ عَرَجٍ بَيِّنٍ وَلَا عَلَى أَشَلِّ يَدٍ أَوْ مُعْظَمِ أَصَابِعِهَا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْجِهَادِ الْبَطْشُ وَالنِّكَايَةُ وَهُوَ مَفْقُودٌ فِيهِمَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الضَّرْبِ , وَلَا عَادِمٍ أُهْبَةَ قِتَالٍ : مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا سِلَاحٍ , وَكَذَا مَرْكُوبٌ إنْ كَانَ سَفَرَ قَصْرٍ فَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَزِمَهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ فَاضِلٌ ذَلِكَ عَنْ مُؤْنَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ كَمَا فِي الْحَجِّ وَلَوْ مَرِضَ بَعْدَ مَا خَرَجَ أَوْ فَنِيَ زَادُهُ أَوْ هَلَكَتْ دَابَّتُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْصَرِفَ أَوْ يَمْضِيَ فَإِنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الصَّحِيحِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِتَالُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ فَالْأَصَحُّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ الرَّمْيُ بِهَا عَلَى تَنَاقُضٍ وَقَعَ لَهُ فِيهِ . وَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ عَلَى بَابِ دَارِهِ أَوْ حَوْلَهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُؤَنِ , كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ . وَالضَّابِطُ الَّذِي يَعُمُّ مَا سَبَقَ وَغَيْرَهُ كُلُّ عُذْرٍ مَنَعَ وُجُوبَ حَجٍّ كَفَقْدِ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ مَنَعَ وُجُوبَ الْجِهَادِ إلَّا خَوْفَ طَرِيقٍ مِنْ كُفَّارٍ أَوْ مِنْ لُصُوصٍ مُسْلِمِينَ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ لِأَنَّ الْخَوْفَ يُحْتَمَلُ فِي هَذَا السَّفَرِ لِبِنَاءِ الْجِهَادِ عَلَى مُصَادَمَةِ الْمَخَاوِفِ وَالدَّيْنُ الْحَالُّ عَلَى مُوسِرٍ يُحَرِّمُ سَفَرَ جِهَادٍ وَسَفَرَ غَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ , وَالدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ لَا يُحَرِّمُ(1/304)
السَّفَرَ وَإِنْ قَرُبَ الْأَجَلُ وَيَحْرُمُ عَلَى رَجُلٍ جِهَادٌ بِسَفَرٍ وَغَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ إنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ , وَلَوْ كَانَ الْحَيُّ أَحَدَهُمَا فَقَطْ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهِ , وَجَمِيعُ أُصُولِهِ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ وَلَوْ وَجَدَ الْأَقْرَبَ مِنْهُمْ وَأَذِنَ بِخِلَافِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ لَا يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ , وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ سَفَرٌ لِتَعَلُّمِ فَرْضٍ وَلَوْ كِفَايَةً كَطَلَبِ دَرَجَةِ الْإِفْتَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ أَصْلِهِ وَلَوْ أَذِنَ أَصْلُهُ أَوْ رَبُّ الدَّيْنِ فِي الْجِهَادِ ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ خُرُوجِهِ , وَعَلِمَ بِالرُّجُوعِ وَجَبَ رُجُوعُهُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ , وَإِلَّا حَرُمَ انْصِرَافُهُ لقوله تعالى : { إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا * وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الرُّجُوعِ أَيْضًا أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ . وَلَمْ تَنْكَسِرْ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ . وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ الرُّجُوعُ بَلْ لَا يَجُوزُ . وَالْحَالُ الثَّانِي مِنْ حَالَيْ الْكُفَّارِ أَنْ يَدْخُلُوا بَلْدَةً لَنَا مَثَلًا فَيَلْزَمُ أَهْلَهَا الدَّفْعُ بِالْمُمْكِنِ مِنْهُمْ . وَيَكُونُ الْجِهَادُ حِينَئِذٍ فَرْضَ عَيْنٍ سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَأَهُّبُهُمْ لِقِتَالٍ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ عَلِمَ كُلُّ مَنْ قَصَدَ أَنَّهُ إنْ أُخِذَ قُتِلَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ قُتِلَ أَوْ لَمْ تَأْمَنْ الْمَرْأَةُ فَاحِشَةً إنْ أُخِذَتْ . وَمَنْ هُوَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ الْبَلْدَةِ الَّتِي دَخَلَهَا الْكُفَّارُ حُكْمُهُ كَأَهْلِهَا وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِهَا كِفَايَةٌ ; لِأَنَّهُ كَالْحَاضِرِ مَعَهُمْ فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى كُلٍّ مِمَّنْ ذُكِرَ حَتَّى عَلَى فَقِيرٍ وَوَلَدٍ وَمَدِينٍ وَرَقِيقٍ بِلَا إذْنٍ مِنْ الْأَصْلِ وَرَبِّ الدَّيْنِ وَالسَّيِّدِ , وَيَلْزَمُ الَّذِي عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ الْمُضِيُّ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ دَفْعًا لَهُمْ وَإِنْقَاذًا مِنْ الْهَلَكَةِ . فَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ فِي حَقِّ مَنْ قَرُبَ وَفَرْضَ كِفَايَةٍ فِي حَقِّ مَنْ بَعُدَ . وَإِذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ قَصْدِ تَأَهُّبٍ لِقِتَالٍ وَجَوَّزَ أَسْرًا وَقَتْلًا فَلَهُ اسْتِسْلَامٌ وَقِتَالٌ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ قُتِلَ وَأَمِنَتْ الْمَرْأَةُ فَاحِشَةً .(1/305)
قَوْلُهُ : ( بَعْدَ الْهِجْرَةِ ) أَمَّا قَبْلَهَا فَكَانَ مُمْتَنِعًا لِأَنَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ أَوَّلًا هُوَ التَّبْلِيغُ وَالْإِنْذَارُ وَالصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ تَأَلُّفًا لَهُمْ ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ بَعْدَهَا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْهُ فِي نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ آيَةً إذَا ابْتَدَأَهُمْ الْكُفَّارُ بِهِ ثُمَّ أَبَاحَ الِابْتِدَاءَ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ أُمِرَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِقَوْلِهِ : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا * { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً * وَهَذِهِ آيَةُ السَّيْفِ وَقِيلَ الَّتِي قَبْلَهَا م ر فِي شَرْحِهِ وَقَوْلُهُ : فِي نَيِّفٍ مِنْ وَاحِدٍ إلَى تِسْعٍ وَالْبِضْعُ مِنْ ثَلَاثٍ إلَى تِسْعٍ . ا هـ . مُخْتَارٌ قَوْلُهُ : ( مَنْ فِيهِمْ ) وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ز ي لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النِّكَايَةُ بِخِلَافِ رَدِّ السَّلَامِ وَإِحْيَاءِ الْكَعْبَةِ فَلَا . قَوْلُهُ : ( حِينَئِذٍ ) أَيْ حِينَ إذْ يَكُونُونَ بِبِلَادِهِمْ . قَوْلُهُ : { وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ * التِّلَاوَةُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ " بَرَاءَةٌ { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ * وَالثَّانِيَةِ { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * وَاَلَّتِي فِي الصَّفِّ { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ * وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ وَاحِدَةً مِمَّا ذَكَرَ وَفِي نُسْخَةٍ وَتُجَاهِدُونَ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ . قَوْلُهُ : { لَكُنَّ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ * بِفَتْحِ لَامِ لَكُنَّ وَضَمِّ الْكَافِ وَبِنُونِ النِّسْوَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَأَفْضَلُ الْجِهَادِ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَحَجٌّ أَيْ هُوَ حَجٌّ . . . إلَخْ : وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال إلَّا إذَا قُرِئَ لَكُنَّ بِالتَّشْدِيدِ كَمَا ذَكَرْنَا , وَتَسْمِيَةُ الْحَجِّ جِهَادًا مِنْ حَيْثُ إتْعَابُ النَّفْسِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَوْ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ لِيُطَابِقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ . قَوْلُهُ : ( وَالسَّادِسَةُ الصِّحَّةُ ) يُغْنِي عَنْهُ مَا بَعْدَهُ . قَوْلُهُ : ( أَوْ مُعْظَمُ أَصَابِعهَا بِخِلَافِ فَاقِدِ الْأَقَلِّ ) قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى فَاقِدِ الْإِبْهَامِ وَالْمُسَبِّحَةِ وَعَلَى فَاقِدِ الْوُسْطَى وَالْبِنْصِرِ لَكِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا كَمَا لَا يُجْزِئَانِ فِي الْكَفَّارَةِ وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا شَرْحُ الرَّوْضِ شَوْبَرِيٌّ وَلَا يَجِبُ عَلَى فَاقِدِ أَكْثَرِ أَنَامِلِ يَدِهِ كَمَا فِي الْعُبَابِ . قَوْلُهُ : ( وَهُوَ مَفْقُودٌ فِيهِمَا ) أَيْ الْأَشَلُّ وَالْأَقْطَعُ . قَوْلُهُ : ( إنْ كَانَ سَفَرَ قَصْرٍ ) قَيْدٌ فِي الْمَرْكُوبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَكَذَا . قَوْلُهُ : ( فَاضِلٌ ذَلِكَ ) أَيْ الْمَرْكُوبُ وَمَا قَبْلَهُ بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ أَصْلًا أَوْ قَدَرَ عَلَيْهَا غَيْرَ فَاضِلَةٍ عَمَّا ذَكَرَ وَانْظُرْ مُؤْنَةَ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ تُقَدَّرُ بِكَمْ شَهْرٍ ; لِأَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ لِغَيْبَتِهِ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ بِخِلَافِ الْحَجِّ . قَوْلُهُ : ( وَلَوْ مَرِضَ إلَخْ ) تَقْيِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ لَا جِهَادَ عَلَيْهِمْ أَيْ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ أَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الدَّوَامِ فَيَفْصِلُ كَمَا فِي الشَّرْحِ . قَوْلُهُ : ( الرَّمْيُ بِهَا ) أَيْ وُجُوبُ الرَّمْيِ بِهَا أَيْ الْحِجَارَةِ . قَوْلُهُ : ( فِيهِ ) أَيْ فِي الْوُجُوبِ . قَوْلُهُ : ( وَالضَّابِطُ ) أَيْ ضَابِطُ مَانِعِ الْوُجُوبِ . قَوْلُهُ : ( عَلَى مُصَادَمَةِ الْمَخَاوِفِ ) أَيْ مُلَاقَاتِهَا . قَوْلُهُ : ( وَالدَّيْنُ الْحَالُّ ) أَيْ أَصَالَةً أَوْ عَرَضًا سَوَاءٌ كَانَ لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ وَإِنْ كَانَ بِهِ رَهْنٌ وَثِيقٌ أَوْ ضَامِنٌ مُوسِرٌ كَمَا قَالَهُ م ر . وَمُرَادُ الشَّارِحِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ زِيَادَةُ شَرْطَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ وَهُوَ مُوسِرٌ وَأَذِنَ أُصُولُهُ وَمَحِلُّ تَوَقُّفِهِ عَلَى إذْنِ رَبِّ الدَّيْنِ مَا لَمْ يُنِبْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مَنْ يَقْضِيهِ عَنْهُ أَيْ بِأَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَزْيَدُ مِمَّا يَبْقَى لِلْمُفْلِسِ فِيمَا يَظْفَرُ بِخِلَافِهِ عَلَى مُعْسِرٍ فَلَا يَحْرُمُ السَّفَرُ وَيُتَّجَهُ أَنَّ رَبَّ(1/306)
الدَّيْنِ لَوْ كَانَ مُصَاحِبًا لَهُ فِي سَفَرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْآذِنُ رَشِيدًا , وَمِثْلُ الْإِذْنِ ظَنُّ رِضَاهُ فَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِمَدِينِهِ السَّفَرُ لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْذَنَ وَلِيُّهُ , وَإِذْنُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَاغٍ وَحَيْثُ حَرُمَ السَّفَرُ فَلَا يَتَرَخَّصُ بِقَصْرٍ وَلَا غَيْرِهِ لِعِصْيَانِهِ بِسَفَرِهِ ا هـ وَعِبَارَةُ م ر إلَّا بِإِذْنِ غَرِيمِهِ أَوْ ظَنِّ رِضَاهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ وَالرِّضَا لِرِضَاهُ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ , وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلشَّهَادَةِ بَلْ يَقِفَ وَسَطَ الصَّفِّ أَوْ حَاشِيَتِهِ حِفْظًا لِلدَّيْنِ وَحَلَّ مَا تَقَرَّرَ مَا لَمْ يُنِبْ مَنْ يَقْضِيهِ مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ وَمِثْلُهُ كَمَا هُوَ قِيَاسُ نَظَائِرِهِ دَيْنٌ ثَابِتٌ عَلَى مَلِيءٍ . وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِإِذْنِ وَلِيِّ الدَّائِنِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ إذْ لَا مَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ ا هـ بِحُرُوفِهِ . قَوْلُهُ : ( سَفَرَ جِهَادٍ ) وَحَيْثُ حَرُمَ السَّفَرُ فَلَا يَتَرَخَّصُ بِقَصْرٍ وَلَا غَيْرِهِ لِعِصْيَانِهِ بِسَفَرِهِ . قَوْلُهُ : ( وَسَفَرَ غَيْرِهِ ) وَلَوْ قَصِيرًا كَنَحْوِ مِيلٍ م ر وَقِيلَ : لَا يَتَقَيَّدُ بِمِيلٍ بَلْ مَتَى خَرَجَ مِنْ السُّوَرِ . قَوْلُهُ : ( عَلَى رَجُلٍ ) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْوُجُوبِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى ق ل . قَوْلُهُ : ( بِسَفَرٍ وَغَيْرِهِ ) اعْتَرَضَ بِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْكُفَّارُ بَلْدَةً لَنَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنٍ إلَّا أَنْ يُصَوِّرَ بِمَا إذَا سَافَرَ لِتِجَارَةٍ لَا خَطَرَ فِيهَا فَاتَّفَقَ لَهُ الْجِهَادُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ مِنْ الْأُصُولِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُسَافِرْ لِلْجِهَادِ فَصَدَقَ أَنَّهُ جِهَادٌ بِلَا سَفَرٍ , وَتَوَقَّفَ عَلَى إذْنٍ فَالْمُرَادُ بِلَا سَفَرٍ لِلْجِهَادِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ هُنَاكَ سَفَرٌ لَكِنْ لَا لِلْجِهَادِ كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ . وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى سَفَرٍ وَيَصِحُّ قِرَاءَةُ غَيْرُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جِهَادٍ فَقَوْلُهُ : وَغَيْرُهُ أَيْ غَيْرُ الْجِهَادِ بِسَفَرٍ . قَوْلُهُ : ( لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهِ ) أَيْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ فَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ رِضَا جَمِيعِ الْأُصُولِ لَا الْأَبَوَيْنِ فَقَطْ فَلَيْسَ اشْتِرَاطُ الرِّضَا لِأَجْلِ احْتِيَاجِ الْأَصْلِ إلَيْهِ فِي الْمُؤْنَةِ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ لِعَدَمِ فَرْقِهِمْ بَيْنَ الْفَرْعِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَبَيْنَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ الْعُمْرَ الْغَالِبَ أَوْ لَا كَذَا قَرَّرَهُ ز ي وَهُوَ وَاضِحٌ . قَوْلُهُ : ( كَذَلِكَ ) أَيْ يَحْرُمُ السَّفَرُ بِدُونِ إذْنِهِمْ وَعِبَارَةُ م ر وَيَحْرُمُ عَلَى حُرٍّ وَمُبَعَّضِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى جِهَادٌ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ سَفَرٍ إلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ وَإِنْ عَلَيَا مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ وَلَوْ كَانَ غَنِيَّيْنِ لِأَنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ هَذَا إذَا كَانَ مُسْلِمَيْنِ وَلَمْ يَجِبْ اسْتِئْذَانُ الْكَافِرِ لِاتِّهَامِهِ بِمَنْعِهِ لَهُ حَمِيَّةً لِدِينِهِ وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا لِلْمُقَاتِلِينَ أَيْ الَّذِينَ يُرِيدُ قِتَالَهُمْ وَيَلْزَمُ الْمُبَعَّضَ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ أَيْضًا وَيَحْتَاجُ الْقِنُّ لِإِذْنِ سَيِّدِهِ لَا أَبَوَيْهِ ا هـ بِحُرُوفِهِ . قَوْلُهُ : ( وَلَوْ وَجَدَ الْأَقْرَبَ إلَخْ ) غَايَةٌ أَيْ إذَا أَذِنَ الْأَقْرَبُ لَا يَجُوزُ السَّفَرُ حَيْثُ مَنَعَ الْأَبْعَدَ . فَرْعٌ لَا يُعْتَبَرُ إذْنُ الْأَصْلِ فِي السَّفَرِ لِطَلَبِ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ وَلَوْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ أَوْ أَمْكَنَ فِي الْبَلَدِ وَرَجَا بِخُرُوجِهِ زِيَادَةَ فَرَاغٍ أَوْ إرْشَادَ شَيْخٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَلَهُ تَرْكُ طَلَبِ الْعِلْمِ غَيْرِ الْمُتَعَيِّنِ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِيهِ وَإِنْ ظَهَرَ انْتِفَاعُهُ لَا فِي صَلَاةِ الْمَيِّتِ أَيْ إذَا شَرَعَ فِيهَا لَا يَجُوزُ قَطْعُهَا وَلَا يُعْتَبَرُ الْإِذْنُ فِي السَّفَرِ لِتِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا حَيْثُ لَا خَطَرَ فِيهِ كَرُكُوبِ بَحْرٍ أَوْ بَادِيَةٍ مُخْطِرَةٍ وَإِنْ غَلَبَ الْأَمْنُ . ا هـ عُبَابٌ . ا هـ . م د وَقَوْلُهُ : كَرُكُوبِ بَحْرٍ مِثَالٌ لِلْمَنْفِيِّ وَقَوْلُهُ : مُخْطِرَةٍ أَيْ فِيهَا خَطَرٌ أَيْ خَوْفٌ . قَوْلُهُ : ( وَلَوْ كِفَايَةً ) أَيْ وَلَوْ نَحْوَ صَنْعَةٍ لِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ مَعَ حُرْمَةِ(1/307)
السَّفَرِ لَهُ إلَّا بِالْإِذْنِ . وَأُجِيبَ : بِأَنَّ فِيهِ مِنْ الْأَخْطَارِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ إذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَخَاوِفِ . قَوْلُهُ : ( أَيْضًا ) أَيْ كَمَا اشْتَرَطَ عَدَمَ حُضُورِهِ الصَّفَّ . قَوْلُهُ : ( وَلَمْ تَنْكَسِرْ إلَخْ ) أَيْ وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْإِمَامِ بِجُعْلٍ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ بَلْ لَا يَجُوزُ شَرْحُ الرَّوْضِ فَلَا يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَّا بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ أَنْ لَا يَحْضُرَ الصَّفَّ وَأَنْ يَأْمَنَ وَأَنْ لَا تَنْكَسِرَ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا يَخْرُجَ بِجُعْلٍ فَإِنْ حَضَرَ أَوْ لَمْ يَأْمَنْ أَوْ انْكَسَرَ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ بِرُجُوعِهِ أَوْ خَرَجَ بِجُعْلٍ فَلَا يَجِبُ الرُّجُوعُ . ا هـ . م د . قَوْلُهُ : ( وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ الرُّجُوعُ ) ظَاهِرُهُ جَوَازُ الرُّجُوعِ مَعَ عَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ مُرَادًا ق ل فَقَوْلُهُ : لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ بَلْ وَلَا يَجُوزُ . قَوْلُهُ : ( أَنْ يَدْخُلُوا بَلْدَةً لَنَا ) أَوْ يَصِيرَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ . ا هـ . م ر . قَوْلُهُ : ( مَثَلًا ) مُتَعَلِّقٌ بِيَدْخُلُوا وَيَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِبَلْدَةٍ لِإِدْخَالِ الْقَرْيَةِ وَيَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ : لَنَا لِإِدْخَالِهِ بِلَادَ الذِّمِّيِّينَ وَكُلٌّ مُرَادٌ . قَوْلُهُ : ( فَرْضُ عَيْنٍ ) يَرْجِعُ لِلثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ . قَوْلُهُ : ( عَلِمَ كُلٌّ إلَخْ ) وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْمَنْهَجِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ لَكِنْ عَلِمَ إلَخْ فَجَعَلَهُ شَرْطًا فِي قَوْلِهِ : أَوْ لَمْ يُمْكِنْ . قَوْلُهُ : ( أَنَّهُ إنْ أُخِذَ قُتِلَ ) فَيَتَعَيَّنُ الْقِتَالُ لِامْتِنَاعِ الِاسْتِسْلَامِ لِكَافِرٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ ذُلٌّ دِينِيٌّ . قَوْلُهُ : ( قُتِلَ ) أَيْ فَيَجِبُ الدَّفْعُ أَيْضًا لِأَنَّ عَدَمَ الدَّفْعِ حِينَئِذٍ ذُلٌّ دِينِيٌّ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ عَلَى النَّفْسِ وَالْعِلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الظَّنِّ . قَوْلُهُ : ( أَوْ لَمْ تَأْمَنْ الْمَرْأَةُ فَاحِشَةً إنْ أُخِذَتْ ) أَيْ فَلَا يَحِلُّ لَهَا الِاسْتِسْلَامُ بَلْ يَلْزَمُهَا الدَّفْعُ وَلَوْ قُتِلَتْ لِأَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْمُطَاوَعَةُ لِدَفْعِ الْقَتْلِ شَرْحُ الرَّوْضِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَدَ الْجَمِيلَ وَغَيْرَهُ حُكْمُهُ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنْ يَقْصِدَ بِالْفَاحِشَةِ فِي الْحَالِ أَوْ الْمَآلِ حُكْمُ الْمَرْأَةِ وَأَوْلَى . ا هـ . مَرْحُومِيٌّ فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَوْ اسْتَسْلَمَ لَا يُقْتَلُ وَأَمِنَتْ الْمَرْأَةُ فَاحِشَةً جَازَ الِاسْتِسْلَامُ , فَإِنْ حَصَلَ بَعْدَ ذَلِكَ خِلَافُ ظَنِّهِمْ وَجَبَ الدَّفْعُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ قِ ل . قَوْلُهُ : ( وَجَوَّزَ أَسْرًا إلَخْ ) مَفْهُومُ قَوْلِهِ : عَلِمَ كُلُّ مَنْ قَصَدَ أَنَّهُ إنْ أُخِذَ قُتِلَ وَقَوْلُهُ : إنْ عَلِمَ مَفْهُومُ قَوْلِهِ : أَوْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ وَقَوْلُهُ : وَأَمِنَتْ الْمَرْأَةُ مَفْهُومٌ قَوْلُهُ : أَوْ لَمْ تَأْمَنْ الْمَرْأَةُ إلَخْ . قَوْلُهُ : ( إنْ عَلِمَ ) أَيْ ظَنَّ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ أَيْ مِنْ الِاسْتِسْلَامِ قُتِلَ لِأَنَّ تَرْكَهُ الِاسْتِسْلَامَ حِينَئِذٍ يُعَجِّلُ الْقَتْلَ ز ي وَهَذَا مُحْتَرَزُ . قَوْلُهُ : أَوْ لَمْ يَعْلَمْ . قَوْلُهُ : ( وَأَمِنَتْ الْمَرْأَةُ الْفَاحِشَةَ ) أَيْ إنْ أُخِذَتْ وَإِلَّا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ وَهَذَا مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ : أَوْ لَمْ تَأْمَنْ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِصُورَةِ اسْتِثْنَاءٍ , وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : عَلِمَ كُلُّ مَنْ قَصَدَ إلَخْ مُحْتَرَزَ قَوْلِهِ الْآتِي وَجَوَّزَ أَسْرًا وَقَتْلًا , وَقَوْلُهُ : أَوْ لَمْ يَعْلَمْ إلَخْ مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ : إنْ عَلِمَ وَقَوْلُهُ : أَوْ لَمْ تَأْمَنْ مُحْتَرَزَ قَوْلِهِ : وَأَمِنَتْ وَيَكُونُ قَدَّمَ الْمَفْهُومَ عَلَى الْمَنْطُوقِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْأَوَّلَ مَفْهُومًا لِأَنَّ الثَّانِيَ هُوَ عِبَارَةُ مَتْنِ الْمَنْهَجِ وَالْأَوَّلَ عِبَارَةُ شَرْحِ الْمَنْهَجِ قَدَّمَهَا عَلَى الْمَتْنِ تَقْدِيمًا لِلْمَفْهُومِ وَيَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِيَ مَفْهُومَ الْأَوَّلِ .
===============
المهاجر والمجاهد في سبيل الله أعظم درجة عند الله
قال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ* (20) سورة التوبة
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 2393)(1/308)
قوله تعالى : { الذين آمَنُواْ } في موضع رفع بالإبتداء . وخبره { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } . و «درجةً» نصب على البيان؛ أي من الذين افتخروا بالسّقي والعمارة . وليس للكافرين درجة عند الله حتى يُقال : المؤمن أعظم درجة . والمراد أنهم قدّروا لأنفسهم الدرجة بالعمارة والسّقي؛ فخاطبهم على ما قدّروه في أنفسهم وإن كان التقدير خطأ؛ كقوله تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] . وقيل : «أعظم درجة» من كل ذي درجة؛ أي لهم المزية والمرتبة العلية . { وأولئك هُمُ الفائزون } بذلك .
قوله تعالى : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم } أي يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم . والنعيم : لين العيش ورغده . { خَالِدِينَ } نصب على الحال . والخلود الإقامة . { إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي أعدّ لهم في دار كرامته ذلك الثواب .
---------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
وينتهي هذا المعنى بتقرير فضل المؤمنين المهاجرين المجاهدين , وما ينتظرهم من رحمة ورضوان , ومن نعيم مقيم وأجر عظيم:
(الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله , وأولئك هم الفائزون . يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم , خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم) . .
وأفعل التفضيل هنا في قوله: (أعظم درجة عند الله) ليس على وجهه , فهو لا يعني أن للآخرين درجة أقل , إنما هو التفضيل المطلق . فالآخرون (حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون) فلا مفاضلة بينهم وبين المؤمنين المهاجرين المجاهدين في درجة ولا في نعيم .
-------------------
وفي التفسير الوسيط (2):
وقوله . { الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله . . } . استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة فى الرد ، وتكميلا له .
أى : { الذين آمَنُواْ } بالله - تعالى - إيماناً حقاً ، { وَهَاجَرُواْ } من دار الكفر إلى دار الإِيمان فراراً بدينهم ، { وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله } لإِعلاء كلمة الله { بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } هؤلاء الذين توفرت فيهم هذه الصفات الجليلة { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } أى : أعلى مقاماً وأشرف منزلة فى حكم الله وتقديره من أهل سقاية الحاج . وعمارة المسجد { الحرام } ومن كل من لم يتصف بهذه الصفات الأربعة الكريمة وهى : الايمان ، والهجرة ، والجهاد بالمال ، والجهاد بالنفس .
قال الفخر الرازى : فان قيل : لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين . كما جاء فى بعض روايات أسباب النزول . فكيف قال فى وصفهم اعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة .
قلنا . الجواب عنه من وجوه . الأول أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله ، ونظيره قوله . سبحانه { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } الثانى : أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات ، تنبيهاً على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات ، فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى .
الثالث : أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على الساقية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال . ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير . وإنما بطل ثوابها فى حق الكفار بسبب كفرهم .
وقوله : { وأولئك هُمُ الفائزون } أى : وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، هم الفائزون ، بثواب الله الأعظم ، وبرضائه الأسمى الذى لا يصل إليه سواهم ممن لم يفعل فعلهم .
ثم فصل - سبحانه - هذا الفوز فقال : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
أى يبشرهم ربهم على لسان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فى الدنيا وعلى لسان الملائكة عند الموت { بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } أى : برحمة واسعة منه - سبحانه - وبرضائه التام عنهم ، وبجنات عالية لهم فيها نعيم عظيم لا يزول ولا يبيد .
{ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى : ماكثين فى تلك الجنات مكثاً أبدياً .
{ إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا يقادر قدره لهؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموارهم وأنفسهم .
قال الآلوسى : ذكر أبو حيان أنه - تعالى - لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإِيمان والهجرة ، والجهد بالنفس والمال ، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث : الرحمة والرضوان ، والجنة .
وبدأ - سبحانه - بالرحمة فى مقابلة الإِيمان لتوقفها عليه ، ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإِيمان هو السابق .
وثنى - سبحانه - بالرضوان الذى هو نهاية الإِحسان فى مقابلة الجهاد الذى هو بذل الأنفس والأموال .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 228)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1909)(1/309)
وثلث بالجنات فى مقابلة الهجرة وترك الأوطان ، إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها - فى سبيله أعطاهم بدلها داراً عظيمة دائمة وهى الجنات .
وفى الحديث الصحيح يقول الله - سبحانه - : " يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأودخلتنا جنتك؟ فيقول - سبحانه - لكم عندى أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه : أحل لكم رضائى فلا أسخط عليكم بعده أبداً " .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت أنه لا تصح المساواة بين المؤمنين الصادقين الذين هاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وبين غيرهم ممن لم يفعل فعلهم ، ولم يجاهد جهادهم . .
-----------------
وقال السعدي (1):
لما اختلف بعض المسلمين، أو بعض المسلمين وبعض المشركين، في تفضيل عمارة المسجد الحرام، بالبناء والصلاة والعبادة فيه وسقاية الحاج، على الإيمان باللّه والجهاد في سبيله، أخبر اللّه تعالى بالتفاوت بينهما، فقال: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } أي: سقيهم الماء من زمزم كما هو المعروف إذا أطلق هذا الاسم، أنه المراد { وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ [ ص 332 ] الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ }
فالجهاد والإيمان باللّه أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة، لأن الإيمان أصل الدين، وبه تقبل الأعمال، وتزكو الخصال.
وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو ذروة سنام الدين، الذي به يحفظ الدين الإسلامي ويتسع، وينصر الحق ويخذل الباطل.
وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج، فهي وإن كانت أعمالا صالحة، فهي متوقفة على الإيمان، وليس فيها من المصالح ما في الإيمان والجهاد، فلذلك قال: { لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي: الذين وصفهم الظلم، الذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير، بل لا يليق بهم إلا الشر.
ثم صرح بالفضل فقال: { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ } بالنفقة في الجهاد وتجهيز الغزاة { وَأَنْفُسِهِمْ } بالخروج بالنفس { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } أي: لا يفوز بالمطلوب ولا ينجو من المرهوب، إلا من اتصف بصفاتهم، وتخلق بأخلاقهم.
{ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ } جودا منه، وكرما وبرا بهم، واعتناء ومحبة لهم، { بِرَحْمَةٍ مِنْهُ } أزال بها عنهم الشرور، وأوصل إليهم [بها] كل خير. { وَرِضْوَانٍ } منه تعالى عليهم، الذي هو أكبر نعيم الجنة وأجله، فيحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم أبدا.
{ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } من كل ما اشتهته الأنفس، وتلذ الأعين، مما لا يعلم وصفه ومقداره إلا اللّه تعالى، الذي منه أن اللّه أعد للمجاهدين في سبيله مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، ولو اجتمع الخلق في درجة واحدة منها لوسعتهم.
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } لا ينتقلون عنها، ولا يبغون عنها حِوَلا { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا تستغرب كثرته على فضل اللّه، ولا يتعجب من عظمه وحسنه على من يقول للشيء كن فيكون.
--------------
وقال الطاهر بن عاشور (2):
هذه الجملة مبينّة لنفي الاستواء الذي في جملة {لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:19] ومفصّلة للجهاد الذي في قوله: {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:19] بأنّه الجهاد بالأموال والأنفس، وإدماج لبيان مزية المهاجرين من المجاهدين.
و(الذين هاجروا) هم المؤمنون من أهل مكة وما حولها، الذين هاجروا منها إلى المدينة لما أذنهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها بعد أن أسلموا، وذلك قبل فتح مكة.
والمهاجرة: ترك الموطن والحلول ببلد آخر، وهي مشتقة من الهجر وهو الترك، واشتقت لها صيغة المفاعلة لاختصاصها بالهجر القوي وهو هجر الوطن، والمراد بها - في عرف الشرع - هجرة خاصة: وهي الهجرة من مكة إلى المدينة، فلا تشتمل هجرة من هاجر من المسلمين إلى بلاد الحبشة لأنّها لم تكن على نيّة الاستيطان بل كانت هجرة مؤقته، وتقدّم ذكر الهجرة في آخر سورة الأنفال.
والمفضل عليه محذوف لظهوره: أي أعظم درجة عند الله من أصحاب السقاية والعمارة الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا الجهاد الكثير الذي جاهده المسلمون أيام بقاء أولئك في الكفر، والمقصود تفضيل خصالهم.
والدرجة تقدّمت عند قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في سورة البقرة [228]. وقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في أوائل الأنفال [4]. وهي في كل ذلك مستعارة لرفع المقدار. و {عِنْدَ اللَّهِ} إشارة إلى أنّ رفعة مقدارهم رفعة رضى من الله وتفضيل بالتشريف، لأن أصل (عند) أنّها ظرف للقرب.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 331)
(2) - التحرير والتنوير - (ج 10 / ص 52)(1/310)
وجملة {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} معطوفة على {أَعْظَمُ دَرَجَةً} أي: أعظم وهم أصحاب الفوز. وتعريف المسند باللام مفيد للقصر، وهو قصر ادعائي للمبالغة في عظم فوزهم حتى إن فوز غيرهم بالنسبة إلى فوزهم يعد كالمعدوم.
والإتيان باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا الفوز لأجل تلك الأوصاف التي ميزتهم: وهي الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس.
[21،22] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ, خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
بيان للدرجة العظيمة التي في قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:20] فتلك الدرجة هي عناية الله تعالى بهم بإدخال المسرة عليهم، وتحقيق فوزهم، وتعريفهم برضوانه عليهم، ورحمته بهم، وبما أعد لهم من النعيم الدائم. ومجموع هذه الأمور لم يمنحه غيرهم من أهل السقاية والعمارة، الذين وإن صلحوا لأن ينالوا بعض هذه المزايا فهم لم ينالوا جميعها.
والتبشير: الإخبار بخير يحصل للمخبر لم يكن عالما به.
فإسناد التبشير إلى اسم الجلالة بصيغة المضارع، المفيد للتجدّد، مؤذن بتعاقب الخيرات عليهم، وتجدّد إدخال السرور بذلك لهم، لأّن تجدد التبشير يؤذن بأن المبشّر به شيء لم يكن معلوما للمبشّر (بفتح الشين) وإلاّ لكان الإخبار به تحصيلا للحاصل.
وكون المسند إليه لفظ الربّ، دون غيره ممّا يدلّ على الخالق سبحانه، إيماء إلى الرحمة بهم والعناية: لأنّ معنى الربوبية يرجع إلى تدبير المربوب والرفق به واللطف به، ولتحصل به الإضافة إلى ضميرهم إضافة تشريف.
وتقدّمت الرحمة في قوله: {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1].
والرضوان - بكسر - الراء وبضمها - : الرضا الكامل الشديد، لأنّ هذه الصيغة تشعر بالمبالغة مثل الغفران والشكران والعصيان.
والجنّات تقدّم الكلام عليها في ذكر الجنة في سورة البقرة، وجمعها باعتبار مراتبها وأنواعها وأنواع النعيم فيها.
والنعيم: ما به التذاذ النفس باللذات المحسوسة، وهو أخص من النعمة. قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الإنفطار:13] وقال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
والمقيم المستمّر، استعيرت الإقامة للدوام والاستمرار.
والتنكير في {بِرَحْمَةٍ، وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ، وَنَعِيمٌ} للتعظيم، بقرينة المقام، وقرينة قوله: {مِنْهُ} وقرينة كون تلك مبشرّاً بها.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} تذييل وتنويه بشأن المؤمنين المهاجرين المجاهدين لأّن مضمون هذه الجملة يعمّ مضمون ما قبلها وغيره، وفي هذا التذييل إفادة أن ما ذكر من عظيم درجات المؤمنين المهاجرين المجاهدين هو بعض ما عند الله من الخيرات فيحصل من ذلك الترغيب في الازدياد من الأعمال الصالحة ليزدادوا رفعة عند ربهم، كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - "ما على من دعي من جميع تلك الأبواب من ضرورة".
والأجر: العوض المعطى على عمل، وتقدم في قوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} في سورة العقود[5].
---------------
وقال ابن العربي (1):
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَارِثَةَ : يَا حَارِثَةُ ، كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ قَالَ : مُؤْمِنًا حَقًّا .
قَالَ : لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ ، فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِكَ ؟ قَالَ : عَزَفَتْ نَفْسِي عَنْ الدُّنْيَا ؛ فَاسْتَوَى عِنْدِي حَجَرُهَا وَذَهَبُهَا ، وَكَأَنِّي نَاظِرٌ إلَى عَرْشِ رَبِّي .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَرَفْت فَالْزَمْ } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يُدْرِكُ أَحَدُكُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي النَّارِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : كَرِيمٌ .
وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ حَقًّا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي اسْتِقَامَةِ الْأَعْمَالِ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ .
وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ ، وَإِذَا كَانَ مَجَازًا قَصَّرَتْ الْجَوَارِحُ فِي الْأَعْمَالِ ؛ إذْ لَمْ تَبْلُغْ قُوَّتُهُ إلَيْهَا .
------------------
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2):
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 4 / ص 184)
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 446)(1/311)
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُدْوَةُ الْأَنَامِ وَمُفْتِي الْفِرَقِ وَنَاصِرُ السُّنَّةِ : تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تيمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " كَمْ كَانُوا ؟ وَهَلْ كَانُوا بِمَكَّةَ أَوْ بِالْمَدِينَةِ ؟ وَأَيْنَ مَوْضِعُهُمْ الَّذِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهِ ؟ وَهَلْ كَانُوا مُقِيمِينَ بِأَجْمَعِهِمْ لَا يَخْرُجُونَ إلَّا خُرُوجَ حَاجَةٍ ؟ أَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقْعُدُ بِالصُّفَّةِ ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَسَبَّبُ فِي الْقُوتِ ؟ وَمَا كَانَ تَسَبُّبُهُمْ . هَلْ يَعْمَلُونَ بِأَبْدَانِهِمْ أَمْ يَشْحَذُونَ بِالزِّنْبِيلِ ؟ وَفِي مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ " أَهْلَ الصُّفَّةِ " قَاتَلُوا الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ ؟ وَفِيمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ " أَهْلَ الصُّفَّةِ " أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؟ وَمِنْ السِّتَّةِ الْبَاقِينَ مِنْ الْعَشْرَةِ ؟ وَمِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ ؟ وَهَلْ كَانَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْعَشْرَةِ ؟ وَهَلْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَحَدٌ يُنْذِرُ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ ؟ وَهَلْ تَوَاجَدُوا عَلَى دُفٍّ أَوْ شَبَّابَةٍ ؟ أَوْ كَانَ لَهُمْ حَادٍ يُنْشِدُ الْأَشْعَارَ وَيَتَحَرَّكُونَ عَلَيْهَا بِالتَّصْدِيَةِ وَيَتَوَاجَدُونَ ؟ وَعَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } هَلْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ ؟ أَمْ هِيَ عَامَّةٌ ؟ وَهَلْ الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه كَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ وَيَقُولُونَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ جَمَاعَةٍ يَجْتَمِعُونَ إلَّا وَفِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ : لَا النَّاسُ يَعْرِفُونَهُ وَلَا الْوَلِيُّ يَعْرِفُ أَنَّهُ وَلِيٌّ } [ صَحِيحٌ ] ؟ وَهَلْ تَخْفَى حَالَةُ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ طَرِيقَتُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِمْ ؟ وَلِمَاذَا سُمِّيَ الْوَلِيُّ وَلِيًّا ؛ وَمَا الْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ ؟ وَمَا الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ إلَى الْجَنَّةِ ؟ وَمَا الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ أَوْصَى بِهِمْ فِي كَلَامِهِ . وَذَكَرَهُمْ سَيِّدُ خَلْقِهِ وَخَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ . هَلْ هُمْ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ كِفَايَتَهُمْ أَهْلُ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ أَمْ لَا ؟
الْجَوَابُ(1/312)
فَأَجَابَ : شَيْخُ الْإِسْلَامِ : تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَلَمِهِ مَا صُورَتُهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمَّا " الصُّفَّةُ " الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا أَهْلُ الصُّفَّةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ فِي مُؤَخَّرِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَمَالِيِّ الْمَسْجِدِ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ يَأْوِي إلَيْهَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ وَلَا مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُهَاجِرُوا إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حِينَ آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَبَايَعَهُمْ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ عِنْدَ مِنًى وَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ دَارُ عِزٍّ وَمَنَعَةٍ جَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ السَّابِقُونَ بِهَا صِنْفَيْنِ : الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إلَيْهَا مِنْ بِلَادِهِمْ وَالْأَنْصَارَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَكَانَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ حُكْمٌ آخَرُ . وَآخَرُونَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ لِمَنْعِ أَكَابِرِهِمْ لَهُمْ بِالْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَآخَرُونَ كَانُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ ظهراني الْكُفَّارِ المستظهرين عَلَيْهِمْ . فَكُلُّ هَذِهِ " الْأَصْنَافِ " مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَحُكْمُهُمْ بَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي أَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } فَهَذَا فِي السَّابِقِينَ . ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ اتَّبَعَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } الْآيَةَ . وَذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْأَعْرَابَ الْمُؤْمِنِينَ وَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } . فَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَنْزِلُ عَلَى الْأَنْصَارِ بِأَهْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ كَانَتْ عَلَى أَنْ يُؤْوُوهُمْ وَيُوَاسُوهُمْ وَكَانَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إذَا قَدِمَ الْمُهَاجِرُ اقْتَرَعَ الْأَنْصَارُ عَلَى مَنْ يَنْزِلُ [ عِنْدَهُ ] مِنْهُمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَالَفَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَآخَى بَيْنَهُمْ ثُمَّ صَارَ الْمُهَاجِرُونَ يَكْثُرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ يَنْتَشِرُ وَالنَّاسُ يَدْخُلُونَ فِيهِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو الْكُفَّارَ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِسَرَايَاهُ(1/313)
فَيُسْلِمُ خَلْقٌ تَارَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَتَارَةً ظَاهِرًا فَقَطْ وَيَكْثُرُ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْأَهْلِينَ وَالْعُزَّابِ فَكَانَ مَنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ يَأْوِي إلَى تِلْكَ الصُّفَّةِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُ أَهْلِ الصُّفَّةِ يَجْتَمِعُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَهَّلُ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى مَكَانٍ آخَرَ يَتَيَسَّرُ لَهُ . وَيَجِيءُ نَاسٌ بَعْدَ نَاسٍ فَكَانُوا تَارَةً يَقِلُّونَ وَتَارَةً يَكْثُرُونَ فَتَارَةً يَكُونُونَ عَشْرَةً أَوْ أَقَلَّ وَتَارَةً يَكُونُونَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَأَكْثَرَ وَتَارَةً يَكُونُونَ سِتِّينَ وَسَبْعِينَ . وَأَمَّا جُمْلَةُ مَنْ أَوَى إلَى الصُّفَّةِ مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فَقَدْ قِيلَ : كَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ قِيلَ : كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . وَقَدْ جَمَعَ أَسْمَاءَهُمْ " الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي " فِي " كِتَابِ تَارِيخِ أَهْلِ الصُّفَّةِ " جَمَعَ ذِكْرَ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " وَكَانَ مُعْتَنِيًا بِذِكْرِ أَخْبَارِ النُّسَّاكِ وَالصُّوفِيَّةِ ؛ وَالْآثَارِ الَّتِي يَسْتَنِدُونَ إلَيْهَا وَالْكَلِمَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ ؛ وَجَمَعَ أَخْبَارَ زُهَّادِ السَّلَفِ . وَأَخْبَارَ جَمِيعِ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ ؛ وَكَمْ بَلَغُوا . وَأَخْبَارَ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ . وَجَمَعَ أَيْضًا فِي الْأَبْوَابِ : مِثْلَ حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ . وَمِثْلَ أَبْوَابِ التَّصَوُّفِ الْجَارِيَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ . وَمِثْلَ كَلَامِهِمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ ؛ وَمَسْأَلَةَ السَّمَاعِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ . وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ . وَفِيمَا جَمَعَهُ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ . وَمَنَافِعُ جَلِيلَةٌ . وَهُوَ فِي نَفْسِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ . وَمَا يَرْوِيه مِنْ الْآثَارِ فِيهِ مِنْ الصَّحِيحِ شَيْءٌ كَثِيرٌ . وَيَرْوِي أَحْيَانًا أَخْبَارًا ضَعِيفَةً بَلْ مَوْضُوعَةً . يَعْلَمُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا كَذِبٌ . وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ فِي سَمَاعِهِ . وَكَانَ البيهقي إذَا رَوَى عَنْهُ يَقُولُ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ . وَمَا يُظَنُّ بِهِ وَبِأَمْثَالِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ لَكِنْ لِعَدَمِ الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِي الرِّوَايَةِ ؛ فَإِنَّ النُّسَّاكَ وَالْعُبَّادَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُتْقِنٌ فِي الْحَدِيثِ مِثْلُ ثَابِتٍ البناني والفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَمْثَالِهِمَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ غَلَطٌ . وَضَعُفَ مِثْلُ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَفَرْقَدٍ السبخي وَنَحْوِهِمَا . وَكَذَلِكَ مَا يَأْثَرُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ يَنْتَصِرُ لَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ . فِيهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ شَيْءٌ كَثِيرٌ . وَفِيهِ - أَحْيَانًا - مِنْ الْخَطَأِ أَشْيَاءُ ؛ وَبَعْضُ ذَلِكَ يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ سَائِغٍ . وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ قَطْعًا . مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْآثَارِ الْمَوْضُوعَةِ . وَذَكَرَ عَنْهُ بَعْضُ طَائِفَةٍ أَنْوَاعًا مِنْ الْإِشَارَاتِ الَّتِي بَعْضُهَا أَمْثَالٌ حَسَنَةٌ . وَاسْتِدْلَالَاتٌ مُنَاسِبَةٌ . وَبَعْضُهَا مِنْ نَوْعِ الْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ . فَاَلَّذِي جَمَعَهُ ( الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَنَحْوُهُ فِي " تَارِيخِ أَهْلِ الصُّفَّةِ " وَأَخْبَارِ زُهَّادِ السَّلَفِ وَطَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ وَيُجْتَنَبُ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ وَيُتَوَقَّفُ فِيمَا فِيهِ مِنْ الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةِ . وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَاتِ وَمِنْ أَهْلِ الْآرَاءِ وَالْأَذْوَاقِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالزُّهَّادِ والمتكلمين وَغَيْرِهِمْ . يُوجَدُ فِيمَا يَأْثُرُونَهُ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ وَفِيمَا يَذْكُرُونَهُ مُعْتَقِدِينَ لَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَأَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ . وَيُوجَدُ - أَحْيَانًا - عِنْدَهُمْ مِنْ جِنْسِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ أَوْ الضَّعِيفَةِ وَمِنْ جِنْسِ الْآرَاءِ وَالْأَذْوَاقِ الْفَاسِدَةِ(1/314)
أَوْ الْمُحْتَمَلَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ . وَمَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ عَامٍّ بِحَيْثُ يُثْنَى عَلَيْهِ وَيُحْمَدُ فِي جَمَاهِيرِ أَجْنَاسِ الْأُمَّةِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى وَغَلَطُهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَوَابِهِمْ وَعَامَّتُهُ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي يُعْذَرُونَ فِيهَا وَهُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ فَهُمْ بُعَدَاءُ عَنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَعَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُس .(1/315)
فَصْلٌ وَأَمَّا حَالُ " أَهْلِ الصُّفَّةِ " هُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي الصُّفَّةِ أَوْ كَانُوا يَكُونُونَ بِهَا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ فَكَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَيْثُ بَيَّنَ مُسْتَحِقِّي الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ وَمُسْتَحِقِّي الْفَيْءِ مِنْهُمْ . فَقَالَ : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } - إلَى قَوْلِهِ - { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا } . وَقَالَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَكَانَ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَكْتَسِبُونَ عِنْدَ إمْكَانِ الِاكْتِسَابِ الَّذِي لَا يَصُدُّهُمْ عَمَّا هُوَ أَوْجَبُ أَوْ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْكَسْبِ وَأَمَّا إذَا أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَنْ الْكَسْبِ فَكَانُوا يُقَدِّمُونَ مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ ضُيُوفَ الْإِسْلَامِ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْغَالِبَ كَانَ عَلَيْهِمْ الْحَاجَةُ لَا يَقُومُ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْكَسْبِ بِمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ . وَأَمَّا " الْمَسْأَلَةُ " فَكَانُوا فِيهَا كَمَا أَدَّبَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ حَرَّمَهَا عَلَى الْمُسْتَغْنِي عَنْهَا وَأَبَاحَ مِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ حَقَّهُ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ ذَا السُّلْطَانِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ أَوْ يَسْأَلَ إذَا كَانَ لَا بُدَّ سَائِلًا الصَّالِحِينَ الْمُوسِرِينَ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَنَهَى خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقًا حَتَّى كَانَ السَّوْطُ يَسْقُطُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِ : نَاوِلْنِي إيَّاهُ . وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ أَحَادِيثُ وَتَفْصِيلٌ . وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ لَا يَسَعُهُ هَذَا الْمَكَانُ . مِثْلُ { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ : مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيه جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كدوشا فِي وَجْهِهِ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { لِأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ . وَأَمَّا الْجَائِزُ مِنْهَا فَمِثْلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى وَالْخَضِرِ : أَنَّهُمَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ فَاسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا . وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ } وَمِثْلُ { قَوْلِهِ لقبيصة بْنِ مخارق الْهِلَالِيِّ : يَا قَبِيصَةُ لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِثَلَاثَةِ : رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ : فَسَأَلَ حَتَّى يَجِدَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ فَيَقُولُونَ : لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَسَأَلَ حَتَّى يَجِدَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ . وَرَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَسَأَلَ حَتَّى يَجِدَ حَمَالَتَهُ ثُمَّ يُمْسِكُ . وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّمَا هِيَ سُحْتٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا } . وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ - لَا أَهْلِ الصُّفَّةِ وَلَا غَيْرِهِمْ - مَنْ يَتَّخِذُ مَسْأَلَةَ النَّاسِ وَلَا الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْكُدْيَةِ وَالشِّحَاذَةِ لَا بِالزِّنْبِيلِ وَلَا غَيْرِهِ صِنَاعَةً وَحِرْفَةً بِحَيْثُ لَا(1/316)
يَبْتَغِي الرِّزْقَ إلَّا بِذَلِكَ كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ أَيْضًا أَهْلُ فُضُولٍ مِنْ الْأَمْوَالِ يَتْرُكُونَ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ وَلَا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يُعْطَوْنَ فِي النَّوَائِبِ . بَلْ هَذَانِ الصِّنْفَانِ الظَّالِمَانِ الْمُصِرَّانِ عَلَى الظُّلْمِ الظَّاهِرِ مِنْ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُتَعَدِّينَ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ كَانَا مَعْدُومَيْنِ فِي الصَّحَابَةِ الْمُثْنَى عَلَيْهِمْ .(1/317)
فَصْلٌ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَهْلِ الصُّفَّةِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ التَّابِعِينَ أَوْ تَابِعِي التَّابِعِينَ قَاتَلَ مَعَ الْكُفَّارِ أَوْ قَاتَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَصْحَابَهُ أَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ . فَهَذَا ضَالٌّ غَاوٍ ؛ بَلْ كَافِرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } بَلْ كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ وَغَيْرُهُمْ كَالْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَنَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى مَنْ قَتَلَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الصَّحَابَةِ إيمَانًا وَجِهَادًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصْرًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } - إلَى قَوْلِهِ - { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } وَقَالَ { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . وَقَدْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَكَانَ الْقِتَالُ مِنْهَا فِي تِسْعِ مَغَازٍ : مِثْلُ بَدْرٍ . وَأُحُدٍ . وَالْخَنْدَقِ . وَخَيْبَرَ . وحنين . وَانْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْهَزَمُوا ثُمَّ عَادُوا يَوْمَ حنين وَنَصَرَهُمْ اللَّهُ بِبَدْرِ وَهْم أَذِلَّةٌ وَحُصِرُوا فِي الْخَنْدَقِ حَتَّى دَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءَ وَفِي جَمِيعِ الْمُوَاطِنِ كَأَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْكُفَّارِ قَطُّ وَإِنَّمَا يَظُنُّ هَذَا وَيَقُولُهُ مِنْ الضُّلَّالِ وَالْمُنَافِقِينَ قِسْمَانِ : ( قِسْمٌ مُنَافِقُونَ . وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَكَانَ فِي بَعْضِهِمْ زَهَادَةٌ وَعِبَادَةٌ يَظُنُّونَ أَنَّ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا غَيْرَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ وَمُتَابَعَتَهُ وَأَنَّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ كَاسْتِغْنَاءِ الْخَضِرِ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى . وَفِي هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَضِّلُ شَيْخَهُ أَوْ عَالِمَهُ أَوْ مَلِكَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا تَفْضِيلًا مُطْلَقًا أَوْ فِي بَعْضِ صِفَاتِ الْكَمَالِ . وَهَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ كُفَّارٌ يَجِبُ قَتْلُهُمْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ : إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ . وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا بُعِثَ إلَى قَوْمِهِ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا كَانَ يَجِبُ عَلَى الْخَضِرِ اتِّبَاعُهُ ؛ بَلْ قَالَ لَهُ : إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ . وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى . { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } . وَ ( الْقِسْمُ الثَّانِي مَنْ يُشَاهِدُ رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الَّتِي عَمَّتْ جَمِيعَ الْبَرَايَا وَيَظُنُّ أَنَّ دِينَ اللَّهِ الْمُوَافِقَةَ لِلْقَدَرِ سَوَاءٌ كَانَ فِي ذَلِكَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ(1/318)
لَهُ أَوْ كَانَ فِيهِ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَاِتِّخَاذُ الشُّرَكَاءِ وَالشُّفَعَاءِ مِنْ دُونِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أَوْ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ وَالْكُفْرُ بِهِمْ وَهَؤُلَاءِ يُسَوُّونَ بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَبَيْنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَبَيْنَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّارِ وَيَجْعَلُونَ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وَيَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ بِمَنْزِلَةِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ كَأَهْلِ النَّارِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ كَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرُبَّمَا جَعَلُوا هَذَا مِنْ ( بَابِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَرُبَّمَا جَعَلُوهُ " التَّوْحِيدَ وَالْحَقِيقَةَ " بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَأَنَّهُ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " . وَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ : فَإِنْ أَصَابَهُمْ خَيْرٌ اطْمَأَنُّوا بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ انْقَلَبُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَغَالِبُهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَجْعَلُوا قِتَالَ الْكُفَّارِ قِتَالًا لِلَّهِ وَيَجْعَلُونَ أَعْيَانَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَالْأَوْثَانِ مِنْ نَفْسِ اللَّهِ وَذَاتِهِ وَيَقُولُونَ : مَا فِي الْوُجُودِ غَيْرُهُ وَلَا سِوَاهُ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْخَالِقُ وَالْمَصْنُوعُ هُوَ الصَّانِعُ وَقَدْ يَقُولُونَ : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وَيَقُولُونَ : { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } إلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ مَقَالَاتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَلْ وَمِنْ مَقَالَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مِنْ جِنْسِ مَقَالَةِ فِرْعَوْنَ وَالدَّجَّالِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ يُنْكِرُ الصَّانِعَ الْخَالِقَ الْبَارِئَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَوْ يَقُولُونَ : إنَّهُ هُوَ أَوْ إنَّهُ حَلَّ فِيهِ . وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ بِأَصْلَيْ الْإِسْلَامِ وَهُمَا : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .(1/319)
فَإِنَّ التَّوْحِيدَ الْوَاجِبَ أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا نَجْعَلَ لَهُ نِدًّا فِي إلَهِيَّتِهِ لَا شَرِيكًا وَلَا شَفِيعًا . فَأَمَّا " تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ " وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهَذَا قَدْ أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ؟ فَيَقُولُونَ : اللَّهُ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } فَالْكُفَّارُ الْمُشْرِكُونَ مُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَيْسَ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا مُسَاوِيًا لَهُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَطُّ لَا مِنْ الْمَجُوسِ الثنوية وَلَا مِنْ أَهْلِ التَّثْلِيثِ وَلَا مِنْ الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْمَلَائِكَةَ وَلَا مِنْ عُبَّادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَا مِنْ عُبَّادِ التَّمَاثِيلِ وَالْقُبُورِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ - وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا مُشْرِكِينَ مُتَنَوِّعِينَ فِي الشِّرْكِ - فَهُمْ مُقِرُّونَ بِالرَّبِّ الْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَمِيعِ أَفْعَالِهِ ؛ وَلَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا مُشْرِكُونَ بِهِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِأَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى يَتَّخِذُونَهَا شُفَعَاءَ أَوْ شُرَكَاءَ ؛ أَوْ فِي رُبُوبِيَّتِهِ بِأَنْ يَجْعَلُوا غَيْرَهُ رَبَّ بَعْضِ الْكَائِنَاتِ دُونَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ رَبُّ ذَلِكَ الرَّبِّ وَخَالِقُ ذَلِكَ الْخَلْقِ . وَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَأَنْزَلَ جَمِيعَ الْكُتُبِ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } وَقَدْ قَالَتْ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ مِثْلُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } فَكُلُّ الرُّسُلِ دَعَوْا إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِلَى طَاعَتِهِمْ . وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ هُوَ " الْأَصْلُ الثَّانِي " مِنْ أَصْلَيْ الْإِسْلَامِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مُتَابَعَتُهُ وَأَنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَالدِّينَ مَا شَرَعَهُ فَهُوَ كَافِرٌ : مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يُجَوِّزُ الْخُرُوجَ عَنْ دِينِهِ وَشِرْعَتِهِ وَطَاعَتِهِ ؛ إمَّا عُمُومًا وَإِمَّا خُصُوصًا . وَيُجَوِّزُ إعَانَةَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ عَلَى إفْسَادِ دِينِهِ وَشِرْعَتِهِ . وَيَحْتَجُّونَ بِمَا يَفْتَرُونَهُ : أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوهُ . وَأَنَّهُمْ قَالُوا : نَحْنُ مَعَ اللَّهِ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ كُنَّا مَعَهُ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْقَدَرَ وَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " دُونَ الْأَمْرِ وَ " الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ " وَيَحْتَجُّ بِمِثْلِ هَذَا مَنْ يَنْصُرُ الْكُفَّارَ وَالْفُجَّارَ وَيَخْفِرُهُمْ بِقَلْبِهِ وَهِمَّتِهِ وَتَوَجُّهِهِ مِنْ ذَوِي(1/320)
الْفَقْرِ وَيَعْتَقِدُونَ مَعَ هَذَا أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ سَائِغٌ لَهُمْ وَكُلُّ هَذَا ضَلَالٌ وَبَاطِلٌ . وَإِنْ كَانَ لِأَصْحَابِهِ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ فَهُمْ فِي الْعُبَّادِ ؛ مِثْلُ أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ التَّتَارِ وَنَحْوِهِمْ فِي الْأَجْنَادِ فَإِنَّ { الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ } وَ { الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ وَالْكَافِرِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ . وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ مِنْ الْإِسْلَامِ مَعَ عِبَادَتِهِمْ الْعَظِيمَةِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ . وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ . يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ } وَهَؤُلَاءِ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا خَرَجُوا عَنْ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَفَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُ هَذَا مَا يَرْوِيه بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ : أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ سَمِعُوا مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ ؛ وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ لَا يُعْلِمَ بِهِ أَحَدًا . فَلَمَّا أَصْبَحَ وَجَدَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا أَمَرْتُك أَنْ لَا تُعْلِمَ بِهِ أَحَدًا ؛ لَكِنْ أَنَا الَّذِي أَعْلَمْتهمْ بِهِ . إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَكَاذِيبِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ . وَهِيَ كَذِبٌ وَاضِحٌ ؛ فَإِنَّ " أَهْلَ الصُّفَّةِ " لَمْ يَكُونُوا إلَّا بِالْمَدِينَةِ ؛ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ أَهْلُ صُفَّةٍ ؛ وَالْمِعْرَاجُ إنَّمَا كَانَ مِنْ مَكَّةَ ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ : رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثُ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا . وَهَذَا مِنْ الْإِفْكِ الْمُخْتَلَقِ . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذَا يَجْعَلُونَ عُمَرَ الَّذِي سَمِعَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدِيقِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ الصِّدِّيقِ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ الْكَلَامَ بَلْ كَانَ كَالزِّنْجِيِّ . وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ هُمْ سَمِعُوهُ وَعَرَفُوهُ ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمْ يُفَسِّرُهُ بِمَا يَدَّعِيه مِنْ الضَّلَالَاتِ الكفرية الَّتِي يُزْعَمُ أَنَّهَا " عِلْمُ الْأَسْرَارِ وَالْحَقَائِقِ " [ وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ ] إمَّا الِاتِّحَادَ وَإِمَّا تَعْطِيلَ الشَّرَائِعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . مِثْلُ مَا تَدَّعِي النصيرية . والإسماعيلية ؛ وَالْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ الثنوية وَالْحَاكِمِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الضَّلَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ . وَمَا يَنْسُبُونَهُ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ؛ أَوْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ كَالْبِطَاقَةِ وَالْهَفْتِ وَالْجَدْوَلِ وَالْجَفْرِ وَمَلْحَمَةَ بْنِ عنضب وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَكَاذِيبِ الْمُفْتَرَاةِ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ . فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ اتِّصَالُ النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ بِهِ اتِّصَالُ الْمُوَالَاةِ وَالْمُتَابَعَةِ صَارَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُخَالِفُ دِينَهُ وَشَرِيعَتَهُ وَسُنَّتَهُ يُمَوِّهُ بَاطِلَهُ وَيُزَخْرِفُهُ بِمَا يَفْتَرِيه عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَهْلِ مُوَالَاتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَغْلُو إمَّا فِي قَوْمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ مِنْ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَتَّخِذَهُمْ آلِهَةً أَوْ يُقَدِّمَ مَا يُضَافُ إلَيْهِمْ عَلَى شَرِيعَةِ(1/321)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَحَتَّى يُخَالِفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الطَّيِّبُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمِنْ أَهْلِ الْمُوَالَاةِ لَهُ وَالْمُتَابَعَةِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَهْلِ الضَّلَالِ .
==================
رضى الله عن المهاجرين والأنصار
قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* (100) سورة التوبة
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
فيه سبع مسائل :
الأُولى لما ذكر جل وعز أصناف الأعراب ذكر المهاجرين والأنصار ، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة وأن منهم التابعين ، وأثنى عليهم . وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم . ونحن نذكر من ذلك طرفاً نبيّن الغرض فيه إن شاء الله تعالى . وروى عمر بن الخطاب أنه قرأ «والأنصارُ» رفعا عطفاً على السابقين . قال الأخفش : الخفض في الأنصار الوجه؛ لأن السابقين منهما . والأنصار اسم إسلامي . قيل لأنس بن مالك : أرأيت قول الناس لكم : الأنصار ، اسم سماكم الله به أم كنتم تُدْعَوْنَ به في الجاهلية؟ قال : بل اسم سمانا الله به في القرآن؛ ذكره أبو عمر في الإستذكار .
الثانية نص القرآن على تفضيل السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلوا إلى القبلتين؛ في قول سعيد بن المسيّب وطائفة . وفي قول أصحاب الشافعيّ هم الذين شهدوا بيعة الرضوان ، وهي بيعة الحُدَيْبِيَة؛ وقاله الشعبيّ . وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار : هم أهل بدر . واتفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأوّلين من غير خلاف بينهم . وأما أفضلهم وهي :
الثالثة فقال أبو منصور البغداديّ التميمي : أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة ، ثم البدريون ثم أصحاب أُحُد ثم أهل بيعة الرضوان بالحُدَيْبِيَة .
الرابعة وأما أوّلهم إسلاماً فروى مجالد عن الشعبي قال : سألت ابن عباس مَن أوّل الناس إسلاماً؟ قال أبو بكر ، أو ما سمعت قول حسان :
إذا تذكّرتَ شَجْواً من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلاَ
خيرَ البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبيّ وأوفاها بما حَملاَ
الثانِيَ التالِيَ المحمودَ مشهدُه ... وأوّلَ الناس منهم صدّق الرسلاَ
وذكر أبو الفرج الجَوْزِي عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون أنه قال : أدركت أبي وشَيخنا محمد بن المنكدر وربيعةَ بن أبي عبد الرحمن وصالح بن كَيْسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الأخْنَسِيّ وهم لا يشكّون أن أوّل القوم إسلاماً أبو بكر؛ وهو قول ابن عباس وحسّان وأسماء بنت أبي بكر ، وبه قال إبراهيم النَّخَعِيّ . وقيل : أوّل من أسلم عليّ؛ رُوي ذلك عن زيد بن أرْقم وأبي ذرّ والمِقْداد وغيرهم . قال الحاكم أبو عبد الله : لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أن عليّاً أوّلهم إسلاماً . وقيل : أوّل من أسلم زيد بن حارثة . وذكر مَعْمَر نحو ذلك عن الزُّهْرِيّ . وهو قول سليمان بن يَسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس . وقيل : أول من أسلم خديجة أُم المؤمنين؛ روي ذلك من وجوه عن الزهري ، وهو قول قتادة ومحمد بن إسحاق بن يَسار وجماعة ، وروي أيضاً عن ابن عباس .
وادعى الثَّعلبيّ المفسّر اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة ، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها . وكان إسحاق بن إبراهيم بن رَاهْوَيْه الحنظَلِيّ يجمع بين هذه الأخبار ، فكان يقول : أوّل من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان عليّ ، ومن الموالي زيد بن حارثة ، ومن العبيد بلال . والله أعلم . وذكر محمد بن سعد قال : أخبرني مصعب بن ثابت قال حدثني أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن ابن نوفل قال : كان إسلام الزبير بعد أبي بكر وكان رابعاً أو خامساً . قال الليث بن سعد وحدّثني أبو الأسود قال : أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين . وروي أن عليّاً أسلم ابن سبع سنين . وقيل : ابن عشر .
الخامسة والمعروف عن طريقة أهل الحديث أن كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أصحابه . قال البخاري في صحيحه : من صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه . وروي عن سعيد بن المسيّب أنه كان لا يعد الصحابيّ إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين ، وغزا معه غزوة أو غزوتين . وهذا القول إن صح عن سعيد بن المسيّب يوجب ألا يعد من الصحابة جَرِير بن عبد الله البَجَلِيّ أو من شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافاً في عدّه من الصحابة .
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 2520)(1/322)
السادسة لا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصدّيق . وقال ابن العربي : السبق يكون بثلاثة أشياء : الصفة وهو الإيمان ، والزمان ، والمكان . وأفضل هذه الوجوه سبق الصفات؛ والدلِيل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : « نحن الآخرون الأوّلون بَيْد أنهم أُوتوا الكتاب مِن قَبْلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فاليهود غداً والنصارى بعد غد » فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن من سبقنا من الأُمم بالزمان سبقناهم بالإيمان والامتثال لأمر الله تعالى والانقياد إليه ، والإستسلام لأمره والرضا بتكليفه والاحتمال لوظائفه ، لا نعترض عليه ولا نختار معه ، ولا نبدّل بالرأي شريعته كما فعل أهل الكتاب؛ وذلك بتوفيق الله لما قضاه ، وبتيسيره لما يرضاه؛ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
السابعة قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد : تضمّنت هذه الآية تفضيل السابقين إلى كل منقبة من مناقب الشريعة ، في علم أو دين أو شجاعة أو غير ذلك ، من العطاء في المال والرتبة في الإكرام . وفي هذه المسألة خلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما . واختلف العلماء في تفضيل السابقين بالعطاء على غيرهم؛ فَرُوي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان لا يفضل بين الناس في العطاء بعضَهم على بعض بحسب السابقة .
وكان عمر يقول له : أتجعل ذا السابقة كمن لا سابقة له؟ فقال أبو بكر : إنما عملوا لله وأجرهم عليه . وكان عمر يفضل في خلافته؛ ثم قال عند وفاته : لئن عشت إلى غد لألحقنّ أسفل الناس بأعلاهم؛ فمات من ليلته . والخلافة إلى يومنا هذا على هذا الخلاف .
قوله تعالى : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } فيه مسألتان :
الأُولى قرأ عمر «والأنصارُ» رفعا . «الذين» بإسقاط الواو نعتا للأنصار؛ فراجَعه زيد بن ثابت ، فسأل عُمر أُبَيّ بن كعب فصدّق زيداً؛ فرجع إليه عمر وقال : ما كنا نرى إلا أنا رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد . فقال أُبَيّ : إني أجد مصداق ذلك في كتاب الله في أول سورة الجمعة : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } [ الجمعة : 3 ] وفي سورة الحشر : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } [ الحشر : 10 ] . وفي سورة الأنفال بقوله : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ } [ الأنفال : 75 ] . فثبتت القراءة بالواو . وبيّن تعالى بقوله : { بِإِحْسَانٍ } ما يتبعون فيه من أفعالهم وأقوالهم ، لا فيما صدر عنهم من الهفوات والزلات؛ إذ لم يكونوا معصومين رضي الله عنهم .
الثانية واختلف العلماء في التابعين ومراتبهم؛ فقال الخطيب الحافظ : التابِعيّ من صحب الصحابي؛ ويقال للواحد منهم : تابع وتابعيّ . وكلام الحاكم أبي عبد الله وغيره مُشْعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية . وقد قيل : إن اسم التابعين ينطلق على من أسلم بعد الحُدَيْبِيَة؛ كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومن داناهم من مُسْلمة الفتح؛ لما ثبت أن عبد الرحمن بن عوف شكا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لخالد : " دَعُوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه " ومن العجب عَدّ الحاكم أبو عبد الله النعمانَ وسويداً ابني مُقَرِّن المزنيّ في التابعين عند ما ذكر الإخوة من التابعين ، وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة ، وقد شهدا الخندق كما تقدم . والله أعلم . وأكبر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة ، وهم سعيد بن المسيّب ، والقاسم بن محمد؛ وعروة بن الزبير ، وخارجة بن زيد ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود ، وسليمان بن يسار . وقد نظمهم بعض الأجلة في بيت واحد فقال :
فخذهم عبيدُ اللَّه عروةُ قاسمٌ ... سعيدٌ أبو بكر سليمانُ خارجهْ(1/323)
وقال أحمد بن حنبل : أفضل التابعين سعيد بن المسيّب؛ فقيل له : فعلقمة والأسود . فقال : سعيد بن المسيّب وعلقمة والأسود . وعنه أيضاً أنه قال : أفضل التابعين قيس وأبو عثمان وعلقمة ومسروق؛ هؤلاء كانوا فاضلين ومن عِلْية التابعين . وقال أيضاً : كان عطاء مفتي مكة والحسن مفتي البصرة ، فهذان أكثر الناسُ عنهم؛ وأَبْهَمَ . وروي عن أبي بكر بن أبي داود قال : سيدتا التابعين من النساء حفصة بنت سِيرين وعمرة بنت عبد الرحمن ، وثالثتهما وليست كهما أم الدَّرْداء . وروي عن الحاكم أبي عبد الله قال : طبقة تعدّ في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة؛ منهم إبراهيم بن سويد النَّخَعِيّ وليس بإبراهيم بن يزيد النخعيّ الفقيه . وبكير بن أبي السَّميط ، وبكير بن عبد الله الأشج . وذكر غيرهم قال : وطبقة عدادهم عند الناس في أتباع التابعين ، وقد لقوا الصحابة منهم أبو الزناد عبد الله بن ذَكْوان ، لقِي عبد الله بن عمر وأنساً . وهشامُ بن عروة ، وقد أُدخِل على عبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله وموسى بن عقبة ، وقد أدرك أنس بن مالك . وأُم خالد بنت خالد بن سعيد . وفي التابعين طبقة تسمى بالمخضرمين ، وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صحبة لهم . واحدهم مخضرم بفتح الراء كأنه خضرِم ، أي قطع عن نظرائه الذين أدركوا الصحبة وغيرها . وذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفساً ، منهم أبو عمرو الشيبانيّ ، وسُويد بن غَفَلة الكندِيّ ، وعمرو بن ميمون الأوْدِيّ ، وأبو عثمان النهْدِيّ وعبد خير بن يزيد الخيراني بفتح الخاء ، بطن من هَمْدان ، وعبد الرحمن بن مُلٍّ . وأبو الحلاَل العتكي ربيعة بن زُرَارة . وممن لم يذكره مسلم؛ منهم أبو مسلم الخولانيّ عبد الله بن ثُوَبَ ، والأحنف بن قيس . فهذه نبذة من معرفة الصحابة والتابعين الذين نطق بفضلهم القرآن الكريم ، رضوان الله عليهم أجمعين . وكفانا نحن قوله جل وعز : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] على ما تقدّم . وقوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] الآية . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وددت أنا لو رأينا إخواننا . . . . » الحديث . فجعلنا إخوانه؛ إن اتقينا الله واقتفينا اثاره حشرنا الله في زمرته ولا حاد بنا عن طريقته وملته بحق محمد وآله .
-------------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله (1):
يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعدَّ لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم.
قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية.
وقال أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة: هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن كعب القرظي: مرَّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ: { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ } فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ فقال: أبيُّ بن كعب. فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه. فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم. قال: وسمعتَها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبيُّ: تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الجمعة:3] وفي سورة الحشر: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ } [الحشر:10] وفي الأنفال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } [الأنفال:75] إلى آخر الآية، رواه ابن جرير (1)
قال: وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع "الأنصار" عطفا على { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ }
فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: فيا ويل من أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض أو سبَّ بعضهم، ولا سيما سيدُ الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة، رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويُبغضونهم ويَسُبُّونهم، عياذًا بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبُّون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.
__________
(1) تفسير الطبري (14/438).
------------- -
وقال الرازي(2) :
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 203)
(2) - تفسير الرازي - (ج 8 / ص 127)(1/324)
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول ، وما أعد لهم من الثواب ، بين أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها ، وهي منازل السابقين الأولين . وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم؟ وذكروا وجوهاً : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدراً وعن الشعبي هم الذين بايعوا بيعة الرضوان . والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة ، وفي النصرة ، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيماذا فبقي اللفظ مجملاً إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً ، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصاراً وهو الهجرة والنصرة ، فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ ، وأيضاً فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ، ومخالف للطبع ، فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره من هذه الطاعة ، وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره ، وكذلك السبق في النصرة ، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة ، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة ، فازوا بمنصب عظيم ، فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد والسابقون الأولون في الهجرة .
إذا ثبت هذا فنقول : إن أسبق الناس إلى الهجرة هو أبو بكر ، لأنه كان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع ، فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره ، وعلي بن أبي طالب ، وإن كان من المهاجرين الأولين إلا أنه إنما هاجر بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولا شك أنه إنما بقي بمكة لمهمات الرسول إلا أن السبق إلى الهجرة إنما حصل لأبي بكر ، فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر ، فإذا ثبت هذا صار أبو بكر محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ، ورضي هو عن الله ، وذلك في أعلى الدرجات من الفضل .
وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله ، إذ لو كانت إمامته باطلة لاستحق اللعن والمقت ، وذلك ينافي حصول مثل هذا التعظيم ، فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وعلى صحة إمامتهما .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من سبق إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار ، لأن هؤلاء آمنوا ، وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف . فقوي الإسلام بسببهم ، وكثر عدد المسلمين بسبب إسلامهم ، وقوي قلب الرسول بسبب دخولهم في الإسلام واقتدى بهم غيرهم ، فكان حالهم فيه كحال من سن سنة حسنة فيكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؟ ثم نقول : هب أن أبا بكر دخل تحت هذه الآية بحكم كونه أول المهاجرين ، لكن لم قلتم أنه بقي على تلك الحالة؟ ولم لا يجوز أن يقال : إنه تغير عن تلك الحالة ، وزالت عنه تلك الفضيلة بسبب إقدامه على تلك الإمامة؟
والجواب عن الأول : أن حمل السابقين على السابقين في المدة تحكم لا دلالة عليه ، لأن لفظ السابق مطلق ، فلم يكن حمله على السبق في المدة أولى من حمله على السبق في سائر الأمور ، ونحن بينا أن حمله على السبق في الهجرة أولى . قوله : المراد منه السبق في الإسلام .(1/325)
قلنا : السبق في الهجرة يتضمن السبق في الإسلام ، والسبق في الإسلام لا يتضمن السبق في الهجرة ، فكان حمل اللفظ على السبق في الهجرة أولى . وأيضاً فهب أنا نحمل اللفظ على السبق في الإيمان ، إلا أنا نقول : قوله : { والسابقون الأولون } صيغة جمع فلا بد من حمله على جماعة ، فوجب أن يدخل فيه علي رضي الله عنه وغيره ، وهب أن الناس اختلفوا في أن إيمان أبي بكر أسبق أم إيمان علي؟ لكنهم اتفقوا على أن أبا بكر من السابقين الأولين ، واتفق أهل الحديث على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي ، ومن الموالي زيد ، فعلى هذا التقدير : يكون أبو بكر من السابقين الأولين ، وأيضاً قد بينا أن السبق في الإيمان إنما أوجب الفضل العظيم من حيث إنه يتقوى به قلب الرسول عليه السلام ، ويصير هو قدوة لغيره ، وهذا المعنى في حق أبي بكر أكمل ، وذلك لأنه حين أسلم كان رجلاً كبير السن مشهوراً فيما بين الناس ، واقتدى به جماعة من أكابر الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه نقل أنه لما أسلم ذهب إلى طلحة والزبير وعثمان بن عفان ، وعرض الإسلام عليهم ، ثم جاء بهم بعد أيام إلى الرسول عليه السلام ، وأسلموا على يد الرسول عليه السلام ، فظهر أنه دخل بسبب دخوله في الإسلام قوة في الإسلام ، وصار هذا قدوة لغيره ، وهذه المعاني ما حصلت في علي رضي الله عنه ، لأنه في ذلك الوقت كان صغير السن ، وكان جارياً مجرى صبي في داخل البيت ، فما كان يحصل بإسلامه في ذلك الوقت مزيد قوة للإسلام ، وما صار قدوة في ذلك الوقت لغيره ، فثبت أن الرأس والرئيس في قوله : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين } ليس إلا أبا بكر ، أما قوله لم قلتم إنه بقي موصوفاً بهذه الصفة بعد إقدامه على طلب الإمامة؟
قلنا : قوله تعالى : { رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } يتناول جميع الأحوال والأوقات بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه . فيقال رضي الله عنهم إلا في وقت طلب الإمامة ، ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ . أو نقول : إنا بينا أنه تعالى وصفهم بكونهم سابقين مهاجرين ، وذلك يقتضي أن المراد كونهم سابقين في الهجرة ، ثم لما وصفهم بهذا الوصف أثبت لهم ما يوجب التعظيم ، وهو قوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } والسبق في الهجرة وصف مناسب للتعظيم ، وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب ، يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ، فدل هذا على أن التعظيم الحاصل من قوله : { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } معلل بكونهم سابقين في الهجرة ، والعلة ما دامت موجودة ، وجب ترتب المعلول عليها ، وكونهم سابقين في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم ، فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلاً في جميع مدة وجودهم ، أو نقول : إنه تعالى قال : { وَأَعَدَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار } وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم ، وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات ، وليس لأحد أن يقول : المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان ، لأنا نقول : هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر . وأيضاً فعلى هذا التقدير : لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح ، وبين سائر الفرق فرق ، لأنه تعالى : { أَعَدَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار } ولفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب ، لو صاروا مؤمنين ، ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل ، وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء ، فسقط هذا السؤال . فظهر أن هذه الآية دالة على فضل أبي بكر ، وعلى صحة القول بإمامته قطعاً .(1/326)
المسألة الثانية : اختلفوا في أن المدح الحاصل في هذه الآية هل يتناول جميع الصحابة أم يتناول بعضهم؟ فقال قوم : إنه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة ، وعلى هذا فهو لا يتناول إلا قدماء الصحابة ، لأن كلمة { مِنْ } تفيد التبعيض ، ومنهم من قال : بل يتناول جميع الصحابة ، لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين ، وكلمة { مِنْ } في قوله : { مِنَ المهاجرين والأنصار } ليست للتبعيض ، بل للتبيين ، أي والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصاراً كما في قوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] وكثير من الناس ذهبوا إلى هذا القول ، روي عن حميد بن زياد أنه قال : قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب الرسول عليه السلام فيما كان بينهم ، وأردت الفتن ، فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ، قلت له : وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال : سبحان الله! ألا تقرأ قوله تعالى : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار } إلى آخر الآية؟ فأوجب الله لجميع أصحاب النبي عليه السلام الجنة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطاً شرطه عليهم . قلت : وما ذاك الشرط؟ قال : اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل ، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك ، أو يقال : المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول ، وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا ، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه . قال حميد بن زياد : فكأني ما قرأت هذه الآية قط! .
المسألة الثالثة : روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرأ { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } فكان يعطف قوله : { الأنصار } على قوله : { والسابقون } وكان يحذف الواو من قوله : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } ويجعله وصفاً للأنصار ، وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقرأ هذه الآية على هذا الوجه . قال أبي : والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه ، وإنك لتبيع القرظ يومئذ ببقيع المدينة ، فقال عمر رضي الله عنه : صدقت ، شهدتم وغبنا ، وفرغتم وشغلنا ، ولئن شئت لتقولن نحن أوينا ونصرنا . وروي أنه جرت هذه المناظرة بين عمر وبين زيد بن ثابت واستشهد زيد بأبي بن كعب ، والتفاوت أن على قراءة عمر ، يكون التعظيم الحاصل من قوله : { والسابقون الأولون } مختصاً بالمهاجرين ولا يشاركهم الأنصار فيها فوجب مزيد التعظيم للمهاجرين ، والله أعلم . وروي أن أبيا احتج على صحة القراءة المشهورة بآخر الأنفال وهو قوله : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ } [ الأنفال : 75 ] بعد تقدم ذكر المهاجرين والأنصار في الآية الأولى ، وبأواسط سورة الحشر وهو قوله : { والذين جاؤوا مّن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] وبأول سورة الجمعة وهو قوله : { وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } [ الجمعة : 3 ] .
المسألة الرابعة : قوله : { والسابقون } مرتفع بالابتداء وخبره قوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ } ومعناه : رضي الله عنهم لأعمالهم وكثرة طاعاتهم ، ورضوا عنه لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدين والدنيا ، وفي مصاحف أهل مكة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } وهي قراءة ابن كثير ، وفي سائر المصاحف { تَحْتِهَا } من غير كلمة { مِنْ } .
المسألة الخامسة : قوله : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم : يريد ، يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم ، ويذكرون محاسنهم ، وقال في رواية أخرى والذين اتبعوهم بإحسان على دينهم إلى يوم القيامة ، واعلم أن الآية دلت على أن من اتبعهم إنما يستحقون الرضوان والثواب ، بشرط كونهم متبعين لهم بإحسان ، وفسرنا هذا الإحسان بإحسان القول فيهم ، والحكم المشروط بشرط ، ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط ، فوجب أن من لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقاً للرضوان من الله تعالى ، وأن لا يكون من أهل الثواب لهذا السبب ، فإن أهل الدين يبالغون في تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يطلقون ألسنتهم في اغتيابهم وذكرهم بما لا ينبغي .
------------
وقال الشنقيطي (1):
قوله تعالى : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } الآية .
__________
(1) - أضواء البيان - (ج 2 / ص 240)(1/327)
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان ، أنهم داخلون معهم في رضوان الله تعالى ، والوعد بالخلود في الجنات والفوز العظيم ، وبين في مواضع أخر . أن الذين اتبعوا السابقين بإحسان يشاركونهم في الخير كقوله جل وعلا : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِم } [ الجمعة : 3 ] الآية ، وقوله : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا } [ الحشر : 10 ] الآية ، وقوله : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُم } [ الأنفال : 75 ] .
ولا يخفى أنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة ، أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم ، أنه ضال مخالف لله جل وعلا ، حيث أبغض من رضي الله عنه . ولا شك أن بغض من رضي الله عنه مضادة له جل وعلا ، وتمرد وطغيان .
---------------
وقال السعدي (1):
السابقون هم الذين سبقوا هذة الأمة وبدروها إلى الإيمان والهجرة، والجهاد، وإقامة دين اللّه.
{ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } { الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا، وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون }.
{ و } من { الأنْصَارِ } { الذين تبوأوا الدار والإيمان، [من قبلهم] يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }.
{ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } بالاعتقادات والأقوال والأعمال، فهؤلاء، هم الذين سلموا من الذم، وحصل لهم نهاية المدح، وأفضل الكرامات من اللّه.
{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة، { وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الجارية التي تساق إلى سَقْيِ الجنان، والحدائق الزاهية الزاهرة، والرياض الناضرة.
{ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } لا يبغون عنها حولا ولا يطلبون منها بدلا لأنهم مهما تمنوه، أدركوه، ومهما أرادوه، وجدوه.
{ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الذي حصل لهم فيه، كل محبوب للنفوس، ولذة للأرواح، ونعيم للقلوب، وشهوة للأبدان، واندفع عنهم كل محذور.
---------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (2):
(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان , رضي اللّه عنهم ورضوا عنه , وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً , ذلك الفوز العظيم) . .
وهذه الطبقة من المسلمين - بمجموعاتها الثلاث: (السابقون الأولون من المهاجرين . والأنصار . والذين اتبعوهم بإحسان) - كانت تؤلف القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم في الجزيرة بعد الفتح - كما أسلفنا في الجزء العاشر في تقديم السورة وكانت هي التي تمسك هذا المجتمع كله في كل شدة , وفي كل رخاء كذلك:فابتلاء الرخاء كثيراً ما يكون أصعب وأخطر من ابتلاء الشدة !
والسابقون من المهاجرين نميل نحن إلى اعتبار أنهم هم الذين هاجروا قبل بدر , وكذلك السابقون منالأنصار . أما الذين اتبعوهم بإحسان - الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعاً إبان غزوة تبوك - فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك , وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني - وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر , وهي أشد الفترات طبعاً .
وقد وردت أقوال متعددة في اعتبار من هم السابقون من المهاجرين والأنصار . فقيل:هم الذين هاجروا ونصروا قبل بدر وقيل:هم الذين صلوا للقبلتين . وقيل:هم أهل بدر . وقيل:هم الذين هاجروا ونصروا قبل الحديبية . وقيل:هم أهل بيعة الرضوان . . . ونحن نرى من تتبعنا لمراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية , أن الاعتبار الذي اعتبرناه أرجح . . واللّه أعلم . .
ولعله يحسن أن نعيد هنا فقرات مما سبق أن فصلناه في الجزء العاشر عن مراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية , يكون حاضراً بين يدي قارئ هذا الجزء , خيراً من إحالته إلى الجزء السابق ; لتكون هذه الحقيقة قريبة منه يتتبع على ضوئها ذلك التصنيف النهائي للمجتمع في الآيات التي نواجهها هنا:
"لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة , فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة:"أن لا إله إلا اللّه , وأن محمداً رسول اللّه" وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان اللّه ; ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى اللّه . ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة للّه ولرسول اللّه ; ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 349)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 224)(1/328)
"لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة . . وعلى التجمع الجديد , وعلى القيادة الجديدة ; وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة . .
"لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه . وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية اللّه للعالمين , في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد ; وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد , يتبع في تحركه قيادة جديدة , ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض . .
"وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها , إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان . . ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه , والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد , والدينونة لقيادته الجديدة , إلا كل من نذر نفسه للّه ; وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب , والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان .
"بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي ; فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى ; وكان هذا النوع قليلاً ; فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل ; فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام , وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب ; إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين .
"وهكذا اختار اللّه السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة , ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة ; ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار ,الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون , إلا أن بيعتهم لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - [ بيعة العقبة ] قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين . . قال ابن كثير في التفسير:"وقال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - [ يعني ليلة العقبة ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ; وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قالوا:فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . قالوا:ربح البيع , ولا نقيل ولا نستقيل" .
"ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول اللّه هذه البيعة ; ولا يرتقبون من ورائها شيئاً إلا الجنة ; ويوثقون هذا البيع , فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين ; بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم , وأن العرب كلها سترميهم ; وأنهم لن يعيشوا في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة , وبين ظهرانيهم في المدينة " . .
. . . "فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة ; وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئاً في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة . . ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها . . فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بُنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة . .
"ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء . . لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم . . حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء:عبد اللّه بن أبي بن سلول:هذا أمر قد توجه ! وأظهر الإسلام نفاقا . ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليداً - ولو لم يكونوا منافقين - ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه . . مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني , ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية . "
وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد , بقيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة ; ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد .
"وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة المستمرة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم ; وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة ; ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة .(1/329)
"ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف والنفاق والتردد , والشح بالنفس والمال , والتهيب من مواجهة المخاطر . . وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية . . والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة .
. . . "إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار ; وما تحدثه من تماسك وصلابه في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً , والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها .
"وشيئاً فشيئاً كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة , ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين , ومن المترددين كذلك والمتهيبين ومن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين . حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة , وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد . .
"نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها ; فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها . .
تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار . وتميز أهل بدر . وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية . ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا . وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية , والأوضاع العملية في المجتمع المسلم , تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة , وتنص عليها . . . " .
. . . "ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية , لم يكن مانعاً أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح ; وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف , والكثير من ظواهر الضعف والتردد , والشح بالنفس والمال , وعدم الوضوح العقيدي , والنفاق . . . من ذلك المجتمع . بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية .
"إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري , وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف - وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة - قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون ; وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر ; وفيهم المؤلفة قلوبهم دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية . . . " .
ومن هذه المقتطفات يتضح لنا مركز السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بعد ذلك(بإحسان) يصل بهم إلى مستواهم الإيماني وبلائهم الحركي . وندرك حقيقة دورهم الباقي في بناء الإسلام وترجمته إلى واقع عملي يبقي مؤثراً في التاريخ البشري كله , كما نستشرف حقيقة قول اللّه سبحانه فيهم:
(رضي اللّه عنهم ورضوا عنه) . .
ورضي اللّه عنهم هو الرضى الذي تتبعه المثوبة , وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة ; ورضاهم عن اللّه هو الاطمئنان إليه سبحانه , والثقة بقدره , وحسن الظن بقضائه , والشكر على نعمائه , والصبر على ابتلائه . . ولكن التعبير بالرضى هنا وهناك يشيع جو الرضى الشامل الغامر , المتبادل الوافر , الوارد الصادر , بين اللّه سبحانه وهذه الصفوة المختارة من عباده ; ويرفع من شأن هذه الصفوة - من البشر - حتى ليبادلون ربهم الرضى ; وهو ربهم الأعلى , وهم عبيده المخلوقون . . وهو حال وشأن وجو لا تملك الألفاظ البشرية أنتعبر عنه ; ولكن يُتنسم ويُستشرف ويستجلى من خلال النص القرآني بالروح المتطلع والقلب المتفتح والحس الموصول !
ذلك حالهم الدائم مع ربهم: (رضي اللّه عنهم ورضوا عنه) . وهناك تنتظرهم علامة هذا الرضى:
(وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً) . .
(ذلك الفوز العظيم) . . وأي فوز بعد هذا وذلك عظيم ? ? ?
--------------------
وقال الطاهر بن عاشور (1):
عقب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينها في ذلك بذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الإيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذي متطلب الصلاح حذوهم، ولئلا يخلو تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحواليها وبواديها، عن ذكر أفضل الأقسام تنويها به. وبهذا تم استقراء الفرق وأحوالها.
فالجملة عطف على جملة: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة:98].
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 10 / ص 191)(1/330)
والمقصود بالسبق السبق في الإيمان، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخالصين، والكفار الصرحاء، والكفار المنافقين؛ فتعين أن يراد الذين سبقوا غيرهم من صنفهم، فالسابقون من المهاجرين هم الذين سبقوا بالإيمان قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والسابقون من الأنصار هم الذين سبقوا قومهم بالإيمان، وهم أهل العقبتين الأولى والثانية.
وقد اختلف المفسرون في تحديد المدة التي عندها ينتهي وصف السابقين من المهاجرين والأنصار معا، فقال أبو موسى وابن المسيب وابن سيرين وقتادة: من صلى القبلتين. وقال عطاء: من شهد بدرا. وقال الشعبي: من أدركوا بيعة الرضوان. وهذه الأقوال الثلاثة تعتبر الواو في قوله: {وَالأَنصَارِ} للجمع في وصف السبق لأنه متحد بالنسبة إلى الفريقين، وهذا يخص المهاجرين. وفي "أحكام ابن العربي" ما يشبه أن رأيه أن السابقين أصحاب العقبتين، وذلك يخص الأنصار. وعن الجبائي: أن السابقين من أسلموا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولعله اختيار منه إذ لم يسنده إلى قائل.
واختار ابن عطية أن السابقين هم من هاجر قبل أن تنقطع الهجرة، أي بفتح مكة، وهذا يقصر وصف السبق على المهاجرين. ولا يلاقي قراءة الجمهور بفخض {وَالأَنصَارِ} .و {مِنْ} للتبعيض لا للبيان.
والأنصار: جمع نصير، وهو الناصر. والأنصار بهذا الجمع اسم غلب على الأوس والخزرج الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد وفاته وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان. دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فيطلق على أولاد المنافقين منهم الذين نشأوا في الإسلام كولد ابن صياد.
وقرأ الجمهور {وَالأَنصَارِ} بالخفض عطفا على المهاجرين، فيكون وصف السابقين صفة للمهاجرين والأنصار. وقرأ يعقوب {وَالأَنصَارُ} بالرفع، فيكون عطفا على وصف {وَالسَّابِقُونَ} ويكون المقسم إلى سابقين وغيرهم خصوص المهاجرين.
والمراد بالذين اتبعوهم بقية المهاجرين وبقية الأنصار اتبعوهم إلى الايمان، أي آمنوا بعد السابقين: ممن آمنوا بعد فتح مكة ومن آمنوا من المنافقين بعد مدة.
والإحسان: هو العمل الصالح. والباء للملابسة. وإنما قيد هذا الفريق خاصة لأن السابقين الأولين ما بعثهم على الإيمان إلا الإخلاص، فهم محسنون، وأما الذين اتبعوهم فمن بينهم من آمن اعتزازا بالمسلمين حين صاروا أكثر أهل المدينة، فمنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد، مثل المؤلفة قلوبهم، فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقى بهم إلى الإيمان الكامل، وهم المذكورون مع المنافقين في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب:60] فإذا بلغوا رتبة الإحسان دخلوا في وعد الرضى من الله وإعداد الجنات.
وجملة: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} خبر عن {وَالسَّابِقُونَ} . وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي لقصد التقوي والتأكيد. ورضى الله عنهم عنايته بهم وإكرامه إياهم ودفاعه أعداءهم، وأما رضاهم عنه فهو كناية عن كثرة إحسانه إليهم حتى رضيت نفوسهم لما أعطاهم ربهم.
والإعداد: التهيئة. وفيه إشعار بالعناية والكرامة. وتقدم القول في معنى جري الأنهار. وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها (من) مع (تحتها) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف (من) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، ومن فعل (أعد) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه.
وثبتت (من) في مصحف مكة، وهي قراءة ابن كثير المكي، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين.
----------------
وفي مشكل الآثار(1) :
__________
(1) - مشكل الآثار للطحاوي - (ج 6 / ص 99)(1/331)
بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِجْرَةِ وَهَلْ قَطَعَهَا فَتْحُ مَكَّةَ أَمْ لَمْ يَقْطَعْهَا ) . حَدَّثَنَا بَكَّارَ بْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ ثنا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ ثنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا * حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ ثنا الْقَوَارِيرِيُّ قَالَ ثنا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ . وَحَدَّثَنَا فَهْدٌ قَالَ حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ قَالَ ثنا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ : حَدَّثَنِي { مُجَاشِعٌ قَالَ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْفَتْحِ بِأَخِي [ أَبِي ] مَعْبَدٍ لِيُبَايِعَهُ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ بِأَخِي [ أَبِي ] مَعْبَدٍ لِتُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ ذَهَبَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا فَقُلْت فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُبَايِعُهُ ؟ قَالَ : عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ قَالَ فَلَقِيت [ أَبَا ] مَعْبَدٍ بَعْدُ وَكَانَ أَكْبَرَهُمَا فَسَأَلْته فَقَالَ صَدَقَ مُجَاشِعٌ * . وَحَدَّثَنَا فَهْدٌ قَالَ ثنا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ ثنا شَيْبَانُ وَهُوَ النَّحْوِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إسْحَاقَ { عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ الْبَهْزِيِّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِابْنِ أَخِيهِ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَا بَلْ يُبَايِعُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ , وَيَكُونُ مِنْ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ * . وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ ثنا الْوَهْبِيُّ قَالَ ثنا شَيْبَانُ ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ . وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ ثنا حِبَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ { عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ لَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ جَاءَ بِأَبِيهِ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لِأَبِي نَصِيبًا مِنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَ لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ فَدَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ فَخَرَجَ الْعَبَّاسُ فِي قَمِيصٍ لَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ , فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ , قَدْ عَرَفْت فُلَانًا وَاَلَّذِي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأَنَّهُ جَاءَ بِأَبِيهِ فَمَا يَمْنَعُهُ ؟ قَالَ : لَا هِجْرَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ أَقْسَمْت يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَمَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ وَمَسَحَ عَلَيْهِ وَأَدْخَلَ يَدَهُ , وَقَالَ : أَبْرَرْت عَمِّي وَلَا هِجْرَةَ * . حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ قَالَ ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ { أُمِّ يَحْيَى ابْنَةِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهَا قَالَ جِئْت بِأَبِي يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبِي يُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ قَالَ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ * . حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ { يَعْلَى قَالَ جِئْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَبِي أُمَيَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ أَبِي عَلَى الْهِجْرَةِ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ أُبَايِعُهُ عَلَى الْجِهَادِ فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ * . وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ ثنا حِبَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ ثنا خَالِدٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ { مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا مُجَالِدُ بْنُ مَسْعُودٍ فَبَايِعْهُ عَلَى الْهِجْرَةِ قَالَ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَلَكِنْ أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ * . وَحَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ قَالَ ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ(1/332)
عَمْرٍو قَالَ { لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فَفِي هَذِهِ الْآثَارِ إخْبَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مِنْ قَوْلِهِمَا وَذِكْرِهِمَا السَّبَبَ الَّذِي بِهِ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَالسَّبَبَ الَّذِي كَانَ يَكُونُ بِهِ الْهِجْرَةُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ . وَكَمَا قَدْ حَدَّثَنَا فَهْدٌ قَالَ ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الضَّحَّاكِ الْبَابْلُتِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ بَعْدَ الْفَتْحِ . وَكَمَا حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ قَالَ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَزْدِيُّ قَالَ ثنا أَبُو إسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ دَخَلْت أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ مِنْ هِجْرَةٍ الْيَوْمَ ؟ قَالَتْ : لَا وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ إنَّمَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ يَفِرُّ الرَّجُلُ بِدِينِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي بِهِ كَانَتْ تَكُونُ الْهِجْرَةُ وَأَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ بِفَتْحِ مَكَّةَ . وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مَا قَدْ رَوَيْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ إلَى الْمَدِينَةِ حِينَ قِيلَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ * وَمِنْ إطْلَاقِهِ لَهُ الرُّجُوعَ إلَى مَكَّةَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمَا أَطْلَقَ لَهُ الرُّجُوعَ إلَى الدَّارِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا كَمَا لَمْ يُطْلِقْ ذَلِكَ لِلْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ حَتَّى جَعَلَ لَهُمْ إذَا قَدِمُوهَا لِحَجِّهِمْ إقَامَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الصَّدْرِ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا . كَمَا قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْأَلُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ مَا سَمِعْت فِي سُكْنَى مَكَّةَ لِلْمُهَاجِرِ ؟ فَقَالَ قَالَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثٌ بَعْدَ الصَّدْرِ لِلْمُهَاجِرِ * . وَكَمَا حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ ثنا حِبَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ ثُمَّ ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَتَّى كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يُشْفِقُونَ مِنْ إدْرَاكِ الْمَوْتِ إيَّاهُمْ بِهَا وَيُعَظِّمُونَ ذَلِكَ وَيَخْشَوْنَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ . كَمَا قَدْ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ ثنا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ { عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ مَرِضْت عَامَ الْفَتْحِ مَرَضًا أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي ؟ قَالَ : إنَّك لَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا ازْدَدْت بِهِ رِفْعَةً وَدَرَجَةً وَلَعَلَّك أَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ * . وَكَمَا حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ أَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ مَالِكًا أَخْبَرَهُ ( ح ) وَكَمَا حَدَّثَنَا الْمُزَنِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ { سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي * ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ . أَفَلَا تَرَى إلَى مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ إلَى(1/333)
الْمَدِينَةِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ إنْ كَانُوا قَدْ هَاجَرُوا مِنْهَا وَتَرَكُوهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَغْبَةً فِيهَا وَمِنْ الْمُقَامِ بِهَا إلَّا مَا لَا يَجِدُونَ مِنْهُ بُدًّا فِي حَجِّهِمْ إلَيْهَا مِنْ الْمُقَامِ بِهَا لِيَتَأَهَّبُوا لِخُرُوجِهِمْ مِنْهَا وَرُجُوعِهِمْ إلَى دَارِ هِجْرَتِهِمْ وَمِنْ إطْلَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِمَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ كَانَ إسْلَامُهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَلَا دَلِيلَ أَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ بِفَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ هَذَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُمْ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى يَقُولُونَ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ بَعْدَ إنْزَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَبَعْدَ قِرَاءَتِهِ إيَّاهَا عَلَى النَّاسِ . كَمَا قَدْ حَدَّثَنَا بَكَّارَ بْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ ثنا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ ثنا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت أَبَا الْبَخْتَرِيِّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ { لَمَّا نَزَلَتْ { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى خَتَمَهَا ثُمَّ قَالَ أَنَا وَأَصْحَابِي حَيِّزٌ وَالنَّاسُ حَيِّزٌ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَحَدَّثْت بِذَلِكَ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ كَذَبْت وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَهُمَا مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ فَقُلْت أَمَّا إنَّ هَذَيْنِ لَوْ شَاءَا حَدَّثَاكَ وَلَكِنَّ هَذَا يَعْنِي زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَخَافُ أَنْ تَعْزِلَهُ عَنْ الصَّدَقَةِ وَهَذَا يَخَافُ أَنْ تَعْزِلَهُ عَنْ عِرَافَةِ قَوْمِهِ يَعْنِي رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَهُمَا مَعَهُ , قَالَ فَشَدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ بِدِرَّتِهِ فَلَمَّا رَأَيَا ذَلِكَ قَالَا صَدَقَ . فَقَالَ قَائِلٌ أَفَيُخَالِفُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ مَا قَدْ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ قَالَ ثنا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ أَنَّ جُنَادَةَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ حَدَّثَهُ { أَنَّ رَجُلًا حَدَّثَهُ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَانْطَلَقْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ نَاسًا يَقُولُونَ : إنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا كَانَ الْجِهَادُ * . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ ثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ ابْنِ زِبْرٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ الضَّمْرِيِّ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ قَالَ وَفَدْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ , فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَضَوْا حَوَائِجَهُمْ , وَخَلَّفُونِي فِي رِحَالِهِمْ , فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ حَاجَتِي , فَقَالَ وَمَا حَاجَتُك ؟ فَقُلْت انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْتَ خَيْرُهُمْ حَاجَةً أَوْ قَالَ حَاجَتُك خَيْرُ حَاجَتِهِمْ لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ * . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْهَرَوِيُّ قَالَ ثنا دُحَيْمٌ قَالَ ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ ثنا ابْنُ زِبْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَقْدَانَ الْقُرَشِيِّ وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ قَالَ وَفَدْت فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ ثنا دُحَيْمٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ , قَالَ ثنا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ عَنْ(1/334)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ . فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَعَوْنِهِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِشَيْءٍ مِمَّا قَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُنَا إيَّاهُ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَلَيْهِمْ . قَالَ أَفَيُخَالِفُ هَذَا . فَذَكَرَ مَا قَدْ حَدَّثَنَا الْهَرَوِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا دُحَيْمٌ قَالَ ثنا الْوَلِيدُ قَالَ ثنا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْجُرَشِيِّ عَنْ أَبِي هِنْدٍ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ * . فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَعَوْنِهِ أَنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَتْ الْهِجْرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ إنَّمَا هِيَ هِجْرَةُ السُّوءِ لَا الْهِجْرَةُ الْأُخْرَى الْمَذْكُورَةُ فِي الْآثَارِ الْأُوَلِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ أَيْ إنَّهَا الْهِجْرَةُ الَّتِي يُهْجَرُ بِهَا مَا كَانَ قَبْلَهَا مَا قَطَعَتْهُ التَّوْبَةُ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا فِيهِ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْهِجْرَتَيْنِ . كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ قَالَ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ ثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ قَالَ ثنا ضَمْضَمُ بْنُ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { إنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ . إحْدَاهُمَا أَنْ يَهْجُرَ السَّيِّئَاتِ وَأَنْ يُهَاجِرَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتْ التَّوْبَةُ وَلَا تَزَالُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ * . وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا قَدْ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ قَالَ ثنا أَسَدٌ قَالَ ثنا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ أَبِي أُسَيْدَ عَنْ { الْحَارِثِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُبَايِعُ هَذَا ؟ قَالَ , وَمَنْ هَذَا ؟ قُلْت ابْنُ عَمِّي حَوْطُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ لَا إنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَا تُهَاجِرُونَ إلَى أَحَدٍ وَلَكِنَّ النَّاسَ يُهَاجِرُونَ إلَيْكُمْ * . وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا فَهْدٌ قَالَ ثنا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ الْغَسِيلِ , عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ زِيَادٍ , ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : ابْنُ عَمِّي , وَلَمْ يُسَمِّهِ , وَزَادَ : " وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ , لَا يُحِبُّ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ , إلَّا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يُحِبُّهُ , وَلَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ , إلَّا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يُبْغِضُهُ " وَمَا قَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنُ الْغَسِيلِ قَالَ حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ أَبِي أُسَيْدَ وَكَانَ أَبُوهُ بَدْرِيًّا قَالَ حَدَّثَنِي { الْحَارِثُ بْنُ زِيَادٍ السَّاعِدِيُّ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ هَذَا حَوْطُ بْنُ يَزِيدَ أَوْ يَزِيدُ بْنُ حَوْطٍ * ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَهَذَا عِنْدَنَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِشَيْءٍ مِمَّا قَدْ تَقَدَّمَتْ رِوَايَتُنَا لَهُ فِي(1/335)
هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَانَ وَقْتَ مُهَاجَرٍ وَلَيْسَ مَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ كَذَلِكَ . وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا فِي الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ . مَا قَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُد وَابْنُ أَبِي مَرْيَمَ جَمِيعًا قَالَا ثنا أَبُو عِيسَى فُدَيْكُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ ثنا الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ صَالِحِ بْنِ بَشِيرِ بْنِ فُدَيْكٍ قَالَ { خَرَجَ فُدَيْكٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا فُدَيْكُ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَآتِ الزَّكَاةَ وَاهْجُرْ السُّوءَ وَاسْكُنْ مِنْ أَرْضِ قَوْمِكَ حَيْثُ شِئْت تَكُنْ مُهَاجِرًا * . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تِبْيَانُ الْهِجْرَةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا مَنْ يَدْخُلُ فِيهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَنَّهَا بِهَجْرِ السُّوءِ وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ السُّكْنَى بِغَيْرِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا خِلَافُ الْهِجْرَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ السُّكْنَى فِي الدَّارِ الَّتِي كَانَ الْمُهَاجِرُ مِنْهَا وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا بَيَانٌ لِمَا وَصَفْنَا وَقَدْ وَجَدْنَا مَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَأَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ السَّابِقِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَكَانَ مَعْقُولًا أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ هَاجَرَ إلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الدَّارِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مِنْ دُورِ الْكُفْرِ مِنْ مَكَّةَ وَمِمَّنْ سِوَاهَا إلَى دَارِ الْهِجْرَةِ وَهِيَ الْمَدِينَةُ وَكَانَ مَعْقُولًا أَنَّ الْأَنْصَارَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِيهَا هُمْ الَّذِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ مِنْهُمْ فِي أَمْرِهِ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ لَهُ وَالْبَذْلَةِ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لَهُ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ أَعْظَمَ الدُّورِ الَّتِي كَانَ فِيهَا الْكُفَّارُ بِهِ وَالرَّاغِبُونَ عَنْهُ وَالْمُقَاتِلُونَ لَهُ وَكَانَ مَعْقُولًا أَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ هُمْ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَعْدَ أَنْ صَارَتْ مَكَّةُ دَارَ إسْلَامٍ . وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدْ رَوَيْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا مِنْ { قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُجَاشِعٍ لَمَّا أَتَاهُ بِأَخِيهِ بَعْدَ الْفَتْحِ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ : لَا بَلْ يُبَايِعُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَيَكُونُ مِنْ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ * وَاَللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ
وقال الجصاص :(1/336)
وقوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ , وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ * فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَفْضِيلِ السَّابِقِ إلَى الْخَيْرِ عَلَى التَّالِي ; لِأَنَّهُ دَاعٍ إلَيْهِ يَسْبِقُهُ وَالتَّالِي تَابِعٌ لَهُ فَهُوَ إمَامٌ لَهُ وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ * , وَكَذَلِكَ السَّابِقُ إلَى الشَّرِّ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ التَّابِعِ لَهُ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ سَنَّهُ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ * يَعْنِي أَثْقَالَ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ فِي الشَّرِّ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ , أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا * وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَا مِنْ قَتِيلٍ ظُلْمًا إلَّا وَعَلَى ابْنِ آدَمَ الْقَاتِلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهِ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ * وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ نَزَلَتْ الْآيَةُ , فَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى الْقِبْلَتَيْنِ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : " فِيمَنْ بَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ " . وَقَالَ غَيْرُهُمْ : " فِيمَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ "
وقال ابن العربي (1):
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ] تَكْمِلَةٌ : مِنْ خَوَاصِّ هَؤُلَاءِ الْخَوَاصِّ وِسَادَةِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * . وَهِيَ الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ , وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَحْقِيقِ السَّبْقِ : وَهُوَ التَّقَدُّمُ فِي الصِّفَةِ , أَوْ فِي الزَّمَانِ , أَوْ فِي الْمَكَانِ , فَالصِّفَةُ الْإِيمَانُ , وَالزَّمَنُ لِمَنْ حَصَلَ فِي أَوَانٍ قَبْلَ أَوَانٍ , وَالْمَكَانُ مَنْ تَبَوَّأَ دَارَ النُّصْرَةِ , وَاِتَّخَذَهُ بَدَلًا عَنْ مَوْضِعِ الْهِجْرَةِ , وَهُمْ عَلَى ثَمَانِي مَرَاتِبَ : الْأُولَى : أَبُو بَكْرٍ , وَعُمَرُ , وَعُثْمَانُ , وَعَلِيٌّ , وَسَعْدٌ , وَبِلَالٌ , وَغَيْرُهُمْ . الثَّانِيَةُ : دَارُ النَّدْوَةِ . الثَّالِثَةُ : مُهَاجِرَةُ أَصْحَابِ الْحَبَشَةِ , كَعُثْمَانَ , وَالزُّبَيْرِ . الرَّابِعَةُ : أَصْحَابُ الْعَقَبَتَيْنِ , وَهُمْ الْأَنْصَارُ . الْخَامِسَةُ : قَوْمٌ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِقُبَاءَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ . السَّادِسَةُ : مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ . السَّابِعَةُ : أَهْلُ بَدْرٍ . الثَّامِنَةُ : أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ , وَبِهِمْ انْقَطَعَتْ الْأَوَّلِيَّةُ . وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ الثَّامِنَةَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ , وَاخْتَارَ فِي تَفْسِيرِهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ , وَقَتَادَةُ , وَالْحَسَنُ مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ : { وَالْأَنْصَارِ * : بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ , فَيَكُونُونَ أَيْضًا فِيهَا عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهُمْ الْعُقْبِيُّونَ , وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْقِبْلَتَيْنِ , وَمِنْهُمْ الْبَدْرِيُّونَ , وَمِنْهُمْ الرِّضْوَانِيَّةُ , وَيَكُونُ الْوَقْفُ فِيهِمَا وَاحِدًا . وَقُرِئَ : وَالْأَنْصَارُ بِرَفْعِ الرَّاءِ , عَطْفًا عَلَى " وَالسَّابِقُونَ " وَيُعْزَى ذَلِكَ إلَى عُمَرَ وَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ , وَاخْتَارَهُ يَعْقُوبُ , وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ الرَّاءِ أَوْ خَفْضِهَا فَفِي الْأَنْصَارِ سَابِقٌ وَمُصَلٍّ فِي كُلِّ طَائِفَةٍ وَاحِدٌ .
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 4 / ص 400)(1/337)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَوَّلُ السَّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ { قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : مَنْ اتَّبَعَك عَلَى هَذَا الْأَمْرِ ؟ قَالَ : حُرٌّ وَعَبْدٌ * . وَبِهَذَا احْتَجَّ شَيْخُ السُّنَّةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْجُبَّائِيُّ فِي مَجْلِسِ ابْنِ وَرْقَاءَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ حِينَ ادَّعَى أَنَّ عَلِيًّا أَوَّلُهُمْ إسْلَامًا وَكَانَا شِيعِيِّينَ . وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ حَسَّانَ أَنْشَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِحَضْرَتِهِمْ : إذَا تَذَكَّرْت شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا قَالَ لَهُ : إنَّمَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ , أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ النَّيْسَابُورِيُّ , أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَعْدِيٍّ عَنْ مُجَالِدٍ , عَنْ الشَّعْبِيِّ , قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ , مَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إسْلَامًا ؟ قَالَ : أَبُو بَكْرٍ , أَوَ مَا سَمِعْت قَوْلَ حَسَّانَ : إذَا تَذَكَّرْت شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا وَهَذَا خَبَرٌ اُشْتُهِرَ وَانْتَشَرَ , فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوَّلُ مَنْ صَلَّى أَبُو بَكْرٍ , ثُمَّ تَمَثَّلَ بِأَبْيَاتِ حَسَّانَ , وَذَكَرَهَا ثَلَاثَةً , وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنًا فَضْلَ أَبِي بَكْرٍ وَسَبْقَهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ غَامَرَهُ : { دَعُوا لِي صَاحِبِي , فَإِنِّي بُعِثْت إلَى النَّاسِ كَافَّةً , فَقَالُوا : كَذَبْت , وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْت * , وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ خَلْقٌ كَثِيرٌ , مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ , وَطَلْحَةُ , وَسَعْدٌ , وَعُثْمَانُ , وَأَهْلُ الْعَقَبَتَيْنِ , وَلَيْسَ فِي تَقْدِمَةِ إسْلَامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ , لَا عَنْ سَلْمَانَ , وَلَا عَنْ الْحَسَنِ , وَلَا عَنْ أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ * : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ { الَّذِينَ * بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ نَعْتًا لِلْأَنْصَارِ , فَرَاجَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ , فَسَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ , فَصَدَّقَ زَيْدًا فَرَجَعَ إلَيْهِ عُمَرُ , وَثَبَتَتْ الْوَاوُ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّابِعِينَ ; فَقِيلَ : هُمْ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ ; كَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ , وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , وَمَنْ دَانَاهُمْ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ ; وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ شَكَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِخَالِدٍ : دَعُوا لِي أَصْحَابِي , فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ , لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ * . خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ . وَقِيلَ : هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ; وَلَا عَايَنُوا مُعْجِزَاتِهِ ; وَلَكِنَّهُمْ سَمِعُوا خَبَرَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ , وَهُوَ اسْمٌ مَخْصُوصٌ بِالْقَرْنِ الثَّانِي , فَيُقَالُ صَحَابِيٌّ وَتَابِعِيٌّ بِهَذِهِ الْخُطَّةِ , لِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ , وَكَفَانَا أَنْ اتَّقَيْنَا اللَّهَ , وَاهْتَدَيْنَا بِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ , وَاقْتَفَيْنَا آثَارَهُ , وَاسْمُ الْأُخُوَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا تِبْيَانًا لَنَا .(1/338)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ , وَبُيِّنَتْ الْخُطَطُ فَإِنَّ السَّابِقَ إلَى كُلِّ خَيْرٍ , وَالْمُتَقَدِّمَ إلَى الطَّاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُصَلِّي فِيهَا وَالتَّالِي بِهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى * . وَلَكِنْ مَنْ سَبَقَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ مَرْتَبَةً , وَأَوْفَى أَجْرًا , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِ مِنْ الْفَضْلِ إلَّا اقْتِدَاءُ التَّالِي بِهِ , وَاهْتِدَاؤُهُ بِهَدْيِهِ , فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ , وَمِثْلُ ثَوَابِ مَنْ اتَّبَعَهُ مُقْتَدِيًا بِهِ ; قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا * . وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَنْهُ , وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِيهِ , وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا * ; وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّبْقَ يَكُونُ بِالصِّفَاتِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ , وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ سَبْقُ الصِّفَاتِ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا , وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ . فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ , فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ , فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ . * فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ مَنْ سَبَقَنَا مِنْ الْأُمَمِ بِالزَّمَانِ فَجِئْنَا بَعْدَهُمْ سَبَقْنَاهُمْ بِالْإِيمَانِ , وَالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ , وَالِانْقِيَادِ إلَيْهِ , وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِهِ , وَالرِّضَا بِتَكْلِيفِهِ , وَالِاحْتِمَالِ لِوَظَائِفِهِ , لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ , وَلَا نَخْتَارُ مَعَهُ , وَلَا نُبَدِّلُ بِالرَّأْيِ شَرِيعَتَهُ , كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ . وَذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لِمَا قَضَاهُ , وَبِتَيْسِيرِهِ لِمَا يَرْضَاهُ , وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ الْأَعْرَابَ بِنَقْصِهِمْ وَحَطَّهُمْ عَنْ الْمَرْتَبَةِ الْكَامِلَةِ لِسِوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ : أَوَّلُهَا : أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ , حَسْبَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ . ثَانِيهَا : أَنَّ إمَامَتَهُمْ بِأَهْلِ الْحَضَرِ مَمْنُوعَةٌ لِجَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَتَرْكِهِمْ لِلْجُمُعَةِ . ثَالِثُهَا : إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْبَادِيَةِ عَنْ الْحَضَارَةِ . وَاخْتُلِفَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ ; فَقِيلَ : لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ , وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ , وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ , فَإِنَّهَا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ , وَتَنْفِيذُ كَلَامِهِ عَلَيْهِ ; وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الصِّفَةِ , وَقَدْ بَيَّنَّا نُقْصَانَ صِفَتِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ . وَقِيلَ : إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ , لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ التُّهْمَةِ إذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ بِحُقُوقِ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ , وَتِلْكَ رِيبَةٌ ; إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْحَضَرِيُّونَ , فَعَدَمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ وَوُجُودُهَا عِنْدَ الْبَدْوِيِّينَ رِيبَةٌ تَقْتَضِي التُّهْمَةَ , وَتُوجِبُ الرَّدَّ , وَعَنْ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ كَالْجِرَاحِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْحَضَرِ مَاضِيَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجُوزُ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْحَضَرِيِّ ; لِأَنَّهُ لَا يُرَاعِي كُلَّ تُهْمَةٍ ; أَلَا تَرَاهُ يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ , فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَهُ .
----------------
وقال الجصاص (1):
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 7 / ص 129)(1/339)
وقَوْله تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ، وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَفْضِيلِ السَّابِقِ إلَى الْخَيْرِ عَلَى التَّالِي ؛ لِأَنَّهُ دَاعٍ إلَيْهِ يَسْبِقُهُ وَالتَّالِي تَابِعٌ لَهُ فَهُوَ إمَامٌ لَهُ وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، وَكَذَلِكَ السَّابِقُ إلَى الشَّرِّ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ التَّابِعِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ سَنَّهُ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } يَعْنِي أَثْقَالَ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ فِي الشَّرِّ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ، أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ قَتِيلٍ ظُلْمًا إلَّا وَعَلَى ابْنِ آدَمَ الْقَاتِلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ } وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ نَزَلَتْ الْآيَةُ ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى الْقِبْلَتَيْنِ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : " فِيمَنْ بَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ " .
وَقَالَ غَيْرُهُمْ : " فِيمَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ "
-------------------
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1):
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 490)(1/340)
فَصْلٌ وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ السُّعَدَاءَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ " أَرْبَعَ مَرَاتِبَ " فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } . وَفِي الْحَدِيثِ : " { مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ } وَأَفْضَلُ الْأُمَمِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ " { أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ } وَأَفْضَلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : " { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } . وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا وَالْمُرَادُ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَفِيهِ { أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ قَالَ : نَعَمْ } . وَأَفْضَلُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ " الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ " وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْأُمَّةِ وَجَمَاهِيرِهَا وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ بَسَطْنَاهَا فِي " مِنْهَاجِ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ أَهْلِ الشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ " . وَبِالْجُمْلَةِ اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا يَكُونُ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُهُمْ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعًا لَهُ كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ وَعَمَلًا بِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إذْ كَانَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ .
----------------
وقال ابن تيمية رحمه الله (1) :
__________
(1) - الفتاوى الكبرى - (ج 5 / ص 229)(1/341)
777 - 6 - مَسْأَلَةٌ : مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ رضي الله عنهم أجمعين , وَأَعَانَهُمْ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ الْمُبِينِ , وَكَشْفِ غَمَرَاتِ الْجَاهِلِينَ وَالزَّائِغِينَ فِي : هَؤُلَاءِ التَّتَارِ الَّذِينَ يَقْدُمُونَ إلَى الشَّامِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَقَدْ تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ , وَانْتَسَبُوا إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُبْقُوا عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ أَمْ لَا ؟ وَمَا الْحُجَّةُ عَلَى قِتَالِهِمْ , وَمَا مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِمَّنْ يَفِرُّ إلَيْهِمْ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ قَدْ أَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ مُكْرَهًا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ يَكُونُ مَعَ عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ , وَالْفِقْهِ , وَالْفَقْرِ , وَالنُّصُوصِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمَا يُقَالُ فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْمُقَاتِلُونَ لَهُمْ مُسْلِمُونَ وَكِلَاهُمَا ظَالِمٌ , فَلَا يُقَاتِلُ مَعَ أَحَدِهِمَا . وَفِي قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا تُقَاتَلُ الْبُغَاةُ الْمُتَأَوِّلُونَ , وَمَا الْوَاجِبُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَهْلِ الْقِتَالِ وَأَهْلِ الْأَمْوَالِ فِي أَمْرِهِمْ . أَفْتُونَا فِي ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ مَبْسُوطَةٍ شَافِيَةٍ , فَإِنَّ أَمْرَهُمْ قَدْ أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , بَلْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ تَارَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِمْ , وَتَارَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي مِثْلِهِمْ , وَاَللَّهُ الْمُيَسِّرُ لِكُلِّ خَيْرٍ بِقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ؟
الْجَوَابُ :(1/342)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , نَعَمْ يَجِبُ قِتَالُ هَؤُلَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ , وَسُنَّةِ رَسُولِهِ , وَاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ , وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْمَعْرِفَةُ بِحَالِهِمْ . وَالثَّانِي : مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي مِثْلِهِمْ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَكُلُّ مَنْ بَاشَرَ الْقَوْمَ بِعِلْمِ حَالِهِمْ , وَمَنْ لَمْ يُبَاشِرْهُمْ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ , وَأَخْبَارِ الصَّادِقِينَ , وَنَحْنُ نَذْكُرُ جُلَّ أُمُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ نُبَيِّنَ الْأَصْلَ الْآخَرَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ : كُلُّ طَائِفَةٍ خَرَجَتْ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ , وَإِنْ تَكَلَّمَتْ بِالشَّهَادَتَيْنِ , فَإِذَا أَقَرُّوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ , وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُصَلُّوا , وَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ الزَّكَاةِ , وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ , وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ , أَوْ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ , وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ , أَوْ الزِّنَا , أَوْ الْمَيْسِرِ , أَوْ الْخَمْرِ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْحُكْمِ فِي الدِّمَاءِ , وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ , وَالْأَبْضَاعِ , وَنَحْوِهَا بِحُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَجِهَادِ الْكُفَّارِ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا وَيُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرُوا الْبِدَعَ الْمُخَالِفَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَاتِّبَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِثْلُ : أَنْ يُظْهِرُوا الْإِلْحَادَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ , أَوْ التَّكْذِيبَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ , أَوْ التَّكْذِيبَ بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ , أَوْ الطَّعْنَ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ أَوْ مُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي طَاعَتِهِمْ الَّتِي تُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ * فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ الْقِتَالُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ , فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ * وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ , وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَصَلَّوْا وَصَامُوا , لَكِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا , وَقَالَ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ * وَقَدْ قُرِئَ { فَأُذِنُوا * وَ { آذَنُوا * وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ , وَالرِّبَا آخِرُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْقُرْآنِ , وَهُوَ مَا يُوجَدُ بِتَرَاضِي الْمُتَعَامِلِينَ , فَإِذَا كَانَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي هِيَ أَسْبَقُ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُ تَحْرِيمًا . وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْأَحَادِيثُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ , وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ , وَقَدْ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ , وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : حَدِيثَ عَلِيٍّ , وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ , وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ , وَفِي السُّنَنِ , وَالْمَسَانِيدِ طُرُقٌ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ . وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي صِفَتِهِمْ : { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ , وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ , وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ , يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا(1/343)
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ , يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ , أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ , فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ * . وَهَؤُلَاءِ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ , وَأَئِمَّتُهَا لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي قِتَالِهِمْ كَمَا تَنَازَعُوا فِي الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ , فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : قَوْمٌ قَاتَلُوا مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه , وَقَوْمٌ قَاتَلُوا مَعَ مَنْ قَاتَلَ , وَقَوْمٌ قَعَدُوا عَنْ الْقِتَالِ لَمْ يُقَاتِلُوا الْوَاحِدَةَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا نَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَفِي الصَّحِيحِ : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ * . وَفِي لَفْظٍ : { أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ * . فَبِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ , وَأَنَّ تِلْكَ الْمَارِقَةَ الَّتِي مَرَقَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ لَيْسَ حُكْمُهَا حُكْمَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ , بَلْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِ هَذِهِ الْمَارِقَةِ , وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِقِتَالِهَا , وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ , كَمَا أَمَرَ بِقِتَالِ هَذِهِ , بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ : مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ * . فَمَدَحَ الْحَسَنَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا أَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ , حِينَ تَرَكَ الْقِتَالَ وَقَدْ بُويِعَ لَهُ وَاخْتَارَ الْأَصْلَ وَحَقَنَ الدِّمَاءَ مَعَ نُزُولِهِ عَنْ الْأَمْرِ , فَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ مَأْمُورًا بِهِ لَمْ يَمْدَحْ الْحَسَنَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَفِعْلِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ .
---------------(1/344)
1019 - 8 مَسْأَلَةٌ (1): عَنْ قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ فِي آخِرِ عَقِيدَتِهِ : وَأَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآمَنُوا بِهِ . ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ . وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , وَعُثْمَانُ , وَعَلِيٌّ . فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ , وَتَفْضِيلِ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ , وَعُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ . فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَهَلْ تَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ يُفَضِّلُ الْمَفْضُولَ عَلَى الْفَاضِلِ أَمْ لَا . بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا مَبْسُوطًا مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَأَمَّا تَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ , ثُمَّ عُمَرَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ , وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَأَهْلِ مِصْرَ , وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَأَهْلِ الشَّامِ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ , وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ . وَحَكَى مَالِكٌ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ : مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا مِمَّنْ اُقْتُدِيَ بِهِ يَشُكُّ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ : يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْرِفُ ؟ قُلْت : لَا قَالَ : أَبُو بَكْرٍ , قُلْت : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ عُمَرُ . وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا , وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ , بَلْ قَالَ : لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي . فَمَنْ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ جُلِدَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ رضي الله عنه ثَمَانِينَ سَوْطًا . وَكَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ , وَمَا أَرَى أَنَّهُ يَصْعَدُ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى ذَلِكَ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ رُوِيَ هَذَا التَّفْضِيلُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ قَالَ : { يَا عَلِيُّ هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ * . وَقَدْ اسْتَفَاضَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ , وَغَيْرِهِمْ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا , وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ يَعْنِي بِنَفْسِهِ * . وَفِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ : إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ , وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا , وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ أَلَا لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ * . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُخَالَّةَ لَوْ كَانَتْ مُمْكِنَةً مِنْ الْمَخْلُوقِينَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ , فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَلَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ , وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ عَائِشَةُ قَالَ : فَمِنْ الرِّجَالِ ؟ قَالَ : أَبُوهَا * . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهُ قَالَ { لِعَائِشَةَ اُدْعِي لِي أَبَاك وَأَخَاك حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا
__________
(1) - الفتاوى الكبرى - (ج 6 / ص 497)(1/345)
يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي ثُمَّ قَالَ يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ * . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْك , كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ , قَالَ فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ * . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ : { أَنَّهُ قَالَ اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ * . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ إنْ يُطِعْ الْقَوْمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا * . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ : قَالَ { رَأَيْت كَأَنِّي وُضِعْت فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحْتُ بِالْأُمَّةِ ثُمَّ وُضِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ , ثُمَّ وُضِعَ عُمَرُ فِي كِفَّةٍ وَالْأُمَّةُ فِي كِفَّةٍ فَرَجَحَ عُمَرُ * . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ : { كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَلَامٌ , فَطَلَبَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ , فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ اجْلِسْ يَا أَبَا بَكْرٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لَك وَنَدِمَ عُمَرُ فَجَاءَ إلَى مَنْزِلِ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ , فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي جِئْت إلَيْكُمْ فَقُلْت إنِّي رَسُولُ اللَّهِ , فَقُلْتُمْ كَذَبْت , وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ , فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي * فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا . فَقَدْ تَوَاتَرَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا مَرِضَ قَالَ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ : إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ , مُرُوا أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ * . فَهَذَا التَّخْصِيصُ وَالتَّكْرِيرُ وَالتَّوْكِيدُ فِي تَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ مَعَ حُضُورِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ تَقَدُّمَهُ عِنْدَهُ عَلَى غَيْرِهِ . وَفِي الصَّحِيحِ : أَنَّ جِنَازَةَ عُمَرَ لَمَّا وُضِعَتْ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَتَخَلَّلُ الصُّفُوفَ ثُمَّ قَالَ : لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك فَإِنِّي كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ , وَذَهَبْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ " - : فَهَذَا يُبَيِّنُ مُلَازَمَتَهُمَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَذَهَابِهِ . وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ لِلرَّشِيدِ لَمَّا قَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْزِلَتُهُمَا مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ , فَقَالَ شَفَيْتنِي يَا مَالِكُ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمَا مِنْ اخْتِصَاصِهِمَا بِصُحْبَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِمَا لَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَمُبَاطَنَتِهِمَا مِمَّا يَعْلَمُهُ بِالِاضْطِرَارِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسِيرَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ , وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِي هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَإِنَّمَا يَنْفِي هَذَا أَوْ يَقِفُ فِيهِ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ أُمُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِقْهٍ أَوْ حِسَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , أَوْ مَنْ يَكُونُ قَدْ سَمِعَ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً تُنَاقِضُ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَعْلُومَةَ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , فَتَوَقَّفَ فِي الْأَمْرِ أَوْ رَجَّحَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ . وَهَذَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَشُكُّ فِيهَا أَوْ يَنْفِيهَا كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَهُمْ فِي شَفَاعَتِهِ وَحَوْضِهِ , وَخُرُوجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ , وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عِنْدَهُمْ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْعُلُوِّ وَالرُّؤْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ لَمَّا تَوَاتَرَتْ(1/346)
عِنْدَهُمْ عَنْهُ , وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ , كَمَا تَوَاتَرَتْ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ وَتَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَرَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ , وَاعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُنَازِعُهُمْ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَبْدِيعِ مَنْ خَالَفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ بِخِلَافِ مَنْ نَازَعَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي تَوَاتُرِ السُّنَنِ عَنْهُ , كَالتَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ , وَفِي الْقَسَامَةِ وَالْقُرْعَةِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ . وَأَمَّا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ , فَهَذِهِ دُونَ تِلْكَ , فَإِنَّ هَذِهِ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِيهَا نِزَاعٌ , فَإِنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَطَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ رَجَّحُوا عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ , ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ , وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَوَقَّفَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ , وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ , لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ , وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِيمَنْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ هَلْ يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ , عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ , وَقَدْ قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ , وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , والدارقطني : مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَأَيُّوبُ هَذَا إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ , وَإِمَامُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ , رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ , وَكَانَ لَا يَرْوِي عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ , وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَقَالَ مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أَحَدٍ إلَّا وَأَيُّوبُ أَفْضَلُ مِنْهُ , وَذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : لَقَدْ رَأَيْته مُقْعَدًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا ذَكَرْته إلَّا اقْشَعَرَّ جِسْمِي . وَالْحُجَّةُ لِهَذَا مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا : عَنْ { ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نُفَاضِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّا نَقُولُ أَبُو بَكْرٍ , ثُمَّ عُمَرُ , ثُمَّ عُثْمَانُ * وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ : يَبْلُغُ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُنْكِرُهُ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ , وَغَيْرِ الْبُخَارِيِّ , أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جَعَلَ الْخِلَافَةَ شُورَى فِي سِتَّةِ أَنْفُسٍ : عُثْمَانَ , وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ , وَالزُّبَيْرِ , وَسَعْدٍ , وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , وَلَمْ يُدْخِلْ مَعَهُمْ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ , وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ , وَكَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قَبِيلَةِ عُمَرَ , وَقَالَ عَنْ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ : يَحْضُرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْأَمْرِ شَيْءٌ , وَوَصَّى أَنْ يُصَلِّيَ صُهَيْبٌ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ , فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ وَاجْتَمَعُوا عِنْدَ الْمِنْبَرِ قَالَ طَلْحَةُ : وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعُثْمَانَ وَقَالَ الزُّبَيْرُ : مَا كَانَ لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعَلِيٍّ , وَقَالَ سَعْدٌ : مَا كَانَ لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَهُوَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , فَخَرَجَ ثَلَاثَةٌ وَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ , فَاجْتَمَعُوا فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : أَنَا أَخْرُجُ . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : عَلَيْهِ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ يُوَلِّيَ أَفْضَلَهُمَا ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا يُشَاوِرُ الْمُهَاجِرِينَ , وَالْأَنْصَارَ , وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَيُشَاوِرُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ , وَيُشَاوِرُ أُمَرَاءَ الْأَمْصَارِ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ حَجُّوا مَعَ عُمَرَ , وَشَهِدُوا مَوْتَهُ , حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ : إنَّ لِي ثَلَاثًا مَا اغْتَمَضْت بِنَوْمٍ , فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ لِعُثْمَانَ : عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إنْ وَلَّيْتُكَ(1/347)
لَتَعْدِلَنَّ , وَلَئِنْ وَلَّيْت عَلِيًّا لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ , قَالَ : نَعَمْ . وَقَالَ لِعَلِيٍّ : عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إنْ وَلَّيْتُك لَتَعْدِلَنَّ وَلَئِنْ وَلَّيْت عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ , قَالَ : نَعَمْ , فَقَالَ : إنِّي رَأَيْت النَّاسَ لَا يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ . فَبَايَعَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ بَيْعَةَ رِضًى وَاخْتِيَارٍ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ أَعْطَاهُمْ إيَّاهَا وَلَا رَهْبَةٍ خَوَّفَهُمْ بِهَا . وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ , فَلِهَذَا قَالَ أَيُّوبُ , وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , والدارقطني : مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ , فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ وَقَدْ قَدَّمُوهُ كَانُوا جَاهِلِينَ بِفَضْلِهِ , وَإِمَّا ظَالِمِينَ بِتَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ دِينِيٍّ , وَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ فَقَدْ أَزْرَى بِهِمْ . وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا عُثْمَانَ لِضِغْنٍ كَانَ فِي نَفْسِ بَعْضِهِمْ عَلَى عَلِيٍّ وَأَنَّ أَهْلَ الضِّغْنِ كَانُوا ذَوِي شَوْكَةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ , فَقَدْ نَسَبَهُمْ إلَى الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ , وَظُهُورُ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ هَذَا وَهْمٌ فِي أَعَزِّ مَا كَانُوا وَأَقْوَى مَا كَانُوا , فَإِنَّهُ حِينَ مَاتَ عُمَرُ كَانَ الْإِسْلَامُ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْعِزِّ وَالظُّهُورِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ فِيمَا لَمْ يَصِيرُوا فِي مِثْلِهِ قَطُّ . وَكَانَ عُمَرُ أَعَزَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَأَذَلَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ إلَى حَدٍّ بَلَغَ فِي الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ مَبْلَغًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْأُمُورِ . فَمَنْ جَعَلَهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ جَاهِلِينَ أَوْ ظَالِمِينَ أَوْ عَاجِزِينَ عَنْ الْحَقِّ فَقَدْ أَزْرَى بِهِمْ وَجَعَلَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ عَلَى خِلَافِ مَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ لَهُمْ . وَهَذَا هُوَ أَصْلُ مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ , فَإِنَّ الَّذِي ابْتَدَعَ الرَّفْضَ كَانَ يَهُودِيًّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ نِفَاقًا وَدَسَّ إلَى الْجِهَادِ دَسَائِسَ يَقْدَحُ بِهَا فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ , وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ أَعْظَمَ أَبْوَابِ النِّفَاقِ وَالزَّنْدَقَةِ . فَإِنَّهُ يَكُونُ الرَّجُلُ وَاقِفًا ثُمَّ يَصِيرُ مُفَضِّلًا ثُمَّ يَصِيرُ سَبَّابًا ثُمَّ يَصِيرُ غَالِيًا ثُمَّ يَصِيرُ جَاحِدًا مُعَطِّلًا , وَلِهَذَا انْضَمَّتْ إلَى الرَّافِضَةِ أَئِمَّةُ الزَّنَادِقَةِ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة , وَالنُّصَيْرِيَّةِ , وَأَنْوَاعِهِمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ , وَالْبَاطِنِيَّةِ , وَالدُّرْزِيَّةِ , وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الزَّنْدَقَةِ , وَالنِّفَاقِ , فَإِنَّ الْقَدْحَ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الَّذِينَ صَحِبُوا الرَّسُولَ قَدْحٌ فِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ : هَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا طَعَنُوا فِي أَصْحَابِهِ لِيَقُولَ الْقَائِلُ رَجُلُ سُوءٍ كَانَ لَهُ أَصْحَابُ سُوءٍ , وَلَوْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا لَكَانَ أَصْحَابُهُ صَالِحِينَ . وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ الَّذِينَ نَقَلُوا فَضَائِلَ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ . فَالْقَدْحُ فِيهِمْ يُوجِبُ أَنْ لَا يُوثَقَ بِمَا نَقَلُوهُ مِنْ الدِّينِ , وَحِينَئِذٍ فَلَا تَثْبُتُ فَضِيلَةٌ لَا لِعَلِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ , وَالرَّافِضَةُ جُهَّالٌ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا دِينٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ , فَإِنَّهُ لَوْ طَلَبَ مِنْهُمْ النَّاصِبِيُّ الَّذِي يُبْغِضُ عَلِيًّا وَيَعْتَقِدُ فِسْقَهُ أَوْ كُفْرَهُ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُثْبِتُوا إيمَانَ عَلِيٍّ وَفَضْلَهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ , بَلْ تَغْلِبُهُمْ الْخَوَارِجُ فَإِنَّ فَضَائِلَ عَلِيٍّ إنَّمَا نَقَلَهَا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ تَقْدَحُ فِيهِمْ الرَّافِضَةُ , فَلَا يَتَيَقَّنُ لَهُ فَضِيلَةٌ مَعْلُومَةٌ عَلَى أَصْلِهِمْ , فَإِذَا طَعَنُوا فِي بَعْضِ الْخُلَفَاءِ بِمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا الرِّيَاسَةَ وَقَاتَلُوا عَلَى ذَلِكَ , كَانَ طَعْنُ الْخَوَارِجِ فِي عَلِيٍّ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَأَضْعَافِهِ أَقْرَبَ مِنْ دَعْوَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُطِيعَ بِلَا قِتَالٍ , وَلَكِنَّ الرَّافِضَةَ جُهَّالٌ مُتَّبِعُونَ(1/348)
الزَّنَادِقَةَ . الْقُرْآنُ قَدْ أَثْنَى عَلَى الصَّحَابَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ * . وقوله تعالى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى * . وَقَالَ تَعَالَى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ * . وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ * . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي , فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ * . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ : أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ , ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ * . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُسْتَفِيضَةٌ بَلْ مُتَوَاتِرَةٌ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَفْضِيلِ قَرْنِهِمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ , فَالْقَدْحُ فِيهِمْ قَدْحٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ , وَلِهَذَا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي تَكْفِيرِ الرَّافِضَةِ بِمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .(1/349)
وَكَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ سَلَكُوا فِي دَعْوَى حُبِّ اللَّهِ أَنْوَاعًا مِنْ أُمُورِ الْجَهْلِ بِالدِّينِ ; إمَّا مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ ; وَإِمَّا مِنْ تَضْيِيعِ حُقُوقِ اللَّهِ , وَإِمَّا مِنْ ادِّعَاءِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا , كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ فِي النَّارِ أَحَدًا فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ ; فَقَالَ الْآخَرُ : أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ . فَالْأَوَّلُ جَعَلَ مُرِيدَهُ يُخْرِجُ كُلَّ مَنْ فِي النَّارِ ; وَالثَّانِي جَعَلَ مُرِيدَهُ يَمْنَعُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ . وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَصَبْت خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَشْهُورِينَ ; وَهِيَ إمَّا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ , وَإِمَّا غَلَطٌ مِنْهُمْ ; وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَصْدُرُ فِي حَالِ سُكْرٍ وَغَلَبَةٍ وَفَنَاءٍ يَسْقُطُ فِيهَا تَمْيِيزُ الْإِنْسَانِ ; أَوْ يَضْعُفُ حَتَّى لَا يَدْرِي مَا قَالَ , " وَالسُّكْرُ " هُوَ لَذَّةٌ مَعَ عَدَمِ تَمْيِيزٍ وَلِهَذَا كَانَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا صَحَا اسْتَغْفَرَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ . وَاَلَّذِينَ تَوَسَّعُوا مِنْ الشُّيُوخِ فِي سَمَاعِ الْقَصَائِدِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْحُبِّ , وَالشَّوْقِ , وَاللَّوْمِ , وَالْعَذْلِ , وَالْغَرَامِ كَانَ هَذَا أَصْلَ مَقْصِدِهِمْ ; وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِلْمَحَبَّةِ مِحْنَةً يَمْتَحِنُ بِهَا الْمُحِبَّ فَقَالَ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ * فَلَا يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ يَتَّبِعُ رَسُولَهُ , وَطَاعَةُ الرَّسُولِ وَمُتَابَعَتُهُ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ . وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ يَخْرُجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَسُنَّتِهِ , وَيَدَّعِي مِنْ الْخَيَالَاتِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ , حَتَّى قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَتَحْلِيلَ الْحَرَامِ لَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ وَسُنَّتِهِ , وَطَاعَتِهِ , بَلْ قَدْ جَعَلَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ رَسُولِهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ . " وَالْجِهَادُ " يَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ , وَكَمَالَ بُغْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ , وَلِهَذَا قَالَ فِي صِفَةِ مَنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ : { أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * . وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ مَحَبَّةِ مَنْ قَبْلَهَا , وَعُبُودِيَّتُهُمْ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَنْ قَبْلَهُمْ . وَأَكْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ بِهِمْ أَشْبَهَ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ أَكْمَلَ , فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ ؟ , . [ وَفِي ] كَلَامِ بَعْضِ الشُّيُوخِ : الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحَرِّقُ فِي الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ . وَأَرَادُوا أَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ وُجُودَهُ , فَظَنُّوا أَنَّ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ كُلَّ شَيْءٍ , حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ , وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِبَّ كُلَّ مَوْجُودٍ بَلْ يُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ وَيَنْفَعُهُ وَيَبْغُضُ مَا يُنَافِيهِ وَيَضُرُّهُ , وَلَكِنْ اسْتَفَادُوا بِهَذَا الضَّلَالِ اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ , فَهُمْ يُحِبُّونَ مَا يَهْوَوْنَهُ كَالصُّوَرِ وَالرِّئَاسَةِ وَفُضُولِ الْمَالِ , وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ , زَاعِمِينَ أَنَّ هَذَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ , وَمِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ بُغْضُ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَجِهَادُ أَهْلِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ . وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ الَّذِي قَالَ : " إنَّ الْمَحَبَّةَ نَارٌ تُحَرِّقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ " قَصَدَ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ , فَكَأَنَّهُ قَالَ : تُحَرِّقُ مِنْ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ , وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ . فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْحُبِّ أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْت مَا لَا يُحِبُّ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ نَاقِصَةً , وَأَمَّا قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ فَهُوَ يَبْغُضُهُ , وَيَكْرَهُهُ , وَيَسْخَطُهُ , وَيَنْهَى عَنْهُ , فَإِنْ لَمْ أُوَافِقْهُ(1/350)
فِي بُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَسُخْطِهِ لَمْ أَكُنْ مُحِبًّا لَهُ , بَلْ مُحِبًّا لِمَا يَبْغُضُهُ . فَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ , وَالْقِيَامُ بِالْجِهَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوقِ بَيْنَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ , وَبَيْنَ مَنْ يَدَّعِي مَحَبَّةَ اللَّهِ نَاظِرًا إلَى عُمُومِ رُبُوبِيَّتِهِ , أَوْ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَتِهِ , فَإِنَّ دَعْوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ , بَلْ قَدْ تَكُونُ دَعْوَى هَؤُلَاءِ شَرًّا مِنْ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ الَّذِينَ هُمْ بِهِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ , كَمَا قَدْ تَكُونُ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى شَرٌّ مِنْ دَعْوَاهُمْ إذَا لَمْ يَصِلُوا إلَى مِثْلِ كُفْرِهِمْ , وَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ , حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمُ وَصَايَا النَّامُوسِ . فَفِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ : " أَعْظَمُ وَصَايَا الْمَسِيحِ أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ بِكُلِّ قَلْبِك وَعَقْلِك وَنَفْسِك " , وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ قِيَامَهُمْ بِهَذِهِ الْمَحَبَّةِ , وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ هُوَ مِنْ ذَلِكَ , وَهُمْ بَرَاءٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ إذْ لَمْ يَتَّبِعُوا مَا أَحَبَّهُ , بَلْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ , وَاَللَّهُ يَبْغُضُ الْكَافِرِينَ وَيَمْقُتُهُمْ , وَيَلْعَنُهُمْ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُ , لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُحِبٍّ لَهُ , بَلْ بِقَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَكُونُ حُبُّ اللَّهِ لَهُ ; وَإِنْ كَانَ جَزَاءُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَعْظَمَ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعَا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً * . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ , وَالْمُحْسِنِينَ وَالصَّابِرِينَ , وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ , وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ , بَلْ هُوَ يُحِبُّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ , كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ , وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ * الْحَدِيثَ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُخْطِئِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَشْيَاخًا فِي " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ " وَقَعُوا فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّصَارَى : مِنْ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مَعَ مُخَالَفَةِ شَرِيعَتِهِ , وَتَرْكِ الْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَيَتَمَسَّكُونَ فِي الدِّينِ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ بِنَحْوِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ النَّصَارَى مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ , وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ صِدْقُ قَائِلِهَا , وَلَوْ صَدَقَ لَمْ يَكُنْ قَائِلُهَا مَعْصُومًا , فَيَجْعَلُونَ مَتْبُوعِيهِمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا , كَمَا جَعَلَ النَّصَارَى قِسِّيسِيهِمْ وَرُهْبَانَهُمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا , ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَ الْعُبُودِيَّةَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْخَاصَّةَ يَتَعَدَّوْنَهَا كَمَا يَدَّعِي النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ , وَيُثْبِتُونَ لِلْخَاصَّةِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا تُثْبِتُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ يَطُولُ شَرْحُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا دِينُ الْحَقِّ هُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِكُلِّ وَجْهٍ , وَهُوَ تَحْقِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِكُلِّ دَرَجَةٍ وَبِقَدْرِ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ تَكْمُلُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ , وَتَكْمُلُ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ , وَبِقَدْرِ نَقْصِ هَذَا يَكُونُ نَقْصُ هَذَا ; وَكُلَّمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَتْ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ , وَكُلَّمَا كَانَ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ فِيهِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ , وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لَا تَكُونُ لِلَّهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ , وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ . فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ ,(1/351)
وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , وَهُوَ الْمَشْرُوعُ . فَكُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ , وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ , بَلْ لَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ : أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ , وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ . كَمَا قَالَ : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا * . فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ , وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ , وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ * وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ; فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ * . وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ , وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِهِ يَكُونُ تَحْقِيقُ الدِّينِ وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ , وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ , وَإِلَيْهِ دَعَا الرَّسُولُ , وَعَلَيْهِ جَاهَدَ ; وَبِهِ أَمَرَ , وَفِيهِ رَغِبَ ; وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ . وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النُّفُوسِ , وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . { وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ * وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ . كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ , وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ : أَلَا أُعَلِّمُك كَلِمَةً إذَا قُلْتَهَا نَجَوْتَ مِنْ دِقِّهِ وَجِلِّهِ ؟ قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ , وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ * . وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا , وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا , وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا . وَكَثِيرًا مَا يُخَالِطُ النُّفُوسَ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَ مَحَبَّتِهَا لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتَهَا لَهُ , وَإِخْلَاصَ دِينِهَا لَهُ . كَمَا قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ : يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ . قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ : وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ؟ قَالَ : حُبُّ الرِّئَاسَةِ , وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ * قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي فَسَادِ الدِّينِ لَا يَنْقُصُ عَنْ فَسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ , وَذَلِكَ بَيِّنٌ ; فَإِنَّ الدِّينَ السَّلِيمَ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذَا الْحِرْصُ , وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّمَهُ عَلَيْهِ , وَبِذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * . فَإِنَّ الْمُخْلِصَ لِلَّهِ ذَاقَ مِنْ حَلَاوَةِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ لِغَيْرِهِ , وَمِنْ حَلَاوَةِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ , إذْ لَيْسَ عِنْدَ الْقَلْبِ لَا أَحْلَى وَلَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ وَلَا أَلْيَنُ وَلَا أَنْعَمُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمِّنِ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ , وَمَحَبَّتَهُ لَهُ , وَإِخْلَاصَهُ الدِّينَ لَهُ , وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ فَيَصِيرُ الْقَلْبُ مُنِيبًا إلَى اللَّهِ خَائِفًا مِنْهُ رَاغِبًا رَاهِبًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ(1/352)
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * . إذْ الْمُحِبُّ يَخَافُ مِنْ زَوَالِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ مَرْغُوبِهِ , فَلَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَمُحِبَّهُ إلَّا بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ ; قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّك كَانَ مَحْذُورًا * . وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُخْلِصًا لَهُ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَيُحْيِي قَلْبَهُ , وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ , وَيَخَافُ مِنْ حُصُولِ ضِدِّ ذَلِكَ ; بِخِلَافِ الْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ , فَإِنَّهُ فِي طَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ مُطْلَقٍ , فَيَهْوَى مَا يَسْنَحُ لَهُ وَيَتَشَبَّثُ بِمَا يَهْوَاهُ , كَالْغُصْنِ أَيُّ نَسِيمٍ مَرَّ بِعِطْفِهِ أَمَالَهُ فَتَارَةً تَجْتَذِبُهُ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ ; فَيَبْقَى أَسِيرًا عَبْدًا لِمَنْ لَوْ اتَّخَذَهُ هُوَ عَبْدًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ عَيْبًا وَنَقْصًا وَذَمًّا . وَتَارَةً يَجْتَذِبُهُ الشَّرَفُ وَالرِّئَاسَةُ , فَتُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ وَيَسْتَعْبِدُهُ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ , وَيُعَادِي مَنْ يَذُمُّهُ وَلَوْ بِالْحَقِّ . وَتَارَةً يَسْتَعْبِدُهُمْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَعْبِدُ الْقُلُوبَ , وَالْقُلُوبُ تَهْوَاهَا فَيَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَتَّبِعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ قَدْ صَارَ قَلْبُهُ مُعْبِدًا لِرَبِّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , بِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ , وَيَكُونُ ذَلِيلًا لَهُ خَاضِعًا وَإِلَّا اسْتَعْبَدَتْهُ الْكَائِنَاتُ , وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قَلْبِهِ الشَّيَاطِينُ , وَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ , وَصَارَ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ , وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا حِيلَةَ فِيهِ ; فَالْقَلْبُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَنِيفًا مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ وَإِلَّا كَانَ مُشْرِكًا . قَالَ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَك لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * إلَى قَوْلِهِ : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إبْرَاهِيمَ وَآلَ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةً لِهَؤُلَاءِ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلَصِينَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ ; كَمَا جَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةَ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ أَهْوَاءَهُمْ . قَالَ تَعَالَى فِي إبْرَاهِيمَ : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ * . وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ * . وَلِهَذَا يَصِيرُ أَتْبَاعُ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا إلَى أَنْ لَا يُمَيِّزُوا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ . وَبَيْنَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ وَقَضَاهُ ; بَلْ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الشَّامِلَةِ . ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ , بَلْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ هَذَا وُجُودَ هَذَا , وَيَقُولُ مُحَقِّقُوهُمْ الشَّرِيعَةُ فِيهَا طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ . وَالْحَقِيقَةُ فِيهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا طَاعَةٍ ; وَالتَّحْقِيقُ لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ , وَهَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا تَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ مُوسَى وَمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ وَآلُ إبْرَاهِيمَ الْحُنَفَاءُ وَالْأَنْبِيَاءُ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ , وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ . وَأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ تَحْقِيقًا ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَطَاعَتُهُ لَهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ(1/353)
وَمَحَبَّةِ غَيْرِهِ وَطَاعَةِ غَيْرِهِ , وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الضَّالُّونَ يُسَوُّونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ . وَالْخَلِيلُ يَقُولُ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * وَيَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى . مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْفَنَاءِ " فَإِنَّ " الْفَنَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : نَوْعٌ لِلْكَامِلِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ; وَنَوْعٌ لِلْقَاصِدِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ; وَنَوْعٌ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ الْمُشَبِّهِينَ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ " بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ إلَّا اللَّهَ . وَلَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ , وَلَا يَطْلُبُ غَيْرَهُ ; وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي يَزِيدَ حَيْثُ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ إلَّا مَا يُرِيدُ . أَيْ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ ; وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَكَمَالُ الْعَبْدِ أَنْ لَا يُرِيدَ وَلَا يُحِبَّ وَلَا يَرْضَى إلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ , وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ ; وَلَا يُحِبُّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ : { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * , قَالُوا : هُوَ السَّلِيمُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ , أَوْ مِمَّا سِوَى عِبَادَةِ اللَّهِ , أَوْ مِمَّا سِوَى إرَادَةِ اللَّهِ , أَوْ مِمَّا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ , فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا الْمَعْنَى إنْ سُمِّيَ فَنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ هُوَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ . وَبَاطِنُ الدِّينِ وَظَاهِرُهُ . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي : فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى " . وَهَذَا يَحْصُلُ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ , فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ انْجِذَابِ قُلُوبِهِمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ أَنْ تَشْهَدَ غَيْرَ مَا تَعْبُدُ وَتَرَى غَيْرَ مَا تَقْصِدُ ; لَا يَخْطِرُ بِقُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ ; بَلْ وَلَا يَشْعُرُونَ ; كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا * قَالُوا : فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى . وَهَذَا كَثِيرٌ يَعْرِضُ لِمَنْ فَقَمَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ إمَّا حُبٌّ وَإِمَّا خَوْفٌ . وَإِمَّا رَجَاءٌ يَبْقَى قَلْبُهُ مُنْصَرِفًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَمَّا قَدْ أَحَبَّهُ أَوْ خَافَهُ أَوْ طَلَبَهُ ; بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي ذَلِكَ لَا يَشْعُرُ بِغَيْرِهِ . فَإِذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ هَذَا فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ , وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ , وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ , وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ , حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُعْبَدَةُ مِمَّنْ سِوَاهُ , وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزُلْ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى . وَالْمُرَادُ فَنَاؤُهَا فِي شُهُودِ الْعَبْدِ وَذِكْرِهِ , وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَنْ يُدْرِكَهَا أَوْ يَشْهَدَهَا . وَإِذَا قَوِيَ هَذَا ضَعُفَ الْمُحِبُّ حَتَّى اضْطَرَبَ فِي تَمْيِيزِهِ فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ , كَمَا يُذْكَرُ : أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى مُحِبُّهُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ , فَقَالَ : أَنَا وَقَعْتُ فَمَا أَوْقَعَكَ خَلْفِي قَالَ : غِبْتُ بِكَ عَنِّي , فَظَنَنْتَ أَنَّكَ أَنِّي . " وَهَذَا الْمَوْضِعُ " يَزِلُّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ اتِّحَادٌ , وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّحِدُ بِالْمَحْبُوبِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ وُجُودِهِمَا , وَهَذَا غَلَطٌ ; فَإِنَّ الْخَالِقَ لَا يَتَّحِدُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا , بَلْ لَا يَتَّحِدُ شَيْءٌ بِشَيْءٍ إلَّا إذَا اسْتَحَالَا وَفَسَدَا وَحَصَلَ مِنْ اتِّحَادِهِمَا أَمْرٌ ثَالِثٌ لَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا , كَمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ , وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلَكِنْ يَتَّحِدُ الْمُرَادُ وَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَيَتَّفِقَانِ فِي نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ , فَيُحِبُّ هَذَا مَا يُحِبُّ هَذَا . وَيَبْغُضُ هَذَا مَا يَبْغُضُ هَذَا , وَيَرْضَى مَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ(1/354)
, وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي وَهَذَا الْفَنَاءُ كُلُّهُ فِيهِ نَقْصٌ . وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ كَأَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ , وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ : لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْفَنَاءِ , فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مِمَّا فِيهِ غَيْبَةُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزُ لِمَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ ; فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنْ أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ . أَوْ يَحْصُلَ لَهُمْ غَشْيٌ أَوْ صَعْقٌ أَوْ سُكْرٌ أَوْ فَنَاءٌ أَوْ وَلَهٌ أَوْ جُنُونٌ . وَإِنَّمَا كَانَ مَبَادِئُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ , فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ : كَأَبِي جَهِيرٍ الضَّرِيرِ وَزُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ . وَكَذَلِكَ صَارَ فِي شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ مَا يَضْعُفُ مَعَهُ تَمْيِيزُهُ , حَتَّى يَقُولَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا إذَا صَحَا عَرَفَ أَنَّهُ غَالِطٌ فِيهِ , كَمَا يُحْكَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مِثْلِ أَبِي يَزِيدَ , وَأَبِي الْحَسَنِ الثَّوْرِيِّ , وَأَبِي بَكْرٍ الشِّبْلِيِّ , وَأَمْثَالِهِمْ . بِخِلَافِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ , وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ , وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ بَلْ وَبِخِلَافِ الْجُنَيْدِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ وَتَمْيِيزُهُمْ يَصْحَبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فَلَا يَقَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ , بَلْ الْكُمَّلُ تَكُونُ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِيهَا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ , وَعِنْدَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا يَشْهَدُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ , بَلْ يَشْهَدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ بَلْ مُسْتَجِيبَةً لَهُ قَانِتَةً لَهُ , فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى , وَيَكُونُ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مُؤَيِّدًا وَمُمِدًّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ , وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ لَهُ , وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ " الَّتِي دَعَا إلَيْهَا الْقُرْآنُ , وَقَامَ بِهَا أَهْلُ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ , وَالْكُمَّلُ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ . وَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم إمَامُ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُهُمْ ; وَلِهَذَا لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ وَعَايَنَ مَا هُنَالِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَأَوْحَى إلَيْهِ مَا أَوْحَى مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ أَصْبَحَ فِيهِمْ وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ , وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ , بِخِلَافِ مَا كَانَ يَظْهَرُ عَلَى مُوسَى مِنْ التَّغَشِّي - صلى الله عليه وسلم أَجْمَعِينَ .(1/355)
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْزَمَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ وَتَفَرَّقَتْ فِيهِ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْصِلَ النِّزَاعَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَإِلَّا اسْتَمْسَكَ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَأَعْرَضَ عَنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا فَإِنَّ مَوَاضِعَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ عَامَّتَهَا تَصْدُرُ عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى . وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِبَيَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَبَيَانُ مَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَلَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً بِحَسَبِ حَالِ السَّائِلِ بَعْدَ الْجَوَابِ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَمَنْعِهِمْ مِنْ الْخَوْضِ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ مِنْ أَعْظَمِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَالتَّفْصِيلُ الْمُخْتَصَرُ أَنْ نَقُولَ : مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأَوَّلِينَ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ لَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَمَنْ نَقَلَ قِدَمَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي النَّقْلِ أَوْ مُتَعَمِّدٌ لِلْكَذِبِ بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ تَبْدِيعُ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ . وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ أَخَصُّ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِهِ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً كَبِيرَةً مَبْسُوطَةً وَنَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِقَادِ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذْ ذَاكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مُعَارَضَةً لِمَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا وَبَدَّعَ مَنْ قَالَهُ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَوْتَ الْعَبْدِ قَدِيمٌ . وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْإِمَام وَغَيْرُهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَمَا عَلِمْت أَنَّ عَالِمًا يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا مَا يَبْلُغُنَا عَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ وَقَدْ مَيَّزَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْكَلَامِ وَالْمِدَادِ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * فَهَذَا خَطَأٌ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ وَأَنَّهُ مَتْلُوٌّ بِالْأَلْسُنِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسُنِ وَأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَكْتُوبٌ وَجَعَلَ ثُبُوتَ الْقُرْآنِ فِي الصُّدُورِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْمَصَاحِفِ مِثْلَ ثُبُوتِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَهَذَا أَيْضًا مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْأَعْيَانِ فِي الْمُصْحَفِ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْكَلَامِ فِيهَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ لَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ : مُرَتَّبَةً فِي الْأَعْيَانِ وَمُرَتَّبَةً فِي الْأَذْهَانِ وَمُرَتَّبَةً فِي اللِّسَانِ وَمُرَتَّبَةً فِي الْبَنَانِ فَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْعَيْنَ وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ وَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ . فَإِذَا قِيلَ إنَّ الْعَيْنَ فِي الْكِتَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ *(1/356)
فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي فِي الزُّبُرِ إنَّمَا هُوَ الْخَطُّ الْمُطَابِقُ لِلْعِلْمِ فَبَيْنَ الْأَعْيَانِ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ مَرْتَبَتَانِ وَهِيَ اللَّفْظُ وَالْخَطُّ وَأَمَّا الْكَلَامُ نَفْسُهُ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحِيفَةِ مَرْتَبَةٌ بَلْ نَفْسُ الْكَلَامِ يُجْعَلُ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْحَرْفِ الْمَلْفُوظِ وَالْحَرْفِ الْمَكْتُوبِ فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إلَّا إذَا أُرِيدَ أَنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ مِثْلُ قوله تعالى { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِك * إلَى قَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ * فَاَلَّذِي فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَخَبَرُهُ كَمَا فِيهَا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَخَبَرُهُ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِي الزُّبُرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الزُّبُرِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ فِي الزُّبُرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * وَقَالَ تَعَالَى : { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * فَمَنْ قَالَ إنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ فَقَدْ أَخْطَأَ , وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْمِدَادُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ أَخْطَأَ بَلْ الْقُرْآنُ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْكَلَامِ فِي الْوَرَقِ كَمَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ وَكَمَا هُوَ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ كُلَّ مَرْتَبَةٍ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا وَلَيْسَ وُجُودُ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ كَوُجُودِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ مِثْلُ وُجُودِ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ فِي مَحِلِّهِمَا حَتَّى يُقَالَ إنَّ صِفَةَ اللَّهِ حَلَّتْ بِغَيْرِهِ أَوْ فَارَقَتْهُ وَلَا وُجُودُهُ فِيهِ كَالدَّلِيلِ الْمَحْضِ مِثْلُ وُجُودِ الْعَالَمِ الدَّالِّ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى حَتَّى يُقَالَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مَا هُوَ عَلَامَةً عَلَى كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ هُوَ قِسْمٌ آخَرُ . وَمَنْ لَمْ يُعْطِ كُلَّ مَرْتَبَةٍ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِيهَا أَدَاةُ الظَّرْفِ حَقَّهَا فَيُفَرِّقَ بَيْنَ وُجُودِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ وَفِي الْمَكَانِ وَوُجُودِ الْعَرَضِ لِلْجِسْمِ وَوُجُودِ الصُّورَةِ بِالْمِرْآةِ وَيُفَرِّقَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ بِالْعَيْنِ يَقَظَةً وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ بِالْقَلْبِ يَقَظَةً وَمَنَامًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ وَكَذَلِكَ سُؤَالُ السَّائِلِ عَمَّا فِي الْمُصْحَفِ هَلْ هُوَ حَادِثٌ أَوْ قَدِيمٌ سُؤَالٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّ لَفْظَ الْقَدِيمِ أَوَّلًا لَيْسَ مَأْثُورًا عَنْ السَّلَفِ وَإِنَّمَا الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تُلِيَ وَحَيْثُ كُتِبَ وَهُوَ قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَكَلَامٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الصُّوَرُ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا وَيُكْتَبُ مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَمِدَادُهُمْ الْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ بَلَّغَهُ مُؤَدِّيًا فَإِذَا سَمِعْنَا مُحَدِّثَا يُحَدِّثُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ * قُلْنَا هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ لَا صَوْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ . وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لِمَا نَسْمَعُهُ مِنْ الْقَارِئِ وَنَرَى فِي الْمُصْحَفِ فَالْإِشَارَةُ إلَى الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الْبَلَاغُ مِنْ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ وَمِدَادِ الْكَاتِبِ فَمَنْ قَالَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَمِدَادُ الْكَاتِبِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَقَدْ أَخْطَأَ وَهَذَا الْفَرْقُ الَّذِي بَيَّنَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِمَنْ سَأَلَهُ . وَقَدْ قَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * فَقَالَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ نَعَمْ فَنَقَلَ السَّائِلُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي(1/357)
بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَدَعَا بِهِ وَزَبَرَهُ زَبْرًا شَدِيدًا وَطَلَبَ عُقُوبَتَهُ وَتَعْزِيرَهُ وَقَالَ أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ قُلْت لِي لَمَّا قَرَأْت { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ فَلِمَ تَنْقُلْ عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْهُ ؟ فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَالْإِشَارَةُ إلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ كُنَّا إنَّمَا سَمِعْنَاهَا بِبَلَاغِ الْمُبَلِّغِ وَحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ فَإِذَا أَشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ لَفْظُهُ أَوْ صَوْتُهُ أَوْ فِعْلُهُ وَقَالَ هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَدْ ضَلَّ وَأَخْطَأَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَالْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْكَلَامِ فِي الْمُصْحَفِ وَلَا يُقَالُ إنَّ شَيْئًا مِنْ الْمِدَادِ وَالْوَرَقِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بَلْ كُلُّ وَرَقٍ وَمِدَادٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَيُقَالُ أَيْضًا الْقُرْآنُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ .
-------------------
وفي كشف الأسرار (1):
وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اقْتَدُوا بِاَلَّذِينً مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ مِمَّا دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ الْعَمَلَ بِرَأْيِهِمْ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا احْتِمَالُ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِيهِمْ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّأْيِ وَقَدْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ وَلِاحْتِمَالِ فَضْلِ إصَابَتِهِمْ فِي نَفْسِ الرَّأْيِ فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ هُوَ النِّهَايَةَ فِي الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِيَكُونَ السُّنَّةُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا وَشِبْهِهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ الْقِيَاسُ بِأَقْوَى وُجُوهِهِ حُجَّةً وَهُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ بِأَثَرِهِ الثَّابِتِ شَرْعًا فَقَدْ ضَيَّعَ الشَّافِعِيُّ عَامَّةً وُجُوهَ السُّنَنِ ثُمَّ مَالَ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ الشَّبَهَ وَهُوَ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِإِضَافَةِ الْوُجُوبِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ إلَّا كَمَنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَعَمِلَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَجَعَلَ الِاحْتِيَاطَ مَدْرَجَةً إلَى الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ فَصَارَ الطَّرِيقُ الْمُتَنَاهِي فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعِهَا عَلَى الْكَمَالِ هُوَ طَرِيقَ أَصْحَابِنَا بِحَمْدِ اللَّهِ إلَيْهِمْ انْتَهَى الدِّينُ بِكَمَالِهِ وَبِفَتْوَاهُمْ قَامَ الشَّرْعُ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ بِخِصَالِهِ لَكِنَّهُ بَحْرٌ عَمِيقٌ لَا يَقْطَعُهُ كُلُّ سَانِحٍ وَالشُّرُوطُ كَثِيرَةٌ لَا يَجْمَعُهَا كُلُّ طَالِبٍ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ بَلَغَ غَيْرَ قَائِلِهِ فَسَكَتَ مُسَلِّمًا لَهُ , فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي أَقْوَالِهِمْ لَا يَعْدُوهُمْ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَسْقُطُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ بِالتَّعَارُضِ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ سَقَطَ احْتِمَالُ التَّوْقِيفِ وَتَعَيَّنَ وَجْهُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فَصَارَ تَعَارُضُ أَقْوَالِهِمْ كَتَعَارُضِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ , وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّرْجِيحَ فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِأَيِّهَا شَاءَ الْمُجْتَهِدُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَا غَيْرُ ثُمَّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالثَّانِي مِنْ بَعْدُ إلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ
__________
(1) - كشف الأسرار - (ج 6 / ص 94)(1/358)
قَوْلُهُ ( وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ ) أَيْ وَمَنْ قَالَ بِتَقْلِيدِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عليه السلام { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي * وَبِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّقْلِيدِ مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ أَيْ اخْتِصَاصِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ بِفَضَائِلَ مِمَّا دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ . وَكَلِمَةُ " مِنْ " فِي " مِمَّا " بَيَانٌ لِلِاخْتِصَاصِ وَفِي مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ بَيَانٌ بِمَا رُوِيَ يَعْنِي لِلتَّمَسُّكِ وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي رُوِيَتْ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِالْفَضَائِلِ الَّتِي تُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي وَرَضِيت لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ { * وَلِكُلِّ شَيْءٍ فَارِسٌ وَفَارِسُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ * { وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ * لَا الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُوجِبُ نَفْسَ الْفَضِيلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام { أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ بِلَالٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ , وَإِنَّ الْجَنَّةَ إلَى سَلْمَانَ أَشْوَقُ مِنْ سَلْمَانَ إلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى زُهْدِ عِيسَى فَلْيَنْظُرْ إلَى زُهْدِ أَبِي ذَرٍّ * وَأَمْثَالُهَا . قَوْلُهُ ( وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ ) احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا النَّصُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ * مَدَحَ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ التَّابِعُونَ لَهُمْ هَذَا الْمَدْحَ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعُ إلَى رَأْيِهِمْ دُونَ الرُّجُوعِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ , وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي قَوْلٍ وُجِدَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ خِلَافٌ , فَأَمَّا الَّذِي فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يَكُونُ مَوْضِعَ اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ , فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ بِاتِّبَاعِ الْبَعْضِ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ الْبَعْضِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَكَانَ النَّصُّ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ إذَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَعِ نَقْلًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ * اتَّبَعُوهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ وَقِيلَ : يَقْتَدُونَ بِأَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ وَلَا يَقْتَدُونَهُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَقِيلَ يَذْكُرُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَيَذْكُرُونَ مَحَاسِنَهُمْ . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ احْتِمَالَ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ ثَابِتٌ بَلْ الظَّاهِرُ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُفْتِي بِالْخَبَرِ , وَإِنَّمَا يُفْتِي بِالرَّأْيِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَيُشَاوِرُ مَعَ الْقُرَنَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ , فَإِذَا لَمْ يَجِدْ اشْتَغَلَ بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ أَيْ السَّمَاعُ أَصْلٌ فِيهِمْ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّأْيِ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَاحِبُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ فَكَانَ السَّمَاعُ أَصْلًا فِيهِمْ فَلَا يَجْعَلُ فَتْوَاهُمْ مُنْقَطِعَةً عَنْ السَّمَاعِ إلَّا بِدَلِيلٍ قَوْلُهُ ( وَكَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ مُبِينًا عَلَى السَّمَاعِ لَأَسْنَدَهُ إلَى النَّبِيِّ وَقَالَ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ التَّبْلِيغُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ مِنْ عَادَتِهِمْ كِتْمَانُ مَا بُلِّغَ إلَيْهِمْ وَلَمَّا لَمْ يُسْنِدْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَقَالَ : قَدْ ظَهَرَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ عِنْدَ الْفَتْوَى إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ(1/359)
يُوَافِقُ فَتْوَاهُمْ كَمَا كَانُوا يُسْنِدُونَهُ إلَى النَّبِيِّ عليه السلام وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْكِتْمَانِ إذْ الْوَاجِبُ بَيَانُ الْحُكْمِ عِنْدَ السُّؤَالِ لَا غَيْرُ إلَّا إذَا سُئِلَ عَنْ مُسْتَنَدِ الْحُكْمِ فح يَجِبُ الْإِسْنَادُ , وَإِذَا ثَبَتَ احْتِمَالُ السَّمَاعِ فِي قَوْلِهِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّأْيِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِهِ خَبَرٌ يُوَافِقُهُ وَيُقِرُّهُ فَكَانَ تَقْدِيمُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ عَلَى الرَّأْيِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ . وَالثَّانِي وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَلِاحْتِمَالِ فَضْلِ إصَابَتِهِمْ أَنَّ قَوْلَهُ : إنْ كَانَ صَادِرًا عَنْ الرَّأْيِ فَرَأْيُ الصَّحَابَةِ أَقْوَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا طَرِيقَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَشَاهَدُوا الْأَحْوَالَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا النُّصُوصُ وَالْمَحَالَّ الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِاعْتِبَارِهَا الْأَحْكَامُ وَلِأَنَّ لَهُمْ زِيَادَةَ جِدٍّ وَحِرْصٍ فِي بَذْلِ مَجْهُودِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِمَا هُوَ تَثْبِيتُ قِوَامِ الدِّينِ وَزِيَادَةَ احْتِيَاطٍ فِي حِفْظِ الْأَحَادِيثِ وَضَبْطِهَا وَطَلَبِهَا وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدَهُمْ غَايَةَ التَّأَمُّلِ وَفَضْلَ دَرَجَةٍ لَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ * . وَقَوْلِهِ { لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ * وَقَوْلِهِ عليه السلام { أَنَا أَمَانٌ لِأَصْحَابِي وَأَصْحَابِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي * إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَلِمِثْلِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ أَثَرٌ فِي إصَابَةِ الرَّأْيِ وَكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنْ الْخَطَأِ فَبِهَذِهِ الْمَعَانِي تَرَجَّحَ رَأْيُهُمْ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِمْ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الرَّأْيَيْنِ إذَا ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا نَوْعُ تَرْجِيحٍ وَجَبَ الْأَخْذُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ رَأْيِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ وَرَأْيِ الْوَاحِدِ مِنَّا يَجِبُ تَقْدِيمُ رَأْيِهِ عَلَى رَأْيِنَا لِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي رَأْيِهِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ جِهَةَ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ لَظَهَرَ لِاتِّحَادِ مَكَانِهِمْ وَطَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَمُشَاوَرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ قُرَنَائَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ صَاحِبِهِ خَبَرٌ يَمْنَعُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ , وَلَوْ ظَهَرَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لَوَصَلَ إلَيْنَا مِنْ جِهَةِ التَّابِعِينَ لِنَصْبِ أَنْفُسِهِمْ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِجْمَاعُ يَجِبُ الْعَمَلُ قَطْعًا , فَإِذَا تَرَجَّحَ جِهَةُ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِقِيَاسٍ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَبِمَا ذَكَرْنَا خُرِّجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ ; لِأَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَتْ الدَّلَائِلُ الْمُحْتَمَلَةُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ , فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَعَ احْتِمَالِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ فَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَذَلِكَ وَلَكِنَّ كَلَامَنَا وَقَعَ فِيمَا إذَا وُجِدَ مِنْ الصَّحَابِيِّ وَلَمْ يَظْهَرْ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا خِلَافُ غَيْرِهِ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ . , وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ لِمُسَاوَاتِهِ إيَّاهُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ لِوُجُودِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي مَرَّتْ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ , وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَمَمْنُوعٌ ; لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إذَا كَانَ عِنْدَ مُجْتَهِدٍ أَنَّ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الرَّأْيِ أَعْلَمُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ , فَإِنَّهُ يَدَعُ رَأْيَهُ لِرَأْيِ مَنْ عَرَفَ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي اجْتِهَادِهِ كَمَا أَنَّ الْعَامِّيَّ يَدَعُ رَأْيَهُ لِرَأْيِ(1/360)
الْمَعْنِيِّ الْمُجْتَهِدِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما الله لَا يَدَعُ الْمُجْتَهِدُ فِي زَمَانِنَا رَأْيَهُ لِرَأْيِ مَنْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ وَفِي مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ مِنَّا وَالْمُجْتَهِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالَةِ لَا يَخْفَى فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ فَهُمْ قَدْ شَاهَدُوا أَحْوَالَ مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَسَمِعُوا مِنْهُ , وَإِنَّمَا انْتَقَلَ ذَلِكَ إلَيْنَا بِخَبَرِهِمْ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ . , فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّ تَأْوِيلَ الصَّحَابِيِّ لِلنَّصِّ لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى تَأْوِيلِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ قُلْنَا : إنَّ التَّأْوِيلَ يَكُونُ بِالتَّأَمُّلِ فِي وُجُوهِ اللُّغَةِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ وَلَا مِزْيَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُ مِنْ مَعَانِي اللِّسَانِ فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ , فَإِنَّمَا يَكُونُ التَّأَمُّلُ فِي النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَلِأَجْلِهِ يَظْهَرُ لَهُمْ الْمِزْيَةُ بِمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الْخِطَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْ وَلَا يُقَالُ هَذِهِ أُمُورٌ بَاطِنَةٌ , وَإِنَّمَا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ بِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ مُسْتَقِيمٌ عِنْدَنَا وَلَكِنْ فِي مَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْبَاطِنِ فَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُمَا جَمِيعًا فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ اعْتِبَارَهُمَا يَتَقَدَّمُ عَلَى مُجَرَّدِ اعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَفِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ اعْتِبَارُهُمَا وَفِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ فَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى كَذَا قَرَّرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله . قَوْلُهُ ( فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ ) أَيْ إيجَابُ مُتَابَعَةِ الصَّحَابِيِّ وَتَقْلِيدِهِمْ أَوْ الطَّرِيقُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي بَابِ السُّنَّةِ مِنْ قَبُولِ الْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ رِوَايَةً وَالْمَعْرُوفِ وَالْمَجْهُولِ وَإِيجَابِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِيَكُونَ لِلسُّنَّةِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا مِنْ الْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ وَالْآحَادِ وَالْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ وَغَيْرِهَا وَشَبَهِهَا مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ الْقِيَاسُ أَيْ ثُمَّ يَكُونُ الْقِيَاسُ بِأَقْوَى وُجُوهِهِ وَهِيَ الْإِحَالَةُ وَالسُّنَّةُ وَالطَّرْدُ وَالْقِيَاسُ بِالْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ حُجَّةً بَعْدَ جَمِيعِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ وَشَبَهِهَا فَقَدْ ضَيَّعَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَامَّةَ وُجُوهِ السُّنَنِ , فَإِنَّهُ رَدَّ الْمَرَاسِيلَ مَعَ كَثْرَتِهَا وَلَمْ يَقْبَلْ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ مِنْ الْقُرُونِ الْأُولَى مَعَ شَهَادَةِ الرَّسُولِ عليه السلام لَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ وَفِيهِ تَعْطِيلُ كَثِيرٍ مِنْ السُّنَّةِ وَلَمْ يَرَ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ وَفِيهِ إعْرَاضٌ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةُ السَّمَاعِ لِإِضَافَةِ الْوُجُوبِ أَيْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إلَيْهِ كَمَنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ أَيْ لَمْ يُجَوِّزْ الْعَمَلَ بِهِ وَعَمِلَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ مِثْلُ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ الظَّاهِرِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ فَجَعَلَ أَيْ الشَّافِعِيُّ الِاحْتِيَاطَ , فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَرَاسِيلَ وَرِوَايَةَ الْمَجْهُولِ وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ احْتِيَاطًا مَدْرَجَةً أَيْ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً إلَى الْوُقُوعِ فِي الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَهُوَ قِيَاسُ الشَّبَهِ وَفِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ أَيْ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ شُبْهَةٌ فَفِي قِيَاسِ الشَّبَهِ أَوْلَى أَوْ جَعْلِهِ وَسِيلَةً إلَى الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَهُوَ نَفْسُ الْقِيَاسِ , وَإِنَّهُ مُظْهِرٌ وَلَيْسَ بِمُثْبِتٍ وَفِي أَصْلِهِ شَبَهٌ أَنَّهُ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَصْلِ السُّنَّةِ إنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِهَا قَامَ الشَّرْعُ بِخِصَالِهِ أَيْ مُلْتَبِسًا بِخِصَالِهِ وَهِيَ مَحَاسِنُهُ وَأَحْكَامُهُ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّكُمْ قَدَّمْتُمْ شُبْهَةَ السَّمَاعِ عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ أَوْجَبْتُمْ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ قَدَّمْتُمْ الْقِيَاسَ عَلَى حَقِيقَةِ السَّمَاعِ فِي حَدِيثِ(1/361)
الْمُصِرَّاتِ وَأَمْثَالِهِ مَعَ كَوْنِ الرَّاوِي مَعْرُوفًا بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالْعَدَالَةِ وَكَوْنِهِ مِنْ أَجَلِّ الصَّحَابَةِ , وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ , فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا الْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي رِوَايَةٍ يَجِبُ تَقْلِيدُ كُلِّ صَحَابِيٍّ وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ عَلَى الْقِيَاسِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجِبُ التَّقْلِيدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو الْحَسَنِ مَعَ جَمَاعَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ يَجِبُ تَقْلِيدُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله فِي شَرْحِ الْإِيمَانِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَلَكِنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَائِهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ وَفِي شَرْحِ الْبُيُوعِ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ إعْلَامِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ , وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَقَوْلُ الْفَقِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَفِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطٌ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَنَا وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ * أَهْلُ الْبَصَرِ مِنْهُمْ أَيْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَهُمْ الْفُقَهَاءُ , وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ فُقَهَاؤُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ انْدَفَعَ التَّنَاقُضُ فَكَانَ قَوْلُهُ عَلَى احْتِمَالِ السَّمَاعِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا إذَا رُوِيَ خَبَرٌ أَوْ عَلَى احْتِمَالِ عَدَمِهِ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا تَنَاقُضَ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا كَانَ مُقَدَّمًا فِيمَا إذَا كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ فَقِيهٍ إذَا انْسَدَّ بَابُ الرَّأْيِ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَهَاهُنَا لَمْ يَنْسَدَّ بِقَوْلِهِ بَابُ الرَّأْيِ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ أَنَّهُ قَالَهُ عَنْ رَأْيٍ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَوْ لَزِمَ مِنْهُ انْسِدَادُ بَابِ الرَّأْيِ لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا إلَيْهِ أَشَارَ شَيْخُنَا الْعَلَامَةُ مَوْلَانَا حَافِظُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ مَحَلَّ النِّزَاعِ فَقَالَ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ أَيْ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي كَذَا وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابِيِّ قَوْلٌ فِي حَادِثَةٍ لَمْ تَحْتَمِلْ الِاشْتِهَارَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ بِأَنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَقَعُ بِهَا الْبَلْوَى وَالْحَاجَةُ لِلْكُلِّ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ مَا اُشْتُهِرَ عَادَةً ثُمَّ ظَهَرَ نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّابِعِينَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي حَادِثَةٍ مِنْ حَقِّهَا الِاشْتِهَارُ لَا مَحَالَةَ وَلَا تَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ بِأَنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ وَالْبَلْوَى يَعُمُّ الْعَامَّةَ وَاشْتُهِرَ مِثْلُهَا فِيمَا بَيْنَ الْخَوَاصِّ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ فَهَذَا إجْمَاعٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي الْإِجْمَاعِ وَكَذَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَالْحَقُّ لَا يَعْدُو أَقَاوِيلَهُمْ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ . وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا وَرَدَ قَوْلٌ مِنْ صَحَابِيٍّ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ غَيْرِهِ تَسْلِيمٌ وَلَا إنْكَارٌ وَرَدٌّ إذْ لَوْ كَانَ وُرُودُهُ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ كَانَ حُجَّةً بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَلَوْ نُقِلَ مِنْ غَيْرِهِ تَسْلِيمٌ كَانَ إجْمَاعًا فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَلَوْ نُقِلَ مِنْ غَيْرِهِ رَدٌّ , وَإِنْكَارٌ كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّرْجِيحَ أَوْ الْعَمَلَ عِنْدَ تَعَذُّرِ(1/362)
التَّرْجِيحِ بِأَيِّهَا شَاءَ وَعَدَمُ جَوَازِ إحْدَاثِ قَوْلٍ آخَرَ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ أَيْ بِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ فَوَجَبَ نَقْضُ الْأَوَّلِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمٍ أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ كَانَ أُسْوَةً أَيْ مِثْلُ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ يُقَالُ : هُمْ أُسْوَةٌ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَيْ مُتَسَاوُونَ وَذُكِرَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الْأُسْوَةَ بِمَعْنَى التَّبَعِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ .
-------------------
وفي إعلام الموقعين(1) :
. فَصْلٌ فِي عَقْدِ [ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَصَاحِبِ حُجَّةٍ ]
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 307)(1/363)
ِفي عَقْدِ مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَيْنَ صَاحِبِ حُجَّةٍ مُنْقَادٍ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ . قَالَ الْمُقَلِّدُ : نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ مُمْتَثِلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا , وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَا يَعْلَمُ إلَى سُؤَالِ مَنْ يَعْلَمُ , فَقَالَ فِي { حَدِيثِ صَاحِبِ الشَّجَّةِ : أَلَا سَأَلُوا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا , إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ * . وَقَالَ أَبُو الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةِ مُسْتَأْجِرِهِ : " وَإِنَّى سَأَلْت أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ , وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ " فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ , وَهَذَا عَالِمُ الْأَرْضِ عُمَرُ قَدْ قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ , فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ : أَقْضِي فِيهَا , فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ , وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ , هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ , فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ , وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ : رَأْيُنَا لِرَأْيِك تَبَعٌ . وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ : كَانَ سِتَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُفْتُونَ النَّاسَ : ابْنُ مَسْعُودٍ , وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , وَعَلِيٌّ , وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ , وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ , وَأَبُو مُوسَى , وَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ يَدَعُونَ قَوْلَهُمْ لِقَوْلِ ثَلَاثَةٍ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ , وَكَانَ أَبُو مُوسَى يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ , وَكَانَ زَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ . وَقَالَ جُنْدُبٌ : مَا كُنْت أَدَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { : إنَّ مُعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً , فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا * فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ حَيْثُ أَخَّرَ فَصَلَّى مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ , وَكَانُوا يُصَلُّونَ مَا فَاتَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَ الْإِمَامِ . قَالَ الْمُقَلَّدُ : وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ - وَهُمْ الْعُلَمَاءُ , أَوْ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ - وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ , فَإِنَّهُ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَاعَةٌ تَخْتَصُّ بِهِمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ * وَتَقْلِيدُهُمْ اتِّبَاعٌ لَهُمْ , فَفَاعِلُهُ مِمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ * . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ , فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ , أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا , وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا , وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا , قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ , فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ , وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي * وَقَالَ : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ عَمَّارٍ , وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ * وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إلَى شُرَيْحٍ : أَنْ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ . وَقَدْ مَنَعَ عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ , وَأَلْزَمَ(1/364)
بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَتَبِعُوهُ أَيْضًا , وَاحْتَلَمَ مَرَّةً فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : خُذْ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِك , فَقَالَ : لَوْ فَعَلْتهَا صَارَتْ سُنَّةً . وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ : مَا اسْتَبَانَ لَك فَاعْمَلْ بِهِ , وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْك فَكِلْهُ إلَى عَالِمِهِ . وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ , وَهَذَا تَقْلِيدٌ لَهُمْ قَطْعًا ; إذْ قَوْلُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ * فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ , وَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُمْ لِلْعُلَمَاءِ .
[ طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ ] الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ (1):
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 358)(1/365)
قَوْلُكُمْ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ , وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ ; فَجَوَابُهُ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ قَدْ قِيلَ : هُمْ الْأُمَرَاءُ , وَقِيلَ : هُمْ الْعُلَمَاءُ , وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَالتَّحْقِيقُ , أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ الطَّائِفَتَيْنِ , وَطَاعَتُهُمْ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ , لَكِنْ خَفِيَ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُطَاعُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ إذَا أَمَرُوا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; فَكَانَ الْعُلَمَاءُ مُبَلِّغِينَ لِأَمْرِ الرَّسُولِ , وَالْأُمَرَاءُ مُنَفِّذِينَ لَهُ , فَحِينَئِذٍ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ تَبَعًا لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَأَيْنَ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمُ آرَاءِ الرِّجَالِ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِيثَارُ التَّقْلِيدِ عَلَيْهَا ؟ , الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ , وَأَعْظَمِهَا إبْطَالًا لِلتَّقْلِيدِ , وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ ; أَحَدُهَا : الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ , الثَّانِي : طَاعَةُ رَسُولِهِ , وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهَا لِأَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يُمْكِنْهُ تَحْقِيقُ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَلْبَتَّةَ ; الثَّالِثُ : أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ قَدْ نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَذَكَرْنَاهُ نَصًّا عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ , وَحِينَئِذٍ فَطَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً بَطَلَ التَّقْلِيدُ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً بَطَلَ الِاسْتِدْلَال , الرَّابِعُ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ * وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إبْطَالِ التَّقْلِيدِ , وَالْمَنْعِ مِنْ رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى رَأْيٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ تَقْلِيدٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا هِيَ طَاعَتُهُمْ الْمُخْتَصَّةُ بِهِمْ ; إذْ لَوْ كَانُوا إنَّمَا يُطَاعُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَتْ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَا لَهُمْ ؟ قِيلَ : وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ , وَطَاعَتُهُمْ إنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لَا اسْتِقْلَالٌ , وَلِهَذَا قَرَنَهَا بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَلَمْ يُعِدْ الْعَامِلَ , وَأَفْرَدَ طَاعَةَ الرَّسُولِ وَأَعَادَ الْعَامِلَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا يُطَاعُ تَبَعًا كَمَا يُطَاعُ أُولُو الْأَمْرِ تَبَعًا , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ طَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ اسْتِقْلَالًا , سَوَاءٌ كَانَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ . [ الثَّنَاءُ عَلَى التَّابِعِينَ , وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ تَابِعِينَ ] الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْلُهُمْ : إنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَثْنَى عَلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَتَقْلِيدُهُمْ هُوَ اتِّبَاعُهُمْ بِإِحْسَانٍ , فَمَا أَصْدَقَ الْمُقَدَّمَةَ الْأُولَى , وَمَا أَكْذَبَ الثَّانِيَةَ , بَلْ الْآيَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ رَدًّا عَلَى فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ ; فَإِنَّ اتِّبَاعَهُمْ هُوَ سُلُوكُ سَبِيلِهِمْ وَمِنْهَاجِهِمْ , وَقَدْ نَهَوْا عَنْ التَّقْلِيدِ وَكَوْنِ الرَّجُلِ إمَّعَةً , وَأَخْبَرُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ , وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ , وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ وَعَافَاهُمْ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ يَرُدُّ النُّصُوصَ لِآرَاءِ الرِّجَالِ وَتَقْلِيدُهَا ; فَهَذَا ضِدُّ مُتَابَعَتِهِمْ , وَهُوَ نَفْسُ مُخَالَفَتِهِمْ ; فَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ حَقًّا هُمْ أُولُو الْعِلْمِ وَالْبَصَائِرِ الَّذِينَ لَا يُقَدِّمُونَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا مَعْقُولًا وَلَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ , وَلَا يَجْعَلُونَ مَذْهَبَ أَحَدٍ عِيَارًا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ ; فَهَؤُلَاءِ(1/366)
أَتْبَاعُهُمْ حَقًّا , جَعَلْنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ . [ مَنْ هُمْ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ ] يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ لَوْ كَانُوا هُمْ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ هُمْ مُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَجَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أُولِي الْعِلْمِ لَكَانَ سَادَاتُ الْعُلَمَاءِ الدَّائِرُونَ مَعَ الْحُجَّةِ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ , وَالْجُهَّالُ أَسْعَدُ بِأَتْبَاعِهِمْ مِنْهُمْ , وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ , بَلْ مَنْ خَالَفَ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِلْحُجَّةِ فَهُوَ الْمُتَّبِعُ لَهُ , دُونَ مَنْ أَخَذَ قَوْلَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ , وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ رضي الله عنهم مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ الَّذِينَ يُنْزِلُونَ آرَاءَهُمْ مَنْزِلَةَ النُّصُوصِ , بَلْ يَتْرُكُونَ لَهَا النُّصُوصَ ; فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ , وَإِنَّمَا أَتْبَاعُهُمْ مَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَاقْتَفَى مِنْهَاجَهُمْ . وَلَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي تَدْرِيسِهِ بِمَدْرَسَةِ ابْنِ الْحَنْبَلِيِّ وَهِيَ وَقْفٌ عَلَى الْحَنَابِلَةِ , وَالْمُجْتَهِدُ لَيْسَ مِنْهُمْ , فَقَالَ : إنَّمَا أَتَنَاوَلُ مَا أَتَنَاوَلُهُ مِنْهَا عَلَى مَعْرِفَتِي بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ , لَا عَلَى تَقْلِيدِي لَهُ , وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ دُونَ أَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يُقَلِّدُونَهُمْ , فَأَتْبَعُ النَّاسِ لِمَالِكٍ ابْنُ وَهْبٍ وَطَبَقَتُهُ مِمَّنْ يُحَكِّمُ الْحُجَّةَ وَيَنْقَادُ لِلدَّلِيلِ أَيْنَ كَانَ , وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَتْبَعُ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ لَهُ مَعَ كَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِمَا لَهُ , وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَتْبَعُ لَهُ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ الْمَحْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ , وَعَلَى هَذَا فَالْوَقْفُ عَلَى أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ أَهْلِ الْحُجَّةِ وَالْعِلْمِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . [ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ ] . الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْلُهُمْ : يَكْفِي فِي صِحَّةِ التَّقْلِيدِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ : { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ * جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ وَمِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ الْجَزَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ , وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُفْرِحٍ حَدَّثَهُمْ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الصَّمُوتُ قَالَ : قَالَ لَنَا الْبَزَّارُ : وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ * فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ : فَكَيْفَ اسْتَجَزْتُمْ تَرْكَ تَقْلِيدِ النُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا وَقَلَّدْتُمْ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ بِمَرَاتِبَ كَثِيرَةٍ ; فَكَانَ تَقْلِيدُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ آثَرُ عِنْدَكُمْ مِنْ تَقْلِيدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ؟ فَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ خَالَفْتُمُوهُ صَرِيحًا , وَاسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِوَجْهٍ . الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا يُوجِبُ عَلَيْكُمْ تَقْلِيدَ مَنْ وَرَّثَ الْجَدَّ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْهُمْ وَمَنْ أَسْقَطَ الْإِخْوَةَ بِهِ مَعًا , وَتَقْلِيدَ مَنْ قَالَ : الْحَرَامُ يَمِينٌ , وَمَنْ قَالَ : هُوَ طَلَاقٌ , وَتَقْلِيدَ مَنْ حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَمَنْ أَبَاحَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ جَوَّزَ لِلصَّائِمِ أَكْلَ الْبَرَدِ وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ قَالَ : تَعْتَدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ , وَمَنْ قَالَ : بِوَضْعِ الْحَمْلِ , وَتَقْلِيدَ مَنْ قَالَ : يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِدَامَةُ الطِّيبِ , وَتَقْلِيدَ مَنْ أَبَاحَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ , وَتَقْلِيدَ مَنْ حَرَّمَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ(1/367)
أَوْجَبَ الْغُسْلَ مِنْ الْإِكْسَالِ وَتَقْلِيدَ مَنْ أَسْقَطَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ وَرَّثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَنْ أَسْقَطَهُمْ , وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى التَّحْرِيمَ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ مَنَعَ تَيَمُّمَ الْجُنُبِ وَمَنْ أَوْجَبَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَاحِدًا وَمَنْ رَآهُ ثَلَاثًا , وَتَقْلِيدَ مَنْ أَوْجَبَ فَسْخَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ أَبَاحَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَمَنْ مَنَعَ مِنْهَا , وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى النَّقْضَ بِمَسِّ الذَّكَرِ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ رَأَى بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا وَمَنْ لَمْ يَرَهُ , وَتَقْلِيدَ مَنْ وَقَفَ الْمُولِي عِنْدَ الْأَجَلِ وَمَنْ لَمْ يَقِفْهُ , وَأَضْعَافَ أَضْعَافَ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; فَإِنْ سَوَّغْتُمْ هَذَا فَلَا تَحْتَجُّوا لِقَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ وَمَذْهَبٍ عَلَى مَذْهَبٍ , بَلْ اجْعَلُوا الرَّجُلَ مُخَيَّرًا فِي الْأَخْذِ بِأَيِّ قَوْلٍ شَاءَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ , وَلَا تُنْكِرُوا عَلَى مَنْ خَالَفَ مَذْهَبَكُمْ وَاتَّبَعَ قَوْلَ أَحَدِهِمْ , وَإِنْ لَمْ تُسَوِّغُوهُ فَأَنْتُمْ أَوَّلُ مُبْطِلٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ , وَمُخَالِفٍ لَهُ , وَقَائِلٍ بِضِدِّ مُقْتَضَاهُ , وَهَذَا مِمَّا لَا انْفِكَاكَ لَكُمْ مِنْهُ . الرَّابِعُ : أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ , وَالْقَبُولُ مِنْ كُلِّ مَنْ دَعَا إلَيْهِمَا مِنْهُمْ ; فَإِنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ يُحَرِّمُ عَلَيْكُمْ التَّقْلِيدَ , وَيُوجِبُ الِاسْتِدْلَالَ وَتَحْكِيمَ الدَّلِيلِ , كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ رضي الله عنهم , وَحِينَئِذٍ فَالْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . [ الصَّحَابَةُ هُمْ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالِاسْتِنَانِ بِهِمْ ] الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْلُكُمْ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا مِنْكُمْ فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ , أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ , فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ مِنْ وُجُوهٍ : فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِنَانِ بِالْأَحْيَاءِ , وَأَنْتُمْ تُقَلِّدُونَ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ . الثَّانِي : أَنَّهُ عَيَّنَ الْمُسْتَنَّ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ وَأَبَرُّ الْأُمَّةِ وَأَعْلَمُهُمْ , وَهُمْ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم , وَأَنْتُمْ - مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ - لَا تَرَوْنَ تَقْلِيدَهُمْ وَلَا الِاسْتِنَانَ بِهِمْ , وَإِنَّمَا تَرَوْنَ تَقْلِيدَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ بِكَثِيرٍ . الثَّالِثُ : أَنَّ الِاسْتِنَانَ بِهِمْ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ , وَهُوَ بِأَنْ يَأْتِيَ الْمُقْتَدِي بِمِثْلِ مَا أَتَوْا بِهِ , وَيَفْعَلَ كَمَا فَعَلُوا , وَهَذَا يُبْطِلُ قَبُولَ قَوْلِ أَحَدٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ . الرَّابِعُ : أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَدْ صَحَّ عَنْهُ النَّهْيُ عَنْ التَّقْلِيدِ وَأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ إمَّعَةً لَا بَصِيرَةَ لَهُ ; فَعَلِمَ أَنَّ الِاسْتِنَانَ عِنْدَهُ غَيْرُ التَّقْلِيدِ . الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْلُكُمْ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { : عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمُهْدِيَيْنِ مِنْ بَعْدِي * وَقَالَ : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ * فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ حُجَجِنَا عَلَيْكُمْ فِي بُطْلَانِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ ; فَإِنَّهُ خِلَافُ سُنَّتِهِمْ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ السُّنَّةَ إذَا ظَهَرَتْ لِقَوْلِ غَيْرِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَهَا قَوْلٌ أَلْبَتَّةَ , وَطَرِيقَةُ فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ خِلَافُ ذَلِكَ . يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ سُنَّتَهُمْ بِسُنَّتِهِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ , وَالْأَخْذُ بِسُنَّتِهِمْ لَيْسَ تَقْلِيدًا لَهُمْ , بَلْ اتِّبَاعٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَذَانِ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا لِمَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ . وَالْأَخْذُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَ الْمَسْبُوقَ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيدًا لِمُعَاذٍ , بَلْ اتِّبَاعًا لَمَّا أُمِرْنَا بِالْأَخْذِ بِذَلِكَ , فَأَيْنَ التَّقْلِيدُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا ؟ يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ(1/368)
: أَنَّكُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ ; فَإِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ الْأَخْذَ بِسُنَّتِهِمْ وَلَا الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ وَاجِبًا , وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ عِنْدَكُمْ حُجَّةً , وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ غُلَاتِكُمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ , وَيَجِبُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ , فَمِنْ الْعَجَائِبِ احْتِجَاجُكُمْ بِشَيْءٍ أَنْتُمْ أَشَدُّ النَّاسِ خِلَافًا لَهُ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ : أَنَّ الْحَدِيثَ بِجُمْلَتِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , فَإِنَّهُ أَمَرَ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ بِسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ , وَأَمَرْتُمْ أَنْتُمْ بِرَأْيِ فُلَانٍ وَمَذْهَبِ فُلَانٍ . الثَّانِي : أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ , وَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْلِيدِ الَّذِي تُرِكَ لَهُ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَيُعْرَضُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مِعْيَارًا عَلَيْهِمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحْدَثَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي بَرَّأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقُرُونَ الَّتِي فَضَلَّهَا وَخَيَّرَهَا عَلَى غَيْرِهَا . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ أَحَدُهُمْ لِلْأُمَّةِ فَهُوَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا , فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِ فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ : لَيْسَتْ سُنَّتُهُمْ حُجَّةً , وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِيهَا ؟ .
-------------
[ الْأَدِلَّةُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ ](1)
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 4 / ص 440)(1/369)
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْ وُجُوهٍ , أَحَدُهَا : مَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ , وَهُوَ قوله تعالى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ , فَإِذَا قَالُوا قَوْلًا فَاتَّبَعَهُمْ مُتَّبِعٌ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ صِحَّتَهُ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لَهُمْ , فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا عَلَى ذَلِكَ , وَأَنْ يَسْتَحِقَّ الرِّضْوَانَ , وَلَوْ كَانَ اتِّبَاعُهُمْ تَقْلِيدًا مَحْضًا كَتَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُفْتِينَ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَنْ اتَّبَعَهُمْ الرِّضْوَانَ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا , فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ اتِّبَاعُهُمْ حِينَئِذٍ . فَإِنْ قِيلَ : اتِّبَاعُهُمْ هُوَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالُوا بِالدَّلِيلِ , وَهُوَ سُلُوكُ سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوا بِالِاجْتِهَادِ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ { بِإِحْسَانٍ * وَمَنْ قَلَّدَهُمْ لَمْ يَتَّبِعْهُمْ بِإِحْسَانٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُطْلَقُ الِاتِّبَاعِ مَحْمُودًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ بِإِحْسَانٍ أَوْ بِغَيْرِ إحْسَانٍ , وَأَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادُ بِهِ اتِّبَاعُهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ , وَقَوْلُهُ { بِإِحْسَانٍ * أَيْ بِالْتِزَامِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ , وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّ السَّابِقِينَ قَدْ وَجَبَ لَهُمْ الرِّضْوَانُ , وَإِنْ أَسَاءُوا ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ * , وَأَيْضًا فَالثَّنَاءُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ كُلَّهُمْ , وَذَلِكَ اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ , وَأَيْضًا فَالثَّنَاءُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ , وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِهِمْ , وَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ , أَوْ تَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ أُخْرَى . أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِيهِ . فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاجْتِهَادَ لِوُجُوهٍ , أَحَدُهَا : أَنَّ الِاتِّبَاعَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ { فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ * { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ * وَنَحْوُهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْقَائِلِ ; الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ اتِّبَاعَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ السَّابِقِينَ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ ; لِأَنَّ اتِّبَاعَ مُوجِبِ الدَّلِيلِ يَجِبُ أَنْ يَتَّبِعَ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ , فَمَنْ قَالَ قَوْلًا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَجَبَ مُوَافَقَتُهُ فِيهِ ; الثَّالِثُ : أَنَّهُ إمَّا أَنْ تَجُوزَ مُخَالَفَتُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ لَا تَجُوزُ , فَإِنْ لَمْ تَجُزْ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ , وَإِنْ جَازَتْ مُخَالَفَتُهُمْ فَقَدْ خُولِفُوا فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ وَاتَّبَعُوا فِي أَحْسَنِ الِاسْتِدْلَالِ , فَلَيْسَ جَعْلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُتْبِعًا لِمُوَافَقَتِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُخَالِفًا لِمُخَالَفَتِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ ; الرَّابِعُ : أَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الْحُكْمِ الَّذِي أَفْتَوْا بِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُمْ أَصْلًا , بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ مُجْتَهِدًا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَسْأَلَةٍ بَعْدَ اجْتِهَادٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ " اتَّبِعْهُ " , وَإِنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَنْ يُقَالَ اتَّبِعْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَوْ الِاجْتِهَادِ . الْخَامِسُ : أَنَّ الِاتِّبَاعَ افْتِعَالٌ مِنْ اتَّبَعَ , وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ تَابِعًا لِغَيْرِهِ نَوْعَ افْتِقَارٍ إلَيْهِ وَمَشْيٍ خَلْفَهُ , وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُسْتَدِلِّينَ لَيْسَ تَبَعًا لِلْآخَرِ وَلَا مُفْتَقِرًا إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَشْعِرَ مُوَافَقَتَهُ وَالِانْقِيَادَ لَهُ , وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ وَافَقَ رَجُلًا فِي اجْتِهَادِهِ أَوْ فَتْوَاهُ اتِّفَاقًا إنَّهُ مُتَّبِعٌ لَهُ .(1/370)
السَّادِسُ : أَنَّ الْآيَةَ قُصِدَ بِهَا مَدْحُ السَّابِقِينَ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ , وَبَيَانُ اسْتِحْقَاقِهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَئِمَّةً مَتْبُوعِينَ , وَبِتَقْدِيرِ أَلَّا يَكُونَ قَوْلُهُمْ مُوجِبًا لِلْمُوَافَقَةِ وَلَا مَانِعًا مِنْ الْمُخَالَفَةِ - بَلْ إنَّمَا يَتَّبِعُ الْقِيَاسَ مَثَلًا - لَا يَكُونُ لَهُمْ هَذَا الْمَنْصِبُ , وَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ ; السَّابِعُ : أَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ فَلَمْ يَتَّبِعْهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ وَلَا فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ فَلَا يَكُونُ مُتَّبِعًا لَهُمْ بِمُجَرَّدِ مُشَارَكَتِهِمْ فِي صِفَةٍ عَامَّةٍ , وَهِيَ مُطْلَقُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ , وَلَا سِيَّمَا وَتِلْكَ الصِّفَةُ الْعَامَّةُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِهِ ; لِأَنَّ مَا يَنْفِي الِاتِّبَاعَ أَخَصُّ مِمَّا يُثْبِتُهُ . وَإِذَا وُجِدَ الْفَارِقُ الْأَخَصُّ وَالْجَامِعُ الْأَعَمُّ - وَكِلَاهُمَا مُؤَثِّرٌ - كَانَ التَّفْرِيقُ رِعَايَةً لِلْفَارِقِ أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ رِعَايَةً لِلْجَامِعِ , وَأَمَّا قَوْلُهُ : { بِإِحْسَانٍ * فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ , وَافَقَ أَوْ خَالَفَ ; لِأَنَّهُ إذَا خَالَفَ لَمْ يَتَّبِعْهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ بِإِحْسَانٍ , وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ فِيهِ اتِّبَاعٌ لَهُمْ , لَكِنَّ الِاتِّبَاعَ لَهُمْ اسْمٌ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ وَافَقَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ , فَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّبِعُ مُحْسِنًا بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ ; لِئَلَّا يَقَعَ الِاغْتِرَارُ بِمُجَرَّدِ الْمُوَافَقَةِ قَوْلًا , وَأَيْضًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْسِنَ الْمُتَّبِعُ لَهُمْ الْقَوْلَ فِيهِمْ , وَلَا يَقْدَحُ فِيهِمْ , اشْتَرَطَ اللَّهُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِأَنْ سَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَنَالُونَ مِنْهُمْ . وَهَذَا مِثْلُ قوله تعالى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا * وَأَمَّا تَخْصِيصُ اتِّبَاعِهِمْ بِأُصُولِ الدِّينِ دُونَ فُرُوعِهِ فَلَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ عَامٌّ , وَلِأَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ فَقَطْ لَوْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَكُنَّا مُتَّبِعِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ اتِّبَاعِ السَّابِقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ " فُلَانٌ يَتَّبِعُ فُلَانًا , وَاتَّبِعْ فُلَانًا , وَأَنَا مُتَّبِعٌ فُلَانًا " , وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ وَلَا حَالِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اتِّبَاعَهُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَأَتَّى فِيهَا الِاتِّبَاعُ ; لِأَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُ فِي حَالٍ وَخَالَفَهُ فِي أُخْرَى لَمْ يَكُنْ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ أَوْلَى مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ ; وَلِأَنَّ الرِّضْوَانَ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِاتِّبَاعِهِمْ , فَيَكُونُ الِاتِّبَاعُ سَبَبًا لَهُ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِمَا هُوَ مُشْتَقٌّ يَقْتَضِي أَنَّ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ سَبَبٌ , وَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُهُمْ سَبَبًا لِلرِّضْوَانِ اقْتَضَى الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ , وَلَا اخْتِصَاصَ لِلِاتِّبَاعِ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ , وَلِأَنَّ الِاتِّبَاعَ يُؤْذِنُ بِكَوْنِ الْإِنْسَانِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَفَرْعًا عَلَيْهِ , وَأُصُولُ الدِّينِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلِأَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ وَجَعْلَهُمْ أَئِمَّةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ , فَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا اتِّبَاعَهُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ دُونَ الشَّرَائِعِ لَمْ يَكُونُوا أَئِمَّةً فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اتِّبَاعِهِمْ .(1/371)
فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ " إنَّ الثَّنَاءَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ كُلَّهُمْ " فَنَقُولُ (1): الْآيَةُ اقْتَضَتْ الثَّنَاءَ عَلَى مَنْ يَتَّبِعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ * يَقْتَضِي حُصُولَ الرِّضْوَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّابِقِينَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي قَوْلِهِ { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي * وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ { اتَّبَعُوهُمْ * لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَّقَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ , فَقَدْ تَنَاوَلَهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِأَسْمَاءٍ عَامَّةٍ ثُبُوتُهَا لِكُلِّ فَرَدٍّ فَرْدٌ مِنْ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ كَقَوْلِهِ { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ * وَقَوْلِهِ { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ * وقوله تعالى { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُعَلَّقَةَ عَلَى الْمَجْمُوعِ يُؤْتَى فِيهَا بِاسْمٍ يَتَنَاوَلُ الْمَجْمُوعَ دُونَ الْأَفْرَادِ كَقَوْلِهِ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا * وَقَوْلِهِ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ * وَ قَوْلِهِ { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنَّ لَفْظَ الْأُمَّةِ وَلَفْظَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُمْكِنُ تَوْزِيعُهُ عَلَى أَفْرَادِ الْأُمَّةِ , وَأَفْرَادِ الْمُؤْمِنِينَ , بِخِلَافِ لَفْظِ السَّابِقِينَ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ السَّابِقِينَ . وَأَيْضًا فَالْآيَةُ تَعُمُّ اتِّبَاعَهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ فِي كُلِّ مُمْكِنٍ ; فَمَنْ اتَّبَعَ جَمَاعَتَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا وَاتَّبَعَ آحَادَهُمْ فِيمَا وَجَدَ عَنْهُمْ مِمَّا لَمْ يُخَالِفْهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْهُمْ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتَّبَعَ السَّابِقِينَ , أَمَّا مَنْ خَالَفَ بَعْضَ السَّابِقِينَ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ " اتَّبَعَ السَّابِقِينَ " لِوُجُودِ مُخَالَفَتِهِ لِبَعْضِهِمْ , لَا سِيَّمَا إذَا خَالَفَ هَذَا مَرَّةً , وَهَذَا مَرَّةً , وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ اتِّبَاعِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا ; فَإِنَّ اتِّبَاعَهُمْ هُنَاكَ قَوْلُ بَعْضِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ بِاجْتِهَادٍ وَاسْتِدْلَالٍ , إذْ هُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى تَسْوِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ لِمَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ , فَقَدْ قَصَدَ اتِّبَاعَهُمْ أَيْضًا , أَمَّا إذَا قَالَ الرَّجُلُ قَوْلًا , وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ السَّابِقِينَ سَوَّغُوا خِلَافَ ذَلِكَ الْقَوْلِ , وَأَيْضًا فَالْآيَةُ تَقْتَضِي اتِّبَاعَهُمْ مُطْلَقًا . فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الطَّالِبَ وَقَفَ عَلَى نَصٍّ يُخَالِفُ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَوْ ظَفِرَ بِذَلِكَ النَّصِّ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ , أَمَّا إذَا رَأَيْنَا رَأْيًا فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ الرَّأْيِ , وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اتِّبَاعُهُمْ إلَّا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ اتِّبَاعُهُمْ إلَّا فِيمَا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالِاضْطِرَارِ ; لِأَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ خَلْقٌ عَظِيمٌ , وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا إلَّا عَلَى ذَلِكَ ; فَيَكُونُ هَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي قَبْلَهُ , وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ ; إذْ الِاتِّبَاعُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ , وَأَيْضًا فَجَمِيعُ السَّابِقِينَ قَدْ مَاتَ مِنْهُمْ أُنَاسٌ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى اتِّبَاعِهِمْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَوْ فَرَضْنَا أَحَدًا يَتَّبِعُهُمْ إذْ ذَاكَ لَكَانَ مِنْ السَّابِقِينَ , فَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّابِعِينَ لَا يُمْكِنُهُمْ اتِّبَاعُ جَمِيعِ السَّابِقِينَ , وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْرِفَةَ قَوْلِ جَمِيعِ السَّابِقِينَ كَالْمُتَعَذَّرِ , فَكَيْفَ يُتَّبَعُونَ كُلُّهُمْ فِي شَيْءٍ لَا يَكَادُ يُعْلَمُ ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ بِكَوْنِهِمْ هُمْ السَّابِقِينَ , وَهَذِهِ صِفَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ إمَامًا لِلْمُتَّقِينَ كَمَا اسْتَوْجَبَ الرِّضْوَانَ وَالْجَنَّةَ .
---------------
وفي التقرير والتحبير(2) :
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 4 / ص 444)
(2) - التقرير والتحبير - (ج 4 / ص 312)(1/372)
( مَسْأَلَةٌ أَلْحَقَ الرَّازِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبَرْدَعِيُّ و فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَأَتْبَاعُهُ ) وَالسَّرَخْسِيُّ وَأَبُو الْيُسْرِ وَالْمُتَأَخِّرُونَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ ( قَوْلَ الصَّحَابِيِّ ) الْمُجْتَهِدِ ( فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الرَّأْيُ بِالسُّنَّةِ ) لِغَيْرِ الصَّحَابِيِّ ( لَا لِمِثْلِهِ ) أَيْ صَحَابِيٍّ آخَرَ ( فَيَجِبُ ) عَلَى غَيْرِ الصَّحَابِيِّ ( تَقْلِيدُهُ ) أَيْ الصَّحَابِيِّ ( وَنَفَاهُ ) أَيْ إلْحَاقَ قَوْلِهِ بِالسُّنَّةِ ( الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ ) مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ ( كَالشَّافِعِيِّ ) فِي الْجَدِيدِ ( وَلَا خِلَافَ فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ ) أَيْ قَوْلِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ الرَّأْيُ ( بَيْنَهُمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْلِيدُهُ فِيهِ لِأَنَّهُ كَالْمَرْفُوعِ لِعَدَمِ إدْرَاكِهِ بِالرَّأْيِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَا حَكَاهُ السُّبْكِيُّ عَنْ وَالِدِهِ ( وَتَحْرِيرُهُ ) أَيْ مَحَلِّ النِّزَاعِ ( قَوْلُهُ ) أَيْ الصَّحَابِيِّ ( فِيمَا ) يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ لَكِنْ ( لَا يَلْزَمُهُ الشُّهْرَةُ ) بَيْنَ الصَّحَابَةِ لِكَوْنِهِ ( مِمَّا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ ) فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ثُمَّ ظَهَرَ نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّابِعِينَ ( وَمَا يَلْزَمُهُ ) الشُّهْرَةُ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَاشْتُهِرَ بَيْنَ الْخَوَاصِّ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ مِنْ غَيْرِهِ ( فَهُوَ إجْمَاعٌ كَالسُّكُوتِيِّ حُكْمًا لِشُهْرَتِهِ ) أَيْ بِسَبَبِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ( وَفِي اخْتِلَافِهِمْ ) أَيْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ ( التَّرْجِيحِ ) بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ لِأَحَدِ الْأَقَاوِيلِ إنْ أَمْكَنَ ( فَإِنْ تَعَذَّرَ ) التَّرْجِيحُ ( عُمِلَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ) بَعْدَ أَنْ يَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يَعْمَلَ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْآخَرِ بِلَا دَلِيلٍ ( لَا يُطْلَبُ تَارِيخٌ ) بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ لِيَجْعَلَ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ كَمَا يَفْعَلُ فِي النَّصَّيْنِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَتَحَاجُّوا بِالسَّمَاعِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ أَقْوَالُهُمْ عَنْ اجْتِهَادٍ لَا سَمَاعٍ فَكَانَا ( كَالْقِيَاسَيْنِ ) تَعَارَضَا ( بِلَا تَرْجِيحٍ ) لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ حَيْثُ يَكُونُ هَذَا حُكْمَهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو أَقْوَالَهُمْ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِالرَّأْيِ قَوْلًا خَارِجًا عَنْهَا ( وَاخْتَلَفَ عَمَلُ أَئِمَّتِهِمْ ) أَيْ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ تَقْلِيدُهُ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الرَّأْيُ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ عَنْهُمْ مَذْهَبٌ فِيهَا وَلَا يَثْبُتُ فِيهَا عَنْهُمْ رِوَايَةٌ ظَاهِرَةٌ ( فَلَمْ يَشْرِطَا ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ( إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ الْمُشَاهَدِ ) أَيْ تَسْمِيَةَ مِقْدَارِهِ إذَا كَانَ مُشَارًا إلَيْهِ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ ( قِيَاسًا ) عَلَى الْإِعْلَامِ بِالتَّسْمِيَةِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ التَّسْمِيَةِ وَالْإِعْلَامُ بِالتَّسْمِيَةِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا بِالْإِشَارَةِ وَقِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ بِهِ ( وَشَرَطَهُ ) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ الْمُشَاهَدِ فِي صِحَّتِهِ ( وَقَالَ بَلَغَنَا ) ذَلِكَ ( عَنْ ابْنِ عُمَرَ ) كَذَا فِي الْكَشْفِ وَفِي غَيْرِهِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ ( وَضَمَّنَا ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ( الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ) وَهُوَ مَنْ يَعْقِدُ عَلَى عَمَلِهِ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ الْعَمَلُ إذَا هَلَكَتْ ( فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالسَّرِقَةِ بِخِلَافِ ) مَا إذَا هَلَكَتْ بِالسَّبَبِ ( الْغَالِبِ ) وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ الْغَالِبَيْنِ وَالْغَارَةِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا ضَمَّنَّاهُ فِي الْأَوَّلِ ( بِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه ) رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الصَّبَّاغَ وَالصَّائِغَ وَيَقُولُ لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إلَّا ذَلِكَ ( وَنَفَاهُ ) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ تَضْمِينَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ( بِقِيَاسِ أَنَّهُ أَمِينٌ كَالْمُودَعِ ) وَالْأَجِيرُ الْوَاحِدُ وَهُوَ مَنْ يَعْقِدُ عَلَى(1/373)
مَنَافِعِهِ لِأَنَّ الضَّمَانَ نَوْعَانِ ضَمَانُ جَبْرٍ وَهُوَ يَجِبُ بِالتَّعَدِّي وَضَمَانُ الشَّرْطِ وَهُوَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ كِلَاهُمَا لِأَنَّ قَطْعَ يَدِ الْمَالِكِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ وَالْحِفْظُ لَا يَكُونُ جِنَايَةً فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ فَلَا يَضْمَنُ بِالْهَلَاكِ قُلْت وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ عَلِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ خِلَافُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِسَنَدِهِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُضَمِّنُ الْقَصَّارَ وَلَا الصَّائِغَ وَلَا الْحَائِكَ وَرَفَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ بِلَفْظِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا ضَمَانَ عَلَى قَصَّارٍ وَلَا صَبَّاغٍ وَلَا وَشَّاءٍ * فَلَا جَرَمَ أَنْ قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ الضَّمَانُ كَانَ مِنْ رَأْيِ عَلِيٍّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَأَخْرَجَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ شُرَيْحًا لَمْ يُضَمِّنْ أَجِيرًا قَطُّ قِيلَ وَكَانَ حُكْمُ شُرَيْحٍ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ( وَاتُّفِقَ فِيمَا لَا يُدْرِكُ رَأْيًا كَتَقْدِيرِ أَقَلِّ الْحَيْضِ ) بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ( بِمَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَأَنَسٍ ) رضي الله عنهم كَذَا فِي جَامِعِ الْأَسْرَارِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَمَّا رِوَايَتُهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَخْرَجَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَمَّا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ فَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا يُفِيدُ ذَلِكَ عَنْهُ وَأَمَّا عَنْ أَنَسٍ فَأَخْرَجَهَا الْكَرْخِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ قُلْت وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَكُونُ الْقَوْلُ بِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ بِالْمَرْفُوعِ فِي ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَمُعَاذٍ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَإِنْ كَانَ فِي طُرُقِهَا ضَعْفٌ فَإِنَّ تَعَدُّدَهَا يَرْفَعُهَا إلَى دَرَجَةِ الْحُسْنِ وَهُوَ صَنِيعُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشَايِخِ ثُمَّ فِي حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ نَظَرٌ فَإِنَّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَاللَّيْلَتَانِ اللَّتَانِ تَتَخَلَّلَانِهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ الثَّالِثِ ( وَفَسَادُ بَيْعِ مَا اشْتَرَى قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ ) لِأُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لَمَّا قَالَتْ لَهَا إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً وَاشْتَرَيْته بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا أَبْلِغِي زَيْدًا أَنْ قَدْ أَبْطَلْت جِهَادَك مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ تَتُوبَ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت وَبِئْسَ مَا شَرَيْت رَوَاهُ أَحْمَدُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي إسْنَادُهُ جَيِّدٌ ( لِمَا تَقَدَّمَ ) أَيْ لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُ رَأْيًا ( لِأَنَّ الْأَجْزِيَةَ ) عَلَى الْأَعْمَالِ إنَّمَا تُعْلَمُ ( بِالسَّمْعِ ) فَيَكُونُ لِهَذَا حُكْمُ الرَّفْعِ ( لِلنَّافِي ) إلْحَاقُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ بِالسُّنَّةِ ( يَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ ) الصَّحَابِيِّ ( الْمُجْتَهِدِ ) غَيْرَهُ ( وَهُوَ ) أَيْ الصَّحَابِيُّ ( كَغَيْرِهِ ) مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي احْتِمَالِ اجْتِهَادِهِ الْخَطَأَ لِانْتِفَاءِ الْعِصْمَةِ فَيَمْتَنِعُ تَقْلِيدُهُ ( الْمُوجِبُ ) لِتَقْلِيدِهِ ( مَنْعُ ) الْمُقَدِّمَةِ ( الثَّانِيَةِ ) وَهِيَ كَوْنُ الصَّحَابِيِّ الْمُجْتَهِدِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي احْتِمَالِ اجْتِهَادِهِ الْخَطَأَ ( بَلْ يَقْوَى فِيهِ ) أَيْ فِي قَوْلِهِ ( احْتِمَالُ السَّمَاعِ ) وَالظَّاهِرُ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ إفْتَاؤُهُ بِالْخَبَرِ لَا بِالرَّأْيِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بَعْدَ مُشَاوَرَةِ الْقُرَنَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ عَادَتِهِمْ سُكُوتُهُمْ عَنْ الْإِسْنَادِ عِنْدَ الْفَتْوَى إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ يُوَافِقُ فَتْوَاهُمْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ السُّؤَالِ بَيَانُ الْحُكْمِ لَا غَيْرُ ( وَلَوْ انْتَفَى ) السَّمَاعُ ( فَإِصَابَتُهُ ) الْحَقَّ ( أَقْرَبُ ) مِنْ غَيْرِهِ ( لِبَرَكَةِ الصُّحْبَةِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ الْأَحْوَالَ الْمُسْتَنْزِلَةَ لِلنُّصُوصِ وَالْمَحَالَّ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ ) الْأَحْكَامُ ( بِاعْتِبَارِهَا ) وَلَهُمْ زِيَادَةُ(1/374)
جِدٍّ وَحِرْصٍ فِي بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِمَا هُوَ سَبَبُ قِوَامِ الدِّينِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي حِفْظِ الْأَحَادِيثِ وَضَبْطِهَا وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدَهُمْ فِيهِ ( بِخِلَافِ غَيْرِهِ ) أَيْ الصَّحَابِيِّ قُلْت وَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى أَيْضًا فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَتَرْكُ رَأْيِهِ لِقَوْلِهِ وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى اجْتِهَادَ نَفْسِهِ ا هـ وَالْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةٌ فِي الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( فَصَارَ ) قَوْلُ الصَّحَابِيِّ ( كَالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَقَدْ يُفِيدُهُ عُمُومُ ) قوله تعالى { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ * مَدَحَ الصَّحَابَةَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ التَّابِعُونَ الْمَدْحَ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعِ إلَى رَأْيِهِمْ لَا إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي قَوْلٍ وُجِدَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ خِلَافٌ فَأَمَّا الَّذِي فِيهِ اخْتِلَافٌ فَلَا يَكُونُ مَوْضِعَ اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ بِاتِّبَاعِ الْبَعْضِ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ الْبَعْضِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَكَانَ النَّصُّ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ إذَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ كَذَا فِي الْمِيزَانِ ( وَالظَّاهِرُ ) مِنْ الْمَذْهَبِ ( فِي ) التَّابِعِيِّ ( الْمُجْتَهِدِ فِي عَصْرِهِمْ ) أَيْ الصَّحَابَةِ ( كَابْنِ الْمُسَيِّبِ ) وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ ( الْمَنْعُ ) مِنْ تَقْلِيدِهِ ( لِفَوْتِ الْمَنَاطِ الْمُسَاوِي ) لِلْمَنَاطِ فِي وُجُوبِ التَّقْلِيدِ لِلصَّحَابِيِّ وَهُوَ بَرَكَةُ الصُّحْبَةِ وَمُشَاهَدَةُ الْأُمُورِ الْمُثِيرَةِ لِلنُّصُوصِ وَالْمُفِيدَةِ لِإِطْلَاقِهَا حَتَّى ذَكَرُوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ إذَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ سَلَّمْنَا لَهُمْ وَإِذَا جَاءَ التَّابِعُونَ زَاحَمْنَاهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ لَا أُقَلِّدُهُمْ هُمْ رِجَالٌ اجْتَهَدُوا وَنَحْنُ رِجَالٌ نَجْتَهِدُ ( وَفِي النَّوَادِرِ نَعَمْ كَالصَّحَابِيِّ ) وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ حَافِظُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ ( وَالِاسْتِدْلَالُ ) لِذَلِكَ ( بِأَنَّهُمْ ) أَيْ الصَّحَابَةَ ( لَمَّا سَوَّغُوا لَهُ ) أَيْ لِلتَّابِعِيِّ الِاجْتِهَادَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى ( صَارَ مِثْلَهُمْ ) فَيَجُوزُ تَقْلِيدُهُ كَمَا فِي الصَّحَابِيِّ ( مَمْنُوعُ الْمُلَازَمَةِ لِأَنَّ التَّسْوِيغَ ) لِاجْتِهَادِهِ ( لِرُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ ) أَيْ لِحُصُولِهَا لَهُ ( لَا يُوجِبُ ذَلِكَ الْمَنَاطَ ) لِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ ( فَبِرَدِّ شُرَيْحٍ الْحَسَنَ عَلَى عَلِيٍّ ) أَيْ فَالِاسْتِدْلَالُ لِهَذَا بِمَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه تَحَاكَمَ إلَى شُرَيْحٍ فَخَالَفَ عَلِيًّا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ لَهُ لِلْقَرَابَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ عَلِيٌّ ( يَقْبَلُ الِابْنَ ) أَيْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ جَوَازُ شَهَادَةِ الِابْنِ لِأَبِيهِ ( وَمُخَالَفَةِ مَسْرُوقٍ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي إيجَابِ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فِي النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إلَى شَاةٍ ) قَالُوا وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ بَعْدَ ثُبُوتِ كُلٍّ مِنْهُمَا ( لَا يُفِيدُ ) الْمَطْلُوبَ لِأَنَّ خِلَافَهُمَا وَتَقْرِيرَهُمَا لِرُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الِارْتِفَاعَ إلَى رُتْبَةِ الصَّحَابِيِّ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ يَخُصُّهُ ( وَجَعَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْخِلَافَ ) فِي قَوْلِ التَّابِعِيِّ ( لَيْسَ إلَّا فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ ) إجْمَاعُهُمْ ( دُونَهُ أَوْ لَا ) يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِهِمْ ( فَعِنْدَنَا نَعَمْ ) يُعْتَدُّ بِهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَلَمْ يَعْتَبِرْ رِوَايَةَ النَّوَادِرِ وَقَالَ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى وَجْهٍ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
----------------
وفي فتاوى الرملي :(1/375)
( سُئِلَ ) هَلْ مَحَبَّةُ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ وَاجِبَةٌ أَمْ لَا ؟(1)
( فَأَجَابَ ) بِأَنَّ مَحَبَّتَهُمْ وَاجِبَةٌ إذْ يَجِبُ تَعْظِيمُهُمْ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَظَّمَهُمْ , وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ * وَقَوْلِهِ { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ * وَقَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا * وَقَوْلِهِ { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ * إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ قَدْرِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ , وَالرَّسُولُ قَدْ أَحَبَّهُمْ , وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ * وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُونَهُمْ غَرَضًا بِعِدَى مَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ * وَمِنْهَا قَوْلُهُ { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ * . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ { كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ فَسَبَّهُ خَالِدُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ إلَخْ * الْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ السَّابِّينَ نَزَّلَهُمْ لِسَبِّهِمْ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِمْ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِمْ حَيْثُ عُلِّلَ بِمَا ذَكَرَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْيَأْسُ مِنْ بُلُوغِ مَنْ بَعْدَهُمْ مَرْتَبَةَ أَحَدِهِمْ فِي الْفَضْلِ فَإِنَّ هَذَا الْمَفْرُوضَ مِنْ مِلْكِ الْإِنْسَانِ ذَهَبًا بِقَدْرِ أُحُدٍ مُحَالٌ فِي الْعَادَةِ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ , وَإِنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ لَمْ يَبْلُغْ الثَّوَابُ الْمُرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إذَا تَصَدَّقَ بِنِصْفِ مُدٍّ وَلَوْ مِنْ شَعِيرٍ وَذَلِكَ بِالتَّقْرِيبِ رُبُعُ قَدَحٍ بِالْكَيْلِ الْمِصْرِيِّ وَذَلِكَ إذَا طُحِنَ وَعُجِنَ لَا يَبْلُغُ رَغِيفًا عَلَى الْمُعْتَادِ وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَجِدْ فِي مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ شَيْئًا أَبْلَغَ مِنْهُ . ا هـ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْكُتُبِ الصِّحَاحِ .
=================
توبة الله تعالى على المهاجرين والأنصار
قال تعالى : { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* (117) سورة التوبة
قال الإمام القرطبي رحمه الله (2):
__________
(1) - فتاوى الرملي - (ج 6 / ص 87)
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 2555)(1/376)
روى الترمذي : حدّثنا عبد بن حميد حدّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري " عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال : لم أتخلف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بَدْراً ، ولم يعاتب النبيّ صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عن بدر ، إنما خرج يريد العِير فخرجت قريش مُغْوِثين لعِيرهم ، فالتقوا عن غير مَوعدٍ؛ كما قال الله تعالى؛ ولعمري إنّ أشرف مشاهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبَدْر ، وما أحبّ أني كنت شهدتُها مكان بيعتي ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، ثم لم أتخلف بعدُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى كانت غزوة تبوك ، وهي آخر غزوة غزاها ، وآذن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالرحيل؛ فذكر الحديث بطوله قال : فانطلقت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون ، وهو يستنير كاستنارة القمر ، وكان إذا سُرّ بالأمر استنار؛ فجئت فجلست بين يديه فقال : «أبشر يا كعب بن مالك بخير يومٍ أتى عليك منذ ولدتك أُمك» فقلت : يا نبيّ الله ، أمن عند الله أم من عندك؟ قال : «بل من عند الله ثم تلا هذه الآية { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة } حتى بلغ { إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } قال : وفينا أُنزلت أيضاً { اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } وذكر الحديث " وسيأتي بكماله من صحيح مسلم في قصة الثلاثة إن شاء الله تعالى .
واختلف العلماء في هذه التوبة التي تابها الله على النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار على أقوال؛ فقال ابن عباس : كانت التوبة على النبيّ صلى الله عليه وسلم لأجل إذنه للمنافقين في القعود؛ دليله قوله : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه . وقيل : توبة الله عليهم استنقاذهم من شدّة العسرة . وقيل : خلاصهم من نكاية العدوّ ، وعُبِّر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه ، وهو الرجوع إلى الحالة الأُولى . وقال أهل المعاني : إنما ذُكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوبة لأنه لما كان سبب توبتهم ذُكر معهم؛ كقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] .
قوله تعالى : { الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة } أي في وقت العسرة ، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرِد ساعة بعينها . وقيل : ساعة العسرة أشدّ الساعات التي مرت بهم في تلك الغزاة . والعسرة صعوبة الأمر . قال جابر : اجتمع عليهم عسرة الظَّهْر وعسرة الزاد وعسرة الماء . قال الحسن : كانت العسرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم ، وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير والإهالة المنتِنة ، وكان النَّفَر يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم ، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ، ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جُرْعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم ، فلا يبقى من التمرة إلا النواة؛ فمضَوْا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم .(1/377)
و " قال عمر رضي الله عنه وقد سئل عن ساعة العسرة : خرجنا في قيظ شديد فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش ، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصِر فَرَثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيراً فادع لنا . قال : «أتحب ذلك»؟ قال : نعم؛ فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء ثم سكبت فملئوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر " . " وروى أبو هريرة وأبو سعيد قالا : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأصاب الناسَ مجاعةٌ وقالوا : يا رسول الله ، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا . فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم «افعلوا» فجاء عمر وقال : يا رسول الله إن فعلوا قَلّ الظَّهر ، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة . قال : «نعم» ثم دعا بنطع فبُسط ، ثم دعا بفضل الأزواد؛ فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ، ويجيء الآخر بكف تمر ، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير . قال أبو هريرة؛ فحزَرته فإذا هو قدر رُبضة العنز؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة . ثم قال : «خذوا في أوعيتكم» فأخذوا في أوعيتهم حتى والذي لا إله إلا هو ما بقي في العسكر وعاء إلا ملأوه ، وأكل القوم حتى شبعوا؛ وفضلت فضلة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسولُ الله لا يَلْقَى اللَّهَ بهما عبدٌ غير شاكٍّ فيهما فيُحجب عن الجنة» " خرّجه مسلم في صحيحه بلفظه ومعناه ، والحمد لله . وقال ابن عرفة : سُمِّي جيشُ تبوك جيشَ العُسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَدَب الناس إلى الغزو في حَمَارة القيظ ، فغلُظ عليهم وعَسُر ، وكان إبّان ابتياع الثمرة . قال : وإنما ضُرب المثل بجيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغز قبله في عدد مثله؛ لأن أصحابه يوم بدر كانوا ثلثمائة وبضعة عشر ، ويوم أُحُد سبعمائة ، ويوم خيبر ألفاً وخمسمائة ، ويوم الفتح عشرة آلاف ، ويوم حُنين اثني عشر ألفاً؛ وكان جيشه في غزوة تبوك ثلاثين ألفاً وزيادة ، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب وأقام بتبوك شعبان وأياماً من رمضان ، وبَثّ سراياه وصالح أقواماً على الجزية . وفي هذه الغزاة خلّف عليّاً على المدينة فقال المنافقون : خلّفه بُغْضاً له؛ فخرج خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره ، فقال عليه السلام : " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " وبيّن أن قعوده بأمره عليه السلام يوازي في الأجر خروجه معه؛ لأن المدار على أمر الشارع . وإنما قيل لها : غزوة تبوك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى قوماً من أصحابه يَبُوكُون حِسْيَ تبوك ، أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء ، فقال : " ما زلتم تَبُوكُونها بَوْكاً " فسمّيت تلك الغزوة غزوة تبوك . الحسي ( بالكسر ) ما تنشّفه الأرض من الرمل ، فإذا صار إلى صلابة أمسكتْه ، فتحفر عنه الرملَ فتستخرجه؛ وهو الاحتساء؛ قاله الجوهري .
قوله تعالى : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } «قلوبُ» رفع ب «تزيغ» عند سيبويه . ويضمر في «كاد» الحديث تشبيهاً بكان؛ لأن الخبر يلزمها كما يلزم كان . وإن شئت رفعتها بكاد ، ويكون التقدير : من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ . وقرأ الأعمش وحمزة وحفص «يزيغ» بالياء ، وزعم أبو حاتم أن من قرأ «يزيغ» بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد . قال نحاس : والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع . حكى الفرّاء : رَحُب البلاد وأرحبت ، ورَحُبت لغة أهل الحجاز . واختلف في معنى تزيغ ، فقيل : تتلف بالجهد والمشقة والشدة . وقال ابن عباس : تعدل أي تميل عن الحق في الممانعة والنصرة .
وقيل : من بعد ما هَمّ فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحِقوا به . وقيل : هموا بالقُفُول فتاب الله عليهم وأمرهم به .
قوله تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } قيل : توبته عليهم أن تدارك قلوبَهم حتى لم تَزِغ ، وكذلك سُنّة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ، ووطّنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم . وينشد :
منك أرجو ولستُ أعرف رَبّاً ... يُرْتَجى منه بعضَ ما منك أرجو
وإذا اشتدّت الشدائد في الأر ... ض على الخلق فاستغاثوا وعجُّوا
وابتليت العباد بالخوف والجو ... ع وصَرُّوا على الذنوب ولَجُّوا
لم يكن لي سواك ربِّي ملاذ ... فتيقَّنت أنني بك أنْجو
وقال في حق الثلاثة : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } فقيل : معنى «ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ» أي وفقهم للتوبة ليتوبوا . وقيل : المعنى تاب عليهم؛ أي فسّح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا . وقيل : تاب عليهم ليثبتوا على التوبة . وقيل : المعنى تاب عليهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم . وبالجملة فلولا ما سبق لهم في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا؛ دليله قوله عليه السلام : " اعملوا فكلٌّ مُيَسَّر لما خلق له " .(1/378)
---------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله(1) :
قال مجاهد وغير واحد: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مُجدبة وحر شديد، وعسر من الزاد والماء.
قال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك في لَهَبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين (3) كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها، [ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها] (4) فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم.
وقال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جُبَير بن مطعم، عن عبد الله بن عباس؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عَطَش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع (5) [حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع] (6) حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله عز وجل، قد عَوّدك في الدعاء خيرا، فادع لنا. قال: "تحب ذلك". قال: نعم! فرفع يديه فلم
__________
(3) في أ: "رجلين".
(4) زيادة من أ.
(5) في ت: "ستقطع".
(6) زيادة من ت، ك، أ، والطبري.
يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت (1) ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. (2)
وقال ابن جرير في قوله: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } أي: من النفقة والظهر والزاد والماء، { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } (3) أي: عن الحق ويشك في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتاب، بالذي نالهم من المشقة والشدة في سفره وغزوه، { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } يقول: ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم، والرجوع إلى الثبات على دينه، { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
__________
(1) في ت، ك، أ: "فأهطلت".
(2) تفسير الطبري (14/541) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1707) "موارد" والحاكم في المستدرك (1/159) من طريق حرملة ابن يحيى، ورواه البزار في مسنده برقم (1841) "كشف الأستار" من طريق أصبغ بن الفرج كلاهما عن ابن وهب به نحوه، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". قال المؤلف ابن كثير في السيرة (4/16): "إسناد جيد، ولم يخرجوه من هذا الوجه".
(3) في أ: "يزيغ".
-------------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (2):
وتوبة اللّه على النبي - صلى الله عليه وسلم - تفهم بالرجوع إلى ما كان في أحداث الغزوة بجملتها ; والظاهر أنها متعلقة بما سبق أن قال اللّه عنه لنبيه:(عفا اللّه عنك . لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) . . ذلك حين استأذنه جماعة من أولي الطول بأعذار منتحلة فأذن لهم . وقد عفا اللّه عنه في اجتهاده صلى الله عليه وسلم - مع تنبيهه إلى أن الأولى كان هو التريث حتى يتبين الصادقين في أعذارهم من الكاذبين المتمحلين !
وتوبته على المهاجرين والأنصار يشير النص الذي بين أيدينا إلى ملابساتها في قوله تعالى: (الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) . .
وقد كان بعضهم تثاقل في الخروج ثم لحق بالركب كما سنفصل - وهم من خلص المؤمنين - وبعضهم استمع للمنافقين المرجفين بهول لقاء الروم ! ثم ثبت اللّه قلبه ومضى بعد تردد .
ويحسن أن نستعرض بعض ظروف الغزوة وملابساتها لنعيش في جوها الذي يقرر اللّه - سبحانه - أنه كان (ساعة العسرة) . ولندرك طبيعة الانفعالات والحركات التي صاحبتها [ ونحن نلخص في هذا من السيرة لابن هشام , ومن إمتاع الأسماع للمقريزي , ومن البداية والنهاية لابن كثير , ومن تفسير ابن كثير ]:
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 228)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 241)(1/379)
لما نزل قوله تعالى:(قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر , ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله , ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب , حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . .) أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم [ ويلاحظ أن الاشتباك بالروم كان قد سبق نزول هذه الآيات في غزوة مؤتة فهذا الأمر الأخير إنما جاء تقريراً للخطة الدائمة المستقرة في آخر ما نزل من القرآن ] وذلك في زمن عسرة من الناس , وشدة من الحر , وجدب من البلاء , وحين طابت الثمار , والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم , ويكرهون الشخوص على الحال والزمان الذي هم عليه . وكان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها , وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له [ أي يقصد إليه ] إلا ما كان من غزوة تبوك , فإنه بينها للناس , لبعد الشقة , وشدة الزمان , وكثرة العدو الذي يصمد له , ليتأهب الناس لذلك أهبته . فأمر الناس بالجهاز , وأخبرهم أنه يريد الروم
واستأذن بعض المنافقين رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في التخلف مخافة الفتنة ببنات الروم ! فأذن ! وفي هذا نزل عتاب اللّه لنبيه في الإذن مصدراً بالعفو عنه في اجتهاده:
(عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ?) . .
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض:لا تنفروا في الحر - زهادة في الجهاد , وشكاً في الحق , وإرجافاً برسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فأنزل اللّه تبارك وتعالى فيهم:
(وقالوا:لا تنفروا في الحر , قل:نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون , فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون) .
وبلغ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي , يثبطون الناس عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ; فبعث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - طلحة ابن عبيد اللّه في نفر من أصحابه , وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم , ففعل طلحة , فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله , واقتحم أصحابه فأفلتوا . ثم تاب الضحاك .
ثم إن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والإسراع . وحض أهل الغنى على النفقة وحمل المجاهدين الذين لا يجدون ما يركبون ; فحمل رجال من أهل الغنى محتسبين عند اللّه . وكان في مقدمة المنفقين المحتسبين , عثمان بن عفان - رضي اللّه عنه - فأنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها . . قال ابن هشام:فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار , فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:" اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض " . وقال عبد اللّه بن أحمد في مسند أبيه -بإسناده - عن عبد الرحمن بن حباب السلمي , قال:خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحث على جيش العسرة , فقال عثمان بن عفان:عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها . قال:ثم نزل مرقاة من المنبر , ثم حث , فقال عثمان:عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها . قال:فرأيت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول بيده هكذا يحركها [ وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب ]:" ما على عثمان ما عمل بعد هذا " . . [ وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي , عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به . وقال:غريب من هذا الوجه ] . ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به , وقال:ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها . .
وأخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير , ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة - بألفاظ مختلفة - قال:حث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة [ يعني في غزوة تبوك ] فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف [ أي درهم ] , فقال يا رسول اللّه , ما لي ثمانية آلاف , جئتك بنصفها وأمسكت نصفها . فقال:" بارك اللّه لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " . وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال:يا رسول اللّه أصبت صاعين من تمر , صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي . قال:فلمزه المنافقون , وقالوا:ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء . وقالوا ألم يكن اللّه ورسوله غنيين عن صاع هذا ?!
وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل [ وهو الذي بات يعمل عند يهودي ليحصل على صاعين أجرا له جاء بأحدهما لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ] إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه !
ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهم البكاءون . وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم , فاستحملوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - [ أي طلبوا منه أن يحملهم على ركائب إلى أرض المعركة ] , وكانوا أهل حاجة . فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه) . فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون .(1/380)
قال ابن إسحاق:فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد اللّه بن مغفل [ من السبعة البكائين ] وهما يبكيان فقال:ما يبكيكما ? قال:جئنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ليحملنا , فلم نجد عنده ما يحملنا عليه , وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه . فأعطاهما ناضحاً له [ أي جملاً يستقي عليه الماء ] فارتحلاه . وزودهما شيئاً من تمر , فخرجا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق:وأما علبة بن زيد [ أحد البكائين ] فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء اللّه , ثم بكى وقال:اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغّبت فيه , ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به , ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه , وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض . . ثم أصبح مع الناس . فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:" أين المتصدق هذه الليلة ? " فلم يقم أحد ! ثم قال:" أين المتصدق ? فليقم " فقام إليه فأخبره . فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:" أبشر , فوالذي نفسي بيده , لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة " . .
ثم خرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بمن معه وقد قارب عددهم ثلاثين ألفاً من أهل المدينة ومن قبائلالأعراب من حولها . وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب , منهم:كعب ابن مالك , ومرارة بن الربيع , وهلال بن أمية [ وهم الثلاثة الذين سيرد تفصيل قصتهم ] وأبو خيثمة وعمير بن وهب الجمحي . . وضرب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عسكره على "ثنية الوداع" وضرب عبد اللّه بن أبي - رأس النفاق - عسكره على حدة , أسفل منه , قال ابن إسحاق:[ وكانوا فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين ] . . ولكن الروايات الأخرى تقول:إن الذين تخلفوا فعلاً دون المائة . . فلما سار رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تخلف عنه عبد اللّه بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب .
ثم مضى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سائراً , فجعل يتخلف عنه الرجل , فيقولون:يا رسول اللّه , تخلف فلان , فيقول:" دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه تعالى بكم , وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه " حتى قيل:يا رسول اللّه , قد تخلف أبو ذر , وأبطأ به بعيره , فقال:" دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه اللّه بكم , وإن يك غير ذلك فقد أراحكم اللّه منه " . وتلوم أبو ذر على بعيره [ أي انتظر عليه ] , فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره , ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ماشياً . ونزل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - في بعض منازله , فنظر ناظر من المسلمين فقال:يا رسول اللّه , إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده . فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:" كن أبا ذر " فلما تأمله القوم قالوا:يا رسول اللّه , هو واللّه أبو ذر . فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:" رحم اللّه أبا ذر , يمشي وحده , ويموت وحده , ويبعث وحده "
ثم إن أبا خيثمة رجع - بعد أن سار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أياماً - إلى أهله في يوم حار , فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه [ أي في حديقته ] قد رشت كل واحدة منهما عريشها , وبردت له فيه ماء . وهيأت له فيه طعاماً . فلما دخل قام على باب العريش , فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له , فقال:رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في الضحَ [ أي الشمس ] والريح والحر , وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ?! ما هذا بالنصف ! ثم قال:واللّه لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فهيئا لي زاداً . ففعلتا . ثم قدم ناضحه فارتحله , ثم خرج في طلب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى أدركه حين نزل تبوك . . وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطلب يطلب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فترافقا , حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب:إن لي ذنباً فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ففعل . حتى إذا دنا من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو نازل بتبوك قال الناس:هذا راكب على الطريق مقبل . فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:" كن أبا خيثمة " . فقالوا:يا رسول اللّه , هو واللّه أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " أولى لك يا أبا خيثمة ! " . ثم أخبر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - الخبر . فقال له رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خيرا , ودعا له بخير(1/381)
قال ابن إسحاق:وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف , ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له:"مُخشن بن حُمير" [ قال ابن هشام:ويقال:مخشى ] يشيرون إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك , فقال بعضهم لبعض:أتحسبون جلاد بني الأصفر[ يعنون الروم ] كقتال العرب بعضهم بعضاً ? واللّه لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال . . إرجافاً وترهيباً للمؤمنين . . فقال مخشن بن حمير:واللّه لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة , وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه . وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر:" أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل:بلى قلتم كذا وكذا " . فانطلق إليهم عمار , فقال ذلك لهم , فأتوا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه , فقال وديعة بن ثابت , ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - واقف على ناقته , فجعل يقول وهو آخذ بحقبها [ وهو الحبل يشد على بطن البعير ] يا رسول اللّه , إنما كنا نخوض ونلعب . فأنزل اللّه عز وجل:(ولئن سألتهم ليقولن:إنما كنا نخوض ونلعب . قل:أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ?) وقال مخشن بن حمير:يا رسول اللّه , قعد بي اسمي واسم أبي ! وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير . فتسمى عبد الرحمن . وسأل اللّه تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة , فلم يوجد له أثر . .
قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال:لما قفل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم من تبوك - بعدما أقام بها بضع عشرة ليلة لم يلق فيها حرباً - هَمَّ جماعة من المنافقين بالفتك به , وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق , فأخبر بخبرهم , فأمر الناس بالمسير من الوادي , وصعد هو العقبة , وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا , وأمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه . عمار آخذ بزمام الناقة , وحذيفة يسوقها ; فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم , فغضب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأبصر حذيفة غضبه , فرجع إليهم ومعه محجن , فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه , فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد ظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم ; فأسرعوا حتى خالطوا الناس ; وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة , ووقفوا ينتظرون الناس . ثم قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة:" هل عرفت هؤلاء القوم ? " قال:ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم . ثم قال:" علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب ? " قالا:لا . فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه , وسماهم لهما , واستكتمهما ذلك , فقالا:يا رسول اللّه , أفلا تأمر بقتلهم ? فقال:" أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " . .
قال ابن كثير في البداية والنهاية:
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أعلم بأسمائهم حذيفة ابن اليمان وحده . وهذا هو الأشبه , واللّه أعلم . .
فأما العسرة التي لقيها المسلمون في الغزوة فقد وردت بعض الروايات بشواهد منها . . قال ابن كثير في التفسير:
قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية:(لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم , ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) . . في غزوة تبوك . وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر , في سنة مجدبة , وحر شديد , وعسر من الزاد والماء . . قال قتادة:خرجوا إلى الشام على تبوك في لهبان الحر , على ما يعلم اللّه من الجهد , فأصابهم فيها جهد شديدحتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما , وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها , ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها , فتاب اللّه عليهم وأقفلهم من غزوتهم .
وروى ابن جرير - بإسناده - إلى عبد اللّه بن عباس:أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة , فقال عمر بن الخطاب:خرجنا مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك , فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع , وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع , وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه , ويجعل ما بقي على كبده .
وقال ابن جرير في قوله: (لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) - أي من النفقة والظهر والزاد والماء - (من بعدما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) - أي عن الحق , ويشك في دين الرسول - صلى الله عليه وسلم ويرتاب للذي نالهم من المشقة ولشدة في سفرهم وغزوهم - (ثم تاب عليهم) يقول:ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه (إنه بهم رؤوف رحيم) . .(1/382)
ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت(العسرة) كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة ; يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية ; من اليقين الجاد عند طائفة . إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة . إلى القعود والتخلف - بغير ريبة - عند طائفة . إلى النفاق الناعم عند طائفة . إلى النفاق الفاجر عند طائفة . إلى النفاق المتآمر عند طائفة . .
مما يشي أولاً بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة ;
ويشي ثانياً بمشقة الغزوة - في مواجهة الروم ومع العسرة - هذه المشقة الممحصة . الممتحنة الكاشفة ; والتي لعل اللّه سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز .
-------------------
وقال الألوسي (1):
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبيِّ وَالمُهَاجرينَ وَالأَنْصَار } قال أصحاب المعاني المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً لهم وتعظيماً لقدرهم ، وهذا كما قالوا في ذكره تعالى في قوله سبحانه : { * } قال أصحاب المعاني المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً لهم وتعظيماً لقدرهم ، وهذا كما قالوا في ذكره تعالى في قوله سبحانه : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] الخ أي عفا سبحانه عن زلات سبقت منهم يوم أحد ويوم حنين ، وقيل : المراد ذكر التوبة عليه عليه الصلاة والسلام وعليهم ، والذنب بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم من باب خلاف الأولى نظراً إلى مقامه الجليل ، وفسر هنا على ما روي عن ابن عباس بالاذن للمنافقين في التخلف ، وبالنسبة إليهم رضي الله تعالى عنهم لا مانع من أن يكون حقيقياً إذ لا عصمة عندنا لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويفسر بما فسر أولا .
وجوز أيضاً أن يكون من باب خلاف الأولى بناء على ما قيل : إن ذنبهم كان الميل إلى العقود عن غزوة تبوك حيث وقعت في وقت شديد ، وقد تفسر التوبة بالبراءة عن الذنب والصون عنه مجازاً حيث أنه لا مؤاخذة في كل ، وظاهر الإطلاق الحقيقة ، وفي الآية ما لا يخفى من التحريض والبعث على التوبة للناس كلهم { الذين اتبعوه } ولم يتخلفوا عنه صلى الله عليه وسلم { فِى سَاعَةِ العسرة } أي في وقت الشدة والضيق ، والتعبير عنه بالساعة لزيادة تعيينه وكانت تلك الشدة حالهم في غزوة تبوك فإنهم كانوا في شدة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد وفي شدة من الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والاهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة أن قسم التمرة اثنان ، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء كما روي عن قتادة ، وفي شدة من الماء حتى تحروا الإبل واعتصروا فروثها كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وفي شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط ، ومن هنا قيل لتلك الغزوة غزوة العسرة ولجيشها جيش العسرة .
ووصف المهاجرين والأنصار بالاتباع في هذه الساعة للإشارة إلى أنهم حريون بأن يتوب الله عليهم لذلك وفيه أيضاً تأكيد لأمر التحريض السابق { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } بيان لتناهي الشدة وبلوغها الغاية القصوى وهو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا إلى التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا عن الثبات على الإيمان وحمل ذلك على مجرد الهم والوسوسة ، وقيل : كان ميلاً من ضعفائهم وحديثي عهدهم بالإسلام .
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 7 / ص 391)(1/383)
وفي { كَادَ } ضمير الشأن و { قُلُوبٍ } فاعل { يَزِيغُ } والجملة في موضع الخبر لكاد ولا تحتاج إلى رابط لكونها خبراً عن ضمير الشأن وهو المنقول عن سيبويه وإضمار الشأن على ما نقل عن الرضى ليس بمشهور في أفعال المقاربة إلا في كاد وفي الناقصة إلا في كان وليس ، وجوز أن يكون اسم كاد ضمير القوم والجملة في موضع الخبر أيضاً والرابط عليه الضمير في { مِنْهُمْ } وهذا على قراءة { يَزِيغُ } بالياء التحتانية وهي قراءة حمزة . وحفص . والأعمش وأما على قراءة { *تزيغ } بالتاء الفوقانية وهي قراءة الباقين فيحتمل أن يكون { على قُلُوبٍ } اسم كاد و { *تزيغ } خبرها وفيه ضمير يعود على اسمها ولا يصح هذا على القراءة الأولى لتذكير ضمير يزيغ ، وتأنيث ما يعود إليه وقد ذكر هذا الوجه منتخب الدين الهمداني . وأبو طالب المكي . وغيرهما . وتعقبه في الكشف بأن في جعل القلوب اسم كاد خلاف وضعه من جوب تقديم اسمه على خبره كما ذكره الشيخ ابن الحاجب في «شرح المفصل» وفي البحر أن تقديم خبر كاد على اسمها مبني على جواز تركيب كان يقوم زيد وفيه خلاف والأصح المنع . وأجاب بعض فضلاء الروم بأن أبا علي جوز ذلك وكفى به حجة ، وبأن عليه كلام ابن مالك في التسهيل وكذا كلام شراحه ومنهم أبو حيان وجرى عليه في ارتشافه أيضاً ، ولا يعبأ بمخالفته في البحر إذ مبني ذلك القياس على باب كان وهو لا يصادم النص عن أبي علي ، على أن في كون أبي حيان من أهل القياس منعاً ظاهراً فالحق الجواز ، ويحتمل أن يكون اسم كاد ضميراً يعود على جمع المهاجرين والأنصار أي من بعد ما كاد الجمع ، وقدر ابن عطية مرجع الضمير القوم أي من بعد ما كاد القوم . وضعف بأنه اضمر في كاد ضمير لا يعود إلا على متوهم ، وبأن خبرها يكون قد رفع سببياً وقد قالوا : إنه لا يرفع إلا ضميراً عائداً على اسمها وكذا خبر سائر اخواتها ما عدا عسى في رأي ، ولا يخفى ورود هذا أيضاً على توجيهي القراءة الأولى لكن الأمر على التوجيه الأول سهل . وجوز الرضى تخريج الآية على التنازع وهو ظاهر على القراءة الثانية ويتعين حينئذ أعمال الأول إذ لو أعمل الثاني لوجب أن يقال في الأول { إِن كَادَتْ } كما فرأ به الله تعالى عنه .
/ ولا يجوز كان إلا عند الكسائي فإنه يحذف الفاعل ، وكأن الرضى لم يبال بما لزم على هذا التخريج من تقديم خبر كاد على اسمه لما عرفت من أنه ليس بمحذور على ما هو الحق . وذهب أبو حيان إلى أن { كَادَ } زائدة ومعناها مراد ككان ولا عمل لها في اسم ولا خبر ليخلص من القيل والقال ، ويؤيده قراءة ابن مسعود { مّن بَعْدِ مَا * زَاغَتِ } بإسقاط كاد ، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في نحو { لم يكد } [ النور : 40 ] مع أنها عاملة معمولة فهذا أولى .
وقرأ الأعمش { *تزيغ } بضم التاء ، وجعلوا الضمير على قراءة ابن مسعود للمتخلفين سواء كانوا من المنافقين أم لا كأبي لبابة { مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } تكرير للتأكيد بناء على أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم ، والتأكيد يجوز عطفه بثم كما صرح به النحاة وإن كان كلام أهل المعاني يخالفه ظاهراً ، وفيه تنبيه على أن توبته سبحانه في مقابلة ما قاسوه من الشدائد كما دل عليه التعليق بالموصول ، ويحتمل أن يكون الضمير للفريق ، والمراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم وقربهم من الزيغ لأنه جرم محتاج إلى التوبة عليه فلا تكرار لما سبق ، وقوله : { إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ } استئناف تعليلي فإن صفة الرأفة والرحمة من دواعي التوبة والعفو ، وجوز كون الأول عبارة عن إزالة الضرر والثاني عن إيصال النفع ، وأن يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق
-----------------
وقال الرازي(1) :
اعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك وبين أحوال المتخلفين عنها ، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه في هذا التفسير ، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها . ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نوع زلة جارية مجرى ترك الأولى ، وصدر أيضاً عن المؤمنين نوع زلة ، فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات . فقال : { لَقَدْ تَابَ اللهُ على النبى } وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : دلت الأخبار على أن هذا السفر كان شاقاً شديداً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين ، على ما سيجيء شرحها ، وهذا يوجب الثناء ، فكيف يليق بها قوله : { لَقَدْ تَابَ اللهُ على النبى والمهاجرين } .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 8 / ص 170)(1/384)
والجواب من وجوه : الأول : أنه صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء من باب ترك الأفضل ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] وأيضاً لما اشتد الزمان في هذه الغزوة على المؤمنين على ما سيجيء شرحها ، فربما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلك السفرة ، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار . ولست أقول عزموا عليه ، بل أقول وساوس كانت تقع في قلوبهم ، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها . فقال : { لَقَدْ تَابَ الله على النبى والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه } .
والوجه الثاني : في الجواب أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات ، إما من باب الصغائر ، وإما من باب ترك الأفضل . ثم إن النبي عليه السلام وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه ، وصبروا على تلك الشدائد والمحن ، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفراً لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر ، وصار قائماً مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها . فلهذا السبب قال تعالى : { لَقَدْ تَابَ اللهُ على النبى } الآية .
والوجه الثالث : في الجواب : أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر ، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم ، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها ، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه ، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم ، قال تعالى : { لَقَدْ تَابَ اللهُ على النبى } الآية .
والوجه الرابع : لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي ، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدين . وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ، ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة .
المسألة الثانية : في المراد بساعة العسرة قولان :
القول الأول : أنها مختصة بغزوة تبوك ، والمراد منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جداً في ذلك السفر والعسرة تعذر الأمر وصعوبته . قال جابر : حصلت عسرة الظهر وعسرة الماء وعسرة الزاد . أما عسرة الظهر : فقال الحسن : كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم ، وأما عسرة الزاد ، فربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة ، وكان معهم شيء من شعير مسوس ، فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة . وأما عسرة الماء : فقال عمر : خرجنا في قيظ شديد وأصابنا فيه عطش شديد ، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه .
واعلم أن هذه الغزوة تسمى غزوة العسرة ، ومن خرج فيها فهو جيش العسرة . وجهزهم عثمان وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم .
والقول الثاني : قال أبو مسلم : يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول وعلى المؤمنين ، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها . وقد ذكر الله تعالى بعضها في كتابه كقوله تعالى : { وَإِذَا زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] وقوله : { لَقَدِ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } [ آل عمران : 152 ] الآية ، والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه السلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة ، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم .
ثم قال تعالى : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } وفيه مباحث :
البحث الأول : فاعل { كَادَ } يجوز أن يكون { قُلُوبُ } والتقدير : كاد قلوب فريق منهم تزيغ ، ويجوز أن يكون فيه ضمير الأمر والشأن ، والفعل والفاعل تفسير للأمر والشأن ، والمعنى : كادوا لا يثبتون على اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة لشدة العسرة .
البحث الثاني : قرأ حمزة وحفص عن عاصم { يَزِيغُ } بالياء لتقدم الفعل ، والباقون بالتاء لتأنيث قلوب ، وفي قراءة عبد الله { مّن بَعْدِ مَا زَاغَتِ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } .
البحث الثالث : { كَادَ } عند بعضهم تفيد المقاربة فقط ، وعند آخرين تفيد المقارية مع عدم الوقوع ، فهذه التوبة المذكورة توبة عن تلك المقاربة ، واختلفوا في ذلك الذي وقع في قلوبهم . فقيل : هم بعضهم عند تلك الشدة العظيمة أن يفارق الرسول ، لكنه صبر واحتسب . فلذلك قال تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر اليسير . وقال الآخرون بل كان ذلك لحديث النفس الذي يكون مقدمة العزيمة ، فلما نالتهم الشدة وقع ذلك في قلوبهم ومع ذلك تلافوا هذا اليسير خوفاً منه أن يكون معصية . فلذلك قال تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } . فإن قيل : ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها فما الفائدة في التكرار؟
قلنا : فيه وجوه :(1/385)
الوجه الأول : أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييباً لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب ثم أردفه مرة أخرى بذكر التوبة ، والمقصود منه تعظيم شأنهم .
والوجه الثاني : أنه إذا قيل : عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه ، دل ذلك على أن ذلك العفو عفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة ، قال عليه الصلاة والسلام : « إن الله ليغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة » وهذا معنى قول ابن عباس في قوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } يريد ازداد عنهم رضا .
والوجه الثالث : أنه قال : { لَقَدْ تَابَ الله على النبى والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِى سَاعَةِ العسرة } وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة ، ثم إنه تعالى زاد عليه فقال : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية ، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلا يبقى في خاطر أحدهم شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس .
ثم قال تعالى : { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وهما صفتان لله تعالى ومعناهما متقارب ، ويشبه أن تكون الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضر ، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة . وقيل : إحداهما للرحمة السالفة ، والأخرى للمستقبلة .
-----------
وقال السعدي (1):
يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه تَابَ عَلَى النَّبِيِّ محمد صلى الله عليه وسلم { وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ } فغفر لهم الزلات، ووفر لهم الحسنات، ورقاهم إلى أعلى الدرجات، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقات، ولهذا قال: { الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في وقعة "تبوك" (1) وكانت في حر شديد، وضيق من الزاد والركوب، وكثرة عدو، مما يدعو إلى التخلف.
فاستعانوا اللّه تعالى، وقاموا بذلك { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } أي: تنقلب قلوبهم، ويميلوا إلى الدعة والسكون، ولكن اللّه ثبتهم وأيدهم وقواهم. وزَيْغُ القلب هو انحرافه عن الصراط المستقيم، فإن كان الانحراف في أصل الدين، كان كفرا، وإن كان في شرائعه، كان بحسب تلك الشريعة، التي زاغ عنها، إما قصر عن فعلها، أو فعلها على غير الوجه الشرعي.
وقوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } أي: قبل توبتهم { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } ومن رأفته ورحمته أن مَنَّ عليهم بالتوبة، وقبلها منهم وثبتهم عليها.
-------------
وفي التفسير الوسيط (2):
قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما استقصى فى شرح أحوال غزوة تبوك ، وبين أحوال المتخلفين عنها ، وأطال القول فى ذلك على الترتيب الذى لخصناه فيما سبق ، عاد فى هذه الآية إلى شرح ما بقى من أحكامها ، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجرى مجرى ترك الأولى ، وصدر عن المؤمنين كذلك نوع زلة ، فذكر - سبحانه - أنه تفضل عليهم ، وتاب عليهم ، فى تلك الزلات ، فقال - تعالى - : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار } .
وللعلماء أقوال فى المراد بالتوبة التى تابها الله على النبى - صلى الله عليه وسلم - وعلى المهاجرين والأنصار : فمنهم من يرى أن المرد بها قبول توبتهم ، وغفران ذنوبهم ، والتجاوز عن زلاتهم التى حدثت منهم فى تلك الغزوة أو فى غيرها ، وإلى هذا المعنى أشارة القرطبى بقوله :
قال ابن عباس : كانت التوبة على النبى - صلى الله عليه وسلم - لأجل أنه أذن للمنافقين فى القعود ، بدليل قوله - سبحانه - قبل ذلك : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ . . . } وكانت توبته على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه - أى : إلى التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك .
ومنهم من يرى أن المقصود بذكر التوبة هنا التنويه بفضلها ، والحض على تجديدها ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال : { تَابَ الله على النبي } كقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وكقوله : { واستغفر لِذَنبِكَ } وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبى والمهاجرين والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح . .
ومنهم من يرى أن المراد بالتوبة هنا : دوامها لا أصلها ، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله : لقد تاب الله على النبى . . " أى : أدام توبته على النبى والمهاجرين والأنصار . وهذا جواب عما يقال : من أن النبى معصوم من الذبن ، وأن المهاجرين والأنصار لم يفعلوا ذنبا فى هذه القضية ، بل اتبعوه من غير تلعثم ، قلنا : المراد بالتوبة فى حق الجميع دوامها لا أصلها . . " .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 354)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2056)(1/386)
ومنهم من يرى أن ذكر النبى هنا إنما هو من باب التشريف ، والمراد قبول توبة المهاجرين والأنصار فيما صدر عن بعضهم من زلات . وقد وضح هذا المعنى الإِمام الآلوسى فقال : قال أصحاب المعانى : المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار ، إلا أنه جئ فى ذلك بالنبى - صلى الله عليه وسلم - تشريفا لهم ، وتعظيما لقدرهم ، وهذا كما قالوا فى ذكره - تعالى - فى قوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية أى : عفا - سبحانه - عن زلات صدرت منهم يوم أحد ويوم حنين . .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب الآراء إلى الصواب ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان فضل الله - تعالى - على رسوله وعلى المؤمنين ، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت فى هذه الغزوة وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ، وبمقتضى الاجتهاد فى أمور لم يبين الله - تعالى - حكمه فيها ، فهى لا تنقص من منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا من منزلة أصحابه الصادقين فى إيمانهم .
والمعنى : لقد تقبل الله - تعالى - توبة النبى - صلى الله عليه وسلم - كما تقبل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار ، الذين اتبعوه عن طواعية واختيار وإخلاص فى ساعة العسرة . أى فى وقت الشدة والضيق ، وهو وقت غزوة تبوك ، فالمراد بالساعة هنا مطلق الوقت .
وقد كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة ، كما كان الجيش الذى اشترك فيها يسمى بجيش العسرة ، وذلك لأن المؤمنين خرجوا إليها فى مجدبة ، وحر شديد ، وفقر فى الزاد والماء والراحلة .
قال ابن كثير : قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية فى غزة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها فى شدة من الأمر ، فى سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر فى الزاد والماء .
وقال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك فى لهبان الحر - أى شدته - على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم تعب شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما .
وقال الحسن : كان العشرة منهم يعتقبون بعيرا واحداً . يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك ، وكان النفر منهم يخرجون وليس معهم إلا التمرات اليسيرة فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ، ثم يشر عليها جرعة من الماء . . ومضوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - على صدقهم ويقينهم - رضى الله عنهم .
وقوله : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } بيان لتناهى الشدة ، وبلوغها الغاية القصوى .
أى : تاب - سبحانه - على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار من بعد أن أشرف فريق منهم على الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب .
وفى ذكر { فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } إشارة إلى أن معظم المهاجرين والأنصار ، مضوا معه - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك دون أن تؤثر هذه الشدائد فى قوة إيمانهم وصدق يقينهم ، وضماء عزيمتهم ، وشدة إخلاصهم .
قال الآلوسى ما ملخصه : وفى " كاد " ضمير الشأن و " قلوب " فاعل " يزيغ " والجملة فى موضع الخبر لكاد . . وهذا على قراءة " يزيغ " بالياء ، وهى قراءة حمزة ، وحفص والأعمش . وأما على قراء " تزيغ " بالتاء ، وهى قراءة الباقين . فيحتمل أن يكون " قلوب " اسم كان " وتزيغ " خبرها ، وهي ضمير يعود على اسمها .
وقوه : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تذييل مؤكد لقبول التوبة ولعظيم فضل الله عليهم . ولطفه بهم .
أى : ثم تاب عليهم - سبحانه - بعد أن كابدوا ما كابدوا من العسر والمشقة ومجاهدة النفس . إنه بهم رءوف رحيم .
قال بعضهم : فإن قلت : قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانياً فما فائدة التكرار؟
قلت : إنه - سبحانه - ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه - تعالى - قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم ، ثم أتبعه بقوله - سبحانه - { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } تأكيدا لذلك . والرأفة عبارة عن السعى فى إزالة الضرر ، والرحمة عبارة عن السعى فى إيصال النفع .
وقال القرطبى : قوله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } قيل : توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ وتلك سنة الحق - سبحانه - مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك ، أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم .
قال الشاعر :
منك أرجوا ولست أعرب ربا ... يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد فى الأر ... ض على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجو ... ع ، وصروا على الذنوب ولجوا
لم يكن لى سواك ربى ملاذ ... فتيقنت أننى بك أنجو
-----------------
وقال الطاهر بن عاشور (1):
[117] {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 10 / ص 218)(1/387)
انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف، وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده، فالجملة استئناف ابتدائي.
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالا ماضية.
ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك.
وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ومعنى {تَابَ} عليه: غفر له، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنبا أو لم يكنه، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة. فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" .
وأما توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم.
والمهاجرون والأنصار: هم مجموع أهل المدينة، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم، فكانوا إسوة لمن أتسى بهم من غيرهم من القبائل.
ووصف المهاجرون والأنصار ب {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسببا في هذه المغفرة.
ومعنى {اتَّبَعُوهُ} أطاعوه ولم يخالفوا عليه، فالاتباع مجازي.
والساعة: الحصة من الزمن.
والعسرة: اسم العسر، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة. وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك. فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد. ويدل لذلك قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} اي من المهاجرين والأنصار، فإنه متعلق بـ {اتَّبَعُوهُ} أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقا منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين، فان ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع.
و {كَادَ} من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عمل كان، واسمها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ.
وقرأ الجمهور {تَزِيغُ} بالمثناة الفوقية. وقرأه حمزة، وحفص عن عاصم، وخلف بالمثناة التحتية. وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر. والزيغ: الميل عن الطريق المقصود. وتقدم عند قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} في سورة آل عمران[8].
وجملة؛ {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} عطف على جملة {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} أي تاب على غير هذا الفريق مطلقا، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ، فتكون {ثُمَّ} على أصلها من المهلة. وذلك كقوله في نظير هذه الآية {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118]. والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر، فالضمير في قوله: {عَلَيْهِمْ} لل {فَرِيقِ} . وجوز كثير من المفسرين أن تكون {ثُمَّ} للترتيب في الذكر، والجملة بعدها توكيدا لجملة {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} ، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم.
وجملة: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} تعليل لما قبلها على التفسيرين.
-------------
وفي مشكل الآثار (1):
__________
(1) - بيان مشكل الآثار ـ الطحاوى - (ج 3 / ص 122)(1/388)
بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَسْمَائِهِ ) حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ أَنْبَأَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ { إنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ أَنَا مُحَمَّدٌ - وَأَنَا أَحْمَدُ - وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِي الْكُفْرَ - , وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ عَلَى قَدَمِي - وَأَنَا الْعَاقِبُ , وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ * وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَءُوفًا رَحِيمًا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فَكَانَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إيَّاهُ رَءُوفًا رَحِيمًا إمَّا مِنْ كَلَامِ جُبَيْرٍ وَإِمَّا مِنْ كَلَامِ مَنْ سِوَاهُ مِنْ رُوَاتِهِ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ ثنا أَبِي وَشُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ خَالِدٍ وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ وَهُوَ سَعِيدٌ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ أَتُحْصِي أَسْمَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كَانَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ يَعُدُّهَا قَالَ نَعَمْ هِيَ سِتَّةٌ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَخَاتَمٌ وَحَاشِرٌ وَعَاقِبٌ وَمَاحٍ , فَأَمَّا الْحَاشِرُ فَبُعِثَ مَعَ السَّاعَةِ نَذِيرًا لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ وَأَمَّا عَاقِبٌ فَإِنَّهُ أَعْقَبَ الْأَنْبِيَاءَ صلوات الله عليهم وَأَمَّا مَاحٍ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَحَا بِهِ سَيِّئَاتِ مَنْ اتَّبَعَهُ . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةُ اسْمٍ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلَهُ وَهُوَ خَاتَمٌ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ الْكَيْسَانِيُّ قَالَ ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيُّ قَالَ ثنا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ { : سَمَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ بِأَسْمَاءٍ فَقَالَ : أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُقَفِّي وَالْحَاشِرُ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ * قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْمُقَفِّي وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْعَاقِبِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَيْنَاهُمَا قَبْلَهُ وَفِيهِ مِنْ أَسْمَائِهِ اسْمَانِ آخَرَانِ غَيْرُ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِمَا وَهُمَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ وَسَأَلَ سَائِلٌ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ زَادَ بَعْضُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْهَا . فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ إنَّمَا هِيَ أَعْلَامٌ لِأَشْيَاءَ يُرَادُ بِهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَهَا وَإِبَانَةُ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ , وَكَانَتْ الْأَسْمَاءُ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ فَقِسْمٌ مِنْهَا تَكُونُ الْأَسْمَاءُ فِيهِ لَا لِعِلَّةٍ كَالْحَجَرِ وَكَالْجَبَلِ , وَكَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُسَمَّ بِمَعْنًى فِيهِ وَمِنْهَا مَا يُسَمَّى بِهِ لِمَعْنًى فِيهِ مِنْ صِفَاتِهِ كَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْحَمْدِ وَكَأَحْمَدَ مِنْ الْحَمْدِ أَيْضًا فَكَانَ هَذَانِ الِاسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمَا اسْمَانِ قَدْ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ * وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم خَاطَبَ بِهِ قَوْمَهُ { إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ * فَكَانَ هَذَانِ الِاسْمَانِ مِنْ صِفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فَوَقَفْنَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى بِصِفَاتِهِ سِوَى الْحَمْدِ كَمَا سُمِّيَ بِالْحَمْدِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ فَسُمِّيَ الْمَاحِيَ ; لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَمْحُو بِهِ الْكُفْرَ , وَسُمِّيَ الْحَاشِرَ ; لِأَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ عَلَى قَدَمِهِ , وَسُمِّيَ الْعَاقِبَ ; لِأَنَّهُ أَعْقَبَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صلوات الله عليهم وَسُمِّيَ خَاتَمًا ; لِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ { مَا كَانَ(1/389)
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ * , وَسُمِّيَ الْمُقَفِّيَ ; لِأَنَّهُ قَفَّى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ , وَسُمِّيَ نَبِيَّ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَابَ بِهِ عَلَى مَنْ تَابَ مِنْ عِبَادِهِ , وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ * وَسُمِّيَ نَبِيَّ الْمَلْحَمَةِ ; لِأَنَّهُ سَبَبُ الْقِتَالِ هُوَ الْمَلْحَمَةُ . وَكُلُّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مُشْتَقَّةٌ مِنْ صِفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَءُوفًا رَحِيمًا انْتِزَاعًا بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا وَأَنَّ مَا سُمِّيَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ لَاحِقٌ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي قَدْ سُمِّيَ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا { لَحِقَ بِأَسْمَاءِ عَلِيٍّ عليه السلام الِاسْمُ الَّذِي سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ لَمَّا تَتَرَّبَ بِالتُّرَابِ بِقَوْلِهِ لَهُ : قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ فَمَا كَانَ لَهُ اسْمٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُ * وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَمَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ جَائِزًا أَنْ يُذْكَرَ بِبَعْضِ أَسْمَائِهِ , وَلَا يَكُونُ الْقَصْدُ إلَى بَعْضِهَا دَلِيلًا أَنْ لَا أَسْمَاءَ لَهُ غَيْرَهَا , فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ جَاءَتْ هَذِهِ الْآثَارُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مِمَّا فِيهَا , وَاَللَّهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ
--------------
وقال الجصاص (1):
قوله تعالى : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ * وَالْعُسْرَةُ هِيَ شِدَّةُ الْأَمْرِ وَضِيقُهُ وَصُعُوبَتُهُ , وَكَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَقِلَّةٍ مِنْ الْمَاءِ وَالزَّادِ وَالظَّهْرِ , فَحَضَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ لِعِظَمِ مَنْزِلَةِ الِاتِّبَاعِ فِي مِثْلِهَا وَجَزِيلِ الثَّوَابِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهَا لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَعَ الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَحُسْنِ الْبَصِيرَةِ , وَالْيَقِينِ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ , إذْ لَمْ تُغَيِّرْهُمْ عَنْهَا صُعُوبَةُ الْأَمْرِ وَشِدَّةُ الزَّمَانِ . وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِمُقَارَبَةِ مَيْلِ الْقَلْبِ عَنْ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ : { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ * . وَالزَّيْغُ هُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ عَنْ الْحَقِّ , فَقَارَبَ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَلَمَّا فَعَلُوا وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ اللَّهُ بِهِ وَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ . وَبِمِثْلِ الْحَالِ الَّتِي فَضَّلَ بِهَا مُتَّبِعِيهِ فِي حَالِ الْعُسْرَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ فَضَّلَ بِهَا الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ , وَبِمِثْلِهَا فَضَّلَ السَّابِقِينَ عَلَى النَّاسِ لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلِمَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْبَصِيرَةِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ بِالِاتِّبَاعِ فِي حَالِ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِعْلَاءِ أَمْرِ الْكُفَّارِ وَمَا كَانَ يَلْحَقُهُ مِنْ قِبَلِهِمْ مِنْ الْأَذَى وَالتَّعْذِيبِ .
وقَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } فِيهِ مَدْحٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ غَزَوْا مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَإِخْبَارٌ بِصِحَّةِ بَوَاطِنِ ضَمَائِرِهِمْ وَطَهَارَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخْبِرُ بِأَنَّهُ قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ إلَّا ، وَقَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضِيَ أَفْعَالَهُمْ ، وَهَذَا نَصٌّ فِي رَدِّ قَوْلِ الطَّاعِنِينَ عَلَيْهِمْ وَالنَّاسِبِينَ بِهِمْ إلَى غَيْرِ مَا نَسَبَهُمْ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَوَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ صِحَّةِ الضَّمَائِرِ وَصَلَاحِ السَّرَائِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
---------------
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 7 / ص 166)(1/390)
وقال ابن العربي (1):
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قوله تعالى { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * . فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى النَّبِيِّ رَدُّهُ مِنْ حَالَةِ الْغَفْلَةِ إلَى حَالَةِ الذِّكْرِ , وَتَوْبَةُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رُجُوعُهُمْ مِنْ حَالَةِ الْمَعْصِيَةِ إلَى حَالَةِ الطَّاعَةِ , وَانْتِقَالُهُمْ مِنْ حَالَةِ الْكَسَلِ إلَى حَالَةِ النَّشَاطِ , وَخُرُوجُهُمْ عَنْ صِفَةِ الْإِقَامَةِ وَالْقُعُودِ إلَى حَالَةِ السَّفَرِ وَالْجِهَادِ . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَتَوْبَةُ اللَّهِ تَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : دُعَاؤُهُ إلَى التَّوْبَةِ , يُقَالُ : تَابَ اللَّهُ عَلَى فُلَانٍ , أَيْ دَعَاهُ , وَيُقَالُ : تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ : يَسَّرَهُ لِلتَّوْبَةِ , وَقَدْ يَكُونُ خَبَرًا , وَقَدْ يَكُونُ دُعَاءً . وَيُقَالُ : تَابَ عَلَيْهِ : ثَبَّتَهُ عَلَيْهَا , وَيُقَالُ : تَابَ عَلَيْهِ : قَبِلَ تَوْبَتَهُ ; وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ , وَقَدْ جَمَعَ لِهَؤُلَاءِ ذَلِكَ كُلَّهُ , وَيَفْتَرِقُ فِي سَائِرِ النَّاسِ ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُوهُ إلَى التَّوْبَةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يُيَسِّرُهَا لَهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُوهُ إلَيْهَا وَيُيَسِّرُهَا وَلَا يُدِيمُهَا , فَإِنْ دَامَتْ إلَى الْمَوْتِ فَهِيَ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قوله تعالى { فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ * : يَعْنِي جَيْشَ تَبُوكَ ; خَرَجَ النَّاسُ إلَيْهَا فِي جَهْدٍ وَحَرٍّ وَرِجْلَةٍ وَعُرْيٍ وَحَفَاءٍ , حَتَّى لَقَدْ رُوِيَ فِي قَوْلِهِ : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ * . { وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلَهُمْ قُلْت لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ * أَنَّهُمْ طَلَبُوا نِعَالًا . وَفِي الْحَدِيثِ : { لَا يَزَالُ الرَّجُلُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ * .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ * : أَمَّا هَذَا فَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ فِيهِ مَدْخَلٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ , أَمَّا أَنَّهُ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ يَدْخُلُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ إذْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ فَعَذَرَهُ اللَّهُ فِي إذْنِهِ لَهُمْ , وَتَابَ عَلَيْهِ وَعَذَرَهُ , وَبَيَّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ صَوَابَ فِعْلِهِ بِقَوْلِهِ : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا * إلَى : { الْفِتْنَةَ * . وَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيِّ فَكَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِبَقَائِهِمْ بَعْدَهُ , كَأَبِي حَثْمَةَ وَغَيْرِهِ , بِإِرَادَتِهِمْ الرُّجُوعَ مِنْ الطَّرِيقِ حِينَ أَصَابَهُمْ الْجَهْدُ , وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ الْعَطَشُ , حَتَّى نَحَرُوا إبِلَهُمْ , وَعَصَرُوا كُرُوشَهَا , فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ , فَنَزَلَ الْمَطَرُ ; وَلِهَذَا جَازَ لِلْإِمَامِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَأْذَنَ لِمَنْ اعْتَذَرَ إلَيْهِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَالِ , وَرِفْقًا بِالْخَلْقِ , اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
---------------
وقال ابن تيمية رحمه الله (2):
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 4 / ص 446)
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 493)(1/391)
وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى دَائِمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبَ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً } " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } " وَفِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ قَالَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ } " وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ أَنْ يَخْتِمُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ بِالِاسْتِغْفَارِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ " { اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } " كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ } فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِاللَّيْلِ وَيَسْتَغْفِرُوا بِالْأَسْحَارِ . وَكَذَلِكَ خَتَمَ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ وَهِيَ سُورَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَجِّ : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } بَلْ أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْله تَعَالَى { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَخْتِمَ عَمَلَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : " { سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي - يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } " وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت فَقَالَ قُلْ : اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضُ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ(1/392)
لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ . قُلْهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت وَإِذَا أَخَذْت مَضْجَعَك } " . فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَظُنَّ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ دَائِمًا . قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فَالْإِنْسَانُ ظَالِمٌ جَاهِلٌ وَغَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ التَّوْبَةُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِتَوْبَةِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ } " وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } فَإِنَّ الرَّسُولَ نَفَى بَاءَ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَادَلَةِ وَالْقُرْآنُ أَثْبَتَ بَاءَ السَّبَبِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ تَضُرَّهُ الذُّنُوبُ . مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا أَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّ مَنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا فَهُوَ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ مَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . وَإِنَّمَا عِبَادُهُ الْمَمْدُوحُونَ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
---------------
وقال أبضا (1):
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 66)(1/393)
وَإِذَا كَانَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ تَكُونُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَتَكُونُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ عُلِمَ أَنَّهُ ذَنْبٌ تَبَيَّنَ كَثْرَةُ مَا يَدْخُلُ فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ إذَا ذُكِرَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يَسْتَشْعِرُ قَبَائِحَ قَدْ فَعَلَهَا فَعَلِمَ بِالْعِلْمِ الْعَامِّ أَنَّهَا قَبِيحَةٌ : كَالْفَاحِشَةِ وَالظُّلْمِ الظَّاهِرِ . فَأَمَّا مَا قَدْ يُتَّخَذُ دِينًا فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ ذَنْبٌ إلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ . كَدِينِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُبَدَّلِ فَإِنَّهُ مِمَّا تَجِبُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ وَأَهْلُهُ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى . وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ كُلُّهَا . وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ - مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ - : الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا وَالْبِدْعَةُ لَا يُتَابُ مِنْهَا . وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتُوبُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى وَلَوْ تَابَ لَتَابَ عَلَيْهِ كَمَا يَتُوبُ عَلَى الْكَافِرِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يُقْبَلُ تَوْبَةُ مُبْتَدِعٍ مُطْلَقًا فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا مُنْكَرًا . وَمَنْ قَالَ : مَا أَذِنَ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ فِي تَوْبَةٍ . فَمَعْنَاهُ مَا دَامَ مُبْتَدِعًا يَرَاهَا حَسَنَةً لَا يَتُوبُ مِنْهَا فَأَمَّا إذَا أَرَاهُ اللَّهُ أَنَّهَا قَبِيحَةٌ فَإِنَّهُ يَتُوبُ مِنْهَا كَمَا يَرَى الْكَافِرُ أَنَّهُ عَلَى ضَلَالٍ ؛ وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ كَانَ عَلَى بِدْعَةٍ تَبَيَّنَ لَهُ ضَلَالُهَا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا . وَهَؤُلَاءِ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ . وَ " الْخَوَارِجُ " لَمَّا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ رَجَعَ مِنْهُمْ نِصْفُهُمْ أَوْ نَحْوُهُ وَتَابُوا وَتَابَ مِنْهُمْ آخَرُونَ عَلَى يَدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ مَنْ سَمِعَ الْعِلْمَ فَتَابَ وَهَذَا كَثِيرٌ فَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ فَاعِلُوهُ قُبْحَهُ قِسْمٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ عَامٌّ وَكَذَلِكَ مَا يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَاجِبَاتٍ لَا يَعْلَمُ وُجُوبَهَا كَثِيرَةً جِدًّا ثُمَّ إذَا عَلِمَ مَا كَانَ قَدْ تَرَكَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ وَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَالِاسْتِغْفَارِ مِمَّا كَانَ سَيِّئَةً وَالتَّائِبُ يَتُوبُ مِمَّا تَرَكَهُ وَضَيَّعَهُ وَفَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَتُوبُ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ هَذَا وَتَرَكَ هَذَا قَبْلَ الرِّسَالَةِ فَبِالرِّسَالَةِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِ هَذَا وَفِعْلِ هَذَا . وَإِلَّا فَكَوْنُهُ كَانَ فَاعِلًا لِلسَّيِّئَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَتَارِكًا لِلْحَسَنَاتِ الَّتِي يُذَمُّ تَارِكُهَا كَانَ تَائِبًا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَذَكَرْنَا " الْقَوْلَيْنِ " قَوْلَ مَنْ نَفَى الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَقَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عَلَيْهَا فَلَا مَعْنَى لِقُبْحِهَا . قِيلَ بَلْ فِيهِ مَعْنَيَانِ : ( أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ لَكِنْ هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْحُجَّةُ قَالَ تَعَالَى : { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } فَلَوْلَا إنْقَاذُهُ لَسَقَطُوا وَمَنْ كَانَ وَاقِفًا عَلَى شَفِيرٍ فَهَلَكَ فَهَلَاكُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى سُقُوطِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَانَ وَبَعُدَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ بَعُدَ عَنْ الْهَلَاكِ . فَأَصْحَابُهَا كَانُوا قَرِيبِينَ إلَى الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ . ( الثَّانِي أَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ مَنْقُوصُونَ مَعِيبُونَ . فَدَرَجَتُهُمْ مُنْخَفِضَةٌ بِذَلِكَ وَلَا بُدَّ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُعَذَّبُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ السَّلِيمُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ أَيْضًا وَثَوَابِهِ . فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ بِحِرْمَانِ خَيْرٍ وَهِيَ أَحَدُ نَوْعَيْ . الْعُقُوبَةِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا لِكُلِّ مَنْ تَرَكَ مُسْتَحَبًّا فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ خَيْرُهُ فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَفُوتُهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَبَيْنَ مَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَهُ . وَهَذَا كَلَامٌ عَامٌّ فِيمَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِ رَسُولٌ فِي الدُّنْيَا :(1/394)
فَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ أَنَّهُمْ يُرْسَلُ إلَيْهِمْ رَسُولٌ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ " هَلْ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . قِيلَ : لَا يَتَحَقَّقُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَاقَبْ كَانَ كَالْمُبَاحِ وَقِيلَ : يَتَحَقَّقُ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُذَمَّ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ . وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعِقَابَ " نَوْعَانِ " نَوْعٌ بِالْآلَامِ . فَهَذَا قَدْ يَسْقُطُ بِكَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ وَنَوْعٌ بِنَقْصِ الدَّرَجَةِ وَحِرْمَانِ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ . فَهَذَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْأَوَّلُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُكَفِّرُ سَيِّئَاتِ الْمُسِيءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } فَيُكَفِّرُهَا تَارَةً بِالْمَصَائِبِ فَتَبْقَى دَرَجَةُ صَاحِبِهَا كَمَا كَانَتْ وَقَدْ تَصِيرُ دَرَجَتُهُ أَعْلَى وَيُكَفِّرُهَا بِالطَّاعَاتِ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِتِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَعْلَى دَرَجَةً . فَيُحْرَمُ صَاحِبُ السَّيِّئَاتِ مَا يَسْقُطُ بِإِزَائِهَا مِنْ طَاعَتِهِ وَهَذَا مِمَّا يَتُوبُ مِنْهُ مَنْ أَرَادَ أَلَّا يَخْسَرَ وَمَنْ فَرَّطَ فِي مُسْتَحَبَّاتٍ فَإِنَّهُ يَتُوبُ أَيْضًا ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ مُوجِبُهَا . فَالتَّوْبَةُ تَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ . وَتَوْبَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَسَنَاتِهِ عَلَى أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهُمَا أَنْ يَتُوبَ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِيهَا . وَ ( الثَّانِي أَنْ يَتُوبَ مِمَّا كَانَ يَظُنُّهُ حَسَنَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ كَحَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَ ( الثَّالِثُ يَتُوبُ مِنْ إعْجَابِهِ وَرُؤْيَتِهِ أَنَّهُ فَعَلَهَا وَأَنَّهَا حَصَلَتْ بِقُوَّتِهِ وَيَنْسَى فَضْلَ اللَّهِ وَإِحْسَانَهُ وَأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِهَا وَهَذِهِ تَوْبَةٌ مِنْ فِعْلٍ مَذْمُومٍ وَتَرْكِ مَأْمُورٍ . وَلِهَذَا قِيلَ : تَخْلِيصُ الْأَعْمَالِ مِمَّا يُفْسِدُهَا أَشَدُّ عَلَى الْعَامِلِينَ مِنْ طُولِ الِاجْتِهَادِ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ احْتِيَاجَ النَّاسِ إلَى التَّوْبَةِ دَائِمًا . وَلِهَذَا قِيلَ : هِيَ مَقَامٌ يَسْتَصْحِبُهُ الْعَبْدُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ ؛ فَجَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتُوبُوا وَأَنْ يَسْتَدِيمُوا التَّوْبَةَ . قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } . فَغَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ التَّوْبَةُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِأَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَفْضَلِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . وَمِنْ أَوَاخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلُهُ : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } " . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك . قَالَتْ : فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَرَاك تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِك : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك . فَقَالَ : أَخْبَرَنِي رَبِّي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي أُمَّتِي . فَإِذَا رَأَيْتهَا أَكْثَرْت مِنْ قَوْلِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك فَقَدْ رَأَيْتهَا : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فَتْحُ مَكَّةَ { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } } . وَأَمْرُهُ سُبْحَانَهُ لَهُ بِالتَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَقْتَضِي(1/395)
أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِي غَيْرِهَا أَوْ لَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ . بَلْ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . كَمَا يُؤْمَرُ الْإِنْسَانُ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا وَكَمَا يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبٍ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّوْبَةِ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ هُوَ أَمْرٌ أَنْ يُخْتَمَ عَمَلُهُ بِهَذَا فَغَيْرُهُ أَحْوَجُ إلَى هَذَا مِنْهُ وَقَدْ يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْبَةِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مُطْلَقًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيح { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَغْفِرُ عَقِبَ الصَّلَاةِ ثَلَاثًا } . قَالَ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ } . قَامُوا اللَّيْلَ ثُمَّ جَلَسُوا وَقْتَ السَّحَرِ يَسْتَغْفِرُونَ . وَقَدْ خَتَمَ اللَّهُ " سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ " وَفِيهَا قِيَامُ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } كَمَا خَتَمَ بِذَلِكَ " سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ " بِقَوْلِهِ : { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ أَهْلٌ لِلتَّقْوَى . بَلْ قَالَ : { أَهْلُ التَّقْوَى } فَهُوَ وَحْدَهُ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى فَيُعْبَدُ دُونَ مَا سِوَاهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ يُتَّقَى كَمَا قَالَ : { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } وَهُوَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ } وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } " فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَالْمُؤْمِنُونَ يَسْتَغْفِرُونَ مِمَّا كَانُوا تَارِكِيهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِهِمْ بِهِ رَسُولٌ بَعْدُ كَمَا تَقَدَّمَ وَالرَّسُولُ يَسْتَغْفِرُ مِنْ تَرْكِ مَا كَانَ تَارِكَهُ كَمَا قَالَ فِيهِ : { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِقَابٌ وَالْمُؤْمِنُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ ضَيَّعَ حَقَّ قَرَابَتِهِ أَوْ غَيْرِهِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ وَتَابَ وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ مَذْمُومٌ .(1/396)
فَصْلٌ وَ " أَيْضًا " فَمِمَّا يَسْتَغْفِرُ وَيُتَابُ مِنْهُ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَوْ قَالَهَا أَوْ فَعَلَهَا عُذِّبَ . قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } فَهُوَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَرْجِعُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ : كَاَلَّذِي هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ وَلَمْ يَعْمَلْهَا وَإِنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ . وَهَذَا مِمَّا يُسْتَغْفَرُ مِنْهُ وَيَتُوبُ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحْصُلْ الْعِقَابُ وَلَا الذَّمُّ . فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَيْهِ فَيَتُوبُ مِنْ ذَلِكَ : أَيْ يَرْجِعُ عَنْهُ حَتَّى لَا يُفْضِيَ إلَى شَرٍّ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ . أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ فَلَا يُشْقِيه بِهِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ فَقَدْ يَنْقُصُ بِهِ . فَاَلَّذِي يَهُمُّ بِالسَّيِّئَاتِ وَإِنْ كَانَ لَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ ؛ لَكِنَّهُ اشْتَغَلَ بِهَا عَمَّا كَانَ يَنْفَعُهُ فَيَنْقُصُ بِهَا عَمَّنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَاشْتَغَلَ بِمَا يَنْفَعُهُ عَنْهَا . وَقَدْ بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ : أَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ وَقَوْلَهُ - إمَّا لَهُ وَإِمَّا عَلَيْهِ - لَا يَخْلُو مِنْ هَذَا أَوْ هَذَا . فَهُوَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ مِمَّا عَلَيْهِ . وَقَدْ يَظُنُّ ظُنُونَ سُوءٍ بَاطِلَةٍ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ فِيهَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ . وَظُلْمُهُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ بِتَرْكِ وَاجِبٍ كَمَا يَكُونُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَدْ قِيلَ : فِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } قِيلَ : الْفَاحِشَةُ الزِّنَا وَقِيلَ : كُلُّ كَبِيرَةٍ وَظُلْمُ النَّفْسِ الْمَذْكُورِ مَعَهَا . قِيلَ : هُوَ فَاحِشَةٌ أَيْضًا . وَقِيلَ : هِيَ الصَّغَائِرُ . وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الْفَاحِشَةُ هِيَ الْكَبِيرَةُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَنَاوَلَ الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَمَنْ قَالَ : الْفَاحِشَةُ الزِّنَا يَقُولُ : ظُلْمُ النَّفْسِ يَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ وَقِيلَ : الْفَاحِشَةُ الزِّنَا وَظُلْمُ النَّفْسِ مَا دُونَهُ مِنْ اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَقِيلَ : هَذَا هُوَ الْفَاحِشَةُ وَظُلْمُ النَّفْسِ الْمَعَاصِي وَقِيلَ الْفَاحِشَةُ فِعْلٌ وَظُلْمُ النَّفْسِ قَوْلٌ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ " ظُلْمَ النَّفْسِ " جِنْسٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَنْبٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ } " . وَقَدْ قَالَ أَبُو الْبِشْرِ وَزَوْجَتُهُ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَقَالَ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَقَالَ ذُو النُّونِ " يُونُسُ " : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } . وَقَالَتْ بلقيس : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ عَنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُعَذَّبِينَ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا(1/397)
أَنْفُسَهُمْ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الذُّنُوبَ هِيَ الصَّغَائِرُ وَالْإِسْرَافُ هُوَ الْكَبَائِرُ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ " الذُّنُوبَ " اسْمُ جِنْسٍ وَ " الْإِسْرَافَ " تَعَدِّي الْحَدِّ وَمُجَاوَزَةُ الْقَصْدِ كَمَا فِي لَفْظِ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَالذُّنُوبُ كَالْإِثْمِ وَالْإِسْرَافُ كَالْعُدْوَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } وَمُجَاوَزَةُ قَدْرِ الْحَاجَةِ فَالذُّنُوبُ مِثْلُ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ . فَهَذَا كُلُّهُ ذَنْبٌ كَاَلَّذِي يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَيَغْضَبُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ وَ " الْإِسْرَافُ " كَاَلَّذِي يَغْضَبُ لِلَّهِ فَيُعَاقَبُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ . وَالْآيَةُ فِي سِيَاقِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ . وَقَدْ أَخْبَرَ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ بِقَوْلِهِ : { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } وَقَدْ قِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي مَعْرَكَةٍ فَقَدْ قُتِلَ أَنْبِيَاءُ كَثِيرُونَ { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } الْآيَةَ . فَجَمَعُوا بَيْنَ الصَّبْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَهَذَا هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْمَصَائِبِ الصَّبْرُ عَلَيْهَا وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَهَا . وَالْقِتَالُ كَثِيرًا مَا يُقَاتِلُ الْإِنْسَانُ فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَاَلَّذِي يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً . فَهَذَا كُلُّهُ ذُنُوبٌ وَاَلَّذِي يُقَاتِلُ لِلَّهِ قَدْ يُسْرِفُ فَيَقْتُلُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَيُعَاقِبُ الْكُفَّارَ بِأَشَدِّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } . وَقَالَ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } فَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ . هَذَا آخِرُ مَا كَتَبْته هُنَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
-------------
وقال أيضا (1):
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } الْآيَةُ . وَالتَّوْبَةُ إنَّمَا تَكُونُ عَنْ شَيْءٍ يَصْدُرُ مِنْ الْعَبْدِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ .
الْجَوَابُ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 324)(1/398)
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تيمية : الْحَمْدُ لِلَّهِ . الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ كِبَارِهَا وَصِغَارِهَا وَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ يَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ وَيُعَظِّمُ حَسَنَاتِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ نَقْصًا ؛ بَلْ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الكمالات وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَغَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ هِيَ التَّوْبَةُ ثُمَّ التَّوْبَةُ تَتَنَوَّعُ كَمَا يُقَالُ : حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ عَامَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ : عَنْ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ . فَقَالَ آدَمَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ نُوحٌ : { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ الْخَلِيلُ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } وَقَالَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ مُوسَى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَةَ داود وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } وَفِي أَوَاخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ : { اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ } " وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ : " { اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } " وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ } " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَسْرَفْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدَّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخَّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } " . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَتَوْبَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ حَسَنَاتِهِمْ وَأَكْبَرِ طَاعَاتِهِمْ وَأَجَلِّ عِبَادَاتِهِمْ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا أَجَلَّ الثَّوَابِ وَيَنْدَفِعُ بِهَا عَنْهُمْ مَا يَدْفَعُهُ مِنْ الْعِقَابِ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : أَيُّ حَاجَةٍ بِالْأَنْبِيَاءِ إلَى الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ ؟ كَانَ جَاهِلًا(1/399)
؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا نَالُوا مَا نَالُوهُ بِعِبَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا فَهِيَ أَفْضَلُ عِبَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ . وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : فَالتَّوْبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ وَالِاسْتِغْفَارُ كَذَلِكَ قِيلَ لَهُ : الذَّنْبُ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ هُوَ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ فَأَمَّا مَا حَصَلَ مِنْهُ تَوْبَةٌ فَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كَانَ داود بَعْدَ التَّوْبَةِ أَحْسَنَ مِنْهُ حَالًا قَبْلَ الْخَطِيئَةِ وَلَوْ كَانَتْ التَّوْبَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ ؛ فَإِنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ هُمْ خِيَارُ الْخَلِيقَةِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا صَارُوا كَذَلِكَ بِتَوْبَتِهِمْ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ وَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ التَّوْبَةِ نَقْصًا وَلَا عَيْبًا ؛ بَلْ لَمَّا تَابُوا مِنْ ذَلِكَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانُوا أَعْظَمَ إيمَانًا وَأَقْوَى عِبَادَةً وَطَاعَةً مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ ؛ فَلَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ كَمَا عَرَفُوهَا . وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُ عَبْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ صِغَارَ الذُّنُوبِ وَيُخَبِّئُ عَنْهُ كِبَارَهَا فَيَقُولُ : فَعَلْت يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ يَا رَبِّ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا أَنْ تَظْهَرَ فَيَقُولُ إنِّي قَدْ غَفَرْتهَا لَك وَأَبْدَلْتُك مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فَهُنَالِكَ يَقُولُ رَبِّ إنَّ لِي سَيِّئَاتٍ مَا أَرَاهَا بَعْدُ } " فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إذَا تَابَ وَبَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ انْقَلَبَ مَا كَانَ يَضُرُّهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِ حَسَنَاتٍ يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا فَلَمْ تَبْقَ الذُّنُوبُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُضِرَّةً لَهُ بَلْ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مِنْهَا مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُ وَالِاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِنَقْصِ الْبِدَايَةِ فَمَنْ نَسِيَ الْقُرْآنَ ثُمَّ حَفِظَهُ خَيْرٌ مِمَّنْ حَفِظَهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَضُرَّهُ النِّسْيَانُ وَمَنْ مَرِضَ ثُمَّ صَحَّ وَقَوِيَ لَمْ يَضُرَّهُ الْمَرَضُ الْعَارِضُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ لِلَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَكَمَالِ الْحَذَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ التَّوْبَةِ كَمَنْ ذَاقَ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَالْمَرَضَ وَالْفَقْرَ وَالْخَوْفَ ثُمَّ ذَاقَ الشِّبَعَ وَالرَّيَّ وَالْعَافِيَةَ وَالْغِنَى وَالْأَمْنَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَحَبَّةِ لِذَلِكَ وَحَلَاوَتِهِ وَلَذَّتِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ وَشُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْحَذَرِ أَنْ يَقَعَ فِيمَا حَصَلَ أَوَّلًا مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ ذَلِكَ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَا يَكْمُلُ أَحَدٌ وَيَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ الْقُرْبِ مِنْ اللَّهِ وَيَزُولُ عَنْهُ كُلُّ مَا يَكْرَهُ إلَّا بِهَا . وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ ؛ فَهُوَ أَفْضَلُ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ وَأَفْضَلُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ وَأَفْضَلُ الْعَابِدِينَ لَهُ وَأَفْضَلُ الْعَارِفِينَ بِهِ وَأَفْضَلُ التَّائِبِينَ إلَيْهِ وَتَوْبَتُهُ أَكْمَلُ مِنْ تَوْبَةِ غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ .(1/400)
وَبِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ نَالَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : " { أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْ آدَمَ فَيَقُولُ : إنِّي نُهِيت عَنْ الْأَكْلِ مِنْ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْت مِنْهَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي . وَيَطْلُبُونَهَا مِنْ نُوحٍ فَيَقُولُ : إنِّي دَعَوْت عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ دَعْوَةً لَمْ أومر بِهَا . نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي . وَيَطْلُبُونَهَا مِنْ الْخَلِيلِ ثُمَّ مِنْ مُوسَى ثُمَّ مِنْ الْمَسِيحِ فَيَقُولُ : اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ : فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيَقُولُ : أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ : أَيْ رَبِّ أُمَّتِي فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ } " . فَالْمَسِيحُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - دَلَّهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ بِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ إذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمَخْلُوفَيْنِ وَالْخَالِقِ نَسَبٌ إلَّا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ مِنْ الْعَبْدِ وَمَحْضُ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ } " وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ } " وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } " فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ . وَكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لَهُ وَافْتِقَارِهِ إلَيْهِ وَكَمَالِ تَوْبَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ : صَارَ أَفْضَلَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْ اللَّهِ وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ بَلْ هُوَ فَقِيرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُحْسِنٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَوَاضُعًا وَعُبُودِيَّةً ازْدَادَ إلَى اللَّهِ قُرْبًا وَرِفْعَةً ؛ وَمِنْ ذَلِكَ تَوْبَتُهُ وَاسْتِغْفَارُهُ . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } " رَوَاهُ ابْنُ ماجه والترمذي .
================
مغفرة ذنوب من تاب وهاجر وجاهد في سبيل الله
قال تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ* (110) سورة النحل
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ } هذا كله في عَمّار . والمعنى وصبروا على الجهاد؛ ذكره النحاس . وقال قتادة : نزلت في قوم خرجوا مهاجرين إلى المدينة بعد أن فتنهم المشركون وعذبوهم ، وقد تقدّم ذكرهم في هذه السورة . وقيل : نزلت في ابن أبي سَرْح ، وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة ، فاستجار بعثمان فأجاره النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ ذكره النسائي عن عكرمة عن ابن عباس قال : في سورة النحل «من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره إلى قوله ولهم عذاب عظيم» فنسخ ، واستثنى من ذلك فقال «ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فُتِنُوا ثم جاهدوا وصَبَروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم» وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي كان على مصر ، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به أن يقتل يوم الفتح؛ فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم .
----------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله (2):
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 3205)
(2) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 607)(1/401)
هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة، مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا، فأخبر الله تعالى أنه { مِنْ بَعْدِهَا } أي: تلك الفعلة، وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم، رحيم بهم يوم معادهم.
--------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
لقد كانوا من ضعاف العرب , الذين فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب وغيره . ولكنهم هاجروا بعد ذلك عندما أمكنتهم الفرصة , وحسن إسلامهم , وجاهدوا في سبيل الله , صابرين على تكاليف الدعوة . فالله يبشرهم بأنه سيغفر لهم ويرحمهم (إن ربك من بعدها لغفور رحيم) .
------------------
وقال الرازي(2) :
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه وحال من أكره على الكفر ، فذكر بسبب الخوف كلمة الكفر وحال من لم يذكرها ، ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن فقال : { إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } .
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر : { فَتَنُواْ } بفتح الفاء على إسناد الفعل إلى الفاعل ، والباقون بضم الفاء على فعل ما لم يسم فاعله . أما وجه القراءة الأولى فأمور . الأول : أن يكون المراد أن أكابر المشركين وهم الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم . والثاني : أن فتن وأفتن بمعنى واحد ، كما يقال : مان وأمان بمعنى واحد ، والثالث : أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم ، وإنما جعل ذلك فتنة ، لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت . وأما وجه القراءة بفعل ما لم يسم فاعله فظاهر ، لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان ، فبين تعالى أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر .
المسألة الثالثة : قوله : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } يحتمل أن يكون المراد بالفتنة هو أنهم عذبوا ، ويحتمل أن يكون المراد هو أنهم خوفوا بالتعذيب ، ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك المسلمين ارتدوا . قال الحسن : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة ، فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنهم أسلموا وهاجروا فنزلت هذه الآية فيهم ، وقيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد ، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه أسلم وحسن إسلامه ، وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنية ، ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك الضعفاء المعذبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقية ، فقوله : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } يحتمل كل واحد من هذه الوجوه الأربعة ، وليس في اللفظ ما يدل على التعيين .
إذا عرفت هذا فنقول : إن كانت هذه الآية نازلة فيمن أظهر الكفر ، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه ، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره ، وإن كانت واردة فيمن ارتد فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ويحصل له الغفران والرحمة ، فالهاء في قوله : { مِن بَعْدِهَا } تعود إلى الأعمال المذكورة فيما قبل ، وهي الهجرة والجهاد والصبر .
-----------------
وقال السعدي (3):
أي: ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم لمن هاجر في سبيله، وخلى دياره وأمواله طلبا لمرضاة الله، وفتن على دينه ليرجع إلى الكفر، فثبت على الإيمان، وتخلص ما معه من اليقين، ثم جاهد أعداء الله ليدخلهم في دين الله بلسانه ويده، وصبر على هذه العبادات الشاقة على أكثر الناس.
فهذه أكبر الأسباب التي تنال بها أعظم العطايا وأفضل المواهب، وهي مغفرة الله للذنوب صغارها وكبارها المتضمن ذلك زوال كل أمر مكروه، ورحمته العظيمة التي بها صلحت أحوالهم واستقامت أمور دينهم ودنياهم، فلهم الرحمة من الله في يوم القيامة
------------
وفي التفسير الوسيط (4):
وقوله - سبحانه - : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } أى : عذبوا وأوذوا من أجل أن يرتدوا إلى الكفر .
وأصل الفتن : إدخال الذهب فى النار لتظهر جودته من رداءته ، ثم استعمل فى الاختبار والامتحان بالمحن والشدائد ، وبالمنح واللطائف ، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة ، وأكثر ما تستعمل الفتنة فى الامتحان والمحن وعليه يحمل بعضهم تفسير الفتنة بالمحنة .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 301)
(2) - تفسير الرازي - (ج 9 / ص 475)
(3) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 450)
(4) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2574)(1/402)
والمراد بهؤلاء الذين هاجروا من بعد ما فتنوا - كما يقول ابن كثير - جماعة كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين فى قومهم ، فوافقوهم على الفتنة ، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا فى سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا . .
والمعنى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } - أيها الرسول الكريم - تكفل بالولاية والمغفرة لهؤلاء الذين هاجروا من دار الكفر إلى دار الإِسلام ، من بعد أن عذبهم المشركون لكى يرتدوا عن دينهم .
قال الآلوسى : وقرأ ابن عامر { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } بالبناء للفاعل ، وهو ضمير المشركين عند غير واحد ، أى : عذبوا المؤمنين ، كالحضرمى ، أكره مولاه " جبرا " حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا . . .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ } أى جاهدوا المشركين حتى تكون كلمة الله هى العليا ، وصبروا على البلاء والأذى طلبا لرضا الله - تعالى - .
والضمير فى قوله : { من بعدها } يعود إلى ما سبق ذكره من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر . أى : إن ربك - أيها الرسول الكريم - من بعد هذه الأفعال لكثير المغفرة والرحمة لهم ، جزاء هجرتهم وجهادهم وصبرهم على الأذى .
--------------
وقال الطاهر بن عاشور: (1)
[110] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110]
عطف على جملة {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} إلى قوله: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النحل:106-109].
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي، كما هو شأنها في عطفها الجمل. وذلك أن مضمون هذه الجملة المعطوفة أعظم رتبة من المعطوف عليها، إذ لا أعظم من رضى الله تعالى كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72].
والمراد بـ"الذين هاجروا"المهاجرون إلى الحبشة الذين أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة للتخلص من أذى المشركين. ولا يستقيم معنى الهجرة إلا لهذه الهجرة إلى أرض الحبشة.
قال ابن إسحاق:"فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانة من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم"اه.
فإن الله لما ذكر الذين آمنوا وصبروا على الأذى الذين اتقوا عذاب الفتنة بأن قالوا كلام الكفر بأفواههم ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان ذكر فريقا آخر فازوا بفرار من الفتن، لئلا يتوهم متوهم أن بعدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الشدة يوهن جامعة المسلمين فاستوفي ذكر فرق المسلمين كلها. وقد أومأ إلى حظهم من الفضل بقوله: {هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} فسمى عملهم هجرة.
وهذا الاسم في مصطلح القرآن يدل على مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدين، كما حكي عن إبراهيم - عليه السلام - {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]. وقال في الأنصار يحبون من هاجر إليهم، أي المؤمنين الذين فارقوا مكة.
وسمى ما لقوه من المشركين فتنة. والفتنة: العذاب والأذى الشديد المتكرر الذي لا يترك لمن يقع لمن يقع به صبرا ولا رأيا، قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذريات:13] ,وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10]. وتقدم بيانها عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة [191]. أي فقد نالهم الأذى في الله.
والمجاهدة: المقاومة بالجهد، أي الطاقة.
والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردوهم إلى الكفر.
وهاتان الآيتان مكيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين. والصبر: الثبات على تحمل المكروه والمشاق، وتقدم في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في سورة البقرة: [45].
وأكد الخبر بحرف التوكيد اللفظي لتحقيق الوعد، والاهتمام يدفع النقيصة عنهم في الفضل.
ويدل على ذلك ما في صحيح البخاري: أن أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم من أرض الحبشة، دخلت على حفصة فدخل عمر عليها فقال لها:سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله، كنتم مع النبي يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ونحن كنا نؤذى ونخاف، وذلك في الله ورسوله، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بيت حفصة قالت: أسماء: يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا، قال: "فما قلت له?" قالت: قلت له كذا وكذا، قال: "ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان".
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 13 / ص 240)(1/403)
واللام في قوله {لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} متعلق بـ "غفور" مقدم عليه للاهتمام. وأعيد {إِنَّ رَبَّكَ} ثانيا لطول الفصل بين اسم {إن} وخبرها المقترن بلام الابتداء مع إفادة التأكيد اللفظي.
وتعريف المسند إليه الذي هو اسم {إن} بطريق الإضافة دون العلمية لما يومئ إليه إضافة لفظ "رب" إلى ضمير النبي من كون المغفرة والرحمة لأصحابه كانت لأنهم أوذوا لأجل الله ولأجل النبي صلى الله عليه وسلم فكان إسناد المغفرة إلى الله بعنوان كونه رب محمد صلى الله عليه وسلم حاصلا أسلوب يدل على الذات العلية وعلى الذات المحمدية.
وهذا من أدق لطائف القرآن في قرن اسم النبي باسم الله بمناسبة هذا الإسناد بخصوصه.
وضمير {مِنْ بَعْدِهَا} عائد إلى الهجرة المستفادة من {هَاجَرُوا} ، أو إلى المذكورات: من هجرة وفتنة وجهاد وصبر، أو إلى الفتنة المأخوذة من {فُتِنُوا}. وكل تلك الاحتمالات تشير إلى أن المغفرة والرحمة لهم جزاء على بعض تلك الأفعال أو كلها.
وقرأ ابن عامر {فَتَنوا} بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل، وهي لغة في افتتن، بمعنى وقع في الفتنة.
-----------------
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(1) :
93 - 9 مَسْأَلَةٌ : عَنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ فِي تِلْكَ الْحَالِ ؟
أَجَابَ :
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 5 / ص 83)(1/404)
أَمَّا تَارِكُ الصَّلَاةِ . فَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ , لَكِنْ إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ , أَوْ وُجُوبَ بَعْضِ أَرْكَانِهَا : مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ , فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ أَوْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَنَابَةِ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ , فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرٍ , إذَا لَمْ يَعْلَمْ . لَكِنْ إذَا عَلِمَ الْوُجُوبَ : هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا قِيلَ : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَقِيلَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ , وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ . وَعَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْأَصْلِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فِيمَنْ صَلَّى فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ , وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ , ثُمَّ عَلِمَ , هَلْ يُعِيدُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ , وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ , ثُمَّ عَلِمَ , هَلْ يُعِيدُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ . وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ : إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ جَاهِلًا بِوُجُوبِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ دُونَ دَارِ الْحَرْبِ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالصَّائِمُ إذَا فَعَلَ مَا يُفْطِرُ بِهِ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ : فَهَلْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَكَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا [ فِي ] الْحَجِّ جَاهِلًا . وَأَصْلُ هَذَا : أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ : هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَثْبُتُ . وَقِيلَ : لَا يَثْبُتُ , وَقِيلَ : يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَلَا يَثْبُتُ الْخِطَابُ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ , لقوله تعالى : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ * . وَقَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا * . وَلِقَوْلِهِ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ * وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ , بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا حَتَّى يُبَلِّغَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَآمَنَ بِذَلِكَ , وَلَمْ يَعْلَمْ كَثِيرًا مِمَّا جَاءَ بِهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَلَى مَا لَمْ يَبْلُغْهُ , فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَذِّبْهُ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ , فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ عَلَى بَعْضِ شَرَائِطِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ أَوْلَى وَأَحْرَى , وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ { أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ ظَنُّوا أَنَّ قوله تعالى : { الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ * هُوَ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ . فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْبِطُ فِي رِجْلِهِ حَبْلًا . ثُمَّ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ هَذَا مِنْ هَذَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُرَادَ بَيَاضُ النَّهَارِ , وَسَوَادُ اللَّيْلِ * , وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ . وَكَذَلِكَ { عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَمَّارٌ أَجْنَبَا , فَلَمْ يُصَلِّ عُمَرُ حَتَّى أَدْرَكَ الْمَاءَ ; وَظَنَّ عَمَّارٌ أَنَّ التُّرَابَ يَصِلُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ فَتَمَرَّغَ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ وَلَمْ يَأْمُرْ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ * , وَكَذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ بَقِيَ مُدَّةً جُنُبًا لَمْ يُصَلِّ , وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ , بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَكَذَلِكَ { الْمُسْتَحَاضَةُ قَالَتْ : إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً تَمْنَعُنِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ , فَأَمَرَهَا بِالصَّلَاةِ زَمَنَ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ * , وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ . وَلَمَّا حَرُمَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ { تَكَلَّمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ , فَقَالَ لَهُ : إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ * وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ . وَلَمَّا زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ حِينَ هَاجَرَ(1/405)
إلَى الْمَدِينَةِ , كَانَ مَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ مِثْلُ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ , وَبِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ , وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ . وَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ , وَلَمْ يَبْلُغْ الْخَبَرُ إلَى مِنْ كَانَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , حَتَّى فَاتَ ذَلِكَ الشَّهْرُ , لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصِّيَامِ . وَكَانَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ - لَمَّا ذَهَبُوا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ - قَدْ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ , وَكَانُوا حِينَئِذٍ يَسْتَقْبِلُونَ الشَّامَ , فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . أَمَرَهُ بِاسْتِقْبَالِ الشَّامِ , وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا كَانَ صَلَّى . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { سُئِلَ - وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ : عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ , وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ , وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالْخَلُوقِ , فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ قَالَ لَهُ : انْزَعْ عَنْك جُبَّتَك , وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ الْخَلُوقِ , وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي حَجِّك * . وَهَذَا قَدْ فَعَلَ مَحْظُورًا فِي الْحَجِّ , وَهُوَ لُبْسُ الْجُبَّةِ , وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ بِدَمٍ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ لَلَزِمَهُ دَمٌ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا , فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي فِي الصَّلَاةِ . فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ الْمُجْزِيَةَ * وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةٍ مَا صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ . مَعَ قَوْلِهِ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا , وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ الصَّلَاةَ ; لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ , فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا , وَاَلَّتِي صَلَّاهَا لَمْ تَبْرَأْ بِهَا الذِّمَّةُ , وَوَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ , أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ , أَوْ طَهُرَتْ حَائِضٌ , أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ , وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَزِمَتْهُمْ الصَّلَاةُ أَدَاءً لَا قَضَاءً . وَإِذَا كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا الْمُسِيءُ الْجَاهِلُ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الطُّمَأْنِينَةُ حِينَئِذٍ , وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ , فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي صَلَاةِ تِلْكَ الْوَقْتِ , دُونَ مَا قَبْلَهَا . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ أَنْ يُعِيدَ , وَلِمَنْ تَرَكَ لُمْعَةً مِنْ قَدَمِهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ . وَقَوْلُهُ أَوَّلًا : { صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ * تَبَيَّنَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ صَلَاةً , وَلَكِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ , فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ ابْتِدَاءً , ثُمَّ عَلَّمَهُ إيَّاهَا , لَمَّا قَالَ : { وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا * . فَهَذِهِ نُصُوصُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ مَعَ الْجَهْلِ فِيمَنْ تَرَكَ وَاجِبَاتِهَا مَعَ الْجَهْلِ . وَأَمَّا أَمْرُهُ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ أَنْ يُعِيدَ فَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ . فَثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ حِينَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبَقَاءِ وَقْتِ الْوُجُوبِ , لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ مَعَ مُضِيِّ الْوَقْتِ . وَأَمَّا أَمْرُهُ لِمَنْ تَرَكَ لُمْعَةً فِي رِجْلِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ بِالْإِعَادَةِ , فَلِأَنَّهُ كَانَ نَاسِيًا , فَلَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ , كَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ , وَكَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا , فَإِنَّهَا قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ بِشَخْصٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَقْتِ بَعْدَهُ . أَعْنِي أَنَّهُ { رَأَى فِي رِجْلِ رَجُلٍ لُمْعَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ * . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثٌ جَيِّدٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ * وَنَحْوُهُ . فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَكْمِيلِ الْوُضُوءِ لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ بِإِعَادَةِ شَيْءٍ وَمَنْ كَانَ أَيْضًا يَعْتَقِدُ أَنَّ(1/406)
الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنْ الْعَارِفِينَ , أَوْ عَنْ الْمَشَايِخِ الْوَاصِلِينَ . أَوْ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِهِمْ , أَوْ أَنَّ الشَّيْخَ يُصَلِّي عَنْهُمْ , أَوْ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَسْقَطَ عَنْهُمْ الصَّلَاةَ , كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْفَقْرِ وَالزُّهْدِ , وَاتِّبَاعِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَالْمَعْرِفَةِ , فَهَؤُلَاءِ يُسْتَتَابُونَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ , وَإِلَّا قُوتِلُوا , وَإِذَا أَصَرُّوا عَلَى جَحْدِ الْوُجُوبِ حَتَّى قُتِلُوا , كَانُوا مِنْ الْمُرْتَدِّينَ , وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَصَلَّى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا تَرَكَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ جَاهِلِينَ لِلْوُجُوبِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَالْمُرْتَدُّ إذَا أَسْلَمَ لَا يَقْضِي مَا تَرَكَهُ حَالَ الرِّدَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ , كَمَا لَا يَقْضِي الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَالْأُخْرَى يَقْضِي الْمُرْتَدُّ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ . فَإِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَالْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ , وَطَائِفَةٍ مَعَهُ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ * الْآيَةَ , وَاَلَّتِي بَعْدَهَا . وَكَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ , وَاَلَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ , وَأَنْزَلَ فِيهِمْ : { ثُمَّ إنَّ رَبَّك لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّك مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * . فَهَؤُلَاءِ عَادُوا إلَى الْإِسْلَامِ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ عَامَ الْفَتْحِ , وَبَايَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا تَرَكَ حَالَ الْكُفْرِ فِي الرِّدَّةِ , كَمَا لَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ سَائِرَ الْكُفَّارِ إذَا أَسْلَمُوا . وَقَدْ ارْتَدَّ فِي حَيَاتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ اتَّبَعُوا الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيَّ الَّذِي تَنَبَّأَ بِصَنْعَاءِ الْيَمَنِ , ثُمَّ قَتَلَهُ اللَّهُ , وَعَادَ أُولَئِكَ إلَى الْإِسْلَامِ , وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ . وَتَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ , وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ , قَاتَلَهُمْ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى أَعَادُوا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , وَلَمْ يَأْمُرُوا أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ , وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَكَانَ أَكْثَرُ الْبَوَادِي قَدْ ارْتَدُّوا ثُمَّ عَادُوا إلَى الْإِسْلَامِ , وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِقَضَاءِ مَا تَرَكَ مِنْ الصَّلَاةِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ * يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ , بَلْ جُهَّالًا بِالْوُجُوبِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ , وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ . هَذَا حُكْمُ مَنْ تَرَكَهَا غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِوُجُوبِهَا . وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى التَّرْكِ : فَقَدْ ذَكَرَ عَلَيْهِ الْمُفَرِّعُونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فُرُوعًا . أَحَدُهَا هَذَا , فَقِيلَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ : مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ . وَإِذَا صِيرَ حَتَّى يُقْتَلَ فَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا مُرْتَدًّا , أَوْ فَاسِقًا كَفُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . حُكِيَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , وَهَذِهِ الْفُرُوعُ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ , وَهِيَ فُرُوعٌ فَاسِدَةٌ , فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالصَّلَاةِ فِي الْبَاطِنِ , مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا , يَمْتَنِعُ أَنْ يُصِرَّ عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يُقْتَلَ , وَهُوَ لَا يُصَلِّي هَذَا لَا يُعْرَفُ مِنْ بَنِي آدَمَ وَعَادَتِهِمْ ; وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ هَذَا قَطُّ فِي الْإِسْلَامِ , وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا , وَيُقَالُ لَهُ : إنْ لَمْ تُصَلِّ وَإِلَّا قَتَلْنَاك , وَهُوَ يُصِرُّ عَلَى تَرْكِهَا , مَعَ إقْرَارِهِ بِالْوُجُوبِ , فَهَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فِي الْإِسْلَامِ . وَمَتَى امْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ(1/407)
الصَّلَاةِ حَتَّى يُقْتَلَ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاطِنِ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا , وَلَا مُلْتَزِمًا بِفِعْلِهَا , وَهَذَا كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , كَمَا اسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِكُفْرِ هَذَا , وَدَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ . كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ * . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَوْلِهِ : { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ * . وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ : كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ إلَّا الصَّلَاةَ , فَمَنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى يَمُوتَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً قَطُّ , فَهَذَا لَا يَكُونُ قَطُّ مُسْلِمًا مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا , فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْوُجُوبِ , وَاعْتِقَادَ أَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ هَذَا دَاعٍ تَامٌّ إلَى فِعْلِهَا , وَالدَّاعِي مَعَ الْقُدْرَةِ يُوجِبُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ , فَإِذَا كَانَ قَادِرًا وَلَمْ يَفْعَلْ قَطُّ عُلِمَ أَنَّ الدَّاعِيَ فِي حَقِّهِ لَمْ يُوجَدْ . وَالِاعْتِقَادُ التَّامُّ لِعِقَابِ التَّارِكِ بَاعِثٌ عَلَى الْفِعْلِ , لَكِنَّ هَذَا قَدْ يُعَارِضُهُ أَحْيَانًا أُمُورٌ تُوجِبُ تَأْخِيرَهَا وَتَرْكَ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا , وَتَفْوِيتَهَا أَحْيَانًا . فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى تَرْكِهَا لَا يُصَلِّي قَطُّ , وَيَمُوتُ عَلَى هَذَا الْإِصْرَارِ وَالتَّرْكِ فَهَذَا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا ; لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُصَلُّونَ تَارَةً , وَيَتْرُكُونَهَا تَارَةً , فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا , وَهَؤُلَاءِ تَحْتَ الْوَعِيدِ , وَهُمْ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ حَدِيثُ عُبَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ , وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ , إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ * . فَالْمَحَافِظُ عَلَيْهَا الَّذِي يُصَلِّيهَا فِي مَوَاقِيتِهَا , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى , وَاَلَّذِي لَيْسَ يُؤَخِّرُهَا أَحْيَانًا عَنْ وَقْتِهَا , أَوْ يَتْرُكُ وَاجِبَاتِهَا , فَهَذَا تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى , وَقَدْ يَكُونُ لِهَذَا نَوَافِلُ يُكْمِلُ بِهَا فَرَائِضَهُ , كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ .
-----------------
وفي الموسوعة الفقهية (1):
مَا يَنْبَغِي لِلْآخِذِ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُرَاعِيَهُ :
يَنْبَغِي لِمَنْ يَأْخُذُ بِالتَّقِيَّةِ أَنْ يُلَاحِظَ أُمُورًا : 30 - مِنْهَا : أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ مُخَلِّصٌ غَيْرُ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ , فَيَجِبُ أَنْ يَلْجَأَ إلَيْهِ , وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُوَرِّيَ , كَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى شَتْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَرَّمَ وَشَرَّفَ , فَيَنْوِيَ مُحَمَّدًا آخَرَ فَإِنْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَتَرَكَهَا لَمْ تَكُنْ التَّقِيَّةُ عُذْرًا لَهُ , وَيُعْتَبَرُ كَافِرًا .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4721)(1/408)
31 - وَمِنْهَا : أَنْ يُلَاحِظَ عَدَمَ الِانْسِيَاقِ مَعَ الرُّخْصَةِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ التَّقِيَّةِ إلَى حَدِّ الِانْحِلَالِ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الضَّرُورَةِ , وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُضْطَرِّ { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّك غَفُورٌ رَحِيمٌ * فُسِّرَ الْبَاغِي بِمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ وَهُوَ يَجِدُ الْحَلَالَ , وَفُسِّرَ الْعَادِي بِمَنْ أَكَلَ مِنْ الْحَرَامِ فَوْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَةُ . وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ التَّقِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ { لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ * فَحَذَّرَ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الْمُتَّقِي وَيَتَمَادَى . ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ { قُلْ إنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ * فَنَبَّهَ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا يُضْمِرُهُ مُرْتَكِبُ الْحَرَامِ بِمُوَالَاةِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ هَلْ يَفْعَلُهُ تَقِيَّةً أَوْ مُوَافَقَةً . قَالَ الرَّازِيُّ : إنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , وَاسْتَثْنَى التَّقِيَّةَ فِي الظَّاهِرِ , أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ الْبَاطِنُ مُوَافِقًا لِلظَّاهِرِ فِي وَقْتِ التَّقِيَّةِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عِنْدَ التَّقِيَّةِ عَلَى إظْهَارِ الْمُوَالَاةِ , فَقَدْ يَصِيرُ إقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا الْوُقُوعُ فِي الْحَرَامِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ , الَّذِي أَوَّلُهُ التَّرَخُّصُ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ , وَآخِرُهُ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِهِ , هُوَ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَشَارَتْ إلَيْهَا بَقِيَّةُ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ الَّتِي تَلَتْ آيَةَ الْإِكْرَاهِ . قَالَ تَعَالَى { ثُمَّ إنَّ رَبَّك لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّك مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَفِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ * قَالَ الطَّبَرِيُّ " مَعْنَاهُ إذَا آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي إقْرَارِهِ بِاَللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ إيَّاهُ كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فَارْتَدَّ عَنْ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ رَاجِعًا إلَى الْكُفْرِ بِهِ " . قَالَ : " وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ كَانُوا بِمَكَّةَ , فَخَرَجُوا مِنْهَا مُهَاجِرِينَ فَأُدْرِكُوا وَأُخِذُوا فَأَعْطَوْا الْمُشْرِكِينَ لِمَا نَالَهُمْ أَذَاهُمْ مَا أَرَادُوهُ مِنْهُمْ " . وَذَكَرَ غَيْرُ الطَّبَرِيِّ مِنْهُمْ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ , وَأَبَا جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرَهُمْ ثُمَّ إنَّهُمْ هَاجَرُوا فَنَزَلَ قوله تعالى { ثُمَّ إنَّ رَبَّك لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّك مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * .(1/409)
32 - وَمِنْهَا أَنْ يُلَاحِظَ النِّيَّةَ , فَيَنْوِيَ أَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ لِلضَّرُورَةِ , وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ بِرُخْصَةِ اللَّهِ , فَإِنْ فَعَلَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ سَهْلٌ وَلَا بَأْسَ بِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي الْإِثْمِ . وَهَذَا مَا يُشِيرُ إلَيْهِ آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ قوله تعالى { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ * وَفِي الْحَدِيثِ { دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ , قَالُوا : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا , فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا : قَرِّبْ قَالَ : لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ فَقَالُوا لَهُ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا , فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ قَالَ : فَدَخَلَ النَّارَ , وَقَالُوا لِلْآخَرِ قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا قَالَ مَا كُنْت لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : فَضَرَبُوا عُنُقَهُ قَالَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ * . قَالَ فِي تَيْسِيرِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ : وَفِيهِ : أَنَّهُ دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبٍ لَمْ يَقْصِدْهُ بَلْ فَعَلَهُ تَخَلُّصًا مِنْ شَرِّهِمْ . وَفِيهِ : مَعْرِفَةُ قَدْرِ الشِّرْكِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ صَبَرَ عَلَى الْقَتْلِ وَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى طِلْبَتِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يَطْلُبُوا إلَّا الْعَمَلَ الظَّاهِرَ .
=================
الرزق الحسن في الدارين :
قال تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } (58) سورة الحج
قال الإمام القرطبي رحمه الله(1) :
أفرد ذكر المهاجرين الذين ماتوا وقُتلوا تفضيلاً لهم وتشريفاً على سائر الموتى
وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مَظْعُون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قُتل في سبيل الله أفضلُ ممن مات حَتْف أنفه؛ فنزلت هذه الآية مُسَوِّيةً بينهم ، وأن الله يرزق جميعهم رزقاً حسناً . وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل . وقد قال بعض أهل العلم : إن المقتول في سبيل الله والميتَ في سبيل الله شهيد؛ ولكن للمقتول مَزِيّة ما أصابه في ذات الله . وقال بعضهم : هما سواء؛ واحتج بالآية ، وبقوله تعالى : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } [ النساء : 100 ] ، وبحديث أمّ حَرام؛ فإنها صُرعت عن دابتها فماتت ولم تُقتل فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أنت من الأوّلين " ، وبقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عَتيك : " من خرج من بيته مهاجراً في سبيل الله فخرّ عن دابته فمات أو لدغته حية فمات أو مات حَتْفَ أنفه فقد وقع أجره على الله ومن مات قَعْصاً فقد استوجب المآب " وذكر ابن المبارك عن فضالة بن عبيد في حديث ذكر فيه رجلين أحدهما أصيب في غَزاة بِمَنْجَنيق فمات والآخر مات هناك؛ فجلس فضالة عند الميت فقيل له : تركت الشهيد ولم تجلس عنده؟ فقال : ما أبالي من أيّ حفرتيهما بُعثت؛ ثم تلا قوله تعالى : { والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ } الآية كلها . وقال سليمان بن عامر : كان فضالة برُودس أميراً على الأرباع فخُرِج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوَفّى؛ فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته؛ فقال : أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل! فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أيّ حفرتيهما بُعثت ، اِقرءوا قوله تعالى : { والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ } . كذا ذكره الثعلبي في تفسيره ، وهو معنى ما ذكره ابن المبارك . واحتج من قال : إن للمقتول زيادةَ فضل بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه سئل : أيّ الجهاد أفضل؟ قال : «من أُهْرِيق دمُه وعُقر جوادُه» " وإذا كان من أهريق دمه وعُقر جواده أفضلَ الشهداء عُلم أنه من لم يكن بتلك الصفة مفضول . قرأ ابن عامر وأهل الشام «قُتّلوا» بالتشديد على التكثير . الباقون بالتخفيف . { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } أي الجِنان . قراءة أهل المدينة «مَدخلا» بفتح الميم؛ أي دخولاً . وضمها الباقون ، وقد مضى في «سبحان» . { وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } قال ابن عباس : عليم بنياتهم ، حليم عن عقابهم .
------------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله (2):
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 3783)
(2) - تفسير ابن كثير - (ج 5 / ص 447)(1/410)
يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وطلبا لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخِلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة لدين الله { ثُمَّ قُتِلُوا } أي: في الجهاد { أَوْ مَاتُوا } أي: حتف أنفهم (4) ، أي: من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ النساء: 100 ].
وقوله: { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } أي: ليُجْريَن عليهم (5) من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ } أي: الجنة. كما قال تعالى: { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ . فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } [ الواقعة: 88 ، 89 ] فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة نعيم، كما قال هاهنا: { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } ، ثم قال: { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } أي: بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، { حَلِيمٌ } أي: يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه، وتوكلهم عليه. فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فإنه حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران: 169 ]، والأحاديث في هذا كثيرة، كما تقدم (6) وأما من تُوُفي
__________
(1) في أ: "وأفعالهم".
(2) في أ: "وجحدته".
(3) في أ: "وإبائهم".
(4) في أ: "أنفسهم".
(5) في أ: "ليجزيهم عليه".
(6) في أ: "مر".
في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا المسيَّب بن واضح، حدثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن شُرَيْح، عن ابن (1) الحارث -يعني: عبد الكريم-عن ابن عقبة -يعني: أبا عبيدة بن عقبة-قال: حدثنا (2) شُرَحْبِيل بن السِّمْط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان-يعني: الفارسي-رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله يقول: "من مات مرابطًا، أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأمن (3) من الفَتَّانين" واقرءوا إن شئتم: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ }
وقال أيضا: حدثنا أبو زرعة، حدثنا زيد بن بشر، أخبرني همام، أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس، ومعنا فَضَالة بن عبيد الأنصاري -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم-فمر بجنازتين، إحداهما قتيل والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة: ما لي (4) أرى الناس مالوا مع هذا، وتركوا هذا؟! فقالوا: هذا قتيل في سبيل الله تعالى. فقال: والله ما أبالي من أي حُفرتيهما بُعثت، اسمعوا كتاب الله: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ] (5) }
وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا ابن لَهِيعة، حدثنا سلامان بن عامر الشعباني، أن عبد الرحمن بن جَحْدَم الخولاني حدثه: أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى، فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثتُ، إن الله يقول: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا ] (6) يَرْضَوْنَهُ } فما تبتغي (7) أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ورزقت رزقًا حسنًا، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.
ورواه ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح، عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميرًا على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين، أحدهما قتيل (8) والآخر متوفى... فذكر نحو ما تقدم (9) .
__________
(1) في أ: "أبي".
(2) في أ: "قال".
(3) في أ: "وأومن".
(4) في أ: "ما".
(5) زيادة من ف، أ وفي هـ، ت : "حتى آخر الآية".
(6) زيادة من ف، وفي ت: "إلى قوله".
(7) في أ: "ينبغي".
(8) في أ: "قتل".
(9) تفسير الطبري (17/136).
----------------
-----------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 331)(1/411)
الهجرة في سبيل الله تجرد من كل ما تهفو له النفس , ومن كل ما تعتز به وتحرص عليه:الأهل والديار والوطن والذكريات , والمال وسائر أعراض الحياة . وإيثار العقيدة على هذا كله ابتغاء رضوان الله , وتطلعا إلى ما عنده وهو خير مما في الأرض جميعا .
والهجرة كانت قبل فتح مكة وقيام الدولة الإسلامية . أما بعد الفتح فلم تعد هجرة . ولكن جهاد وعمل - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن جاهد في سبيل الله وعمل كان له حكم الهجرة , وكان له ثوابها . .
(والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا) . . سواء لاقوا الله شهداء بالقتل , أو لاقوه على فراشهم بالموت . فلقد خرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيله مستعدين لكل مصير , واستروحوا الشهادة في هجرتهم عن أي طريق , وضحوا بكل عرض الحياة وتجردوا بهذا لله . فتكفل الله لهم بالعوض الكريم عما فقدوه: (ليرزقنهم الله رزقا حسنا , وإن الله لهو خير الرازقين) . . وهو رزق أكرم وأجزل من كل ما تركوا: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه) فقد خرجوا مخرجا يرضي الله , فتعهد لهم الله بأن يدخلهم مدخلا يرضونه . وإنه لمظهر لتكريم الله لهم بأن يتوخى ما يرضونه فيحققه لهم , وهم عباده , وهو خالقهم سبحانه . (وإن الله لعليم حليم) . . عليم بما وقع عليهم من ظلم وأذى , وبما يرضي نفوسهم ويعوضها . حليم يمهل . ثم يوفي الظالم والمظلوم الجزاء الأوفى .
فأما الذين يقع عليهم العدوان من البشر فقد لا يحلمون ولا يصبرون , فيردون العدوان , ويعاقبون بمثل ما وقع عليهم من الأذى . فإن لم يكف المعتدون , وعاودوا البغي على المظلومين تكفل الله عندئذ بنصر المظلومين على المعتدين:
(ذلك . ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله . إن الله لعفو غفور) وشرط هذا النصر أن يكون العقاب قصاصا على اعتداء لا عدوانا ولا تبطرا ; وألا يتجاوز العقاب مثل ما وقع من العدوان دون مغالاة .
ويعقب على رد الاعتداء بمثله بأن الله عفو غفور . فهو الذي يملك العفو والمغفرة . أما البشر فقد لا يعفون ولا يغفرون , وقد يؤثرون القصاص ورد العدوان . وهذا لهم بحكم بشريتهم ولهم النصر من الله .
-----------------
وقال الألوسي(1) :
{ والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله } أي في الجهاد حسبما يلوح به قوله تعالى : { ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ } أي في تضاعيف المهاجرة . وقرأ ابن عامر { قاتلوا } بالتشديد ، ومحل الموصول الرفع على الابتداء ، وقوله تعالى : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله } جواب لقسم محذوف والجملة خبره على الأصح من جواز وقوع القسم وجوابه خبراً ، ومن منع أضمر قولاً هو الخبر والجملة محكية به ، وقوله سبحانه : { رِزْقًا حَسَنًا } أما مفعول ثان ليرزق على أنه من باب النقض والذبح أي مرزوقاً حسناً أو مصدر مبين للنوع ، والمراد به عند بعض ما يكون للشهداء في البرزخ من الرزق ، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم . وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من مات مرابطاً أجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين » واقرؤا إن شئتم { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا } إلى قوله تعالى { حليم } [ الحج : 58-59 ] وقد نص سبحانه في آية أخرى على أن الذين يقتلون في سبيل الله تعالى أحيا عند ربهم يرزقون وليس ذلك في تلك الآية إلا في البرزخ وقال آخرون : المراد به ما لا ينقطع أبداً من نعيم الجنة . ورد بأن ذلك لا اختصاص له بمن هاجر في سبيل الله ثم قتل أو مات بل يكون للمؤمنين كلهم .
وتعقب بأن عدم الاختصاص ممنوع فإن تنكير { رِزْقاً } يجوز أن يكون للتنويع ويختص ذلك النوع بأولئك المهاجرين ، وقيل المراد تشريفهم وتبشيرهم بهذا الوعد الصادر ممن لا يخلف الميعاد المقترن بالتأكيد القسمي ويكفي ذلك في تفضيلهم على سائر المؤمنين كما في المبشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه نظر .
وقال الكلبي : هو الغنيمة ، وقال الأصم : هو العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام : { وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } [ هود : 88 ] ويرد عليهما أنه تعالى جعل هذا الرزق جزاء على قتلهم أو وتهم في تضاعيف المهاجرة في سبيل الله تعالى فلا يصح أن يكون في الدنيا ولعل قائل ذلك يقول : إنه في الآخرة وفيها تتفاوت مراتب العلم أيضاً
وظاهر الآية على ما قيل : استواء من قتل ومن مات مهاجراً في سبيل الله تعالى في الرتبة وبه أخذ بعضهم .
وذكر أنه لما مات عثمان بن مظعون . وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس : من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت الآية مسوية بينهم .
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 13 / ص 116)(1/412)
وأخرج ابن جرير . وابن المنذر . وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمروا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى فمال الناس على القتيل في سبيل الله تعالى فقال : والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله تعالى فقال : { والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ } الآية . ويؤذ ذلك بما روى عن أنس قال : قال صلى الله عليه وسلم : « المقتول في سبيل الله تعالى والمتوفى في سبيل الله تعالى بغير قتل هما في الأجر شريكان » فإن ظاهر الشركة يشعر بالتسوية ، وظاهر القول بالتسوية أن المتوفى مهاجراً في سبيل الله تعالى شهيداً كالقتيل وبه صرح بعضهم ، وفي البحر أن التسوية في الوعد بالرزق الحسن لا تدل على تفضيل في المعطى ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر ، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل انتهى ، وما تقدم في سبيل النزول غير مجمع عليه ، فقد روى أن طوائف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فنزلت ، واستدل بعضهم بهذا أيضاً على التسوية ، وقال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة لهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم ، وعلى هذا القول ليس المراد من المهاجرة في سبيله تعالى المهاجرة في الجهاد ، وأياً ما كان فهذا ابتداء كلام غير داخل في حيز التفصيل . ويوهم ظاهر كلام بعضهم الدخول وأنه تعالى أفراد المهاجرين بالذكر مع دخولهم دخولاً أولياً في { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الحج : 56 ] تفخيماً لشأنهم وهو كما ترى ، { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرزقين } فإنه جل وعلا يرزق بغير حساب مع أن ما يرزقه قد لا يقدر عليه أحد غيره سبحانه وأن غيره تعالى إنما يرزق مما رزقه هو جل شأنه .
واستدل بذلك على أنه قد يقال لغيره تعالى رازق والمراد به معطى ، والأولى عندي أن لا يطلق رازق على غيره تعالى وأن لا يتجاوز عما ورد .
وأما إسناد الفعل إلى غيره تعالى كرزق الأمير الجندي وأرزق فلاناً من كذا فهو أهون من إطلاق رازق ولعله مما لا بأس به ، وصرح الراغب بأن الرزاق لا يقال إلا لله تعالى ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله .
[ بم وقوله تعالى : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } استئناف مقرر لمضمون قوله سبحانه : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله } [ الحج : 58 ] أو بدل منه مقصود منه تأكيده . و { مُّدْخَلاً } إما اسم مكان أريد به الجنة كما قال السدي وغيره أو درجات فيها مخصوصة بأولئك المهاجرين كما قيل ، وقيل هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع ، أو مصدر ميمي ، وهو على الاحتمال الأول مفعول ثان للإدخال وعلى الثاني مفعول مطلق ، ووصفه بيرضونه على الاحتمالين لما أنهم يرون إذا أدخلوا ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بسر ، وقيل على الثاني : إن رضاهم لما أن إدخالهم من غير مشقة تنالهم بل براحة واحترام .
وقرأ أهل المدينة { مُّدْخَلاً } بالفتح والباقون بالضم { وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ } بالذي يرضيهم فيعطيهم إياه أو لعليم بأحوالهم وأحوال أعدائهم الذين هاجروا لجهادهم { حَلِيمٌ } فلا يعاجل أعداءهم بالعقوبة ، وبهذا يظهر مناسبة هذا الوصف لما قبله وفيه أيضاً مناسبة لما بعد { ذلك } قد حقق أمره { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } أي من جازى الجاني بمثل ماجنى به عليه ، وتسمية ما وقع ابتداء عقاباً مع أن العقاب كما قال غير واحد جزاء الجناية لأنه يأتي عقبها وهو في الأصل شيء يأتي عقب شيء للمشاكلة أو لأن الابتداء لما كان سبباً للجزاء أطلق عليه مجازاً مرسلاً بعلاقة السببية ، وقال بعض المحققين : يجوز أن يقال : لا مشاكلة ولا مجاز بناء على أن العرف جار على إطلاقه على ما يعذب به وإن لم يكن جزاء جناية ، و { مِنْ } موصولة وجوز أن تكون شرطية سد جواب القسم الآتي مسد جوابها ، والجملة مستأنفة ، والباء في الموضعين قيل للسبب لا للآلة وإليه ذهب أبو البقاء ، وقال الخفاجي : باء { بِمَثَلٍ } آلية لا سببية لئلا يتكرر مع قوله تعالى : { بِهِ } والمنساق إلى ذهني القاصر كونها في الموضعين للآلة وفيما ذكره الخفاجي نظر فتأمل .
----------------
وقال الرازي (1):
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 11 / ص 142)(1/413)
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن الملك له يوم القيامة وأنه يحكم بينهم ويدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر وعده الكريم للمهاجرين ، وأفردهم بالذكر تفخيماً لشأنهم فقال عز من قائل { والذين هاجروا } واختلفوا فيمن أريد بذلك ، فقال بعضهم من هاجر إلى المدينة طالباً لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقرباً إلى الله تعالى ، وقال آخرون بل المراد من جاهد فخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو في سراياه لنصرة الدين ولذلك ذكر القتل بعده ، ومنهم من حمله على الأمرين . واختلفوا من وجه آخر فقال قوم المراد قوم مخصوصون ، روى مجاهد أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم ، وظاهر الكلام للعموم . ثم إنه سبحانه وتعالى وصفهم برزقهم ومسكنهم ، أما الرزق فقوله تعالى : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لا شبهة في أن الرزق الحسن هو نعيم الجنة ، وقال الأصم إنه العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام { وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } [ هود : 88 ] فهذا في الدنيا وفي الآخرة الجنة ، وقال الكلبي رزقاً حسناً حلالاً وهو الغنيمة وهذان الوجهان ضعيفان ، لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت وبعدهما لا يكون إلا نعيم الجنة .
المسألة الثانية : لا بد من شرط اجتناب الكبائر في كل وعد في القرآن لأن هذا المهاجر لو ارتكب كبيرة لكان حكمه في المشيئة على قولنا ، ولخرج عن أن يكون أهلاً للجنة قطعاً على قول المعتزلة . فإن قيل فما فضله على سائر المؤمنين في الوعد إن كان كما قلتم؟ قلنا فضلهم يظهر لأن ثوابهم أعظم وقد قال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل } [ الحديد : 10 ] فمعلوم أن من هاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وفارق دياره وأهله لتقويته ونصرة دينه مع شدة قوة الكفار وظهور صولتهم صار فعله كالسبب لقوة الدين ، وعلى هذا الوجه عظم محل الأنصار حتى صار ذكرهم والثناء عليهم تالياً لذكر المهاجرين لما آووه ونصروه .
المسألة الثالثة : اختلفوا في معنى قوله : { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين } مع العلم بأن كل الرزق من عنده على وجوه : أحدها : التفاوت إنما كان بسبب أنه سبحانه مختص بأن يرزق ما لا يقدر عليه غيره وثانيها : أن يكون المراد أنه الأصل في الرزق ، وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله تعالى وثالثها : أن غيره ينقل الرزق من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق ورابعها : أن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به ، إما لأجل أن يخرج عن الواجب ، وإما لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء ، وإما لأجل دفع الرقة الجنسية ، فكان الواحد منا إذا رزق فقد طلب العوض ، أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالاً زائداً فكان الرزق الصادر منه لمحض الإحسان وخامسها : أن غيره إنما يرزق لو حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل ، وتلك الإرادة من الله ، فالرازق في الحقيقة هو الله تعالى وسادسها : أن المرزوق يكون تحت منة الرازق ومنة الله تعالى أسهل تحملاً من منة الغير ، فكان هو خير الرازقين وسابعها : أن الغير إذا رزق فلولا أن الله تعالى أعطى ذلك الإنسان أنواع الحواس وأعطاه السلامة والصحة والقدرة على الانتفاع بذلك الرزق لما أمكنه الانتفاع به ، ورزق الغير لا بد وأن يكون مسبوقاً برزق الله وملحوقاً به حتى يحصل الانتفاع . وأما رزق الله تعالى فإنه لا حاجة به إلى رزق غيره ، فثبت أنه سبحانه خير الرازقين .
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة الآية تدل على أمور ثلاثة : أحدها : أن الله تعالى قادر وثانيها : أن غير الله يصح منه أن يرزق ويملك ، ولولا كونه قادراً فاعلاً لما صح ذلك وثالثها : أن الرزق لا يكون إلا حلالاً لأن قوله { خَيْرُ الرازقين } دلالة على كونهم ممدوحين والجواب : لا نزاع في كون العبد قادراً ، فإن عندنا القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام . وأما الثالث فبحث لفظي وقد سبق الكلام فيه .(1/414)
المسألة الخامسة : لما قال تعالى : { ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ } فسوى بينهما في الوعد ، ظن قوم أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء ، وهذا إن أخذوه من الظاهر فلا دلالة فيه ، لأن الجمع بينهما في الوعد لا يدل على تفضيل ولا تسوية ، كما أن الجمع بين المؤمنين لا يدل على ذلك . وإن أخذوه من دليل آخر فهو حق ، فإنه روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « المقتول في سبيل الله تعالى ، والمتوفى في سبيل الله بغير قتل ، هما في الخير والأجر شريكان » ولفظ الشركة مشعر بالتسوية ، وإلا فلا يبقى لتخصيصهما بالذكر فائدة . وروى أيضاً : أن طوائف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك . فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين وهذا يدل على التسوية لأنهم لما طلبوا مقدار الأجر ، فلولا التسوية لم يكن الجواب مفيداً . أما المسكن فقوله تعالى : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء مدخلاً بضم الميم وهو من الإدخال ، ومن قرأ بالفتح فالمراد الموضع .
المسألة الثانية : قيل في المدخل الذي يرضونه إنه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع ، وقال أبو القاسم القشيري هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما قال يرضونه ، لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولاً ، ونظيره قوله تعالى :{ ومساكن تَرْضَوْنَهَا } [ التوبة : 24 ] وقوله : { فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] وقوله : { ارجعي إلى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر : 28 ] وقوله : { ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
المسألة الثالثة : إن قيل ما معنى { وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } وما تعلقه بما تقدم؟ قلنا يحتمل أنه عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم ، ويحتمل أن يكون المراد أنه عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة ، وأما الحليم فالمراد أنه لحلمه لا يعجل بالعقوبة فيمن يقدم على المعصية ، بل يمهل ليقع منه التوبة فيستحق منه الجنة .
---------------
وقال السعدي (1):
هذه بشارة كبرى، لمن هاجر في سبيل الله، فخرج من داره ووطنه وأولاده وماله، ابتغاء وجه الله، ونصرة لدين الله، فهذا قد وجب أجره على الله، سواء مات على فراشه، أو قتل مجاهدا في سبيل الله، { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } في البرزخ، وفي يوم القيامة بدخول الجنة الجامعة للروح والريحان، والحسن والإحسان، ونعيم القلب والبدن، ويحتمل أن المعنى (1) أن المهاجر في سبيل الله، قد تكفل برزقه في الدنيا، رزقا واسعا حسنا، سواء علم الله منه أنه يموت على فراشه، أو يقتل شهيدا، فكلهم مضمون له الرزق، فلا يتوهم أنه إذا خرج من دياره وأمواله، سيفتقر ويحتاج، فإن رازقه هو خير الرازقين، وقد وقع كما أخبر، فإن المهاجرين السابقين، تركوا ديارهم وأبناءهم وأموالهم، نصرة لدين الله، فلم يلبثوا إلا يسيرا، حتى فتح الله عليهم البلاد، ومكنهم من العباد فاجتبوا من أموالها، ما كانوا به من أغنى الناس، ويكون على هذا القول، قوله: { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ } إما ما يفتحه الله عليهم من البلدان، خصوصا فتح مكة المشرفة، فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور، وإما المراد به رزق الآخرة، وأن ذلك دخول الجنة، فتكون الآية جمعت بين الرزقين، رزق الدنيا، ورزق الآخرة، واللفظ صالح لذلك كله، والمعنى صحيح، فلا مانع من إرادة الجميع { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } بالأمور، ظاهرها، وباطنها، متقدمها، ومتأخرها، { حَلِيمٌ } يعصيه الخلائق، ويبارزونه بالعظائم، وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره، بل يواصل لهم رزقه، ويسدي إليهم فضله.
--------------
وفي التفسير الوسيط (2):
{ والذين هَاجَرُواْ } من ديارهم { فِي سَبِيلِ } إعلاء كلمة الله ونصرة دينه { ثُمَّ قتلوا } أى : قتلهم الكفار فى الجهاد { أَوْ مَاتُواْ } أى : على فراشهم .
هؤلاء وهؤلاء { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله } - تعالى - بفضله وكرمه { رِزْقاً حَسَناً } يرضيهم ويسرهم يوم يلقونه . حيث يبوئهم جنته .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 543)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2984)(1/415)
قال - تعالى - : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . . . } وقال - سبحانه - { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين } تذييل قصد به بيان أن عطاءه - سبحانه - فوق كل عطاء ، لأنه يرزق من يشاء بغير حساب ، ويعطى من يشاء دون أن ينازعه منازع ، أو يعارضه معارض ، أو ينقص مما عنده شىء .
وقوله - تعالى - : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ . . . } استئناف مقرر لما قبله . و " مدخلا " أى : إدخالا ، من أدخل يدخل - بضم الياء - وهو مصدر ميمى للفعل الذى قبله ، والمفعول محذوف .
أى : ليدخلنهم الجنة إدخالا يرضونه .
وقرأ نافع ( مدخلا ) - بفتح الميم - على أنه اسم مكان أريد به الجنة ، أى : ليدخلنهم مكانا يرضونه وهو الجنة .
{ وَإِنَّ الله } - تعالى - { لَعَلِيمٌ } بالذى يرضيهم ، وبالذى يستحقه كل إنسان من خير أو شر { حَلِيمٌ } فلا يعاجل بالعقوبة ، بل يستر ويعفو عن كثير .
================
العفو عن هفوات المهاجرين
قال تعالى : { وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* (22) سورة النور
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
الحادية والعشرون : قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة } الآية . المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قُحافة رضي الله عنه ومِسْطح بن أثَاثة . وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البَدْرِيِّين المساكين . وهو مِسْطح بن أُثَاثة بن عَبّاد بن المطلب بن عبد مناف . وقيل : اسمه عَوف ، ومسطح لقب . وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته؛ فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال ، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبداً ، فجاء مسطح فاعتذر وقال : إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول . فقال له أبو بكر : لقد ضحكت وشاركت فيما قيل؛ ومَرّ على يمينه ، فنزلت الآية . وقال الضحاك وابن عباس : إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا : والله لا نصِل من تكلم في شأن عائشة؛ فنزلت الآية في جميعهم . والأول أصح؛ غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسَعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابرَ الدهر . وروى الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } العشر آيات ، قال أبو بكر وكان ينفق على مِسطح لقرابته وفقره : واللَّهِ لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة؛ فأنزل الله تعالى { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة إلى قوله أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } . قال عبد الله بن المبارك : هذه أرْجَى آية في كتاب الله تعالى؛ فقال أبو بكر؛ والله إني لأحِبّ أن يغفر الله لي؛ فرجَع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : لا أنْزِعُها منه أبداً .
الثانية والعشرون : في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيراً لا يُحبط الأعمال؛ لأن الله تعالى وصف مِسْطحاً بعد قوله بالهجرة والإيمان؛ وكذلك سائر الكبائر؛ ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله ، قال الله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] .
الثالثة والعشرون : من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أوْلَى منه أتاه وكفّر عن يمينه ، أو كفّر عن يمينه وأتاه؛ كما تقدم في «المائدة» . ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سُنّة من السنن أو مندوباً وأبّد ذلك أنها جُرْحة في شهادته؛ ذكره الباجي في المنتقى .
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل } «ولا يأتل» معناه يحلف؛ وزنها يفتعل ، من الألِيّة وهي اليمين؛ ومنه قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } [ البقرة : 226 ] ؛ وقد تقدم في «البقرة» . وقالت فرقة : معناه يُقَصّر؛ من قولك : ألَوْتُ في كذا إذا قصرت فيه؛ ومنه قوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] .
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 3904)(1/416)
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } تمثيل وحجة؛ أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم؛ وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام : " من لا يرحم لا يرحم " . السادسة والعشرون : قال بعض العلماء : هذه أرْجَى آية في كتاب الله تعالى ، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ . وقيل : أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى : { وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } [ الأحزاب : 47 ] . وقد قال تعالى في آية أخرى : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } [ الشورى : 22 ] ؛ فشرح الفضل الكبير في هذه الآية ، وبشر به المؤمنين في تلك . ومن آيات الرجاء قوله تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] وقوله تعالى : { الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } [ الشورى : 19 ] . وقال بعضهم : أرْجَى آية في كتاب الله عز وجل : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار .
السابعة والعشرون : قوله تعالى : { أَن يؤتوا } أي لا يؤتوا ، فحذف «لا»؛ كقول القائل :
فقلت يمين اللَّهِ أبْرَحُ قاعداً ... ذكره الزجاج . وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار «لا» . { وَلْيَعْفُواْ } من عَفا الربع أي دَرَسَ؛ فهو مَحْوُ الذنب كما يعفو أثر الربع .
---------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله(1) :
يقول تعالى: { وَلا يَأْتَلِ } من الأليَّة، [وهي: الحلف] (1) أي: لا يحلف { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ } أي: الطَّول والصدقة والإحسان { وَالسَّعَة } أي: الجِدَةَ { أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: لا تحلفوا ألا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين. وهذه (2) في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام؛ ولهذا قال: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } أي: عما تقدم منهم من الإساءة والأذى، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم.
وهذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، كما تقدم في الحديث. فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه (3) -شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد وَلَق وَلْقَة (4) تاب الله عليه منها، وضُرب الحد عليها. وكان الصديق، رضي الله عنه، معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر (5) عن المذنب إليك نغفر (6) لك، وكما تصفح نصفح (7) عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا (8) أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق [رضي الله عنه وعن بنته] (9) .
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) في ف: "وهذا".
(3) في ف، أ: "من أقيم الحد عليه".
(4) في ف: "زلق زلقة".
(5) في ف: "يغفر".
(6) في ف: "يغفر".
(7) في ف: "يصفح".
(8) في ف: "ما".
(9) زيادة من ف، أ.
الذي ذكر] في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي، والله أعلم.
--------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (2):
وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض - كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب -:
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ; وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم ? والله غفور رحيم . .
نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة . وقد عرف أنه مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه . وهو قريبه . وهو من فقراء المهاجرين . وكان أبو بكر - رضي الله عنه - ينفق عليه . فآلى على نفسه لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا .
نزلت هذه الآية تذكر أبا بكر , وتذكر المؤمنين , بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم . فليأخذوا أنفسهم - بعضهم مع بعض - بهذا الذي يحبونه , ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه , إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا . .
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 31)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 338)(1/417)
وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية , التي تطهرت بنور الله . أفق يشرق في نفس أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أبي بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه , والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه . فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو ; وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي:
(ألا تحبون أن يغفر الله لكم ?) حتى يرتفع على الآلام , ويرتفع على مشاعر الإنسان , ويرتفع على منطق البيئة . وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله . فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة وصدق يقول:بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي . ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه , ويحلف:
والله لا أنزعها منه أبدا . ذلك في مقابل ما حلف:
والله لا أنفعه بنافعة أبدا .
بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير , ويغسله من أوضار المعركة , ليبقى أبدا نظيفا طاهرا زكيا مشرقا بالنور . .
-------------
وقال الألوسي(1) :
{ وَلاَ يَأْتَلِ } أي لا يحلف افتعال من الألية .
وقال أبو عبيدة . واختاره أبو مسلم : أي لا يقصر من الألو بوزن الدلو والألو بوزن العتو ، قيل : والأول أوفق بسبب النزول وذلك أنه صح عن عائشة وغيرها أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه حلف لما رأى براءة ابنته أن لا ينفق على مسطح شيئاً أبداً وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين شهدوا بدراً وكان ابن خالته ، وقيل : ابن أخته رضي الله تعالى عنه فنزلت { وَلاَ يَأْتَلِ } الخ وهذا هو المشهور .
وعن محمد بن سيرين أن أبا بكر حلف لا ينفق على رجلين كانا يتيمين في حجره حيث خاضا في أمر عائشة أحدهما مسطح فنزلت ، وعن ابن عباس ، والضحاك أنه قطع جماعة من المؤمنين منهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه منافعهم عمن قال في الإفك وقالوا : والله لا نصل من تكلم فيه فنزلت ، وقرأ عبد الله بن عباس بن ربيعة . وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم { *يتال } مضارع تالى بمعنى حلف ، قال الشاعر
: تالى ابن أوس حلفة ليردني ... إلى نسوة لي كأنهن مقائد
وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل { يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } أي الزيادة في الدين { والسعة } أي في المال { أَن يُؤْتُواْ } أي على أن لا يؤتوا أو كراهة أن يؤتوا أو لا يقصروا في أن يؤتوا .
وقرأ أبو حيوة . وابن قطيب . وأبو البرهسم { تُؤْتُواْ } بتاء الخطاب على الالتفات .
{ أُوْلِى القربى والمساكين والمهاجرين * فِى سَبِيلِ الله } صفات لموصوف واحد بناء على ما علمت من أن الآية نزلت على الصحيح بسبب حلف أبي بكمر أن لا ينفق على مسطح وهو متصف كمما سمعت بها فالعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الموصوفات ، والجمع وإن كان السبب خاصاً لقصد العموم وعدم الاكتفاء بصفة للمبالغة في إثبات استحقاق مسطح ونحوه الايتاء فإن من اتصف بواحدة من هذه الصفات إذا استحقه فمن جمعها بالطريق الأولى ، وقيل : هي لموصوفات أقيمت هي مقامها وحذف المفعول الثاني لغاية ظهوره أي أن يؤتوهم شيئاً { وَلْيَعْفُواْ } ما فرط منهم { وَلْيَصْفَحُواْ } بالإغضاء عنه ، وقرأ عبد الله . والحسن . وسفيان بن الحسين . وأسماء بنت يزيد { *ولتعفوا ولتصفحوا } بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى :
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 13 / ص 383)(1/418)
{ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } أي بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته سبحانه على المؤاخذة وكثرة ذنوب العباد الداعية إليها ، وفيه ترغيب عظيم في العفو ووعد كريم بمقابلته كأنه قيل : ألا تحبون أن يغفر الله لكم فهذا من موجباته ، وصح أن أبا بكر لما سمع الآية قال : بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا وأعاد له نفقته ، وفي رواية أنه صار يعطيه ضعفي ما كان يعطيه أولاً ، ونزلت هذه الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بعد أن أقبل مسطح إلى أبي بكر معتذراً فقال . جعلني الله تعالى فداك والله الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ما قذفتها وما تكلمت بشيء مما قيل لها أي خال فقال أبو بكر . ولكن قد ضحكت وأعجبك الذي قيل فيها فقال مسطح . لعله يكون قد كان بعض ذلك ، وفي الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها . واستدل بها على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه داخل في أولي الفضل قطعاً لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول ، ولا يضر في ذلك عموم الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر ، ولا حاجة إلى دعوى أنها فيها خاصة والجمع للتعظيم ، وكونه مخصوصاً بضمير المتكلم مردود على أن فيها من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيها ، وأجاب الرافضة بأن المراد بالفضل الزيادة في المال ، ويرد عليه أنه حينئذ يتكرر مع قوله سبحانه { والسعة } وادعى الإمام أنها تدل على أن الصديق رضي الله تعالى عنه أفضل جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبين ذلك بما هو بعيد عن فضله ، وذكر أيضاً دلالتها على وجوه من مدحه رضي الله تعالى عنه وأكثرها للبحث فيها مجال ، واستدل بها على أن ما لا يكون ردة من المعاصي لا يحبط العمل وإلا لما سمى الله تعالى مسطحاً مهاجراً مع أنه صدر منه ما صدر ، وعلى أن الحلف على ترك الطاعة غير جائز لأنه تعالى نهى عنه بقوله سبحانه : { لا * يَأْتَلِ } ومعناه على ما يقتضيه سبب النزول لا يحلف ، وظاهر هذا حمل النهي على التحريم ، وقيل : هو للكراهة ، وقيل : الحق أن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراماً ، وقد يكون مكروهاً ، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقاً وفيه بحث .
وذكر جمهور الفقهاء أنه إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ، وقال بعضهم : إذا حلف فليأت الذي هو خير وذلك كفارته كما جاء في حديث آخر .
وتعقب بأن المراد من الكفارة في ذلك الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي بإحدى الخصال .
----------
وقال الرازي(1) :
اعلم أنه تعالى كما أدب أهل الإفك ومن سمع كلامهم كما قدمنا ذكره ، فكذلك أدب أبا بكر لما حلف أن لا ينفق على مسطح أبداً ، قال المفسرون : نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر ، وقد كان يتيماً في حجره وكان ينفق عليه وعلى قرابته ، فلما نزلت الآية قال لهم أبو بكر قوموا فلستم مني ولست منكم ولا يدخلن عليَّ أحد منكم ، فقال مسطح أنشدك الله والإسلام وأنشدك القرابة والرحم أن لا تحوجنا إلى أحد ، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب ، فقال لمسطح إن لم تتكلم فقد ضحكت! فقال قد كان ذلك تعجباً من قول حسان فلم يقبل عذره ، وقال انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذراً ولا فرجاً ، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأن الله تعالى قد أنزل علي كتاباً ينهاك فيه أن تخرجهم فكبر أبو بكر وسره ، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية عليه فلما وصل إلى قوله : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } قال بلى يا رب إني أحب أن يغفر لي ، وقد تجاوزت عما كان ، فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه ، وقال قبلت ما أنزل الله على الرأس والعين ، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم ، أما إذا عفا عنكم فمرحباً بكم ، وجعل له مثلي ما كان له قبل ذلك اليوم ، وههنا مسائل :
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 11 / ص 284)(1/419)
المسألة الأولى : ذكروا في قوله : { وَلاَ يَأْتَلِ } وجهين : الأول : وهو المشهور أنه من ائتلى إذا حلف ، افتعل من الألية ، والمعنى لا يحلف ، قال أبو مسلم هذا ضعيف لوجهين : أحدهما : أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع من الحلف على الإعطاء وهم أرادوا المنع من الحلف على ترك الإعطاء ، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب وجعل المنهي عنه مأموراً به؛ وثانيهما : أنه قلما يوجد في الكلام افتعلت مكان أفعلت ، وإنما يوجد مكان فعلت ، وهنا آليت من الألية افتعلت . فلا يقال أفعلت كما لا يقال من ألزمت التزمت ومن أعطيت اعتطيت ، ثم قال في يأتل إن أصله يأتلي ذهبت الياء للجزم لأنه نهى وهو من قولك ما آلوت فلاناً نصحاً ، ولم آل في أمري جهداً ، أي ما قصرت ولا يأل ولا يأتل واحداً ، فالمراد لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ويوجد كثيراً افتعلت مكان فعلت تقول كسبت واكتسبت وصنعت واصطنعت ورضيت وارتضيت ، فهذا التأويل هو الصحيح دون الأول ، ويروى هذا التأويل أيضاً عن أبي عبيدة . أجاب الزجاج عن السؤال الأول بأن ( لا ) تحذف في اليمين كثيراً قال الله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم أَن تَبَرُّواْ } [ البقرة : 224 ] يعني أن لا تبروا ، وقال امرؤ القيس :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
أي لا أبرح ، وأجابوا عن السؤال الثاني ، أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظة باليمين وقول كل واحد منهم حجة في اللغة فكيف الكل ، ويعضده قراءة الحسن ولا يتأل .(1/420)
المسألة الثانية : أجمع المفسرون على أن المراد من قوله : { أُوْلُواْ الفضل } أبو بكر ، وهذه الآية تدل على أنه رضي الله عنه كان أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الفضل المذكور في هذه الآية إما في الدنيا وإما في الدين ، والأول باطل لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له ، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز ، ولأنه لو كان كذلك لكان قوله : { والسعة } تكريراً فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين ، فلو كان غيره مساوياً له في الدرجات في الدين لم يكن هو صاحب الفضل لأن المساوي لا يكون فاضلاً ، فلما أثبت الله تعالى له الفضل مطلقاً غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق ترك العمل به في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فيبقى معمولاً به في حق الغير ، فإن قيل نمنع إجماع المفسرين على اختصاص هذه الآية بأبي بكر ، قلنا كل من طالع كتب التفسير والأحاديث علم أن اختصاص هذه الآية بأبي بكر بالغ إلى حد التواتر ، فلو جاز منعه لجاز منع كل متواتر ، وأيضاً فهذه الآية دالة على أن المراد منها أفضل الناس ، وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو علي ، فإذا بينا أنه ليس المراد علياً تعينت الآية لأبي بكر ، وإنما قلنا إنه ليس المراد منه علياً لوجهين : الأول : أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر فيكون حديث علي في البين سمجاً الثاني : أنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة ، وإن علياً لم يكن من أولي السعة في الدنيا في ذلك الوقت ، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعاً ، واعلم أن الله تعالى وصف أبا بكر في هذه الآية بصفات عجيبة دالة على علو شأنه في الدين أحدها : أنه سبحانه كنى عنه بلفظ الجمع والواحد إذا كنى عنه بلفظ الجمع دل على علو شأنه كقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] ، { إِنَّا أعطيناك الكوثر } [ الكوثر : 1 ] فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه! وثانيها : وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص ، والفضل يدخل فيه الإفضال ، وذلك يدل على أنه رضي الله عنه كما كان فاضلاً على الإطلاق كان مفضلاً على الإطلاق وثالثها : أن الإفضال إفادة ما ينبغي لا لعوض ، فمن يهب السكين لمن يقتل نفسه لا يسمى مفضلاً لأنه أعطى مالاً ينبغي ، ومن أعطى ليستفيد منه عوضاً إما مالياً أو مدحاً أو ثناء فهو مستفيض والله تعالى قد وصفه بذلك فقال :{ وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى * الذي يُؤْتِى مَالَهُ يتزكى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى * إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى } [ الليل : 17 20 ] وقال في حق علي : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } [ الإنسان : 9 ، 10 ] فعلي أعطى للخوف من العقاب ، وأبو بكر ما أعطى إلا لوجه ربه الأعلى ، فدرجة أبي بكر أعلى فكانت عطيته في الإفضال أتم وأكمل ورابعها : أنه قال : { أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } فكلمة من للتمييز ، فكأنه سبحانه ميزه عن كل المؤمنين بصفة كونه أولي الفضل ، والصفة التي بها يقع الامتياز يستحيل حصولها في الغير ، وإلا لما كانت مميزة له بعينه ، فدل ذلك على أن هذه الصفة خاصة فيه لا في غيره ألبتة وخامسها : أمكن حمل الفضل على طاعة الله تعالى وخدمته وقوله : { والسعة } على الإحسان إلى المسلمين ، فكأنه كان مستجمعاً للتعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وهما من أعلى مراتب الصديقين ، وكل من كان كذلك كان الله معه لقوله : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } ولأجل اتصافه بهاتين الصفتين قال له : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] وسادسها : إنما يكون الإنسان موصوفاً بالسعة لو كان جواداً بذولاً ، ولقد قال عليه الصلاة والسلام : « خير الناس من ينفع الناس » فدل على أنه خير الناس من هذه الجهة ، ولقد كان رضي الله عنه جواداً بذولاً في كل شيء ، ومن جوده أنه لما أسلم بكرة اليوم جاء بعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا على يده ، وكان جوده في التعليم والإرشاد إلى الدين والبذل بالدنيا كما هو مشهور ، فيحق له أن يوصف بأنه من أهل السعة ، وأيضاً فهب أن الناس اختلفوا في أنه هل كان إسلامه قبل إسلام علي أو بعده ، ولكن اتفقوا على أن علياً حين أسلم لم يشتغل بدعوة الناس إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر اشتغل بالدعوة فكان أبو بكر أول الناس اشتغالاً بالدعوة إلى دين محمد ، ولا شك أن أجل المراتب في الدين هذه المرتبة فوجب أن يكون أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر من هذه الجهة ولأنه عليه السلام قال :« من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة » فوجب أن يكون لأبي بكر مثل أجر كل من يدعو إلى الله ، فيدل على الأفضلية من هذه الجهة أيضاً وسابعها : أن(1/421)
الظلم من ذوي القربى أشد ، قال الشاعر :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وأيضاً فالإنسان إذا أحسن إلى غيره فإذا قابله ذلك الغير بالإساءة كان ذلك أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من الأجنبي ، والجهتان كانتا مجتمعتين في حق مسطح ثم إنه آذى أبا بكر بهذا النوع من الإيذاء الذي هو أعظم أنواع الإيذاء ، فانظر أين مبلغ ذلك الضرر في قلب أبي بكر ، ثم إنه سبحانه أمره بأن لا يقطع عنه بره وأن يرجع معه إلى ما كان عليه من الإحسان ، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات ، ولا شك أن هذا أصعب من مقاتلة الكفار لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكافر ومجاهدة النفس أشق ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر » وثامنها : أن الله تعالى لما أمر أبا بكر بذلك لقبه بأولي الفضل وأولي السعة كأنه سبحانه يقول أنت أفضل من أن تقابل إساءته بشيء وأنت أوسع قلباً من أن تقيم للدنيا وزناً ، فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن تقطع برك عنه بسبب ما صدر منه من الإساءة ، ومعلوم أن مثل هذا الخطاب يدل على نهاية الفضل والعلو في الدين وتاسعها : أن الألف واللام يفيدان العموم فالألف واللام في الفضل والسعة يدلان على أن كل الفضل وكل السعة لأبي بكر كما يقال فلان هو العالم يعني قد بلغ في الفضل إلى أن صار كأنه كل العالم وما عداه كالعدم ، وهذا وأيضاً منقبة عظيمة وعاشرها : قوله : { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ } وفيه وجوه : منها : أن العفو قرينة التقوى وكل من كان أقوى في العفو كان أقوى في التقوى ، ومن كان كذلك كان أفضل لقوله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] ومنها : أن العفو والتقوى متلازمان فلهذا السبب اجتمعا فيه ، أما التقوى فلقوله تعالى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى } [ الليل : 17 ] وأما العفو فلقوله تعالى : { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ } وحادي عاشرها : أنه سبحانه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { فاعف عَنْهُمْ واصفح } [ المائدة : 13 ] وقال في حق أبي بكر { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ } فمن هذا الوجه يدل على أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأخلاق حتى في العفو والصفح وثاني عشرها : قوله : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } فإنه سبحانه ذكره بكناية الجمع على سبيل التعظيم ، وأيضاً فإنه سبحانه علق غفرانه له على إقدامه على العفو والصفح فلما حصل الشرط منه وجب ترتيب الجزاء عليه ، ثم قوله : { يَغْفِرَ الله لَكُمْ } بصيغة المستقبل وأنه غير مقيد بشيء دون شيء فدلت الآية على أنه سبحانه قد غفر له في مستقبل عمره على الإطلاق فكان من هذا الوجه ثاني اثنين للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ودليلاً على صحة إمامته رضي الله عنه فإن إمامته لو كانت على خلاف الحق لما كان مغفوراً له على الإطلاق ودليلاً على صحة ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في خبر بشارة العشرة بأن أبا بكر في الجنة وثالث عشرها : أنه سبحانه وتعالى لما قال : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } وصف نفسه بكونه غفوراً رحيماً ، والغفور مبالغة في الغفران فعظم أبا بكر حيث خاطبه بلفظ الجمع الدل على التعظيم ، وعظم نفسه سبحانه حيث وصفه بمبالغة الغفران ، والعظيم إذا عظم نفسه ثم عظم مخاطبه فالعظمة الصادرة منه لأجله لا بد وأن تكون في غاية التعظيم ، ولهذا قلنا بأنه سبحانه لما قال : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } [ الكوثر : 1 ] وجب أن تكون العطية عظيمة ، فدلت الآية على أن أبا بكر ثاني اثنين للرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المنقبة أيضاً ورابع عشرها : أنه سبحانه لما وصفه بأنه أولوا الفضل والسعة على سبيل المدح وجب أن يقال إنه كان خالياً عن المعصية ، لأن الممدوح إلى هذا الحد لا يجوز أن يكون من أهل النار ، ولو كان عاصياً لكان كذلك لقوله تعالى : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خالدا فِيهَا } [ النساء : 14 ] وإذا ثبت أنه كان خالياً عن المعاصي فقوله : { يَغْفِرَ الله لَكُمْ } لا يجوز أن يكون المراد غفران معصية لأن المعصية التي لا تكون لا يمكن غفرانها وإذا ثبت أنه لا يمكن حمل الآية على ذلك وجب حملها على وجه آخر ، فكأنه سبحانه قال والله أعلم : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } لأجل تعظيمكم هؤلاء القذفة العصاة ، فيرجع حاصل الآية إلى أنه سبحانه قال يا أبا بكر إن قبلت هؤلاء العصاة فأنا أيضاً أقبلهم وإن رددتهم ، فأنا أيضاً أردهم فكأنه سبحانه أعطاه مرتبة الشفاعة في الدنيا ، فهذا ما حضرنا في هذه الآية والله أعلم فإن قيل : هذه الآية تقدح في فضيلة أبي بكر من وجه آخر وذلك لأنه نهاه عن هذا الحلف فدل على صدور المعصية منه قلنا الجواب : عنه من وجوه : أحدها : أن النهي لا يدل على وقوعه ، قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : {(1/422)
وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 48 ] ولم يدل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام أطاعهم بل دلت الأخبار الظاهرة على صدور هذا الحلف منه ، ولكن على هذا التقدير لا تكون الآية دالة على قولكم وثانيها : هب أنه صدر عنه ذلك الحلف ، فلم قلتم إنه كان معصية ، وذلك لأن الامتناع من التفضل قد يحسن خصوصاً فيمن يسيء إلى من أحسن إليه أو في حق من يتخذه ذريعة إلى الأفعال المحرمة لا يقال فلو لم تكن معصية لما جاز أن ينهى الله عنه بقوله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل } لأنا نقول هذا النهي ليس نهي زجر وتحريم بل هو نهي عن ترك الأولى كأنه سبحانه قال لأبي بكر اللائق بفضلك وسعة همتك أن لا تقطع هذا فكان هذا إرشاداً إلى الأولى لا منعاً عن المحرم .
المسألة الثالثة : أجمعوا على أن المراد من قوله : { أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِى سَبِيلِ الله } مسطح لأنه كان قريباً لأبي بكر وكان من المساكين وكان من المهاجرين ، واختلفوا في الذنب الذي وقع منه فقال بعضهم قذف كما فعله عبدالله بن أبي فإنه عليه الصلاة والسلام حده وأنه تاب عن ذلك ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان تاركاً للنكر ومظهراً للرضا ، وأي الأمرين كان فهو ذنب .
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على بطلان المحابطة وقالوا إنه سبحانه وصفه بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف ، وهذه صفة مدح ، فدل على أن ثواب كونه مهاجراً لم يحبط بإقدامه على القذف .
المسألة الخامسة : أجمعوا على أن مسطحاً كان من البدريين وثبت بالرواية الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام قال : « لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم » فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدرياً؟ والجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد منه افعلوا ما شئتم من المعاصي فيأمر بها أو يقيمها لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقياً عليهم لو حملناه على ذلك لاقتضى زوال التكليف عنهم ، ولأنه لو كان كذلك لما جاز أن يحد مسطح على ما فعل ويلعن ، فوجب حمله على أحد أمرين : الأول : أنه تعالى اطلع على أهل بدر وقد علم توبتهم وإنابتهم فقال افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة الثاني : يحتمل أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال : قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة .
المسألة السادسة : العفو والصفح عن المسيء حسن مندوب إليه ، وربما وجب ذلك ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفي ، ألا ترى إلى قوله : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } [ النور : 22 ] فعلق الغفران بالعفو والصفح وعنه عليه الصلاة والسلام : " من لم يقبل عذراً لمتنصل كاذباً كان أو صادقاً فلا يرد على حوضي يوم القيامة " وعنه عليه الصلاة والسلام : " أفضل أخلاق المسلمين العفو " وعنه أيضاً : " ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا أهل العفو ، ثم تلا فمن عفا وأصلح فأجره على الله " وعنه عليه الصلاة والسلام أيضاً : " لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه "
المسألة السابعة : في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة ، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير لا صارفة عنه .
المسألة الثامنة : مذهب الجمهور الفقهاء أنه من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها أنا ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه ، وقال بعضهم إنه يأتي بالذي هو خير ، وذلك كفارته واحتج ذلك القائل بالآية والخبر ، أما الآية فهي أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة ، وأما الخبر فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته» وأما دليل قول الجمهور فأمور : أحدها : قوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } [ المائدة : 89 ] فكفارته وقوله : { ذلك كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ } [ المائدة : 89 ] وذلك عام في الحانث في الخير وغيره وثانيها : قوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } [ ص : 44 ] وقد علمنا أن الحنث كان خيراً من تركه وأمره الله بضرب لا يبلغ منها ، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها بل كان يحنث بلا كفارة وثالثها : قوله عليه الصلاة والسلام : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " أما الجواب : عما ذكره أولاً فهو أنه تعالى لم يذكر أمر الكفارة في قصة أبي بكر لا نفياً ولا إثباتاً لأن حكمه كان معلوماً في سائر الآيات والجواب : عما ذكره ثانياً في قوله : " وليأت الذي هو خير وذلك كفارته " فمعناه تكفير الذنب لا الكفارة المذكورة في الكتاب ، وذلك لأنه منهي عن نقض الأيمان فأمره ههنا بالحنث والتوبة ، وأخبر أن ذلك يكفر ذنبه الذي ارتكبه بالحلف .(1/423)
المسألة التاسعة : روى القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنها : قالت فضلت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعشر خصال تزوجني رسول صلى الله عليه وسلم بكراً دون غيري ، وأبواي مهاجران ، وجاء جبريل عليه السلام بصورتي في حريرة وأمره أن يتزوج بي ، وكنت أغتسل معه في إناء واحد ، وجبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي وأنا معه في لحاف واحد ، وتزوجني في شوال وبنى بي في ذلك الشهر ، وقبض بين سحري ونحري ، وأنزل الله تعالى عذري من السماء ، ودفن في بيتي وكل ذلك لم يساوني غيري فيه» وقال بعضهم برأ الله أربعة بأربعة : برأ يوسف عليه السلام بلسان الشاهد ، وشهد شاهد من أهلها ، وبرأ موسى عليه السلام من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها ، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر ، وروي أنه لما قربت وفاة عائشة جاء ابن عباس يستأذن عليها ، فقالت : يجيء الآن فيثني علي ، فخبره ابن الزبير فقال ما أرجع حتى تأذن لي ، فأذنت له فدخل فقالت عائشة : أعوذ بالله من النار ، فقال ابن عباس يا أم المؤمنين مالك والنار قد أعاذك الله منها ، وأنزل براءتك تقرأ في المساجد وطيبك فقال : { الطيبات لِلطَّيّبِينَ والطيبون للطيبات } [ النور : 26 ] كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، ولم يحب صلى الله عليه وسلم إلا طيباً وأنزل بسببك التيمم فقال : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً } [ النساء : 43 ] وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا ، فقالت زينب : أنا التي أنزل ربي تزويجي ، وقالت عائشة أنا التي برأني ربي حين حملني ابن المعطل على الراحلة ، فقالت لها زينب : ما قلت حين ركبتيها؟ قالت قلت : حسبي الله ونعم الوكيل . فقالت قلت كلمة المؤمنين .
-----------
وقال السعدي (1):
{ وَلا يَأْتَلِ } أي: لا يحلف { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، لقوله الذي قال.
فنزلت هذه الآية، ينهاهم (2) عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له، فقال: [ ص 565 ] { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } إذا عاملتم عبيده، بالعفو والصفح، عاملكم بذلك، فقال أبو بكر - لما سمع هذه الآية-: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح، وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب، وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان، والحث على العفو والصفح، ولو جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم.
--------------
وفي التفسير الوسيط (2):
ثم حض - عز وجل - أصحاب النفوس النقية الطاهرة ، على المواظبة على ما تعودوه من سخاء وسماحة ، فقال : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وقد صح أن هذه الآية الكريمة نزلت فى شأن أبى بكر - رضى الله عنه - عندما أقسم أن لا يعطى مسطح بن أثاثة شيئا من النفقة أو الصدقة .
وكان مسطح قريبا لأبى بكر . وكان من الفقراء الذين تعهد - أبو بكر رضى الله عنه - بالإنفاق عليهم لحاجتهم وهجرتهم وقرابتهم منه .
وقوله : { وَلاَ يَأْتَلِ } أى : ولا يحلف . يقال : آلى فلان وائتلى . إذا حلف ومنه قوله - تعالى - : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ . . . } أى : يحلفون .
أى : ولا يحلف " أولوا الفضل منكم والسعة " أى أصحاب الزيادة منكم فى قوة الدين . وفى سعة المال " أن يؤتوا أولى القربى . . " أى : على أن لا يعطوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله ، شيئا من أموالهم .
فالكلام فى قوله : " أن يؤتوا " على تقدير حرف الجر ، أى : لا يحلفوا على أن لا يؤتوا ، وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد ، ومفعول " يؤتوا " الثانى محذوف . أى : أن يؤتوا أولى القرى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله ، النفقة التى تعودوا أن يقدموها لهم .
وقوله - تعالى - : { وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا } تحريض على العفو والصفح . والعفو معناه : التجاوز عن خطأ المخطىء ونسيانه ، مأخوذ من عفت الريح الأثر ، إذا طمسته وأزالته .
والصفح : مقابلة الإساءة بالإحسان ، فهو أعلى درجة من العفو .
أى : قابلوا - أيها المؤمنون - إساءة المسىء بنسيانها ، وبمقابلتها بالإحسان .
وقوله : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } أى : ألا تحبون - أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم ذنوبكم ، بسبب عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم؟
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 563)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3061)(1/424)
فالجملة الكريمة ترغيب فى العفو والصفح بأبلغ أسلوب ، وقد صح أن أبا بكر - رضى الله عنه - لما سمع الآية قال : بلى والله يا ربنا ، إنا لنحب أن تغفر لنا ، وأعاد إلى مسطح نفقته ، وفى رواية : أنه - رضى الله عنه - ضاعف لمسطح نفقته .
قال الآلوسى : " وفى الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها . واستدل بها على فضل الصديق - رضى الله عنه - لأنه داخل فى أولى الفضل قطعا ، لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول ، ولا يضر فى ذلك الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر . . . " .
ثم ختم - سبحانه - الأية الكريمة بما يرفع من شأن العفو والصفح فقال : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
أى : والله - تعالى - كثيرة المغفرة ، وواسع الرحمة بعباده ، فكونوا - أيها المؤمنون - أصحاب عفو وصفح عمن أساء إليكم .
----------------
وقال الطاهر بن عاشور(1) :
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
عطف على جملة : { لا تتبعوا خطوات الشيطان } [ النور : 21 ] عطف خاص على عام للاهتمام به لأنه قد يخفى أنه من خطوات الشيطان فإن من كيد الشيطان أن يأتي بوسوسة في صورة خواطر الخير إذا علم أن الموسوس إليه من الذين يتوخون البر والطاعة ، وأنه ممن يتعذر عليه ترويج وسوسته إذا كانت مكشوفة .
وإن من ذيول قصة الإفك أن أبا بكر رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة المُطَّلبي إذ كان ابن خالة أبي بكر الصديق وكان من فقراء المهاجرين فلما علم بخوضه في قضية الإفك أقسم أن لا ينفق عليه . ولما تاب مسطح وتاب الله عليه لم يزل أبو بكر واجداً في نفسه على مسطح فنزلت هذه الآية . فالمراد من أولي الفضل ابتداء أبو بكر ، والمراد من أولي القربى ابتداء مسطح بن أثاثة ، وتعم الآية غيرهما ممن شاركوا في قضية الإفك وغيرهم ممن يشمله عموم لفظها فقد كان لمسطح عائلة تنالهم نفقة أبي بكر . قال ابن عباس : إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا : والله لا نصل مَن تكلَّم في شأن عائشة . فنزلت الآية في جميعهم .
ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية إلى قوله : { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } قال أبو بكر : بلى أحب أن يغفر الله لي . ورجّع إلى مسطح وأهله ما كان ينفق عليهم . قال ابن عطية : وكفّر أبو بكر عن يمينه ، رواه عن عائشة .
وقرأ الجمهور : { ولا يأتل } . والايتلاء افتعال من الإلية وهي الحلف وأكثر استعمال الإلية في الحلف على امتناع ، يقال : آلى وائتلى . وقد تقدم عند قوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم } في سورة البقرة ( 226 ) . وقرأه أبو جعفر { ولا يتألّ } من تألّى تفعّل من الأليّة .
والفضل : أصله الزيادة فهو ضد النقص ، وشاع إطلاقه على الزيادة في الخير والكمال الديني وهو المراد هنا . ويطلق على زيادة المال فوق حاجة صاحبه وليس مراداً هنا لأن عطف { والسعة } عليه يبعد ذلك . والمعنيّ من أولي الفضل ابتداء أبو بكر الصديق .
والسعة : الغنى . والأوصاف في قوله : { أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } مقتضية المواساة بانفرادها ، فالحلف على ترك مواساة واحد منهم سد لباب عظيم من المعروف وناهيك بمن جمع الأوصاف كلها مثل مسطح الذي نزلت الآية بسببه .
والاستفهام في قوله : { ألا تحبون } إنكاري مستعمل في التحضيض على السعي فيما به المغفرة وذلك العفو والصفح في قوله : { وليعفوا وليصفحوا } . وفيه إشعار بأنه قد تعارض عن أبي بكر سبب المعروف وسبب البر في اليمين وتجهم الحنث وأنه أخذ بجانب البر في يمينه وترك جانب ما يفوته من ثواب الإنفاق ومواساة القرابة وصلة الرحم وكأنه قدم جانب التأثم على جانب طلب الثواب فنبهه الله على أنه يأخذ بترجيح جانب المعروف لأن لليمين مخرجاً وهو الكفارة .
وهذا يؤذن بأن كفارة اليمين كانت مشروعة من قبل هذه القصة ولكنهم كانوا يهابون الإقدام على الحنث كما جاء في خبر عائشة . أن لا تكلم عبد الله بن الزبير حين بلغها قوله : إنه يحجر عليها لكثرة إنفاقها المال . وهو في «صحيح البخاري» في كتاب الأدب باب الهجران .
وعُطف { والله غفور رحيم } على جملة : { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } زيادة في الترغيب في العفو والصفح وتطميناً لنفس أبي بكر في حنثه وتنبيها على الأمر بالتخلق بصفات الله تعالى .
----------
وفي اضواء البيان (2):
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 9 / ص 458)
(2) - أضواء البيان - (ج 5 / ص 479)(1/425)
وقوله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله } الآية . قووله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة } أي لا يحلف فقوله : يأتل وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين ، تقول العرب آلى يؤلي وائتلى إذا حلف ، ومنه قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 226 ] أي يحلفون مضارع آلى يؤلي إذا حلف . ومنه قول امرئ القيس :
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت ... علي وآلت حلفة لم تحلل
أي حلفت حلفة . وقول عاتكة بنت زيد العدوية ترثي زوجها عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهم :
فآليت لا تنفك عيني حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
والألية اليمين ، ومنه قول الآخر يمدح عمر بن عبد العزيز :
قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الألية برت
أي لا يحلف أصحاب الفضل والسعة : أي الغنى كأبي بكر رضي الله عنه ، وأن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح بن أثاثة . وقوله : أن يؤتوا : أي لا يحلفوا عن أن يؤتوا ، أو لا يحلفوا ألا يؤتوا وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وأن وصلتهما مطرد . وكذلك حذف لا النافية قبل المضارع بعد القسم ، ولا يؤثر في ذلك هنا كون القسم منهياً عنه . ومفعول يؤتوا الثاني محذوف : أي أن يؤتوا أولي القربى النفقة والإحسان ، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه .
وقال بعض أهل العلم قوله : ولا يأتل : أي لا يقصر أصحاب الفضل ، والسعة كأبي في إيتاء أولي القربى كمسطح ، وعلى هذا فقوله يأتل يفتعل من ألا يألوا في الأمر إذا قصر فيه وأبطأ .
ومنه قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] أي لا يقصرون في مضرتكم ، ومنه بهذا المعنى قول الجعدي : وأشمط عريان يشد كتافه ... يلام على جهد القتال وما ائتلا
وقول الآخر :
وإن كنائني لنساء صدق ... فما آلى بني ولا أساءوا
فقوله : فما آلى بني : يعني ما قصروا ، ولا أبطؤوا والأول هو الأصح . لأن حلف أبي بكر ألا ينفع مسطحاً بنافعة ، ونزول الآية الكريمة في ذلك الحلف معروف . وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الحلف عن فعل البر من إيتاء أولى القربي والمساكين والمهاجرين ، جاء أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 224 ] أي لا تحلفوا بالله عن فعل الخير ، فإذا قيل لكم : اتقوا وبروا ، وأصلحوا بين الناس قلتم : حلفنا بالله لا نفعل ذلك ، فتجعلوا الحلف بالله سبباً للامتناع من فعل الخير على الأصح في تفسير الآية .
وقد قدمنا دلالة هاتين الآيتيتن على المعنى المذكور ، وذكرنا ما يوضحه من الأحاديث الصحيحة في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } [ المائدة : 89 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا } فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أَساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا وأصل العفو : من عفت الريح الأثر إذا طمست .
والمعنى : فليطمسوا آثار الإساءة بحملهم وتجاوزهم ، والصفح ، قال بعض أهل العلم مشتق من صفحة العنق أي أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق ، معرضين عنها . وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبيناً في مواضع أخر كقوله تعالى : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } [ آل عمران : 133134 ] وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيظ والعفو عن الناس ، من صفات أهل الجنة ، وكفى بذلك حثاً على ذلك . ودلت أيضاً : على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به وكقوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } [ النساء : 149 ] وقد بين تعالى في هذه الاية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى ، وكفى بذلك حثاً عليه . وكقوله تعالى : { فاصفح الصفح الجميل } [ الحجر : 85 ] وكقوله : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] إلى غير ذلك من الآيات .(1/426)
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } دليل على أن العفو والصفح عن المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب ، والجزاء من جنس العمل ، ولذا لما نزلت قال أبو بكر : بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا ، ورجع للإنفاق على مسطح ، ومفعول أن يغفر الله محذوف للعلم به : أي يغفر لكم ذنوبكم .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أي أصحاب القرابة ، ولفظه أولى اسم جمع لا واحد له من لفظه يعرب إعراب الجمع المذكر السالم .
{ أُوْلِي القربى }
في هذه الآية الكريمة ، دليل على أن كبائر الذنوب لا تحبط العلم الصالح ، لأن هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح ، وقذفه لعائشة من الكبائر ولم يبطل هجرته لأن الله قال فيه بعد قذفه لها { والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله } فدل ذلك على أن هجرته في سبيل الله ، لم يحبطها قذفه لعائشة رضي الله عنها .
قال القرطبي في هذه الآية : دليل على أن القذف وإن كان كبيراً لا يحبط الأعمال ، لأن الله تعالى وصف مسطحاً بعد قوله بالهجرة والإيمان ، وكذلك سائر الكبائر ، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله ، قال تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] اه .
وما ذكر من أن الآية وصف مسطح بالإيمان لم يظهر من الآية ، وإن كان معلوماً .
وقال القرطبي أيضاً : قال عبد الله بن المبارك : هذه أرجى أية في كتاب الله . ثم قال بعد هذا : قال بعض العلماء ، هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ . وقيل : أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى : { وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } [ الأحزاب : 47 ] وقد قال تعالى في آية أخر { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } [ الشورى : 22 ] فشرح الفضل الكبير في هذه الاية ، وبشر به المؤمنين في تلك .
ومن آيات الرجاء قوله تعالى { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] الآية . وقوله تعالى : { الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } [ الشورى : 19 ] وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله عز وجل { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار . انتهى كلام القرطبي .
وقال بعض أهل العلم : أرجى آية في كتاب الله عز وجل ، آية الدين : وهي أطول آية في القرآن العظيمن وقد أوضح الله تبارك وتعالى فيها الطرق الكفيلة بصانة الدَّينِ من الضياع ، ولو كان الدَّينُ حقيراً كما يدل عليه قوله تعالى فيها : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ } الآية [ البقرة : 282 ] قالوا هذا من المحافظة في آية الدين على صيانة مال المسلم ، وعدم ضياعه ، ولو يدل على العناية التامة بمصالح المسلم ، وذلك يدل على ان اللطيف الخبير لا يضيعه يوم القيامة عند اشتداد الهول ، وشدة حاجته إلى ربه .
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له : من أرجى آيات القرآن العظيم قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [ فاطر : 3235 ] .
قد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب ، دليل على أن الله اصطفاها في قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } [ فاطر : 32 ] وبين أنهم ثلاثة أقسام :
الأول : الظالم لنفسه ، وهو الذي يطيع الله ، ولكنه يعصيه أيضاً فهو الذي قال الله في فيه { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 102 ] .
والثاني : المقتصد وهو الذي يطيع الله ، ولا يعصيه ، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعاتز(1/427)
والثالث : السابق بالخيرات : وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة ، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه ، والمقتصد والسابق ، ثم إنه تعالى بين أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم ، ثم وعد الجميع بجنات عدن وهو لا يخلف المعياد في قوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } [ فاطر : 33 ] إلى قوله : { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [ فاطر : 35 ] والواو في يدخلونها شاملة للظالم ، والمقتصد والسابق على التحقيق . ولذا قال بعض أهل العلم : حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين ، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة ، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الاية من أرجى آيات القرآن ، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة ، فالوعد الصادق بالجنة في الآية من أرجى آيات القرآن ، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة ، فالوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين ولذا قال بعدها متصلاً بها { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } [ فاطر : 36 ] إلى قوله : { فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [ فاطر : 37 ] .
واختلف أهل العلم في سبب تقديم الظالم في الوعد بالجنة على المقتصد والسابق ، فقال بعضهم : قدم الظالم لئلا يقنط ، وأخر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط . وقال بعضهم : قدم الظالم لنفسه ، لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم لأن الذين لم تقع منهم معصية أقل من غيرهم . كما قال تعالى : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] .
------------
وفي الفصول في الأصول(1) :
__________
(1) - الفصول في الأصول - (ج 1 / ص 339)(1/428)
بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ إذَا صَدَرَ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ , هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى الْمُهْلَةِ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ قَائِلُونَ : هُوَ عَلَى الْمُهْلَةِ , وَلَهُ تَأْخِيرُهُ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَخْشَى الْفَوَاتَ بِتَرْكِهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ عَلَى الْفَوْرِ يَلْزَمُ الْمَأْمُورَ فِعْلُهُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ . وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رحمه الله يَحْكِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِنَا , وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ فِي فَرْضِ الْحَجِّ إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَأَنَّهُ لَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُهُ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ بِمَا قَدَّمْنَا , وَالْفِعْلُ مُرَادٌ مِنْ الْمَأْمُورِ فِي الْحَالِ , بِدَلَالَةِ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ فِيهَا مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ , فَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ مُرَادًا بِالْأَمْرِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : افْعَلْهُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ , فَلَزِمَ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ , وَاحْتَجْنَا فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ إلَى دَلَالَةٍ , وَأَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى الْوَقْتِ فَقَالَ : افْعَلْهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ فِيهِ وَلَمْ يَسَعْهُ التَّأْخِيرُ ( إلَى وَقْتٍ غَيْرِهِ . كَذَلِكَ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ( أَنَّ ) الْفِعْلَ مُرَادٌ فِي الْحَالِ لَمْ يَجُزْ لَنَا التَّأْخِيرُ ) إلَّا بِدَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَلَوْ أَخَّرَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ حَتَّى فَعَلَهُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَى انْقِضَاءِ عُمُرِهِ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ , فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مُرَادٌ بِالْأَمْرِ . قِيلَ لَهُ : لِمَ قُلْت إنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ افْعَلْهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ , وَلَا تُؤَخِّرْهُ , فَإِنْ أَخَّرْته إلَى الْوَقْتِ الثَّانِي فَافْعَلْهُ فِيهِ وَلَا تُؤَخِّرْهُ , فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ إذْ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالتَّعْجِيلِ ثُمَّ إذَا أَخَّرَهُ لَزِمَهُ فِعْلُهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيهِ . فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيهِ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ * فَأَلْزَمَهُ فِعْلُهَا عِنْدَ الذِّكْرِ . وَمَنَعَهُ التَّأْخِيرَ , وَلَوْ أَخَّرَهَا كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ وَلَزِمَهُ فِعْلُهَا فِي الثَّانِي وَمَا يَلِيهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ . وَكَالدُّيُونِ الْوَاجِبَةِ لِلْآدَمِيِّينَ : يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا بَعْدَ حَالِ الْوُجُوبِ , فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ الْحَالِ لَزِمَهُ فِي الثَّانِي ( أَدَاؤُهُ ) وَإِنْ أَخَّرَهُ لَزِمَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيهِ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ سُؤَالِ مَنْ اعْتَرَضَ عَلَيْنَا بِمَا وَصَفْنَا , وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مُرَادًا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي إذَا تَرَكَهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ . وَأَيْضًا : فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مُرَادٌ فِعْلُهُ احْتَجْنَا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ فِي الْحَالِ إلَى دَلَالَةٍ ( أُخْرَى ) كَمَا احْتَجْنَا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ ( رَأْسًا ) إلَى دَلَالَةٍ , فَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ صُورَةُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيجَابِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ مَنْ جَعَلَهُ عَلَى الْمُهْلَةِ فَقَدْ أَثْبَتَ تَخْيِيرًا غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ إلَّا بِدَلَالَةٍ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الدُّيُونَ وَسَائِرَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَرْطُ التَّأْخِيرِ لَزِمَ أَدَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ , وَلَمْ يَجُزْ لِلَّذِي هِيَ عَلَيْهِ تَأْخِيرُهَا إلَّا بِإِذْنِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى , وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وُجُوبَهُمَا غَيْرُ مُؤَقَّتٍ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ( أَيْضًا ) : أَنَّ الْمُتَعَارَفَ الْمُعْتَادَ مِنْ أَوَامِرِنَا لِعَبِيدِنَا وَمَنْ تَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ , فَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ(1/429)
تَعَالَى , لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَارَ مُوجِبَ الْقَوْلِ وَمُقْتَضَاهُ , وَقَدْ خَاطَبَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُتَعَارَفِ مِنْ مُخَاطَبَاتِنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ * . وَأَيْضًا : فَلَوْ احْتَمَلَ الْفَوْرَ وَالْمُهْلَةَ جَمِيعًا لَكَانَ الْأَخْذُ بِالثِّقَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْحَزْمِ فِي الْمُبَادَرَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دَلَالَةِ وُجُوبِ الْأَمْرِ , مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ اخْتِرَامَ الْمَنِيَّةِ إيَّاهُ فَيَحْصُلُ مُفْرِطًا فِي التَّأْخِيرِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمُسَارَعَةُ إلَيْهِ . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى قوله تعالى : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ * وقوله تعالى { إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ * , وَقَوْلُهُ { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ * يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُبْتَدَأً عَلَى لُزُومِ التَّعْجِيلِ لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ . وَدَلِيلٌ آخَرُ : لَا يَخْلُو ( الْقَوْلُ ) فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ إذَا لَمْ يَكُنْ آخِرِ وَقْتِهِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَا قُلْنَا , أَوْ عَلَى الْمُهْلَةِ عَلَى مَا قَالَ مُخَالِفُنَا . فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُهْلَةِ لَمْ يَخْلُ الْمَأْمُورُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْخِيرُهُ أَبَدًا حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ التَّفْرِيطُ وَلَا يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ , أَوْ يَكُونُ مُفَرِّطًا مُسْتَحِقًّا لِلَّوْمِ إذَا مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ . فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَكُونُ مُفَرِّطًا بِتَرْكِهِ فِي حَيَاتِهِ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ حَيِّزِ الْوُجُوبِ وَصَارَ فِي حَيِّزِ النَّوَافِلِ , لِأَنَّ مَا كَانَ الْمَأْمُورُ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَهُوَ نَافِلَةٌ أَوْ مُبَاحٌ , وَلَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْأَمْرِ بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ . وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يَلْحَقُهُ التَّفْرِيطُ بِالْمَوْتِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْحَقَهُ التَّفْرِيطُ فِي وَقْتٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ الْوَقْتُ الْمُضَيَّقُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ الْفِعْلِ عَنْهُ , وَلَمْ يُنْصَبْ لَهُ دَلِيلٌ يُوصِلُهُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مَنْهِيًّا عَنْ تَأْخِيرِ الْفِعْلِ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي إذَا أَخَّرَهُ عَنْهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْ فِعْلَهُ , كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَبَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِبَادَةٍ لَا ( يُعْلِمُهُ بِهَا ) وَلَا يَنْصِبُ لَهُ عَلَيْهَا دَلِيلًا , فَلَمَّا كَانَ آخِرُ عُمُرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَخْشَى فِيهِ فَوَاتَ الْفِعْلِ غَيْرَ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَلَّفَ فِعْلَهُ فِيهِ , وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُفَرِّطًا بِتَرْكِهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ , فَيَعُودُ الْقَوْلُ فِيهِ إلَى الْقِسْمِ الَّذِي قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى بُطْلَانِهِ , فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَحْتَمِلْ الْمَسْأَلَةُ وَجْهًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا , وَبَطَلَ الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ صَحَّ الثَّالِثُ . وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ احْتَجَّ بِهَذَا مَرَّةً فَأَلْزَمْتُ عَلَيْهِ الزَّكَوَاتِ وَالنُّذُورَ وَقَضَاءَ ( شَهْرِ ) رَمَضَانَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ( الَّتِي ) ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ , وَقُلْتُ لَهُ : إنَّ هَذَا الِاعْتِلَالَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لُزُومُ جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ بَعْدَ حَالِ وُجُوبِهِ وَثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَالْتَزَمَ ذَلِكَ وَقَالَ : لَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا يَسَعُ مَنْ لَزِمَهُ تَأْخِيرُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ * وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ " لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ " لَمَّا أَثْبَتَهَا فِي ذِمَّتِهِ مَنَعَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِ لُزُومِهَا فِي الذِّمَّةِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ لِأَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا مَعْلُومٌ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا مِقْدَارُ مَا يُؤَدَّى فِيهِ الْفَرْضُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فِي وَقْتٍ عِنْدَهُ , وَمَتَى لَمْ يَكُنْ آخِرُ وَقْتِ الْفِعْلِ مُعَيَّنًا فَإِنَّ مُخَالِفَنَا إنَّمَا يَلْزَمُهُ التَّفْرِيطُ فِي(1/430)
وَقْتٍ لَمْ يُنْصَبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ آخِرُ أَوْقَاتِهِ , وَيَجْعَلُهُ مَنْهِيًّا عَنْ تَرْكِ فِعْلٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَمْ يُنْصَبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ . فَإِنْ ( قَالَ قَائِلٌ ) : قَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " كَأَنْ يَكُونَ عَلَيَّ قَضَاءُ أَيَّامِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا أَقْضِيهَا إلَّا فِي شَعْبَانَ " , فَقَدْ كَانَتْ تُؤَخِّرُهَا , وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم , وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ إنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ وَاجِبٌ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ . قِيلَ لَهُ : لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهَا عَلَيْهِ . وَأَيْضًا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ فَرْضٌ مُوَقَّتٌ بِالسَّنَةِ كُلِّهَا إلَى أَنْ يَجِيءَ رَمَضَانُ آخَرُ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ ; لِأَنَّ الْوَقْتَ الْمَنْهِيَّ عَنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ . دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ اقْتَضَى كَرَاهَةَ تَرْكِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نُهِيَ عَنْ تَرْكِهِ , وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى الْفَوْرِ . فَإِنْ قِيلَ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ اقْتَضَى كَرَاهَةَ تَرْكِهِ فِي الْحَالِ دُونَ أَنْ يَكُونَ قَدْ كُرِهَ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي عُمُرِهِ كُلِّهِ . قِيلَ لَهُ : إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِهِ ( قَدْ ) تَضَمَّنَ كَرَاهَةَ التَّرْكِ ( وَ ) كَانَ مَا كَرِهَ تَرْكَهُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى صَارَ كَمَنْ قِيلَ لَهُ لَا تَتْرُكْهُ , فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَرَاهَةَ تَرْكِهِ عَلَى الْفَوْرِ , فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِعْلُهُ , وَالْحَالُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فِي الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ إثْبَاتُ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهِ فِي الْحَالِ وَلَفْظُ الْأَمْرِ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ . قِيلَ لَهُ : قَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ الْأَمْرِ وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ يَقْتَضِي ذَمَّ تَارِكِهِ , فَلَسْنَا نَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى اسْتِئْنَافِ دَلَالَةٍ عَلَى ذَمِّ تَارِكِهِ , وَلَوْ صَحَّ هَذَا السُّؤَالُ لَاعْتُرِضَ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْأَمْرِ فِي الْأَصْلِ وَلَسَاغَ لِمَنْ يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ رَأْسَا , فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِمَنْ نَفَى وُجُوبَ الْأَمْرِ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِهِ , كَذَلِكَ لَا يُعْتَرَضُ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِهِ عَلَى الْفَوْرِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ وَالْمُرَادُ الْفَوْرُ , وَقَدْ يَرِدُ وَالْمُرَادُ الْمُهْلَةُ . وَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَى لُزُومِ فِعْلِهِ فِي الْحَالِ , فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهُ فِي الْحَالِ إلَّا بِدَلَالَةٍ . قِيلَ لَهُ : لَمْ يَثْبُتْ أَمْرٌ عَلَى الْمُهْلَةِ إلَّا وَآخِرُ وَقْتِهِ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ . فَقَوْلُك إنَّهُ قَدْ يَرِدُ وَالْمُرَادُ الْمُهْلَةُ ( خَطَأٌ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ ) , وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ وُرُودُهُ وَالْمُرَادُ الْمُهْلَةُ لَمَّا كَانَ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ قَوْلِنَا , لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ كَمَا يَخُصُّ الْعُمُومَ بِدَلَالَةٍ وَكَمَا يُصْرَفُ اللَّفْظُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ بِدَلَالَةٍ وَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي ( صِحَّةِ اعْتِبَارِنَا الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ ) وَوُجُوبُ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ . فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ لَازِمًا عَلَى الْفَوْرِ لَسَقَطَ فِعْلُهُ بِتَرْكِهِ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ الْمُؤَقَّتُ بِتَرْكِ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ . قِيلَ لَهُ : الَّذِي كَانَ وَاجِبًا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لَيْسَ هُوَ الْوَاجِبَ فِي الْوَقْتِ التَّالِي بَلْ قَدْ سَقَطَ مَا وَجَبَ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ , كَمَا سَقَطَ الظُّهْرُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا , وَاَلَّذِي يَجِبُ بَعْدِ الْوَقْتِ فَرْضٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا الْوَجْهِ . فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاحْتَجْنَا إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْأَمْرِ فِي إيجَابِهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي ( فَلَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي ) إذَا تَرَكَهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَاجِبًا بِالْأَمْرِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لُزُومَهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْحَالِ دُونَ الْمُهْلَةِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الظُّهْرُ وَسَائِرُ الْفُرُوضِ الْمُؤَقَّتَةِ(1/431)
لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَقْتِ قَبْلَ فِعْلِهَا يُسْقِطُهَا وَلَا يَلْزَمُهُ فَرْضٌ آخَرُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى . قِيلَ لَهُ : إنَّ تَقْرِيرَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عِنْدَنَا أَنْ صَلِّ فِي أَوَّلِ حَالِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ تَرَكْته فَافْعَلْهُ فِي الثَّانِي فَإِنْ تَرَكْته فَافْعَلْهُ فِي الثَّالِثِ فَتَضَمَّنَ الْأَمْرُ ( فِعْلَهُ ) فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ , وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ لُزُومُهُ مُتَعَلِّقًا بِالْأَمْرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ , لِأَنَّهُ لَوْ قَيَّدَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كَانَ جَائِزًا . أَلَا تَرَى : أَنَّ مُخَالِفَنَا يَقُولُ مَعَنَا فِيمَنْ تَرَكَ الظُّهْرَ حَتَّى فَاتَ الْوَقْتُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا عِنْدَ الذِّكْرِ , فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ حَالِ الذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ اسْتَحَقَّ اللَّوْمَ , وَكَذَلِكَ إنْ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ , وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ ( تَأْخِيرِهَا ) عَنْ وَقْتِ الذِّكْرِ , وَبِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ * . فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ لُزُومُ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ لَكَانَ فِعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ كَالظُّهْرِ إذَا فَاتَ وَقْتُهَا قَبْلَ فِعْلِهَا . قِيلَ لَهُ : تَسْمِيَتُنَا إيَّاهُ قَضَاءً أَوْ غَيْرَ قَضَاءٍ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ , وَقَدْ قُلْنَا إنَّ الْمَفْعُولَ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي غَيْرُ الْمَتْرُوكِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ فَرْضٌ آخَرُ غَيْرُهُ . فَإِنْ شِئْت بَعْدَ ذَلِكَ ( أَنْ ) تُسَمِّيَهُ ( قَضَاءً ) لَمْ نَمْنَعْك مِنْهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَا لَمْ ( نَتَبَيَّنْ فِي الْخَبَرِ ) عَمَّا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُقْتَضِيًا لِلْفَوْرِ , كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * , وَلَمْ يَدْخُلْهُ عَلَى الْفَوْرِ , وَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ * , وَلَمْ يَكُنْ فِي فَوْرِ الْخِطَابِ . وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ : وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا وَلَأُكَلِّمَنَّ عَمْرًا فَلَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِثْلَهُ . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ وَجَبَ إذَا ( كَانَ ) الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُقْتَضِيًا لِلْفَوْرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِثْلَهُ , وَبِأَيَّةِ عِلَّةٍ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا , وَكَيْفَ وَجَّهَ دَلَالَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ؟ . وَعَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ لَا يَقْتَضِي إلْزَامَ شَيْءٍ لِأَنَّ مَنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ وَلَأُكَلِّمَنَّ زَيْدًا لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ فِعْلُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ * فَأَمَرَهُ بِتَرْكِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ . ( وَلَا يَحْنَثُ ) فِيهِ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا * رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مِسْطَحِ بْنِ أَثَاثَةَ حِينَ حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ لِمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ , فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ , فَثَبَتَ أَنَّ حَلِفَهُ عَلَى فِعْلٍ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ , فَكَمَا جَازَ لَهُ تَرْكُهُ رَأْسًا فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ عَلَى الْفَوْرِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا وَجَّهَ اسْتِدْلَالَنَا مِنْهُ أَنَّ الْخَبَرَ وَالْيَمِينَ لَمْ تُفِيدَا فِعْلَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ , وَلَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ وَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ جِهَةِ مَا يُعَلَّقُ بِالْأَمْرِ مِنْ الْإِيجَابِ دُونَ الْخَبَرِ لَا يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا . قِيلَ لَهُ : فَاَلَّذِي ( فِيهِ ) إلْزَامُ(1/432)
الْفِعْلِ إنَّمَا كَانَ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ أَجْلِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْوُجُوبِ , وَاَلَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ الْفِعْلِ لَمْ يَقْتَضِ الْحَالَ لِعَدَمِ الْإِلْزَامِ . فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَانَ وُرُودُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي عُمُومَ فِعْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ كَانَ لَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ مِنْهَا , لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ إيَّاهُ عَلَى الْفَوْرِ تَخْصِيصًا لِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ . قِيلَ لَهُ : قَوْلُك إنَّهُ عُمُومٌ فِي الْأَزْمَانِ غَلَطٌ لِأَنَّ الزَّمَانَ غَيْرُ مَذْكُورٍ , فَيَكُونُ عُمُومًا مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ , وَإِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ لِتَرْكِهِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ وُجُوبُهَا ) ( فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَائِهِ , كَالدُّيُونِ إذَا أَخَّرَهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا ) . وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ وُرُودَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ يَقْتَضِي عُمُومُهُ جَوَازَ فِعْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَّ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ لِأَنَّهُ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى الْحَجِّ , وَلَمْ يَحُجَّ هُوَ حَتَّى حَجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ تَقَدُّمِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَى السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتَضِ الْفَوْرَ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا ( بِسُؤَالٍ فِي ) الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا لِأَنَّ الْكَلَامَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالِفِنَا فِي الْأَصْلِ , وَنَحْنُ لَا نَأْبَى أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ , ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ أَنَّهَا مِمَّا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ أَوْ لَا يَجُوزُ يَكُونُ كَلَامًا فِي الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِجَوَازِ التَّأْخِيرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا , وَفِي ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا وَكَلَامٌ فِي غَيْرِهَا , كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ لَفْظٌ ( ظَاهِرُهُ ) الْعُمُومُ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا فِي أَصْلِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ أَوْ نَفْيِهِ وَلَا قَادِحًا فِيهِ , فَلَوْ صَحَّ أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ قَدْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِلسَّنَةِ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا لَمَا دَلَّ ( ذَلِكَ ) عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ , لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ ( أَوْجَبَ تَأْخِيرَهُ ) , عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ فَرْضَ الْحَجِّ إنَّمَا نَزَلَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا , وَقِيلَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ . فَإِنْ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه , وَإِنْ كَانَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فَقَدْ انْتَفَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا قَبْلَهُ . وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ( هَذَا ) ظَاهِرُ الْحَالِ ( وَهُوَ ) أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَحُجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ , وَإِنَّمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِحُضُورِ الْمَوْسِمِ وَالْوُقُوفِ بِتِلْكَ الْمَشَاهِدِ مُتَنَفِّلًا بِهِ عَلَى الرَّسْمِ الَّذِي كَانُوا يَحُجُّونَهُ , لِيَعْلَمَ الْعَرَبُ وَمَنْ شَهِدَ ذَلِكَ الْمَوْسِمَ أَنَّ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِعْلَ الْحَجِّ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم - وَالدَّلِيلُ : عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ فَرْضِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ خَطَبَ النَّاسَ فِي عَرَفَاتٍ فَقَالَ : إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ * فَرُوِيَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ قَدْ صَارَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى ( الْحَجَّ ) فِيهِ حِينَ أَمَرَ بِهِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام , وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ ( قَبْلَ ذَلِكَ ) يُنْسِئُونَ الشُّهُورَ فَيَتَّفِقُ الْحَجُّ فِي أَكْثَرِ السِّنِينَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ الْمَأْمُورِ فِيهِ , وَاتَّفَقَ عَوْدُهُ إلَى وَقْتِهِ الْمَفْرُوضِ فِيهِ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا مَحَالَةَ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا أَنَّ حَجَّ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَجِّ , فَلَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ حَجَّ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ(1/433)
الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ قَبْلَ تِلْكَ السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا . وَكَانَ ( شَيْخُنَا ) أَبُو الْحَسَنِ رحمه الله يَحْتَجُّ لِعُذْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَأَخُّرِهِ عَنْ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا أَبَا بَكْرٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ كَانُوا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ وَكَانَتْ تَلْبِيَتُهُمْ شِرْكًا وَكُفْرًا , وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ , فَصَانَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ , فَأَمَرَهُ بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ إلَى السَّنَةِ الْأُخْرَى لِيَنْبِذَ إلَى الْمُشْرِكِينَ عُهُودَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَقَالَ : { لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ * وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ لِأَنَّ مَنْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتِخْفَافًا كَانَ كَافِرًا . وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَقَامَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ لَمْ يَحُجُّوا , قِيلَ ( لَهُ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ بِأَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِهِ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ هُنَاكَ وَحَوْلَ الْمَدِينَةِ , فَكَانُوا مَعْذُورِينَ فِي الْمَقَامِ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ { حَبَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ أَبَا بَكْرٍ فَيَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْمَوْسِمِ فَبَعَثَ بِهِ بَعْدَ أَنْ حَبَسَهُ عِنْدَهُ * , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِي الِابْتِدَاءِ إذَنْ قَدْ جَازَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ بَعْدَ حَبْسِهِ نَدْبًا . قِيلَ لَهُ : قَدْ كَانَ كَوْنُهُ عِنْد النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرْضًا فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ لَزِمَهُ فَرْضُ الْخُرُوجِ لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ فِيمَا عَهِدَ إلَيْهِ فِيهِ , فَقَدْ كَانَ هَذَا أَوْجَبَ مِنْ الْأَوَّلِ فَلِذَلِكَ بَعَثَ بِهِ .
-----------------
وفي طرح التثريب (1):
( السِّتُّونَ ) : قوله تعالى { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ * أَيْ لَا يَحْلِفُ الْأَوْلِيَةُ الْحَلِفَ يُقَالُ آلَى يُولِي وَائْتَلَى يَأْتَلِي بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَالْفَضْلُ هُنَا الْمَالُ وَالسَّعَةُ فِي الْعَيْشِ وَالرِّزْقِ ( قُلْت ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَضْلِ الْإِفْضَالُ وَالْإِعْطَاءُ وَالتَّصْدِيقُ , وَالتَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا يَلِيقُ بِالسَّعَةِ وَيُوَافِقُ مَا ذَكَرْتُهُ , قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِيهِ فَضِيلَةٌ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي قوله تعالى { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ : * الْآيَةُ انْتَهَى . وَلَوْ أُرِيدَ بِالْفَضْلِ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ فَضِيلَةٌ لَهُ . .
-------------------
العفو(2)
وليد بن إدريس المنيسي
1- قال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذي ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.
أثنى الله على عباده المتقين ووصفهم بالإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس والإحسان إلى الخلق، ووعدهم جنة عرضها السموات والأرض فكيف بطولها؟ وأخبر سبحانه أنه يحبهم.
2- عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: ((ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة)) [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
3- قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى والعافين عن الناس أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد وهذا أكمل الأحوال. أ.هـ.
مراده بأكمل الأحوال أي الأربعة:
أ- جزاءه السيئة بأسوأ. ب- جزاء السيئة بمثلها. ج- العفو عن المسيء. د- الإحسان إلى المسيء. ((صل من قطعك واعف عمن ظلمك وأحسن إلى من أساء إليك)).
4- أمر الله تعالى بالعفو والصفح في مواضع من كتابه منها قوله تعالى في خطاب نبيه : ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)).
5- قال ابن كثير: المراد بالفظ هنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك: غليظ القلب، أي لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب لانفضوا عنك وتركوك ولكن الله جمعهم عليك وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم.
__________
(1) -طرح التثريب - (ج 8 / ص 290)
(2) -موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1469)(1/434)
كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.
6- ومنها قوله سبحانه تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم.
والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون.
7- ومنها وقوله سبحانه: وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين.
8- ومنها قوله عز شأنه: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.
9- ومنها قوله عز شأنه: فاصفح الصفح الجميل.
10- نماذج من عفو النبي :
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال : ((قد لقيت من قومي وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرية الثعالب فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت منهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) [رواه البخاري ومسلم].
عن أنس كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذةً شديدة فنظرت إلى صفحة عنقه اليمنى وقد أثرت بها حاشية البردة من شدة جبذته.
11- ومن عفوه ، جاء في حديث ابن مسعود كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) [متفق عليه].
12- وكذلك كان العفو من هدي الرسل الكرام.
فهذا نبي الله يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم حسده إخوته وألقوه في الجب ونال منهم ألواناً من الأذى. ثم هو يقول لهم: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
13- وأبو بكر الصديق خير الناس بعد الأنبياء، كان من قرابته مسطح بن أثاثة وكان أبو بكر ينفق عليه ويحسن إليه فلما خاض مسطح فيمن خاض في حادثة الإفك، حلف أبو بكر ألا يحسن إليه كما كان يحسن في السابق فعاتبه ربه عز وجل وأنزل: ولا يأتل ألوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم فقال: بلى، أحب أن يغفر الله لي، وعاد إلى ما كان عليه من الإحسان إليه وكفّر عن يمينه.
14- زين العابدين أتت جاريته تصب الماء عليه فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه فقالت: والكاظمين الغيظ فقال: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس قال: عفوت عنك، قالت: والله يحب المحسنين، قال: أنت حرة لوجه الله.
15- عفو الإمام أحمد عمن أساء إليه.
16- عفو شيخ الإسلام ابن تيمية.
17- عن أبي هريرة أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي جالس فجعل النبي يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال: إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأبقى مع الشيطان ثم قال: يا أبا بكر ثلاث كلهن حق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغض عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة.
18- عن أبي هريرة قال : ((ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) [مسلم].
19- العفو من شيم الكرام:
قال الإمام الشافعي:
أحب من الإخوان كل مواتي …وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده …ويحفظني حيا وبعد مماتي
فمن لي بهذا ليت أني أصبته …لقاسمته مالي من الحسنات
تصفحت إخواني فكان أقلهم …على كثرة الإخوان أهل ثقات
وقال أيضاً:
أقبل معاذير من يأتيك معتذراً ……إن برّ عندك فيما قال أو فجرا
لقد أطاعك من يرضيك ظاهره ……وقد أجلك من يعصيك مستترا
-------------
خلق العفو والصفح (1)
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
20/3/1426
المسجد الحرام
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4118)(1/435)
أيّها الناس، سلامة صدرِ المرء من الغشَش وخُلوّ نفسِه من نزعةِ الانتصار للنَّفس والتشَفِّي لحظوظِها لهي سِمَة المؤمن الصالح الهيّن اللَّيِّن الذي لا غلَّ فيه ولا حسَد، يؤثر حقَّ الآخرين على حقِّه، ويعلم أنَّ الحياةَ دارُ ممرٍّ وليسَت دار مَقرٍّ؛ إذ ما حاجةُ الدنيا في مفهومه إن لم تكُن موصِلَةً إلى الآخرة؛ بل ما قيمةُ عيشِ المرء على هذه البسيطة وهو يَكنِزُ في قلبه حبَّ الذات والغِلظة والفَظاظَة و يُفرِزُ بين الحين والآخر ما يؤكِّد من خلالِه قَسوَةَ قلبِه وضيق عَطَنه؟!
ما أكثَرَ الذين يبحَثون عن مصادرِ العزِّة وسبُلها والتنقيب عنها يمنةً ويَسرةً والتطلُّع إلى الاصطباغِ بها أو بشيءٍ منها مهما بلَغ الجَهدُ في تحصيلها، مع كثرَتِها وتنوُّع ضُروبها، غيرَ أنَّ ثمَّةَ مصدرًا عظيمًا من مصادرِ العزَّة يغفل عنه جلُّ النّاس مع سهولَتِه وقلَّة المؤونةِ في تحصيله دون إجلابٍ عليه بخيلٍ ولا رَجلٍ؛ إنما مفتاحُه شيءٌ من قوَّةِ الإرادة وزمِّ النفسِ عن استِتمامِ حظوظها واستيفاءِ كلِّ حقوقِها، يتمثَّل هذا المفتاحُ في تصفِيَة القلب من شواغلِ حظوظ الذّات وحبِّ الأخذ دون الإعطاءِ.
هذه العزّةُ برمَّتها يمكِن تحصيلُها في ولوجِ المرء بابَ العفو والصَّفح والتسامح والمغفرة، فطِيبُ النفس وحسنُ الظنّ بالآخرين وقَبول الاعتذار وإقالةُ العثرة وكَظم الغيظ والعفوُ عن الناس كلُّ ذلك يعَدّ من أهمِّ ما حضَّ عليه الإسلام في تعامُل المسلمين مع بعضِهم البعض. ومَن كانت هذه صفَته فهو خليقٌ بأن يكونَ من أهل العزَّة والرفعة؛ لأنَّ النبيَّ قال: ((ما نقَصَت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه)) رواه مسلم(1)[1]، وفي لفظٍ لأحمد: ((ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمظلمةٍ فيُغضِي عنها لله إلاَّ أعزَّه الله تعالى بها ونصَره))(2)[2]. فهذِه هي العِزَّة يا باغيَ العزة، وهذه هي الرِّفعة يا من تنشُدُها.
إنها رِفعة وعِزّة في الدنيا والآخرة، كيف لا وقد وعد الله المتَّصفِين بها بقولِه: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]؟! والكاظِمونَ الغيظَ ـ عباد الله ـ هم الذين لا يُعْمِلون غضَبَهم في الناس، بل يكفّون عنهم شرَّهم، ويحتسِبون ذلك عند الله عز وجل، أمّا العافون عن الناس فهم الذين يعفونَ عمَّن ظلمَهم في أنفسهم، فلا يبقَى في أنفِسهم موجِدَة على أحدٍ. ومن كانت هذه سجيَّته فليبشِر بمحبَّةِ الله له حيث بلَغَ مقامًا من مقاماتِ الإحسان، وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [آل عمران:134]. ألا إنَّ مَن أحسن فقد أحبَّه الله، ومن أحبَّه الله غفَر له ورحمه، إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
العفو ـ عبادَ الله ـ شِعار الصالحين الأنقِيَاء ذوِي الحِلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازلَ عن الحقِّ نوعُ إيثارٍ للآجلِ على العاجل وبسطٍ لخُلُقٍ نقيٍّ تقيٍّ ينفُذ بقوّةٍ إلى شِغاف قلوب الآخرين، فلا يملِكون أمامه إلا إبداءَ نظرةِ إجلالٍ وإكبار لمن هذه صفتُه وهذا ديدَنُه.
إنَّ العفو عن الآخرين ليس بالأمرِ الهيِّن؛ إذ له في النّفسِ ثِقلٌ لا يتِمّ التغلُّب عليه إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقامِ للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين استعصَوا على حظوظ النّفس ورغباتها وإن كانت حقًّا لهم يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله تعالى: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ [الشورى:41]، غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات. ومِن هنا يأتي التميُّز والبراز عن العُموم، وهذا هو الشَّديد الممدوحُ الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين وغيرهما عن النبي (3)[3]، وقد أخرج الإمام أحمَد في مسنده قولَ النبيِّ : ((من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء))(4)[4].(1/436)
أيّها المسلمون، إنَّ شريعتَنا الغرّاء يوم حضَّت المسلمِين على التخلُّق بخلقِ العفو والتجاوُز لم تقصِر هذا الحضّ في نطاقٍ ضيق أو دائرة مغلَقَة، بل جعلتِ الأمرَ فيه موسَّعًا ليشمَلَ جوانبَ كثيرةً من شؤونِ التّعامُل العَامّ والخاصّ، فلقد جاء الحضُّ من الشارع الحكيم للقيادة الكُبرى وأهلِ الولاية العظمى بذلك؛ لأنَّ تمثُّل القيادَةِ بسيما العفوِ والتسامُح أمارةٌ من أمارات القائدِ الناجحِ كما أمرَ الله نبيَّه في قولِه: خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، والعفو هنا هو التجاوُز على أحدِ التفسيرَين، وكما في قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:195].
ولقد تعدَّى الحضُّ أيضًا إلى أبوابِ الدِّماء والقِصاص كما في قولِه تعالى: فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ [المائدة:54]، كما تعدى الحضّ أيضًا إلى الزَّوجين في مسألةِ الصداق في الطلاق قبلَ الدخول حيث قال سبحانه: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، بل إنَّ الحضَّ على العفوِ قد تعدَّى إلى ما يخصّ تبايُع الناس وشراءَهم ومدايناتهم، فقد قال النبي : ((من أقال مسلمًا بيعتَه أقال الله عثرتَه)) رواه أبو داود وابن ماجه(5)[5]، وقال : ((كان تاجرٌ يدايِن الناس، فإذا رأَى معسِرًا قال لفتيانه: تجاوَزوا عنه لعلَّ الله أن يتجاوز عنّا، فتجاوَز الله عنه)) رواه البخاري ومسلم(6)[6]. وثمّة تأكيدٌ على عموم الحضِّ على العفوِ في التعاملِ مع الآخرين بسؤالِ الرجل الذي جاء إلى النبيِّ فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمَت، ثم أعادَ عليه الكلام فصمَت، فلمّا كان في الثالثة قال: ((اعفوا عنه في كلِّ يومٍ سبعين مرة)) رواه أبو داود والترمذي(7)[7].
وبعدُ يا رعاكم الله: فإنّ العفو والتجاوز لا يقتضِي الذّلَّةَ والضعف، بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى، لا سيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار، فقد بوَّب البخاريّ رحمه الله في صحيحه بابًا عن الانتصارِ من الظالم لقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [الشورى:39]، وذكَرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله: "كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا"(8)[8]، قال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما: (لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه)(9)[9]، وقال جعفرُ الصادِق رحمه الله: "لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة"(10)[10]، وقال الفضيل بنُ عياض رحمه الله: "إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزّ وجلّ فقل له: إن كنتَ تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان".
ثم إنَّ بعض الناس ـ عباد الله ـ قد بلغ من القسوةِ ما لا يمكن معها أن يعفوَ لأحد أو يتجاوَز عنه، لا ترونَ في حياته إلاّ الانتقام والتشفِّي، ليس إلا. ترونَه وترونَ أمثالَه كمثَل سماءٍ إذا تغيَّم لم يُرجَ صَحوُه، وإذا قَدر لا يُنتَظَر عفوه، يغضِبُه الجرمُ الخفيّ، ولا يرضيه العذرُ الجليّ، حتى إنّه ليرَى الذنبَ وهو أضيقُ من ظلِّ الرمح، ويعمَى عن العذرِ وهو أبيَنُ من وضَح النهار. ترونَه ذا أُذنين يسمَع بإحداهما القولَ فيشتطّ ويضطرب، ويحجبُ عن الأخرَى العذرَ ولو كان له حجّةٌ وبرهان. ومَن هذه حالُه فهو عدوُّ عقلِه، وقد استولى عليه سلطان الهوَى فصرفَه عن الحسنِ بالعفوِ إلى القبيح بالتَّشفِّي، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ما ضرب رسول الله شيئًا قطّ بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطّ فينتَقِم من صاحبه إلاّ أن يُنتَهَك شيء من محارِم الله فينتَقِم لله عز وجل. رواه مسلم(11)[11].
ألا إنَّ الانتصارَ للنفس من الظلمِ لحقّ، ولكنَّ العفوَ هو الكمالُ والتّقوى، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
------------
الخطبة الثانية(1/437)
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاتَّّقوا الله أيها المسلمون، واعلَموا أنَّ تحضيضَ الشريعة على العفوِ والتجاوُز لم يكن مقتصِرًا على العفو في الظاهرِ دون الباطن، بل إنَّ التحضيضَ عمَّ الظاهر والباطنَ معًا، فأطلق على الظاهر لفظَ العفو، وأطلق على الباطنِ لفظ الصَّفح، والعفوُ والصفح بينهما تقارُبٌ في الجملة، إلاَّ أنَّ الصفحَ أبلغ من العفو؛ لأنَّ الصفح تجاوزٌ عن الذنبِ بالكلية واعتباره كأن لم يكن، أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاطَ اللوم الظاهر دونَ الباطن، ولذا أمَر الله نبيَّه به في قولِه: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، وهو الذي لا عتاب معه.
وقد جاءتِ الآيات متضَافِرةً في ذكرِ الصفح والجمعِ بينه وبين العفو كما في قولِه تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [المائدة:13]، وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109]، وقوله سبحانه: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة:22]، وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًا لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التغابن:14].
العفو والصّفح ـ عباد الله ـ هما خلُقُ النبيّ ، فأين المشمِّرون المقتَدون؟! أين من يغالِبهم حبُّ الانتصار والانتقام؟! أين هم من خلُق سيِّد المرسَلين ؟! سئِلَت عائشة رضي الله عنها عن خلُق رسولِ الله فقالت: لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. رواه أحمد والترمذي وأصله في الصحيحين(12)[1]. وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:36، 37].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...
__________
(1) صحيح مسلم: كتاب البر (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) مسند أحمد (2/436) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا القضاعي في مسند الشهاب (820)، وفي إسناده محمد بن عجلان اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، وقد خولف في إسناد هذا الحديث، فرواه الليث بن سعد مرسلا، ورجح الإرسال البخاري في التاريخ (2/102)، والدارقطني في العلل (8/153)، والحديث في السلسلة الصحيحة (2231).
(3) صحيح البخاري: كتاب الأدب (6114)، صحيح مسلم: كتاب البر (2609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) مسند أحمد (3/440) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في الأدب (4777)، والترمذي في صفة القيامة (2493)، وابن ماجه في الزهد (4186)، وأبو يعلى (1497)، والطبراني في الكبير (20/188)، والبيهقي في الشعب (6/313)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2753).
(5) سنن أبي داود: كتاب البيوع، باب: في فضل الإقالة (3460)، سنن ابن ماجه: كتاب التجارات، باب: الإقالة (2199) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه قوله: ((بيعته))، وأخرجه أيضًا أحمد (2/152)، وصححه ابن حبان (5030)، والحاكم (2/45)، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حزم في المحلى (9/3)، وابن دقيق العيد كما في الفيض (6/79)، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه (3/18): "إسناد صحيح على شرط مسلم"، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه أيضًا الألباني في إرواء الغليل (1334).
(6) صحيح البخاري: كتاب البيوع (2078)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1562) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) سنن أبي داود: كتاب الأدب (5164)، سنن الترمذي: كتاب البر (1949) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/90، 111)، وعبد بن حميد (821)، وأبو يعلى (5760)، والطبراني في الأوسط (1765)، والبيهقي في الكبرى (8/10)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وجود المنذري في الترغيب رواية أبي يعلى (3/152)، وقال الهيثمي في المجمع (4/238): "رواه أبو يعلى ورجاله ثقات"، وهو في السلسلة الصحيحة (488).(1/438)
(8) صحيح البخاري: كتاب المظالم، باب: الانتصار من المظالم، قال ابن حجر في الفتح (5/100): "هذا الأثر وصله عبد بن حميد وابن عيينة في تفسيرهما في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:39]".
(9) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/319 ـ مؤسسة الرسالة ـ)
(10) 10] انظر: أدب المجالسة لابن عبد البر (ص116).
(11) 11] صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2328).
(12) مسند أحمد (6/174، 236، 246)، سنن الترمذي: كتاب البر (2016)، وأخرجه أيضا الطيالسي (1520)، وابن راهويه في مسنده (1612)، والبيهقي في الكبرى (7/45) وفي الشعب (6/312)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (6443)، والحاكم (4224)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1640).
=================
الحث على الزواج من المهاجرات :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا* (50) سورة الأحزاب
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
فيه تسع عشرة مسألة :
الأولى : روى السّدّي عن أبي صالح عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني؛ ثم أنزل الله تعالى : { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قالت : فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر ، كنت من الطُّلقاء . خرّجه أبو عيسى وقال : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه . قال ابن العربيّ : وهو ضعيف جداً ، ولم يأتِ هذا الحديث من طريق صحيح يُحتجّ بها .
الثانية : لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه ، حَرُم عليه التزوّج بغيرهن والاستبدال بهنّ ، مكافأة لهن على فعلهن . والدليل على ذلك قوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } الآية . وهل كان يحلّ له أن يطلق واحدة منهن بعد ذلك؟ فقيل : لا يحل له ذلك جزاءً لهن على اختيارهن له . وقيل : كان يَحِلّ له ذلك كغيره من الناس ولكن لا يتزوّج بدلها . ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوّج بمن شاء عليهن من النساء ، والدليل عليه قوله تعالى : { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } والإحلال يقتضي تقدّم حَظْر . وزوجاته اللاتي في حياته لم يكنّ محرمات عليه ، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات فانصرف الإحلال إليهن ، ولأنه قال في سياق الآية { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } الآية . ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته ولا من بنات خاله ولا من بنات خالاته ، فثبت أنه أحلّ له التزويج بهذا ابتداء . وهذه الآية وإن كانت مقدمة في التلاوة فهي متأخرة النزول على الآية المنسوخة بها ، كآيتي الوفاة في «البقرة» .
وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى : { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } فقيل : المراد بها أن الله تعالى أحلّ له أن يتزوّج كل امرأة يؤتيها مهرها ، قاله ابن زيد والضحاك . فعلى هذا تكون الآية مبيحة جميع النساء حاشا ذوات المحارم . وقيل : المراد أحلَلْنا لك أزواجك ، أي الكائنات عندك ، لأنهن قد اخترنك على الدنيا والآخرة ، قاله الجمهور من العلماء . وهو الظاهر ، لأن قوله : { آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } ماضٍ ، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط . ويجيء الأمر على هذا التأويل ضيّقاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم . ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أيّ الناس شاء ، وكان يشقّ ذلك على نسائه ، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا مَن سُمِّيَ ، سُرّ نساؤه بذلك .
قلت : والقول الأوّل أصح لما ذكرناه .
ويدلّ أيضاً على صحته ما خرّجه الترمذيّ عن عطاء قال : قالت عائشة رضي الله عنها : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله تعالى له النساء . قال : هذا حديث حسن صحيح .
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 4493)(1/439)
الثالثة : قوله تعالى : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أحلّ الله تعالى السراري لنبيّه صلى الله عليه وسلم ولأمّته مطلقاً ، وأحل الأزواج لنبيّه عليه الصلاة والسلام مطلقاً ، وأحلّه للخلق بعدَدٍ . وقوله : { مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ } أي ردّه عليك من الكفار . والغنيمة قد تسمى فيئاً؛ أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة .
الرابعة : قوله تعالى : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } أي أحللنا لك ذلك زائداً من الأزواج اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ، على قول الجمهور؛ لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجتَ وآتيت أجرها ، لما قال بعد ذلك : «وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ» لأن ذلك داخل فيما تقدّم .
قلت : وهذا لا يلزم ، وإنما خصّ هؤلاء بالذكر تشريفاً؛ كما قال تعالى : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] . والله أعلم .
الخامسة : قوله تعالى : { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } فيه قولان : الأوّل : لا يحلّ لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبد المطلب ، وبنات أولاد بنات عبد المطلب ، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زُهْرة إلا من أسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجِر من هجر ما نهى الله تعالى عنه " الثاني : لا يحلّ لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة؛ لقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] ومن لم يهاجر لم يَكْمُل ، ومَن لم يكمل لم يصلح للنبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كَمُل وشَرُف وعَظُم ، صلى الله عليه وسلم .
السادسة : قوله تعالى : { مَعَكَ } المَعِيّة هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها؛ فمن هاجر حلّ له ، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن . يقال : دخل فلان معي وخرج معي؛ أي كان عمله كعملي وإن لم يقترن فيه عَمَلُكما . ولو قلت : خرجنا معاً لاقتضى ذلك المعنيين جميعاً : الاشتراك في الفعل ، والاقتران ( فيه ) .
السابعة : ذكر الله تبارك وتعالى العمّ فَرْداً والعمّات جمعاً . وكذلك قال : «خَالِكَ» ، «وَخَالاَتِكَ» والحكمة في ذلك : أن العمّ والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز؛ وليس كذلك العمة والخالة . وهذا عُرْف لغويّ ، فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال ، وهذا دقيق فتأملوه؛ قاله ابن العربي .
الثامنة : قوله تعالى : { وامرأة مُّؤْمِنَةً } عطف على «أَحْلَلْنَا» . المعنى وأحللنا لك امرأة تَهَب نفسها من غير صداق . وقد اختلف في هذا المعنى؛ فروي عن ابن عباس أنه قال؛ لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو مِلك يمين .
فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد . وقال قوم : كانت عنده موهوبة .
قلت : والذي في الصحيحين يقوّي هذا القول ويَعْضُدُه؛ روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كنت أغار على اللاتي وَهَبْنَ أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : أما تستحيي امرأة تَهَب نفسها لرجل! حتى أنزل الله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } فقلت : والله ما أرى رَبَّكَ إلا يسارع في هواك . وروى البخاريّ عن عائشة أنها قالت : كانت خَوْلة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فدلّ هذا على أنهن كنّ غير واحدة . والله تعالى أعلم . الزَّمَخْشَرِيّ : وقيل الموهبات أربع : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية ، وأم شريك بنت جابر ، وخَوْلة بنت حكيم .
قلت : وفي بعض هذا اختلاف . قال قتادة : هي ميمونة بنت الحارث . وقال الشعبيّ : هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار . وقال عليّ بن الحسين والضحاك ومقاتل : هي أم شريك بنت جابر الأسدية . وقال عروة ابن الزبير : أم حكيم بنت الأوقص السلمية .
التاسعة : وقد اختلف في اسم الواهبة نفسها؛ فقيل هي أم شريك الأنصارية ، اسمها غُزِيّة . وقيل غُزَيلة . وقيل ليلى بنت حكيم . وقيل : هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت : البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : هي أم شريك العامرية ، وكانت عند أبي العكر الأزدي . وقيل : عند الطُّفيل بن الحارث فولدت له شريكاً . وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجها؛ ولم يثبت ذلك . والله تعالى أعلم؛ ذكره أبو عمر بن عبد البر . وقال الشعبيّ وعروة : هي زينب بنت خزيمة أم المساكين . والله تعالى أعلم .(1/440)
العاشرة : قرأ جمهور الناس «إِنْ وَهَبَتْ» بكسر الألف ، وهذا يقتضي استئناف الأمر؛ أي إن وقع فهو حلال له . وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا : لم يكن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة؛ وقد دللنا على خلافه . وروى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح : أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئت أهب لك نفسي ، فسكت حتى قام رجل فقال : زوجْنيها إن لم يكن لك بها حاجة . فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لا يقرّ على الباطل إذا سمعه؛ غير أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظراً بياناً؛ فنزلت الآية بالتحليل والتخيير ، فاختار تركها وزوّجها من غيره . ويحتمل أن يكون سكت ناظراً في ذلك حتى قام الرجل لها طالباً . وقرأ الحسن البصريّ وأُبَيّ بن كعب والشعبيّ «أنْ» بفتح الألف . وقرأ الأعمش «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً وَهَبَتْ» . قال النحاس : وكسر «إنْ» أجمع للمعاني؛ لأنه قيل إنهن نساء . وإذا فتح كان المعنى على واحدة بعينها؛ لأن الفتح على البدل من امرأة ، أو بمعنى لأن .
الحادية عشرة : قوله تعالى : { مُّؤْمِنَةً } يدلّ على أن الكافرة لا تحلّ له . قال إمام الحرمين : وقد اختلف في تحريم الحرّة الكافرة عليه . قال ابن العربيّ : والصحيح عندي تحريمها عليه . وبهذا يتميز علينا؛ فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر ، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أطهر؛ فجوّز لنا نكاح الحرائر الكتابيات ، وقصر هو صلى الله عليه وسلم لجلالته على المؤمنات . وإذا كان لا يحلّ له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحْرَى ألاّ تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر .
الثانية عشرة : قوله تعالى : { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا } دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة ، قد تقدمت في «النساء» وغيرها . وقال الزجاج : معنى : «إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ» حلّت . وقرأ الحسن : «أن وهبت» بفتح الهمزة . و«أن» في موضع نصب . قال الزجاج : أي لأن . وقال غيره : «أن وهبت» بدل اشتمال من «امرأة» .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : { إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم حلت له ، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك . كما إذا وهبت لرجل شيئاً فلا يجب عليه القبول؛ بَيْد أن من مكارم أخلاق نبيّنا أن يقبل من الواهب هبته . ويرى الأكارم أن ردّها هُجْنة في العادة ، ووصمة على الواهب وأَذِيّة لقلبه؛ فبيّن الله ذلك في حق رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله قرآنا يتلى؛ ليرفع عنه الحرج ، ويبطل بُطْل الناس في عادتهم وقولهم .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : { خَالِصَةً لَّكَ } أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا تجوز؛ فلا يجوز أن تَهَب المرأة نفسها لرجل . ووجه الخاصيّة أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك . فأما فيما بيننا فللمفوّضة طلب المهر قبل الدخول ، ومهر المثل بعد الدخول .
الخامسة عشرة : أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز ، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح؛ إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا : إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز . قال ابن عطية : فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة ، وإلا فالأفعال التي اشترطوها هي أفعال النكاح بعينه ، وقد تقدمت هذه المسألة في «القصص» مستوفاة . والحمد لله .
السادسة عشرة : خصّ الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب الفرض والتحريم والتحليل مزيّةً على الأمة وهبت له ، ومرتبة خصّ بها؛ ففرِضت عليه أشياء ما فرضت على غيره ، وحَرُمت عليه أفعال لم تحرم عليهم ، وحللت له أشياء لم تحلل لهم؛ منها متفَق عليه ومختلف فيه .
فأما ما فُرض عليه فتسعة : الأوّل : التهجد بالليل؛ يقال : إن قيام الليل كان واجِباً عليه إلى أن مات؛ لقوله تعالى : { ياأيها المزمل قُمِ الليل } [ المزمل : 1 2 ] الآية . والمنصوص أنه كان واجباً عليه ثم نسخ بقوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] وسيأتي . الثاني : الضُّحَا . الثالث : الأَضْحى . الرابع : الوتر؛ وهو يدخل في قسم التهجُّد . الخامس : السواك . السادس : قضاء دين من مات معسِرا . السابع : مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع . الثامن : تخيير النساء . التاسع : إذا عمل عملاً أثبته . زاد غيره : وكان يجب عليه إذا رأى منكراً أنكره وأظهره ، لأن إقراره لغيره على ذلك يدلّ على جوازه ، ذكره صاحب البيان .(1/441)
وأما ما حرم عليه فجملته عشرة : الأوّل : تحريم الزكاة عليه وعلى آله . الثاني : صدقة التطوّع عليه ، وفي آله تفصيل باختلاف . الثالث : خائنة الأعين ، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر ، أو ينخدع عما يجب . وقد ذمّ بعضَ الكفار عند إذنه ثم ألان له القول عند دخوله . الرابع : حَرّم الله عليه إذا لبس لأْمته أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه . الخامس : الأكل متّكئاً . السادس : أكل الأطعمة الكريهة الرائحة . السابع : التبدّل بأزواجه؛ وسيأتي . الثامن : نكاح امرأة تكره صحبته . التاسع : نكاح الحرّة الكتابية . العاشر : نكاح الأمة .
وحرّم الله عليه أشياء لم يحرمها على غيره تنزيهاً له وتطهيراً . فحرّم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه؛ تأكيداً لحجته وبياناً لمعجزته؛ قال الله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] . وذكر النقاش أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما مات حتى كتب؛ والأوّل هو المشهور . وحرم عليه أن يمدّ عينيه إلى ما متّع به الناس؛ قال الله تعالى : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } [ الحجر : 88 ] الآية .
وأما ما أحِلّ له صلى الله عليه وسلم فجملته ستة عشر : الأوّل : صَفِيّ المغنم . الثاني : الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس . الثالث : الوصال . الرابع : الزيادة على أربع نسوة . الخامس : النكاح بلفظ الهبة . السادس : النكاح بغير ولِيّ . السابع : النكاح بغير صداق . الثامن : نكاحه في حالة الإحرام . التاسع : سقوط القَسْم بين الأزواج عنه؛ وسيأتي . العاشر : إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها؛ وحلّ له نكاحها . قال ابن العربي : هكذا قال إمام الحرمين ، وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى . الحادي عشر : أنه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها . الثاني عشر : دخوله مكة بغير إحرام ، وفي حقنا فيه اختلاف . الثالث عشر : القتال بمكة . الرابع عشر : أنه لا يورث . وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لأن الرجل إذا قارب الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه ، ولم يبق له إلا الثلث خالصاً ، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على ما تقرّر بيانه في آية المواريث ، وسورة «مريم» بيانه أيضاً .
الخامس عشر : بقاء زوجيّته من بعد الموت . السادس عشر : إذا طلّق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تُنكح . وهذه الأقسام الثلاثة تقدّم معظمها مفصلاً في مواضعها . وسيأتي إن شاء الله تعالى .
وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان ، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك ، لقوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } . وعلى كل أحد من المسلمين أن يَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه . وأبيح له أن يحمي لِنفسه . وأكرمه الله بتحليل الغنائم . وجعلت الأرض له ولأمته مسجداً وطهوراً . وكان من الأنبياء ( مَن ) لا تصح صلاتهم إلا في المساجد . ونُصِر بالرُّعْب؛ فكان يخافه العدوّ من مسيرة شهر . وبُعث إلى كافة الخلق ، وقد كان مَن قبله من الأنبياء يُبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض . وجُعلت معجزاته كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة . وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجارَ الماء من الصخرة . وقد انشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم ، وخرج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم . وكانت معجزة عيسى صلى الله عليه وسلم إحياء الموتى وإبراء الأكْمَه والأبرص . وقد سبّح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم ، وحنّ الجِذع إليه؛ وهذا أبلغ . وفضّله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له ، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة ، ولهذا جُعلت نبوَّته مؤبّدة لا تُنسخ إلى يوم القيامة .
السابعة عشرة : قوله تعالى : { أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي ينكحها ، يقال : نَكَح واستنكح؛ مثل عَجِب واستعجب ، وعجِل واستعجل . ويجوز أن يَردِ الاستنكاح بمعنى طلب النكاح ، أو طلب الوطء . و«خَالِصَةً» نصب على الحال ، قاله الزجاج . وقيل : حال من ضمير متصل بفعل مضمر دلّ عليه المضمر ، تقديره : أحللنا لك أزواجك ، وأحللنا لك امرأة مؤمنة أحللناها خالصة ، بلفظ الهبة وبغير صداق وبغير ولِيّ .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : { مِن دُونِ المؤمنين } فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول ، لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام .
قوله تعالى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ } أي ما أوجبنا على المؤمنين ، وهو ألا يتزوّجوا إلا أربع نسوة بمهر وبيّنة ووَلِيّ . قال معناه أُبَيّ بن كعب وقتادة وغيرهما .(1/442)
التاسعة عشرة : قوله تعالى : { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السّعة ، أي بيّنا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح «لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ» ف«لكيلا» متعلق بقوله : { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } أي فلا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربّك في شيء . ثم آنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } .
--------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله(1) :
يقول تعالى مخاطبا نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مُهُورَهُنَّ، وهي الأجور هاهنا. كما قاله مجاهد وغير واحد، وقد كان مَهْرُه لنسائه اثنتي (5) عشرة أوقية ونَشّا وهو نصف (6) أوقية، فالجميع خمسمائة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي، رحمه الله، أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حُيَيّ فإنه اصطفاها من سَبْي خيبر، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وكذلك جُوَيرية بنت الحارث المصطلقية، أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها، رضي الله عن جميعهن (7) .
وقوله: { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } أي: وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم (1) ، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما. وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم، عليه السلام، وكانتا من السراري، رضي الله عنهما.
وقوله: { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } : هذا عدل وَسط بين الإفراط والتفريط؛ فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأباح بنت العم والعمة، وبنت الخال والخالة، وتحريم (2) ما فَرّطت (3) فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت، وهذا بشع (4) فظيع.
وإنما قال: { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ } فَوَحَّدَ لفظ الذكر لشرفه، وجمع الإناث لنقصهن كقوله: { عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ } [النحل:48]، { يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [البقرة: 257]، { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [الأنعام: 1]، وله نظائر كثيرة.
وقوله: { اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قال ابن أبي حاتم، رحمه الله:
حدثنا محمد بن عمار بن (5) الحارث الرازي، حدثنا عبيد الله (6) بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح (7) ، عن أم هانئ قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذري، ثم أنزل الله: { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ } إلى قوله: { اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قالت: فلم أكن أحل له، ولم أكن ممن هاجر معه، كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن عبيد الله بن موسى، به (8) .
ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، عنها بنحوه.
ورواه الترمذي في جامعه (9) . وهكذا قال أبو رَزين وقتادة: إن المراد: من هاجر معه إلى المدينة. وفي رواية عن قتادة: { اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } أي: أسلمن. وقال الضحاك: قرأ ابن مسعود: "واللاتي هَاجَرْنَ مَعَك".
وقوله: { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي: ويحل لك -يأيها النبي -المرأة المؤمنة إذا وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك. وهذه الآية توالى فيها شرطان، كقوله تعالى إخبارًا عن نوح، عليه السلام، أنه قال لقومه: { وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } [هود: 34]، وكقول موسى: { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } [يونس: 84].
__________
(1) في أ: "الغنائم".
(2) في أ: "وحرم".
(3) في ت: "ما حرموا".
(4) في ف، أ: "شنيع".
(5) في أ: "و".
(6) في أ: "عبد الله".
(7) في ت: "روى ابن أبي حاتم بإسناده".
(8) تفسير الطبري (22/15).
(9) سنن الترمذي برقم (3214) وقال: "هذا حديث حسن صحيح لا أعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي".
وقال هاهنا: { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } وقد قال الإمام أحمد (1) :
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 441)(1/443)
حدثنا إسحاق، أخبرنا مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، إني قد وَهَبت نفسي لك. فقامت قياما طويلا فقام رجل فقال: يا رسول الله، زَوّجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تُصدقها إياه"؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعطيتها إزارك جلستَ لا إزار لك، فالتمس شيئا". فقال: لا أجد شيئا. فقال: "التمس ولو خاتما من حديد" فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء؟" قال: نعم؛ سورة كذا، وسورة كذا -لسور يسميها -فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها بما معك من القرآن".
أخرجاه من حديث مالك (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان (3) ، حدثنا مرحوم، سمعت ثابتا يقول (4) : كنت مع أنس جالسا وعنده ابنة له، فقال أنس: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله، هل لك فيّ حاجة؟ فقالت ابنته: ما كان أقل حياءها. فقال: "هي خير منك، رغبت في النبي، فعرضت عليه نفسها".
انفرد بإخراجه البخاري، من حديث مرحوم بن عبد العزيز [العطار] (5) ، عن ثابت البُنَاني، عن أنس، به (6) .
وقال (7) أحمد أيضا: حدثنا عبد الله بن بكر، حدثنا سِنان بن ربيعة، عن الحضرمي، عن أنس بن مالك: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ابنة لي كذا وكذا. فذكرت من حسنها وجمالها، فآثرتك بها. فقال: "قد قبلتها".فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تَشْتَك شيئًا قط، فقال: "لا حاجة لي في ابنتك". لم يخرجوه (8) .
وقال (9) ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا منصور بن أبي مُزَاحم، حدثنا ابن أبي الوضاح -يعني: محمد بن مسلم -عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم (10) .
وقال ابن وهب، عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزِّنَاد، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن خولة بنت حكيم بن الأوقص، من بني سُلَيم، كانت من اللاتي وَهَبْن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم (11) .
وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن، عن هشام، عن أبيه: كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم
__________
(1) في ت: "وقد روى البخاري ومسلم".
(2) المسند (5/336) وصحيح البخاري برقم (5135) وصحيح مسلم برقم (1425) ولكنه عند مسلم من طريق يعقوب وعبد العزيز بن أبي حازم وسفيان بن عيينة والدراوردي وزائدة كلهم عن أبي حازم بنحوه.
(3) في أ: "عثمان".
(4) في ت: "وروى البخاري أن ثابتا قال".
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (3/268) وصحيح البخاري برقم (5120).
(7) في ت: "وروى".
(8) المسند (3/155).
(9) في ت: "وروى".
(10) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/55) من طريق منصور بن أبي مزاحم، به.
(11) رواه الطبري في تفسيره (22/23).
كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة صالحة (1) .
فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم، أو هي امرأة أخرى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسِي، حدثنا وَكِيع، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، وعمر بن الحكم، وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة، ست من قريش، خديجة، وعائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة. وثلاث من بني عامر بن صَعْصَعَة، وامرأتان من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحارث، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وزينب أم المساكين -امرأة من بني أبي بكر بن كلاب من القرطاء -وهي التي اختارت الدنيا، وامرأة من بني الجون، وهي التي استعاذت منه، وزينب بنت جحش الأسدية، والسبيتان صفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية (2) .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن ابن عباس: { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } قال: هي ميمونة بنت الحارث.
فيه انقطاع: هذا مرسل، والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت خُزَيمة الأنصارية، وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فالله أعلم.
والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن من النبي صلى الله عليه وسلم كثير، كما قال (3) البخاري، حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا أبو أسامة قال: هشام بن عروة حدثنا عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن من النبي صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب امرأة (4) نفسها؟ فلما أنزل الله: { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } قلت: ما أرى ربك إلا يُسَارع في هواك (5) .
وقد قال (6) ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن منصور الجعفي، حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن عَنْبَسَة بن الأزهر، عن سِماك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له.(1/444)
ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن يونس بن بُكَيْر (7) . أي: إنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان ذلك مباحا له ومخصوصا به؛ لأنه مردود إلى مشيئته، كما قال الله تعالى: { إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي: إن اختار ذلك.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (22/23).
(2) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/270) من طريق وكيع بلفظ: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني الجون فطلقها وهي التي استعاذت منه".
(3) في ت: "كما روى".
(4) في ت، أ: "المرأة".
(5) صحيح البخاري برقم (4788).
(6) في ت: "وروى".
(7) تفسير الطبري (22/17).
وقوله: { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } قال عكرمة: أي: لا تحل الموهوبة لغيرك، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئا. وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما.
أي: إنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل، فإنه متى دخل بها وجب لها عليه بها مهر مثلها، كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَرْوَع (1) بنت واشق لما فوضت، فحكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها، والموت والدخول سواء في تقرير (2) المهر وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم فأما هو، عليه السلام، فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها؛ لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، كما في قصة زينب بنت جحش، رضي الله عنها. ولهذا قال قتادة في قوله: { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } ، يقول: ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.
[وقوله تعالى: { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ] (3) قال أبي بن كعب، ومجاهد، والحسن، وقتادة وابن جرير في قوله: { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ } أي: من حَصْرِهم في أربع نسوة حرائر وما شاءوا (4) من الإماء، واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم، وهم الأمة، وقد رخصنا لك في ذلك، فلم نوجب عليك شيئا منه؛ { لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
__________
(1) في أ: "تزويج".
(2) في ت: "تقدير".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في ت: "وما يشاء".
{ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) } .
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بشر (1) ، حدثنا هشام بن عُرْوَة، عن أبيه (2) عن عائشة، رضي الله عنها؛ أنها كانت تُعَيِّر (3) النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فأنزل الله، عز وجل: { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، قالت: إني أرَى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك (4) .
وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبى أسامة، عن هشام بن عُرْوَة، فدل هذا على أن المراد بقوله: { تُرْجِي } أي: تؤخر { مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } أي: من الواهبات [أنفسهن] (5) { وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي: مَنْ شئت قبلتها، ومَنْ شئت رددتها، ومَنْ رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك، إن
__________
(1) في أ: "بشير".
(2) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(3) في ف: "تغير من النساء" وفي أ: "تغير النساء".
(4) المسند (6/158).
(5) زيادة من ت.
شئت عُدْتَ فيها فآويتها؛ ولهذا قال: { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } . قال عامر الشعبي في قوله: { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } : كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم يُنْكحن بعده، منهن أم شريك.
وقال آخرون: بل المراد بقوله: { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } أي: من أزواجك، لا حرج عليك أن تترك القَسْم لهن، فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت.
هكذا يروى عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وأبي رَزين، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم، ومع هذا كان، صلوات الله وسلامه عليه، يقسم لهن؛ ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه، صلوات الله وسلامه عليه، واحتجوا بهذه الآية الكريمة.(1/445)
وقال (1) البخاري: حدثنا حبّان بن موسى، حدثنا عبد الله -هو ابن المبارك -أخبرنا عاصم الأحول، عن مُعَاذة (2) عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية: { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت: كنت أقول: إن كان ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا (3) .
فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من (4) ذلك عدم وجوب القسم، وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات، ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده، أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم. وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي، وفيه جمع بين الأحاديث؛ ولهذا قال تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي: إذا علمن أن الله قد وضع عنك (5) الحَرَج في القسم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك، واعترفن بمنتك (6) عليهن في قسمك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن.
وقوله: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي: من الميل إلى بعضهن دون بعض، مما لا يمكن دفعه، كما قال (7) الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: "اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".
__________
(1) في ت:"وروى".
(2) في أ: "معاذ".
(3) صحيح البخاري برقم (4789).
(4) في أ: "في".
(5) في أ: "عليك".
(6) في أ: "بأمانتك".
(7) في ت: "كما روى".
ورواه أهل السنن الأربعة، من حديث حماد بن سلمة - (1) وزاد أبو داود بعد قوله: فلا تلمني (2) فيما تملك ولا أملك: يعني القلب. وإسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات. ولهذا عقب ذلك بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } أي: بضمائر السرائر، { حَلِيمًا } أي: يحلم ويغفر.
-----------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
بعد ذلك يبين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يحل له من النساء , وما في ذلك من خصوصية لشخصه ولأهل بيته , بعدما نزلت آية سورة النساء التي تجعل الحد الأقصى للأزواج أربعا: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) . .
وكان في عصمة النبي في هذا الوقت تسع نساء , تزوج بكل منهن لمعنى خاص . عائشة وحفصة ابنتا صاحبيه أبي بكر وعمر . وأم حبيبة بنت أبي سفيان , وأم سلمة , وسودة بنت زمعة , وزينب بنت خزيمة من المهاجرات اللواتي فقدن أزواجهن وأراد النبي صلى الله عليه وسلم تكريمهن , ولم يكن ذوات جمال ولا شباب , إنما كان معنى التكريم لهن خالصا في هذا الزواج . وزينب بنت جحش وقد علمنا قصة زواجها , وقد كان هناك تعويض لها كذلك عن طلاقها من زيد الذي زوجها رسول الله منه فلم تفلح الزيجة لأمر قضاه الله تعالى , وعرفناه في قصتها . ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق , وصفية بنت حيي بن أخطب . وكانتا من السبي فأعتقهما رسول الله وتزوج بهما الواحدة تلو الأخرى , توثيقا لعلاقته بالقبائل , وتكريما لهما , وقد أسلمتا بعدما نزل بأهلهما من الشدة .
وكن قد أصبحن (أمهات المؤمنين) ونلن شرف القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بعد نزول آيتي التخيير . فكان صعبا على نفوسهن أن يفارقهن رسول الله بعد تحديد عدد النساء . وقد نظر الله إليهن , فاستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك القيد , وأحل له استبقاء نسائه جميعا في عصمته , وجعلهن كلهن حلا له , ثم نزل القرآن بعد ذلك بألا يزيد عليهن أحدا , ولا يستبدل بواحدة منهن أخرى . فإنما هذه الميزة لهؤلاء اللواتي ارتبطن به وحدهن , كي لا يحرمن شرف النسبة إليه , بعدما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة . . وحول هذه المبادئ تدور هذه الآيات:
يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن , وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك , وبنات عمك وبنات عماتك , وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك , وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها , خالصة لك من دون المؤمنين , قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم , لكي لا يكون عليك حرج , وكان الله غفورا رحيما . ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء , ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك . ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن , والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما . لا يحل لك النساء من بعد , ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن - إلا ما ملكت يمينك - وكان الله على كل شيء رقيبا . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 387)(1/446)
ففي الآية يحل الله للنبي صلى الله عليه وسلم أنواع النساء المذكورات فيها - ولو كن فوق الأربع - مما هو محرم على غيره . وهذه الأنواع هي:الأزواج اللواتي أمهرهن . وما ملكت يمينه إطلاقا من الفيء , وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ممن هاجرن معه دون غيرهن ممن لم يهاجرن - إكراما للمهاجرات - وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر ولا ولي . إن أراد النبي نكاحها [ وقد تضاربت الروايات حول ما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج واحدة من هذا الصنف من النساء أم لم يتزوج , والأرجح أنه زوج اللواتي عرضن أنفسهن عليه من رجال آخرين ] وقد جعل الله هذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم بما أنه ولي المؤمنين والمؤمنات جميعا . فأما الآخرون فهم خاضعون لما بينه الله وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم . ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه وفي الاستجابة للظروف الخاصة المحيطة بشخصه .
ثم ترك الخيار له صلى الله عليه وسلم في أن يضم إلى عصمته من شاء ممن يعرضن أنفسهن عليه , أو يؤجل ذلك . ومن أرجأهن فله أن يعود إليهن حين يشاء . . وله أن يباشر من نسائه من يريد ويرجئ من يريد . ثم يعود . . (ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن) . . فهي مراعاة الظروف الخاصة المحيطة بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم والرغبات الموجهة إليه , والحرص على شرف الاتصال به , مما يعلمه الله ويدبره بعلمه وحلمه . (والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما) .
ثم أنزل الله تحريم من عدا نسائه اللواتي في عصمته فعلا , لا من ناحية العدد , ولكن هن بذواتهن لا يستبدل بهن غيرهن ; ولم يعرف أن رسول الله قد زاد عليهن قبل التحريم:
(لا يحل لك النساء من بعد , ولا أن تبدل بهن من أزواج - ولو أعجبك حسنهن) لا يستثني من ذلك - (إلا ما ملكت يمينك) . . فله منهن ما يشاء . . (وكان الله على كل شيء رقيبا) . . والأمر موكول إلى هذه الرقابة واستقرارها في القلوب .
وقد روت عائشة - رضي الله عنها - أن هذا التحريم قد ألغي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتركت له حرية الزواج . ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج كذلك غيرهن بعد هذه الإباحة . فكن هن أمهات المؤمنين . .
--------------
وقال الألوسي (1):
{ ياأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن كما قال مجاهد ، وغيره وأطلق الأجر على المهر لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع وتقييد الإحلال له بإعطائها معجلة كما يفهم من معنى { ءاتَيْتَ } ظاهراً ليس لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له صلى الله عليه وسلم فإن في للتعجيل براءة الذمة وطيب النفس ولذا كان سنة السلف لا يعرف منهم غيره ، وقال الإمام : من الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولاً وذلك لأن المرأة لها الامتناع من تسليم نفسها إلى أن تأخذ المهر والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالاً وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئاً حرم الامتناع فلو طلب التمكين قبل إيتاء المهر لزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا اه ، وفيه بحث لا يخفى ، وحمل الإيتاء على الإعطاء وما في حكمه كالتسمية في العقد ، وجعل التقييد لإيثار الأفضل أيضاً فإن التسمية أولى من تركها وإن جاز العقد بدونها ولزم مهر المثل خلاف الظاهر .
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 16 / ص 170)(1/447)
واستدل أبو الحسن الكرخي من أصحابنا بقوله تعالى : { ياأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى } على أن النكاح ينعقد بلفظ الإجارة كما ينعقد بلفظ التزويج ويكون لفظ الإجارة مجازاً عنه لأن الثابت بكل منهما ملك منفعة فوجد المشترك ورد بأنه لا يلزم من تسمية المهر أجراً صحة النكاح بلفظ الإجارة وما ذكر من التجوز ليس بشيء لأن الإجارة ليست سبباً لملك المنفعة حتى يتجوز بها عنه قاله في «الهداية» ، وقال بعضهم : إن الإجارة لا تنعقد إلا مؤقتة والنكاح يشترط فيه نفيه فيتضادان فلا يستعار أحدهما للآخر . وتعقب بأنه إن كان المتضادان هما العرضين اللذين لا يجتمعان في محل واحد لزمكم مثله في البيع من كونه لا يجامع النكاح مع جواز العقد به عند الأصحاب ، على أن التحقيق أن التوقيت ليس مفهوم لفظ الإجارة ولا جزا منه بل شرط لاعتباره فيكون خارجاً عنه فهو مجرد تمليك المنافع بعوض غير أنه إذا وقع مجرداً لا يعتبر شرعاً على مثال الصلاة فإنها الأقوال والأفعال المعروفة ولو وجدت من غير طهارة لا تعتبر ، ولا يقال : إن الطهارة جزء مفهوم الصلاة هذا ومثل تقييد إحلال الأزواج بما ذكر على ما قيل تقييد إحلال المملوكة بكونها ممن باشر سباءها وشاهده في قوله تعالى : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ } فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليه الجواز كون السبي ليس في محله ، ولذا نكح بعض المتورعين الجواري بعقد بعد الشراء مع القول بعدم صحة العقد على الإماء .
واستشكل ذلك بمارية بنت شمعون القبطية رضي الله تعالى عنها فإنها لم تكن مسبية بل أهداها له صلى الله عليه وسلم أمير القبط جريج بن مينا صاحب الإسكندرية ومصر . وأجيب بأن هذا غير وارد لأن هدايا أهل الحرب للإمام لها حكم الفيء ، وقد يقال : إنه يستشكل بسرية له صلى الله عليه وسلم أخرى وهي جارية وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وكان هجرها عليه الصلاة والسلام في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه رضي الله تعالى عنها ودخل عليها فقالت ما أدري ما أجزيك فوهبتها له وقد عدوها من سراريه صلى الله عليه وسلم والجواب المذكور لا يتسنى فيها ، ولعل الجواب عن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام تسراها بياناً للجواز ولا يبعد أنه كان متحققاً بدء أمرها وما جرى عليها بحيث كأنه باشر سبيها وشاهده ، ويحتمل أنها كانت مما أفاء الله تعالى عليه عليه الصلاة والسلام فملكتها زينب بعض أسباب الملك ثم وهبتها له صلى الله عليه وسلم .
ومع ذلك قد أطلق عليه الصلاة والسلام حل المملوكة بعد ولم يقيد بحسب الظاهر بكونها مما أفاء الله عليه في قوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } [ الأحزاب : 52 ] .
ثم إن هبة هذه الجارية كانت شهر وفاته صلى الله عليه وسلم والآية نزلت قبل لأنها نزلت أما سنة الأحزاب وهي السنة الخامسة من الهجرة وإما بعيد الفتح وهو السنة الثامنة منها وعلى هذا يكون ما وقع من أمر مارية متقدماً على نزول الآية لأنها أهديت له صلى الله عليه وسلم السنة السابعة من الهجرة فإنه عليه الصلاة والسلام فيها أرسل رسله إلى الملوك ومنهم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي أرسله إلى المقوقس أمير القبط المتقدم ذكره فقدم منه بمارية وبأختها شيرين وبأخ أو بابن عم لها خصي يقال له مابور وببغلة تسمى دلدلا وبحمار يسمى يعفورا أو عفيراً وبألف مثقال ذهباً وبغير ذلك فتدبر ، ومثل ما ذكر على ما قيل تقييد القرائب بكونها مهاجرات معه صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه .(1/448)
{ وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ } فهن أفضل من غيرهن ، والمعية للتشريك في الهجرة لا للمقارنة في الزمان كأسلمت مع سليمان ، قال أبو حيان : يقال دخل فلان معي وخرج معي أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان ، ولو قلت : خرجنا معاً اقتضى المعنيين الاشتراك في الفعل والاقتران في الزمان وهو كلام حسن ، وحكى الماوردي قولاً بأن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق وهو ضعيف جداً . وقولاً آخر بأنها شرط في إحلال قراباته عليه الصلاة والسلام المذكورات واستدل له بما أخرجه بن سعد . وعبد بن حميد . والترمذي وحسنه . وابن جرير . وابن أبي حاتم . والطبراني . والحاكم وصححه . وابن مردويه . والبيهقي عن أم هانىء فاخته بنت أبي طالب قالت : «خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني فأنزل الله تعالى : { جَمِيلاً ياأيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك } إلى قوله سبحانه : { هاجرن مَعَكَ } قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء» وأجيب بأن عدم الحل لفقد الهجرة إنما فهم من قول أم هانىء فلعلها إنما قالت ذلك حسب فهمها إياه من الآية وهو لا ينتهض حجة علينا إلاإذا جاءت به رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يقال : إنه أخرج ابن سعد عن أبي صالح مولى أم هانىء قال : «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم هانىء بنت أبي طالب فقالت : يا رسول الله إني مؤتمة وبنى صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه عليه الصلاة والسلام فقال : أما الآن فلا إن الله تعالى أنزل على { وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ } ولم تكن من المهاجرات وهو يدل على أنه نفسه صلى الله عليه وسلم فهم الحرمة وإلا لتزوجها لأنا نقول بعد تسليم صحة الخبر؛ لا نسلم أنه صلى الله عليه وسلم فهم الحرمة وعدم التزوج يحوز أن يكون لكونه خلاف الأفضل ، ويدل خبر أم هانىء على أن هذه الآية نزلت بعد الفتح فلا تغفل . وادعى بعضهم أن تحريم نكاح غير المهاجرة عليه صلى الله عليه وسلم كان أولاً ثم نسخ ، وعن قتادة أن معنى { هاجرن مَعَكَ } أسلمن معك ، قيل : وعلى هذا لا يحرم عليه عليه الصلاة والسلام إلا الكافرات وهو في غاية البعد كما لا يخفى ، والظاهر أن المراد بأزواجك اللاتي آتيت مهورهن نساؤه صلى الله عليه وسلم اللاتي كن في عصمته وقد آتاهن مهورهن كعائشة . وحفصة . وسودة وبما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك نحو ريحانة بناء على ما قاله محمد ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح قريظة اصطفاها لنفسه فكانت عنده حتى توفيت عنده وهي في ملكه ووافقه في ذلك غيره أخرج الواقدي بسنده إلى أيوب بن بشير قال إنه عليه الصلاة والسلام أرسل بها إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر فكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها فجاءت أم المنذر فأخبرته صلى الله عليه وسلم فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها : إن أحببت أن أعتقك وأتزوجك فعلت وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطأك بالملك فعلت فقالت : يا رسول الله أحب أن أخف عليك وأن أكون في ملكك فكانت في ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطؤها حتى ماتت . وذهب بعضهم إلى أنه عليه الصلاة والسلام أعتقها وتزوجها ، وأخرج ذلك الواقدي أيضاً عن ابن أبي ذئب عن الزهري ثم قال : وهذا الحديث أثبت عندنا : وروى عنها أنها قالت : لما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت فيمن عرض عليه فأمر بي فعزلت وكان له صفي كل غنيمة فلما عزلت خار الله تعالى لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياماً حتى قتل الأسرى وفرق السبي فدخل على صلى الله عليه وسلم فتجنبت منه حياء فدعاني فأجلسني بين يديه فقال : إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فقلت : إني أختار الله تعالى ورسوله فلما أسلمت أعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ذهباً كما كان يصدق نساءه وأعرس بي في بيت أم النذر وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه وضرب على الحجاب ، ولم يذكر ابن الأثير غير القول باعتاقها وتزوجها . ومنهم من ذهب إلى أنها أسلمت فأعتقها عليه الصلاة والسلام فلحقت بأهلها وكانت تحتجب عندهم وتقول : لا يراني أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى لحوقها بأهلها عن الزهري . وادعى بعضهم بقاءها حية بعده عليه الصلاة والسلام وأنها توفيت سنة ست عشرة أيام خلافة عمر رضي الله تعالى عنه . وذكر ابن كمال في «تفسيره لبيان الموصول» صفية وجويرية . والمذكور في أكثر المعتبرات في أمرهما أن صفية لما جمع سبي خيبر أخذها دحية وقد قال له صلى الله عليه وسلم : اذهب فخذ جارية ثم أخبر عليه الصلاة والسلام أنها لا تصلح إلا له لكونها بنت سيد قومه فقال لدحية : خذ غيرها وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها وتزوجها وكان صداقها نفسها ، وأن جويرية في غزوة بني المصطلق وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري فكاتبته على نفسها ثم جاءت(1/449)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله أنا جويرية بنت الحرث وكان من أمري ما لا يخفى عليك ووقعت في سهم ثابت بن قيس وإني كاتبت نفسي فجئت أسألك في كتابتي فقال عليه الصلاة والسلام فهل لك إلى ما هو خير : قالت؟ وما هو يا رسول الله؟ قال : أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت : قد فعلت ، وقال ابن هشام ويقال اشتراها صلى الله عليه وسلم من ثابت وأعتقها وتزوجها وأصدقها أربعمائة درهم ، ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد إحلال ما ملكت يمينه صلى الله عليه وسلم حين الملك من حيث أنه ملك له وإن لم يحصل وطء بالفعل يدخل جميع ما ملكه عليه الصلاة والسلام من الجواري حين الملك ولا يضر الاعتاق والتزوج بعد ذلك وحل الوطء بسبب النكاح لا الملك وإن كان المراد إحلال ذلك مع وقوع الوطء بالفعل ووصف الملك قائم لا يصح بيان الموصول إلا بمملوكة وطئها عليه الصلاة والسلام وهي ملكه كريحانة في قول وجارية أصابها في بعض السبي وعدوها من سراريه صلى الله عليه وسلم ولم يذكر المعظم اسمها وعد الجلبي من سراريه عليه الصلاة والسلام جارية سماها زليخة القرظية فلعلها هي التي لم تسم وكمارية القبطية والجارية التي وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب ، وقد سمعت الكلام فيهما آنفاً والمراد ببنات عمه وبنات عماته بنات القرشيين وبنات القرشيات فإنه يقال للقرشيين قربوا أو بعدوا أعمامه صلى الله عليه وسلم وللقرشيات قربن أو بعدن عماته عليه الصلاة والسلام ، والمراد ببنات خاله وبنات خالاته بنات بني زهرة ذكورهم وأناثهم وإلى هذا ذهب الطبرسي في «مجمع البيان» ولم يذكر غيره ، وإطلاق الأعمام والعمات على أقارب الشخص من جهة أبيه ذكوراً وإناثاً قربوا أو بعدوا والأخوال والخالات على أقاربه من جهة أمه كذلك شائع في العرف كثير في الاستعمال .
واللاتي نكحن ودخل بهن صلى الله عليه وسلم من القرشيات ست وكان نكاحه بعضهن قبل نزول الآية بيقين ونكاحه بعضهن الآخر محتمل للقبلية والبعدية كما لا يخفى على من راجع كتب السير وسمع ما قيل في وقت نزول الآية ، ولم نقف على أنه عليه الصلاة والسلام نكح أحداً من الزهريات أصلاً فالمراد بإحلال نكاح أولئك مجرد جوازه وهو لا يستدعي الوقوع ، وإذا حمل العم على أخي الأب والعمة على أخته والخال على أخي الأم والخالة على أختها اقتضى ظاهر الآية أن يكون له صلى الله عليه وسلم عم وعمة وخال وخالة كذلك وأن يكون لهم بنات وذلك مشهور في شأن العم والعمة وبناتهما فقد ذكر معظم أهل السير عدة أعمام له صلى الله عليه وسلم وعدة بنات لهم كالعباس ومن بناته أم حبيبة تزوجها أسود المخزومي وكان قد خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قيل فوجد أباها أخاه من الرضاعة كان قد أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب ، وكأبي طالب ومن بناته أم هانىء وقد سمعت ما قيل في شأنها وجمانة كانت إحدى المبايعات له صلى الله عليه وسلم وكانت تحت أبي سفيان بن الحرث عمها ، وكأبي لهب ومن بناته خالدة تزوجها عثمان بن أبي العاص الثقفي وولدت له ، ودرة أسلمت وهاجرت وكانت تحت الحرث بن نوفل ثم تحت دحية الكلبي ، وعزة تزوجها أوفى بن أمية ، وكالزبير ومن بناته ضباعة زوجة المقداد بن الأسود وأم الحكم ويقال أنها أخته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة وكان يزورها بالمدينة وكحمزة ومن بناته أمامة لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء أتى بها من مكة وزوجها سلمة بن أم سلمة ومقتضى قول القسطلاني أن حمزة أخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما ثويبة بلبن ابنها مسروح أنها لا تحل له عليه الصلاة والسلام بل ذكر هو أيضاً أنها عرضت عليه فقال هي ابنة أخي من الرضاعة وكالحرث ومن بناته أروى زوجة أبي وداعة وكالمقوم ومن بناته من اسمها أروى أيضاً زوجة ابن عمها أبي سفيان بن الحرث وذكروا أيضاً له صلى الله عليه وسلم عدة عمات وعدة بنات لهن ، منهن أميمة ومن بناتها زينب أم المؤمنين وهي التي نزل فيها قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زوجناكها } [ الأحزاب : 7 3 ] وأم حبيبة وكانت زوجة عبد الرحمن بن عوف ، وحمنة وكانت عند مصعب بن عمير ثم عند طلحة أحد العشرة ، ومنهن البيضاء ومن بناتها أروى أم عثمان رضي الله تعالى عنه . وأم طلحة بنتاً كريز بن ربيعة؛ ومنهن عاتكة ومن بناتها قريبة بنت زاد الراكب أبي أمية بن المغيرة ، ومنهن صفية ومن بناتها صفية بنت الحرث بن حارثة وأم حبيبة بنت العوام بن خويلد ، وأما الخال والخالة فلم يشتهر ذكرهما ، نعم ذكر في الإصابة فريعة بنت وهب الزهرية رفعها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " من أراد أن ينظر إلى خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذه " ، وفيها أيضاً فاختة بنت عمرو والزهرية خالة النبي صلى الله عليه وسلم .(1/450)
أخرج الطبراني من طريق عبد الرحمن بن عثمان الوقاصي عن ابن المنكدر عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وهبت خالتي فاختة بنت عمرو وغلاماً وأمرتها أن لا تجعله جازراً ولا صائغاً ولا حجاماً ، والوقاصي ضعيف . وقال : في صفية بنت عبد المطلب هي شقيقة حمزة أمهما هالة خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي هالة بنت وهب كما في «المواهب» ولم نقف لهذه الخالة على بنت غير صفية عمته عليه الصلاة والسلام ، وكذا لم نقف على بنات لمن ذكرنا قبلها ، ووقفنا على خال واحد له عليه الصلاة والسلام وهو عبد يغوث بن وهب ولم نقف على بنت له وإنما وقفنا على ابنين أحدهما الأرقم وله ابن يسمى عبد الله وهو صحابي كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصاحبيه وكان على بيت المال في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وكان أثيراً عنده حتى أن حفصة روت عنه أنه قال لها : لولا أن ينكر على قومك لاستخلفت عبد الله بن الأرقم ، وقيل : هو ابن عبد يغوث والأرقم هو عبد يغوث ، والبخاري على ما قلنا وقد أسلم يوم الفتح ، وقال بعضهم فيه : خال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الناس من ذكر لعبد الله هذا أخاً سماه عبد الرحمن بن الأرقم وأثبت له الصحبة وفي ذلك مقال ، وثانيهما : الأسود وأطلق عليه النبي عليه الصلاة والسلام اسم الخال ، فقد روى أنه كان أحد المستهزئين به صلى الله عليه وسلم فقصد جبريل عليه السلام إهلاكه فقال صلى الله عليه وسلم : يا جبريل خالي فقال : دعه عنك ، وله ابن هو عبد الرحمن وبنت هي خالدة وكانت من المهاجرات الصالحات وقد أطلق عليها أيضاً الخالة . أخرج المستغفري من طريق أبي عمير الجرمي عن معمر عن الزهري عن عبيد الله مرسلاً قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم منزله فرأى عند عائشة امرأة فقال : من هذه يا عائشة قالت : هذه إحدى خالاتك فقال : إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب فقالت : هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال : سبحان الذي يخرج الحي من الميت قرأها مثقلة .
وأخرج موسى بن إبراهيم عن أبيه عن أبي سلمة عن عائشة موصولاً نحوه ، وفي هذا الخبر وما قبله إطلاق الخال والخالة على قرابة الأم وإن لم يكن الخال أخاها والخالة أختها ، وبذلك يتأيد ما ذكرناه سابقاً فاحفظ ذاك والله تعالى يتول هداك ، وإياك أن تظن الأمر فرضياً أو أن الخطاب وإن كان خاصاً في الظاهر عام في الحقيقة فيكفي وجود بنات خال وبنات خالات لغيره عليه الصلاة والسلام كما يظن ذلك من يشهد العم بجهله ويصدق الخال بقلة عقله ، هذا وقد كثر السؤال عن حكمة أفراد العم والخال وجمع العمة والخالة حتى أن السبكي على ماقيل صنف جزأ فيه سماه الهمة في إفراد العم وجمع العمة .
قال الخفاجي : وقد رأيت لهم فيه كلمات ضعيفة كقول الرازي إن العم والخال على زنة المصدر ولذا لم يجمعا بخلاف العمة والخالة ، وقيل لم يجمعا ليعما إذا أضيفا ، والعمة والخالة لا يعمان لتاء الوحدة وهي إن لم تمنع العموم حقيقة تأباه ظاهراً ، ولا يأبى ذلك قوله تعالى : في سورة النور : { بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم } [ النور : 1 6 ] لأنه على الأصل ، ثم قال : وأحسن منه ما قيل إن أعمامه صلى الله عليه وسلم العباس وحمزة رضي الله تعالى عنهما أخواه من الرضاع لا تحل له بناتهما ، وأبو طالب ابنته أم هانىء لم تكن مهاجرة اه ، وما ادعى ضعفه فهو كما قال وما زعم أنه أحسن منه إن كان كما نقلناه بهذا المقدار خالياً عن إسقاط شيء حسبما وجدناه في نسختنا فهو مما لا حسن فيه فضلاً عن كونه أحسن ، وإن كان له تتمة فالنظر فيه بعد الإطلاع عليها إليك وأظنه على العلات ليس بشيء .
/ وقال بعض الأجلة المعاصرين من العلماء المحققين لا زال سعيد زمانه سابقاً بالفضل على أقرانه : يحتمل أن يكون إفراد العم لأنه بمنزلة الأب بل قد يطلق عليه الأب ومنه في قول : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم لاِبِيهِ ءازَرَ } [ الأنعام : 4 7 ] والأب لا يكون إلا واحداً فكان الإفراد أنسب بمن ينزل منزلته ويكون جمع العمة على الأصل وإفراد الخال ليكون على وفق العلم وجمع الخالة وإن كانت بمنزلة الأم لتكون على وفق العمات ، ويحتمل أن يكون إفراد المذكر وجمع المؤنث لقلة الذكور وكثرة الإناث ، وقد ورد في الآثار ما يدل على أن النساء أكثر من الرجال .(1/451)
وقال آخر من أولئك الأجلة لا زالت مدارس العلم تزهو به وتشكر فضله : إن ذلك لما فيه من الحسن اللفظي فإن بين العم والعمات والخال والخالات نوعاً من الجناس ولأن أعمامه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما ذكره صاحب ذخائر العقبى اثني عشر عماً وعماته كن ستاً فلو قيل أعمامك لتوهم أنهم أقل من اثني عشر لأنه جمع قلة وغاية ما يصدق هو عليه تسعة أو عشرة على قول ولو قيل : عمتك لم تتحقق الإشارة إلى قلتهن فلذا أفرد العم وجمعت العمة وقيل : خالك وخالاتك ليوافق ما قيل : وأنا أقول : الذي يغلب على ظني في ذلك ما حكاه أبو حيان عن القاضي أبي بكر بن العربي من أن ما ذكر عرف لغوي على معنى أنه جرى عرف اللغويين في مثل ذلك على إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ، ونحن قد تتبعنا كثيراً من أشعار العرب فلم نر العم مضافاً إليه ابن أو بنت بالإفراد أو الجمع إلا مفرداً نحو قوله :
جاء شقيق عارضاً رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح
وقوله :
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوماً دماً فهو آكله
وقوله :
قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيراً معدماً قالت وإن
وقوله :
يا بنت عما لا تلومي واهجعي ... فليس يخلو عنك يوماً مضجعي
إلى ما لا يحصى كثرة ، وأما اطراد إفراد الخال وجمع العمة والخالة إذا أضيف إليها ما ذكر فلست على ثقة من أمره ، فإذا كان الأمر في المذكورات كالأمر في العم فليس فوق هذا الجواب جواب ، والظن بالقاضي أنه لم يحكم بما حكم إلا عن بينة مع أني لا أطلق القول بعدم قبول حكم القاضي بعلمه ولا أفتى به ، نعم لهذا القاضي حكم مشهور في أمر الحسين رضي الله تعالى عنه ولعن من رضي بقتله لا يرتضيه إلا يزيد زاد الله عز وجل عليه عذابه الشديد ، وعلى تقدير كون الأمر في العم ومن معه كما قال يحتمل أن يكون الداعي لإفراد العم والخال الرجوع إلى أصل واحد مع ما بين الذكور من جهة العمومة والخؤلة في حق الشخص المدلى بهما من التناصر والتساعد فلذلك ترى الشخص يهرع لدفع بليته إلى ذكور عمومته وخؤلته ، وذلك التعاضد يجعل المتعدد في حكم الواحد ، ويقوى هذا الاعتبار هنالك إضافة الفرع كالبنين والبنات إلى ذلك ، ولعل في الإفراد مع جمع المضاف المذكور إشارة إلى أن البنين والبنات وإن كانوا بنين وبنات لمتعددين في نفس الأمر إلا أنهم في حكم البنين والبنات لواحد وأن كل واحد من الأعمام والأخوال لمزيد شفقته على أبناء وبنات كل كأنه أب لأبناء وبنات كل ، وهذا الذي ذكرناه لا يوجد في العمات والخالات .
ولا يرد عليه جمع العم والخال في آية النور كما لا يخفى على من له أدنى نور يهتدى به إذا أشكلت الأمور ، ويمكن أن يقال في الحكمة ههنا خاصة : أنه لما كان المفرد أصلاً والمجموع فرعه والمذكر أصلاً والمؤنث فرعه أتى بالعم والخال المذكرين مفردين وبالعمة والخالة المؤنثين مجموعين فاجتمع في الأولين أصلان وفي الأخيرين فرعان بحكم شبيه الشيء منجذب إليه وإن الطيور على أشباهها تقع ، وما ألطف هذا الاجتماع في منصة مقام النكاح لما فيه من الإشارة إلى الكفاءة وأن المناسب ضم الجنس إلى جنسه كما يقتضيه بعض الآيات وهو لعمري ألطف من جمع المذكر وإفراد المؤنث ليجتمع في كل أصل وفرع فيوافق ما في النكاح من اجتماع ذكر هو أصل وأنثى هي فرع لخلوه عن الإشارة إلى ذلك الضم المناسب المستحسن عند كل ذي رأي صائب على أن في جمع أصلين في العم موافقة لما في النكاح من جمع الزوجين الذين هما أصلان لما يتولد منهما وإذا اعتبر جمعهما في الخال الذي قاربته من جهة الأم التي لا تعتبر في النسب وافق الجملة ما في النكاح من اجتماع أصل وفرع فلا يفوت ذلك بالكلية على ما في «النظم الجليل» .
وأيضاً في الانتقال من الأفراد إلى الجمع في جانبي العمومة والخؤولة إشارة إلى ما في النكاح من انتقال كل من الزوج والزوجة من حال الانفراد إلى حال الاجتماع فلله تعالى در التنزيل ، هذا ما عندي وهو زهرة ربيع لا تتحمل الفرك ومع هذا قسه إلى ما سمعت عن ساداتنا المعاصرين واختر لنفسك ما يحلو والله تعالى أعلم بأسرار كتابه .
{ وامرأة مُّؤْمِنَةً } بالنصب عطفاً على مفعول أحللنا عند جمع وليس معنى { أَحْلَلْنَا } إنشاء لإحلال الناجز ولا الإخبار عن إحلال ماض بل إعلام بمطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق فلا يعكر على ذلك الشرط وهذا كما تقول أبحت لك أن تكلم فلاناً إن سلم عليك ، ولما فيه من البحث قال بعضهم : إنه نصب بفعل يفسره ما قبل أي ويحل لك امرأة أو وأحللنا لك امرأة وهو مستقبل لمكان الشرط .
وقرأ أبو حيوة بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي وامرأة مؤمنة أحللناها لك أيضاً { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ } أي ملكته المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر .(1/452)
وقرأ أبي . والحسن . والشعبي . وعيسى . وسلام { إِن وَهَبَتْ } بفتح الهمزة أي لأن وهبت وقيل : أي وقت أن وهبت أو مدة أن وهبت فتكون أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب على الظرفية؛ وأكثر النحاة لا يجيزونه في غير المصدر الصريح كآتيك خفوق النجم وغير ما المصدرية ، وجوز أن يكون المصدر بدلاً من { امرأت } وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما { إِذْ * وَهَبَتْ } وإذ ظرف لما مضى وقيل : هي مثلها في قوله تعالى : { وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ } [ الزخرف : 9 3 ] { إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي يتملك المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر وهذا شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فهبتها نفسها منه صلى الله عليه وسلم لا يوجب له حلها إلا بإرادته نكاحها وهذه الإرادة جارية مجرى قبول بالهبة ، وقال ابن كمال : الإرادة المذكورة عبارة عن القبول ولا وجه لحملها على الحقيقة لأن قوله تعالى : { يَسْتَنكِحَهَا } يغني عن الإرادة بمعناه الوضعي وهو يشير إلى أن السين للطلب ، وكلام بعض الأجلة على هذا حيث قال : إرادة طلب النكاح كناية عن القبول .
وقيل : استفعل هنا بمعنى فعل فالاستنكاح بمعنى النكاح لئلا يتوهم التكرار وفيه نظر ، واستظهر صاحب هذا القيل حمل الإرادة على الإرادة المتقدمة على الهبة بناءً على أن التركيب يقتضي تقدم هذا الشرط فقد قالوا : إذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ متقدم في الوقوع وهو بمنزلة الحال ، ومن هنا قال : الفقهاء : لو قال : إن ركبت إن أكلت فأنت طالق لا تطلق ما لم يتقدم الأكل على الركوب ليتحقق تقييد الحالية .
واستشكل السمين هذه القاعدة بما هنا بناءً على أنهم جعلوا ذلك الشرط بمنزلة القبول لاقتضاء الواقع ذلك ، ثم ذكر أنه عرضه على علماء عصره فلم يجدوا مخلصاً منه إلا بأن هذه القاعدة ليست بكلية بل مخصوصة بما لم تقم قرينة على تأخر الثاني كما في نحو إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حرفان الطلاق لا يتقدم التزوج وما نحن فيه من هذا القبيل ثم قال : فمن جعل الشرط الثاني هنا مقدماً لم يصب ورأيت في الفن السابع من الأشباه والنظائر النحوية للجلال السيوطي عليه الرحمة كلاماً لابن هشام ذكر فيه أن جعل الآية كالمثال ونظمهما في سلك مسألة اعتراض الشرط على الشرط هو ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك ، وذهب هو إلى أن المثال من مسألة الاعتراض المذكور دون الآية واحتج عليه بما احتج ، ثم ذكر الخلاف في صحة تركيب ما وقع فيه الاعتراض كالمثال وأن الجمهور على جوازه وهو الصحيح وأن المجيزين اختلفوا في تحقيق ما يقع به مضمون الجواب الواقع بعد الشرطين على ثلاثة مذاهب ، أحدهما : أنه إنما يقع بمجموع أمرين ، أحدهما : حصول كل من الشرطين ، والآخر : كون الشرط الثاني واقعاً قبل وقوع الأول ففي المثال لا يقع الطلاق إلا بوقوع الركوب والأكل من تقدم وقوع الأكل على الركوب ، وذكر أن هذا مذهب الجمهور .
وثانيها : أنه يقع بحصول الشرطين مطلقاً وذكر أنه حكاه له بعض العلماء عن إمام الحرمين وأنه رآه محكياً عن غيره بعد . وثالثها : أنه يقع بوقوع الشرطين على الترتيب فإنما تطلق في المثال إذا ركبت أولاً ثم أكلت وأبطل كلاً من المذهبين الأخيرين وذكر في توجيه التركيب على المذهب الأول مذهبين . الأول : مذهب الجمهور أن الجواب المذكور للشرط الأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه ولإغناء ذلك عنه وقيامه مقامه لزم في وقوع المعلق على ذلك أن يكون الثاني واقعاً قبل الأول ضرورة أن الجواب لا بد من تأخره عن الشرط فكذا الأمر في القائم مقام الشرط ، والثاني : مذهب ابن مالك أن الجواب المذكور للأول والثاني لا جواب له لا مذكور ولا مقدر لأنه مقيد للأول تقييده بحال واقعة موقعه فالمعنى في المثال إن ركبت آكلة فأنت طالق ، وفيه أنه خارج عن القياس وأنه لا يطرد في إن قمت إن قعدت فأنت طالق وأن الشرط بعيد عن مذهب الحال لمكان الاستقبال .
وبالجملة قد أطال الكلام في هذه المسألة وهي مسألة شهيرة ذكرها الأصوليون وغيرهم وفيما ذكرنا فيها اكتفاء بأقل اللازم ههنا فتأمل .(1/453)
وأكثر العلماء على وقوع الهبة واختلفوا في تعيين الواهبة فعن ابن عباس . وقتادة . وعكرمة هي ميمونة بنت الحرث الهلالية؛ وفي المواهب يقال : إن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت إليهاوهي على بعيرها فقالت : البعير وما عليه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك سنة سبع بعد غزوة خيبر وبنى عليها عليه الصلاة والسلام بسرف على عشرة أميال من مكة ، وعليه تكون إرادة النكاح سابقة على الهبة فيضعف به قول السمين : وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما . والضحاك . ومقاتل هي أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية ، قال في الصفوة : والأكثرون على أنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت . وفي «الدر المنثور» عن منير بن عبد الله الدوسي أنه عليه الصلاة والسلام قبلها ، وعن عروة . والشعبي هي زينب بنت خزيمة من الأنصار كانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم وكان ذلك في سنة ثلاث ولم تلبث عنده صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً حتى توفيت رضي الله تعالى عنها .
وأخرج ابن أبي حاتم . وابن مردويه . والبيهقي في «السنن» عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم وقد أرجأها عليه الصلاة والسلام فتزوجها عثمان بن مظعون بإذنه صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم : يجوز تعدد الواهبات فقد أخرج الشيخان . وغيرهما عن عروة بن الزبير قال : كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت : { تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ } [ الأحزاب : 51 ] قالت عائشة : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك فقوله : من اللاتي وهبن أنفسهن صريح في تعددهن ، وأنكر بعضهم وقوع الهبة وقيل : إن قوله تعالى : { إِن وَهَبَتْ } يشير إلى عدم وقوعها وأنها أمر مفروض وكذا تنكير { امرأت } فالمراد الإعلام بالإحلال في هذه الصورة إن اتفقت وأنكر بعضهم القبول .
أخرج ابن سعد عن ابن أبي عون أن ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ووهبن نساء أنفسهن فلم نسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل منهن أحداً ، وما أخرجه ابن جرير . وابن أبي حاتم . والطبراني . وابن مردويه والبيهقي في «السنن» عن ابن عباس قال : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له يحتمل نفي القبول ويحتمل نفي الهبة ، وإيراده صلى الله عليه وسلم في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه الصلاة والسلام حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى : { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } ويتضمن ذلك الإشارة إلى أن هبة من تهب لم تكن حرصاً على الرجال وقضاء الوطر بل على الفوز بشرف خدمته صلى الله عليه وسلم والنزول في معدن الفضل ، وبذلك يعلم أن قول عائشة : ما في امرأة وهبت نفسها لرجل خير وكذا اعتراضها السابق صادر من شدة غيرتها رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بدع فالمحب غيور وقد قال بعض المحبين :
أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذاراً وخوفاً أن تكون لحبه
ونصب { خَالِصَةٌ } على أنه مصدر مؤكد للجملة قبله ، وفاعلة في المصادر على ما قال الزمخشري غير عزيز كالعافية والكاذبة ، وادعى أبو حيان عزتها ، والكثير على تعلق ذلك بإحلال الواهبة أي خلص لك إحلالها خالصة أي خلوصاً ، وقال الزجاج : هو حال من { امرأت } لتخصصها بالوصف أي أحللناها خالصة لك لا تحل لأحد غيرك في الدنيا والآخرة .
وقال أبو البقاء : هو حال من ضمير { وَهَبَتْ } أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة . وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذاك خلوص لك وخصوص أو هي أي تلك المرأة أو الهبة خالصة لك لا تتجاوز المؤمنين .
واستدل الشافعية رضي الله تعالى عنهم به على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ ، وقال بعض أجلة أصحابنا في ذلك : إن المرادب الهبة في الآية تمليك المتعة بلا عوض بأي لفظ كان لا تمليكها بلفظ وهبت نفسي فحيث لم يكن ذلك نصاً في التمليك بهذا اللفظ لم يصلح لأن يكون مناطاً للخلاف في انعقاد النكاح بلفظ الهبة إيجاباً وسلباً ، ومعنى خلوص الإحلال المذكور له صلى الله عليه وسلم من دون المؤمنين كونه متحققاً في حقه غير متحقق في حقهم إذ لا بد في الإحلال لهم من مهر المثل .(1/454)
وظاهر كلام العلامة ابن الهمام اعتبار لفظ الهبة حيث قال في «الفتح» : قد ورد النكاح بلفظ الهبة وساق الآية ثم قال : والأصل عدم الخصوصية حتى يقوم دليلها ، وقوله تعالى : { خَالِصَةً لَّكَ } يرجع إلى عدم المهر بقرينة إعقابه بالتعليل بنفي الحرج فإن الحرج ليس في ترك لفظ إلى غيره خصوصاً بالنسبة إلى أفصح العرب بل في لزوم المال ، وبقرينة وقوعه في مقابلة المؤتى أجورهن فصار الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهراً خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم الخ من المهر وغيره . وأبدى صدر الشريعة جواز كونه متعلقاً بأحللنا قيداً في إحلال أزواجه له صلى الله عليه وسلم لإفادة عدم حلهن لغيره صلى الله عليه وسلم انتهى ، وجوز بعضهم كونه قيداً في إحلال الإماء أيضاً لإفادة عدم حل إمائه كأزواجه لأحد بعده عليه الصلاة والسلام ، وبعض آخر كونه قيداً لإحلال جميع ما تقدم على القيود المذكورة أي خلص إحلال ما أحللنا لك من المذكورات على القيود المذكورة خلصوها من دون المؤمنين فإن إحلال الجميع على القيود المذكورة غير متحقق في حقهم بل المتحقق فيه إحلال بعض المعدود على الوجه المعهود ، واختاره الزمخشري ، وأياً ما كان فقوله تعالى :
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم } اعتراض بين المتعلق والمتعلق ، والأول : على جميع الأوجه قوله سبحانه : { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } والثاني : على الوجه الأحير وهو تعلق خالصة بجميع ما سلف من الإحلالات الأربع قوله تعالى : { خَالِصَةٌ } وهو مؤكد معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما اختص به بأن كلاً من الاختصاص عن علم وأن هذه الحظوة مما يليق بمنصب الرسالة فحسب فالمعنى أن الله تعالى قد علم ما ينبغي من حيث الحكمة فرضه على المؤمنين في حق الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة ينبغي أن يفرض عليهم ففرضه واختصك سبحانه بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل في دنياك حيث أحل جل شأنه لك أجناس المنكوحات وزاد لك الواهبة نفسها من غير عوض لئلا يكون عليك ضيق في دينك ، وهو على الوجه الأول الذي ذكرناه وهو تعلق خالصة بالواهبة خاصة قوله عز وجل : { إِنَّا أَحْلَلْنَا } وهو الذي استظهره أبو حيان وأمر الاعتراض عليه في حاله ، وبعضهم يجعل المتعلق خالصة على سائر الأوجه والتعلق به باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له صلى الله عليه وسلم لا باعتبار اختصاصه به عليه الصلاة والسلام لأن مدار انتفاء الحرج هو الأول لا الثاني الذي هو عبارة عن عدم ثبوته لغيره صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عطية : إن { لّكَيْلاَ } الخ متعلق بمحذوف أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لئلا يكون عليك حرج ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك عز وجل فلا اعتراض على هذا ، ولا يخلو عن اعتراض فتدبر ولا تغفل .
{ وَكَانَ الله غَفُوراً } أي كثير المغفرة فيغفر ما يشاء مما يعسر التحرز عنه وغيره { رَّحِيماً } أي وافر الرحمة ، ومن رحمته سبحانه أن وسع الأمر في مواقع الحرج .
-------------
-----------
تفسير السعدي - (ج 1 / ص 669)
يقول تعالى، ممتنًا على رسوله بإحلاله له ما أحل مما يشترك فيه، هو والمؤمنون، وما ينفرد به، ويختص: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي: أعطيتهن مهورهن، من الزوجات، وهذا من الأمور المشتركة بينه وبين المؤمنين، [فإن المؤمنين] (1) كذلك يباح لهم ما (2) آتوهن أجورهن، من الأزواج.
{ و } كذلك أحللنا لك { مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي: الإماء التي ملكت { مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } من غنيمة الكفار من عبيدهم، والأحرار من لهن زوج منهم، ومن لا زوج لهن، وهذا أيضا مشترك.
وكذلك من المشترك، قوله { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ } شمل العم والعمة، والخال والخالة، القريبين والبعيدين، وهذا حصر المحللات.
يؤخذ من مفهومه، أن ما عداهن من الأقارب، غير محلل، كما تقدم في سورة النساء، فإنه لا يباح من الأقارب من النساء، غير هؤلاء الأربع، وما عداهن من الفروع مطلقًا، والأصول مطلقًا، وفروع الأب والأم، وإن نزلوا، وفروع من فوقهم لصلبه، فإنه لا يباح.
وقوله { اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قيد لحل هؤلاء للرسول، كما هو الصواب من القولين، في تفسير هذه الآية، وأما غيره عليه الصلاة والسلام، فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة.
{ و } أحللنا لك { امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } بمجرد هبتها نفسها.
{ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي: هذا تحت الإرادة والرغبة، { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } يعني: إباحة الموهبة (3) وأما المؤمنون، فلا يحل لهم أن يتزوجوا امرأة، بمجرد هبتها نفسها لهم.(1/455)
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي: قد علمنا ما على المؤمنين، وما يحل لهم، وما لا يحل، من الزوجات وملك اليمين. وقد علمناهم بذلك، وبينا فرائضه.
فما في هذه الآية، مما يخالف ذلك، فإنه خاص لك، لكون اللّه جعله خطابًا للرسول وحده بقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ } إلى آخر الآية.
وقوله: { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم، ووسعنا لك ما لم نوسع على غيرك، { لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } وهذا من زيادة اعتناء اللّه تعالى برسوله صلى اللّه عليه وسلم.
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي: لم يزل متصفًا بالمغفرة والرحمة، وينزل على عباده من مغفرته ورحمته، وجوده وإحسانه، ما اقتضته حكمته، ووجدت منهم أسبابه.
------------
وقال السعدي(1) :
يقول تعالى، ممتنًا على رسوله بإحلاله له ما أحل مما يشترك فيه، هو والمؤمنون، وما ينفرد به، ويختص: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي: أعطيتهن مهورهن، من الزوجات، وهذا من الأمور المشتركة بينه وبين المؤمنين، [فإن المؤمنين] (1) كذلك يباح لهم ما (2) آتوهن أجورهن، من الأزواج.
{ و } كذلك أحللنا لك { مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي: الإماء التي ملكت { مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } من غنيمة الكفار من عبيدهم، والأحرار من لهن زوج منهم، ومن لا زوج لهن، وهذا أيضا مشترك.
وكذلك من المشترك، قوله { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ } شمل العم والعمة، والخال والخالة، القريبين والبعيدين، وهذا حصر المحللات.
يؤخذ من مفهومه، أن ما عداهن من الأقارب، غير محلل، كما تقدم في سورة النساء، فإنه لا يباح من الأقارب من النساء، غير هؤلاء الأربع، وما عداهن من الفروع مطلقًا، والأصول مطلقًا، وفروع الأب والأم، وإن نزلوا، وفروع من فوقهم لصلبه، فإنه لا يباح.
وقوله { اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قيد لحل هؤلاء للرسول، كما هو الصواب من القولين، في تفسير هذه الآية، وأما غيره عليه الصلاة والسلام، فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة.
{ و } أحللنا لك { امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } بمجرد هبتها نفسها.
{ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } أي: هذا تحت الإرادة والرغبة، { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } يعني: إباحة الموهبة (3) وأما المؤمنون، فلا يحل لهم أن يتزوجوا امرأة، بمجرد هبتها نفسها لهم.
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي: قد علمنا ما على المؤمنين، وما يحل لهم، وما لا يحل، من الزوجات وملك اليمين. وقد علمناهم بذلك، وبينا فرائضه.
فما في هذه الآية، مما يخالف ذلك، فإنه خاص لك، لكون اللّه جعله خطابًا للرسول وحده بقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ } إلى آخر الآية.
وقوله: { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم، ووسعنا لك ما لم نوسع على غيرك، { لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } وهذا من زيادة اعتناء اللّه تعالى برسوله صلى اللّه عليه وسلم.
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي: لم يزل متصفًا بالمغفرة والرحمة، وينزل على عباده من مغفرته ورحمته، وجوده وإحسانه، ما اقتضته حكمته، ووجدت منهم أسبابه.
----------
وفي التفسير الوسيط (2):
المراد بالأجور فى قوله - سبحانه - : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ . . . } المهور التى دفعها صلى الله عليه وسلم لأزاوجه .
قال ابن كثير : يقول - تعالى - مخاطبا - نبيه - صلوات الله وسلامه عليه - بأن قد أحل له من النساء أزواجه اللائى أعطاهن مهورهن ، وهى الأجور ها هنا ، كما قاله مجاهد وغير واحد .
وقد كان مهره صلى الله عليه وسلم لنسائه : اثنتى عشرة أوقية ونصف أوقية . فالجمعي خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبى سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشى - رحمه الله - بأربعمائة دينار ، وإلا صفية بنت حيى فإنه اصطفاها من سبى خيبر ، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها . وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية ، أدى عنها كتابتها إلى ثبات بن قيس وتزوجها .
وفى قوله : { آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } إشارة إلى أن إعطاء المهر كاملا للمراة دون إبقاء شئ منه ، هو الأكمل والأفضل ، وأن تأخير شئ منه إنما هو مستحدث ، لم يكن معروفا عند السلف الصالح .
وأُطْلِق على المهر أجْرٌ لمقابلته الاستمتاع الدائم بما يحل الاستمتاع به من الزوجة ، كما يقابل الأجر بالمنفعة .
وقوله : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ } بيان لنوع آخر مما أحله الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 669)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3435)(1/456)
والمعنى : يأيها النبى إنا أحللنا لك - بفضلنا - على سبيل التكريم والتشريف لك ، الاستمتاع بأزواجك الكائنات عندك ، واللاتى أعطيتهن مهورهن - كعائشة وحفصة وغيرهما - ، لأنهن قد اخترنك على الحياة الدنيا وزينتها .
كما أحللنا لك التمتع بما ملكت يمينك من النساء اللائى دخلن فى ملكك عن طريق الغنيمة فى الحرب ، كصفية بنت حيى بن أخطب ، وجويرية بنت الحارث .
ثم بين - سبحانه - نوعا ثالثا أحله - سبحانه - له فقال : { عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } .
أى : وأحللنا لك - أيضا - الزواج بالنساء اللائى تربطك بهن قرابة من جهة الأب ، أو قرابة من جهة الأم .
وقوله { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } إشارة إلى ما هو أفضل ، وللإِيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر .
والمراد بالمعية هنا . الاشتراك فى الهجرة . لا المصاحبة فيها ، لما فى قوله - تعالى - حكاية عن ملكة سبأ : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } .
قال بعض العلماء : وقد جاء فى الآية الكريمة عدة قيود ، ما أريد بواحد منها غلى التنبيه على الحالة الكريمة الفاضلة .
منها : وصف النبى صلى الله عليه وسلم باللاتى آتى أجورهن ، فإنه تنبيه على الحالة الكاملة ، فإن الأكمل إيتاء المهر كاملا دون أن يتأخر منه شئ .
ومنها : أن تخصيص المملوكات بأن يكن من الفئ ، فإن المملوكة إذا كانت غنيمة من أهل الحرب كانت أحل وأطيب مما يشترى من الجلب ، لأن المملوكة عن طريق الغنيمة تكون معروفة الحالة والنشأة . ومنها : قيد الهجرة فى قوله : { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } ، ولا شك أن من هاجرت مع النبى صلى الله عليه وسلم أولى بشرف زوجة النبى صلى الله عليه وسلم ممن عداها .
ثم بين - سبحانه - نوعا رابعا من النساء ، أحله لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } . والجملة الكريمة معطوفة على مفعول { أَحْلَلْنَا } .
وقد اشتملت هذه الجملة على شرطين ، الثانى منهما قيد للأول ، لن هبتها نفسها له صلى الله عليه وسلم لا توجب حلها له إلا بقبوله الزواج منها .
وقوله { يَسْتَنكِحَهَا } بمعنى ينكحها . يقال : نكح واستنكح ، بمعنى عجل واستعجل : ويجوز أن يكون بمعنى طلب النكاح .
وقوله : { خَالِصَةً } منصوب على الحال من فاعل { وَهَبَتْ } أى : حال كونها خالصة لك دون غيرك . أو نعت لمصدر مقدر . أى : هبة خالصة . . .
والمعنى وأحللنا لك كذلك امرأة مؤمنة ، إن ملكتك نفسها بدون نفسها بدون مهر وإن أنت قبلت ذلك عن طيب خاطر منك ، وهذا الإِحلال إنما هو خاص بك دون غيرك من المؤمنين ، لأن غيرك من المؤمنين لا تحل لهم من وهبت نفسها لواحد منهم إلا بولى ومهر .
وقد ذكروا ممن وهبن أنفسهن له صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم ، وأم شريك بنت جابر ، وليلى بنت الحطيم . .
وقد اختلف العلماء فى كونه صلى الله عليه وسلم قد تزوج بواحدة من هؤلاء الواهبات أنفسهن له أم لا .
والأرجح أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بواحدة منهن ، وإنما زوجهن لغيره . ويشهد لذلك ما رواه الشيخان " عن سهل بن سعد الساعدى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله ، إنى قد وهبت نفسى لك . فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل عندك من شئ تصدقها إياه؟ فقال : ما عندى إلا إزارى هذا . فقال صلى الله عليه وسلم : إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك ، فالتمس شيئا . فقال : لا أجد شيئا : فقال : التمس ولو خاتما من حديد ، فقام الرجل فلم يجد شيئا . فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : هل معك من القرآن شئ؟ قال نعم . سورة كذا وسورة كذا - لسور يسميها - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : زوجتكها بما معك من القرآن " .
وإلى هنا يتضح لنا أن المقصود بالإِحلال فى الآية الكريمة : الإِذن العام والتوسعة عليه صلى الله عليه وسلم فى الزواج من هذه الأصناف ، والإِباحة له فى ان يختار منهن من تقتضى الحكمة الزاوج منها ، واختصاصه صلى الله عليه وسلم بأمور تتعلق بالنكاح ، لا تحل لأحد سواه .
ولهذا قال - سبحانه - بعد ذلك : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } فإن هذه الجملة الكريمة معترضة ومقررة لمضمون ما قبلها ، من اختصاصه صلى الله عليه وسلم بأمور فى النكاح لا تحل لغيره ، كحل زواجه ممن تخبه نفسها بدون مهر ، إن قبل ذلك العرض منها .(1/457)
أى : هذا الذى أحللناه لك - أيها الرسول الكريم - هو خاص بك ، أما بالنسبة لغيرك من المؤمنين فقد علمنا ما فرضناه عليهم فى حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه ، فلا يجوز لهم الإِخلال بها ، كما لا يجوز لهم الاقتداء بك فيما خصك الله - تعالى - به ، على سبيل التوسعة عليك ، والتكريم لك ، فهم لا يجوز لهم التزوج إلا بعقد وشهود ومهر ، كما لا يجوز لهم أن يجمعوا بين أكثر من أربع نسوة .
وعلمنا - أيضا - ما فرضناه عليهم بالنسبة لما ملكت أيمانهم ، من كونهن ممن يجوز سبيه وحربه ، لا ممن لا يجوز سبيه ، أو كان له عهد مع المسلمين .
وقوله : { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } متعلق بقوله : { أَحْلَلْنَا } وهو راجع إلى جميع ما ذكر ، فيكون المعنى :
أحللنا من آتيت أجورهن من النساء ، والمملوكات ، والأقارب ، والواهبة نفسها لك ، لندفع عنك الضيق والحرج ، ولتتفرغ لتبليغ ما أمرناك بتبليغه .
وقيل : إنه متعلق بخالصة ، أو بعاملها ، فيكون المعنى : خصصناك بنكاح من وهبت نفسها لك بدون مهر ، لكى لا يكون عليك حرج فى البحث عنه .
وترى بعضه أنه متعلق بمحذوف ، أى : بينا لك ما بينا من أحكام خاصة بك ، حتى تخرج من الحرج ، وحتى يكون ما تفعله هو بوحى منا وليس من عند نفسك .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أى : وكان الله - تعالى - وما زال واسع المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين .
وقوله - عز وجل - { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } شروع فى بيان جانب آخر من التوسعة التى وسعها - سبحانه - لنبيه صلى الله عليه وسلم فى معاشرته لنسائه ، بعد بيان ما أحله له من النساء .
وقوله : { تُرْجِي } من الإِرجاء بمعنى التأخير والتنحية ، وقرئ مهموزا وغير مهموز . تقول : أرجيت الأمر وأرجأته ، إذا أخرته ، ونحيته جانبا حتى يحين موعده المناسب .
وقوله : { وتؤوي } من الإِيواء بمعنى الضمر والتقريب ، ومنه قوله - تعالى - : { وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ . . } أى : ضمة إليه وقربه منه .
والضمير فى قوله { مِنْهُنَّ } يعود إلى زوجاته صلى الله عليه وسلم اللائى كن فى عصمته .
قال القرطبى ما ملخصه : واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية ، وأصح ما قيل فيها : التوسعة على النبى صلى الله عليه وسلم فى ترك القَسْم ، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته .
وهذا القول هو الذى يناسب ما مضى ، وهو الذى ثبت معناه فى الصحيح ، عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : كنت أغار على اللائى وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول : أو تهب المرأة نفسها لرجل؟ فلما أنزل الله - تعالى - : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ . . . } .
قالت : قلت : والله ما رأى ربك إلا يسارع فى هواك .
قال ابن العربى : هذا الذى ثبت فى الصحيح هو الذى ينبغى أن يعول عليه . والمعنى المراد : هو أن النبى صلى الله عليه وسلم كان مخيرا فى أزواجه ، إن شاء أن يقسم قسم ، وإن شاء أن يترك القسم ترك . لكنه كان يقسم من جهة نفسه ، تطييبا لنفوس أزواجه .
وقيل كان القسم واجبا عليه ثم نسخ الوجوب بهذه الآية .
وقيل : الآية فى الطلاق . أى : تطلق من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء .
وقيل : المراد بالآية : الواهبات أنفسهن له صلى الله عليه وسلم .
ثم قال القرطبى : وعلى كل معنى ، فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإِباحة ، وما اخترناه أصح والله أعلم .
أى : لقد وسعنا عليك - أيها الرسول الكريم - فى معاشرة نسائك ، فأبحنا لك أن تؤخر المبيت عند من شئت منهن ، وأن تضم إليك من شئت منهن ، بدون التقيد بوجوب القسم بينهن ، كما هو الشأن بالنسبة لأتباعك حيث أوجبنا عليهم العدل بين الأزواج فى البيوتة وما يشبهها .
ومع هذا التكريم من الله - تعالى - لنبيه ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم بينهن إلى أن لحق بربه؟ عدا السيدة سودة ، فإنها قد وهبت ليلتها لعائشة . .
أخرج البخارى عن عائشة رضى الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم كان يستأذن فى يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية ترجى من تشاء منهن . .
فقيل : لها ما كنت تقولين؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذاك إليَّ فإنى لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا .
وقوله - تعالى - : { وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } . زيادة فى التوسعة عليه صلى الله عليه وسلم وفى ترك الأمر لإرادته واختياره .
أى : أبحنا لك - أيها الرسول الكريم - أن تقسم بين نسائك ، وأن تترك القسمة بينهن ، وأبحنا لك - أيضا - أن تعود إلى طلب من اجتنبت مضاجعتها إذ لا حرج عليك فى كل ذلك . بعد أن فوضنا الأمر إلى مشيئتك واختيارك .
فالابتغاء بمعنى الطلب ، وعزلت اجتنبت واعتزلت وابتعدت ، و { مَّنْ } شرطية ، وجوابها : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } أى : فلا حرج ولا إثم عليك فى عدم القسمة بين أزواجك ، وفى طلب إيواء من سبق لك أن اجتنبتها .(1/458)
قال الشوكانى : والحاصل أن الله - سبحانه - فوض الأمر إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كى يصنع مع زوجاته ما شاء ، من تقديم وتأخير ، وعزل وإمساك ، وضم من أرجأ ، وإرجاء من ضم إليه ، وما شاء فى أمرهن فعل توسعة عليه ، ونفيا للحرج عنه .
وإسم الإشارة فى قوله : { ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ . . . } يعود إلى ما تضمنه الكلام السابق من تفويض أمر الإِرجاء والإِيواء إلى النبى صلى الله عليه وسلم .
وأدنى بمعنى أقرب . { تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } كناية عن تقبل ما يفعله معهن برضا وارتياح نفس . يقال قرت عين فلان ، إذا رأت ما ترتاح لرؤيته ، مأخوذ من ا لقرار بمعنى الاستقرار والسكون . .
وقوله : { وَلاَ يَحْزَنَّ } معطوف على { أَن تَقَرَّ } وقوله { وَيَرْضَيْنَ } معطوف عليه - أيضا - .
والمعنى ، ذلك شرعناه لكل من تفويض الأمر اليك فى شأن أزاجك ، أقرب إلى رضى نفوسهن لما تصنعه معهن ، واقرب إلى عدم حزنهن وإلى قبولهن لما تفعله معهن ، لأنهن يعلمن أن ما تفعله معهن إنما هو من الله - تعالى - وليس باجتهاد منك ، ومتى علمن ذلك طابت نفوسهن سواء ويت بينهن فى القسم والبيتوتة والمجامعة . . أم لم تسو .
قال القرطبى : قال قتادة وغيره : أى : ذلك التخيير ذلك خيرناك فى حصبتهن أدنى إلى رضاهن ، إذ كان من عندنا - لا من عندك - ، لأنهن إذا علمت أن الفعل من الله قرت أعينهن بذلك ورضين . .
وكان - عليه الصلاة والسلام - مع هذا يشدد على نفسه فى رعاية التسوية بينهن ، تطييبا لقلوبهن ويقول : " اللهم هذه قدرتى فيما أملك ، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك " .
وقوله - سبحانه - { والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ولأزواجه ، ويندرج فيه جميع المؤمنين والمؤمنات وجمع بجمع الذكور للتغليب .
أى : والله - تعالى - يعلم ما فى قلوبكم من حب وبغض ، ومن ميل إلى شئ ، ومن عدم الميل إلى شئ آخر .
قال صاحب الكشاف : وفى هذه الجملة وعيد لمن لم ترض منهن بما دبر الله - تعالى - من ذلك ، وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافى بينهن ، والتوافق على طلب رضا رسولا لله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه .
{ وَكَانَ الله } - تعالى - { عَلِيماً } بكل ما تظهره القلوب وما تسره { حَلِيماً } حيث لم يعاجل عباده بالعقوبة قبل الإرشاد والتعليم .
ثم كرم - سبحانه - أمهات المؤمنين بعد تكريمه لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ . . . } .
أى : لا يحل لك ، - أيها الرسول الكريم - أن تتزوج بنساء أخريات من بعد التسع اللائى فى عصمتك اليوم ، لأنهم قد اخترنك وآثرنك على زينة الحياة الدنيا ، ورضين عن طيب نفس أن يعشن معك وتحت رعايتك ، مهما كان فى حياتك معهن من شظف العيش ، والزهد فى متع الدنيا .
------------
وقال الطاهر بن عاشور (1):
نداء رابع خوطب به النبيء صلى الله عليه وسلم في شأن خاص به هو بيان ما أحل له من الزوجات والسراري وما يزيد عليه وما لا يزيد مما بعضه تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل،ومما بعضه يتساوى فيه النبيء عليه الصلاة والسلام مع الأمة وبعضه خاص به أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعه عليه،أو مما روعي في تخصيصه به علو درجته.
ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوج النبيء صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وقالوا: تزوج من كانت حليلة متبناه، أراد الله أن يجمع في هذه الآية من يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون. ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} الآية، ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعا لتكون جامعه للأحوال، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال.
فأما تقرير ما هو مشروع فذلك من قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى قوله: {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} ، وأما تشريع ما لم يكن مشروعا فذلك من قوله {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} إلى قوله {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52].
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 21 / ص 289)(1/459)
فقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} خبر مراد به التشريع. ودخول حرف "إن" عليه لا ينافي إرادة التشريع إذ موقع "إن" هنا مجرد الاهتمام،ولاهتمام يناسب كلا من قصد الإخبار وقصد الإنشاء،ولذلك عطفت على مفعول {أَحْلَلْنَا} معطو فات قيدت بأوصاف لم يكن شرعها معلوما من قبل وذلك في قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} وما عطف عليه باعتبار تقييدهن بوصف {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، وفي قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} باعتبار تقيدها بوصف الإيمان وتقييدها بـ"إن وهبت نفسها للنبيء وأراد النبيء أن يستنكحها". هذا تفسير الآية على ما درج عليه المفسرون على اختلاف قليل بين أقوالهم.
وعندي: أن الآية امتنان وتذكير بنعمة على النبيء صلى الله عليه وسلم. وتأخذ من الامتنان الإباحة ويؤخذ من ظاهر قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] الاقتصار على اللاتي في عصمته منهن وقت نزول الآية ولتكون هذه الآية تمهيدا لقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الخ.
وسيجيء ما لنا في معنى قوله: {مِنْ بَعْدُ} وما لنا في موقع قوله: {إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} .
ومعنى {أَحْلَلْنَا لَكَ} الإباحة له، ولذلك جاءت مقابلته بقوله عقب تعداد المحللات له {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} .
وإضافة أزواج إلى ضمير النبيء صلى الله عليه وسلم تفيد أنهن الأزواج اللاتي في عصمته فيكون الكلام إخبارا لتقرير تشريع سابق ومسوقا مساق الامتنان،ثم هو تمهيد لما سيتلوه من التشريع الخاص بالنبيء صلى الله عليه وسلم من قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} إلى قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52]. وهذا هو الوجه عندي في تفسير هذه الآية.
وحكى أبن الفرس عن الضحاك وابن زيد أن المعنى بقوله: {أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أن الله احل أن يتزوج كل امرأة يصدقها مهرها فأباح له كل النساء،وهذا بعيد ن مقتضى إضافة أزواج إلى ضميره. وعن التعبير بـ {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} بصيغة المضي. وأختلف أهل التأويل في محمل هذا الوجه مع قوله تعالى في آخر الآية: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} فقال قوم: هذه ناسخة لقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} ولو تقدمت عليها في النلاوة. وقال آخرون: هي منسوخة بقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} .
و {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} صفه لـ {أَزْوَاجَكَ} ، أي وهن النسوة اللاتي تزوجتهن على حكم النكاح الذي يعم الأمة فالماضي في قوله: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} مستعمل في حقيقته. وهؤلاء فيهن من هن من قراباته وهن القرشيات منهن: عائشة، وحفصة، وسودة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وفيهن من لسن كذلك وهن جويرية من بني المصطفى، وميمونة بنت الحارث من بني هلال، وزينب أم المساكين من بني هلال، وكانت يومئذ متوفاة، وصفية بنت حيي الإسرائيلية.
وعطف على هؤلاء نسوة أخر وهن ثلاث أصناف:
"الصنف الأول" : ما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه، أي مما أعطاه الله من الفيء وهو ما ناله المسلمون من العدو بغير قتال ولكن تركه العدو، أو مما أعطي للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل مارية القبطية أم أبنه إبراهيم فقد أفاءها الله عليه إذ وهبها إليه المقوقس صاحب مصر وإنما وهبها إليه هدية لمكان نبوته فكانت بمنزلة الفيء لأنها ما لوحظ فيها إلا قصد المسألة من جهة الجوار إذ لم تكون له مع الرسول صلى الله عليه وسلم سابق صحبة ولا معرفة والمعروف أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يتيسر غير مارية القطبية. وقيل أيضا: إنه تسرى جارية أخرى وهبت له زوجه زينب ابنة جحش ولم يثبت. وقيل أيضا: إنه تسرى ريحانة من سبي قريضة اصطفاها لنفسه ولا تشملها هذه الآية لأنها ليست من الفيء ولكن من المغنم إلا أن يراد بـ {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} المعنى الأعم للفيء وهو ما يشمل الغنيمة. وهذا الحكم يشركه فيه كثيرا من الأمة من كل من أعطاه أميره شيئا من القيء، كما قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] فمن أعطاه الأمير من هؤلاء الأصناف أمة من الفيء حلت له.
وقوله: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} وصف لما ملكت يمينك وهو هنا وصف كاشف لأن المراد به مارية القطبية، أو هي وريحانة إن ثبت أنه تسراها.(1/460)
"الصنف الثاني" : نساء من قريب قراباته صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه أو جهة أمه مؤمنات مهاجرات. وأغنى قوله: {هَاجَرْنَ مَعَكَ} عن وصف الإيمان لأن الهجرة لا تكون إلا بعد الإيمان، فأباح الله للنبيء عليه الصلاة والسلام أن يتزوج من يشاء من نساء هذا الصنف بعقد النكاح المعروف فليس له أن يتزوج في المستقبل امرأة من غير هذا الصنف المشروط بشرط القرابة بالعمومة أو الخؤولة وشرط الهجرة. وعندي : أن الوصفين ببنات عمه وعماته وبنات خاله وخالاته، وبأنهن هاجرن معه غير مقصود بهما الاحتراز عمن لسن كذلك ولكنه وصف كاشف مسوق للتنويه بشأنهن.
وخص هؤلاء النسوة من عموم المنع تكريما لشأن القرابة والهجرة التي هي بمنزلة القرابة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [لأنفال: 72]. وحكم الهجرة انقضى بفتح مكة. وهذا الحكم يتجاذبه الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم والتعميم، لأمته الذين تكون لهم قرابة بالمرأة كهذه القرابة تزوج أمثالها، والمرأة التي لم تستوف هذا الوصف لا يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام تزوجها، وهو الذي درج عليه الجمهور، ويؤيده خبر روي عن أم هانئ بنت أبي طالب. وقال أبو يوسف: يجوز لرجال أمته نكاح أمثالها. وباعتبار عدم تقيد نساء الرسول صلى الله عليه وسلم بعدد يكون هذا الطلاق خاصا به دون أمته إذ لا يجوز لغيره تزوج أكثر من أربع.
وبنات عم النبيء صلى الله عليه وسلم هن بنات أخوة أبيه مثل: بنات العباس وبنات أبي طالب وبنات أبي لهب. وأما بنات حمزة فإنهن بنات أخ من الرضاعة لا يحللن له وبنات عماته هن بنات عبد المطلب مثل زينب بنت جحش التي هي بنت أميمة بنت عبد المطلب.
وبنات خاله هن بنات عبد مناف بن زهره وهن أخوال النبيء صلى الله عليه وسلم عبد يغوث ابن وهب أخو آمنة ولم يذكروا أن له بنات، كما أني لم أقف على ذكر خالة لرسول الله فيما رأيت من كتب الأنساب والسير. وقد ذكر في "الإصابة" فريعة بنت وهب وذكروا هالة بنت وهب الزهرية إلا أنها لكونها زوجة عبد المطلب وابنتها صفية عمة رسول الله فقد دخلت من قبل في بنات عمه.
وإنما أفرد لفظ "عم" وجمع لفظ "عمات" لأن العم في استعمال كلام العرب يطلق على أخي الأب ويطلق على أخي الجد وأخي جد الأب وهكذا فهم يقولون: هؤلاء بنو عم أو بنات عم، إذا كانوا لعم واحد أو لعدة أعمام، ويفهم المراد من القرائن. قال الراجز انشده الأخفش:
ما برئت من ريبة وذم ... في حربنا إلا بنات العم
وقال رؤبة بن العجاج:
قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
فأما لفظ "العمة" فإنه لا يراد به الجنس في كلامهم، فإذا قالوا: هؤلاء بنو عمة، أرادوا أنهم بنو عمة معنية، فجيء في الآية: {عَمَّاتِكَ} جمعا لئلا يفهم منه بنات عمة معينة. وكذلك القول في إفراد لفظ "الخال" من قوله: {بَنَاتِ خَالِكَ} وجمع الخالة في قوله: {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} .
وقال قوم: المراد ببنات العم وبنات العمات: نساء قريش، والمراد ببنات الخال: النساء الزهريات، وهو اختلاف نظري محض لا ينبني عليه عمل لأن النبيء قد عرفت أزواجه.
وقوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} صفه عائده إلى {بَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} كشأن الصفة الواردة بعد مفردات وهو شرط تشريع لم يكن مشروطا من قبل.
والمعية في قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} معية المقارنة في الوصف المأخوذ في فعل {هَاجَرْنَ} فليس يلزم أن يكن قد خرجن مصاحبات له في طريقه إلى الهجرة.
"الصنف الثالث" : امرأة تهب نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم أي تجعل نفسها هبة له دون مهر، وكذلك كان النساء قبل الإسلام يفعلن مع عظماء العرب، فأباح الله للنبيء أن يتخذها زوجه له بدون مهر إذا شاء النبيء صلى الله عليه وسلم ذلك، فهذه حقيقة لفظ {وَهَبَتْ} ، فالمراد من الهبة: تزويج نفسها بدون عوض، أي بدون مهر، وليست هذه من الهبة التي تستعمل في صيغ النكاح إذا قارنها ذكر صداق لأن ذلك اللفظ مجاز في النكاح بقرينة ذكر الصداق ويصح اخذ النكاح به عندنا وعند الحنفية خلافا للشافعي.
فقوله: {وَامْرَأَةً} عطف على {أَزْوَاجَكَ} . والتقدير: وأحللنا لك امرأة مؤمنة.(1/461)
والتنكير في {امْرَأَةً} للنوعية: والمعنى: ونعلمك أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة بقيد أن تهب نفسها لك وأن تريد أن تتزوجها فقوله: {للنبيء} في الموضعين إظهار في مقام الإضمار. والمعنى: إن وهبت نفسها لك وأردت أن تنكحها. وهذا تخصيص من عموم قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فإذا وهبت امرأة نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وأراد نكاحها جاز له ذلك بدون ذينك الشرطين ولأجل هذا وصفت {امْرَأَةً} بـ {مُؤْمِنَةً} ليعلم عدك اشتراط عدا الإيمان. وقد عدة زينب خزيمة الهلالية وكانت تدعى بالجاهلية أم المساكين اللاتي وهبنا أنفسهن ولم تلبث عنده زينب هذه إلا قليلا فتوفيت وكان تزوجها سنة ثلاث من الهجرة فليست مما شملته الآية. ولم يثبت أن النبيء صلى الله عليه وسلم تزوج غيرها ممن وهبت نفسها إليه وهن: أم شريك بنت جابر الدوسية واسمها عزية، وخولة بنت حكيم عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسها فقالت عائشة: أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل، وامرأة أخرى عرضت نفسها على النبيء صلى الله عليه وسلم. روى ثابت البناني عن أنس قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله فعرضت عليه نفسها فقالت : يا رسول الله ألك حاجة بي? فقالت ابنة أنس - وهي تسمع إلى رواية أبيها -: ما أقل حياءها واسأوتاه واسواتاه. فقال أنس: هي خير منك رغبت في النبيء فعرضت عليه نفسها". وعن سهل بن سعد أن امرأة عرضت نفسها على النبيء صلى الله عليه وسلم فلم يجبها. فقال رجل: "يا رسول الله زوجنيها، إلى أن قال له، ملكناكها بما معك من القرآن" فهذا الصنف حكمه خاص بالنبيء صلى الله عليه وسلم ذلك أنه نكاح مخالف لسنة النكاح لأنة بدون مهر وبدون ولي.
وقد ورد أن النسوة اللاتي وهبن أنفسهن للنبيء صلى الله عليه وسلم أربع هن: مميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية الملقبة أم المساكين، وأم شريك بنت جابر الأسدية أو العامرية، و خولة بنت حكيم بنت الأوقص السلمية. فأما الأوليان فتزوجهما النبيء صلى الله عليه وسلم وهما من أمهات المؤمنين.
ومعنى {وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} أنها ملكته نفسها تمليكا شبيها بملك اليمين ولهذا عطفت على {مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} وأردف بقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي خاصة لك أن تتخذها زوجه بتلك الهبة، أي دون مهر وليس لبقية المؤمنين ذلك. ولهذا لما وقع في حديث سهل بن سعد المتقدم أن امرأة وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وعلم الرجل الحاضر أن النبيء عليه الصلاة والسلام لا حاجة له بها سئل النبيء عليه الصلاة والسلام أن يزوجه إياها علما منه بأن تلك الهبة لا مهر معها ولم يكن للرجل ما يصدقها إياه، وقد علم النبيء صلى الله عليه وسلم منه ذلك فقال له: ما عندك ? قال: ما عندي شيء. قال: اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد فذهب ثم رجع فقال: لا والله ولا خاتم من حديد، ولمن هذا إزاري فلها نصفه. قال سهل: ولم يكن له رداء فقال النبيء: "وما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وأن لبسته لم يكن عليك منه شيء - ثم قال له - ماذا معك من القرآن? فقال: معي سورة كذا وسورة كذا لسور يعددها. فقال النبيء صلى الله عليه وسلم: ملكناكها بما معك من القرآن" .
وفي قوله: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إن وهبت نفسها لك. والغرض من هذا الظهار ما في لفظ {النبيء} من تزكية فعل المرأة التي تهب نفسها بأنها راغبة لكرامة النبوة.
وقوله: {إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} جملة معترضة بين جملة {إِنْ وَهَبَتْ} وبين {خَالِصَةً} وليس مسوقا للتقييد إذ لا حاجة إلى ذكر إرادة نكاحها فإن هذا معلوم من معنى الإباحة، وإنما جيء بهذا الشرط لدفع توهم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجبا عليه كما كان عرف أهل الجاهلية. و جوابه محذوف دل عليه ما قبله، والتقدير: إن أراد أن يستنكحها فهي حلال له، فهذا شرط مستقل و ليس شرطا في الشرط الذي قبله.
والعدول عن الإضمار في قوله: {إِنْ أَرَادَ النبيء} بأن يقال: إن أراد أن يستنكحها لما في إظهار لفظ {النبيء} من التفخيم و التكريم.
وفائدة الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطال عادة العرب في الجاهلية وهي أنهم كانوا إذا وهبت المرأة نفسها للرجل تعين عليه نكاحها و لم يجز له ردها فابطل الله هذا الالتزام بتخيير النبيء عليه الصلاة والسلام في قبول هبة المرأة نفسها له وعدمه, وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأن الرد مأذون به.
والسين والتاء في {يَسْتَنْكِحَهَا} ليستا للطلب بل هما لتأكيد الفعل كقول النابغة:
وهم قتلوا الطائى بالحجر عنوة ... أبا جابر فاستنكحوا أم جابر
أي بنو حن قتلوا أبا جابر الطائى فصارت أم جابر المزوجة بأبي جابر زوجة بني حن، أي زوجة رجل منهم. وهي مثل السين والتاء في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195].(1/462)
فتبين من جعل جملة {إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} معترضة أن هذه الآية لا يصح التمثيل بها لمسألة اعتراض الشرط على الشرط كما وقع في رسالة الشيخ تقي الدين السبكي المجعولة لاعتراض الشرط على الشرط وتبعه السيوطي من الفن السابع من كتاب "الأشباه والنظائر النحوية" ، ويلوح من كلام صاحب "الكشاف" استشعار عدم صلاحية الآية لاعتبار الشرط في الشرط فأخذ يتكلف لتصوير ذلك.
وانتصب {خَالِصَةً} على الحال من {امْرَأَةً} ، أي خالصة لك تلك المرأة، أي هذا الصنف من النساء. والخلوص معنى به عدم المشاركة، أي مشاركة بقية الأمة في هذا الحكم إذ مادة الخلوص تجمع معاني التجرد من المخالطة. فقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لبيان حال من ضمير الخطاب في قولة: {لَكَ} ما في الخلوص من الأجمال في نسبته. وقد دل وصف {امْرَأَةً} بأنها {مُؤْمِنَةً} أن المرأة غير المؤمنة لا تحل للنبيء علية الصلاة والسلام بهبة نفسها. ودل ذلك بدلالة لحن الخطاب أنة لا يحل للنبيء صلى الله عليه وسلم تزوج الكتابيات بلة المشركات، وحكى إمام الحرمين في ذلك خلافا. قال أبن العربي: والصحيح عندي تحريمها عليه. وبهذا يتميز علينا، فأن ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحضه فيه أكثر وإذا كان لا تحل له من لم تهاجر لنقصانها فضل الهجرة فأخرى أن لا تحل له الكتابية الحرة.{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} . جملة معترضة بين جملة {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وبين قولة {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أو هي حال سببي من المؤمنين، أي حال كونهم قد علمنا ما نفرض عليهم.
والمعنى: أن المؤمنين مستمر ما شرع لهم من قبل في أحكام الزواج وما ملكت أيمانهم، فلا يشملهم ما عين لك من الأحكام الخاصة المشروعة فيما تقدم آنفا، أي قد علمنا أن ما فرضناه عليهم في ذلك هو اللائق بحال عموم الأمة دون ما فرضناه لك خاصة.
و {مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} موصل وصلته، وتعدية {فَرَضْنَا} بحرف "على" المقتضي للتكليف والإيجاب للإشارة إلى أن من شرائع أزواجهم وما ملكت أيمانهم ما يودون أن يخفف عنك كن عدد الزوجات وإيجاب المهور والنفقات، فإذا سمعوا ما خص به النبيء صلى الله عليه وسلم من التوسعة في تلك الأحكام ودوا أن يلحقوا به في ذلك فسجل الله عليهم أنهم باقون على ما سبق شرعة لهم في ذلك. والإخبار بأن الله قد علم ذلك كناية عن بقاء تلك الإحكام لأن معناه أنا لم نفعل عن ذلك، أي لك نبطله بل عن علم خصصنا نبينا بما خصصناه به في ذلك الشأن، فلا يشمل ما أحللناه له بقية المؤمنين.
وظرفية {فِي} مجازية لأن المظروف هو الأحكام الشرعية لا ذوات الأزواج وذوات ما ملكته الأيمان.
{لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
تعليل لما شرعه الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة من التوسعة بالازدياد من عدد الأزواج وتزو ج الواهبات أنفسهن دون مهر، وجعل قبول هبتها موكولا لأرادته، وبما أبقى له من مساواته أمته فيما عدى ذلك منت الإباحة فلم يضيق عليه، وهذا تعليم وامتنان.
والحرج: الضيق, والمراد هنا أدنى الحرج ما في التكليف من بعض الحرج الذي لا تخلوا عنه التكاليف، وأما الحرج القوي فمنفي عنه وعن أمته. ومراتب الحرج متفاوتة، ومناط ما ينفى عن الأمة منها وما لا ينفى، وتقديرات أحوال انتفاء بعضها للضرورة هو ميزان التكليف الشرعي فالله أعلم بمراتبها واعلم بمقدار تحرج عباده وذلك مبين في مسائل العزيمة والرخصة من علم الأصول، وقد حرر ملاكه شهاب الدين القرافي في الفرق الرابع عشر من كتابه "أنواء البروق". وقد أشبعنا القول في تحقيق ذلك في كتابنا المسمى "مقاصد الشريعة الإسلامية".
واعلم أن النبيء صلى الله عليه وسلم سلك في الأخذ بهذه التوسعات التي رفع الله بها قدره مسلك الكمال من عباده وهو أكملهم فلم ينتفع لنفسه بشيء منها فكان عبدا شكورا كما قال في حديث استغفاره ربه في اليوم استغفارا كثيرا.
والتذييل بجملة {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} تذييل لما شرعه من الأحكام للنبيء صلى الله عليه وسلم لا للجملة المتعرضة، أي أن ما أردناه من نفي الحرج عنك هو من متعلقات صفتي الغفران والرحمة اللتين هما من تعلقات الإرادة والعلم فهما ناشئان عن صفات الذات، فلذلك جعل اتصاف الله بهما أمرا متمكنا بما دل عليه فعل {كَانَ} المشي إلى السابقية والرسوخ كما علمته في مواضع كثيرة.
--------------
وقال ابن العربي(1) :
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 6 / ص 379)(1/463)
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ { قَالَتْ : خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتَذَرْت إلَيْهِ , فَعَذَرَنِي , ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ * [ قَالَتْ : فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ ; لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ , كُنْت مِنْ الطُّلَقَاءِ * ] قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ [ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ السُّدِّيِّ . قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا , وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ يُحْتَجُّ فِي مَوَاضِعِهِ بِهَا . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ * قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قوله تعالى : { أَحْلَلْنَا لَك * وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْلَالِ وَالتَّحْرِيمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا .
---------------
وقال الجصاص(1) :
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 8 / ص 322)(1/464)
بَابُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مِنْ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ * . الْآيَةَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ انْتَظَمَتْ الْآيَةُ ضُرُوبَ النِّكَاحِ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم , فَمِنْهَا قَوْلُهُ : { اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ * يَعْنِي : مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ بِمَهْرٍ مُسَمًّى وَأَعْطَاهُنَّ . وَمِنْهَا : مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك * . مِثْلَ رَيْحَانَةَ وَصَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا وَتَزَوَّجَهُمَا , وَذَلِكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ . وَذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَلَّ لَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ فَقَالَ : { وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك * ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَحَلَّ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَقَالَ : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ * وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ دُونَ أُمَّتِهِ وَأَنَّهُ وَأُمَّتَهُ سَوَاءٌ فِيمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُنَّ . وقوله تعالى : { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك * قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّاتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عَلَيْهِ , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ . وَرَوَى دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ زِيَادٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : قُلْت لَهُ : أَرَأَيْت لَوْ هَلَكَ نِسَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ ؟ قَالَ : ( وَمَا يَمْنَعُهُ ؟ أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ ضُرُوبًا مِنْ النِّسَاءِ فَكَانَ يَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ مَا شَاءَ ) ثُمَّ تَلَا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك * الْآيَةَ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَذْكُورَاتِ بِالْإِبَاحَةِ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ حَظْرَ مَنْ سِوَاهُنَّ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُنَّ لَوْ هَلَكْنَ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهُنَّ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ خِلَافُ ذَلِكَ , رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ : { خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَذَرْت إلَيْهِ بِعُذْرٍ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك * إلَى قَوْلِهِ : { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك * قَالَتْ : فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ ; لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ مَعَهُ , كُنْت مَعَ الطُّلَقَاءِ * . فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّ مَذْهَبَ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ تَخْصِيصَهُ لِلْمُهَاجِرَاتِ مِنْهُنَّ قَدْ أَوْجَبَ حَظْرَ مَنْ لَمْ تُهَاجِرْ , وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قَدْ عَلِمَتْ حَظْرَهُنَّ بِغَيْرِ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا فِيهَا إبَاحَةُ مَنْ هَاجَرَتْ مِنْهُنَّ وَلَمْ تَعْرِضْ لِمَنْ لَمْ تُهَاجِرْ بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ إلَّا أَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى حَظْرَهُنَّ
----------------
وفي الموسوعة الفقهية (1):
مِمَّا يَجِبُ أَنْ تَتَّصِفَ بِهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2228)(1/465)
يَجِبُ أَنْ تَتَّصِفَ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّفَاتِ التَّالِيَةِ : أ - ( الْإِسْلَامُ ) : 3 - لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كِتَابِيَّةً , بَلْ كُنَّ كُلُّهُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ , وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِكِتَابِيَّةٍ , لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضَعَ نُطْفَتَهُ فِي رَحِمٍ كَافِرَةٍ , بَلْ لَوْ نَكَحَ كِتَابِيَّةً لَهُدِيَتْ إلَى الْإِسْلَامِ كَرَامَةً لَهُ , لِخَبَرِ { سَأَلْت رَبِّي أَلَّا أُزَوَّجَ إلَّا مَنْ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ فَأَعْطَانِي * ب - ( الْحُرِّيَّةُ ) : 4 - وَلَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ رَقِيقَةً , بَلْ كُنَّ كُلُّهُنَّ حَرَائِرَ , بَلْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً , لِأَنَّ نِكَاحَهَا لِعَدَمِ الطَّوْلِ ( الْقُدْرَةِ عَلَى زَوَاجِ الْحُرَّةِ ) وَخَوْفِ الْعَنَتِ ( الزِّنَى ) , وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ الْأَوَّلِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً , لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ مَهْرٍ - كَمَا سَيَأْتِي - وَعَنْ الثَّانِي لِلْعِصْمَةِ الَّتِي عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا . ج - ( عَدَمُ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْهِجْرَةِ ) : 5 - لَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ فَلَمْ تُهَاجِرْ , وَلَوْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً مُسْلِمَةً , لقوله تعالى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك * . وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { نُهِيَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ , إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ * وَلِحَدِيثِ { أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ : خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَذَرْت إلَيْهِ بِعُذْرٍ فَعَذَرَنِي , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَكَ . . . * الْآيَةُ إلَى قوله تعالى { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك * قَالَتْ : فَلَمْ أَكُنْ أُحِلُّ لَهُ , لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ مَعَهُ , كُنْت مِنْ الطُّلَقَاءِ * . وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ - مِنْ الْحَنَفِيَّةِ - : لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ اللَّاتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عَلَى الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام , لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ . وَيَجُوزُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ , قَدْ تَزَوَّجَ عليه الصلاة والسلام مِنْ غَيْرِ الْمُهَاجِرَاتِ صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ , وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ رضي الله عنه قَالَ : { كَانَتْ الْأَنْصَارُ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لَا * فَلَوْ لَا عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ لَمَا كَانَ هُنَاكَ دَاعٍ لِلتَّرَبُّصِ وَالِانْتِظَارِ . د - ( التَّنَزُّهُ عَنْ الزِّنَى ) : 6 - أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ بِحُكْمِ كَوْنِهِنَّ زَوْجَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنَزَّهَاتٌ عَنْ الزِّنَى , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْ الرَّسُولِ , وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ * . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ , وَمَا رُمِيَتْ بِهِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ مِنْ الْإِفْكِ فِرْيَةٌ كَاذِبَةٌ خَاطِئَةٌ بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ : { إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ , لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ , وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * . الْآيَاتِ إلَى قَوْلِهِ { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * .
=================(1/466)
فقراء المهاجرين لهم حق في الغنيمة :
قال تعالى : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* (8) سورة الحشر
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
أي الفَيءُ والغنائم { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } . وقيل : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء } ولكن يكون «لِلْفُقَراءِ» . وقيل : هو بيان لقوله : وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَاْبنِ السَّبِيلِ» فلما ذُكروا بأصنافهم قيل المال لهؤلاء ، لأنهم فقراء ومهاجرين وقد أُخرجوا من ديارهم؛ فهم أحق الناس به . وقيل : { ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ } للفقراء المهاجرين لكيلا يكون المال دولة للأغنياء من بني الدنيا . وقيل : والله شديد العقاب للمهاجرين؛ أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم . ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى : { وَلِذِي القربى واليتامى } . وقيل : هو عطف على ما مضى ، ولم يأت بواو العطف كقولك : هذا المال لزيد لِبَكْر لفلان لفلان . والمهاجرون هنا : من هاجر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حُبَّاً فيه ونُصْرَةً له . قال قتادة : هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والأوطان حبّاً لله ولرسوله ، حتى إن الرجل منهم كان يَعْصِب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ الحَفِيرة في الشتاء ما له دِثار غيرها . وقال عبد الرحمن بن أبزَى وسعيد ابن جُبَير : كان ناس من المهاجرين لأحدهم العبد والزوجة والدار والناقة يحجّ عليها ويغزو ، فنسبهم الله إلى الفقراء وجعل لهم سهماً في الزكاة . ومعنى { أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } أي أخرجهم كفار مكة؛ أي أحوَجُوهم إلى الخروج؛ وكانوا مائة رجل . { يَبْتَغُونَ } يطلبون . { فَضْلاً مِّنَ الله } أي غنيمة في الدنيا { وَرِضْوَاناً } في الآخرة؛ أي مرضاة ربهم . { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } في الجهاد في سبيل الله . { أولئك هُمُ الصادقون } في فعلهم ذلك . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية فقال : من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أُبَيّ بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني؛ فإن الله تعالى جعلني له خازناً وقاسماً . ألاَ وإني بادٍ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن ، ثم المهاجرين الأولين؛ أنا وأصحابي . أُخرِجنا من مكة من ديارنا وأموالنا .
---------------
وفي تفسير الألوسي (2):
{ لِلْفُقَرَاء المهاجرين } قال الزمخشري : بدل من قوله تعالى : { ذَا القربى } [ الحشر : 7 ] والمعطوف عليه ، والذي منع الإبدال من { لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } وما بعد وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عز وجل أخرج رسوله عليه الصلاة والسلام من الفقراء في قوله سبحانه : { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } وأنه يترفع برسول الله عليه الصلاة والسلام عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل ، وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لفظاً لأن فيه سوء أدب انتهى .
وعنى أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ما ذكر ، قال الإمام : فكأنه قيل : أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين ، وما ذكر من الإبدال من { ذَا القربى } وما بعده مبني على قول الحنفية إنه لا يعطي الغني من ذوي القربى وإنما يعطي الفقير ، ومن يرى كالشافعي أنه يعطي غنيهم كما يعطي فقيرهم خص الإبدال باليتامى وما بعده ، وقيل : يجوز ذلك أيضاً إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقير بفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعط غنياً شيئاً منه ، والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر .
وفي «الكشف» أن { لِلْفُقَرَاء } ليس للقيد بل بياناً للواقع من حال المهاجرين وإثباتاً لمزيد اختصاصهم كأنه قيل : لله وللرسول وللمهاجرين ، وقال ابن عطية : { لِلْفُقَرَاء } الخ بيان لقوله تعالى : { اليتامى * والمساكين وابن السبيل } [ الحشر : 7 ] وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجروراً بها لتبيين أن البدل هو منها ، وقيل : اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى : { كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنياء مِنكُمْ } [ الحشر : 7 ] كأنه قيل : ولكن يكون للفقراء المهاجرين .
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 5538)
(2) - تفسير الألوسي - (ج 20 / ص 424)(1/467)
وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الاحتمال بناءاً على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من الأصحاب { الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم * وأموالهم } حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى الخروج فخرجوا منها ، وهذا وصف باعتبار الغالب ، وقيل : كان هؤلاء مائة رجل { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً } أي طالبين منه تعالى رزقاً في الدنيا ومرضاة في الآخرة ، وصفوا أولاً بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال ، وقيد ذلك ثانياً بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلام { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } عطف على { يَبْتَغُونَ } فهي حال مقدرة أي ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة { أولئك } الموصون بما ذكر من الصفات الجليلة { هُمُ الصادقون } أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله ، ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك ، وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك فيه الاستدلال على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى قد شهد بصدقهم فلا بد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنه صحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عن مثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة ، ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه ، ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الإكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضاً .
--------------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله(1) :
(للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا , وينصرون الله ورسوله , أولئك هم الصادقون) . .
وهي صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين . . أخرجوا إخراجا من ديارهم وأموالهم . أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة . لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله . . . وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) اعتمادهم على الله في فضله ورضوانه . لا ملجأ لهم سواه , ولا جناب لهم إلا حماه . . وهم مع أنهم مطاردون قليلون (ينصرون الله ورسوله) . . بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات وأضيق الأوقات . (أولئك هم الصادقون) . .
الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم , وصدقوها بعملهم . وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه . وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه . وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض ويراها الناس !
--------------------
وفي أضواء البيان (2):
في هذه الآية الكريمة وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة : أنهم { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله } ، وغايتها : وهي { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَه } ، والحكم لهم بأنهم { أولئك هُمُ الصادقون } .
ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين ، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة الأنصار لهم فيه : منها قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ الأنفال : 72 ] ، وقوله تعالى بعدها : { والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } [ الأنفال : 74 ] .
فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس ، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر ، ووصف الفريقين معاً بولاية بعضهم لبعض ، وأثبت لهم معاً حقيقة الإيمان { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } [ الأنفال : 4 ] ، أي الصادقون في إيمانهم فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان .
--------------
وفي التفسير الوسيط (3):
أثنى - سبحانه - على المهاجرين الذين فارقوا أموالهم وعشيرتهم ، من أجل إعلاء كلمته - تعالى - فقال : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصادقون } .
قال الإمام الرازى : اعلم أن هذا بدل من قوله - تعلاى - : { وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . } كأنه قيل : أعنى بأولئك الأربعة ، هؤلاء الفقراء المهاجرين الذين من صفتهم كذا وكذا .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 469)
(2) - أضواء البيان - (ج 8 / ص 190)
(3) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4146)(1/468)
ثم إنه - تعالى - وصفهم بأمور ، أولها : أنهم فقراء ، ثانيها : أنهم مهاجرون وثالثها : أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، يعنى أن الكفار أجبروهم على الخروج . . . ورابعها : أنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، والمراد بالفضل ثواب الجنة ، وبالرضوان : قوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } وخامسها : قوله : { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } أى : بأنفسهم وأموالهم .
وسادسها : قوله : { أولئك هُمُ الصادقون } يعنىأنهم لما هجروا لذَّات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين ، ظهر صدقهم فى دينهم . .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف المهاجرين فى سبيله ، بجملة من المناقب الحميدة . التى استحقوا بسببها الفلاح والفوز برضوان الله .
----------------
وقال الطاهر بن عاشور (1):
بدل مما يصلح أن يكون بدر منه من أسماء الأصناف المتقدمة التي دخلت عليها اللام مباشرة وعطفا قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] بدل بعض من كل.
وأول فائدة في هذا البدل التنبيه على أن ما أفاء الله على المسلمين من أهل القرى المعنية في الآية لا يجري قسمه على ما جرى عليه قسم أموال بني النضير التي اقتصر في قسمها على المهاجرين وثلاثة من الأنصار ورابع منهم، فكأنه قيل: ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل للفقراء منهم لا مطلقا يدخل في ذلك المهاجرون والأنصار والذين آمنوا بعدهم.
وأعيد اللام مع البدل لربطه بالمبدل منه لانفصال ما بينهما بطول الكلام من تعليل وتذييل وتحذير. ولإفادة التأكيد.
وكثير ما يقترن البدل العامل في المبدل منه على وجه التأكيد اللفظي، وتقدم في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} في سورة العقود[114]. فبقى احتمال أن يكون قيدا {لِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]، فيتعين أن يكون قوله {للفقراء} إلى آخره مسوقا لتقييد استحقاق هؤلاء الأصناف وشأن القيود الواردة بعد مفردات أن ترجع إلى جميع ما قبلها، فيقتضي هذا أن يشترط الفقر في كل صنف من هذه الأصناف الأربعة، لأن مطلقها قد قيد بقيد عقب إطلاق، والكلام بأواخره فليس يجري الاختلاف في حمل المطلق على المقيد، ولا تجري الصور الأربعة في حمل المطلق على المفيد من اتحاد حكمهما وجنسهما. ولذلك قال مالك وأبو حنيفة: لا يعطي ذوو القربى إلا إذا كانوا فقراء لأنه عوض لهم عما حرموه من الزكاة. وقال الشافعي وكثير من الفقهاء: يشترط الفقر فيما عدا ذوي القربى لأنه حق لهم لأجل القرابة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال إمام الحرمين: أغلظ الشافعي الرد على مذهب أبي حنيفة بأن الله علق الاستحقاق بالقرابة ولم يشترط الحاجة، فاشتراطها وعدم اعتبار القرابة يضاره ويحاده.
قلت: هذا محل النزاع فإن الله ذكر وصف اليتامى ووصف ابن السبيل ولم يشترط الحاجة.
واعتذر إمام الحرمين للحنفية بأن الصدقات لما حرمت على ذوي القربى كانت فائدة وذكرهم في خمس الفيء والمغانم أنه لا يمنع صرفه إليهم امتناع صرف الصدقات، ثم قال: لا تغتر بالاعتذار فإن الآية نص على ثبوت الاستحقاق تشريفا اهم فمن علله بالحاجاة فوت هذا المعنى اهـ.
وعند التأمل تجد أن هذا الرد مدخول، والبحث فيه يطول. ومحله مسائل الفقه والأصول.
ومن العلماء والمفسرين من جعل جملة {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} ابتدائية على حذف المبتدأ. والتقدير ما أفاء الله على رسوله للمهاجرين الفقراء إلى آخر ما عطف عليه فتكون هذه مصارف أخرى للفيء، ومنهم من جعلها بحذف حرف العطف على طريقة التعداد كأنه قيل: فلله وللرسول، إلى آخره، ثم قيل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} . فعلى هذين القولين ينتفي كونها قيد للجملة التي قبلها، وتنفتح طرائف أخرى في حمل المطلق على المقيد، والاختلاف في شروطها الحمل، وهي طرائف واضحة للمتأمل، وعلى الوجه الأول يكون المعول.
ووصف المهاجرين بالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم تنبيها على أن إعطاءهم مراعى جبر ما نكبوا به من ضياع الأموال والديار، ومراعى فيه إخلاصهم الإيمان وأنهم مكررون نصر دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فذيل بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .
واسم الإشارة لتعظيم شأنهم وللتنبيه على أن استحقاقهم وصف الصادقين لأجل ما سبق اسم الإشارة من الصفات وهي أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم وابتغاؤهم فضلا من الله ورضوانا ونصرهم الله ورسوله فإن الأعمال الخالصة فيما عملت لأجله يشهد للإخلاص فيها ما يلحق عاملها من مشاق وأذى وإضرار، فيستطيع أن يخلص منها لو ترك ما عمله لأجلها أو قصر فيه.
وجملة {هُمُ الصَّادِقُونَ} مفيدة القصر لأجل ضمير الفصل وهو قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بالصدق الكامل كأن صدق غيرهم ليس صدقا في جانب صدقهم.
وموقع قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} كموقع قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة[5].
-------------------
وفي الفصول في الأصول (2):
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 28 / ص 78)
(2) - الفصول في الأصول - (ج 3 / ص 69)(1/469)
بَابُ ذِكْرِ وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنَّا فِي تَقْسِيمِ الْوُجُوهِ الَّتِي مِنْهَا تُسْتَدْرَكُ أَحْكَامُ الْحَوَادِثِ فَقُلْنَا : إنَّهَا تُسْتَدْرَكُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ , فَالْحَقُّ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ . وَالْآخَرُ : مَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَائِمٌ يُفْضِي بِالْمُجْتَهِدِ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ . وَإِنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : الْقِيَاسُ . وَالْآخَرُ : الِاجْتِهَادُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ , مِنْ غَيْرِ رَدِّ فَرْعٍ إلَى أَصْلٍ , كَمَا قُلْنَا فِي تَحَرِّي الْقِبْلَةِ وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ , وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ , وَتَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ , وَمَهْرِ الْمِثْلِ , وَنَحْوِهَا . وَالثَّالِثُ : الِاسْتِدْلَال عَلَى الْحُكْمِ بِالْأُصُولِ , وَقَدْ بَيَّنَّا مَعَانِيَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَكَيْفِيَّتَهُمَا . وَنَذْكُرُ الْآنَ الْوَجْهَ الثَّالِثَ , وَطُرُقَهُ , وَوُجُوهَهُ مُخْتَلِفَةً , إلَّا أَنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جُمْلَتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَعْتَبِرُهُ . فَمِنْهَا : قوله تعالى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ * فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحَيْضُ , لِأَنَّهُ نَقَلَهَا إلَى الشُّهُورِ عِنْدَ عَدَمِهِ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا * , وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ * فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ يَمْلِكُونَ عَلَيْنَا مَا يَغْلِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِنَا , لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْفَقْرِ بَعْدَ إخْبَارِهِ بِكَوْنِهِمْ ذَوِي أَمْوَالٍ قَبْلَ إخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَلَبَتِهِمْ عَلَيْهَا , لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي مِلْكِهِمْ بَعْدَ غَلَبَتِهِمْ عَلَيْهَا لَمَا كَانُوا فُقَرَاءَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ ؟ * حِينَ قِيلَ لَهُ : أَلَا تَنْزِلُ دَارَك ؟ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَحْتَجُّ لِنَجَاسَةِ { سُؤْرِ الْكَلْبِ , بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ سُؤْرِهِ * , وَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ غَسْلُ الْأَوَانِي تَعَبُّدًا مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ , إذْ لَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَصْلًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ يُغْسَلُ سَبْعًا * قَدْ دَلَّ عَلَى النَّجَاسَةِ , لِأَنَّ اسْمَ التَّطَهُّرِ فِي الْأُصُولِ لَا يُطْلَقُ ( فِي الْأَوَانِي إلَّا مِنْ ) النَّجَاسَةِ . وَمِنْ دَلَائِلِ الْأُصُولِ : مَا كَانَ يَقُولُ فِي أَنَّ كُفْرَ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِهَا لَمَنَعَ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ , كَالْوَثَنِيَّةِ , وَالْمَجُوسِيَّةِ , وَالْمُرْتَدَّةِ , إذْ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ , وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى ( فِي ) نَفْسِ الْمَوْطُوءَةِ . وَنَحْوُ : إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ لِفِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ أُلْحِقَ بِهِ مَا كَانَ فِي بَابِهِ , وَاعْتُبِرَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ , كَمَا نَقُولُ : لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مُدْرِكَ الْإِمَامِ فِي أَكْثَرِ أَفْعَالِ الرَّكْعَةِ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ , وَجَازَ لَهُ الِاعْتِدَادُ بِهَا , وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا , وَمُدْرِكَهُ فِي أَقَلِّ أَفْعَالِهَا غَيْرُ مُدْرِكٍ لَهَا , دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَرَ عَنْهُ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ : أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَإِنْ نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ عَلَيْهَا : أَنَّهَا مَاضِيَةٌ , وَإِنْ أَتَى بِأَكْثَرِ أَفْعَالِهَا . كَمَا أَنَّ مُدْرِكَ الْإِمَامِ فِي أَكْثَرِ أَفْعَالِ الرَّكْعَةِ يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِدَادُ بِهَا . كَمَا قَالُوا فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا إذَا عَقَدَهَا بِسَجْدَةٍ : إنَّهُ يَعْتَدُّ بِهَا , وَيَبْنِي عَلَيْهَا السَّادِسَةَ , وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَقَلِّ حُكْمٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ . فَجَعَلُوا الْحُكْمَ لِأَكْثَرِ أَفْعَالِ الرَّكْعَةِ , اسْتِدْلَالًا بِمُدْرِكِ الْإِمَامِ فِي أَكْثَرِ أَفْعَالِهَا . وَجَعَلُوا الْأَقَلَّ كَالْكُلِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ خَاصَّةً(1/470)
دُونَ غَيْرِهِ , لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي بَابِ الْجَوَازِ وَإِنَّمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرْنَا عَلَى حُكْمِ الِاعْتِدَادِ بِالرَّكْعَةِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَجَعَلُوا أَكْثَرَ الطَّوَافِ قَائِمًا مَقَامَ الْكُلِّ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ , اسْتِدْلَالًا بِقِيَامِ أَكْثَرِ أَرْكَانِ الْحَجِّ مَقَامَ جَمِيعِهَا فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ , وَلَمْ يَرُدُّوهُ إلَى أَصْلٍ , وَلَا رَدُّوا الصَّلَاةَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ , لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مِنْ بَابِهِ دُونَ غَيْرِهِ . وَنَحْوُ قَوْلِنَا : إنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ مِنْ الْجَمْعِ مَا يَمْنَعُهُ نَفْسُ النِّكَاحِ , بِدَلَالَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ , كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ , ثُمَّ كَانَ حَالُ عِدَّتِهَا فِي بَابِ الْمَنْعِ مِنْ جَمْعِ زَوْجٍ آخَرَ إلَيْهِ , كَحَالِ بَقَاءِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ عِدَّتِهَا فِي بَابِ مَنْعِ الزَّوْجِ تَزْوِيجَ أُخْتِهَا بِمَنْزِلَةِ حَالِ بَقَاءِ عَقْدِهَا . فَهَذَا وَنَظَائِرُهُ ضُرُوبٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِلَّةٍ , وَلَا قِيَاسَ يَكْتَفِي فِيهِ بِذِكْرِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْ الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى الْحُكْمِ , وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ بِالْأُصُولِ وَقَدْ يُمْكِنُ فِي أَكْثَرِهَا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ بِعِلَّةٍ يُجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَصْلِ , وَيَكُونُ أَقْطَعَ لِلشَّغَبِ . وَالِاكْتِفَاءُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ سَائِغٌ , وَإِنْ خَالَفَك فِيهِ مُخَالِفٌ طَالَبَك بِحَمْلِهِ عَلَى مَحْضِ الْقِيَاسِ , كَانَ لَك أَنْ ( لَا ) تُجِيبَهُ إلَيْهِ , وَتَقُولَ : إنَّ هَذَا عِنْدِي جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ ( وَضَرْبٌ مِنْ ) ضُرُوبِ الِاجْتِهَادِ , فَإِنْ خَالَفْتنِي فِيهِ فَلْيَكُنْ الْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ , وَيَكُونُ فِي الِاشْتِغَالِ بِتَصْحِيحِهِ خُرُوجٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا . وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ , إنَّمَا هُوَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْأُصُولِ , فَأَمَّا مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ مِنْ دَلَائِلِ الْخِطَابِ , فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ , لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى قِيَاسٍ وَلَا غَيْرِهِ . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
-------------------
وفي المحلى(1) :
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 4 / ص 9) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 1909)(1/471)
مَسْأَلَةٌ : الْفُقَرَاءُ هُمْ الَّذِينَ لَا شَيْءَ لَهُمْ أَصْلًا . وَالْمَسَاكِينُ : هُمْ الَّذِينَ لَهُمْ شَيْءٌ لَا يَقُومُ بِهِمْ . بُرْهَانُ ذَلِكَ - : أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مُوسِرٌ , أَوْ غَنِيٌّ , أَوْ فَقِيرٌ , أَوْ مِسْكِينٌ , فِي الْأَسْمَاءِ . وَمَنْ لَهُ فَضْلٌ عَنْ قُوتِهِ . وَمَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ شَيْءٌ . وَمَنْ لَهُ مَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ مِنْهُ . وَمَنْ لَا شَيْءَ لَهُ فَهَذِهِ مَرَاتِبُ أَرْبَعٌ مَعْلُومَةٌ بِالْحِسِّ . فَالْمُوسِرُ بِلَا خِلَافٍ : هُوَ الَّذِي يَفْضُلُ مَالُهُ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ عَلَى السَّعَةِ . وَالْغَنِيُّ : هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَفْضُلُ عَنْهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ فِي غِنًى عَنْ غَيْرِهِ . وَكُلُّ مُوسِرٍ غَنِيٌّ , وَلَيْسَ كُلُّ غَنِيٍّ مُوسِرًا - : فَإِنْ قِيلَ : لِمَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْمِسْكِينِ , وَالْفَقِيرِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي شَيْئَيْنِ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا : إنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ , إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ضَرُورَةِ حِسٍّ ; فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ * سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَسَاكِينَ وَلَهُمْ سَفِينَةٌ ; وَلَوْ كَانَتْ تَقُومُ بِهِمْ لَكَانُوا أَغْنِيَاءَ بِلَا خِلَافٍ . فَصَحَّ اسْمُ الْمِسْكِينِ بِالنَّصِّ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ . وَبَقِيَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ : وَهُوَ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ أَصْلًا ; وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ إلَّا الْفَقِيرُ , فَوَجَبَ ضَرُورَةً أَنَّهُ ذَاكَ . وَرُوِّينَا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ثنا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الْأَكْلَةُ وَالْأَكْلَتَانِ , وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ , قَالُوا : فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى , وَلَا يَفْطِنُ لِحَاجَتِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَصَحَّ أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى إلَّا أَنَّ لَهُ شَيْئًا لَا يَقُومُ لَهُ , فَهُوَ يَصْبِرُ وَيَنْطَوِي , وَهُوَ مُحْتَاجٌ وَلَا يَسْأَلُ . وَقَالَ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ * فَصَحَّ أَنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ أَصْلًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ أَمْوَالِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ * . قُلْنَا : صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ يَلْبَسُ الْمَرْءُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ إزَارًا وَرِدَاءً خَلِقَيْنِ غَسِيلَيْنِ لَا يُسَاوِيَانِ دِرْهَمًا , فَمَنْ رَآهُ كَذَلِكَ ظَنَّهُ غَنِيًّا , وَلَا يُعَدُّ مَالًا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِمَّا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ , إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ - وَذَكَرُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ : أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدُ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ عِيَالِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ , وَإِنَّمَا صَارَ فَقِيرًا إذَا لَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدٌ , وَهُوَ قَوْلُنَا ؟ وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا : هُمْ الْعُمَّالُ الْخَارِجُونَ مِنْ عِنْدِ الْإِمَامِ الْوَاجِبَةِ طَاعَتُهُ , وَهُمْ الْمُصَدِّقُونَ , السُّعَاةُ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ : أَنَا عَامِلٌ عَامِلًا , وَقَدْ قَالَ عليه السلام : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ * فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْإِمَامُ الْوَاجِبَةُ طَاعَتُهُ فَلَيْسَ مِنْ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ; وَلَا يُجْزِئُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ , وَهِيَ مَظْلِمَةٌ , إلَّا أَنْ يَكُونَ يَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا , فَتُجْزِئُ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهَا قَدْ وَصَلَتْ إلَى أَهْلِهَا . وَأَمَّا عَامِلُ الْإِمَامِ الْوَاجِبَةِ طَاعَتُهُ فَنَحْنُ(1/472)
مَأْمُورُونَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ; وَلَيْسَ عَلَيْنَا مَا يَفْعَلُ فِيهَا ; لِأَنَّهُ وَكِيلٌ , كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ وَلَا فَرْقَ , وَكَوَكِيلِ الْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ . وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ : هُمْ قَوْمٌ لَهُمْ قُوَّةٌ لَا يُوثَقُ بِنَصِيحَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَلَّفُونَ بِأَنْ يُعْطَوْا مِنْ الصَّدَقَاتِ , وَمِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ وَالرِّقَابُ : هُمْ الْمُكَاتَبُونَ , وَالْعُتَقَاءُ ; فَجَائِزٌ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ الزَّكَاةِ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُعْطَى مِنْهَا الْمُكَاتَبُ . وَقَوْلُ غَيْرِهِ : يُعْطَى مِنْهَا مَا يُتِمُّ بِهِ كِتَابَتَهُ . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَانِ قَوْلَانِ لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِمَا ؟ وَبِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيُّ ؟ وَجَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا مُكَاتَبُ الْهَاشِمِيِّ , وَالْمُطَّلِبِيِّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمَا , وَلَا مَوْلًى لَهُمَا مَا لَمْ يُعْتَقْ كُلُّهُ ؟ وَإِنْ أَعْتَقَ الْإِمَامُ مِنْ الزَّكَاةِ رِقَابًا فَوَلَاؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهَا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ مَالٍ بَاقٍ فِي مِلْكِ الْمُعْطِي الزَّكَاةَ . فَإِنْ أَعْتَقَ الْمَرْءُ مِنْ زَكَاةِ نَفْسِهِ فَوَلَاؤُهَا لَهُ ; لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِنْ مَالِهِ , وَعَبْدِ نَفْسِهِ ; وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام : { إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ * وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ . وَرُوِّينَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَعْتِقْ مِنْ زَكَاتِك . فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ إنْ مَاتَ رَجَعَ مِيرَاثُهُ إلَى سَيِّدِهِ . قُلْنَا : نَعَمْ هَذَا حَسَنٌ , إذَا بَلَغَتْ الزَّكَاةُ مَحَلَّهَا فَرُجُوعُهَا بِالْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ حَسَنٌ , وَهُمْ يَقُولُونَ فِيمَنْ تَصَدَّقَ مِنْ زَكَاتِهِ عَلَى قَرِيبٍ لَهُ ثُمَّ مَاتَ فَوَجَبَ مِيرَاثُهُ لِلْمُعْطِي : إنَّهُ لَهُ حَلَالٌ , وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَيْنُ زَكَاتِهِ . وَالْغَارِمُونَ : هُمْ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ لَا تَفِي أَمْوَالُهُمْ بِهَا , أَوْ مَنْ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ وَإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِهَا ; فَأَمَّا مَنْ لَهُ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَلَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ غَارِمًا ؟ - : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ مُسَاوَرٍ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هَارُونِ بْنِ رِئَابٍ حَدَّثَنِي كِنَانَةُ بْنُ نُعَيْمٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ قَالَ : { تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ فِيهَا ؟ فَقَالَ : أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرُ لَكَ بِهَا يَا قَبِيصَةُ إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ , أَوْ قَالَ : سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ * وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ فَهُوَ الْجِهَادُ بِحَقٍّ . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ ثنا ابْنُ السُّلَيْمِ ثنا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ثنا أَبُو دَاوُد ثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثنا مَعْمَرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ : لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا , أَوْ لِغَارِمٍ , أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ , أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ * . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ غَيْرِ مَعْمَرٍ فَأَوْقَفَهُ بَعْضُهُمْ , وَنَقَصَ بَعْضُهُمْ مِمَّا ذَكَرَ فِيهِ مَعْمَرٌ , وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ لَا يَحِلُّ تَرْكُهَا ؟ فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ . وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا فِي الْحَجِّ . قُلْنَا : نَعَمْ , وَكُلُّ فِعْلِ خَيْرٍ فَهُوَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى , إلَّا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ كُلَّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ , فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوضَعَ إلَّا حَيْثُ بَيَّنَ النَّصُّ , وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَابْنُ السَّبِيلِ : هُوَ مَنْ خَرَجَ فِي مَعْصِيَةٍ فَاحْتَاجَ ؟ وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : ثنا أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حَسَّانَ عَنْ(1/473)
مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ فِي الْحَجِّ وَأَنْ يُعْتِقَ مِنْهَا النَّسَمَةَ ؟ وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الشَّافِعِيُّونَ , وَالْمَالِكِيُّونَ , وَالْحَنَفِيُّونَ : صَاحِبًا , لَا يُعْرَفُ مِنْهُمْ لَهُ مُخَالِفٌ .
937 - مَسْأَلَةٌ (1): وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ فَسَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ , ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ لَمْ يَخْرُجَ , أَوْ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ , كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ . وَجَمِيعُ مَالِهِ الَّذِي مَعَهُ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ ; أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ , أَوْ الَّذِي تَرَكَ وَرَاءَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ عَقَارٍ , أَوْ دَارٍ , أَوْ أَرْضٍ , أَوْ حَيَوَانٍ , أَوْ نَاضٍّ ; أَوْ مَتَاعٍ فِي مَنْزِلِهِ , أَوْ مُودَعًا , أَوْ كَانَ دَيْنًا : هُوَ كُلُّهُ لَهُ , لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ , وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ إنْ غَنِمُوهُ أَوْ افْتَتَحُوا تِلْكَ الْأَرْضَ . وَمَنْ غَصَبَهُ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ حَرْبِيٍّ , أَوْ مُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ : رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ وَيَرِثُهُ وَرَثَتُهُ إنْ مَاتَ , وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ مُسْلِمُونَ أَحْرَارٌ - وَكَذَلِكَ الَّذِي فِي بَطْنِ امْرَأَتِهِ . وَأَمَّا امْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَفَيْءٌ إنْ سُبُوا وَهُوَ بَاقٍ عَلَى نِكَاحِهِ مَعَهَا , وَهِيَ رَقِيقٌ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ سَهْمَهُ . بُرْهَانُ ذَلِكَ - أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فَهُوَ بِلَا شَكٍّ , وَبِلَا خِلَافٍ , وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ : مُسْلِمٌ ; وَإِذْ هُوَ مُسْلِمٌ , فَهُوَ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ - وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ * , فَصَحَّ أَنَّ دَمَهُ , وَبَشَرَتَهُ , وَعِرْضَهُ , وَمَالَهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ سِوَاهُ , وَنِكَاحُ أَهْلِ الْكُفْرِ صَحِيحٌ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّهُمْ عَلَى نِكَاحِهِمْ , وَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمَا أَقَرَّهُ , وَمِنْهُ خُلِقَ عليه السلام , وَلَمْ يُخْلَقْ إلَّا مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ , فَهُمَا بَاقِيَانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا لَا يَفْسُدُ شَيْءٌ , وَلَا غَيْرُهُ إلَّا مَا جَاءَ فِيهِ النَّصُّ بِفَسَادِهِ . وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لَا يُنَازِعُونَنَا فِي أَنَّ دَمَهُ , وَعِرْضَهُ , وَبَشَرَتَهُ , حَرَامٌ - ثُمَّ يَضْطَرِبُونَ فِي أَمْرِ مَالِهِ , وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا وَقَوْلُنَا هَذَا كُلُّهُ هُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ هُنَاكَ حَتَّى تَغَلَّبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ حُرٌّ , وَأَمْوَالُهُ كُلُّهَا لَهُ , لَا يُغْنَمُ مِنْهَا شَيْئًا , وَلَا مِمَّا كَانَ لَهُ وَدِيعَةً عِنْدَ مُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ , وَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ مُسْلِمُونَ أَحْرَارٌ , حَاشَا أَرْضَهُ - وَحَمْلَ امْرَأَتِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ غَنِيمَةٌ وَفَيْءٌ وَيَكُونُ الْجَنِينُ مَعَ ذَلِكَ مُسْلِمًا . وَأَمَّا امْرَأَتُهُ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَفَيْءٌ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَأَرْضُهُ لَهُ أَيْضًا . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَوْلَادُهُ الصِّغَارُ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا يُغْنَمُونَ , وَكُلُّ مَا أَوْدَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ فَلَهُ , وَلَا يُغْنَمُ - وَأَمَّا سَائِرُ مَا تَرَكَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ مِنْ أَرْضٍ , أَوْ عَقَارٍ , أَوْ أَثَاثٍ , أَوْ حَيَوَانٍ فَفَيْءٌ مَغْنُومٌ - وَكَذَلِكَ حَمْلُ امْرَأَتِهِ , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ . فَإِنْ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَافِرًا , ثُمَّ أَسْلَمَ فِيهَا فَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ - وَأَمَّا كُلُّ مَا تَرَكَ مِنْ أَرْضٍ , أَوْ عَقَارٍ , أَوْ مَتَاعٍ , أَوْ حَيَوَانٍ , أَوْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَفَيْءٌ مَغْنُومٌ , وَلَا يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَوْ قِيلَ لِإِنْسَانٍ أَسْخِفْ وَاجْتَهِدْ مَا قَدَرَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا , وَلَا تُعْرَفُ هَذِهِ التَّقَاسِيمُ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَهُ , وَمَا تَعَلُّقَ فِيهَا لَا بِقُرْآنٍ , وَلَا بِسُنَّةٍ , وَلَا بِرِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ , وَلَا بِقَوْلِ صَاحِبٍ , وَلَا تَابِعٍ , وَلَا بِقِيَاسٍ , وَلَا بِرَأْيٍ يُعْقَلُ , وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ ; بَلْ هُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ , وَالسُّنَنِ
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 5 / ص 169) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 2624)(1/474)
: فِي إبَاحَتِهِ مَالَ الْمُسْلِمِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ لِلْغَنِيمَةِ بِالْبَاطِلِ , وَخِلَافُ الْمَعْقُولِ , إذْ صَارَ عِنْدَهُ فِرَارُهُ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ بِنَفْسِهِ وَإِسْلَامُهُ فِيهَا : ذَنْبًا عَظِيمًا يَسْتَحِقُّ بِهِ مِنْهُ إبَاحَةَ صِغَارِ أَوْلَادِهِ لِلْإِسَارِ وَالْكُفْرِ , وَإِبَاحَةَ جَمِيعِ مَالِهِ لِلْغَنِيمَةِ , هَذَا جَزَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَجَعَلَ بَقَاءَهُ فِي دَارِ الْكُفْرِ خُصْلَةً حَرَّمَ بِهَا أَمْوَالَهُ كُلَّهَا حَاشَا أَرْضَهُ , وَحَرَّمَ بِهَا صِغَارَ أَوْلَادِهِ حَاشَا الْجَنِينِ , هَذَا مَعَ إبَاحَتِهِ لِلْكُفَّارِ وَالْحَرْبِيِّينَ : تَمَلُّكَ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَدَّمْنَا قَبْلُ , وَتَحْرِيمِهِ ضَرْبَهُمْ وَقَتْلَهُمْ إنْ أَعْلَنُوا بِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَقْزَعِ السَّبِّ , وَتَكْذِيبِهِ فِي الْأَسْوَاقِ , فَإِنْ قَتَلَ مُسْلِمٌ مِنْهُمْ قَتِيلًا قُتِلَ بِهِ فَكَيْفَ تَرَوْنَ ؟ وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ ; لِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ مُؤْمِنٌ , وَلَا كَافِرٌ , وَلَا جَاهِلٌ , وَلَا عَالَمٌ فِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا أَطْوَارًا . فَطَائِفَةٌ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ , ثُمَّ فَرُّوا عَنْهَا بِأَدْيَانِهِمْ : كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ , وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم . وَطَائِفَةٌ خَرَجُوا كُفَّارًا , ثُمَّ أَسْلَمُوا : كَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَسْلَمَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ , وَأَبِي سُفْيَانَ أَسْلَمَ فِي عَسْكَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَطَائِفَةٌ أَسْلَمُوا وَبَقُوا بِمَكَّةَ كَجَمِيعِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ النِّسَاءِ , وَغَيْرِهِمْ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ * إلَى قَوْلِهِ : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * وَكُلُّ هَؤُلَاءِ إذْ فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ رَجَعَ الْخَارِجُ إلَى دَارِهِ , وَعَقَارِهِ وَضِيَاعِهِمْ بِالطَّائِفِ وَغَيْرِهَا , وَبَقِيَ الْمُسْتَضْعَفُ فِي دَارِهِ وَعَقَارِهِ وَأَثَاثِهِ كَذَلِكَ , فَأَيْنَ يَذْهَبُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَوْ نَصَحُوا أَنْفُسَهُمْ ؟ وَأَتَى بَعْضُهُمْ هَاهُنَا بِآبِدَةٍ هِيَ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ * وَذَكَر مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الْمِصْرِيِّ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ : مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِتَالِ فَهُوَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَهُ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ , وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْقِتَالِ , أَوْ الْهَزِيمَةِ فَمَالُهُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ , لِأَنَّهُمْ قَدْ أَحْرَزُوهُ قَبْلَ إسْلَامِهِ , قَالَ : فَسَمَّاهُمْ تَعَالَى فُقَرَاءَ , فَصَحَّ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ قَدْ مَلَكَهَا الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرْدَعَهُ الْحَيَاءُ عَنْ هَذِهِ الْمُجَاهَرَةِ الْقَبِيحَةِ وَأَيُّ إشَارَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَى مَا قَالَ ؟ بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى كَذِبِهِ فِي قَوْلِهِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَبْقَى أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ فِي مِلْكِهِمْ , بِأَنْ نَسَبَهَا إلَيْهِمْ , وَجَعَلَهَا لَهُمْ , وَعَظَّمَ بِالْإِنْكَارِ إخْرَاجَهُمْ ظُلْمًا مِنْهَا - وَنَعَمْ , هُمْ فُقَرَاءُ بِلَا شَكٍّ ; إذْ لَا يَجِدُونَ غِنًى . وَهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ , أَوْ الْمَشْرِقِ لَوْ حَجَّ فَفَرَغَ مَا فِي يَدِهِ بِمَكَّةَ أَوْ بِالْمَدِينَةِ , وَلَهُ فِي بِلَادِهِ ضِيَاعٌ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ , وَأَثَاثٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ ; وَهُوَ حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَرْضٍ , وَلَا عَلَى ابْتِيَاعٍ , وَلَا بَيْعٍ فَإِنَّهُ فَقِيرٌ تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ , وَمَالُهُ فِي بِلَادِهِ مُنْطَلِقَةٌ عَلَيْهِ يَدُهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ فِتْنَةٌ , أَوْ غَصْبٌ , وَلَا فَرْقَ , وَلَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَةُ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُغْتَرِّينَ بِهِمْ مِنْهُمْ - وَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَانَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ .(1/475)
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فَسَاقِطَةٌ ; لِأَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ - لَمْ يُولَدْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ رضي الله عنه بِدَهْرٍ طَوِيلٍ - وَفِيهَا : ابْنُ لَهِيعَةَ , وَهُوَ لَا شَيْءَ . ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا مُتَعَلَّقٌ ; بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِنَا وَخِلَافٌ لِقَوْلِهِمْ لِأَنَّ نَصَّهَا , مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِتَالِ فَهُوَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ , فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّ مَالَهُ كُلَّهُ حَيْثُ كَانَ لَهُ كَمَا كَانَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ; ثُمَّ فِيهَا إنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْقِتَالِ , أَوْ الْهَزِيمَةِ فَمَالُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ , لِأَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَهُ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ إسْلَامِهِ - فَهَذَا قَوْلُنَا ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَالُهُ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ ; فَاعْجَبُوا لِتَمْوِيهِهِمْ وَتَدْلِيسِهِمْ بِمَا هُوَ عَلَيْهِمْ لِيُضِلُّوا بِهِ مِنْ اغْتَرَّ بِهِمْ
------------------
وقال ابن العربي(1) :
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 2 / ص 404)(1/476)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قوله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ * : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : رُدُّوهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ , فَإِذَا لَمْ تَجِدُوهُ فَإِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَكَمَا قَالَ عَلِيٌّ : مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ , أَوْ فَهْمٌ أُوتِيهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ , وَكَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ : بِمَ تَحْكُمُ ؟ قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ . قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي , وَلَا آلُو . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ * . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يَصِحُّ . قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ " شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " وَكِتَابِ " نَوَاهِي الدَّوَاهِي " صِحَّتَهُ , وَأَخَذَ الْخُلَفَاءُ كُلُّهُمْ بِذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِلْأَنْصَارِ : إنَّ اللَّهَ جَعَلَكُمْ الْمُفْلِحِينَ , وَسَمَّانَا الصَّادِقِينَ ; فَقَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ * إلَى قوله تعالى : { أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * . ثُمَّ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ * إلَى قَوْلِهِ : { فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * . وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا , فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * . { وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا * . وَلَوْ كَانَ لَكُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا أَوْصَى بِكُمْ " . وَقَالَ لَهُ عُمَرُ حِينَ ارْتَدَّ مَانِعُوا الزَّكَاةِ : خُذْ مِنْهُمْ الصَّلَاةَ وَدَعْ الزَّكَاةَ . فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ ; فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَالصَّلَاةَ حَقُّ الْبَدَنِ . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِدِينِنَا . وَجَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إلَيْهِ فَقَالَ لَهَا : لَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ السُّدُسُ ; فَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا , فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ بَيْنَكُمَا . وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { قَضَى بِالسُّدُسِ لِلْجَدَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ * ; فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا جَمَعَ الصَّحَابَةَ فِي أَمْرِ الْوَبَاءِ بِالشَّامِ فَتَكَلَّمُوا مَعَهُ بِأَجْمَعِهِمْ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ , مَا ذَكَرُوا فِي طَلَبِهِمْ الْحَقَّ فِي مَسْأَلَتِهِمْ لِلَّهِ كَلِمَةً وَلَا لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم حَرْفًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ , وَأَفْتَوْا وَحَكَمَ عُمَرُ , وَنَازَعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ , فَقَالَ لَهُ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَكَ إبِلٌ فَهَبَطْت بِهَا وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ : إحْدَاهَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ ; أَلَيْسَ إنْ رَعَيْت الْخِصْبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ , وَإِنْ رَعَيْت الْجَدْبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ , فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِنَفْسِهِ بِالرَّعْيِ وَالنَّاسِ بِالْإِبِلِ , وَالْأَرْضِ الْوَبِئَةِ بِالْعُدْوَةِ الْجَدْبَةِ , وَالْأَرْضِ السَّلِيمَةِ بِالْعُدْوَةِ الْخِصْبَةِ , وَلِاخْتِيَارِ السَّلَامَةِ بِاخْتِيَارِ الْخِصْبِ ; فَأَيْنَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا كُلِّهِ ؟ أَيُقَالُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَمْ يَقُولَا , فَذَلِكَ كُفْرٌ , أَمْ يُقَالُ : دَعْ هَذَا فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ , فَذَلِكَ كُفْرٌ , وَلَكِنْ تُضْرَبُ الْأَمْثَالِ وَيُطْلَبُ الْمِثَالُ حَتَّى يَخْرُجَ الصَّوَابُ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : وَذَلِكَ قوله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ * . وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَصْحَابُهُ حِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا مَوْضِعَ بَرَاءَةٍ , وَإِنَّ قِصَّتَهَا لَتُشْبِهُ قِصَّةَ الْأَنْفَالِ , فَنَرَى أَنْ نَكْتُبَهَا مَعَهَا وَلَا نَكْتُبُ بَيْنَهَا سَطْرَ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * . فَأَثْبَتُوا مَوْضِعَ(1/477)
الْقُرْآنِ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ . وَقَالَ عَلِيٌّ : نَرَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا * . وَقَالَ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ * . فَإِذَا فَصَلْتَهُمَا مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا بَقِيَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ . وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : صَوْمُ الْجُنُبِ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ * فَيَقَعُ الِاغْتِسَالُ بَعْدَ الْفَجْرِ , وَقَدْ انْعَقَدَ جُزْءٌ مِنْ الصَّوْمِ وَهُوَ فَاتِحَتُهُ مَعَ الْجَنَابَةِ , وَلَوْ سَرَدْنَا نَبْطَ الصَّحَابَةِ لَتَبَيَّنَ خَطَأُ الْجَهَالَةِ , وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِلْعُلَمَاءِ ; فَإِنْ عَارَضَكُمْ السُّفَهَاءُ فَالْعَجَلَةُ الْعَجَلَةُ إلَى كِتَابِ نَوَاهِي الدَّوَاهِي , فَفِيهِ الشِّفَاءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
---------------
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1) :
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 375)(1/478)
وَذَكَرَ مَصَارِفَ الْفَيْءِ بِقَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ , لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ , وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ , وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ * . فَهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ , وَأَبُو عُبَيْدٍ , وَأَبُو حَكِيمٍ النَّهْرَوَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَغَيْرُهُمْ : أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْفَيْءِ نَصِيبٌ . مِنْ الْفَيْءِ مَا ضَرَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا : كَأَرْضِ مِصْرَ , وَأَرْضِ الْعِرَاقِ , إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا مِنْهَا , وَبَرِّ الشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا الْفَيْءُ لَا خُمُسَ فِيهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَأَحْمَدَ , وَإِنَّمَا يَرَى تَخْمِيسَهُ الشَّافِعِيُّ , وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فِي الْفَيْءِ خُمُسًا كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ , وَهَذَا الْفَيْءُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَانَ مِلْكًا لَهُ . وَأَمَّا مَصْرِفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ الْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ , فَإِنَّ تَقْوِيَتَهُمْ تَذِلُّ الْكُفَّارَ , فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْفَيْءُ , وَتَنَازَعُوا هَلْ يُصْرَفُ فِي سَائِرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ تَخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ , عَلَى قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ , وَوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ : أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ , بَلْ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ كُلِّهَا , وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ : يُعْطَى مَنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ لِأَهْلِ الْفَيْءِ . فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ . وَهُوَ مَنْ بَلَغَ وَيُحْصِي الذُّرِّيَّةَ وَهِيَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ , وَالنِّسَاءَ إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ يُعْطِي الْمُقَاتِلَةَ فِي كُلِّ عَامٍ عَطَاءَهُمْ , وَيُعْطِي الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ مَا يَكْفِيهِمْ لِسَنَتِهِمْ , قَالَ : وَالْعَطَاءُ مِنْ الْفَيْءِ لَا يَكُونُ إلَّا لِبَالِغٍ يُطِيقُ الْقِتَالَ , قَالَ : وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِمَّنْ لَقِيَهُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ , وَلَا لِلْأَعْرَابِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ . قَالَ : فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْفَيْءِ شَيْءٌ وَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي أَهْلِ الْحُصُونِ وَالِازْدِيَادِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ , وَكُلُّ مَا يَقْوَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ , فَإِنْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ وَحَصَلَتْ كُلُّ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ , فَرْقُ مَا يَبْقَى عَنْهُمْ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ . قَالَ : وَيُعْطَى مِنْ الْفَيْءِ رِزْقُ الْعُمَّالِ وَالْوُلَاةِ وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ الْفَيْءِ مِنْ وَالٍ , وَحَاكِمٍ , وَكَاتِبٍ , وَجُنْدِيٍّ مِمَّنْ لَا غِنَى لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُ . وَهَذَا مُشْكِلٌ مَعَ قَوْلِهِ إنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ الْفَيْءِ صَبِيٌّ , وَلَا مَجْنُونٌ , وَلَا عَبْدٌ , وَلَا امْرَأَةٌ , وَلَا ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ ; لِأَنَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ . وَهَذَا إذَا كَانَ(1/479)
لِلْمَصَالِحِ فَيَنْصَرِفُ مِنْهُ إلَى كُلِّ مَنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ : كَالْمُجَاهِدِينَ , وَكَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْحَرْبِ , وَوُلَاةِ الدِّيوَانِ , وَوُلَاةِ الْحُكْمِ , وَمَنْ يُقْرِئُهُمْ الْقُرْآنَ , وَيُفْتِيهِمْ , وَيُحَدِّثُهُمْ , وَيَؤُمُّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ , وَيُؤَذِّنُ لَهُمْ . وَيُصْرَفُ مِنْهُ فِي سَدَادِ ثُغُورِهِمْ , وَعِمَارَةِ طُرُقَاتِهِمْ , وَحُصُونِهِمْ , وَيُصْرَفُ مِنْهُ إلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْهُمْ أَيْضًا , وَيَبْدَأُ فِيهِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ , فَيَتَقَدَّمُ ذَوُو الْمَنَافِعِ الَّذِينَ يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ , هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَغَيْرِهِمْ . قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ مَا يُعَدُّ بِهَا الثُّغُورُ مِنْ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ , وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ مَا يَكْفِيهِمْ , وَيُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ , وَذُو الْحَاجَاتِ يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَوَاتِ وَنَحْوِهَا , وَمَا فَضَلَ عَنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ قُسِمَ بَيْنَهُمْ , لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ فِيهِ حَقٌّ , إذَا فَضَلَ الْمَالُ وَاتَّسَعَ عَنْ حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه , لَمَّا كَثُرَ الْمَالُ أَعْطَى مِنْهُمْ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ . فَكَانَ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُسْلِمِينَ فَرْضٌ فِي دِيوَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ , لَكِنْ كَانَ أَهْلُ الدِّيوَانِ نَوْعَيْنِ : مُقَاتِلَةٌ وَهُمْ الْبَالِغُونَ , وَذُرِّيَّةٌ وَهُمْ الصِّغَارُ وَالنِّسَاءُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ , وَمَعَ هَذَا قَالُوا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ . الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ , فَلَا يُعْطَى غَنِيٌّ شَيْئًا حَتَّى يَفْضُلَ عَنْ الْفُقَرَاءِ , هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكٍ , وَأَحْمَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَخْصِيصُ الْفُقَرَاءِ بِالْفَاضِلِ .
-----------------
وقال (1):
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 430)(1/480)
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَ اسْتَقَرَّ إطْلَاقُهُ مِنْ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَإِلَى الْآنِ : مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْمُرَتَّبِ لِلْمُرْتَزَقِينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ . فَمِنْهُمْ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عَائِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ وَكَسْبُهُ لَا يَقُومُ بِكُلْفَتِهِمْ . وَمِنْهُمْ الْمُنْقَطِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ يَتَسَبَّبُ بِهِ [ وَ ] لَا يُحْسِنُ صَنْعَةً يَصْنَعُهَا . وَمِنْهُمْ الْعَاجِزُ عَنْ الْحَرَكَةِ لِكِبَرِ أَوْ ضَعْفٍ . وَمِنْهُمْ الصَّغِيرُ دُونَ الْبَالِغِ وَالنِّسَاءُ الْأَرَامِلُ وَذَوُو الْعَاهَاتِ . وَمِنْهُمْ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمِنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ نَفْعٌ عَامٌّ وَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ نَصِيبٌ . وَمِنْهُمْ أَرْبَابُ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ الْمُتَجَرِّدُونَ لِلْعِبَادَةِ وَتَلَقِّي الْوَارِدِينَ : مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ . وَمِنْهُمْ أَيْتَامُ الْمُسْتَشْهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَوْلَادِ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُخْلِفْ لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَمِمَّنْ يَسْأَلُ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ فَأَحْيَاهَا أَوْ اسْتَصْلَحَ أَحْرَاسًا عَالِيَةً لِتَكُونَ لَهُ مُسْتَمِرَّةً بَعْدَ إصْلَاحِهَا فَاسْتَخْرَجَهَا فِي مُدَّةِ سِنِينَ عَدِيدَةٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ عَلَى جَارِي الْعَوَائِدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ . فَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا مُسَوِّغَةً لَهُمْ تَنَاوُلَ مَا نَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْلَقَهُ لَهُمْ مُلُوكُ الْإِسْلَامِ وَنُوَّابُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَاسْتَقَرَّ بِأَيْدِيهِمْ إلَى الْآنِ أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ يُنْزِلُهُمْ بِعَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَقَرَّبَ إلَى السُّلْطَانِ بِالسَّعْيِ بِقَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ الْمُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ الزَّوَايَا وَمُعْظَمِ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ الَّتِي يَرْتَفِقُ بِهَا أَبْنَاءُ السَّبِيلِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُجَرَّدِينَ وَيَقُومُ بِهَا شِعَارُ الْإِسْلَامِ . هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ آثِمًا عَاصِيًا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُكَلَّفَ هَؤُلَاءِ إثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِهِمْ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ قِبَلِ أُولِي الْأَمْرِ . وَلَوْ كُلِّفُوا ذَلِكَ : فَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتُهُ عِنْدَ حَاكِمٍ بِعَيْنِهِ غَرِيبٍ مِنْ بِلَادِهِمْ مُتَظَاهِرٍ بِمُنَافِرَتِهِمْ مَعَ وُجُودِ عِدَّةٍ مِنْ الْحُكَّامِ غَيْرِهِ فِي بِلَادِهِمْ أَوْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ عَنْ الْإِثْبَاتِ لِضَعْفِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ ؟ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَالُ مِنْ أَنَّ شُهُودَ هَذَا الزَّمَانِ لَا يُؤَدُّونَ شَهَادَةً إلَّا بِأُجْرَةِ تُرْضِيهِمْ وَقَدْ يَعْجِزُ الْفَقِيرُ عَنْ مِثْلِهَا وَكَذَلِكَ النِّسْوَةُ اللَّاتِي لَا يَعْلَمُ الشُّهُودُ أَحْوَالَهُنَّ غَالِبًا . وَإِذَا سَأَلَ الْإِمَامُ حَاكِمًا عَنْ اسْتِحْقَاقِ مَنْ ذُكِرَ . فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ إلَّا الْأَعْمَى وَالْمُكَسَّحَ وَالزَّمِنَ لَا غَيْرُ وَاضْرِبْ عَمًّا سِوَاهُمْ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ . هَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ آثِمًا عَاصِيًا أَمْ لَا ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ؟ وَإِذَا سَأَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ . هَلْ يَسْتَحِقُّ مَنْ هُوَ بِهَا مَا هُوَ مُرَتَّبٌ لَهُمْ . فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَايَا وَالرَّبْطَ دَكَاكِينُ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهِمْ الصُّلَحَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَحَمَلَةُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالْمُنْقَطِعِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . هَلْ يَكُونُ مُؤْذِيًا لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَمَا حُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ الْمُطْلَقِ فِيهِمْ - مَعَ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِجَمِيعِهِمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ إذَا تَبَيَّنَ سُقُوطُهُ وَبُطْلَانُهُ - هَلْ تَسْقُطُ بِذَلِكَ رِوَايَتُهُ وَمَا عَدَاهَا مِنْ أَخْبَارِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ لِلْمَقْذُوفِينَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّعْنِ عَلَيْهِمْ الْمُؤَدِّي عِنْدَ الْمُلُوكِ إلَى قَطْعِ أَرْزَاقِهِمْ وَأَنْ يُكَلَّفُوهُ إثْبَاتُ ذَلِكَ . وَإِذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِهِ فَهَلْ لَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِمُقْتَضَاهُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا عَجَزَ عَنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ هَلْ(1/481)
يَكُونُ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ وَجَرْحِهِ : يَنْعَزِلُ بِهَا عَنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ أَمْ لَا ؟ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ وَهُمْ لَهُ فِي غَايَةِ الْكَرَاهَةِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ بِهِمْ وَقَدْ جَاءَ : { لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ قَوْمًا أَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ } ؟ ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هَذِهِ الْمَسَائِلُ تَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرِ أَصْلٍ جَامِعٍ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدَهُ أَشْيَاءَ : الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتِعْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَقُوَّةٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ لَيْسَ لِأَحَدِ تَغْيِيرُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَنْ خَالَفَهَا ؛ مَنْ اهْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ وَمَنْ اسْتَنْصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ . وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعَمَلُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرَتْكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ } . وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ مُخْتَصَرًا فَنَقُولُ : الْأَمْوَالُ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّتِي يَتَوَلَّى قَسْمَهَا وُلَاةُ الْأَمْرِ ثَلَاثَةٌ : " مَالُ الْمَغَانِمِ " . وَهَذَا لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ ؛ إلَّا الْخُمُسَ فَإِنَّ مَصْرِفَهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ } وَ " الْمَغَانِمُ " مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ . فَهَذِهِ الْمَغَانِمُ وَخُمُسُهَا . وَ " الثَّانِي الْفَيْءُ " . وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْحَشْرِ " حَيْثُ قَالَ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ } أَيْ مَا حَرَّكْتُمْ وَلَا أَعْمَلْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ . يُقَالُ وَجَفَ الْبَعِيرُ يَجِفُ وُجُوفًا وأوجفته : إذَا سَارَ نَوْعًا مِنْ السَّيْرِ . فَهَذَا هُوَ الْفَيْءُ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَهُوَ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقِتَال أَيْ مَا قَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ . فَمَا قَاتَلُوا عَلَيْهِ كَانَ لِلْمُقَاتِلَةِ وَمَا لَمْ يُقَاتِلُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَأَحَلَّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ لِيَأْكُلُوا طَيِّبًا وَيَعْمَلُوا صَالِحًا . وَالْكُفَّارُ عَبَدُوا غَيْرَهُ فَصَارُوا غَيْرَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْمَالِ . فَأَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَأَنْ يَسْتَرِقُّوا أَنْفُسَهُمْ وَأَنْ يَسْتَرْجِعُوا الْأَمْوَالَ مِنْهُمْ . فَإِذَا أَعَادَهَا اللَّهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقَدْ فَاءَتْ أَيْ رَجَعَتْ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا . وَهَذَا الْفَيْءُ يَدْخُلُ فِيهِ جِزْيَةُ الرُّءُوس الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ الْعُشُورِ ؛ وَأَنْصَافِ الْعُشُورِ وَمَا يُصَالَحُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ مِنْ الْمَالِ كَاَلَّذِي يَحْمِلُونَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا جَلَوْا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا " سُورَةَ الْحَشْرِ " وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ(1/482)
دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } { وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ } وَهَؤُلَاءِ أَجْلَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا يَسْكُنُونَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَأَجْلَاهُمْ بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمْ وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ . وَذَكَرَ مَصَارِفَ الْفَيْءِ بِقَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فَهَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَكِيمٍ النهرواني مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : أَنَّ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْفَيْءِ نَصِيبٌ . وَمِنْ الْفَيْءِ مَا ضَرَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَهَا عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْهَا ؛ كَأَرْضِ مِصْرَ وَأَرْضِ الْعِرَاقِ - إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا مِنْهَا - وَبَرِّ الشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذَا الْفَيْءُ لَا خُمُسَ فِيهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد . وَإِنَّمَا يَرَى تَخْمِيسَهُ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد وَذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فِي الْفَيْءِ خُمُسًا كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ . وَهَذَا الْفَيْءُ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَانَ مِلْكًا لَهُ . وَأَمَّا مَصْرِفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ الْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ ؛ فَإِنَّ تَقْوِيَتَهُمْ تُذِلُّ الْكُفَّارَ فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْفَيْءُ . وَتَنَازَعُوا هَلْ يُصْرَفُ فِي سَائِرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ تُخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي مَذْهَبِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ : أَنَّهُ لَا يُخْتَصُّ بِهِ الْمُقَاتِلَةُ ؛ بَلْ يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ كُلِّهَا . وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ : يُعْطَى مَنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ لِأَهْلِ الْفَيْءِ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَهُوَ مَنْ بَلَغَ وَيُحْصِي الذَّرِّيَّةَ وَهِيَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ وَالنِّسَاءَ . إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ يُعْطِي الْمُقَاتِلَةَ فِي كُلِّ عَامٍ عَطَاءَهُمْ وَيُعْطِي الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ مَا يَكْفِيهِمْ لِسَنَتِهِمْ . قَالَ : وَالْعَطَاءُ مِنْ الْفَيْءِ لَا يَكُونُ إلَّا لِبَالِغِ يُطِيقُ الْقِتَالَ . قَالَ : وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِمَّنْ لَقِيَهُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ وَلَا لِلْأَعْرَابِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ . قَالَ : فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْفَيْءِ شَيْءٌ وَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي أَهْلِ الْحُصُونِ وَالِازْدِيَادِ فِي(1/483)
الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَكُلِّ مَا يَقْوَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ . فَإِنْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ وَحَصَلَتْ كُلُّ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ فَرَّقَ مَا يَبْقَى عَنْهُمْ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ . قَالَ : وَيُعْطِي مِنْ الْفَيْءِ رِزْقَ الْعُمَّالِ وَالْوُلَاةِ وَكُلَّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ الْفَيْءِ : مِنْ وَالٍ وَحَاكِمٍ وَكَاتِبٍ وَجُنْدِيٍّ مِمَّنْ لَا غِنَى لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُ . وَهَذَا مُشْكِلٌ مَعَ قَوْلِهِ : إنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ الْفَيْءِ صَبِيٌّ وَلَا مَجْنُونٌ وَلَا عَبْدٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَلَا ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ . وَهَذَا إذَا كَانَ لِلْمَصَالِحِ فَيَصْرِفُ مِنْهُ إلَى كُلِّ مَنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ كَالْمُجَاهِدِينَ وَكَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ : مِنْ وُلَاةِ الْحَرْبِ وَوُلَاةِ الدِّيوَانِ وَوُلَاةِ الْحُكْمِ وَمَنْ يُقْرِئُهُمْ الْقُرْآنَ وَيُفْتِيهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ وَيَؤُمُّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ وَيُؤَذِّنُ لَهُمْ . وَيَصْرِفُ مِنْهُ فِي سَدَادِ ثُغُورِهِمْ وَعِمَارَةِ طُرُقَاتِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَيَصْرِفُ مِنْهُ إلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْهُمْ أَيْضًا وَيَبْدَأُ فِيهِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ : فَيُقَدَّم ذَوُو الْمَنَافِعِ الَّذِينَ يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ . هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَصْرِفُ فِي الْمَصَالِحِ مَا يَسُدُّ بِهِ الثُّغُورَ مِنْ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ وَيُعْطِي قُضَاةَ الْمُسْلِمِينَ مَا يَكْفِيهِمْ وَيَدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ وَذَوُو الْحَاجَاتِ يُعْطُونَ مِنْ الزِّكْوَاتِ وَنَحْوِهَا . وَمَا فَضَلَ عَنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ قُسِمَ بَيْنَهُمْ ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ فِيهِ حَقٌّ إذَا فَضَلَ الْمَالُ وَاتَّسَعَ عَنْ حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَثُرَ الْمَالُ أَعَطَا مِنْهُمْ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُسْلِمِينَ فَرْضٌ فِي دِيوَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ ؛ لَكِنْ كَانَ أَهْلُ الدِّيوَانِ نَوْعَيْنِ : مُقَاتِلَةٌ وَهُمْ الْبَالِغُونَ . وَذَرِّيَّةٌ وَهُمْ الصِّغَارُ وَالنِّسَاءُ الَّذِينَ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَالْوَاجِبُ تَقْدِيمُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ الَّذِينَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ فَلَا يُعْطَى غَنِيٌّ شَيْئًا حَتَّى يَفْضُلَ عَنْ الْفُقَرَاءِ . هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَأَحْمَد فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - كَمَا تَقَدَّمَ - تَخْصِيصُ الْفُقَرَاءِ بِالْفَاضِلِ . وَأَمَّا " الْمَالُ الثَّالِثُ " فَهُوَ الصَّدَقَاتُ الَّتِي هِيَ زَكَاةُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ : زَكَاةُ الْحَرْثِ وَهِيَ الْعُشُورُ وَأَنْصَافُ الْعُشُورِ : الْمَأْخُوذَةُ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ . وَزَكَاةُ الْمَاشِيَةِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ . وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ . وَزَكَاةُ النَّقْدَيْنِ . فَهَذَا الْمَالُ مَصْرِفُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وَفِي السُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَاتِ . فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَاتِ بِقِسْمَةِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرَجَ بِالصَّدَقَاتِ عَنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْأَصْلُ . فَنَذْكُرُ أَصْلًا آخَرَ وَنَقُولُ : أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ هِيَ أَصْنَافٌ : صِنْفٌ مِنْهَا هُوَ مِنْ الْفَيْءِ أَوْ الصَّدَقَاتِ أَوْ الْخُمُسِ . فَهَذَا قَدْ عُرِفَ حُكْمُهُ . وَصِنْفٌ صَارَ إلَى بَيْتِ الْمَالِ بِحَقِّ مِنْ غَيْرِ(1/484)
هَذِهِ . مِثْلَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا وَارِثَ لَهُ . وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ نِزَاعٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَصِنْفٌ قُبِضَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِتَأْوِيلِ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ إذَا أَمْكَنَ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ . مِثْلَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ مُصَادَرَاتِ الْعُمَّالِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ أَخَذُوا مِنْ الْهَدَايَا وَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ فَاسْتَرْجَعَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ تَرِكَاتِهِمْ وَلَمْ يَعْرِفْ مُسْتَحِقَّهُ . وَمِثْلَ مَا قُبِضَ مِنْ الْوَظَائِفِ الْمُحْدَثَةِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى أَصْحَابِهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي تَعَذَّرَ رَدُّهَا إلَى أَهْلِهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِمْ مَثَلًا هِيَ مِمَّا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَا يَعْرِفُ صَاحِبَهُ كَالْغَاصِبِ التَّائِبِ وَالْخَائِنِ التَّائِبِ وَالْمُرَابِي التَّائِبِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ صَارَ بِيَدِهِ مَالٌ لَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَعْرِفُ صَاحِبَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَصْرِفُهُ إلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ . فَنَقُولُ : مَنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ : كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُعْطُوا مِنْ الزَّكَوَاتِ وَمِنْ الْأَمْوَالِ الْمَجْهُولَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ يُعْطُوا مِنْ الْفَيْءِ مِمَّا فَضَلَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ . سَوَاءٌ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا وَسَوَاءٌ كَانُوا فِي زَوَايَا أَوْ رَبْطٍ أَوْ لَمْ يَكُونُوا ؛ لَكِنْ مَنْ كَانَ مُمَيَّزًا بِعِلْمِ أَوْ دِينٍ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ . وَأَحَقُّ هَذَا الصِّنْفِ مَنْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا } فَمَنْ كَانَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّذِي أُحْصِرَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ مَنَعَهُ الْكَسْبَ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ . وَيُعْطَى قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِمْ وَيَدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ لَا سِيَّمَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الطالبيين والعباسيين وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَتَعَيَّنُ إعْطَاؤُهُمْ مِنْ الْخُمُسِ وَالْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ ؛ لِكَوْنِ الزَّكَاةِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ . وَالْفَقِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِنْ الزَّكَاةِ وَالْمَصَالِحِ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ هُوَ الْفَقِيرُ الِاصْطِلَاحِيِّ الَّذِي يَتَقَيَّدُ بِلُبْسَةِ مُعَيَّنَةٍ وَطَرِيقَةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ كِفَايَةٌ تَكْفِيهِ وَتَكْفِي عِيَالَهُ فَهُوَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ .
----------
وفي السياسة الشرعية (1):
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 375)(1/485)
الْفَيْءُ ) وَأَمَّا الْفَيْءُ , فَأَصْلُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ , الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ , بَعْدَ بَدْرٍ , مِنْ قوله تعالى : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ , فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ , يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ , وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ , وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى مَا وَصَفَ , فَدَخَلَ فِي الصِّنْفِ الثَّالِثِ كُلُّ مَنْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , كَمَا دَخَلُوا فِي قوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ * . وَفِي قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ * وَفِي قَوْلِهِ : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ * أَيْ مَا حَرَّكْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ خَيْلًا وَلَا إبِلًا . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّ الْفَيْءَ هُوَ مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ ; لِأَنَّ إيجَافَ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ هُوَ مَعْنَى الْقِتَالِ , وَسُمِّيَ فَيْئًا ; لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , أَيْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ , فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى , إنَّمَا خَلَقَ الْأَمْوَالَ إعَانَةً عَلَى عِبَادَتِهِ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ , فَالْكَافِرُونَ بِهِ أَبَاحَ أَنْفُسَهُمْ الَّتِي لَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا , وَأَمْوَالَهُمْ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ , لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ , وَأَفَاءَ إلَيْهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ , كَمَا يُعَادُ عَلَى الرَّجُلِ مَا غُصِبَ مِنْ مِيرَاثِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ , وَهَذَا مِثْلُ الْجِزْيَةِ الَّتِي عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَالُ الَّذِي يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْعَدُوَّ , أَوْ يُهْدُونَهُ إلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ كَالْحِمْلِ الَّذِي يُحْمَلُ مِنْ بِلَادِ النَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ , وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَهُوَ الْعُشْرُ , وَمِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا اتَّجَرُوا مِنْ غَيْرِ بِلَادِهِمْ , وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ . هَكَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَأْخُذُ , وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يَنْقُضُ الْعَهْدَ مِنْهُمْ , وَالْخَرَاجُ الَّذِي كَانَ مَضْرُوبًا فِي الْأَصْلِ عَلَيْهِمْ , وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ إنَّهُ يَجْتَمِعُ مِنْ الْفَيْءِ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ , مِثْلُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ , وَكَالْغُصُوبِ , وَالْعَوَارِيّ , وَالْوَدَائِعِ الَّتِي عُذِرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا , وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ , الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْفَيْءَ فَقَطْ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَمُوتُ عَلَى عَهْدِهِ مَيِّتٌ , إلَّا وَلَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ لِظُهُورِ(1/486)
الْأَنْسَابِ فِي أَصْحَابِهِ , وَقَدْ مَاتَ مَرَّةً رَجُلٌ مِنْ قَبِيلَةٍ فَدُفِعَ مِيرَاثَهُ إلَى أَكْبَرِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ , أَيْ أَقْرَبِهِمْ نَسَبًا إلَى جَدِّهِمْ , وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ , كَأَحْمَدَ فِي قَوْلٍ مَنْصُوصٍ وَغَيْرِهِ , وَمَاتَ رَجُلٌ لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا عَتِيقًا لَهُ , فَدُفِعَ مِيرَاثُهُ إلَى عَتِيقِهِ , وَقَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ , وَدُفِعَ مِيرَاثُ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ يَتَوَسَّعُونَ فِي دَفْعِ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ , إلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا الصَّدَقَاتِ , وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ , كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ . وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَمْوَالِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ , دِيوَانٌ جَامِعٌ , عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه , بَلْ كَانَ يَقْسِمُ الْمَالَ شَيْئًا فَشَيْئًا , فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَثُرَ الْمَالُ وَاتَّسَعَتْ الْبِلَادُ , وَكَثُرَ النَّاسُ فَجَعَلَ دِيوَانَ الْعَطَاءِ لِلْمُقَاتِلَةِ وَغَيْرِهِمْ , وَدِيوَانُ الْجَيْشِ - فِي هَذَا الزَّمَانِ - مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرِهِ , وَذَلِكَ الدِّيوَانُ هُوَ أَهَمُّ دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَانَ لِلْأَمْصَارِ دَوَاوِينُ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ وَمَا يُقْبَضُ مِنْ الْأَمْوَالِ , وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاؤُهُ يُحَاسِبُونَ الْعُمَّالَ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْفَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَصَارَتْ الْأَمْوَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا قَبْلَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامُ قَبْضَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ , كَمَا ذَكَرْنَاهُ , وَنَوْعٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ بِالْإِجْمَاعِ , كَالْجِنَايَاتِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ ; لِأَجْلِ قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَهُمْ , وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ , أَوْ عَلَى حَدٍّ اُرْتُكِبَ - وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ , وَكَالْمُكُوسِ الَّتِي لَا يَسُوغُ وَضْعُهَا اتِّفَاقًا , وَنَوْعٌ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَتَنَازُعٌ كَمَالِ مَنْ لَهُ ذُو رَحِمٍ - وَلَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ , وَنَحْوِ ذَلِكَ .
-------------------
وفي الموسوعة الفقهية (1):
مَصَارِفُ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3077)(1/487)
12 - مَصْرِفُ أَمْوَالِ هَذَا الْبَيْتِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ , فَيَكُونُ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ , وَيَصْرِفُ مِنْهُ بِحَسَبِ نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ . وَالْفُقَهَاءُ إذَا أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ نَفَقَةَ كَذَا هِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ , يَقْصِدُونَ هَذَا الْبَيْتَ الرَّابِعَ ; لِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُخَصَّصُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ , بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ , فَالْحَقُّ فِيهِ لِجِهَاتٍ مُحَدَّدَةٍ , يُصْرَفُ لَهَا لَا لِغَيْرِهَا . وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَالُ هَذَا الْبَيْتِ مِمَّا وَرَدَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ , لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالِاسْتِقْصَاءِ , فَإِنَّ أَبْوَابَ الْمَصَالِحِ لَا تَنْحَصِرُ , وَهِيَ تَخْتَلِفُ مِنْ عَصْرٍ إلَى عَصْرٍ , وَمِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ . 13 - وَمِنْ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَالُ هَذَا الْبَيْتِ مَا يَلِي : أ - الْعَطَاءُ , وَهُوَ نَصِيبٌ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يُعْطَى لِكُلِّ مُسْلِمٍ , سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ أَمْ لَمْ يَكُنْ . وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ قَدَّمَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي , وَهُوَ كَذَلِكَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ هُوَ خِلَافُ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : فِي الْفَيْءِ حَقٌّ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ . وَمِنْ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ . . . * الْآيَةَ . ثُمَّ قَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * ثُمَّ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ . . . * ثُمَّ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ . . . * فَاسْتَوْعَبَ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ : هَذِهِ - يَعْنِي الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ - اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً , وَلَإِنْ عِشْت لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبَهُ مِنْهَا , لَمْ يَعْرَقْ فِيهِ جَبِينَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ هُمْ أَهْلُ الْجِهَادِ الْمُرَابِطُونَ فِي الثُّغُورِ , وَجُنْدُ الْمُسْلِمِينَ , وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ - أَيْ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَبْوَابِ الْمَصَالِحِ الْآتِي بَيَانُهَا . وَأَمَّا الْأَعْرَابُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعِدُّ نَفْسَهُ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ , مَا لَمْ يُجَاهِدُوا فِعْلًا . وَمِنْ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ . . . * إلَى أَنْ قَالَ : { ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ , وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ , وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ . فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا , فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ , يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ , إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ . * وَقِيلَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّ الْفَيْءَ كُلَّهُ يَجِبُ قَسْمُهُ بَيْنَ مَنْ لَهُ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي عَامِهِ , وَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُوَفَّرُ شَيْءٌ لِلْمَصَالِحِ مَا عَدَا خُمُسِ الْخُمُسِ ( أَيْ الَّذِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَهُمْ : إعْطَاءُ مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ كِفَايَتَهُمْ , وَصَرْفُ مَا يَتَبَقَّى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ لِلْمَصَالِحِ . ب - الْأَسْلِحَةُ وَالْمُعِدَّاتُ وَالتَّحْصِينَاتُ وَتَكَالِيفُ الْجِهَادِ وَالدِّفَاعِ عَنْ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ . ج - رَوَاتِبُ الْمُوَظَّفِينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي أُمُورِهِمْ الْعَامَّةِ(1/488)
, مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِينَ , وَمَنْ يُنَفِّذُونَ الْحُدُودَ , وَالْمُفْتِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُدَرِّسِينَ , وَنَحْوِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ , فَيَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ . وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْبُلْدَانِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَسْعَارِ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرَّوَاتِبُ أُجْرَةً لِلْمُوَظَّفِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , بَلْ هِيَ كَالْأُجْرَةِ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَنَحْوَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ أَصْلًا . ثُمَّ إنْ سُمِّيَ لِلْمُوَظَّفِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ اسْتَحَقَّهُ , وَإِلَّا اسْتَحَقَّ مَا يَجْرِي لِأَمْثَالِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْمَلُ إلَّا بِمُرَتَّبٍ . وَأَرْزَاقُ هَؤُلَاءِ , وَأَرْزَاقُ الْجُنْدِ إنْ لَمْ تُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَالِ , تَبْقَى دَيْنًا عَلَيْهِ , وَوَجَبَ إنْظَارُهُ , كَالدُّيُونِ مَعَ الْإِعْسَارِ . بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَصَالِحِ فَلَا يَجِبُ الْقِيَامُ بِهَا إلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ , وَتَسْقُطُ بِعَدَمِهَا . وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ , كَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْمُدَرِّسِ وَنَحْوِهِمْ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعَامِ , يُعْطَى حِصَّتَهُ مِنْ الْعَامِ , أَمَّا مَنْ مَاتَ فِي آخِرِهِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِعْطَاءُ إلَى وَارِثِهِ . د - الْقِيَامُ بِشُئُونِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعَجَزَةِ وَاللُّقَطَاءِ وَالْمَسَاجِينِ الْفُقَرَاءِ , الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ , وَلَا أَقَارِبَ تَلْزَمُهُمْ نَفَقَتُهُمْ , فَيَتَحَمَّلُ بَيْتُ الْمَالِ نَفَقَاتِهِمْ وَكِسْوَتَهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ عِلَاجٍ وَتَجْهِيزِ مَيِّتٍ , وَكَذَا دِيَةُ جِنَايَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ فَعَجَزُوا عَنْ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ , فَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَتَحَمَّلُ بَاقِي الدِّيَةِ , وَلَا تُعْقَلُ عَنْ كَافِرٍ . وَنَبَّهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ إقْرَارَ الْجَانِي لَا يُقْبَلُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ , كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ . هـ - الْإِنْفَاقُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ : لَيْسَ لِكَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ حَقٌّ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ . لَكِنَّ الذِّمِّيَّ إنْ احْتَاجَ لِضَعْفِهِ يُعْطَى مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ . وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِمَّا أَعْطَاهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رضي الله عنه فِي عَهْدِهِ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ : أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنْ الْعَمَلِ , أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنْ الْآفَاتِ , أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ , وَصَارَ أَهْلُ دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ , وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ . وَنَقَلَ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ . و - وَمِنْ مَصَارِفِ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ أَيْضًا : فِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ , وَنَقَلَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : كُلُّ أَسِيرٍ كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَفِكَاكُهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ . وَهُنَاكَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ فِكَاكَهُ فِي مَالِهِ هُوَ ( ر : أَسْرَى ) . وَشَبِيهٌ بِهَذَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَالِكَ الدَّوَابِّ - غَيْرِ الْمَأْكُولَةِ - لَوْ امْتَنَعَ مِنْ عَلْفِهَا , وَلَمْ يُمْكِنْ إجْبَارُهُ لِفَقْرِهِ مَثَلًا يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَجَّانًا , وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ الْمَوْقُوفَةُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُ النَّفَقَةِ مِنْ كَسْبِهَا . ز - الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِبُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ , مِنْ إنْشَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ وَالْجُسُورِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْأَنْهَارِ وَالْمَدَارِسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَإِصْلَاحِ مَا تَلِفَ مِنْهَا . ح - ضَمَانُ مَا يَتْلَفُ بِأَخْطَاءِ أَعْضَاءِ الْإِدَارَةِ الْحُكُومِيَّةِ : مِنْ ذَلِكَ أَخْطَاءُ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمْ مِنْ سَائِرِ مَنْ يَقُومُ بِالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ , إذَا أَخْطَئُوا فِي عَمَلِهِمْ الَّذِي كُلِّفُوا بِهِ , فَتَلِفَ بِذَلِكَ نَفْسٌ أَوْ عُضْوٌ أَوْ مَالٌ , كَدِيَةِ مَنْ مَاتَ بِالتَّجَاوُزِ فِي التَّعْزِيرِ , فَحَيْثُ وَجَبَ ضَمَانُ ذَلِكَ يَضْمَنُ بَيْتُ الْمَالِ . فَإِنْ(1/489)
كَانَ الْعَمَلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ لِشَأْنٍ خَاصٍّ لِلْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَسْئُولِينَ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ , أَوْ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْطَاءَهُمْ قَدْ تَكْثُرُ , فَلَوْ حَمَلُوهَا هُمْ أَوْ عَاقِلَتُهُمْ لَأَجْحَفَ بِهِمْ . هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْأَظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ . أَمَّا الْأَظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ , وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَهُوَ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ . أَمَّا ضَمَانُ الْعَمْدِ فَيَتَحَمَّلُهُ فَاعِلُهُ اتِّفَاقًا . ط - تَحَمُّلُ الْحُقُوقِ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّرْعُ لِأَصْحَابِهَا , وَاقْتَضَتْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَحْمِلَهَا أَحَدٌ مُعَيَّنٌ : وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا لَوْ قُتِلَ شَخْصٌ فِي زِحَامِ طَوَافٍ أَوْ مَسْجِدٍ عَامٍّ أَوْ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ , وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ , فَتَكُونُ دِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه : لَا يَبْطُل فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ , وَقَدْ { تَحَمَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ قُتِلَ فِي خَيْبَرَ , لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ , وَأَبَى الْأَنْصَارُ أَنْ يَحْلِفُوا الْقَسَامَةَ , وَلَمْ يَقْبَلُوا أَيْمَانَ الْيَهُودِ , فَوْدَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ * . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أُجْرَةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ , فَلِلْقَاضِي أَنْ يُرَتِّبَ أُجْرَةَ تَعْرِيفِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ , عَلَى أَنْ تَكُونَ قَرْضًا عَلَى صَاحِبِهَا .
------------------
الْخَرَاجُ فِي الْإِسْلَامِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 6577)(1/490)
11 - لَمَّا آلَتْ الْخِلَافَةُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه , وَازْدَادَتْ الْفُتُوحَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ , وَاتَّسَعَتْ رُقْعَةُ الدَّوْلَةِ , وَزَادَتْ نَفَقَاتُهَا , رَأَى عُمَرُ رضي الله عنه أَنْ لَا يَقْسِمَ الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً بَيْنَ الْفَاتِحِينَ , بَلْ يَجْعَلُهَا وَقْفًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَيَضْرِبُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِزِرَاعَتِهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا . فَوَافَقَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ , وَخَالَفَهُ آخَرُونَ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ . قَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَشَاوَرَهُمْ فِي قِسْمَةِ الْأَرَضِينَ الَّتِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ فَتَكَلَّمَ قَوْمٌ فِيهَا , وَأَرَادُوا أَنْ يَقْسِمَ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ وَمَا فَتَحُوا . فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِدُونَ الْأَرْضَ بِعُلُوجِهَا قَدْ اُقْتُسِمَتْ وَوُرِثَتْ عَنْ الْآبَاءِ وَحِيزَتْ , مَا هَذَا بِرَأْيٍ . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه : فَمَا الرَّأْيُ ؟ مَا الْأَرْضُ وَالْعُلُوجُ إلَّا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . فَقَالَ عُمَرُ : مَا هُوَ إلَّا كَمَا تَقُولُ , وَلَسْت أَرَى ذَلِكَ , وَاَللَّهِ لَا يُفْتَحُ بَعْدِي بَلَدٌ فَيَكُونُ فِيهِ كَبِيرُ نَيْلٍ , بَلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ كُلًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَإِذَا قُسِمَتْ أَرْضُ الْعِرَاقِ بِعُلُوجِهَا , وَأَرْضُ الشَّامِ بِعُلُوجِهَا , فَمَا يُسَدُّ بِهِ الثُّغُورُ , وَمَا يَكُونُ لِلذُّرِّيَّةِ وَالْأَرَامِلِ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ ؟ فَأَكْثَرُوا عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه , وَقَالُوا : أَتَقِفُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ بِأَسْيَافِنَا عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَحْضُرُوا وَلَمْ يَشْهَدُوا , وَلِأَبْنَاءِ الْقَوْمِ وَلِآبَاءِ أَبْنَائِهِمْ وَلَمْ يَحْضُرُوا ؟ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ بِلَالَ بْنَ رَبَاحٍ كَانَ مِنْ أَشَدِّ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِهِمْ تَمَسُّكًا بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ , حَتَّى قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ " وَمَكَثُوا فِي ذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ دُونَ ذَلِكَ وَعُمَرُ رضي الله عنه يُحَاجُّهُمْ إلَى أَنْ وَجَدَ مَا يُؤَيِّدُ رَأْيَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى , فَقَالَ : قَدْ وَجَدْت حُجَّةً , قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * حَتَّى فَرَغَ مِنْ شَأْنِ بَنِي النَّضِيرِ فَهَذِهِ عَامَّةٌ فِي الْقُرَى كُلِّهَا . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ثُمَّ قَالَ { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * . ثُمَّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى خُلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * فَهَذَا فِيمَا بَلَغَنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِلْأَنْصَارِ خَاصَّةً , ثُمَّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى خُلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَكَانَتْ هَذِهِ عَامَّةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ , فَقَدْ صَارَ الْفَيْءُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا فَكَيْفَ نَقْسِمُهُ لِهَؤُلَاءِ , وَنَدَعُ مَنْ تَخَلَّفَ بَعْدَهُمْ بِغَيْرِ قَسْمٍ ؟ . قَالُوا : فَاسْتَشِرْ . فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَاخْتَلَفُوا , فَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه فَكَانَ رَأْيُهُ أَنْ يَقْسِمَ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ . وَرَأْيُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله(1/491)
عنهم رَأْيُ عُمَرَ . فَأَرْسَلَ إلَى عَشَرَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ : خَمْسَةٍ مِنْ الْأَوْسِ , وَخَمْسَةٍ مِنْ الْخَزْرَجِ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ : إنِّي لَمْ أُزْعِجْكُمْ إلَّا لَأَنْ تَشْتَرِكُوا فِي أَمَانَتِي فِيمَا حُمِّلْت مِنْ أُمُورِكُمْ , فَإِنِّي وَاحِدٌ كَأَحَدِكُمْ , وَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تُقِرُّونَ بِالْحَقِّ , خَالَفَنِي مَنْ خَالَفَنِي , وَوَافَقَنِي مَنْ وَافَقَنِي , وَلَسْت أُرِيدُ أَنْ تَتَّبِعُوا هَذَا الَّذِي هُوَ هَوَايَ , مَعَكُمْ مِنْ اللَّهِ كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ كُنْت نَطَقْت بِأَمْرٍ أُرِيدُهُ مَا أُرِيدُ بِهِ إلَّا الْحَقَّ " . قَالُوا : نَسْمَعُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ : قَدْ سَمِعْتُمْ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنِّي أَظْلِمُهُمْ حُقُوقَهُمْ . وَإِنِّي أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَرْكَبَ ظُلْمًا , لَئِنْ كُنْت ظَلَمْتهمْ شَيْئًا هُوَ لَهُمْ وَأَعْطَيْته غَيْرَهُمْ لَقَدْ شَقِيت وَلَكِنْ رَأَيْت أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُفْتَحُ بَعْدَ كِسْرَى , وَقَدْ غَنَّمَنَا اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ , وَأَرْضَهُمْ , وَعُلُوجَهُمْ , فَقَسَمْت مَا غَنِمُوا مِنْ أَمْوَالٍ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَخْرَجْت الْخُمُسَ فَوَجَّهْته عَلَى وَجْهِهِ وَأَنَا فِي تَوْجِيهِهِ , وَقَدْ رَأَيْت أَنْ أَحْبِسَ الْأَرَضِينَ بِعُلُوجِهَا , وَأَضَعَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْخَرَاجَ , وَفِي رِقَابِهِمْ الْجِزْيَةُ يُؤَدُّونَهَا فَتَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ , الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ وَلِمَنْ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ . أَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الثُّغُورَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ رِجَالٍ يَلْزَمُونَهَا , أَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الْمُدُنَ الْعِظَامَ - كَالشَّامِّ , وَالْجَزِيرَةِ وَالْكُوفَةِ , وَالْبَصْرَةِ , وَمِصْرَ - لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تُشْحَنَ بِالْجُيُوشِ , وَإِدْرَارِ الْعَطَاءِ عَلَيْهِمْ , فَمِنْ أَيْنَ يُعْطَى هَؤُلَاءِ إذَا قُسِمَتْ الْأَرْضُونَ وَالْعُلُوجُ ؟ فَقَالُوا جَمِيعًا : الرَّأْيُ رَأْيُك فَنِعْمَ مَا قُلْت وَمَا رَأَيْت إنْ لَمْ تُشْحَنْ هَذِهِ الثُّغُورُ وَهَذِهِ الْمُدُنُ بِالرِّجَالِ وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ رَجَعَ أَهْلُ الْكُفْرِ إلَى مُدُنِهِمْ فَقَالَ : قَدْ بَانَ لِي الْأَمْرُ , فَمِنْ رَجُلٍ لَهُ جَزَالَةٌ , وَعَقْلٌ , يَضَعُ الْأَرْضَ مَوَاضِعَهَا , وَيَضَعُ عَلَى الْعُلُوجِ مَا يَحْتَمِلُونَ ؟ فَاجْتَمَعُوا عَلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَقَالُوا : تَبْعَثُهُ إلَى أَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ , فَإِنَّ لَهُ بَصَرًا وَعَقْلًا وَتَجْرِبَةً فَأَسْرَعَ إلَيْهِ عُمَرُ فَوَلَّاهُ مِسَاحَةَ أَرْضِ السَّوَادِ
-------------------
الرِبَاعٌ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7664)(1/492)
1 - الرِّبَاعُ لُغَةً : جَمْعُ رَبْعٍ وَهُوَ الْمَنْزِلُ وَالدَّارُ , سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْبَعُ فِيهِ أَيْ يَسْكُنُهُ وَيُقِيمُ فِيهِ . وَالْجَمْعُ : أَرْبُعُ وَرِبَاعٌ وَرُبُوعٌ . وَفِي حَدِيثِ { أُسَامَةَ رضي الله عنه قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ ؟ * وَفِي رِوَايَةٍ : { مِنْ دَارٍ * , وَرَبْعُ الْقَوْمِ : مَحَلَّتُهُمْ . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها : أَرَادَتْ بَيْعَ رِبَاعَهَا أَيْ مَنَازِلَهَا , وَالرَّبْعَةُ : أَخَصُّ مِنْ الرَّبْعِ , وَالرَّبْعُ : الْمَحَلَّةُ . يُقَالُ : مَا أَوْسَعَ رَبْعَ بَنِي فُلَانٍ . وَاصْطِلَاحًا : أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ اسْمَ الرَّبْعِ عَلَى الْبِنَاءِ وَحَائِطِ النَّخْلِ يُحَوَّطُ عَلَيْهِ بِجِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْعَقَارُ : 2 - الْعَقَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ : كُلُّ مِلْكٍ ثَابِتٍ لَهُ أَصْلٌ , كَالدَّارِ وَالنَّخْلِ . وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ الضَّيْعَةُ , وَجَعَلُوا الْبِنَاءَ وَالنَّخْلَ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ , وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ . وَعَقَارُ الْبَيْتِ : مَتَاعُهُ وَنَضَدُهُ إذَا كَانَ حَسَنًا كَبِيرًا , وَيُقَالُ : فِي الْبَيْتِ عَقَارٌ حَسَنٌ أَيْ : مَتَاعٌ وَأَدَاةٌ . ب - ( الْأَرْضُ ) : 3 - الْأَرْضُ مَعْرُوفَةٌ وَجَمْعُهَا أَرَاضٍ وَأَرْضُونَ . ج - الدَّارُ : 4 - الدَّارُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَحَلَّةِ , وَاللَّفْظُ مُؤَنَّثٌ . وَقَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ : هِيَ مِنْ دَارَ يَدُورُ لِكَثْرَةِ حَرَكَاتِ النَّاسِ فِيهَا وَالْجَمْعُ أَدْوُرٌ وَأَدْؤُرٌ , وَالْكَثِيرُ دِيَارٌ وَدُورٌ . مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّبَاعِ مِنْ أَحْكَامٍ : أ - رِبَاعُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ : 5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ وَإِجَارَةِ رِبَاعِ مَكَّةَ وَعَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ , لقوله تعالى : { وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ * , وَلِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ مَرْفُوعًا { مَكَّةُ حَرَامٌ , حَرَّمَهَا اللَّهُ , لَا تَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا , وَلَا إجَارَةُ بُيُوتِهَا * , وَلِحَدِيثِ { مَكَّةُ مُنَاخٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا * , وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : فَإِنْ سَكَنَ بِأُجْرَةٍ فِي رِبَاعَ مَكَّةَ لَمْ يَأْثَمْ بِدَفْعِهَا . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ , وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ , وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى لِجَوَازِ بَيْعِ رِبَاعِ مَكَّةَ وَكِرَاءِ دُورِهَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ * فَنَسَبَ الدِّيَارَ إلَى الْمَالِكِينَ , وَبِحَدِيثِ { أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِك بِمَكَّةَ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ * , وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ , وَلَمْ يَرِثْ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ رضي الله عنهما شَيْئًا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ , وَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ * فَنَسَبَ الدِّيَارَ إلَى مَالِكِيهَا , وَبِاشْتِرَاءِ عُمَرَ رضي الله عنه دَارَ الْحَجَّامِينَ وَإِسْكَانِهَا . وَالْمَالِكِيَّةُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ : الْأُولَى : الْمَنْعُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ . وَالثَّانِيَةُ : الْجَوَازُ , قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ وَالْمُعْتَمَدُ الَّذِي بِهِ الْفَتْوَى , وَعَلَيْهِ جَرَى الْعَمَلُ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالْقُضَاةِ بِمَكَّةَ . وَالثَّالِثَةُ : الْكَرَاهَةُ , فَإِنْ قَصَدَ بِالْكِرَاءِ الْآلَاتِ وَالْأَخْشَابَ جَازَ , وَإِنْ قَصَدَ الْبُقْعَةَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ . وَالرَّابِعَةُ : تَخْصِيصُ الْكَرَاهَةِ بِالْمَوْسِمِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ وَاحْتِيَاجِهِمْ إلَى الْوَقْفِ .
================
وجوب مواساة المهاجرين :
قال تعالى : { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* (9) سورة الحشر
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 5541)(1/493)
السادسة : قوله تعالى : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره؛ كذلك قال الناس . وفيه تقدير حذف مضافين؛ المعنى مَسَّ حاجةٍ من فَقد ما أوتوا . وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة . وكان المهاجرون في دور الأنصار : فلما غَنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير ، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم ، وإشراكهم في أموالهم . ثم قال : " «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم» . فقال سعد بن عُبادة وسعد بن معاذ : بل نقسمه بين المهاجرين ، ويكونون في دورنا كما كانوا . ونادت الأنصار : رضينا وسلمنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار» " وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئاً إلا الثلاثة الذين ذكرناهم . ويحتمل أن يريد به { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } إذا كان قليلاً ( بل ) يقنعون به ويرضون عنه . وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دُنْيَا ، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم بحكم الدنيا . وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " سترون بعدي أَثَرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض "(1/494)
السابعة : قوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } في الترمذي عن أبي هريرة : أن رجلاً بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته : نَوِّمي الصِّبية وأطفئي السراج وقَرّبي للضيف ما عندك؛ فنزلت هذه الآية { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } قال : هذا حديث حسن صحيح . خرجه مسلم أيضاً . " وخرّج عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود . فأرسل إلى بعض نسائه فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء . ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك؛ حتى قلن كلُّهن مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء . فقال : من يُضيف هذا الليلة رحمه الله . ؟ فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته : هل عندك شيء؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني . قال : فعلّلِيهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل؛ فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه . قال : فقعدوا وأكل الضيف . فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «قد عجِبَ الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة» " وفي رواية عن أبي هريرة قال : " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه . فقال : «ألا رجل يضيف هذا رحمه الله؟» فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة . فانطلق به إلى رحله " . . ؛ وساق الحديث بنحو الذي قبله ، وذكر فيه نزول الآية . وذكر المهدويّ عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار نزل به ثابت يقال له أبو المتوكل ، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته : أطفئي السراج ونوّمي الصبية؛ وقَدّم ما كان عنده إلى ضيفه . وكذا ذكر النحاس قال : قال أبو هريرة : نزل برجل من الأنصار يقال له أبو المتوكل ثابت بن قيس ضيفاً ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته : أطفئي السراج ونوّمي الصبية؛ فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } إلى قوله { فأولئك هُمُ المفلحون } . وقيل : إن فاعل ذلك أبو طلحة . وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم : وقال ابن عمر : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منّا؛ فبعثه إليهم ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات ، حتى رجعت إلى أولئك؛ فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } . ذكره الثعلبيّ عن أنس قال : أهْدِىَ لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهوداً فوجّه به إلى جار له ، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عاد إلى الأول؛ فنزلت : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } الآية . وقال ابن عباس : " قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم بني النضير : «إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وان شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئاً» فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة؛ فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ } " الآية . والأول أصح . وفي الصحيحين عن أنس : أن الرجل كان يجعل للنبيّ صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فُتحت عليه قريظة والنضير ، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه . لفظ مسلم . وقال الزهري عن أنس بن مالك : لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء ، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار ، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة؛ وكانت أمّ أنس بن مالك تُدعى أم سُلَيم ، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة ، كان أخا لأنس لأمه؛ وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عِذاقاً لها؛ فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته ، أم اسامة بن زيد . قال ابن شهاب : فأخبرني أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة ، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم . قال : فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عِذاقها ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه . خرجّه مسلم أيضاً .(1/495)
الثامنة الإيثار : هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنياوية ، ورغبة في الحظوظ الدينية . وذلك ينشأ عن قوة اليقين ، وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة . يقال : آثرته بكذا؛ أي خصصته به وفضّلته . ومفعول الإيثار محذوف؛ أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها؛ حسب ما تقدم بيانه . وفي موطأ مالك : «أنه بلغه عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أن مسكيناً سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف؛ فقالت لمولاة لها : أعطيه إياه؛ فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت : أعطيه إياه . قالت : ففعلت . قالت : فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يُهدى لنا : شاةً وكفنها . فدعتني عائشة فقالت : كلي من هذا ، فهذا خير من قرصك . قال علماؤنا : هذا من المال الرابح ، والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجّل منه ما يشاء ، ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه . ومن ترك شيئاً لله لم يجد فَقْدَه . وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة ، وأن من فعل ذلك فقد وقى شُحّ نفسه وأفلح فلاحاً لا خسارة بعده . ومعنى ( شاة وكَفَنَها ) فإن العرب أو بعض العرب أو بعض وجوههم كان هذا من طعامهم ، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غَطّوه كله بعجين البُرِّ وكفنوه به ثم علقوه في التنور ، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن؛ وذلك من طيب الطعام عندهم . وروى النسائي عن نافع أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنباً ، فاشترى له عنقود بدرهم ، فجاء مسكين فسأل؛ فقال : أعطوه إياه؛ فخالف إنسان فاشتراه بدرهم ، ثم جاء به إلى ابن عمر ، فجاء المسكين فسأل؛ فقال : أعطوه إياه؛ ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم ، ثم جاء به إليه؛ فأراد السائل أن يرجع فمنع . ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه . وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا محمد بن مطرّف قال : حدثنا أبو حازم عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار : أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار ، فجعلها في صرة ثم قال للغلام : اذهب بها إلى أبي عُبيدة بن الجرّاح ، ثم تَلَكَّأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها .
فذهب بها الغلام إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك؛ فقال : وَصَلَه الله ورَحمه ، ثم قال : تعالي يا جارية ، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان ، وبهذه الخمسة إلى فلان؛ حتى أنفذها . فرجع الغلام إلى عمر ، فأخبره فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل؛ وقال : اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل؛ وتَلَكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع ، فذهب بها إليه فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجتك ، فقال : رحمه الله ووَصَله ، وقال : يا جارية ، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا ، فاطلعت امرأة معاذ فقالت : ونحن! والله مساكين فأعطنا . ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها . فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسُرّ بذلك عمر وقال : إنهم إخوة! بعضهم من بعض . ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها ، وكان عشرة آلاف وكان المُنْكَدِر دخل عليها . فإن قيل : وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء ، قيل له : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه . فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فلم يكونوا بهذه الصفة ، بل كانوا كما قال الله تعالى : { والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس } [ البقرة : 177 ] . وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك . والإمساك لمن لا يصبر .
ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار . وروي أنّ رجلاً " جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال : هذه صدقة ، فرماه بها وقال : «يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدّق به ثم يقعد يتكفف الناس» " والله أعلم .
التاسعة : والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس . ومن الأمثال السائرة :
والجُودُ بالنَّفْس أقصَى غاية الجُودِ ... ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حدّ المحبة : أنها الإيثار ، ألا ترى أن امرأة العزيز لمّا تناهت في حُبّها ليوسف عليه السلام ، آثرته على نفسها فقالت : أنا راودته عن نفسه . وأفضل الجود بالنفس الجودُ على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح : أن أبا طَلْحة ترَسّ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتطلّع ليرى القوم . فيقول له أبو طلحة : لا تُشرِف يا رسول الله! لا يصيبونك! نَحْرِي دون نحرك! ووَقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشُلّت .(1/496)
وقال حُذيفة العدوِيّ : انطلقت يوم اليَرْمُوك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رَمقٌ سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أنْ نَعم ، فإذا أنا برجل يقول : آه! آه! فأشار إليَّ ابن عمي أن انطلق إليه ، فإذا هو هشام بن العاص فقلت : أسقيك؟ فأشار أن نعم . فسمع آخر يقول : آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات . فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات . فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو مات . وقال أبو يزيد البِسْطَامِيّ : ما غَلَبني أحدٌ ما غلبني شابٌّ من أهل بَلْخ! قدِم علينا حاجاً فقال لي : يا أبا يزيد ، ما حَدُّ الزهد عندكم؟ فقلت : إنْ وَجَدْنا أكلنا . وإن فقدنا صبرنا . فقال : هكذا كلاب بَلْخ عندنا . فقلت : وما حَدّ الزهد عندكم؟ قال : إن فقدنا شكرنا ، وإن وجدنا آثرنا . وسُئل ذو النُّون المصري : ما حَدُّ الزاهد المنشرح صدره؟ قال ثلاث : تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند القوت . وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيّف وثلاثون رجلاً بقرية من قُرَى الرَّيّ ، ومعهم أرغفة معدودة لا تُشبع جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام؛ فلما رُفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئاً؛ إيثاراً لصاحبه على نفسه .
العاشرة : قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الخصاصة : الحاجة التي تختلّ بها الحال . وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر . فالخصاصة الإنفراد بالحاجة؛ أي ولو كان بهم فاقة وحاجة . ومنه قول الشاعر :
أمّا الربيع إذا تكون خصاصةٌ ... عاش السقيم به وأَثْرَى الْمُقْترُ
الحادية عشرة قوله تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } الشُّحّ والبُخْلُ سواء؛ يقال : رجل شحيح بَيّن الشُّحّ والشَّح والشّحاحة . قال عمرو بن كلثوم :
ترى اللَّحِزَ الشّحيحَ إذا أُمِرّتْ ... عليه لِمالِه فيها مُهِينا
وجعل بعض أهل اللغة الشُّحّ أشدّ من البخل . وفي الصحاح : الشّحُّ البخلُ مع حِرص؛ تقول : شَحِحت ( بالكسر ) تَشَحّ . وشَحَحْتَ أيضاً تَشُحّ وتَشِحّ . ورجل شحيح ، وقومٌ شِحاح وأشِحّة . والمراد بالآية : الشّحُّ بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة ، وما شاكل ذلك . فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه . ومن وَسّع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يُوقَ شُحَّ نفسه . وروى الأسْودُ عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له : إني أخاف أن أكون قد هلكت؟ قال : وما ذاك؟ قال : سمعت الله عز وجل يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أُخرج من يدي شيئاً . فقال ابن مسعود : ليس ذلك بالشُّح الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، إنما الشّح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ، ولكنّ ذلك البخل ، وبئس الشَّيء البخل . ففرّق رضي الله عنه بين الشح والبخل . وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشّح أن يَشِح بما في أيدي الناس ، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحِلّ والحرام ، لا يقنع . ابن جبير : الشح منع الزكاة وادّخار الحرام . ابن عُيَيْنَة : الشح الظلم . الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم . ابن عباس : من اتبع هواه ولم يقبل بالإيمان فذلك الشحيح . ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً ( لشيء ) نهاه الله عنه ، ولم يَدْعُه الشح ( على أن يمنع شيئاً من شيء ) أمره الله به ، فقد وقاه الله شح نفسه . وقال أنس : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " بَرِىء من الشّح من أدّى الزكاة وقَرَى الضيف وأعطى في النائبة " وعنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو " اللهم إني أعوذ بك من شُحّ نفسي وإسرافها ووساوسها " وقال أبو الهَيّاج الأسدي : رأيت رجلا في الطّواف يدعو : اللهم قِني شُحَّ نفسي . لا يزيد على ذلك شيئاً ، فقلت له؟ فقال : إذا وقيت شُحّ نفسي لم أسرق ولم أزْنِ ولم أفعل . فإذا الرجل عبد الرحمن بن عَوْف .
قلت : يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشّح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سَفَكوا دماءهم واستحلُّوا محارمهم " وقد بيناه في آخر «آل عمران» . وقال كِسرى لأصحابه : أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا : الفقر . فقال كِسرى : الشح أضرّ من الفقر؛ لأن الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً .
---------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله (1):
قول تعالى مبينًا حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } أي: خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه { وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي: هؤلاء الذين صَدَقوا قولهم بفعلهم، وهؤلاء هم سادات المهاجرين.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 8 / ص 68)(1/497)
ثم قال تعالى مادحًا للأنصار، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم، وإيثارهم مع الحاجة، فقال: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي: سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم.
قال عمر: وأوصي الخليفة [من] (1) بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم،
وأن يعفو (1) عن مسيئهم. رواه البخاري هاهنا أيضًا (2) .
وقوله: { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي: مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم، يُحبّون المهاجرين (3) ويواسونهم بأموالهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كَفَونا المَؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! قال: "لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم" (4) .
لم أره في الكتب من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين، قالوا: لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. قال: "إما لا فاصبروا حتى تلقوني، فإنه سيصيبكم [بعدي] (5) أثرة".
تفرد به البخاري من هذا الوجه (6)
قال البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقالوا: تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا. تفرد به دون مسلم (7) .
{ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي: ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف، والتقديم في الذكر والرتبة.
قال: الحسن البصري: { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } يعني: الحسد.
{ مِمَّا أُوتُوا } قال قتادة: يعني فيما أعطى إخوانهم. وكذا قال ابن زيد. ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن أنس قال: كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة". فطلع رجل من الأنصار تَنظُف (8) لحيته من وضوئه، قد تَعَلَّق (9) نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته (10) أيضًا، فطلع
__________
(1) في م: "وأن يعفى".
(2) صحيح البخاري برقم (4888).
(3) في أ: "يحبون من هاجر إليهم".
(4) المسند (3/200).
(5) زيادة من صحيح البخاري.
(6) صحيح البخاري برقم (3794).
(7) صحيح البخاري برقم (2325).
(8) في م: "ينفض".
(9) في م: "قد علق".
(10) في م: :مثل حاله".
ذلك الرجل على مثل حالته الأولى (1) فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني (2) إليك حتى تمضي فعلتُ. قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي (3) فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه، ذكر الله وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر (4) ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار (5) يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة". فطلعت أنت الثلاث المرار (6) فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير (7) عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت. فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق (8) .
ورواه النسائي في اليوم والليلة، عن سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك، عن معمر به (9) وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري، عن رجل، عن أنس (10) . فالله أعلم.(1/498)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } يعني { مِمَّا أُوتُوا } المهاجرون. قال: وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار، فعاتبهم الله في ذلك، فقال: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال: وقال رسول الله: "إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم". فقالوا: أموالنا بيننا قطائع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك؟". قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم (11) الثمر". فقالوا: نعم يا رسول الله (12)
وقوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (13) يعني: حاجة، أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ". وهذا المقام
__________
(1) في م: "الأول".
(2) في أ: "أن توريني".
(3) في م: "الليالي الثلاث".
(4) في م، أ: "ولا هجرة".
(5) في م: "مرات".
(6) في م: "المرات".
(7) في م: "كبير".
(8) في م: "لا نطيق"، وفي أ: "لا تطيق".
(9) المسند (3/166) وسنن النسائي الكبرى برقم (10699).
(10) انظر: تحفة الأشراف للمزى (1/395) وكلام الحافظ بن حجر في النكت الظراف بهامشه.
(11) في م: "ويقاسمونكم".
(12) رواه الطبري في تفسيره (28/28).
(13) ذكر في "م" بقية الآية.
أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } (1) [الإنسان : 8]. وقوله: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [البقرة : 177] .
فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدق الصديق، رضي الله عنه، بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟". فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. وهذا (2) الماء الذي عُرض (3) على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثلث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فُضيل بن غَزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هُرَيرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهدُ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة، رحمه الله؟". فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا. فقالت: والله ما عندي إلا قوتُ الصبية. قال: فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة. ففعلَت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لقد عجب الله، عز وجل -أو: ضحك-من فلان وفلانة". وأنزل الله عز وجل: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (4) .
وكذا رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق، عن فضيل بن غزوان، به نحوه (5) . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة، رضي الله عنه.
وقوله: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.
قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا داود بن قيس الفراء، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظلّم، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُحَّ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم".
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن القَعْنَبِيّ، عن داود بن قيس، به (6) .
وقال الأعمش وشعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الظُّلْم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفُحْش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ، وإياكم والشُّحَّ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا".
__________
(1) في أ: "حبه مسكينًا".
(2) في م: "وهكذا".
(3) في م: "اعرضوه".
(4) صحيح البخاري برقم (4889).
(5) صحيح البخاري برقم (3798) وصحيح مسلم برقم (2054) وسنن الترمذي برقم (3304) وسنن النسائي الكبرى برقم (11582).
(6) المسند (3/323) وصحيح مسلم برقم (2578).(1/499)
ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة، والنسائي من طريق الأعمش، كلاهما عن عمرو بن مُرّة، به (1) .
وقال الليث، عن يزيد [بن الهاد] (2) عن سُهَيل بن أبي صالح، عن صفوان بن أبي يزيد، عن القعقاع بن اللجلاج (3) عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا" (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا ابن المبارك، حدثنا المسعودي، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا! فقال عبد الله: ليس ذلك (5) بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ولكن ذلك (6) البخل، وبئس الشيء البخل" (7)
وقال سفيان الثوري، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شح نفسي". لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل"، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، رواه ابن جرير (8)
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن إسحاق، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا إسماعيل ابن عَيّاش، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري، عن عمه يزيد بن جارية، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بَريء من الشح مَن أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة" (9) .
_________
(1) المسند (2/159) وسنن أبي داود برقم (1698) وسنن النسائي الكبرى برقم (11583).
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: "الجلاح".
(4) رواه النسائي في السنن (6/13).
(5) في م: "ليس ذاك".
(6) في م: "ذاك".
(7) رواه الطبري في تفسيره (28/29) من طريق جامع به.
(8) تفسير الطبري (28/29).
(9) تفسير الطبري (28/29) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (10842) من طريق محمد بن إسحاق به، وروي مرسلاً، رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/188) من طريق عمرو بن يحيى وإبراهيم بن إسماعيل، وابن حبان في الثقات (4/202) من طريق ابن المبارك، كلهم عن مجمع ابن يحيى، عن عمه مرسلاً.
---------------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم , يحبون من هاجر إليهم , ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا , ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . .
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار . هذه المجموعة التي تفردت بصفات , وبلغت إلى آفاق , لولا أنها وقعت بالفعل , لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق . .
والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم . . أي دار الهجرة . يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين . كما تبوأوا فيها الإيمان . وكأنه منزل لهم ودار . وهو تعبير ذو ظلال . وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان . لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم , وتسكن إليه أرواحهم , ويثوبون إليه ويطمئنون له , كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار .
(يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) . . ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين ! (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع , ومن مال يختصون به كهذا الفيء , فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا . ولا يقول:حسدا ولا ضيقا . إنما يقول:(شيئا) . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم , فلا تجد شيئا أصلا .
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) . . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا .
(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) . . فهذا الشح . شح النفس . هو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه , فقد وقي هذا المعوق عن الخير , فانطلق إليه معطيا باذلا كريما . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 469)(1/500)
والذين جاءوا من بعدهم , يقولون:ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم . .
وهذه الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية . وهي تبرز أهم ملامح التابعين . كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان .
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار - ولم يكونوا قد جاءوا بعد عند نزول الآية في المدينة , إنما كانوا قد جاءوا في علم الله وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان - سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة , لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوا بالإيمان ; وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق , ممن يربطهم معهم رباط الإيمان . مع الشعور برأفة الله , ورحمته , ودعائه بهذه الرحمة , وتلك الرأفة: (ربنا إنك رؤوف رحيم) . .
وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة وصورتها الوضيئة في هذا الوجود . تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها , وآخرها بأولها , في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف . وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب ; وتتفرد وحدها في القلوب , تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة , فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة , كما يذكر أخاه الحي , أو أشد , في إعزاز وكرامة وحب . ويحسب السلف حساب الخلف . ويمضي الخلف على آثار السلف . صفا واحدا وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان , تحت راية الله تغذ السير صعدا إلى الأفق الكريم , متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم
إنها صورة باهرة , تمثل حقيقة قائمة ; كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم . صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلا إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس . صورة الحقد الذي ينغل في الصدور , وينخر في الضمير , على الطبقات , وعلى أجيال البشرية السابقة , وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم . وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين !
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة , ولا لمسة ولا ظل . صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها ; وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها . صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى الله , بريئة الصدور من الغل , طاهرة القلوب من الحقد , وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين يلقي بعضهم بعضا بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء . حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة . فالصلاة ليست سوى أحبولة , والدين كله ليس إلا فخا ينصبه رأس المال للكادحين !
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان , ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم) . .
هذه هي قافلة الإيمان .
وهذا هو دعاء الإيمان . وإنها لقافلة كريمة . وإنه لدعاء كريم .
----------------------
وقال الرازي (1):
والمراد من الدار المدينة وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين وتقدير الآية : والذين تبوءوا المدينة والإيمان من قبلهم فإن قيل : في الآية سؤالان أحدهما : أنه لا يقال : تبوأ الإيمان والثاني : بتقدير أن يقال : ذلك لكن الأنصار ما تبوءوا الإيمان قبل المهاجرين والجواب عن الأول من وجوه أحدها : تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله :
ولقد رأيتك في الوغى ... متقلداً سيفاً ورمحاً
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 15 / ص 300)(2/1)
وثانيها : جعلوا الإيمان مستقراً ووطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه ، كما أنهم لما سألوا سلمان عن نسبه فقال : أنا ابن الإسلام وثالثها : أنه سمى المدينة بالإيمان ، لأن فيها ظهر الإيمان وقوي والجواب : عن السؤال الثاني من وجهين الأول : أن الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير : والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان والثاني : أنه على تقدير حذف المضاف والتقدير : تبوءوا الدار والإيمان من قبل هجرتهم ، ثم قال : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ } وقال الحسن : أي حسداً وحرارة وغيظاً مما أوتي المهاجرون من دونهم ، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحرارة ، لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة ، فأطلق اسم اللام على الملزوم على سبيل الكناية ، ثم قال : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } يقال : آثره بكذا إذا خصه به ، ومفعول الإيثار محذوف ، والتقدير : ويؤثرونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم . عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم وإن شئتم كان لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم " فقالوا : لا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة» فأنزل الله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } فبين أن هذا الإيثار ليس عن غنى عن المال ، ولكنه عن حاجة وخصاصة وهي الفقر ، وأصلها من الخصاص وهي الفرج ، وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص ، الواحد خصاصة ، وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف ، ثم ذكروا أن الآية نزلت في ذلك الإيثار ، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات ، ثم قال : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } الشح بالضم والكسر ، وقد قرىء بهما .
واعلم أن الفرق بين الشح والبخل هو أن البخل نفس المنع ، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع ، فلما كان الشح من صفات النفس ، لا جرم قال تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الظافرون بما أرادوا ، قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه فقد وقى شح نفسه .
---------------
وقال الشنقيطي (1):
وفي قوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] وصف شامل للأنصار ، تبوءوا الدار : أي المدينة ، والإيمان من قبلهم : أي ببيعة العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء المهاجرين ، بل ومن قبل إيمان بعض المهاجرين يحبون من هاجر إليهم ويستقبلونه بصدور رحبة ، ويؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، لأنهم هاجروا إليهم .
وظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات ، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم ، وهو الإيثار على النفس ، لأن حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المار للغير عند حاجته مقدماً غيره على نفسه ، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } [ الحشر : 8 ] فكانت لهم ديار ، وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها ، فلئن كان الأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم ، وقاسموهم ممتلكاتهم ، فإن المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسبن بل تركوها كلها . أموالهم ودياردهم وأولادهم وأهلهم ، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم . ومن يخرج من كل ماله ودياره ويترك أهله وأولاده ، لا يكون أقل تضحية من آثر غيره ببعض ماله ، وهو مستقر في أهله وديارهن فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم .
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله : أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار ما يشعر بهذا المعنى ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « إن إخوانكم قد تركوا الأموا والأولاد وخرجوا إليكم فقالوا يا رسول الله : أموالنا بيننا قطائع » الحديث .
__________
(1) - أضواء البيان - (ج 8 / ص 190)(2/2)
أي أن الأنصار عرفوا ذلك للمهاجرين ، وعليه أيضاً ، فقد استوى المهاجرون مع الأنصار في هذا الوصف المثالي الكريم ، وكان خلقاً لكثيرين منهم بعد الهجرة كما فعل الصديق رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله فقال له ، رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أبقيت لأهلك » ؟ فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله . وكذلك عائشة الصديقة رضي الله عنها . حينما كانت صائمة وليس عندها سوى قرص من الشعير وجاء سائل فقالت لبريرة : ادفعي إليه ما عندك ، فقالت : لها : ليس إلا ما ستفطرين عليه ، فقالت لها : ادفعيه إليه ، ولعلها أحوج إيله الآن ، أو كما قالت .
ولما جاء المغرب أهدى إليهم رجل شاة بقرامها - وقرامها هو ما كانت العرب تفعله إذا أرادوا شواء شاة طلوها من الخارج بالعجين حفظاً لها من رماد الجمر - فقالت لبريرة : كلي ، هذا خير من قرصك .
وكما فعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بالعير وما تحمله من تجارة حين قدمت ، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فخرج الناس إليها .
فعلى هذا ، كان مجتمع المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم مجتمعاص متكافلاً بعضهم أولياء بعض ، وقد نوَّه صلى الله عليه وسلم في صة غنائم حنين بفضل كلا الفريقين في قوله صلى الله عليه وسلم : « لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار »
ومن بعده عمر رضي الله عنه قال : وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم . وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان ، من قبل أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو عن مسيئهم .
ثم كان هذا خلق المهاجرين والأنصار جميعاً ، كما وقع في وقعة اليرموك ، قال حذيفة العدوي : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ، ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به فقلت له : أسقيك؟ فأشار ربأسه أن نعم ، فإذا أنا برجل يقول : آه آه ، فأشار إلي ابن عمي أن أنطلق إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت أسقيك؟ فأشار أن نعم ، فسمع آخر يقول آه آه . فأشار هشام أن أنطلق إليه فجئته ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات .
وكان منهج الخواص من بعدهم ، كما نقل القرطبي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ ، قدم علينا حاجاً فقال لي : ما حد الزهد عندكم؟ فقلت : إن وجدنا أكلنان ، وإن فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا كلاب بلخ عندنا . فقلت : وما حد الزهد عندكم؟ قال : إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا .
وفي قوله : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] . الإيثار على النفس : تقديم الغير عليها مع الحاجة ، والخصاصة : التي تختل بها الحال ، وأصلها من الاختصاص ، وهو الانفراد في الأمر .
فالخصاصةالأنفراد بالحاجة أي ولو كان بهم فاقة وحاجة . ومنه قول الشاعر :
أما الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثرى المقتر
وهل يصح الإيثار من كل إنسان ول كان ذا عيال أو تلزمه نفقة غيره أم لا؟ وما علاقته مع قوله { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 213 ] ؟
والجواب على هذا كله في كلام الشيخ رحمه الله على قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] في أول سورة البقرة .
قال رحمه الله : قوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ، عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله ، ولم يبين هنا القدر الَّذي ينبغي إنفاقه ، والذي ينبغي إمساكه ، ولكنه بين في مواضع أخرى أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة ، وسد الخلَّة التي لا بد منها ، وذلك كقوله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } ، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور ومنه قوله تعالى : { حتى عَفَوْاْ } [ الأعراف : 196 ] أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم .
وقال بعض العلماء : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع .
ومنه قول الشاعر :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا ، وبقية الأقوال ضعيفة ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] فنهاه عن البخل بقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِك } ، ونهاه عن الإسراف بقوله : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } ، فيتعين الوسط بين الأمرين ، كما بينه بقوله : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .(2/3)
فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير وبين البخل والإقتار ، فالجود غير التبذير ، والاقتصاد غير البخل فالمنع في محل الإعطاء مذموم ، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] ، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضاً ، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] .
وقد قال الشاعر :
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت يداه كالمزن حتى تخجل الديما ... فإنها خطرات من وساوسه
يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما ... وقد بين تعالى في مواضع أخرى ، أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف منه مما يرضي الله كقوله تعالى : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين } [ البقرة : 215 ] الآية ، وصرح في أن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله : { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } [ الأنفال : 36 ] .
وقد قال الشاعر :
إن الصنيعة لا تعد صنيعة ... حتى يصاب بها طريق المصنع
فإن قيل : هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد عن الحاجة الضرورية ، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا ، وذلك في قوله : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } [ الحشر : 9 ] .
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم : هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً ، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعاً ، وذلك كما إذا كانت على المنفق واجبة كنفقة الزوجات ونحوها ، فتبرع بالإنفاق في غير واجب ، وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم : « وابدأ بمن تعول » ، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ، ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم ، فلا يجوز له ذلك؟ والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة ، وكان واثقاً من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال .
وأما على القول بأن قوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] يعني به الزكاة ، فالأمر واضح ، والعلم عند الله تعالى . انتهى منه .
والواقع أن للإنفاق في القرآن مراتب ثلاثة :
الأولى : الإنفاق من بعض الماء بصفة عامة ، كما في قوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .
الثانية : الإنفاق مما يحبه الإنسان ويحرص عليه ، كما في قوله تعالى { وَآتَى المال على حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] ، وهذا أخص من الأول ، وقوله : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [ الإنسان : 8 ] الآية .
الثالثة : الإنفاق مع الإيثار على النفس كهذه الآية { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] فهي أخص من الخاص الأول .
وتعتبر المرتبة الأولى هي الحد الأدنى في الواجب ، حتى قيل : إن المراد بها الزكاة . وهي تشمل النافلة ، وتصدق على أدنى شيء ولو شق تمرة ، وتدخل في قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] وتعتبر المرتبة الثالثة هي الحد الأقصى ، لأنها إيثار للغير على خاصة النفس ، والمرتبة الثانية هي الوسطى بينهما ، وهي الحد الوسط بين الاكتفاء بأقل الواجب ، وبين الإيثار على النفس وهي ميزان التوسط لعامة الناس ، كما بينه تعالى بقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] . وكما امتجح الله تعالى قوماً بالاعتدال في قوله : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .
وهذا هو عين تطبيق قاعدة الفسلفة الأخلاقية القائلة : « الفضيلة وسط بين طرفين » أي طرفي الإفراط والتفريط . فالشجاعة مثلاً وسط بين التهور والجبن ، والكرم وسط بين التبذير والتقتير .
والغنفاق جوانب متعددة ، وأحكام متفاوتة ، قد بين الشيخ رحمه الله جانباً من الأحكام ، وقد بين القرآن الجوانب الأخرى ، وتنحصر في الآتي : نوع ما يقع منه الإنفاق ، الجهة المنفق عليها ، موقف المنفق ، وصورة الإنفاق .
أما ما يقع منه الإنفاق : قد بينه تعالى أولاً من كسب حلال لقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ البقرة : 267 ] .
وقوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] .(2/4)
أما الجهة المنفق عليها : فكما في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 215 ] فبدأ بالوالدين براً لهما ، وثنَّى بالأقربين .
وقال صلى الله عليه وسلم : « الصدقة على القريب صدقة وصلة ، وعلى البعيد صدقة » ثم اليتامى وهذا واجب إنساني وتكافل اجتماعي ، لأن يتيم اليوم منفق الغد ، وولد الأبوين اليوم قد يكون يتيماً غداً ، أي أن من أحسن إلى اليتيم اليوم قد يترك أيتاماً ، فيحسن عليهم ذلك اليتيم الذي أحسنت إليه بالأمس ، والمساكين وابن السبيل أمور عامة .
وجاء بالقاعدة العامة التي يحاسب الله تعالى عليها ويجازي صاحبها { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 215 ] - أي مطلقاً - { فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 215 ] ، وكفى في ذلك علمه تعالى .
أما موقف المنفق وصورة الإنفاق : فإن هذا هو سر النفقة في الإسلام ، وفلسفة الإنفاق كلها تظهر في هذا الجانب ، مما تيز به الإسلام دون غيره من جميع الأديان أو النظم .
لأنه يركز على الحفاظ على شعور وإحساس المسكين ، بحيث لا يشعره بجرح المسكنة ، ولا ذلة الفاقة كما في قوله تعالى : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 262 ] .
ثم فاضل بين الكلمة الطيبة والصدقة المؤذية في قوله تعالى : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ البقرة : 263 ] يعطي ولا يمن بالعطاء .
وأفهم المنفقين أن المنّ والأذى يبطل الصدقة { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] لما فيه من جرح شعور المسكين .
وقد حثَّ على إخفائها إمعاناً في الحفاظ على شعوره وإحساسه { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ } [ البقرة : 271 ] - أي مع الآداب السابقة - { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 271 ] أي لكم أنتم في حفظ ثوابها .
وقد جعل صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله « رجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه » ، وكما قال تعالى : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 274 ] .
ومن خصائص الإسلام في هذا الباب أنه كما أدب الأغنياء في طريقة الإنفاق ، فقد أدب الفقراء في طريقة الأخذ . وذلك في قوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] .
-------------
وقال السعدي(1) :
{ 8 } ثم ذكر تعالى الحكمة والسبب الموجب لجعله تعالى الأموال أموال الفيء لمن قدرها له، وأنهم حقيقون بالإعانة، مستحقون لأن تجعل لهم، وأنهم ما بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات والمألوفات، من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، رغبة في الله ونصرة لدين الله، ومحبة لرسول الله، فهؤلاء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة والعبادات الشاقة، بخلاف من ادعى الإيمان وهو لم يصدقه بالجهاد والهجرة وغيرهما من العبادات، وبين أنصار وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا بالله ورسوله طوعا ومحبة واختيارا، وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا، وينمو قليلا قليلا حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان.
الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله، أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه.
{ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي: لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها.
ويدل ذلك على أن المهاجرين، أفضل من الأنصار، لأن الله قدمهم بالذكر، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 850)(2/5)
وقوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم، الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا، والإيثار عكس الأثرة، فالإيثار محمود، والأثرة مذمومة، لأنها من خصال البخل والشح، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس، يشمل وقايتها الشح، في جميع ما أمر به، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعا منقادا، منشرحا بها صدره، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوبا للنفس، تدعو إليه، وتطلع إليه، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وبذلك يحصل الفلاح والفوز، بخلاف من لم يوق شح نفسه، بل ابتلي بالشح بالخير، الذي هو أصل الشر ومادته، فهذان (6) الصنفان، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا به من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين، وسادات المسلمين، وقادات المتقين (7) .
----------------
وفي التفسير الوسيط (1):
مدح - سبحانه - بعد ذلك الأنصار ، الذين يحبون من هاجر إليهم فقال : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } .
والجملة الكريمة معطوفة على { الْمُهَاجِرِينَ } أو مبتدأ وخبره : { يُحِبُّونَ } والتبوؤ : النزول فى المكان ، ومنه المباءة للمنزل الذى ينزل فيه الإنسان .
والمراد بالدار : المدينة المنورة ، وأل للعهد . أى : الدار المعهودة المعروفة وهى دار الهجرة .
وقوله : { والإيمان } منصوب بفعل مقدر ، أى : وأخلصوا الإيمان .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى عطف الإيمان على الدار ، ولا يقال : تبوأوا الإيمان؟
قلت معناه : تبوأوا الدار وأخلصوا الإيمان . كقوله : علفتها تبنا وماء باردا .
أى : وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنا لهم ، لتمكنهم منه ، واستقامتهم عليه ، كما جعلوا المدينة كذلك .
أو أراد : دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف فى الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه . .
أو سمى المدينة - لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان - بالإيمان . .
وقوله : { مِن قَبْلِهِمْ } أى : من قبل المهاجرين ، وهو متعلق بقوله { تَبَوَّءُوا } .
وقوله : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } خبر لمبتدأ ، أو حال من الذين تبوأوا الدار .
أى : هذه هى صفات المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم . . . وهذا هو جزاؤهم .
أما الذين سكنوا دار الهجرة وهى المدينة المنورة ، من قبل المهاجرين ، وأخلصوا إيمانهم وعبادتهم لله - تعالى- ، فإن من صفاتهم أنهم يحبون إخوانهم الذين هاجروا إليهم حبا شديدا ، لأن الإيمان ربط قلوبهم برباط المودة والمحبة . وقوله : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } صفة أخرى من صفات الأنصار .
ومعنى : { يَجِدُونَ } هنا : يحسون ويعلمون ، والضمير للأنصار ، وفى قوله { أُوتُواْ } للمهاجرين . والحاجة فى الأصل : اسم مصدر بمعنى الاحتياج ، أى الافتقار إلى الشىء .
والمراد بها هنا : المأرب أو الرغبة الناشئة عن التطلع إلى ما منحه النبى - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين دون الأنصار ، من فىء أو غيره .
أى : أن من صفات الأنصار - أيضا - أنهم لا تتطلع نفوسهم إلى شىء مما أعطى للمهاجرين من الفىء أو غيره ، لأن المحبة التى ربطت قلوب الأنصار بالمهاجرين ، جعلت الأنصار يرتفعون عن التشوف إلى شىء مما أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين وحدهم . . .
ثم وصفهم - سبحانه - بصفة ثالثة كريمة فقال : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } .
والإيثار معناه : أن يؤثر الإنسان غيره على نفسه ، على سبيل الإكرام والنفع ، والخصاصة : شدة الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتحات .
أى : أن من صفات الأنصار أنهم كانوا يقدمون فى النفع إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ، ولو كانوا فى حاجة ماسة ، وفقر واضح ، إلى ما يقدمونه لإخوانهم المهاجرين .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4146)(2/6)
ولقد ضرب الأنصار - رضى الله عنهم - أروع الأمثال وأسماها فى هذا المضمار ، ومن ذلك ما رواه الشيخان والترمذى والنسائى وغيرهم عن أبى هريرة قال : " أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أصابنى الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله "؟ فقام رجل من الأنصار - وفى رواية أنه أبو طلحة - فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله ، فقال لامرأته : أكرمى ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : والله ما عندى إلا قوت الصيبة!! قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالى فأطفئى السراج ، ونطوى بطوننا الليلة لضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعلت .
ثم غدا الضيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة " وأنزل الله فيهما : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . . } . "
وقوله - سبحانه - : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } تذييل قصد به حض الناس على التحلى بفضيلة السخاء والكرم .
والشح : يرى بعضهم أنه بمعنى البخل ، ويرى آخرون أن الشح غريزة فى النفس تحملها على الإمساك والتقتير ، وأما البخل فهو المنع ذاته ، فكأن البخل أثر من آثار الشح .
قال صاحب الكشاف : " الشح " - بالضم والكسر قد قرئ بهما - : اللؤم ، وأن تكون نفس المرء كزة حريصة على المنع كما قال الشاعر :
يمارس نفسا بين جنبيه كَزَّةً ... إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلا
وقد أضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، ومنه قوله - تعالى - : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح . . } أى : ومن يوق - بتوفيق الله وفضله - شح نفسه وحرصها على الإمساك ، فيخالفها فيما تأمره به من المنع والتقتير . فأولئك الذين يخالفونها هم المفلحون ، الفائزون برضا الله - عز وجل - .
ومن الأحاديث التى وردت فى النهى عن الشح ، ما أخرجه مسلم - فى صحيحه - عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " .
---------------
وقال الطاهر بن عاشور (1):
لأظهر أن {الذين} عطف على {المهاجرين} أي والذين تبؤوا الدار هم الأنصار.
والدر تطلق على البلاد، وأصلها موضع القبيلة من الأرض. وأطلقت على القرية قال تعالى في ذكر ثمود {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [االأعراف: 78]، أي في مدينتهم وهي حجر ثمود.
والتعريف هنا للعهد لأن امراد بالدار: يثرب والمعنى الذين هم أصحاب الدار. هذا توطئة لقوله: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} .
والتبوء: اتخاذ المباءة وهي البقعة التي يبوء إليها صاحبها، أي يرجع إليها بعد انتشاره في أعماله. وفي موقع قوله {والإيمان} غموض إذ لا يصح أن يكون مفعول لفعل تبؤوا، فتأوله المفسرون على وجهين: أحدهما أن يجعل الكلام استعارة مكنية بتشبيه الإيمان بالمنزل وجعل إثبات التبؤ تخييلا فيكون فعل تبوأوا مستعملا في حقيقته ومجازه.
وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملا مقدرا يدل عليه الكلام، وتقديره: واخلصوا الإيمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف: علفتها تبنا وماء باردا1
وقول عبد الله بن الزبعرى:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
أي وممسكا رمحا وهو الذي درج عليه الكشاف. وقيل الواو للمعية. و{الإيمان} مفعول معه.
وعندي أن هذا أحسن الوجوه، وإن قل قائلوه. والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعيا فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخرج آيات القران عليه حتى ادعى ابن هشام في مغني اللبيب أنه غير واقع في القرآن بيقين. وتأويل قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]، ذلك لأن البصرين يشترطون أن يكون العامل في المفعول معه هو العامل في الاسم الذي صاحبه ولا يرون واو المعية ناصبة المفعول معه خلافا للكوفيين والأخفش فإن الواو عندهم بمعنى "مع". وقال عبد القاهر: منصوب بالواو.
والحق عدم التزام أن يكون المفعول معه معمولا للفعل، ألا ترى صحة قول القائل: استوى الماء والخشبة. وقولهم: سرت والنيل، وهو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذ غيرها.
وبذلك يتضح أن متعلق {مِنْ قَبْلِهِمْ} فعل {تبوءوا} بمفرده، وأن المجرور المتعلق به قيد فيه دون ما ذكر بعد الواو لأن الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمة مقام الفعل السابق لأن واو في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور.
وفي ذكر الدار وهي المدينة مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة بحيث جعل تبؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمة الله فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من لآفاق. فقال:
ـــــــ
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 28 / ص 80)(2/7)
1 هو من شواهد النحو. والمشهور أن تمامه:
حتى شتت همالة عيناها.
وفي خزانة الأدب عن حاشية الشييرازي واليمني للكشاف أنه عجز رجز وأن صدره:
لما حططت الرجل عنها وأراد .
قال: ورأيت في حاشية نسخة صحيحة من صحاح الجوهري أنه لذي المرمة ولم أجده في ديوانه.
إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} الآية.
وجملة {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} حال من الذين تبوءوا، وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من أخوة الإسلام إذ أحبوا المهاجرين، وشأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم.
ومن آثار هذه المحبة ما ثبت في الصحيح من خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمان بن عوف إذ عرض سعد عليه أن يقاسمه ماله وأن ينزل له عن إحدى زوجتيه، وقد أسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نحيلهم، وحسبك الأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
وقوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أريد بالوجدان الإدراك العقلي، وكنى بانتفاء وجدان الحاجة من انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر:
ولا ترى الضب بها ينجحر
والحاجة في الأصل: اسم مصدر الحوج وهو الاحتياج، أي الافتقار إلى شيء، وتطلق على الأمر المحتاج إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول، وهي هنا مجاز في المأرب والمراد، وإطلاق الحاجة إلى المأرب مجاز مشهور ساوى الحقيقة كقوله تعالى: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} [غافر: 80]، أي لتبلغوا في السفر عليها المأرب الذي تسافرون لأجله، وكقوله تعالى: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68] أي مأربا مهما وقول النابغة:
أيام تخبرني نعم وأخبرها
ما أكتم الناس من حاجي وإسراري
وعليه فتكون "من" في قوله: {مِمَّا أُوتُوا} ابتدائية، أي مأربا أو رغبة ناشئة من فيء أعطيه المهاجرون. والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه االحواس الباطنة وذلك كإطلاق القلب على ذلك.
"وما أوتوا" هو فيء بني النضير.
وضمير {صدورهم} عائد إلى {لَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} وضمير {أوتوا} عائد إلى {مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ، لأن من هاجر جماعة من المهاجرين فروعي في ضمير معنى "من" بدون لفظها. وهذان الضميران وإن كانا ضميري غيبة وكانا مقتربين فالسامع يرد كل ضمير إلى معاده بحسب السياق مثل "ما" في قوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} في سورة الروم. وقول عباس بن مرداس يذكر انتصار المسلمين مع قومه بني سليم على هوازن:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسليمن وأحرزوا ما جمعوا
أي أحرز جيش هوازن ما جمعه جيش المسلمين.
والمعنى: أنهم لا يخامر نفوسهم تشوف إلى أخذ شيء مما أوتيه المهاجرون من فيء بني النضير.
ويجوز وجه آخر بان يحمل لفظ حاجة على استعماله الحقيقي اسم مصدر الاحتياج فإن الحاجة بهذا المعنى يصح وقوعها في الصدور لأنها من الوجدانيات والانفعالات. ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء ما يؤتاه المهاجرون، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون بله أن يتطلبوه.
وتكون "من" في قوله تعالى: {مِمَّا أُوتُوا} للتعليل، أي حاجة لأجل ما أوتيه المهاجرون، أو ابتدائية، أي حاجة ناشئة عما أوتيه المهاجرون فيفيد انتفاء وجدان الحاجة في نفوسهم وانتفاء أسباب ذلك الوجدان ومناشئه المعتادة في الناس تبعا للمنافسة والغبطة، وقد دل انتفاء أسباب الحاجة على متعلق حاجة المحذوف إذ التقدير: ولا يجدون في نفوسهم حاجة لشيء أوتيه المهاجرون.
والايثار: ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة.
والمعنى: يؤثرون على أنفسهم في ذلك اختيارا منهم وهذا أعلى درجة مما أفاده قوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} فلذلك عقب به ولم يذكر مفعول {يؤثرون} لدلالة قوله: {مِمَّا أُوتُوا} عليه.
ومن إيثارهم المهاجرين ما روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار ليقطع لهم قطائع بنخل البحرين فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها.(2/8)
وإما إيثار الواحد منهم على غيره منهم فما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد. فأرسل في نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال التبي صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيف هذا الليلة" رحمه الله فقام رجل من الأنصار هو أبو طلحة فقال: أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله لا تدخريه شيئا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. فإذا دخل الضيف فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج تري أنك تصلحينه فأطفئيه وأريه أنا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف.
وذكرت قصص من هذا القبيل في التفاسير، قيل نزلت هذه الآية في قصة أبي طلحة وقيل غير ذلك.
وجملة {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في موضع الحال.
و {لو} وصلية وهي التي تدل على مجرد تعليق جوابها بشرط يفيد حالة لا يظن حصول الجواب عند حصولها. والتقدير: لو كان بهم خصاصة لآثروا على أنفسهم فيعلم أن إيثارهم في الأحوال التي دون ذلك بالأحرى دون إفادة الامتناع. وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91].
والخصاصة: شدة الاحتياج.
وتذكير فعل {كان} لأجل كون تأنيث الخصاصة ليس حقيقيا، ولأنه فصل بين {كان} واسمها بالمجرور. والباء للملابسة.
وجملة {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تذييل، والواو اعتراضية، فإن التذييل من قبيل الاعتراض في آخر الكلام على الرأي الصحيح. وتذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح أنفسهم بعد قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يشير إلأ أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس فكانه قيل لسلامتهم من شح الأنفس {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
والشح بضم الشين وكسرها: غريزة في النفس بمتع ما هو لها، وهو قريب من معنى البخل. وقال الطيبي: الفرق بين الشح والبخل عسير جدا وقد أشار في الكشاف إلى الفرق بينهما بما يقتضي أن البخل أثر الشح وهو أن يمنع أحد ما يراد منه بدله وقد قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] أي جعل الشح حاضرا معها لا يفارقها، وأضيف في هذه الآية إلى النفس لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس.
وفي الحديث في بيان أفضل الصدقة "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى". ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه. قال وقد أحسن وصفه من قال، لم أقف على قايله:
يمارس نفسا بين جنبيه كزة ... إذا هم بالمعروف قالت له مهلا
فمن وقي شح نفسه، أي وقي من أن يكون الشح المذموم خلقا له، لأنه إذا وقي هذا الخلق سلم من كل مواقع ذمه. فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وقيه.
واسم الإشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس.
وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كان جنس المفلح مقصور على ذلك الموقى.
ومن المفسرين من جعل {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} ابتداء كلام للثناء على الأنصار بمناسبة الثناء على المهاجرين وهؤلاء لم يجعلوا للأنصار حظا في ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى وقصروا قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر:7] على قرى خاصة هي: قريظة. وفدك، وخيبر. والنفع، وعرينة، ووادي القرى، ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه فيئها قال للأنصار: "إن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه"? فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة، فنزلت آية {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية [الحشر: 7].
ومنهم من قصر هذه الآية على فيء بني النضير وكل ذلك خروج عن مهيع انتظام آي هذه السورة بعضها مع بعض وتفكيك لنظم الكلام وتناسبه مع وهن الأخبار التي رووها في ذلك فلا ينبغي التعويل عليه. وعلى هذا التفسير يكون عطف {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} عطف جملة على جملة، واسم الموصول مبتدأ وجملة {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} خبرا عن المبتدأ.
--------------
وقال الجصاص (1):
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 9 / ص 45)(2/9)
وقوله تعالى - : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * , الْخَصَاصَةُ الْحَاجَةُ ; فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِإِيثَارِهِمْ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا يُنْفِقُونَهُ عَلَيْهِمْ , وَإِنْ كَانُوا هُمْ مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ : مَعِي دِينَارٌ فَقَالَ : { أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك فَقَالَ : مَعِي دِينَارٌ آخَرُ فَقَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى عِيَالِك فَقَالَ : مَعِي دِينَارٌ آخَرُ قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ * , وَأَنَّ رَجُلًا جَاءَ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَصَدَّقْ بِهَذِهِ فَإِنِّي مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ مِنْ الشِّقِّ الْآخَرِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ , إلَى أَنْ أَعَادَ الْقَوْلَ , فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَمَاهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَعَقَرْته , ثُمَّ قَالَ : { يَأْتِينِي أَحَدُكُمْ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى * , وَأَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ وَالرَّجُلُ بِحَالِ بَذَاذَةٍ , فَحَثَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّدَقَةِ , فَطَرَحَ قَوْمٌ ثِيَابًا أَوْ دَرَاهِمَ , فَأَعْطَاهُ ثَوْبَيْنِ , ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ , فَطَرَحَ الرَّجُلُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ , فَأَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . فَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ كَرَاهَةُ الْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ وَالْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى النَّفْسِ ثُمَّ الصَّدَقَةُ بِالْفَضْلِ قِيلَ لَهُ : إنَّمَا كَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَثِقْ مِنْهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْفَقْرِ وَخَشِيَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ إذَا فَقَدَ مَا يُنْفِقُهُ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : { يَأْتِينِي أَحَدُهُمْ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ * ؟ فَإِنَّمَا كَرِهَ الْإِيثَارَ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ , فَأَمَّا الْأَنْصَارُ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ فَلَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ * , فَكَانَ الْإِيثَارُ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ الْإِمْسَاكِ , وَالْإِمْسَاكُ مِمَّنْ لَا يَصْبِرُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْمَسْأَلَةِ أَوْلَى مِنْ الْإِيثَارِ . وَقَدْ رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : أُهْدِيَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسُ شَاةٍ , فَقَالَ : إنَّ فُلَانًا وَعِيَالَهُ أَحْوَجُ إلَى هَذَا مِنَّا فَبَعَثَ بِهِ إلَيْهِ , فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ وَاحِدٌ إلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهَا تِسْعَةٌ أَهْلُ أَبْيَاتٍ حَتَّى رَجَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ , فَنَزَلَتْ : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ * الْآيَةَ . وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ : جَاءَ رِجْلٌ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْتُ أَنْ تُصِيبَنِي هَذِهِ الْآيَةُ : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ * , فُو اللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا أُطِيقُ مَنْعَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذَا الْبُخْلُ وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ , وَلَكِنَّ الشُّحَّ أَنْ تَأْخُذَ مَالَ أَخِيك بِغَيْرٍ حَقِّ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قوله تعالى - : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ * قَالَ ادِّخَارُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ " .
--------------------
وفي المحلى (1):
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 5 / ص 756) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 3056) والمحلى لابن حزم - (ج 3 / ص 465)(2/10)
وَمِمَّا ذَكَرْنَا مَسَائِلُ فِيهَا خِلَافٌ قَدِيمٌ , وَهِيَ - : مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ , وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ نَفْسَهُ , وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ , أَوْ مَسْجِدِ إيلْيَاءَ , أَوْ الرُّكُوبَ , أَوْ النُّهُوضَ إلَى مَكَّةَ , أَوْ إلَى مَوْضِعٍ سَمَّاهُ مِنْ الْحَرَمِ , وَمَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدِهِ إنْ بَاعَهُ , أَوْ عِتْقَ عَبْدِ فُلَانٍ إنْ مَلَكَهُ . فَأَمَّا الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ : لَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ - وَهُوَ قَوْلُنَا . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فِي الْمَسَاكِينِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كُلَّهُ , صَحَّ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ جَعَلْت مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَرُوِّينَا عَنْ سَالِمٍ , وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ , أَنَّهُمَا قَالَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى بَعْضِ بَنَاتِهِ . وَصَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ , وَالنَّخَعِيِّ , أَنَّهُمَا كَانَا يُلْزِمَانِهِ مَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ - وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ , وَالشَّافِعِيِّ , وَالطَّحَاوِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , قَالَ هَؤُلَاءِ : فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إلَّا أَبَا سُلَيْمَانَ فَقَالَ : لَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ حَاشَا قُوتِ شَهْرٍ فَإِذَا أَفَادَ شَيْئًا تَصَدَّقَ بِمَا كَانَ أَبْقَى لِنَفْسِهِ - وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ , وَرَأَى فِيهِ إذَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَيَجْزِيهِ - : رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - وَصَحَّ نَحْوُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ - وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ - : رُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ , وَالْحَسَنِ , وَعَطَاءٍ . وَرُوِّينَا ذَلِكَ قَبْلُ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ , وَعُمَرُ , وَجَابِرٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ - كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ جَعَلَ مَالَهُ هَدْيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ أَنْ يَغْتَصِبَ أَحَدًا مَالَهُ , فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلْيُهْدِ خُمُسَهُ وَإِنْ كَانَ وَسَطًا فَسُبُعَهُ , وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَعُشُرُهُ . قَالَ قَتَادَةُ : الْكَثِيرُ أَلْفَانِ , وَالْوَسَطُ أَلْفٌ , وَالْقَلِيلُ خَمْسُمِائَةٍ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ - مَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى قَتَادَةَ , قَالَ : يَتَصَدَّقُ بِخُمُسِهِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يَتَصَدَّقُ بِرُبْعِ الْعُشْرِ - كَمَا رُوِّينَا ذَلِكَ آنِفًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ , وَسَوَّى بَيْنَ مَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ جَمِيعِ مَالِهِ أَوْ بِصَدَقَةِ جُزْءٍ مِنْهُ سَمَّاهُ وَإِنَّمَا رُوِّينَا ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْيَمِينِ بِذَلِكَ . وَرُوِّينَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ قَوْلَ رَبِيعَةَ هَذَا . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ - كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ , وَعُمَرَ بْنِ ذَرٍّ , كِلَاهُمَا عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ قَالَ : إبِلِي نَذْرٌ , أَوْ هَدْيٌ , أَنَّهُ يُجْزِيه بَعِيرٌ مِنْهَا . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُ : لَعَلَّهُ يُجْزِيه إنْ كَانَتْ إبِلُهُ كَثِيرَةً . وَقَالَ ابْنُ ذَرٍّ عَنْهُ : يُهْدِي جَزُورًا ثَمِينًا , وَيُمْسِكُ بَقِيَّةَ إبِلِهِ . وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَلَهُمْ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ - : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ نَذْرًا , أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْيَمِينِ , فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِكُلِّ نَوْعٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَقَطْ , كَالْمَوَاشِي , وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ نِصَابٌ تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ , أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ - وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَلَا نَدْرِي مَا قَوْلُهُمْ(2/11)
فِي الْحُبُوبِ وَمَا يُزْرَعُ , وَالثِّمَارُ , وَالْعَسَلُ ؟ فَإِنَّ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ هَذَا عِنْدَهُ نَعَمْ , وَفِي كُلِّ عَرَضٍ إذَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ , وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا مُتَعَلَّقَ لَهُ بِقُرْآنٍ وَلَا بِسُنَّةٍ , وَلَا رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ , وَلَا قَوْلِ سَلَفٍ , وَلَا قِيَاسٍ , وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ : الْمَالُ هُوَ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : الصَّدَقَةُ الْمَأْخُوذَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَمْلِكُ الْمَرْءُ , وَمَا اخْتَلَفَ قَطُّ عَرَبِيٌّ , وَلَا لُغَوِيٌّ , وَلَا فَقِيهٌ , أَنَّ الْحَوَائِطَ , وَالدُّورَ تُسَمَّى : مَالًا , وَأَمْوَالًا - وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ وَلَهُ حَمِيرٌ , وَدُورٌ , وَضِيَاعٌ , فَإِنَّهُ حَانِثٌ عِنْدَهُمْ , وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ - : وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ أَمْوَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءُ { وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ ؟ فَقَالَ : إنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ * . وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ أَنْ لَا تُجْزِئَ صَدَقَةٌ أَصْلًا إلَّا بِمَالٍ فِيهِ زَكَاةٌ أَوْ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ فَقَطْ . وَقَالَ مَالِكٌ : سَوَاءٌ نَذَرَ ذَلِكَ أَوْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْيَمِينِ إنْ قَالَ : مَالِي كُلُّهُ صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ , فَإِنْ قَالَ : دُورِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَضِيَاعِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ , وَثِيَابِي كُلُّهَا صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ , وَرَقِيقِي كُلُّهُمْ صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ , فَلَمْ يَزَلْ هَكَذَا حَتَّى سَمَّى نَوْعًا نَوْعًا حَتَّى أَتَى عَلَى كُلِّ مَا يَمْلِكُ - : لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ ذَلِكَ أَوَّلُهُ عَنْ آخِرِهِ , لَا يُجْزِيه مِنْهُ الثُّلُثُ إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ وَلَا يُجْبَرُ . فَلَوْ قَالَ مَكَانَ الْمَسَاكِينِ عَلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ - : لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِكُلِّ ذَلِكَ وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ . وَقَالُوا : فَلَوْ نَذَرَ , أَوْ حَلَفَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ , إلَّا دِينَارًا أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِهِ إلَّا دِينَارًا - : وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ , لِأَنَّهُ لَا قُرْآنَ يُعَضِّدُهُ , وَلَا سُنَّةَ , وَلَا رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ , وَلَا قَوْلٌ نَعْلَمُهُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا قِيَاسٌ , وَلَا رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ ; بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِكُلِّ ذَلِكَ . وَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ إلَّا نِصْفَ دِينَارٍ , أَوْ دِرْهَمًا حَتَّى نَبْلُغَهُمْ إلَى الْفَلْسِ , وَحَبَّةِ الْخَرْدَلَةِ ؟ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : إنْ كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا تَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ , وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَرُبْعُ عُشْرِهِ , وَإِنْ كَانَ عَلَقَةً قَلِيلَةً , فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ - وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ لَا وَجْهَ لَهُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَعَلَّقٌ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ إلَّا قَوْلَ مَنْ قَالَ مَنْ قَالَ : يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ ; وَقَوْلَ مَنْ قَالَ : يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ , وَقَوْلَ مَنْ قَالَ : كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَقَطْ . فَأَمَّا مَنْ قَالَ : كَفَّارَةُ يَمِينٍ , فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ * . قَالَ عَلِيٌّ : وَهَذَا خَبَرٌ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { : مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ , وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ * ; فَلَا يَخْلُو النَّذْرُ بِصَدَقَةِ الْمَالِ كُلِّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ , أَوْ يَكُونَ مَعْصِيَةً فَلَا يَلْزَمُهُ أَصْلًا إلَّا أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ صَحِيحٌ فِي ذَلِكَ بِحُكْمٍ مَا فَيُوقَفُ عِنْدَهُ , فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ عليه السلام { : كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ * - وَلِهَذَا الْخَبَرِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ نَذْرُ طَاعَةٍ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا , بَلْ لَيْسَ هُوَ نَذْرَ(2/12)
طَاعَةٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؟ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : يُجْزِيه الثُّلُثُ , فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِخَبَرٍ : رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى نا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ نا ابْنُ إدْرِيسَ قَالَ : قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ { عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَدِّهِ فِي قِصَّتِهِ إذْ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللَّهِ أَنْ أُخْرِجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وآله وسلم صَدَقَةً قَالَ : لَا , قُلْتُ : فَنِصْفَهُ , قَالَ : لَا , قُلْتُ : فَثُلُثَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قُلْتُ : فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي مِنْ خَيْبَرَ * . وَبِخَبَرٍ : رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ : أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ السَّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ أَخْبَرَهُ { أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي , وَأُسَاكِنَكَ , وَأَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ؟ قَالَ : يُجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ * . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ - : أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي السَّائِبِ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ بِمِثْلِهِ . وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ , وَفِيهِ { أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ قَالَ : يُجْزِي عَنْكَ الثُّلُثُ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ , وَكُلُّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لِأَنَّهَا كُلَّهَا مَرَاسِيلُ , وَالْأَوَّلُ مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ ابْنَ إدْرِيسَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ ابْنِ إسْحَاقَ . وَأَمَّا تَمْوِيهُ الْمَالِكِيِّينَ بِالِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْخَبَرِ فَعَارٌ عَظِيمٌ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ كُلِّهِ بِتِلْكَ التَّقَاسِيمِ الْفَاسِدَةِ , وَبِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِصَدَقَةِ نِصْفِ مَالِهِ إذَا نَذَرَهُ - وَفِي هَذَا الْخَبَرِ خِلَافُ ذَلِكَ , وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ النَّذْرِ بِصَدَقَةِ جَمِيعِهِ , وَصَدَقَةِ نِصْفِهِ - فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ مُتَعَلَّقٌ . قَالَ عَلِيٌّ : فَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ إلَّا قَوْلَ مَنْ قَالَ : يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ ; لِأَنَّهُ طَاعَةٌ مَنْذُورَةٌ - فَهَهُنَا نَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , فَنَقُولُ - : قَالَ اللَّه تَعَالَى { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * . وَقَالَ تَعَالَى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * فَلَامَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُحِبَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُ . وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ نا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : سَمِعْتُ { كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ - فَذَكَرَ حَدِيثَ تَخَلُّفِهِ عَنْ تَبُوكَ - وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ : إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ * . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ بِإِسْنَادِهِ مِثْلُهُ , وَزَادَ فِيهِ فَقُلْتُ : إنْ أُمْسِكَ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَنَّ خَيْرَ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى , أَوْ تَصَدَّقَ عَنْ غِنًى , وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ * . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ , فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ , فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ , فَهَكَذَا وَهَكَذَا * . وَالْأَحَادِيثُ هَهُنَا كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الظَّفَرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ(2/13)
لَبِيدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : { كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ , مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا ؟ فَأَعْرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ مِرَارًا - وَهُوَ يُرَدِّدُ كَلَامَهُ هَذَا - ثُمَّ أَخَذَهَا عليه السلام فَحَذَفَهُ بِهَا , فَلَوْ أَنَّهَا أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ وَقَالَ عليه السلام : يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ : هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَتَكَفَّفُ النَّاسَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى * . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوُهُ , وَفِي آخِرِهِ : أَنَّهُ عليه السلام قَالَ : { خُذْ عَنَّا مَالَكَ , لَا حَاجَةَ لَنَا بِهِ * . وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ : { دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم النَّاسَ أَنْ يَطْرَحُوا ثِيَابًا فَطَرَحُوا فَأَمَرَ لَهُ مِنْهَا بِثَوْبَيْنِ , ثُمَّ حَثَّ عليه السلام عَلَى الصَّدَقَةِ فَطَرَحَ الرَّجُلُ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَصَاحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَالَ خُذْ ثَوْبَكَ * . وَمِنْ طَرِيقِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم : { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى * . فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ بِإِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى مَا يُبْقِي غِنًى , وَإِذَا كَانَ الصَّدَقَةُ بِمَا أَبْقَى غِنًى خَيْرًا وَأَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ بِمَا لَا يُبْقِي غِنًى ; فَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ صَدَقَتَهُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ لَا أَجْرَ لَهُ فِيهَا , بَلْ حَطَّتْ مِنْ أَجْرِهِ فَهِيَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ , وَمَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ الْأَجْرِ , أَوْ لَا أَجْرَ فِيهِ مِنْ إعْطَاءِ الْمَالِ فَلَا يَحِلُّ إعْطَاؤُهُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ إفْسَادٌ لِلْمَالِ وَإِضَاعَةٌ لَهُ وَسَرَفٌ حَرَامٌ , فَكَيْفَ وَرَدُّهُ عليه السلام الصَّدَقَةَ بِذَلِكَ بَيَانٌ كَافٍ ؟ فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * . وَقَوْلَهُ عليه السلام إذْ سُئِلَ { أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : جَهْدُ الْمُقِلِّ * . وَقَوْلَهُ عليه السلام { سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَجْوَدِهِمَا * . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ * . وَبِحَدِيثِي أَبِي مَسْعُودٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْمُرُنَا بِالصَّدَقَةِ ; فَيَنْطَلِقُ أَحَدُنَا فَيَتَحَامَلُ فَيَجِيءُ بِالْمُدِّ , وَصَدَقَةِ أَبِي عَقِيلٍ بِصَاعِ تَمْرٍ * فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ وَحُجَّةٌ لَنَا لَا لَهُمْ . وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُبْقُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَعَاشًا , إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِلِّينَ , وَيُؤْثِرُونَ مِنْ بَعْضِ قُوتِهِمْ . وَأَمَّا قوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ * فَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ " جَهْدُ الْمُقِلِّ " فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ الْمَوْصُولَةُ بِقَوْلِهِ عليه السلام { : وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ * فَبَيَّنَ هَذَا الْقَوْلُ أَنَّهُ جَهْدُهُ بَعْدَ كَفَافِ مَنْ تَعُولُ . وَكَذَلِكَ حَدِيثَا أَبِي مَسْعُودٍ أَيْضًا , وَإِنَّمَا كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ فَتَصَدَّقَ بِأَجْوَدِهِمَا , فَكَذَلِكَ أَيْضًا , وَقَدْ يَكُونُ لَهُ ضَيْعَةٌ أَوْ لَهُ غَلَّةٌ تَقُومُ بِهِ فَتَصَدَّقَ بِأَحَدِ دِرْهَمَيْنِ كَانَا لَهُ وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُمَا ؟ فَإِنْ ذَكَرُوا صَدَقَةَ أَبِي بَكْرٍ بِمَا يَمْلِكُهُ ؟ قُلْنَا : هَذَا لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ , وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْتُ { عُمَرَ يَقُولُ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِالصَّدَقَةِ , فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْتُ : الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَالَ : فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى(2/14)
الله عليه وآله وسلم : مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ قُلْتُ : مِثْلَهُ , وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : مَا أَبْقَيْت لِأَهْلِكَ ؟ قَالَ : أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لِأَنَّهُ بِلَا شَكٍّ كَانَتْ لَهُ دَارٌ بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوفَةٌ وَدَارٌ بِمَكَّةَ - وَأَيْضًا : فَإِنَّ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لِيُضَيِّعَهُ فَكَانَ فِي غِنًى . فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ مُجْمَلًا , أَوْ مُنَوَّعًا عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ إلَّا بِمَا أَبْقَى لِنَفْسِهِ , وَلِأَهْلِهِ غِنًى , كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ . فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ سَعْدٍ فِي الْوَصِيَّةِ ؟ قُلْنَا : هُوَ عَلَيْكُمْ ; لِأَنَّ أَمْرَ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ أَمْرِ الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فِي الْحَيَاةِ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْكُمْ - وَأَيْضًا فَقَدْ مَنَعَهُ عليه السلام مِنْ الصَّدَقَةِ بِنِصْفِهِ , وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ هَذَا , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ; وَلَوْ تَرَكَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ - وَيُرَدُّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ , وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ : بِرَدِّ مَا نَفَذَ مِنْ الصَّدَقَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي حَيَاتِهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
1633 - مَسْأَلَةٌ : وَلَا تَنْفُذُ هِبَةٌ وَلَا صَدَقَةٌ لِأَحَدٍ إلَّا فِيمَا أَبْقَى لَهُ وَلِعِيَالِهِ غِنًى , فَإِنْ أَعْطَى مَا لَا يَبْقَى لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ بَعْدَهُ غِنًى فُسِخَ كُلَّهُ . (1)
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 7 / ص 704) والمحلى بالآثار - (ج 1 / ص 4279)(2/15)
بُرْهَانُ ذَلِكَ - : مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ نا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : قَالَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم { : كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ * . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ نا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ * . وَرُوِّينَا مَعْنَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ نا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ حَدَّثَهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ { : أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى * . فَإِذًا كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ , وَأَفْضَلُ الصَّدَقَةِ وَخَيْرُهَا مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى , فَبِلَا شَكٍّ وَبِالضَّرُورَةِ : أَنَّ مَا زَادَ فِي الصَّدَقَةِ وَنَقَصَ مِنْ الْخَيْرِ , وَالْأَفْضَلِ فَلَا أَجْرَ فِيهِ , وَلَا خَيْرَ فِيهِ , وَلَا فَضْلَ فِيهِ , وَأَنَّهُ بَاطِلٌ , وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا , فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ - فَهَذَا مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ . وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : تَصَدَّقُوا فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ قَالَ : عِنْدِي آخَرُ , قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ , قَالَ : عِنْدِي آخَرُ , قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ , قَالَ : عِنْدِي آخَرُ , قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ , قَالَ : عِنْدِي آخَرُ , قَالَ : أَنْتَ أَبْصَرُ بِهِ * وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ نا اللَّيْثُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ - عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ ؟ قَالَ : لَا , قَالَ : مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي ؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّحَّامِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ , فَدَفَعَهَا إلَيْهِ , ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ , فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ , فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَكَهَذَا وَهَكَذَا * . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نا أَبُو الطَّاهِرِ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ - أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي { عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي تَخَلُّفِهِ عَنْ تَبُوكَ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِك فَهُوَ خَيْرٌ لَك ؟ فَقُلْتُ : إنِّي أُمْسِكَ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ * . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ نا أَبِي وَعَمِّي سَعْدٌ , وَيَعْقُوبُ ابْنًا إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ , قَالَا جَمِيعًا : نا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ , فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَابْتَاعَهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ . * حَدَّثَنَا حُمَامُ نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبُغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نا بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ نا مُسَدَّدٌ نا حَمَّادُ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنْ الذَّهَبِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ صَدَقَةٌ(2/16)
مَا تَرَكْتُ لِي مَالًا غَيْرَهَا , فَحَذَفَهُ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَوْ أَصَابَهُ لَأَوْجَعَهُ , ثُمَّ قَالَ : يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَنْخَلِعُ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يَصِيرُ عِيَالًا عَلَى النَّاسِ . * وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ نا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ نا إسْحَاقُ بْنُ إسْمَاعِيلَ نا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ { دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ أَنْ يَطْرَحُوا ثِيَابًا , فَطَرَحُوا , فَأَمَرَ لَهُ بِثَوْبَيْنِ , ثُمَّ حَثَّ عليه السلام عَلَى الصَّدَقَةِ , فَجَاءَ فَطَرَحَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ , فَصَاحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُذْ ثَوْبَكَ * . فَهَذَا { رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ رَدَّ الْعِتْقَ , وَالتَّدْبِيرَ , وَالصَّدَقَةَ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنْ الذَّهَبِ , وَصَدَقَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ بِمَالِهِ كُلِّهِ , وَلَمْ يُجِزْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا . * وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا : قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ * . وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ : أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَمَعَ حَرَامًا وَحَلَالًا فَهُوَ عَقْدٌ مَفْسُوخٌ كُلُّهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى , وَلَا تَمَيَّزَ حَلَالُهُ مِنْ حَرَامِهِ , فَهُوَ عَقْدٌ لَمْ يَكُنْ قَطُّ صَحِيحًا عَمَلُهُ . وَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْبَيَانِ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ خِلَافُهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَجَابِرٍ , وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ , وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ , وَأَبِي سَعِيدٍ . وَرُوِّينَا أَيْضًا مَعْنَاهَا عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَحِيحًا . وَمِنْ الْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ - : مِنْ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * . وقوله تعالى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * . وقوله تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ * وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا السَّلَفُ - : كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ الْهَادِ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : إنِّي رَأَيْت أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي كُلِّهِ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَا تَخْرُجُ مِنْ مَالِك كُلِّهِ , وَلَكِنْ تَصَدَّقْ وَأَمْسِكْ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : يُرَدُّ مِنْ حَيْفِ النَّاحِلِ مَا يُرَدُّ مِنْ حَيْفِ الْمَيِّتِ فِي وَصِيَّتِهِ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : لَا أَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ بِمَالِهِ كُلِّهِ , وَلَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ يُرَدُّ مِنْ حَيْفِ النَّاحِلِ فِي حَيَاتِهِ مَا يُرَدُّ مِنْ حَيْفِ الْمَيِّتِ فِي وَصِيَّتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَضَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ آلِ الزُّبَيْرِ عَلَى بَعْضِ وَلَدِهِ بِجَمِيعِ مَالِهِ إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا فَأَمْضَى لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ الثُّلُثَ , أَوْ نَحْوَهُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَا نَحُدُّ الثُّلُثَ وَلَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ إنَّمَا هُوَ مَا أَبْقَى غِنًى . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ : كُلُّ صَدَقَةٍ تَصَدَّقَ بِهَا رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ قَدْ بَلَغَ لَا بَأْسَ بِعَقْلِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ بِهِ جَائِزَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ لَهُ غِنًى فَيَتَصَدَّقُ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ بِمَالِهِ كُلِّهِ دُونَ بَعْضٍ , فَإِنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ سَرَفًا , فَتَرُدُّ الْوُلَاةُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءَ بِقَدْرِ رَأْيِهِمْ فِيهِ , وَيُجِيزُونَ السَّدَادَ , عَلَى هَذَا جَرَى أَمْرُ الْقُضَاةِ . فَهَؤُلَاءِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , وَعُرْوَةُ , وَابْنُ شِهَابٍ , وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ(2/17)
الْعَزِيزِ , وَأَبُو الزِّنَادِ , وَالْقُضَاةُ جُمْلَةً لَا يُجِيزُونَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ . قَالَ عَلِيٌّ : وَالْغِنَى هُوَ مَا يَقُومُ بِقُوتِ الْمَرْءِ وَأَهْلِهِ عَلَى الشِّبَعِ مِنْ قُوتِ مِثْلِهِ , وَبِكِسْوَتِهِمْ كَذَلِكَ وَسُكْنَاهُمْ , وَبِمِثْلِ حَالٍ مِنْ مَرْكَبٍ وَزِيٍّ فَقَطْ . وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . فَهَذَا يَقَعُ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ اسْمُ غِنًى , لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ النَّاسِ , فَمَا زَادَ فَهُوَ وَفْرٌ وَدَثْرٌ وَيَسَارٌ , وَفَضْلٌ إلَى الْإِكْثَارِ , وَمَا نَقَصَ فَلَيْسَ غِنًى , وَلَكِنَّهُ حَاجَةٌ وَعُسْرَةٌ وَضِيقَةٌ , إلَّا أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْمَسْكَنَةِ , وَالْفَاقَةِ , وَالْفَقْرِ , وَالْإِدْقَاعِ , وَالضَّرُورَةِ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ , وَمِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى وَالْمَالِ . فَإِنْ ذَكَرَ الْمُخَالِفُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * وقوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * : وقوله تعالى { وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ * وَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ فَيَنْطَلِقُ أَحَدُنَا فَيُحَامِلُ فَيَجِيءُ بِالْمُدِّ . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ نا اللَّيْثُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ - عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ , كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ فَتَصَدَّقَ أَجْوَدَهُمَا , وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهَا مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا * . وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْحَكَمِ الرَّقِّيِّ عَنْ حَجَّاجٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَلِيٍّ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيُّ - عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبَشِيٍّ الصَّنْعَانِيِّ الْخَثْعَمِيِّ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : جُهْدُ الْمُقِلِّ * . وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ هُوَ سَعِيدٌ - قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالَ : أَرَأَيْتَ إنْ لَمْ يَجِدْهَا ؟ قَالَ : يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ * وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ نا وَكِيعٌ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ بَاتَ بِهِ ضَيْفٌ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا قُوتَهُ وَقُوتَ صِبْيَانِهِ , فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : نَوِّمِي الصِّبْيَةَ , وَأَطْفِئِي السِّرَاجَ , وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَك - فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * * . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بَلَغَنَا : { أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ عَلَى أَبَوَيْهِ صَدَقَةً - وَهُوَ مَالُهُ كُلُّهُ - ثُمَّ وَرِثَهُمَا , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : هُوَ كُلُّهُ لَكَ حَلَالٌ * . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ نا الْعَلَاءُ بْنُ عَمْرٍو الْحَنَفِيُّ نا أَبُو إسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا فِي صَدْرِهِ بِخِلَالٍ إذْ هَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي أَرَى أَبَا بَكْرٍ وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا بِخِلَالٍ ؟ قَالَ : يَا جِبْرِيلُ أَنْفَقَ عَلَيَّ مَالَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ ؟ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَكَ : اقْرَأْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ السَّلَامَ , وَقَالَ لَهُ : أَرَاضٍ أَنْتَ عَنِّي يَا أَبَا بَكْرٍ فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ذَلِكَ ؟ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ , وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأَسْخَطُ عَلَى رَبِّي , أَنَا عَنْ رَبِّي رَاضٍ وَكَرَّرَهَا ثَلَاثًا * .(2/18)
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ نا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِمَالِهِ كُلِّهِ , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا أَبْقَيْتُ لِأَهْلِكَ ؟ فَقَالَ : أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرُسُلَهُ * . وَمِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى نا إسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { عَنْ عُمَرَ , قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّدَقَةِ , فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ فَقُلْتُ : مِثْلَهُ , قَالَ : وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ قَالَ : اللَّهَ وَرَسُولَهُ * . هَذَا كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرُوهُ قَدْ تَقَصَّيْنَاهُ وَلَكِنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ . أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * فَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا . وَمَنْ أَنْفَقَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , أَوْ أَنْفَقَ ثَلَاثَةً بِالْعَدَدِ كَذَلِكَ : فَقَدْ أَنْفَقَ أَمْوَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى , كَمَا أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَقَلَّ , فَقَدْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; لِأَنَّ بَعْضَ مَالِهِ وَإِنْ قَلَّ يُسَمَّى مَالَهُ . ثُمَّ بَيَانُ مَا يَجُوزُ إنْفَاقُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي قَدَّمْنَا , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ وَمُبِيحَةٌ لِبَسْطِ يَدِهِ كُلَّ الْبَسْطِ , وَلِلتَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ , فَيَكُونُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَأَمَّا قوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ * مَعَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام إذْ سُئِلَ عَنْ { أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ * فَإِنَّ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ بَيَّنَهُمَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق أَبِي دَاوُد نا قُتَيْبَةُ نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ { يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : جُهْدُ الْمُقِلِّ , وَأَبْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ * . فَصَحَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ , وَخَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبَشِيٍّ إنَّمَا هُمَا فِي جُهْدِهِ , وَإِنْ كَانَ مُقِلًّا مِنْ الْمَالِ غَيْرَ مُكْثِرٍ إذَا أَبْقَى لِمَنْ يَعُولُ غِنًى وَلَا بُدَّ . وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * فَحَقٌّ , وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لِأَنَّ مَنْ بِهِ خَصَاصَةٌ وَآثَرَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي مَجْهُودٍ , وَهَكَذَا نَقُولُ , وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ تَضْيِيعُ نَفْسِهِ , وَأَهْلِهِ , وَالصَّدَقَةُ عَلَى مَنْ هُوَ أَغْنَى مِنْهُ . وَأَمَّا { حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يُحَامِلُ فَيَأْتِي بِالْمُدِّ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ * فَهَذَا حَسَنٌ , وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ غِنًى وَلِأَهْلِهِ , وَلَا فَضْلَ عِنْدَهُ فَيَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيُصِيبُ مُدًّا هُوَ عَنْهُ فِي غِنًى فَيَتَصَدَّقُ بِهِ . وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى { ابْدَأْ بِمِنْ تَعُولُ * - { وَأَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى * { , وَرَدُّهُ عليه الصلاة والسلام مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ * . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ { سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ * تَصْحِيحٌ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ غِنًى , وَفَضَلَ لَهُ دِرْهَمَانِ فَقَطْ فَتَصَدَّقَ بِأَجْوَدِهِمَا , وَكَانَتْ نِسْبَةُ الدِّرْهَمِ مِنْ مَالِهِ أَكْثَرَ مِنْ نِسْبَةِ الْمِائَةِ الْأَلْفِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ فَقَطْ , وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غِنًى سِوَاهُمَا . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى يَعْتَمِلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ فَبَيِّنٌ كَقَوْلِنَا ; لِأَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُفْرِدْ الصَّدَقَةَ دُونَ مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ , بَلْ بَدَأَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ , وَهَكَذَا نَقُولُ . وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي بَاتَ بِهِ الضَّيْفُ فَقَدْ رُوِّينَاهُ بِبَيَانٍ لَائِحٍ , كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ نا أَبُو كُرَيْبٍ نا(2/19)
ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ - هُوَ فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُضِيفَهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا لِضَيْفِهِ فَقَالَ : أَلَا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذَا رَحِمَهُ اللَّهُ ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ : أَبُو طَلْحَةَ , فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى رَحْلِهِ * , ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ , كَمَا رَوَاهُ جَرِيرٌ , وَوَكِيعٌ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ - فَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ كَانَ أَبَا طَلْحَةَ وَهُوَ مُوسِرٌ مِنْ مَيَاسِيرِ الْأَنْصَارِ . وَرُوِّينَا عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ , وَقَدْ لَا يَحْضُرُ الْمُوسِرَ أَكْلٌ حَاضِرٌ - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ فَمُنْقَطِعٌ , وَقَدْ رُوِّينَاهُ بِأَحْسَنَ مِنْ هَذَا السَّنَدِ بَيَانًا , كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ نا أَبُو الْوَلِيدِ الْأَنْطَاكِيُّ نا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ نا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَحُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ حَائِطِي صَدَقَةٌ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ , فَأَتَى أَبُوهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مَا كَانَ لَنَا عَيْشٌ غَيْرُهَا , فَرَدَّهَا عَلَيْهِ - يَعْنِي عَلَى الْأَبِ - فَمَاتَ فَوَرِثَهَا - يَعْنِي الِابْنُ عَنْ أَبِيهِ - * فَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ السَّنَدِ - وَفِيهِ رَدُّهُ عليه السلام لِتِلْكَ الصَّدَقَةِ الَّتِي كَانَ لَا عَيْشَ لِأَبِيهِ إلَّا مِنْهَا , فَرَدَّهَا عَلَيْهِ , وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الِابْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ غِنًى غَيْرُهُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَصْلًا ; لِأَنَّ إحْدَى طَرِيقَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - وَالثَّانِيَةُ مِنْ رِوَايَةِ إسْحَاقَ الْفَرْوِيِّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ الصَّغِيرِ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ إبَاحَةُ الصَّدَقَةِ مَا لَمْ يَأْتِ نَهْيٌ عَنْ تَحْرِيمِهَا فَكَانَ يَكُونُ مُوَافِقًا لِمَعْهُودِ الْأَصْلِ , وَكَانَ النَّصُّ الَّذِي قَدَّمْنَا مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَارِدًا بِالْمَنْعِ مِنْ بَعْضِ الصَّدَقَةِ , فَهُوَ بِيَقِينٍ لَا شَكَّ فِيهِ نَاسِخٌ لِمَا يَقْدُمُهُ , وَمَنْ ادَّعَى فِيمَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ نَاسِخٌ أَنَّهُ قَدْ نُسِخَ , فَقَدْ كَذَبَ , وَقَفَا مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَرَامَ إبْطَالَ الْيَقِينِ بِالظَّنِّ الْإِفْكِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي فِيهِ { أَنْفَقَ عَلَيَّ مَالَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ * فَلَا يَحِلُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ عَمْرٍو الْحَنَفِيِّ - وَهُوَ هَالِكٌ مُطْرَحٌ - ثُمَّ التَّوْلِيدُ فِيهِ لَائِحٌ ; لِأَنَّ فِيهِ نَصًّا : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ , وَكَانَ فَتْحُ خَيْبَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِعَامَيْنِ , وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ فِيهَا مِنْ سَهْمِهِ مَالٌ وَاسِعٌ مَشْهُورٌ . وَمَنْ أَخَذَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَانَ قَدْ خَالَفَ تِلْكَ , وَهَذَا لَا يَحِلُّ , وَكَانَ مَنْ أَخَذَ بِتِلْكَ قَدْ أَخَذَ بِهَذِهِ , وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْلِيفِ مَا صَحَّ مِنْ تِلْكَ الْأَخْبَارِ , وَضَمِّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ , وَلَا يَحِلُّ تَرْكُ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ إلَّا بِزِيَادَةٍ أَوْ نَسْخٍ أَوْ تَخْصِيصٍ بِنَصٍّ آخَرَ . وَمِنْ الْعَجَبِ احْتِجَاجُهُمْ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ : رَأَيْت أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي كُلِّهِ , فَمِنْ الْعَجَبِ الِاحْتِجَاجُ فِي الدِّينِ بِأَحْلَامِ نَائِمٍ , هَذَا عَجَبٌ جِدًّا وَقَدْ سَمِعَ عُمَرُ أَبُوهُ رضي الله عنه تِلْكَ الرُّؤْيَا فَلَمْ يَعْبَأْ بِهَا . فَبَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَبَقِيَ كُلُّ مَا أَوْرَدْنَا بِحَسْبِهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا الَّتِي لَا نَظِيرَ لَهَا : مَنْعُ الْمَالِكِيِّينَ , وَالشَّافِعِيِّينَ , مَنْ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لِلَّهِ تَعَالَى , أَوْ بِعِتْقِ عَبْدِهِ لِلَّهِ تَعَالَى , وَهُوَ صَاحِبُ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَةِ عَبْدٍ - وَقَدْ حَضَّهُ اللَّهُ(2/20)
تَعَالَى عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ - ثُمَّ يُجِيزُونَ لَهُ إذَا شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنْ لَا يُغْبَنَ فِي الْبَيْعِ فَأَطْلَقَهُ الْقَاضِي عَلَى مَالِهِ , وَمَا أَدْرَاك مَا الْقَاضِي أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ مَالِهِ لِشَاعِرٍ سَفِيهٍ , أَوْ لِنَدِيمِهِ فِي غَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَيَبْقَى هُوَ وَأَطْفَالُهُ وَعِيَالُهُ يَسْأَلُونَ عَلَى الْأَبْوَابِ وَيَمُوتُونَ جُوعًا وَبَرْدًا , وَاَللَّهِ مَا كَانَ قَطُّ هَذَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى , مَا هُوَ إلَّا مِنْ حُكْمِ الشَّيْطَانِ - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ .
---------------
وقال ابن العربي (1):
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * . فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ الْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ : يُرِيدُ بِذَلِكَ الْأَنْصَارَ الَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ طُرِدَ , وَنَصَرُوهُ حِينَ خُذِلَ , فَلَا مِثْلَ لَهُمْ وَلَا لِأَجْرِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * : فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا قُوتُهُ وَقُوتُ صِبْيَانِهِ , فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : نَوِّمِي الصِّبْيَةَ , وَأَطْفِئِي السِّرَاجَ , وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَك , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * . مُخْتَصَرٌ , وَتَمَامُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ ; عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ; أَصَابَنِي الْجَهْدُ ; فَأَرْسَلَ إلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; لَا تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئًا . فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ مَا عِنْدِي سِوَى قُوتِ الصِّبْيَةِ . قَالَ : فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ , فَفَعَلَتْ ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةَ , وَأَنْزَلَ : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * * . وَرُوِيَ { أَنَّ النَّضِيرَ لَمَّا اُفْتُتِحَتْ أَرْسَلَ إلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ : جِئْنِي بِقَوْمِك . قَالَ : الْخَزْرَجُ . قَالَ : الْأَنْصَارُ , فَدَعَاهُمْ وَقَدْ كَانُوا وَاسَوْا الْمُهَاجِرِينَ بِدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ , فَقَالَ لَهُمْ : إنْ شِئْتُمْ أَشْرَكْتُكُمْ فِيهَا مَعَ الْمُهَاجِرِينَ , وَإِنْ شِئْتُمْ خَصَصْتُهُمْ بِهَا , وَكَانَتْ لَكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَدِيَارُكُمْ ; فَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ : بَلْ نَخُصُّهُمْ بِهَا وَيَبْقَوْنَ عَلَى مُوَاسَاتِنَا لَهُمْ ; فَنَزَلَتْ الْآيَةُ * . الْأَوَّلُ أَصَحُّ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ : { كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ , فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ * .
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 7 / ص 281)(2/21)
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ , وَإِنْ عَادَ إلَى النَّفْسِ وَمِنْ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ : وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ وَمِنْ عِبَارَاتِ الصُّوفِيَّة فِي حَدِّ الْمَحَبَّةِ : إنَّهَا الْإِيثَارُ , أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لَمَا تَنَاهَتْ فِي حُبِّهَا لِيُوسُفَ عليه السلام آثَرَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا بِالتَّبْرِئَةِ , فَقَالَتْ : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ * . وَأَفْضَلُ الْجُودُ بِالنَّفْسِ الْجُودُ عَلَى حِمَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; فَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَرَّسَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ , وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَطَلَّعُ فَيَرَى الْقَوْمَ , فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ : لَا تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ , لَا يُصِيبُونَك , نَحْرِي دُونَ نَحْرِك . وَوَقَى بِيَدِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشُلَّتْ * . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْإِيثَارُ هُوَ تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي حُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ رَغْبَةً فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ , وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ , وَوَكِيدِ الْمَحَبَّةِ , وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ ; وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُؤْثَرِينَ ; كَمَا رُوِيَ فِي الْآثَارِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ وَمِنْ عُمَرَ نِصْفَ مَالِهِ , وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبًا إلَى الثُّلُثِ , لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ; إذْ لَا خَيْرَ لَهُ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَنْدَمَ , فَيُحْبِطُ أَجْرَهُ نَدَمُهُ * .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قوله تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشُّحِّ وَالْبُخْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَهُمَا مَعْنَيَانِ : فَالْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ; لِقَوْلِهِ عليه السلام : { مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقُ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ , فَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَيُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ * . وَالشُّحُّ : مَنْعُ الَّذِي لَمْ يَجِدْ ; بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ ; فَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذَهَابِ الشُّحِّ ; وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ; فَإِنَّ كُلَّ حَرْفٍ يُفَسَّرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْ مَعْنًى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِحَرْفَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ يُوضَعُ مَوْضِعَ صَاحِبِهِ جَمْعًا أَوْ فَرْقًا , وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ , وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا .
------------------
وفي المجموع (1):
__________
(1) - المجموع - (ج 9 / ص 45)(2/22)
( فَرْعٌ ) لَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ فَخِذِهِ أَوْ غَيْرِهَا لِيَأْكُلَهَا , فَإِنْ كَانَ الْخَوْفُ مِنْهُ كَالْخَوْفِ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ أَوْ أَشَدَّ , حَرُمَ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ , وَصَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ , وَإِلَّا فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا ( أَصَحُّهُمَا ) جَوَازُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ( وَالثَّانِي ) لَا يَجُوزُ , اخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ , وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ , وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ , وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ وَالنُّسَخِ , وَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَجِدَ شَيْئًا غَيْرَهُ , فَإِنْ وَجَدَ حَرُمَ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَعْصُومٍ غَيْرِهِ بِلَا خِلَافٍ , وَلَيْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَعْضَائِهِ شَيْئًا لِيَدْفَعَهُ إلَى الْمُضْطَرِّ بِلَا خِلَافٍ , صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْأَصْحَابُ . السَّابِعَةُ ) إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ طَعَامًا حَلَالًا طَاهِرًا لِغَيْرِهِ فَلَهُ حَالَانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا ( الثَّانِي ) أَنْ يَكُونَ غَائِبًا , فَإِنْ حَضَرَ نُظِرَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ مُضْطَرًّا إلَيْهِ أَيْضًا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ , وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَفْضُلْ عَنْ حَاجَتِهِ , إلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمَالِكِ نَبِيًّا , فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ بَذْلُهُ لَهُ , هَكَذَا قَالُوهُ , وَالْحُكْمُ صَحِيحٌ , لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ , وَتُتَصَوَّرُ فِي زَمَنِ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام وَقَدْ تَكُونُ مَسْأَلَةً عِلْمِيَّةً , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ أَصْحَابُنَا : فَإِنْ آثَرَ الْمَالِكُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * قَالُوا : وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ مُسْلِمًا , فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يُؤْثِرُهُ حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا وَكَذَا لَا يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ بَهِيمَةً , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( أَمَّا ) إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالِكُ مُضْطَرًّا فَيَلْزَمُهُ إطْعَامُ الْمُضْطَرِّ , مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا وَكَذَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ثَانِي الْحَالِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ , وَلِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْخُذَهُ قَهْرًا , وَلَهُ مُقَاتَلَةُ الْمَالِكِ عَلَيْهِ , فَإِنْ أَتَى الْقِتَالُ عَلَى نَفْسِ الْمَالِكِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ , وَإِنْ قَتَلَ الْمَالِكُ الْمُضْطَرَّ فِي الدَّفْعِ عَنْ طَعَامٍ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ , وَإِنْ مَنَعَهُ الطَّعَامَ فَمَاتَ جُوعًا فَلَا ضَمَانَ , قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَلَوْ قِيلَ يَضْمَنُ , لَكَانَ مَذْهَبًا , قَالَ أَصْحَابُنَا : وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي يَلْزَمُ الْمَالِكَ بَذْلُهُ , وَيَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ قَهْرًا , وَالْقِتَالُ عَلَيْهِ قَوْلَانِ ( أَصَحُّهُمَا ) مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ ( وَالثَّانِي ) قَدْرُ الشِّبَعِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ الْمَيْتَةِ , وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ الْأَخْذُ قَهْرًا وَالْقِتَالُ ؟ فِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ , وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَجِبَ ( وَالْأَصَحُّ ) هُنَا أَنَّهُ يَجِبُ الْأَخْذُ قَهْرًا وَلَا يَجِبُ الْقِتَالُ , لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ دَفْعُ الصَّائِلِ فَهُنَا أَوْلَى , وَخَصَّ الْبَغَوِيّ الْخِلَافَ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَوْفٌ فِي الْأَخْذِ قَهْرًا , قَالَ فَإِنْ خَافَ لَمْ يَجِبْ قَطْعًا , وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا عَلَى الْمَالِكِ بَذْلَهُ لِلْمُضْطَرِّ فَفِي الْحَاوِي وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ مَجَّانًا , وَلَا يَلْزَمُ الْمُضْطَرَّ شَيْءٌ كَمَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ بِلَا شَيْءٍ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْبَذْلُ إلَّا بِعِوَضٍ , وَبِهَذَا قَطَعَ الْجُمْهُورُ وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا خَلَصَ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ بِالْوُقُوعِ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ بِلَا خِلَافٍ , بِأَنَّ هُنَاكَ يَلْزَمُهُ التَّخْلِيصُ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى تَقْدِيرِ الْأُجْرَةِ , وَهُنَا بِخِلَافِهِ . وَسَوَّى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَهُمَا وَقَالُوا : إنْ احْتَمَلَ الْحَالُ هُنَاكَ مُوَافَقَةً عَلَى أُجْرَةٍ(2/23)
يَبْذُلُهَا أَوْ يَلْتَزِمُهَا لَمْ يَلْزَمْ تَخْلِيصُهُ حَتَّى يَلْتَزِمَهَا , كَمَا فِي الْمُضْطَرِّ , وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ الْحَالُ التَّأْخِيرَ فِي صُورَةِ الْمُضْطَرِّ فَأَطْعَمَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعِوَضُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ إنْ بَذَلَ الْمَالِكُ طَعَامَهُ مَجَّانًا لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَيَأْكُلُ مِنْهُ حَتَّى يَشْبَعَ وَإِنْ بَذَلَهُ بِالْعِوَضِ نُظِرَ إنْ لَمْ يُقَدَّرْ الْعِوَضُ لَزِمَ الْمُضْطَرَّ بَذْلُهُ , وَهُوَ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا , وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا لَزِمَهُ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ , وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَتَّى يَشْبَعَ , وَإِنْ قُدِّرَ لَهُ الْعِوَضُ فَإِنْ لَمْ يُفْرِدْ مَا يَأْكُلُهُ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ , وَإِنْ أَفْرَدَهُ كَانَ الْمُقَدَّرُ ثَمَنَ الْمِثْلِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ , وَلِلْمُضْطَرِّ مَا فَضَلَ عَنْ الْآخَرِ , وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَالْتَزَمَهُ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ أَوْجُهٌ ( أَصَحُّهَا ) عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ لَازِمٍ ( وَأَصَحُّهَا ) عِنْدَ الرُّويَانِيِّ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا ثَمَنُ الْمِثْلِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ , لِأَنَّهُ كَالْمُكْرَهِ . ( وَالثَّالِثُ ) وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَاوَرْدِيُّ إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْمُضْطَرِّ لِيَسَارٍ لَزِمَتْهُ , وَإِلَّا فَلَا . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيَنْبَغِي لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَحْتَالَ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ لِيَكُونَ الْوَاجِبُ الْقِيمَةَ بِلَا خِلَافٍ قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا يَلْزَمُهُ ثَمَنًا لَكِنَّ الْوَجْهَ جَعْلُ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ لِمَعْنًى , وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ هَلْ هُوَ مُكْرَهٌ أَمْ لَا ؟ وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقَالَ : الشِّرَاءُ بِالثَّمَنِ الْغَالِي لِضَرُورَةٍ هَلْ تَجْعَلُهُ كَرْهًا حَتَّى لَا يَصِحَّ الشِّرَاءُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ( أَقْيَسُهُمَا ) صِحَّةُ الْبَيْعِ , قَالَ : وَكَذَا الْمُصَادَرُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ الظَّالِمِ إذَا بَاعَ لِلضَّرُورَةِ فِي الْمُصَادَرَةِ وَدَفْعِ الْأَذَى الَّذِي يَخَافُهُ فِيهِ وَجْهَانِ ( أَصَحُّهُمَا ) صِحَّةُ الْبَيْعِ , لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ عَلَى نَفْسِ الْبَيْعِ , وَمَقْصُودُ الظَّالِمِ تَحْصِيلُ الْمَالِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ , وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الْمَرُّوذِيُّ , وَاحْتَجَّ بِهِ لِوَجْهِ لُزُومِ الْمُسَمَّى فِي مَسْأَلَةِ الْمُضْطَرِّ . ( فَرْعٌ ) مَتَى بَاعَ لِلْمُضْطَرِّ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَمَعَ الْمُضْطَرِّ مَالٌ , لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ وَصَرْفُ مَا مَعَهُ مِنْ الْمَال إلَى الثَّمَنِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهُ سَاتِرُ عَوْرَتِهِ لَزِمَهُ صَرْفُهُ إلَيْهِ إنْ لَمْ يَخَفْ الْهَلَاكَ بِالْبَرْدِ وَيُصَلِّي عَارِيًّا , لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ أَخَفُّ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ , وَلِهَذَا يَجُوزُ أَخْذُ الطَّعَامِ قَهْرًا , وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ سَائِرِ الْعَوْرَةِ قَهْرًا , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَالٌ لَزِمَهُ الْتِزَامُهُ فِي ذِمَّتِهِ , سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَمْ لَا , وَيَلْزَمُ الْمَالِكَ فِي هَذَا الْحَالِ الْبَيْعُ نَسِيئَةً , قَالَ أَصْحَابُنَا : وَالشِّرَاءُ هُنَا وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ , وَلَا يَجِيءُ فِيهِ الْوَجْهُ السَّابِقُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَكْلُ مِنْ الْمَيْتَةِ بَلْ يَجُوزُ , لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ يَقُولُ لَا يَجِبُ , لِأَنَّ فِيهِ مُبَاشَرَةَ النَّجَاسَةِ , وَهَذَا مَقْصُودٌ فِي مَسْأَلَةِ الطَّعَامِ الطَّاهِرِ . ( فَرْعٌ ) لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ الْأَخْذُ قَهْرًا إذَا بَذَلَ الْمَالِكُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ , فَإِنْ طَلَبَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ , وَيَأْخُذَهُ قَهْرًا وَيُقَاتِلَهُ , فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِالزِّيَادَةِ مَعَ إمْكَانِ أَخْذِهِ قَهْرًا فَهُوَ مُخْتَارٌ فِي الزِّيَادَةِ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى بِلَا خِلَافٍ , وَالْخِلَافُ السَّابِقُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ الْأَخْذِ قَهْرًا . ( فَرْعٌ ) لَوْ أَطْعَمَهُ الْمَالِكُ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِبَاحَةِ فَوَجْهَانِ ( الْأَصَحُّ ) أَنَّهُ لَا عِوَضَ عَلَيْهِ , وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَالْمُسَامَحَةِ الْمُعْتَادَةِ بِالطَّعَامِ . ( وَالثَّانِي ) يَلْزَمُهُ الْعِوَضُ , وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْخِلَافِ فِيمَنْ عُرِفَ بِالْعَمَلِ بِأُجْرَةٍ إذَا اسْتَعْمَلَهُ إنْسَانٌ بِغَيْرِ شَرْطِ أُجْرَةٍ(2/24)
, وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ , وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَالِكُ : أَطْعَمْتُكَ بِعِوَضٍ , فَقَالَ الْمُضْطَرُّ : بَلْ مَجَّانًا , فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبَا الْعُدَّةِ وَالْبَيَانِ قَوْلَيْنِ ( أَصَحُّهُمَا ) يُصَدَّقُ الْمَالِكُ , لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِدَفْعِهِ . ( وَالثَّانِي ) الْمُضْطَرُّ , لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ , وَلَوْ أَوْجَرَ الْمَالِكُ الْمُضْطَرَّ قَهْرًا أَوْ أَوْجَرَهُ وَهُوَ مُغْمَى عَلَيْهِ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْقِيمَةَ عَلَيْهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ( أَصَحُّهُمَا ) يَسْتَحِقُّ , لِأَنَّهُ خَلَّصَهُ مِنْ الْهَلَاكِ , كَمَنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ , وَلِمَا فِيهِ مِنْ التَّحْرِيضِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ . ( فَرْعٌ ) كَمَا يَجِبُ بَذْلُ الْمَالِ لِإِبْقَاءِ الْآدَمِيِّ الْمَعْصُومِ , يَجِبُ بَذْلُهُ لِإِبْقَاءِ الْبَهِيمَةِ الْمُحْتَرَمَةِ , وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْغَيْرِ , وَلَا يَجِبُ الْبَذْلُ لِلْحَرْبِيِّ وَلَا لِلْمُرْتَدِّ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ , وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ كَلْبٌ مُبَاحُ الْمَنْفَعَةِ جَائِعٌ وَشَاةٌ , لَزِمَهُ ذَبْحُ الشَّاةِ لِإِطْعَامِ الْكَلْبِ , قَالَ الْبَغَوِيّ : وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهَا لِأَنَّهَا ذُبِحَتْ لِلْأَكْلِ . قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ : وَلَوْ كَانَ مَعَهُ كَلْبٌ مُضْطَرٌّ وَمَعَ غَيْرِهِ شَاةٌ لَيْسَ مُضْطَرًّا إلَيْهَا لَزِمَهُ بَذْلُهَا . فَإِنْ امْتَنَعَ فَلِصَاحِبِ الْكَلْبِ قَهْرُهُ وَمُقَاتَلَتُهُ لِمَا سَبَقَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( الْحَالُ الثَّانِي ) أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ غَائِبًا فَيَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ طَعَامِهِ وَيَغْرَمُ لَهُ بَدَلَهُ , وَفِي وُجُوبِ الْأَكْلِ وَالْقَدْرِ الْمَأْكُولِ مَا سَبَقَ مِنْ الْخِلَافِ , وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ , وَالْوَلِيُّ غَائِبٌ , فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ , وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ فِي مَالِهِمَا كَكَامِلِ الْحَالِ فِي مَالِهِ , قَالَ أَصْحَابُنَا : وَهَذِهِ إحْدَى الصُّوَرِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُ مَالِ الصَّبِيِّ نَسِيئَةً , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ) إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ وَهُوَ غَائِبٌ , فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ , وَقِيلَ : ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ( أَصَحُّهَا ) يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ , ( وَالثَّانِي ) يَجِبُ أَكْلِ الطَّعَامِ , وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ , ( وَالثَّالِثُ ) يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا , وَأَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْخِلَافِ فِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ , وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ حَاضِرًا فَإِنْ بَذَلَهُ بِلَا عِوَضٍ أَوْ بِثَمَنِ مِثْلِهِ , أَوْ بِزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا , وَمَعَهُ ثَمَنُهُ , أَوْ رَضِيَ بِذِمَّتِهِ , لَزِمَهُ الْقَبُولُ , وَلَمْ يَجُزْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ , فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ , فَالْمَذْهَبُ وَاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالطَّبَرِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ , لَكِنْ يُسْتَحَبُّ , وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ فَهُوَ كَمَا إذَا لَمْ يَبْذُلْهُ أَصْلًا , وَإِذَا لَمْ يَبْذُلْهُ لَمْ يُقَاتِلْهُ عَلَيْهِ الْمُضْطَرُّ , إنْ خَافَ مِنْ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى نَفْسِهِ , أَوْ خَافَ إهْلَاكَ الْمَالِكِ فِي الْمُقَاتَلَةِ , بَلْ يَعْدِلُ إلَى الْمَيْتَةِ , وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ لِضَعْفِ الْمَالِكِ وَسُهُولَةِ دَفْعِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِيمَا إذَا كَانَ غَائِبًا . هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ , وَقَالَ الْبَغَوِيّ : يَشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ الْغَالِي وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ , ثُمَّ يَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى ؟ أَمْ ثَمَنُ الْمِثْلِ ؟ قَالَ : وَإِذَا لَمْ يَبْذُلْ أَصْلًا وَقُلْنَا : طَعَامُ الْغَيْرِ أَوْلَى مِنْ الْمَيْتَةِ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَهُ وَيَأْخُذَهُ قَهْرًا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( التَّاسِعَةُ ) لَوْ اُضْطُرَّ مُحْرِمٌ وَلَمْ يَجِدْ إلَّا صَيْدًا فَلَهُ ذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ , وَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ , وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ , وَإِنْ وَجَدَ صَيْدًا وَمَيْتَةً , فَلَهُ طَرِيقَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقِينَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا ذَبَحَ صَيْدًا هَلْ يَصِيرُ مَيْتَةً ؟ فَيَحْرُمَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ ؟ أَمْ لَا يَكُونُ مَيْتَةً فَلَا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ ؟ ( وَالْأَصَحُّ ) أَنَّهُ يَصِيرُ مَيْتَةً ( فَإِنْ(2/25)
قُلْنَا ) يَصِيرُ مَيْتَةً أَكَلَ الْمَيْتَةَ وَإِلَّا فَالصَّيْدُ وَالطَّرِيقُ ( الثَّانِي ) إنْ قُلْنَا : يَصِيرُ مَيْتَةً أَكَلَ الْمَيْتَةَ , وَإِلَّا فَأَيَّهُمَا يَأْكُلُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ , وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ , وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ حَكَى فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَوْ أَوْجُهٍ ( أَصَحُّهَا ) يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ ( وَالثَّانِي ) يَلْزَمَهُ أَكْلُ الصَّيْدِ ( وَالثَّالِثُ ) يَتَخَيَّرُ , وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَالصَّحِيحُ عَلَى الْجُمْلَةِ وُجُوبُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ . وَلَوْ وَجَدَ الْمُحْرِمُ لَحْمَ صَيْدٍ مَذْبُوحٍ وَمَيْتَةً , فَإِنْ كَانَ ذَابِحُهُ حَلَالًا ذَبَحَهُ لِنَفْسِهِ فَهَذَا مُضْطَرٌّ وَجَدَ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ , وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ , وَإِنْ ذَبَحَهُ هَذَا الْمُحْرِمُ . قَبْلَ إحْرَامِهِ فَهُوَ وَاجِدُ طَعَامِ حَلَالٍ لِنَفْسِهِ , فَلَيْسَ مُضْطَرًّا , فَإِنْ ذَبَحَهُ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ ذَبَحَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ وَقُلْنَا : هُوَ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ( أَصَحُّهَا ) يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ( وَالثَّانِي ) يَتَعَيَّنُ لَحْمُ الصَّيْدِ ( وَالثَّالِثُ ) الْمَيْتَةُ , وَقَالَ الدَّارِمِيُّ : إنْ قُلْنَا : إنَّهُ مَيْتَةٌ أَكَلَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ , وَغَيْرُ الصَّيْدِ أَوْلَى , وَإِنْ قُلْنَا : لَيْسَ بِمَيْتَةٍ فَوَجْهَانِ ( أَحَدُهُمَا ) يَأْكُلُهُ ( وَالثَّانِي ) يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ . وَلَوْ وَجَدَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَطَعَامَ الْغَيْرِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَوْ أَقْوَالٍ , سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُ مَيْتَةً أَمْ لَا ( أَحَدُهَا ) يَتَعَيَّنُ الصَّيْدُ ( وَالثَّانِي ) الطَّعَامُ ( وَالثَّالِثُ ) يَتَخَيَّرُ هَذَا إذَا كَانَ مَالِكُ الطَّعَامِ غَائِبًا , فَإِنْ حَضَرَ وَمَنَعَهُ تَعَيَّنَ الصَّيْدُ , وَإِنْ بَذَلَهُ تَعَيَّنَ الطَّعَامُ صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ , وَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَصَيْدًا وَطَعَامَ الْغَيْرِ , فَسَبْعَةُ أَوْجُهٍ , ذَكَرَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ ( أَصَحُّهَا ) يَتَعَيَّنُ الْمَيْتَةُ ( وَالثَّانِي ) الصَّيْدُ ( وَالثَّالِثُ ) الطَّعَامُ ( وَالرَّابِعُ ) يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ ( وَالْخَامِسُ ) يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالْمَيْتَةِ ( وَالسَّادِسُ ) يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الصَّيْدِ وَالْمَيْتَةِ ( وَالسَّابِعُ ) بَيْنَ الصَّيْدِ وَالطَّعَامِ . ( فَرْعٌ ) إذَا لَمْ نَجْعَلْ مَا يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الصَّيْدِ مَيْتَةً , فَهَلْ عَلَى الْمُضْطَرِّ قِيمَةُ مَا أَكَلَهُ مِنْهُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُحْرِمِ , هَلْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَى الصَّيْدِ ؟ . ( الْعَاشِرَةُ ) إذَا وَجَدَ مَيْتَتَانِ إحْدَاهُمَا مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولِ دُونَ الْأُخْرَى , أَوْ إحْدَاهُمَا طَاهِرَةٌ فِي الْحَيَاةِ دُونَ الْأُخْرَى , كَشَاةٍ وَحِمَارٍ , أَوْ كَلْبٍ , فَهَلْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ أَمْ تَتَعَيَّنُ الشَّاةُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ( أَصَحُّهُمَا ) تَرْكُ الْكَلْبِ وَالتَّخْيِيرُ فِي الْبَاقِي , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) لَا يَجُوزُ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ حَتَّى يَتُوبَ . هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ * وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ , وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ وَاضِحَةً فِي بَابِ مَسْحِ الْخُفِّ , وَبَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ . الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا وَجَدَ مَعَ غَيْرِهِ طَعَامًا يَضُرُّهُ وَيَزِيدُ فِي مَرَضِهِ , جَازَ تَرْكُهُ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ , قَالَ أَصْحَابُنَا : وَكَذَا لَوْ كَانَ الطَّعَامُ لَهُ , وَعَدُّوا هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرُورَةِ , وَكَذَا التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا . ( فَرْعٌ ) قَالَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - : وَإِذَا اُضْطُرَّ وَوَجَدَ مَنْ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ , وَهِيَ إذَا خَافَ أَنْ يُطْعِمَهُ أَوْ يَسْقِيَهُ مَسْمُومًا , فَلَوْ تَرَكَهُ وَأَكَلَ الْمَيْتَةَ فَلَهُ تَرْكُهُ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) إذَا اُضْطُرَّ إلَى شُرْبِ الدَّمِ أَوْ الْبَوْلِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ النَّجَاسَاتِ الْمَائِعَةِ غَيْرِ الْمُسْكِرِ , جَازَ لَهُ شُرْبُهُ بِلَا خِلَافٍ , وَإِنْ اُضْطُرَّ وَهُنَاكَ خَمْرٌ وَبَوْلٌ لَزِمَهُ شُرْبُ الْبَوْلِ ,(2/26)
وَلَمْ يَجُزْ شُرْبُ الْخَمْرِ بِلَا خِلَافٍ , لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ( وَأَمَّا ) التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْخَمْرِ فَهُوَ جَائِزٌ سَوَاءٌ فِيهِ جَمِيعُ النَّجَاسَاتِ غَيْرُ الْمُسْكِرِ , هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ , وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ , وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ , لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ( وَوَجْهٌ ثَالِثٌ ) أَنَّهُ يَجُوزُ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ خَاصَّةً لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا , وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِهَا , حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ , وَهُمَا شَاذَّانِ , وَالصَّوَابُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا , لِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه { أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُرَيْنَةَ وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالنُّونِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ , فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَلَا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا ؟ قَالُوا : بَلَى فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَصَحُّوا , فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَطْرَدُوا النَّعَمَ * رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ , هَذَا لَفْظُ إحْدَى رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ , وَفِي رِوَايَةٍ " فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا أَبْوَالَهَا وَأَلْبَانَهَا " . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَةِ إذَا لَمْ يَجِدْ طَاهِرًا يَقُومُ مَقَامَهَا , فَإِنْ وَجَدَهُ حَرُمَتْ النَّجَاسَاتُ بِلَا خِلَافٍ , وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ * فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ , وَلَيْسَ حَرَامًا إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُتَدَاوِي عَارِفًا بِالطِّبِّ , يَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُ هَذَا مَقَامَهُ , أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ , وَيَكْفِي طَبِيبٌ وَاحِدٌ , صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ , فَلَوْ قَالَ الطَّبِيبُ : يَتَعَجَّلُ لَكَ بِهِ الشِّفَاءُ . وَإِنْ تَرَكْتَهُ تَأَخَّرَ , فَفِي إبَاحَتِهِ وَجْهَانِ , حَكَاهُمَا الْبَغَوِيّ , وَلَمْ يُرَجِّحْ وَاحِدًا مِنْهُمَا , وَقِيَاسُ نَظِيرِهِ فِي التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ جَوَازَهُ . ( أَمَّا ) الْخَمْرُ وَالنَّبِيذُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُسْكِرِ فَهَلْ يَجُوزُ شُرْبُهَا لِلتَّدَاوِي أَوْ الْعَطَشِ ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٌ ( الصَّحِيحُ ) عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا ( وَالثَّانِي ) يَجُوزُ ( وَالثَّالِثُ ) يَجُوزُ لِلتَّدَاوِي دُونَ الْعَطَشِ ( وَالرَّابِعُ ) عَكْسُهُ . قَالَ الرَّافِعِيُّ : الصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا , وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه عَنْهُ : { أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا , فَقَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ * رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ , وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ جَوَازَهَا لِلْعَطَشِ دُونَ التَّدَاوِي وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ , وَهُوَ تَحْرِيمُهَا لَهُمَا , وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَسَأُورِدُ دَلِيلَهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , فَإِنْ جَوَّزْنَا شُرْبَهَا لِلْعَطَشِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ خَمْرٌ وَبَوْلٌ لَزِمَهُ شُرْبُ الْبَوْلِ وَحَرُمَ الْخَمْرُ , لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْبَوْلِ أَخَفُّ , قَالَ أَصْحَابُنَا : فَهَذَا كَمَنْ وَجَدَ بَوْلًا وَمَاءً نَجِسًا فَإِنَّهُ يَشْرَبُ الْمَاءَ النَّجَسَ , لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ طَارِئَةٌ , وَفِي جَوَازِ التَّبَخُّرِ بِالنَّدِّ الْمَعْجُونِ بِالْخَمْرِ وَجْهَانِ بِسَبَبِ دُخَانِهِ " أَصَحُّهُمَا " جَوَازُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ دُخَانَ نَفْسِ النَّجَاسَةِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
---------------------
وفي الأشباه والنظائر للسيوطي (1):
__________
(1) - الأشباه والنظائر - (ج 1 / ص 211)(2/27)
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ الْإِيثَارُ فِي الْقُرَبِ مَكْرُوهٌ . وَفِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ . قَالَ تَعَالَى ( { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * . قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ : لَا إيثَارَ فِي الْقُرُبَاتِ , فَلَا إيثَارِ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ , وَلَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلَا بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْعِبَادَاتِ : التَّعْظِيمُ , وَالْإِجْلَالُ . فَمَنْ آثَرَ بِهِ , فَقَدْ تَرَكَ إجْلَالَ الْإِلَهِ وَتَعْظِيمِهِ . وَقَالَ الْإِمَامُ : لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَمَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ فَوَهَبَهُ لِغَيْرِهِ لِيَتَوَضَّأ بِهِ , لَمْ يَجُزْ , لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا ; لِأَنَّ الْإِيثَارَ : إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ , لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرَبِ , وَالْعِبَادَاتِ . وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ , فِي بَابِ الْجُمُعَةِ : لَا يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيُجْلَسَ فِي مَوْضِعِهِ , فَإِنْ قَامَ بِاخْتِيَارِهِ , لَمْ يُكْرَه , فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْإِمَامِ كُرِهَ . قَالَ أَصْحَابُنَا : لِأَنَّهُ آثَرَ بِالْقُرْبَةِ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ , فِي الْفُرُوقِ : مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاة , وَمَعَهُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ , وَهُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُهُ لِلطَّهَارَةِ , لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِيثَارُ . وَلَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ : إيثَارَ غَيْرِهِ بِالطَّعَامِ , لِاسْتِبْقَاءِ مُهْجَتِهِ , كَانَ لَهُ ذَلِكَ , وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ . وَالْفَرْقُ : أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّهَارَة لِلَّهِ , فَلَا يُسَوَّغُ فِيهِ الْإِيثَار , وَالْحَقُّ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ لِنَفْسِهِ . وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْمُهْجَتَيْنِ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ , إلَّا وَاحِدَةٌ تُسْتَدْرَكُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ , فَحَسُنَ إيثَارُ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ . قَالَ : وَيُقَوِّي هَذَا الْفَرْقَ مَسْأَلَةٌ الْمُدَافَعَةِ ; وَهِيَ : أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قُصِدَ قَتْلُهُ ظُلْمًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الدَّفْعِ , غَيْر أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الدَّفْعَ رُبَّمَا يَقْتُلُ الْقَاصِدَ , فَلَهُ الِاسْتِسْلَامُ . وَقَالَ الْخَطِيبُ فِي الْجَامِع : كَرِهَ قَوْمٌ إيثَارَ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ , لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْعِلْمِ وَالْمُسَارَعَةَ إلَيْهِ قُرْبَةٌ , وَالْإِيثَارُ بِالْقُرْبِ مَكْرُوهٌ , انْتَهَى . وَقَدْ جَزَمَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ; وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : الْإِيثَارُ بِالْقُرْبِ مَكْرُوهٌ , أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى , وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ , وَأُمُورِ الدُّنْيَا . قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَكَلَامُ الْإِمَامِ وَوَالِدِهِ السَّابِق : يَقْتَضِي أَنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرْبِ حَرَامٌ , فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ . قُلْت : لَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ الْإِيثَارُ إنْ أَدَّى إلَى تَرْكِ وَاجِبٍ فَهُوَ حَرَامٌ : كَالْمَاءِ , وَسَاتِرِ الْعَوْرَةِ , وَالْمَكَانِ فِي جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ , وَلَا تَنْتَهِي النَّوْبَةُ , لِآخِرِهِمْ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ , وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ , وَإِنْ أَدَّى إلَى تَرْكِ سُنَّةٍ , أَوْ ارْتِكَابِ مَكْرُوهٌ فَمَكْرُوهٌ , أَوْ لِارْتِكَابِ خِلَافِ الْأَوْلَى , مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ مَخْصُوصٌ , فَخِلَافُ الْأَوْلَى وَبِهَذَا يَرْتَفِع الْخِلَافُ . تَنْبِيهٌ : مِنْ الْمُشْكِلِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ : مَنْ جَاءَ وَلَمْ يَجِدْ فِي الصَّفِّ فُرْجَةً , فَإِنَّهُ يَجُرُّ شَخْصًا بَعْدَ الْإِحْرَام , وَيُنْدَبُ لِلْمَجْرُورِ أَنْ يُسَاعِدَهُ , فَهَذَا يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ قُرْبَةً , وَهُوَ أَجْرُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ
-----------------
وفي أسنى المطالب (1):
__________
(1) -أسنى المطالب - (ج 7 / ص 205)(2/28)
( فَصْلٌ وَلِلْمُضْطَرِّ أَنْ يُؤْثِرَ ) بِطَعَامِهِ عَلَى نَفْسِهِ ( مُسْلِمًا ) مُضْطَرًّا غَيْرَ مُرَاقِ الدَّمِ بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ أَوْلَى بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ وَغَيْرُهُ لقوله تعالى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * وَقَالَ الْإِمَامُ لَا خِلَافَ فِيهِ , وَإِنْ أَدَّى إلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ الْحُرْمَةَ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ , وَهُوَ مِنْ شِيَمِ الصَّالِحِينَ , بَلْ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُ نَبِيًّا لَزِمَهُ بَذْلُهُ لَهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ , وَأَمَّا خَبَرُ { ابْدَأْ بِنَفْسِك * فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ , وَمِنْهُ قَوْلُهُ ( لَا ذِمِّيًّا ) أَوْ كَافِرًا غَيْرَ ذِمِّيٍّ كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى ( وَ ) لَا ( بَهِيمَةً ) أَيْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤْثِرَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ لِكَمَالِ شَرَفِ الْمُسْلِمِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْآدَمِيِّ عَلَى الْبَهِيمَةِ .
-----------------
وفي الفتاوى الفقهية الكبرى(1) :
( وَسُئِلَ ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْعَطْشَانَ يَأْخُذُ الْمَاءَ قَهْرًا بِقِيمَتِهِ مِنْ مَالِكِهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِهِ بَيْعًا وَغَيْرَهُ هَلْ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ فِي أَخْذِهِ بِالْقِيمَةِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِنْ الشَّفِيعِ وَالْمُعِيرِ وَالْمُلْتَقِطِ أَمْ لَا ؟ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ بِالْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ بِعِوَضٍ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ أَيْضًا : لَا يُؤْثِرُ الْمَالِكُ عَلَى نَفْسِهِ أَحَدًا عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى الطُّهْرِ لِأَنَّ الْإِيثَارَ إنَّمَا شُرِعَ فِي حَظِّ النَّفْسِ لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْبِ , وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِ مُهْجَتِهِ , هَلْ كَذَلِكَ السَّابِقُ فِي الْمِيضَأَةِ لَيْسَ لَهُ إيثَارُ غَيْرِهِ بِتَقْدِيمِهِ ; لِأَنَّهُ إيثَارٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْبِ إذْ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ أَمْ لَا ؟ ذَلِكَ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ دُونَ ضِيقِهِ , وَكَذَلِكَ الْمُؤْثَرُ بِفَتْحِ الثَّاءِ إذَا كَانَ لَهُ فَضِيلَةُ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ فَلَا يَمْتَنِعُ فِيهِ وَيَمْتَنِعُ فِي غَيْرِهِ أَوْ كَانَ الْمُؤْثِرُ بِكَسْرِ الثَّاءِ نَحْوَ صَبِيٍّ ؟
__________
(1) - الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 1 / ص 270)(2/29)
( فَأَجَابَ ) بِقَوْلِهِ إنَّ الَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي أَخْذِهِ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ مِنْ نَحْوِ مَاءٍ وَطَعَامٍ وَوِقَايَةِ حَرٍّ وَبَرْدٍ مِنْ مَالِكِهِ الْغَيْرِ الْمُضْطَرِّ إلَيْهِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ بَذْلِهِ وَلَوْ بِعِوَضِ مِثْلِهِ إلَى لَفْظٍ كَمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ تَعْبِيرُ بَعْضِهِمْ عَنْ هَذَا الْأَخْذِ بِالْغَصْبِ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ مُجَرَّدُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ , وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ قَهْرًا حَيْثُ لَا خَوْفَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَالِكُ كَافِرًا كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ كَمَا لَا يَجِبُ دَفْعُ الصَّائِلِ الْمُسْلِمِ , بَلْ أَوْلَى فَإِيجَابُ الْأَخْذِ وَجَعْلُهُ كَدَفْعِ الصَّائِلِ ظَاهِرَانِ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لَفْظٌ , وَبِهَذَيْنِ فَارَقَ وُجُوبَ اللَّفْظِ فِي الشَّفِيعِ وَنَحْوِهِ ; لِأَنَّهُ مُتَمَلِّكٌ حَقَّ الْغَيْرِ اخْتِيَارًا مِنْهُ فَلَزِمَهُ مُقْتَضَى التَّمَلُّكِ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا كَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ شَرْعًا عَلَى هَذَا الْإِتْلَافِ فَلَمْ يُنَاسِبْهُ وُجُوبُ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَالْقِيَاسُ فِي مَسْأَلَةِ السَّابِقِ إلَى الْمِيضَأَةِ أَنَّهُ إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ أَوْ أَمْكَنَ الْمُؤْثِرُ بِكَسْرِ الثَّاءِ الصَّلَاةَ مَعَ حَقْنِهِ جَازَ لَهُ الْإِيثَارُ إذْ لَيْسَ فِيهِ حِينَئِذٍ تَفْوِيتُ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا إلَّا بَعْدَ تَفْرِيغِ نَفْسِهِ فِيمَا سَبَقَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِيثَارُ حِينَئِذٍ بِمَاءِ الطُّهْرِ , بَلْ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْمُؤْثِرَ بِمَاءِ الطُّهْرِ يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الْمُؤْثَرِ لَهُ , وَهُنَا لَا يُمْكِنُ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِيثَارِ كَمَا هُوَ الْفَرْضُ فَإِنْ قُلْت مَا أَفْهَمَهُ هَذَا التَّقْرِيرُ مِنْ جَوَازِ الْإِيثَارِ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ , وَإِنْ أَدَّى إلَى لُحُوقِ ضَرَرٍ لِلْمُؤْثِرِ بِالْكَسْرِ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ التَّسَبُّبَ فِي إضْرَارِ النَّفْسِ , لَا يَجُوزُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ * وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { ابْدَأْ بِنَفْسِك * قُلْت : مَحَلُّ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَبْرٌ عَلَى تَحَمُّلِ الضَّرَرِ أَمَّا مَنْ لَهُ صَبْرٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ رَأَى غَيْرَهُ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ الْآنَ وَإِلَّا لَحِقَهُ ضَرَرٌ فَيُنْدَبُ لَهُ إيثَارُهُ حِينَئِذٍ بِلَا خِلَافٍ حَيْثُ كَانَ مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضِيلَةُ عِلْمٍ وَلَا صَلَاحٍ أَخْذًا بِعُمُومِ قوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * نَعَمْ قَالَ الْمُتَوَلِّي ؟ ( الْأَوْلَى إنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ نَفْعٌ لِلدِّينِ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُؤْثِرَ غَيْرَهُ ) بَلْ وَقَعَ فِي الْإِبَانَةِ وَالْبَحْرِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُؤْثَرَ بِالْفَتْحِ فِي نَظِيرِ مَسْأَلَتِنَا الْقَبُولَ , لَكِنْ نَظَرَ فِيهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ , وَالنَّظَرُ وَاضِحٌ جَلِيٌّ إذَا كَانَ الْمُؤْثَرُ مِمَّنْ يَصْبِرُ أَيْضًا فَالْوَجْهُ خِلَافُهُ بَلْ يَنْبَغِي نَدْبُ عَدَمِ الْقَبُولِ إبْقَاءً لِمُهْجَةِ الْمُؤْثِرِ بِالْكَسْرِ حَيْثُ آثَرَ غَيْرَهُ عَلَيْهَا , أَمَّا إذَا كَانَ الْمُؤْثَرُ بِالْفَتْحِ لَا يَصْبِرُ فَلَا يَبْعُدُ وُجُوبُ الْقَبُولِ أَخْذًا مِنْ تَحْرِيمِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْثِرُ غَيْرَهُ , وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ يُحْمَلُ كَلَامُ الْإِبَانَةِ وَالْبَحْرِ وَبَحَثَ الزَّرْكَشِيُّ أَنْ مَحَلَّ جَوَازِ الْإِيثَارِ إذَا ظَنَّ سَلَامَةَ نَفْسِهِ رَدَدْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ جَمِيعِهِ بِأَنَّهُ غَفْلَةٌ عَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْإِيثَارِ , وَإِنْ خَافَ هَلَاكَ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ الْحُرْمَةَ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ وَهُوَ مِنْ شِيَمِ الصَّالِحِينَ ا هـ . وَمُرَادُهُ بِالْجَوَازِ الْجِنْسُ الْأَعَمُّ الصَّادِقُ بِالْمَنْدُوبِ , وَأَشَارَ الْإِمَامُ بِمَا عَلَّلَ بِهِ إلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِيثَارِ بِقُرْبَةٍ حَتَّى يُكْرَهَ أَوْ يَكُونَ خِلَافَ الْأَوْلَى ; لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ هُنَا رِعَايَةُ حُظُوظِ النَّفْسِ وَالنَّظَرُ إلَيْهَا فَكَانَ الْخُرُوجُ عَنْهَا بِإِيثَارِ الْغَيْرِ مَعَ الصَّبْرِ غَايَةً فِي الْقُرْبَةِ , وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْإِيثَارِ بِالْقُرْبَةِ بِخِلَافِ نَحْوِ تَقْدِيمِ الْغَيْرِ بِمَوْضِعِهِ فِي صَفٍّ فَاضِلٍ مِنْ غَيْرِ(2/30)
مُقْتَضٍ لِذَلِكَ , وَمِنْ ثَمَّ قُلْت فِي شَرْحِ الْعُبَابِ : ( لَا يُقَالُ قَوْلُهُمْ يُسَنُّ لِلْمَجْرُورِ مُسَاعَدَةُ الْجَارِّ لَهُ مِنْ الصَّفِّ يُخَالِفُهُ قَوْلُهُمْ : الْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ هَذَا إيثَارًا بِقُرْبَةٍ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ , بَلْ هُوَ تَحْصِيلُ فَضِيلَةٍ لِلْغَيْرِ مَعَ بَقَاءِ فَضِيلَتِهِ ; لِوُجُودِ خَلَفٍ عَنْهَا هُوَ فَضِيلَةُ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى الْمُعَادِلَةُ لِفَضِيلَةِ مَا فَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّفِّ , وَإِنَّمَا الْإِيثَارُ بِالْقُرْبَةِ مِثْلُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الصَّفِّ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيُدْخِلَ غَيْرَهُ مَوْضِعَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ تَفْوِيتُ فَضِيلَةٍ عَلَى النَّفْسِ لَا إلَى بَذْلٍ , وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ تَقْدِيمُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِتِلْكَ الْقُرْبَةِ كَتَقْدِيمِ الْأَقْرَإِ عَلَى الْأَفْقَهِ فِي الْإِمَامَةِ , وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَأُ قَدْ تَقَدَّمَ إلَيْهَا عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ امْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ مَا يَجْبُرُ فَضِيلَةَ تَقَدُّمِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
--------------------
وفي كشاف القناع (1):
( وَمَنْ لَمْ يَجِدْ ) مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ ( إلَّا طَعَامَ غَيْرِهِ فَرَبُّهُ الْمُضْطَرُّ أَوْ الْخَائِفُ أَنْ يُضْطَرَّ أَحَقُّ بِهِ ) لِمُسَاوَاتِهِ الْآخَرِ فِي الِاضْطِرَارِ وَانْفِرَادِهِ بِالْمِلْكِ أَشْبَهَ غَيْرَ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ ( وَلَيْسَ لَهُ ) أَيْ : رَبِّ الطَّعَامِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ ( إيثَارُهُ ) أَيْ : غَيْرِهِ بِهِ لِئَلَّا يُلْقِيَ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ . وَفِي الْهَدْيِ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ يَجُوزُ وَإِنَّهُ غَايَةُ الْجُودِ لقوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * وَلِقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي فُتُوحِ الشَّامِ وَعُدَّ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِهِمْ ذَكَرَهُ فِي الْفُرُوعِ وَلَعَلَّهُ لِعِلْمِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ حُسْنَ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ ( وَإِلَّا ) يَكُنْ رَبُّ الطَّعَامِ مُضْطَرًّا وَلَا خَائِفًا أَنْ يُضْطَرَّ ( لَزِمَهُ ) أَيْ : رَبَّ الطَّعَامِ ( بَذْلُ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ ) أَيْ : الْمُضْطَرِّ ( فَقَطْ ) لِأَنَّهُ إنْقَاذٌ لِمَعْصُومٍ مِنْ الْهَلَكَةِ كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ ( بِقِيمَتِهِ ) أَيْ : الطَّعَامِ نَصًّا لَا مَجَّانًا ( وَلَوْ فِي ذِمَّةِ مُعْسِرٍ ) لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ ( فَإِنْ أَبَى ) رَبُّ الطَّعَامِ بَذْلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْهُ بِقِيمَتِهِ ( أَخَذُهُ ) مُضْطَرٌّ ( بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ ثُمَّ ) إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِهِ بِالْأَسْهَلِ أَخَذَهُ مِنْهُ ( قَهْرًا ) لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ مَالِكِهِ لِاضْطِرَارِهِ إلَيْهِ ( وَيُعْطِيهِ عِوَضَهُ ) أَيْ : مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَوَاتُ الْعَيْنِ وَالْبَدَلِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ مُتَقَوِّمٍ ( يَوْمَ أَخْذِهِ ) لِأَنَّهُ وَقْتُ تَلَفِهِ ( فَإِنْ مَنَعَهُ ) رَبُّ الطَّعَامِ مِنْ أَخْذِهِ بِعِوَضِهِ ( فَلَهُ ) أَيْ : الْمُضْطَرِّ ( قِتَالُهُ عَلَيْهِ ) لِكَوْنِهِ صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ لِاضْطِرَارِهِ إلَيْهِ وَهُوَ يَمْنَعُهُ ( فَإِنْ قُتِلَ الْمُضْطَرُّ ضَمِنَهُ رَبُّ الطَّعَامِ ) لِقَتْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ( بِخِلَافِ عَكْسِهِ ) بِأَنْ قُتِلَ رَبُّ الطَّعَامِ فَلَا يَضْمَنُهُ الْمُضْطَرُّ أَشْبَهَ الصَّائِلَ ( وَإِنْ مَنَعَهُ ) أَيْ : الطَّعَامَ مِنْ الْمُضْطَرِّ رَبُّهُ ( إلَّا بِمَا فَوْقَ الْقِيمَةِ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِذَلِكَ ) الَّذِي طَلَبَهُ لِاضْطِرَارِهِ إلَيْهِ ( كَرَاهَةَ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا دَمٌ أَوْ عَجْزًا عَنْ قِتَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ) أَيْ : الْمُضْطَرَّ ( إلَّا الْقِيمَةُ ) لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ بِالْبَدَلِ وَالزَّائِدِ أُكْرِهَ عَلَى الْتِزَامِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ رَجَعَ بِهِ
-----------------
وفي غمز عيون البصائر (2):
__________
(1) -شرح منتهى الإرادات - (ج 11 / ص 362) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى - (ج 18 / ص 472)
(2) - غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر - (ج 2 / ص 259) والأشباه والنظائر لابن نجيم - (ج 1 / ص 119)(2/31)
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ 1 - : لَمْ أَرَهَا الْآنَ لِأَصْحَابِنَا رحمهم الله , وَأَرْجُو مِنْ كَرَمِ الْفَتَّاحِ أَنْ يَفْتَحَ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِهَا ; 2 - : وَهِيَ الْإِيثَارُ فِي الْقُرَبِ 3 - , وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : الْإِيثَارُ فِي الْقُرَبِ مَكْرُوهٌ , وَفِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * , وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ : لَا إيثَارَ فِي الْقُرُبَاتِ فَلَا إيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ , وَلَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ , وَلَا بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْعِبَادَاتِ التَّعْظِيمُ , وَالْإِجْلَالُ ; فَمَنْ آثَرَ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ إجْلَالَ الْإِلَهِ , وَتَعْظِيمَهُ . وَقَالَ الْإِمَامُ : لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ , وَمَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ فَوَهَبَهُ لِغَيْرِهِ ; لِيَتَوَضَّأَ بِهِ لَمْ يَجُزْ , لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا ; لِأَنَّ الْإِيثَارَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرَبِ , وَالْعِبَادَاتِ . وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ : لَا يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيُجْلَسَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنْ قَامَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يُكْرَهْ , فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْإِمَامِ كُرِهَ . قَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله : لِأَنَّهُ آثَرَ بِالْقُرْبَةِ , وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الْفُرُوقِ : مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ , وَمَعَهُ مَاءٌ يَكْفِيهِ بِطَهَارَتِهِ , وَهُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُهُ لِلطَّهَارَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِيثَارُ , وَلَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ إيثَارَ غَيْرِهِ بِالطَّعَامِ ; لِاسْتِبْقَاءِ مُهْجَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ , وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ , وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّهَارَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسُوغُ فِيهِ الْإِيثَارُ , وَالْحَقُّ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ لِنَفْسِهِ .
قَوْلُهُ : لَمْ أَرَهَا الْآنَ لِأَصْحَابِنَا إلَخْ : أَقُولُ : فِي الْمُضْمَرَاتِ نَقْلًا عَنْ النِّصَابِ , وَإِنْ سَبَقَ أَحَدٌ بِالدُّخُولِ إلَى الْمَسْجِدِ , وَأَخَذَ مَكَانَهُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَدَخَلَ رَجُلٌ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَهْلُ عِلْمٍ , يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ , وَيُقَدِّمَهُ تَعْظِيمًا لَهُ ( انْتَهَى ) . قِيلَ : فَهَذَا مُفِيدٌ لِجَوَازِ الْإِيثَارِ فِي الْقُرَبِ عَمَلًا بِعُمُومِ قوله تعالى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلُ تَخْصِيصٍ , وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِيثَارِ فِي الْقُرَبِ مَا قَالُوهُ : إنَّ مِنْ الْآدَابِ أَنْ يُبْدَأَ بِغَسْلِ أَيْدِي الشُّبَّانِ قَبْلَ الطَّعَامِ , وَبِأَيْدِي الشُّيُوخِ بَعْدَهُ فَالشُّيُوخُ يُؤْثِرُونَ الشُّبَّانَ قَبْلَهُ , وَيُقَدِّمُونَهُمْ , وَالشُّبَّانُ يُؤْثِرُونَ الشُّيُوخَ بَعْدَهُ مَعَ أَنَّ غَسْلَ الْأَيْدِي قَبْلَ الطَّعَامِ , وَبَعْدَهُ سُنَّةٌ فَهَذَا إيثَارٌ فِي الْقُرَبِ ( انْتَهَى ) , وَفِيهِ تَأَمُّلٌ . ( 2 ) قَوْلُهُ : وَهِيَ الْإِيثَارُ فِي الْقُرَبِ : الْإِيثَارُ : أَنْ يُؤْثِرَ غَيْرَهُ بِالشَّيْءِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ , وَعَكْسُهُ الْأَثَرَةُ , وَهِيَ اسْتِيثَارُهُ عَنْ أَخِيهِ بِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ , وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه السلام { سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً * , وَالْإِيثَارُ ضَرْبَانِ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ فِيمَا لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ فَهُوَ مَطْلُوبٌ كَالْمُضْطَرِّ يُؤْثِرُ بِطَعَامِهِ غَيْرَهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُسْلِمًا لقوله تعالى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * . وَالثَّانِي : فِي الْقُرَبِ كَمَنْ يُؤْثِرُ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ غَيْرَهُ , وَيَتَأَخَّرُ أَوْ يُؤْثِرُهُ بِقُرْبِهِ مِنْ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ , وَهُوَ لَا يَجُوزُ , كَذَا فِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ . ( 3 ) قَوْلُهُ : قَالَ الشَّافِعِيَّةُ : الْإِيثَارُ فِي الْقُرَبِ مَكْرُوهٌ : أَقُولُ : قَدْ قَدَّمْنَا عَنْ قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ قَرِيبًا أَنَّ الْإِيثَارَ فِي الْقُرَبِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ يُقَالُ لِلْمَكْرُوهِ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا مُخَالَفَةَ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ
-----------------
وفي الموسوعة الفقهية (1):
الْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11988)(2/32)
12 - قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : فِي حَاشِيَةِ الْأَشْبَاهِ لِلْحَمَوِيِّ عَنْ الْمُضْمِرَاتِ عَنْ النِّصَابِ : وَإِنْ سَبَقَ أَحَدٌ إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَدَخَلَ رَجُلٌ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَهْلُ عِلْمٍ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَهُ تَعْظِيمًا لَهُ . ا هـ فَهَذَا يُفِيدُ جَوَازَ الْإِيثَارِ بِالْقُرَبِ بِلَا كَرَاهَةٍ , وَنَقَلَ الْعَلَّامَةُ الْبِيرِيُّ فُرُوعًا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ , وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * , وَمَا وَرَدَ مِنْ { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ , فَقَالَ لِلْغُلَامِ : أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ : لَا وَاَللَّهِ , لَا أُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْك أَحَدًا , قَالَ : فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ * , وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُقْتَضَى طَلَبِ الْإِذْنِ مَشْرُوعِيَّةُ ذَلِكَ بِلَا كَرَاهَةٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ . أ هـ . أَقُولُ : وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إذَا عَارَضَ تِلْكَ الْقُرْبَةَ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا , كَاحْتِرَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَشْيَاخِ كَمَا أَفَادَهُ الْفَرْعُ السَّابِقُ وَالْحَدِيثُ . . . , وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مَا فِي النَّهْرِ مِنْ قَوْلِهِ : وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَلَمَّا أُقِيمَتْ آثَرَ بِهِ , وَقَوَاعِدُنَا لَا تَأْبَاهُ . وَقَالَ السُّيُوطِيّ : الْإِيثَارُ فِي الْقُرَبِ مَكْرُوهٌ , وَفِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ , قَالَ تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * . قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : لَا إيثَارَ فِي الْقُرُبَاتِ , فَلَا إيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ , وَلَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلَا بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْعِبَادَاتِ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ , فَمَنْ آثَرَ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ إجْلَالَ الْإِلَهِ وَتَعْظِيمَهُ . وَقَالَ الْإِمَامُ : لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ - وَمَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ - فَوَهَبَهُ لِغَيْرِهِ لِيَتَوَضَّأَ بِهِ لَمْ يَجُزْ , لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا ; لِأَنَّ الْإِيثَارَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ , لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ : لَا يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيُجْلَسَ فِي مَوْضِعِهِ . فَإِنْ قَامَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يُكْرَهْ , فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْإِمَامِ كُرِهَ , قَالَ أَصْحَابُنَا : لِأَنَّهُ آثَرَ بِالْقُرْبَةِ . وَقَالَ الْقَرَافِيُّ : مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ , وَمَعَهُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ , وَهُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُهُ لِلطَّهَارَةِ , لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِيثَارُ , وَلَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ إيثَارَ غَيْرِهِ بِالطَّعَامِ لِاسْتِبْقَاءِ مُهْجَتِهِ , كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ . وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّهَارَةِ لِلَّهِ فَلَا يَسُوغُ فِيهِ الْإِيثَارُ , وَالْحَقُّ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ لِنَفْسِهِ , وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُهْجَتَيْنِ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ إلَّا وَاحِدَةً تُسْتَدْرَكُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ , فَحَسُنَ إيثَارُ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ . وَقَالَ الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ : كَرِهَ قَوْمٌ إيثَارَ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ ; لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْعِلْمِ وَالْمُسَارَعَةَ إلَيْهِ قُرْبَةٌ وَالْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ .
-----------------
الإيثار والأثرة(1)
عبد الله بن محمد البصري
القويعية
1/8/1427
جامع الرويضة الجنوبي
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعدُ: فَإنَّ ممَّا لا يحتَاجُ إلى استِدلالٍ أَو بُرهانٍ مَا حَبَا اللهُ أَهلَ هذِهِ البِلادِ المُبَارَكَةِ مِنَ الخَيرَاتِ وَالنِّعَمِ، وَمَا اختَصَّهُم بِهِ مِنَ العَطَايَا وَالمِنَنِ، حَيثُ أَطعَمَهُم مِن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِن خَوفٍ، وَوَسَّعَ عَلَيهِم بَعدَ ضِيقٍ وَأَغنَاهُم بَعدَ فَقرٍ، فَلَهُ سُبحانَه الحَمدُ وَالشُّكرُ، وَنَسأَلُهُ المَزيدَ مِن فَضلِهِ وَإنعَامِهِ.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4938)(2/33)
وَلَكِنَّ ممَّا يحُزُّ في نَفسِ الغَيُورِ على هذِهِ الآلاءِ وتِلكَ النِّعَمِ غَفلَةَ فِئَامٍ مِنَ النَّاسِ عَن قِيمتِها وَعَظِيمِ شَأنِهَا، وَتَفريطَهُم فِيهَا وَعَدَمَ تَقييدِها بِشُكرِ الوَاهِبِ سُبحانَه؛ إِذْ إِنَّ مِنَ المُتَقَرِّرِ أَنَّ النِّعَمَ إِذَا شُكِرَت قَرَّت، وَإذَا كُفِرَت فَرَّت، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ.
وَإنَّ مِن مَظَاهِرِ كُفرِ النِّعمَةِ التي لُحِظَ أَنها تَزدَادُ بِازدِيَادِ النِّعَمِ وَتَكثُرُ بِوَفرَتِها مَا يَصدُرُ مِن بَعضِ النَّاسِ مِن تَصَرُّفَاتٍ رَعنَاءَ مَصدَرُها أَفكَارٌ حمقَاءُ تُنبِئُ عن قُصُورٍ في الفَهمِ وخَلَلٍ في التَّفكِيرِ والتَّصَوُّرِ، حَيث يُغرِقُونَ في حُبِّ ذَوَاتِهِم وَالانكِفَاءِ عَلَيهَا، وَيَرَونَ أَنَّهُم أَحَقُّ مِن غَيرِهِم في التَّمتُّعِ بما حَولَهم مِنَ النِّعَمِ دُونَ مُنازِعٍ وَلا مُشَارِكٍ، نَاسِينَ أَو مُتَنَاسِينَ أَنَّ فَضلَ اللهِ وَاسِعٌ وَخَيرَهُ عَمِيمٌ، وَأَنَّ خَزَائِنَهُ مَلأى وَيَدَهُ سَحَّاءُ بِالعَطَاءِ لَيلاً وَنهارًا، لا يَنقُصُ مِن مُلكِهِ شَيء وَلَو أَعطَى كُلَّ إِنسَانٍ مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ لا يَنقُصُ رِزق أَحَدٍ أَن يُشَارِكَهُ فِيهِ آخَرُ، وَأَنَّهُ لا مُعطِيَ لما مَنَعَ اللهُ ولا مَانِعَ لما أَعطَى.
يُقَالُ هَذَا الكلامُ ـ أَيُّها الإِخوَةُ ـ لما يَرَاهُ الرَّقِيبُ مِنِ استِمرَارِ قَضَايَا التَّنَازُعِ وَالشَّكَاوَى في المحاكِمِ وَمخَافِرِ الشُّرطَةِ، والتي لا مَنشَأَ لها إِلاَّ الحَسَدُ وَضِيقُ الأُفُقِ وَتَمَكُّنُ الأَثَرَةِ مِنَ القُلُوبِ، فَجَارٌ يَشكُو جَارَهُ عَلى أَمتَارٍ قَلِيلَةٍ اقتَطَعَهَا مِن أَرضٍ لَيسَت لهما جميعًا، وَآخَرُ يَتَبَرَّمُ مِن صَاحِبِ مَزرَعَةٍ حَفَرَ بِئرًا بِجَانِبِ بِئرِهِ بِحُجَّةِ أَنَّهُ امتَصَّ الماءَ عنه، وَتَاجِرٌ يَتَسَخَّطُ مِن قِلَّةِ كَسبِهِ لأَنَّ فُلانًا افتَتَحَ محلاًّ يُزَاوِلُ فِيهِ نَشَاطَهُ وَيَبِيعُ كَمِثلِ سِلعَتِهِ، وَصَاحِبُ إِبِلٍ أَو غَنَمٍ يَشكُو أَنَّ فُلانًا ضَايَقَهُ أَو استَأثَرَ بِالكَلأِ دُونَهُ، فَيَسعَى لِلتَّضيِيقِ عَلَيهِ وَيَتَمَحَّلُ الحِيَلَ لِزَرعِ المَلَلِ في نَفسِهِ، إِلى آخِرِ مَا هُنَالِكَ مِن شَكَاوَى يَصِلُ بَعضُها إِلى المَؤسَّسَاتِ الرَّسمِيَّةِ والمحاكِمِ الشَّرعِيَّةِ، وَيَظَلُّ أَكثرُها حَبِيسَ المجالِسِ رَهِينَ الزَّوَايَا، تَلُوكُهُ الأَلسِنَةُ وَتَتَحَرَّكُ بِهِ الشِّفَاهُ، وَيجعَلُهُ المُتَسَامِرُونَ مَادَّةً لِحَدِيثِهِم وَيَأخُذُونَ فِيهِ وَيُعطُونَ، وَيُسِرُّ بِهِ أُنَاسٌ لآخَرِينَ وَيَتَآمَرُونَ، وَيَعمَلُ الشَّيطَانُ عَمَلَهُ وِيجِدُ فُرصَتَهُ في التَّحرِيشِ بَينَ الناسِ وَإِيقَاعِ العَدَاوَةِ بَينَهُم وَالنَّفثِ في نَارِ البَغضَاءِ وَإِشعالِ وَقُودِ الحَسَدِ، وَصَدَقَ الشاعِرُ إِذْ قَالَ:
لَعَمْرُكَ مَا ضَاقَت بِلادٌ بِأَهلِهَا…وَلَكِنَّ أَخلاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ
نَعَمْ أَيُّها الإِخوَةُ، مَا ضَاقَت بِلادٌ بِمَنْ حَلَّ فِيهَا، وَلا نَفِدَ رِزقُ اللهِ لِكَثرَةِ مُشَارِكٍ، لَكِنَّهَا أَخلاقُ الرِّجَالِ وَصُدُورُهُم، لَكِنَّهَا قُلُوبُ الرِّجَالِ وَأَفئِدَتُهُم، لَكِنَّهُ الحُمقُ وَالطَّيشُ وَضِيقُ العَطَنِ، لَكِنَّهُ النَّزَقُ وَالخِفَّةُ وَضَعفُ التَّحمُّلِ. إِنَّهُ الحَسَدُ وَالغِيرَةُ وَضَعفُ اليَقِينِ وَقِلَّةُ التَّوَكُّلِ، مَاتَ آباؤُنا وَقَبلَهُم قَضَى أَجدَادُنا، وَفَنِيَت أَجيَالٌ وَتَلتهَا أَجيَالٌ، وَمَا نَالَ أَحَدٌ مِنهُم فَوقَ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَسَنمُوتُ كَمَا مَاتُوا وَنُنسَى كَمَا نُسُوا، وَلَن يَزِيدَ في رِزقِ أَحَدٍ مِنَّا حِرصُهُ وَلا جَشَعُهُ وَلا طَمَعُهُ، وَلا حَسَدُهُ لأَخيهِ أَو جَارِهِ أَو قَرِيبِهِ، أَو أَن يَتَحَلَّى بِالأَثَرَةِ فَلا يَرَى إِلاَّ نَفسَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَن يَنقُصَ ممَّا قُسِمَ لَهُ أَن يُشَارِكَهُ الآخَرُونَ في رِزقٍ مُشَاعٍ، لَكِنَّهَا قَنَاعَاتٌ شَيطَانِيَّةٌ وَإِرجَافَاتٌ إِبلِيسِيَّةٌ، يَزرَعُها الشَّيطَانُ في قُلُوبِ مَن ضَعُفَ بِاللهِ إِيمَانُهُم، وَيَبُثُّهَا في صُدُورِ مَن قَلَّت بِاللهِ ثِقَتُهُم، وَيُزَعزِعُ بها عَقِيدَةَ مَن عُدِمَ عَلَيهِ تَوَكُّلُهُم، وَيُجلِبُ بها عَلَى مَن ضَمُرَ عَلَى رَبِّهِم اعتِمَادُهُم، فَلَم يَرَوا مِنَ الأَسبَابِ إِلاَّ مَا ظَهَرَ لأَعيُنِهِم، ولم يَقنَعُوا مِن الأَرزَاقِ إِلاَّ بما حَسَبَتهُ عُقُولُهُم.(2/34)
أيها المسلمون، مَا أَجملَ أَن يَتَحَلَّى المسلمونَ بِخُلُقِ الإِيثَارِ وَسَمَاحَةِ النُّفُوسِ، فَيَطلُبُوا الرِّزقَ مِن وَاهِبِهِ وَيَسأَلُوهُ مِن فَضلِهِ العَمِيمِ، ولا يَشتَغِلُوا بِمُدَافَعَةِ أَحَدٍ أَو حَسَدِهِ أَو التَّضيِيقِ عَلَيهِ فِيمَا أَعطَاهُ اللهُ. وَمَا أَقبَحَ أَن يَكُونُوا لِبَعضِهِم حَاسِدِينَ، وَمِن رَحمَةِ اللهِ يَائِسِينَ مُبلِسِينَ، وَفِيمَا يُوغِرُ صُدُورَهُم مُشتَغِلِينَ. أَمَا لهم في صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ وَقُدوَةٌ؟! أَينَ هُم مِنَ الأَنصَارِ الذِينَ فَرِحُوا بِمَقدِمِ إِخوَانِهِم المُهَاجِرِينَ، فَقَاسمُوهُم الضَّيعَاتِ وَالدُّورَ، وَآثَرُوهُم بِالأَموَالِ وَالدُّثُورِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا في امتِدَاحِ اللهِ لهم حَيثُ قَالَ: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلا يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ؟! كَيفَ يَتَّصِفُ المسلمونَ الذِينَ أَكرَمَهُمُ اللهُ بِالإِسلامِ وَامتنَّ عَلَيهِمِ بِالإِيمانِ وَجَعَلَهُم إِخوَةً مُتَحَابِّينَ وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم، كَيفَ يَتَّصِفُونَ بِأَخلاقِ الكَفَرَةِ وَالطُّغَاةِ في عَالمِ اليَومِ الذي تَقومُ فِيهِ حُرُوبٌ عَلى المَصَالحِ الدُّنيَوِيَّةِ ثم لا تَقعُدُ، وَيُقتَلُ فِيهِ الأَبرِيَاءُ وَالنِّسَاءُ وَالضُّعَفَاءُ مِن أَجلِ الاستِئثَارِ بِالثَّرَوَاتِ وَنَهبِ الخَيرَاتِ وَحَسَدًا لِلنَّاسِ على ما آتَاهُم اللهُ مِن فَضلِهِ؟! أَقُولُ: كَيفَ يَتَّصِفُ المُسلِمُونَ بِأَخلاقِ مَن لا يَرجُونَ جَنَّةً وِلا يخافُونَ نَارًا؟! كَيفَ يَسمَحُونَ لِلحَسَدِ أَن يملأَ قُلُوبَهُم وَيُضَيِّقَ صُدُورَهُم؟! أَيَظُنُّونَ أَنهم على مَنعِ رِزقِ اللهِ لِغَيرِهِم قَادِرُونَ، أَم مِن ضِيقِ الأَرزَاقِ لِكَثرَةِ مَن يُشَارِكُهُم هُم يخافُونَ؟! أَم هَل يَظُنُّونَ أَنَّ حِرصَهُم سَيَزِيدُهُم عَمَّا قَدَّرَ اللهُ لهم وَهُم في بُطُونِ أُمَّهَاتِهِم؟! أَمَا عَلِمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ، وَأَنَّ خَزَائِنَهُ مَلأى لا تَنقُصُ وَلا تَغِيضُ؟! أَفي شَكٍّ هُم مِن أَنَّ الرِّزقَ مُقَدَّرٌ محدُودٌ؟! أَيخَافُونَ أَن يمُوتُوا وَمَا استَكمَلُوا ما لهم مِنهُ؟! يَقُولُ سُبحَانَهُ في الحدِيثِ القُدسِيِّ: ((يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُوني فَأَعطَيتُ كُلَّ إِنسَانٍ مَسأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ ممَّا عِندِي إِلاَّ كَمَا يَنقُصُ المِخيَطُ إِذَا أُدخِلَ البَحرَ))، وقال : ((إِنَّ يمينَ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاءَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيتُم مَا أَنفَقَ مُنذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ؟! فَإِنَّهُ لم يَنقُصْ مَا في يمينِهِ))، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّ نَفسًا لَن تموتَ حتى تَستَكمِلَ أَجَلَهَا وَتَستَوعِبَ رِزقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا في الطَّلَبِ، وَلا يحمِلَنَّ أَحَدَكُمُ استِبطَاءُ الرِّزقِ أَنْ يَطلُبَهُ بِمَعصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تعالى لا يُنَالُ مَا عِندَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ))، وقال عليه السلامُ: ((إِنَّ الرِّزقَ لَيَطلُبُ العَبدَ كَمَا يَطلُبُهُ أَجلُهُ))، وعن ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهُما أَنَّ النبيَّ رَأَى تمرَةً عَائِرَةً فَأَخَذَهَا فَنَاوَلَهَا سَائِلاً، فَقَال: ((أَمَا إِنَّكَ لَو لم تَأتِهَا لأَتَتْكَ)).
نَعَمْ أَيُّها الإِخوَةُ، رِزقُ اللهِ وَاسِعٌ، وَعَطَاؤُهُ غَيرُ محدُودٍ، وَلَن تموتَ نَفسٌ حتى تَستَكمِلَ رِزقَهَا وَأَجَلَهَا، فَعَلامَ التَّسَخُّطُ؟! وَإِلى متى التَّحَاسُدُ وَالتَّبَاغُضُ؟! أَمَا آنَ لِلقُلُوبِ أَن تَرضَى بِمَا قَسَمَ لها عِلاَّمُ الغُيُوبِ؟! أَمَا آنَ لِلنُّفُوسِ أَن تَقنَعَ بما آتَاهَا الكَرِيمُ المَنَّانُ؟! أَمَا آنَ لِلصُّدُورِ أَن تمتَلِئَ يَقِينًا وَتَوَكُّلاً عَلَى اللهِ؟! أَلا يحسُنُ بِكُلِّ امرِئٍ أَن يَسعَى في طَلَبِ رِزقِهِ وَتَدبِيرِ شُؤُونِ مَعِيشَتِهِ بَعِيدًا عَنِ الاشتِغَالِ بِالتَّضيِيقِ عَلَى الآخَرِينَ وَتَنغِيصِ مَعَايِشِهِم؟!(2/35)
إِنَّ الحَيَاةَ لأَغلَى مِن أَنْ تُضَاعَ في شَكوَى الآخَرِينَ وَالتَّضيِيقِ عَلَيهِم، وَإِنَّ الدّنيا لأَقَلُّ مَكَانَةً وَأَحقَرُ شَأنًا مِن أَنْ يجعَلَهَا مُؤمِنٌ لَهُ هَدَفًا وَيَتَّخِذَهَا غَرَضًا، فَلا يُقِيمُهُ وَيُغضِبُهُ إِلاَّ بُعدُها وَانفِلاتُها مِن يَدِهِ، وَلا يُقعِدُهُ وَيُرضِيهِ إِلاَّ قُربُها مِنهُ وَإِمسَاكُهُ بِزِمَامِهَا. إِنَّهُ لا أَفسَدَ لِدِينِ المَرءِ وَتَقوَاهُ وَلا أَشَدَّ تَنغِيصًا لِحَيَاتِهِ وَتَكدِيرًا لِعَيشِهِ مِن حِرصِهِ عَلَى الدُّنيا وَجَشَعِهِ في طَلَبِ المَالِ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِمَا في يَدِهِ وَاشتِغَالِهِ بِالنَّظَرِ إلى مَا عِندَ الآخَرِينَ، قال : ((مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أُرسِلا في غَنَمٍ بِأَفسَدَ لها مِن حِرصِ المَرءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ))، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: ((صَلاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالزُّهدِ وَاليَقِينِ، وَيَهلَكُ آخِرُها بِالبُخلِ وَالأَمَلِ)).
فُزْ بِرَاحَاتِ قَلبِكَ الغِرِّ يَا مَن…زَادَ مِن قُوتِ مَا يَرُومُ انزِعَاجُهْ
وَاطرَحِ الهَمَّ عَن فُؤَادِكَ وَاربَحْ…صَفوَ عَيشٍ إِنْ طِبتَ طَابَ نِتَاجُهْ
لا تَقُلْ قَلَّ دُونَ غَيرِيَ رِزقِي…كُلُّ رِزقٍ مُقَدَّرٌ إِخرَاجُهْ
قِسمَةُ اللهِ لا زِيَادَةَ فِيهَا…لا وَلا نَقصَ عَذبُهُ وَأُجَاجُهْ
وَالفَتى غَيرُ رِزقِهِ لم يَنلْهُ…وَلَوِ احتَالَ وَاستَطَالَ لِجَاجُهْ
كَمْ شُجَاعٍ أَرَادَ رِزقَ سِوَاهُ…يَحتَوِيهِ فَقُطِّعَتْ أَودَاجُهْ
وَلَكَمْ ضَمَّ رِزقَ غَسَّانَ حِصنٌ…فَغَزَوهُ وَهُدِّمَتْ أَبرَاجُهْ
صَاحِ لَو كَانَ فِيكَ رِزقُكَ مَا لَمْ…يَفتَحِ اللهُ عَاقَكَ استِخرَاجُهْ
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيلَ في النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ في اللَّيلِ وَتُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرزُقُ مَن تَشَاء بِغَيرِ حِسَابٍ.
-------------------------
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ ولا تَعصُوهُ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا.
ثم اعلَمُوا أَنَّهُ يجِبُ على المَرءِ أَن يَرضَى بِمَا قَسَمَهُ اللهُ لَهُ وَيَقنَعَ بِمَا أُوتيَ، وَأَن يَتَمَنَّى لإِخوَانِهِ وَيُحِبَّ لهم مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفسِهِ، لا أَن يَكُونَ حَاسِدًا ضَائِقَ الصَّدرِ بِرِزقٍ لَيسَ في يَدِهِ زِيَادَتُهُ وَلا النَّقصُ مِنهُ، قال : ((وَالذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لا يُؤمِنُ عَبدٌ حتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ مِنَ الخَيرِ)).
لَقَد أَرَادَ اللهُ بِحِكمَتِهِ وَعَدلِهِ أَن يجعَلَ أَرزَاقَ الناسِ مُتَفَاوِتَةً وَعَطَايَاهُ لهم مختَلِفَةً، فَيُوَسِّعَ على بَعضِهِم وَيُضَيِّقَ على آخَرِينَ، وَقَدَرُهُ في ذَلِكَ جَارٍ وَأَمرُهُ نَافِذٌ، وَلا أَحَدَ يَستَطِيعُ بِحِيلَةٍ أَو قُوَّةٍ أَن يُغَيِّرَ ممَّا قَضَى اللهُ شَيئًا، قال سُبحانَهُ: وَاللهُ فَضَّلَ بَعضَكُم عَلى بَعضٍ في الرِّزقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزقِهِم عَلَى مَا مَلَكَت أَيمَانُهُم فَهُم فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعمَةِ اللهِ يَجحَدُونَ، وقال تعالى: أَوَلم يَرَوا أَنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لمن يَشَاءُ وَيَقدِرُ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ، وقال جل وعلا: مَا يَفتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحمَةٍ فَلا مُمسِكَ لَهَا وَمَا يُمسِكْ فَلا مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ.
أَمَّا الحَسَدُ فَهُوَ فَضلاً عَن كَونِهِ وُقُوعًا فِيمَا نُهِيَ عَنهُ، فَهُوَ مُفسِدٌ لِحَيَاةِ صَاحِبِهِ، مُقلِقٌ لِرَاحَتِهِ، مُذهِبٌ لِنَعِيمِ قَلبِهِ وصَفَائِهِِ، مُزِيلٌ لِسَلامَةِ صَدرِهِ وَنَقَائِهِ، وَلَو لم يَكُنْ إِلاَّ هَذَا لَكَفَى بِهِ زَاجِرًا عَنهُ وَرَادِعًا، كَيفَ وَهُوَ وُقُوعٌ فِيما نَهَى عَنهُ حَيثُ قَالَ: ((لا تَقَاطَعُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا))؟!
إِنَّ الكَبَائِرَ لِلطَّاعَاتِ مُفسِدَةٌ…وَإِنَّ أَفسَدَهَا لِلطَّاعَةِ الْحَسَدُ
لا تُضْمِرَنَّ عَلَى ذِي نِعمَةٍ حَسَدًا…إِنَّ الْحَسُودَ مِنَ الرَّحْمَنِ مُبتَعِدُ
وَاقْنَعْ بِرِزقِكَ فَالأَرزَاقُ قَد قُسِمَتْ…سِيَّانِ في الرِّزقِ بَطَّالٌ وَمُقتَصِدُ
فَإِنْ حَسَدْتَ امرَأً فِيمَا يُخَصُّ لَهُ…فَاذهَبْ فَمَا لَكَ إِلاَّ الإِثمُ وَالكَمَدُ(2/36)
لَقَد جَعَلَ الحَسَدُ وَحُبُّ الأَثَرَةِ بَعضَ النَّاسِ بَغِيضًا مُبَغَّضًا، غَيرَ مَألُوفٍ وَلا محبُوبٍ، ممَّا حَرَمَهُ كَمَالَ الإِيمَانِ وَلَذَّتَهُ، قَالَ : ((أَكمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُم أَخلاقًا المُوَطَّؤُونَ أَكنَافًا الذِينَ يَألَفُونَ وَيُؤلَفُونَ، وَلا خَيرَ فِيمَن لا يَألَفُ وَلا يُؤلَفُ)).
فَاتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِخوَانًا، وَأَحِبُّوا لإِخوَانِكُم مَا تُحِبُّونَ لأَنفُسِكُم، وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا.
إِنَّنَا نَشتَكِي قِلَّةَ الأَمطَارِ وَتَأَخُّرَ الغَيثِ وَغَورَ الآبارِ، وَمِنَّا مَن لا يَجِدُ في رَاتِبِهِ بَرَكَةً وَلا سَدَادًا، وَآخَرُونَ يَشتَكُونَ الهَمَّ وَالغَمَّ وَالأَمرَاضَ النَّفسِيَّةَ وَالحَزَنَ، فَإِذَا مَا تَأَمَّلنَا في وَاقِعِنَا فَإِذَا التَّنَافُسُ عَلَى الدُّنيا وَالتَّحَاسُدُ على حُطَامِها أَشَدُّ مَا يَكُونُ بَينَنَا، وَهَذَا مَا خَشِيَهُ عَلَينَا النَّاصِحُ الحَبِيبُ صَلَواتُ رَبي وَسَلامُهُ عَلَيهِ، فَإِنَّهُ لمَّا جَاءَهُ أَبُو عُبَيدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحرَينِ وَصَلَّى مَعَهُ أُنَاسٌ مِنَ الأَنصَارِ صَلاةَ الفَجَرِ وَتَعَرَّضُوا لَهُ تَبَسَّمَ حِينَ رَآهُم ثم قَالَ: ((أَظُنُّكُم سَمِعْتُمَ أَنَّ أَبَا عُبَيدَةَ قَدِمَ بِشَيءٍ؟))، قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((فَأَبشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُم، فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم، وَلكني أَخشَى أَن تُبسَطَ عَلَيكُمُ الدُّنيا كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُم)). وَصَدَقَ عليه الصلاةُ والسلامُ، فَإِنَّهُ لمَّا كَانَتِ الأَرزَاقُ في أَيدِي النَّاسِ قَلِيلَةً وَالأَحوَالُ مَيسُورَةً كَانُوا كَالإِخوَةِ وَإِنْ تَبَاعَدَت أَرحَامُهُم، فَلَمَّا وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِم وَأَغنَاهُم تَنَافَسُوا وَتَحَاسَدُوا وَاستَنكَرَ بَعضُهُم بعضًا، وَصَدَقَ اللهُ إِذ يَقُولُ: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى أَن رَّآهُ استَغنَى.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ، وَعُودُوا إِلى حِمَاهُ، وَاقنَعُوا وَعَلى اللهِ فَتَوَكَّلُوا، وَغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِكُم، وَطَهِّرُوهَا مِن الشُّحِّ وَالأَثَرَةِ وَحُبِّ الذَّاتِ، إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم.
----------------
الإيثار(1)
الإيثار هو تقديم الإنسان غيره على نفسه فيما هو في حاجة إليه من أمور الدنيا ابتغاء ثواب الآخرة، فهو أعلى درجات المعاملة مع الناس، يجلب حبّهم، ويطرد غضبهم، ويُذهِب حسدهم، فضلاً عما يجده صاحب الإيثار من الثواب الكبير والأجر العظيم والخير العَمِيم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
أحبتي في الله، لقد بلغ رسول الله في الإيثار ذروته وقمّته، إذ كان أجود الناس بالخير قليله وكثيره، فقد كان كما قال الشاعر:
مُتَيَّمٌ بالنَّدَى لو قال سائلُه:…هَبْ لي جميعَ كَرَى عَيْنَيْكَ لم يَنَمِ
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4439) محمد بن حمد الخميس - الدمام - 3/8/1425 -جامع الهدى(2/37)
تروي لنا سيرته العطرة صورًا من إيثاره كشمس مُشرِقة في نهار السالِكين ونجم ساطع في ليل المهتدين، ومن ذلك إيثاره أصحابه على نفسه وهو جائع، الرسول كان يؤثر أصحابه الفقراء بشرب اللبن قبله، ولم يشرب إلا ما فضل بعدهم، وكان جائعًا مثلهم ، روى البخاري عن أبي هريرة قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم فتبسّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، قال: ((أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الْحَقْ)) أي: اتبعني، ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن فأُذِن لي، فدخل فوجد لبنًا في قَدَح، فقال: ((من أين هذا اللبن؟)) قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: ((أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الْحَقْ إلى أهل الصُّفَّة فادعهم لي))، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصُّفَّة؟! كنت أنا أحق أن أصيب من هذا اللبن شَرْبَة أتقوّى بها، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بُدّ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: ((أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطهم))، قال: فأخذت القَدَح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يَرْوَى، ثم يردّ عليّ القَدَح، ثم أعطيه الآخر فيشرب حتى يَرْوَى، حتى انتهيت إلى النبي وقد رَوِيَ القوم كلهم، فأخذ القَدَح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسّم، فقال: ((أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((بقيت أنا وأنت))، قلت: صدقت يا رسول الله، فقال: ((اقعد فاشرب)) فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب)) فشربت، فما زال يقول: ((اشرب)) حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مَسْلكًا، قال: ((فأرني))، فأعطيته القَدَح، فحَمِدَ الله وسمّى، وشرب الفَضْلَة. رواه البخاري.
وفي الحديث ـ زيادة على إيثاره أصحابَه ـ تربيةُ غيره على الإيثار؛ لأن أبا هريرة هو الذي تعرّض للرسول لشدة جوعه، يريد الحصول على ما يقيم صُلْبَه، فجعله ينادي أهل الصُّفَّة، وطلب منه أن يسقيهم كلهم قبله، وهذا ما كان يخافه أبو هريرة، ولأنه خاف نفاد اللبن، فكثّره الله تكريمًا لرسوله .
من ذلك إيثاره بثياب يحتاج إليها، وإعطاؤها لرجل من المسلمين، روى البخاري عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى النبي بِبُرْدَة مَنْسُوجَة فيها حاشِيَتُها، فقالت: يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها النبي محتاجًا إليها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه فاكسنيها، فقال: ((نعم))، فلما قام النبي لامَه أصحابُه، وقالوا: ما أحسنتَ حين رأيتَ النبي أخذها محتاجًا إليها ثم سألتَهُ إياها وقد عرفتَ أنه لا يُسأل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها رسول الله لعلّي أكفّن فيها. رواه البخاري.
ما قال: لا قَطّ إلا في تشهّده…لولا التشهّدُ كانت لاؤُهُ نَعَمُ
أحبّتي في الله، الإيثار هو علامة الإيمان والمظهر الخارجي للحب الصادق تجاه الإخوان، حيث التفاني والتضحية من أجل الآخرين لوجه الله، والمؤمن الصادق هو الذي يقدّم نفسه للخَطَر ليسلَم الآخرون، ويؤخّرها عند المكاسب ليغنموا، والمؤمن الصادق هو الذي يُتعِب نفسه من أجل راحة الآخرين، ويسهر ليله حتى ينام إخوانه، وهو لا يقيم وزنًا لحطام الدنيا حتى يقاتِل عليه أو ينفرد به.
فالأنصار لم يحبّوا إخوانهم المهاجرين ويتطهروا من الحسد تجاههم فحسب، بل وآثروهم على أنفسهم، ووصلوا من الإيثار سَنَامَه حينما تنازلوا عن حظّهم من الغنيمة رغم حاجتهم الشديدة، قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، فهم لم يجعلوا عَوَزَهُم وحاجتهم الشديدة تبريرًا لترك الإيثار.
ولا يغيب عنا أن الإيثار هو قمة الفضيلة، وأن بلوغها بحاجة إلى عملية تربوية متواصلة، وذلك بالاستعاذة بالله سبحانه من الحرص والبخل وشُحّ النفس، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]. فبالقدر الذي يسعى الإنسان إلى المزيد من العلم والتقدّم ينبغي أن يسعى إلى تزكية نفسه وكمال أخلاقه، وإنما اعتبر القرآن الوقاية من شُحّ النفس هي الفلاح؛ لأن شُحّ النفس رأس كل خطيئة وانحراف في حياة الإنسان، فهو أساس الكفر والشرك والظلم والحسد، قال : ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحّ؛ فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على سَفْك دمائهم واستحلال محارمهم)) رواه مسلم. شُحّ النفس يؤدي إلى الأنانية وحبّ الذات، وهذا يؤدي بشكل طبيعي إلى الحسد والظلم.(2/38)
ومجتمع الصحابة ضرب للبشرية أروع الأمثلة في الإيثار والبُعد عن شُحّ النفس، روى الإمام البخاري أنه لما قدم المهاجرون المدينة آخى رسول الله بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الرَّبِيع، قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلّقها، فإذا انقضت عدّتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلّوه على سوق بني قَيْنُقَاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغُدُو، ثم جاء يومًا وبه أثر صُفْرَة، فقال النبي : ((مَهْيَم؟!)) قال: تزوجت، قال: ((كم سُقْتَ إليها؟)) قال: نَوَاة من ذهب. رواه البخاري.
إن سعدًا لم يكتف بعرض نصف ماله على أخيه عبد الرحمن بن عوف ، وكان المال كافيًا للنفقة على نفسه ولأداء مهر لامرأة يتزوجها والإنفاق عليها، لم يكتف سعد بذلك، بل أراد أن يتساوى هو وأخوه في الإسلام في كل ما يملك. وإذا كان سعد الأنصاري قد وصل إلى تلك القمة من الإيثار، فإن عبد الرحمن المُهَاجِرِي قد وصل إلى قمة الزهد والقناعة والاستغناء بالله عن الناس، فآثر أن يسعى بنفسه في كسب رزقه حتى أغناه الله.
إن المجتمع الذي يوجد فيه من يُؤثِر غيره على نفسه كما يوجد فيه من يزهد فيما عند غيره ويقتنع بما يؤتيه الله ويفضّل أن يُنفِقَ على نفسه من كَسْب يده، إنّ هذا المجتمع جدير بأن يعيش في أمن واستقرار، يظله الحب والتعاون والوئام.
ومن الأمثلة الرائعة للإيثار في مجتمع أصحاب رسول الله قصة الأنصاري وامرأته مع ضيف رسول الله ، حيث آثراه بقوت صبيانهما الصغار، وباتوا طَاوِين من أجل إشباع الضيف، روى الإمام البخاري عن أبي هريرة : أن رجلاً أتى النبي فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله : ((من يضيف هذا؟)) فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله ، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوّمي صبيانك، فهيّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طَاوِيين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله فقال: ((ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما))، فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]. رواه البخاري مسلم. إن النفس الزكيّة هي التي تظهر شفافيتها عند مواطن الاختبار والاعتبار، فهي تجود حتى بزادها، وتؤثر على نفسها حتى بأعزّ ما تملك.
وقدمت لنا أم المؤمنين عائشة صورًا في إيثارها مشرفة كالأكاليل في رؤوس الأعمال، ومن ذلك ما رواه البخاري عن عمر قال لابنه عبد الله: اذهب لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل لها: إن عمر يقرئك السلام، ثم سَلْها أن أدفن مع صاحبي في قبر النبي وقبر سيدنا الصديق وقبر فارغ، السيدة عائشة تركته لنفسها؛ لأنه قبر والدها وزوجها، هذا القبر الفارغ رغب فيه سيدنا عمر، فقال: استأذن لي أم المؤمنين عائشة، ثم سلها أن أدفن مع صاحبي، قالت: والله كنت أريده لنفسي، فلأوثرنه اليوم على نفسي.
إن حب المرأة لزوجها المحسن إليها بعد موته يتضاعف، وتتمنّى دائمًا أن تدفن بجواره، فكيف إذا كان هذا الزوج هو رسول الله ؟! إن الإنسان إذا ضَنَّ بشيء مثل هذا لا يُلام عليه، ومع ذلك فإن أُمّنا عائشة رضي الله عنها آثرت أميرَ المؤمنين عمر، وأذنت له أن يدفن بجوار رسول الله وبجوار أبيها، وقدمت بذلك أروع أمثلة الإيثار رضي الله عنها.
ولها رضي الله عنها موقف عظيم آخر في الإيثار يرويه الإمام مالك في الموطأ أنه بلغه عن عائشة زوج النبي أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه! فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهلُ بيت شاة، فدعتني عائشة، فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قُرْصِك. وبهذه النماذج المنيرة والمواقف العطرة امتلأت سيرة أتباع النبي .
فمن نوادر القصص في الإيثار ما أورده القرطبي قال: قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رَمَقٌ سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
ما أعظم الإيثار في هذه اللحظة! وما أجلّ هذه الشَّرْبة الهنيئة التي سيتجرّعها كلُ واحد منهم في الجنة بإذن الله بسبب إيثاره لإخوانه بالشراب قبله حتى وافته المنية!
اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنّا بعدهم، ولا تحرمنا أجر الإيثار مثلهم.
===================(2/39)
لا ولاية بيننا وبين من لم يهاجرو هو قادر :
قال تعالى : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا* (89) سورة النساء
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
قوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } { فِئَتَيْنِ } أي فرقتين مختلفتين . روى مسلم عن زيد بن ثابت : " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد فرجع ناس ممن كان معه ، فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين؛ فقال بعضهم : نقتلهم . وقال بعضهم : لا؛ فنزلت { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } " وأخرجه التّرمذيّ فزاد : وقال : " إنها طِيبة " وقال : " إنها تَنْفِي الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد " قال : «حديث حسن صحيح» . وقال البخاريّ : " إنها طيِبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة " والمعنِيّ بالمنافقين هنا عبد الله بن أُبيّ وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا؛ كما تقدّم في «آل عمران» . وقال ابن عباس : هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة ، قال الضحاك : وقالوا إن ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفنا ، وإن ظهر قومنا فهو أحبّ إلينا . فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولَّوْنهم وقوم يتبرّؤون منهم؛ فقال الله عز وجل { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } . وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام ، فأصابهم وَباءُ المدينة وحُمَّاها؛ فأرْكِسوا فخرجوا من المدينة ، فاستقبلهم نفر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما لكم رجعتم؟ فقالوا : أصابنا وباء المدينة فاجتويناها؛ فقالوا : ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسْوَة؟ فقال بعضهم : نافقوا . وقال بعضهم : لم ينافقوا ، هم مسلمون؛ فأنزل الله عز وجل { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا } الآية . حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدوا بعد ذلك ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتَّجرون فيها ، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون؛ فبيّن الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم .
قلت : وهذان القولان يَعْضُدهُما سياق آخر الآية من قوله تعالى : «حَتَّى يُهَاجِرُوا» ، والأوّل أصح نقلاً ، وهو اختيار البخاريّ ومسلم والترمذي . و «فِئَتَيْنِ» نصب على الحال؛ كما يقال : مالك قائماً؟ عن الأخفش . وقال الكوفيون : هو خبر «ما لكم» كخبر كان وظننت ، وأجازوا إدخال الألف واللام فيه وحكى الفراء : «أرْكسهم ، وَرَكَسَهم» أي ردّهم إلى الكفر ونكسهم؛ وقاله النّضر بن شُمَيل والكسائي : والرّكس والنكس قلب الشيء على رأسه ، أو ردّ أوّله على آخره ، والمركوس المنكوس . وفي قراءة عبد الله وأُبَيّ رضي الله عنهما «والله رَكَسهم» . وقال ابن رَوَاحة :
أُرْكِسوا في فِتْنَةٍ مُظلمةٍ ... كَسَوادِ الليل يَتْلُوها فِتَنْ
أي نكسوا . وارتكس فلان في أمر كان نجا منه . والرُّكُوسِيَّة قوم بين النصارى والصابئين . والراكِس الثَّور وسَط البَيْدَر والثيران حواليه حين الديِّاس . { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } أي ترشدوه إلى الثواب بأن يُحْكم لهم بحكم المؤمنين . { فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي طريقاً إلى الهُدَى والرّشد وطلب الحجة . وفي هذا ردّ على القَدرية وغيرهم القائلين بخلق هُداهم وقد تقدّم .
فيه خمس مسائل :
الأُولى قوله تعالى : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } أي تمنّوا أن تكونوا كَهُم في الكفر والنفاق شَرَعٌ سواء ، فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ } ؛ كما قال تعالى : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] والهجرة أنواع : منها الهجرة إلى المدينة لنُصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه واجبة أوّل الإسلام حتى قال : " لا هجرة بعد الفتح " وكذلك هجرة المنافقين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الغزوات ، وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة . وهجرة المسلم ما حرّم الله عليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : " والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه " وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن . وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديباً لهم فلا يُكَلَّمون ولا يخالَطون حتى يتوبوا؛ كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع كعب وصاحبيْه . { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } يقول : إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم . { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } عامّ في الأماكن من حِلٍّ وحَرَم . والله أعلم . ثم استثنى وهي :
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1455)(2/40)
الثانية فقال : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ } أي يتَّصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف؛ المعنى : فلا تقتلوا قوماً بينهم وبين مَن بينكم وبينهم عهدٌ فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا . هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم ، وهو أصح ما قيل في معنى الآية . قال أبو عبيد : يَصِلون ينتسبون؛ ومنه قول الأعشى :
إذا اتصلت قالتْ لبكرِ بن وائلٍ ... وَبَكْرٌ سَبَتْها والأنوف رواغِمُ
يريد إذا انتسبت . قال المهدوِيّ : وأنكره العلماء؛ لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم . وقال النحاس : وهذا غلط عظيم؛ لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يُقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب ، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأوّلين أنساب ، وأشد من هذا الجهلُ بأنه كان ثم نُسخ؛ لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له «بَرَاءَةٌ» وإنما نزلت «براءة» بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب . وقال معناه الطبريّ .
قلت : حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان؛ أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمِنٌ إذا أمن الكل منهم ، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة . واختُلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم ميثاق؛ فقيل : بنو مُدْلجٍ . عن الحسن : كان بينهم وبين قريش عقد ، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد . وقال عِكرمة : نزلت في هلال بن عُويمر وسُراقة بن جُعْشُم وخُزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد .
وقيل : خزاعة . وقال الضحاك عن ابن عباس : أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مَناة ، كانوا في الصلح والهدنة .
الثالثة في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مَصْلحة للمسلمين ، على ما يأتي بيانه في «الأنفال وبراءة» إن شاء الله تعالى .
الرابعة قوله تعالى : { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } أي ضاقت . وقال لَبِيد :
أسهلْت وانتصبت كجِذْعِ مُنِيفةٍ ... جَرْداءَ يَحْصُر دونها جُرّامُها
أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة؛ ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم . والحَصِر الكَتُوم للسِّر؛ قال جرير :
ولقد تَسَقَّطني الوُشاة فصادفوا ... حَصِراً بِسِّرِك يا أُميْم ضَنِينا
ومعنى «حَصِرت» قد حصِرت فأُضمِرَت قد؛ قاله الفراء : وهو حال من المضمر المرفوع في «جاءوكم» كما تقول : جاء فلان ذهب عقله ، أي قد ذهب عقله . وقيل : هو خبر بعد خبر قاله الزجاج . أي جاءوكم ثم أخبر فقال : { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } فعلى هذا يكون { حَصِرَتْ } بدلاً من { جَآءُوكُمْ } وقيل : { حَصِرَتْ } في موضع خفض على النعت لقوم . وفي حرف أُبَيّ «إلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» ليس فيه { أَوْ جَآءُوكُمْ } . وقيل : تقديره أو جاءوكم رجالاً أو قوماً حصِرت صدورهم؛ فهي صفة موصوف منصوب على الحال . وقرأ الحسن «أو جاءوكم حَصِرةً صدورهم» نصب على الحال ، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر . وحكى «أو جاءوكم حصِراتٍ صدورهم» ، ويجوز الرفع . وقال محمد بن يزيد : { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } هو دعاء عليهم؛ كما تقول : لعن الله الكافر؛ وقاله المبرد . وضعّفه بعض المفسرين وقال : هذا يقتضي ألاّ يقاتلوا قومهم؛ وذلك فاسد؛ لأنهم كفار وقومهم كفار . وأجيب بأن معناه صحيح؛ فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزاً لهم ، وفي حق قومهم تحقيراً لهم . وقيل : { أَوْ } بمعنى الواو؛ كأنه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين . ويحتمل أن يكونوا معاهَدين على ذلك فهو نوع من العهد ، أو قالوا نسلم ولا نقاتل؛ فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام . والأول أظهر . والله أعلم .
{ أَوْ يُقَاتِلُواْ } في موضع نصب؛ أي عن أن يقاتلوكم .
الخامسة قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يُقدرهم على ذلك ويقوّيهم إمّا عقوبةً ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي ، وإما ابتلاء واختباراً كما قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] ، وإما تمحيصاً للذنوب كما قال تعالى : { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ } [ آل عمران : 141 ] . ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء . ووجه النظم والاتصال بما قبل أي اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا ، وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم ، وإلا الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم .
-----------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله (1):
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 370)(2/41)
يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين، واختلف في سبب ذلك، فقال الإمام أحمد: حدثنا بَهْز، حدثنا شعبة، قال عدي بن ثابت: أخبرني عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحُد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم. وفرقة تقول: لا (1) فأنزل الله: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها طَيْبة، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة".
أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة (2) .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
وقال العوفي، عن ابن عباس: نزلت في قوم كانوا بمكة، قد تكلموا بالإسلام، كانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون (3) حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله! أو كما قالوا: أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ أمِنْ أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم. فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين (4) عن شيء فأنزل الله: { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ }
رواه ابن أبي حاتم، وقد رُوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا.
وقال زيد بن أسلم، عن ابنٍ لسعد بن معاذ: أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبيّ، حين استعذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك.
وهذا غريب، وقيل غير ذلك.
وقوله: { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } أي: ردهم وأوقعهم في الخطأ.
قال ابن عباس: { أَرْكَسَهُمْ } أي: أوقعهم. وقال قتادة: أهلكهم. وقال السدي: أضلهم.
وقوله: { بِمَا كَسَبُوا } أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل.
{ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } أي: لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه.
ثم قال: { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } أي: هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم؛ ولهذا قال: { فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي: تركوا الهجرة، قاله العوفي عن ابن عباس. وقال السدي: أظهروا كفرهم { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } أي: لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على الأعداء ما داموا كذلك.
-----------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
وقد وردت في شأن هؤلاء المنافقين روايات , أهمها روايتان:
قال الإمام أحمد:حدثنا بهز , حدثنا شعبة , قال عدي بن ثابت:أخبرني عبدالله بن يزيد , عن زيد ابن ثابت , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد , فرجع ناس خرجوا معه . فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم , فرقتين:فرقة تقول:نقتلهم , وفرقة تقول:لا . هم المؤمنون ! فأنزل الله: (فما لكم في المنافقين فئتين ?) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها طيبة . وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد " . . [ أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ] .
وقال العوفي عن ابن عباس:نزلت في قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام ; وكانوا يظاهرون المشركين . فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم . فقالوا:إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس . . وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة , قالت فئة من المؤمنين:اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم , فإنهم يظاهرون عدوكم . وقالت فئة أخرى من المؤمنين:سبحان الله:- أو كما قالوا - أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ? من أجل إنهم لم يهاجروا , ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم ? فكانوا كذلك فئتين , والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء , فنزلت: (فما لكم في المنافقين فئتين ?) . . [ رواه ابن أبى حاتم , وقد روي عن أبى سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا ] .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 104)(2/42)
ومع أن الرواية الأولى أوثق من ناحية السند والإخراج إلا أننا نرجح مضمون الرواية الثانية , بالاستناد إلى الواقع التاريخي ; فالثابت أن منافقي المدينة لم يرد أمر بقتالهم ; ولم يقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقتلهم . إنما كانت هناك خطة أخرى مقررة في التعامل معهم . هي خطة الإغضاء عنهم , وترك المجتمع نفسه ينبذهم , وتقطيع الأسناد من حولهم بطرد اليهود - وهم الذين يغرونهم ويملون لهم - من المدينة أولا . ثم من الجزيرة العربية كلها أخيرا . . أما هنا فنحن نجد أمرا جازما بأخذهم أسرى , وقتلهم حيث وجدوا:مما يقطع بأنهم مجموعة أخرى غير مجموعة المنافقين في المدينة . . وقد يقال:إن الأمر بأخذهم أسرى وقتلهم مشروط بقوله تعالى: فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا , فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم . . فهو تهديد ليقلعوا عما هم فيه . . وقد يكونون أقلعوا فلم ينفذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فيهم . . ولكن كلمة(يهاجروا) تقطع - في هذه الفترة - بأنهم ليسوا من أهل المدينة . وأن المقصود هو أن يهاجروا إلى المدينة ; فقد كان هذا قبل الفتح . ومعنى الهجرة - قبل الفتح - كان محددا بأنه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ; والانضمام للجماعة المسلمة ; والخضوع لنظامها . وإلا فهو الكفر أو النفاق . . وسيجيء في سياق السورة - في الدرس التالي - تنديد شديد بموقف الذين بقوا - بغير عذر من الضعف - من المسلمين في مكة ; دار الكفر والحرب بالنسبة لهم - ولو كانوا من أهلها ومواطنين فيها ! - وكل هذا يؤيد ترجيح الرواية الثانية . وأن هؤلاء المنافقين كانوا جماعة من مكة - أو ممن حولها - يقولون كلمة الإسلام بأفواههم , ويظاهرون عدو المسلمين بأعمالهم .
ونعود إلى النص القرآني:
فما لكم في المنافقين فئتين ; والله أركسهم بما كسبوا ? أتريدون أن تهدوا من أضل الله ? ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا . ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء . فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله . فإن تولوا فخذوهم , واقتلوهم حيث وجدتموهم , ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرًا . .
إننا نجد في النصوص استنكارا لانقسام المؤمنين فئتين في أمر المنافقين ; وتعجبا من اتخاذهم هذا الموقف ; وشدة وحسما في التوجيه إلى تصور الموقف على حقيقته , وفي التعامل مع أولئك المنافقين كذلك .
وكل ذلك يشي بخطر التميع في الصف المسلم حينذاك - وفي كل موقف مماثل - التميع في النظرة إلى النفاق والمنافقين ; لأن فيها تميعا كذلك في الشعور بحقيقة هذا الدين . ذلك أن قول جماعة من المؤمنين:"سبحان الله ! - أو كما قالوا - أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم , نستحل دماءهم وأموالهم ? " . . وتصورهم للأمر على هذا النحو , من أنه كلام مثل ما يتكلم المسلمون ! مع أن شواهد الحال كلها وقول هؤلاء المنافقين:"إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس " . . وشهادة الفئة الأخرى من المؤمنين وقولهم:"يظاهرون عدوكم" . . تصورهم للأمر على هذا النحو فيه تمييع كبير لحقيقة الإيمان , في ظروف تستدعي الوضوح الكامل , والحسم القاطع . فإن كلمة تقال باللسان ; مع عمل واقعي في مساعدة عدو المسلمين الظاهرين , لا تكون إلا نفاقا . ولا موضع هنا للتسامح أو للإغضاء . لأنه تمييع للتصور ذاته . . وهذا هو الخطر الذي يواجهه النص القرآني بالعجب والاستنكار والتشديد البين
ولم يكن الحال كذلك في الإغضاء عن منافقي المدينة . فقد كان التصور واضحا . . هؤلاء منافقون . . ولكن هناك خطة مقررة للتعامل معهم . هي أخذهم بظاهرهم والإغضاء إلى حين .
وهذا أمر آخر غير أن ينافح جماعة من المسلمين عن المنافقين . لأنهم قالوا كلاما كالذي يقوله المسلمون . وأدوا بألسنتهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . بينما هم يظاهرون أعداء المسلمين !
من أجل هذا التميع في فهم فئة من المسلمين , ومن أجل ذلك الاختلاف في شأن المنافقين في الصف المسلم ,كان هذا الاستنكار الشديد في مطلع الآية . . ثم تبعه الإيضاح الإلهي لحقيقة موقف هؤلاء المنافقين: (والله أركسهم بما كسبوا) . .
ما لكم فئتين في شأن المنافقين . والله أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم ? وهي شهادة من الله حاسمة في أمرهم . بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء .
ثم استنكار آخر: (أتريدون أن تهدوا من أضل الله ?) . .
ولعله كان في قول الفريق . . المتسامح !! . . ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا , ويتركوا اللجلجة ! فاستنكر الله هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم الله في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم
ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا . .
فإنما يضل الله الضالين . أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة . وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية ; بما بعدوا عنها , وسلكوا غير طريقها ; ونبذوا العون والهدى , وتنكروا لمعالم الطريق !(2/43)
ثم يخطو السياق خطوة أخرى في كشف موقف المنافقين . . إنهم لم يضلوا أنفسهم فحسب ; ولم يستحقوا أن يوقعهم الله في الضلالة بسعيهم ونيتهم فحسب . . إنما هم كذلك يبتغون إضلال المؤمنين: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) . .
إنهم قد كفروا . . على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون , ونطقوا بالشهادتين نطقا يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين . .
وهم لا يريدون أن يقفوا عند هذا الحد . فالذي يكفر لا يستريح لوجود الإيمان في الأرض ووجود المؤمنين . ولا بد له من عمل وسعي , ولا بد له من جهد وكيد لرد المسلمين إلى الكفر . ليكونوا كلهم سواء .
هذا هو الإيضاح الأول لحقيقة موقف أولئك المنافقين . . وهو يحمل البيان الذي يرفع التميع في تصور الإيمان ; ويقيمه على أساس واضح من القول والعمل متطابقين . وإلا فلا عبرة بكلمات اللسان , وحولها هذه القرائن التي تشهد بالكذب والنفاق: والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية مفزعة لهم , وهو يقول لهم: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) . .
فقد كانوا حديثي عهد بتذوق حلاوة الإيمان بعد مرارة الكفر . وبالنقلة الضخمة التي يجدونها في أنفسهم , بين مشاعرهم ومستواهم ومجتمعهم في الجاهلية . . ثم في الإسلام . وكان الفرق واضحا بارزا في مشاعرهم وفي واقعهم , تكفي الإشارة إليه لاستثارة عداوتهم كلها لمن يريد أن يردهم إلى ذلك السفح الهابط - سفح الجاهلية - الذي التقطهم منه الإسلام ; فسار بهم صعدا في المرتقى الصاعد , نحو القمة السامقة .
ومن ثم يتكى ء المنهج القرآني على هذه الحقيقة ; فيوجه إليهم الأمر في لحظة التوفز والتحفز والانتباه للخطر البشع الفظيع الذي يتهددهم من قبل هؤلاء:
فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله . فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم , ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرًا . .
ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم . . أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة - وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضا - وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب ; ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها . كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته .
كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة , أو روابط الدم والقرابة . أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة , أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة . . إنما تقوم الأمة على العقيدة ; وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة .
ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام , وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب . . ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول . . لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام ; وينضموا إلى المجتمع المسلم - أي إلى الأمة المسلمة - حيث تكون هجرتهم لله وفي سبيل الله . من أجل عقيدتهم , لا من أجل أي هدف آخر ; ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر . . بهذه النصاعة . وبهذا الحسم . وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى , أو مصالح أخرى , أو أهداف أخرى . .
فإن هم فعلوا . فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم . . في دار الحرب . . وهاجروا إلى دار الإسلام , ليعيشوا بالنظام الإسلامي , المنبثق من العقيدة الإسلامية , القائم على الشريعة الإسلامية . .
إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم , مواطنون في الأمة المسلمة . وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة , فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال:
فإن تولوا فخذوهم [ أي أسرى ] واقتلوهم حيث وجدتموهم , ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرًا .
وهذا الحكم - كما قلنا - هو الذي يرجح عندنا , أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة . إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى .
إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له ; فلا يكرههم أبدا على اعتناق عقيدته . ولهم - حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته - أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام . في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين . فقد ورد في القرآن من استنكار مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا !
وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته . وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم ; وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام ; وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام .(2/44)
إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهارا نهارا في العقيدة . . ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال . لا يتسامح مع من يقولون:إنهم يوحدون الله ويشهدون أن لا إله إلا الله . ثم يعترفون لغير الله بخاصية من خصائص الألوهية , كالحاكمية والتشريع للناس ; فيصم أهل الكتاب بأنهم مشركون , لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم . . لا لأنهم عبدوهم . ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال , وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم !
ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون . لأنهم شهدوا أن لا إله إلا الله , وأن محمدا رسول الله . ثم بقوا في دار الكفر , يناصرون أعداء المسلمين !
ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحا . إنما هو تميع . والإسلام عقيدة التسامح . ولكنه ليس عقيدة "التميع" . إنه تصور جاد . ونظام جاد . والجد لا ينافي التسامح . ولكنه ينافي التميع .
وفي هذه اللفتات واللمسات من المنهج القرآني للجماعة المسلمة الأولى , بيان , وبلاغ . .
ثم استثنى من هذا الحكم - حكم الأسر والقتل - لهذا الصنف من المنافقين , الذين يعينون أعداء المسلمين - من يلجأون إلى معسكر بينه وبين الجماعة الإسلامية عهد - عهد مهادنه أو عهد ذمة - ففي هذه الحالة يأخذون حكم المعسكر الذي يلتجئون إليه , ويتصلون به:(إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) . .
ويبدو في هذا الحكم اختيار الإسلام للسلم , حيثما وجد مجالًا للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي . من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار ; وعدم الوقوف في وجه الدعوة , بالقوة مع كفالة الأمن للمسلمين ; وعدم تعريضهم للفتنة , أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر .
ومن ثم يجعل كل من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين - عهد ذمة أو عهد هدنة - شأنه شأن القوم المعاهدين . يعامل معاملتهم , ويسالم مسالمتهم . وهي روح سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام .
كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى . هي الأفراد أو القبائل أو المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد , فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال . إذ تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين مع قومهم . كما تضيق صدورهم أن يقاتلوا قومهم مع المسلمين . فيكفوا أيديهم عن الفريقين بسبب هذا التحرج من المساس بهؤلاء أو هؤلاء: أو جاؤوكم , حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم . .
وواضح كذلك في هذا الحكم الرغبة السلمية في اجتناب القتال ; حيثما كف الآخرون عن التعرض للمسلمين ودعوتهم ; واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم . وهؤلاء الذين يتحرجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم . . كانوا موجودين في الجزيرة ; وفي قريش نفسها ; ولم يلزمهم الإسلام أن يكونوا معه أو عليه . فقد كان حسبه ألا يكونوا عليه . . كما أنه كان المرجو من أمرهم أن ينحازوا إلى الإسلام , حينما تزول الملابسات التي تحرجهم من الدخول فيه ; كما وقع بالفعل .
ويحبب الله المسلمين في انتهاج هذه الخطة مع المحايدين المتحرجين . فيكشف لهم عن الفرض الثاني الممكن في الموقف ! فلقد كان من الممكن - بدل أن يقفوا هكذا على الحياد متحرجين - أن يسلطهم الله على المسلمين فيقاتلوهم مع أعدائهم المحاربين ! فأما وقد كفهم الله عنهم على هذا النحو , فالسلم أولى , وتركهم وشأنهم هو السبيل:(ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم . فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم , وألقوا إليكم السلم . فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) . .
وهكذا يلمس المنهج التربوي الحكيم نفوس المسلمين المتحمسين , الذين قد لا يرضون هذا الموقف من هذا الفريق . يلمسه بما في هذا الموقف من فضل الله وتدبيره ; ومن كف لجانب من العداء والأذى كان سيضاعف العبء على عاتق المسلمين . ويعلمهم أن يأخذوا الخير الذي يعرض فلا يرفضوه , ويجتنبوا الشر الذي يأخذ طريقه بعيدا عنهم , فلا يناوشوة . . طالما أن ليس في هذا كله تفريط في شيء من دينهم , ولا تمييع لشيء من عقيدتهم ; ولا رضى بالدنية في طلب السلم الرخيصة !
لقد نهاهم عن السلم الرخيصة . لأنه ليس الكف عن القتال بأي ثمن هو غاية الإسلام . .
إنما غاية الإسلام:السلم التي لا تتحيف حقا من حقوق الدعوة , ولا من حقوق المسلمين . .
لا حقوق أشخاصهم وذواتهم ; ولكن حقوق هذا المنهج الذي يحملونه ويسمون به مسلمين .
وإن من حق هذا المنهج أن تزال العقبات كلها من طريق إبلاغ دعوته وبيانه للناس في كل زاوية من زوايا الأرض . وأن يكون لكل من شاء - ممن بلغتهم الدعوة - أن يدخل فيه فلا يضار ولا يؤذي في كل زاوية من زوايا الأرض . وأن تكون هناك القوة التي يخشاها كل من يفكر في الوقوف في وجه الدعوة - في صورة من الصور - أو مضارة من يؤمن بها - أي لون من ألوان المضارة - وبعد ذلك فالسلم قاعدة . والجهاد ماض إلى يوم القيامة .(2/45)
ولكن هناك طائفة أخرى , لا يتسامح معها الإسلام هذا التسامح . لأنها طائفة منافقة شريرة كالطائفة الأولى . وليست مرتبطة بميثاق ولا متصلة بقوم لهم ميثاق . فإلاسلام إزاءها إذن طليق . يأخذها بما اخذ به طائفة المنافقين الأولى:
ستجدون آخرين , يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم . كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها . فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم , ويكفوا أيديهم ; فخذوهم , واقتلوهم حيث ثقفتموهم , وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينًا . .
حكى ابن جرير عن مجاهد , أنها نزلت في قوم من أهل مكة , كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ; ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان , يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا , وها هنا . فأمر بقتلهم - إن لم يعتزلوا ويصلحوا - ولهذا قال تعالى: (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم) [ المهادنة والصلح ] (ويكفوا أيديهم) [ أي عن القتال ](فخذوهم) [ أسراء ] (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) [ أي حيث وجدتموهم ] (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينًا) .
وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته , إلى جانب سماحته وتغاضيه . . هذه في موضعها , وتلك في موضعها . وطبيعة الموقف , وحقيقة الواقعة , هي التي تحدد هذه وتلك . .
ورؤية هاتين الصفحتين - على هذا النحو - كفيلة بأن تنشىء التوازن في شعور المسلم ; كما تنشىء التوازن في النظام الإسلامي - السمة الأساسية الأصيلة - فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفا وحماسة وشدة واندفاعا فليس هذا هو الإسلام ! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام , كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير ! فيجعلون الأمر كله سماحة وسلمًا وإغضاء وعفوا ; ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين - وليس دفعًا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة . وليس تأمينًا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة . وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله , من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء . . فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام .
وفي هذه الطائفة من أحكام المعاملات الدولية بلاغ وبيان . .
---------------------
وقال الألوسي(1) :
{ فَمَا لَكُمْ } مبتدأ وخبر ، والاستفهام للإنكار ، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين ، ( وما فيه من معنى التوبيخ لبعضهم ) ، وقوله سبحانه : { فِى * المنافقين } يحتمل كما قال السمين أن يكون متعلقاً بما يدل عليه قوله تعالى : { فِئَتَيْنِ } ( من معنى الافتراق ) أي فما لكم تفترقون في المنافقين ، وأن يكون حالاً من { فِئَتَيْنِ } أي فئتين مفترقتين في المنافقين ، فلما قدم نصب على الحال ، وأن يكون متعلقاً بما تعلق به الخبر أي أي شيء كائن لكم في أمرهم وشأنهم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وفي انتصاب { فِئَتَيْنِ } وجهان كما في «الدر المصون» . وأحدهما : أنه حال من ضمير { لَكُمْ } المجرور والعامل فيه الاستقرار ، أو الظرف لنيابته عنه ، وهذه الحال لازمة لا يتم الكلام بدونها ، وهذا مذهب البصريين في هذا التركيب وما شابهه ، وثانيهما : وهو مذهب الكوفيين أنه خبر كان مقدرة أي مالكم في شأنهم كنتم فئتين ، ورد بالتزام تنكيره في كلامهم نحو { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وأما ما قيل على الأول : من أن كون ذي الحال بعضاً من عامله غريب لا يكاد يصح عند الأكثرين فلا يكون معمولاً له ، ولا يجوز اختلاف العامل في الحال وصاحبها فمن فلسفة النحو كما قال الشهاب ، والمراد إنكار أن يكون للمخاطبين شيء مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين ، وبيان وجوب قطع القوم بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين في جميع الأحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق .
__________
(1) - تفسير الألوسي - (ج 4 / ص 171)(2/46)
أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : هم قوم خرجوا من مكة حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها ، فاختلف فيهم المسلمون فقائل يقول : هم منافقون وقائل يقول : هم مؤمنون ، فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم . وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : «هم ناس تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا فسماهم الله تعالى منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا» ، وأخرج الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم عن زيد بن ثابت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فئتين فرقة تقول : نقتلهم وفرقة تقول : لا فأنزل الله تعالى : { فَمَا لَكُمْ فِى المنافقين } الآية كلها» ويشكل على هذا ما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى من جعل هجرتهم غاية للنهي عن توليتهم إلا أن يصرف عن الظاهر كما ستعلمه ، وقيل : هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وأخذوا يساراً راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثلوا به فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات ، ويرده كما قال شيخ الإسلام ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم من السلم والحرب وهؤلاء قد أخذوا ، وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل في أمرهم اختلاف المسلمين ، وقيل غير ذلك . / { والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ } حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإنكار السابق ، وقيل : من ضمير المخاطبين والرابط الواو ، وقيل : مستأنفة والباء للسببية ، وما إما مصدرية وإما موصولة ، وأركس وركس بمعنى ، واختلف في معنى الركس لغة ، فقيل : الرد كما قيل في قول أمية بن أبي الصلت :
فأركسوا في جحيم النار أنهم ... كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا
وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، والمعنى حينئذ والله تعالى ردهم إلى الكفر بعد الإيمان بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين أو نحو ذلك أو بسبب كسبهم ، وقيل : هو قريب من النكس ، وحاصله أنه تعالى رماهم منكسين فهو أبلغ من التنكيس لأن من يرمى منكساً في هوة قلما يخلص منها ، والمعنى أنه سبحانه بكسبهم الكفر ، أو بما كسبوه منه قلب حالهم ورماهم في حفر النيران . وأخرج ابن جرير عن السدي أنه فسر { أَرْكَسَهُمْ } بأضلهم وقد جاء الإركاس بمعنى الإضلال ، ومنه :
( وأركستني ) عن طريق الهدى ... وصيرتني مثلاً للعدا
وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : المعنى حبسهم في جهنم ، والبخاري عنه أن المعنى بددهم أي فرقهم وفرق شملهم ، وابن المنذر عن قتادة أهلكهم ، ولعلها معان ترجع إلى أصل واحد ، وروي عن عبد الله وأبيّ أنهما قرآ ركسوا بغير ألف ، وقد قرأ ركّسهم مشدداً .(2/47)
{ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } توبيخ للفئة القائلة بإيمان أولئك المنافقين على زعمهم ذلك ، وإشعار بأن يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى ، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم مع أنهم بمعزل من ذلك سعي في هدايتهم وإرادة لها ، فالمراد بالموصول المنافقون إلا أن وضع موضع ضميرهم لتشديد الإنكار وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة ، وحمله على العموم ، والمذكورون داخلون فيه دخولاً أولياً كما زعمه أبو حيان ليس بشيء ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في إنكاره ببيان أن إرادته مما لا يمكن فضلاً عن إمكان نفسه ، والآية ظاهرة في مذهب الجماعة ، وحمل الهداية والإضلال على الحكم بها خلاف الظاهر ، ويبعده قوله تعالى : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } فإن المتبادر منه الخلق أي من يخلق فيه الضلال كائناً من كان ويدخل هنا من تقدم دخولاً أولياً فلن تجد له سبيلاً من السبل فضلاً عن أن تهديه إليه ، والخطاب في { تَجِدُ } لغير معين ، أو لكل أحد من المخاطبين للإشعار ( بعدم ) الوجدان للكل على سبيل التفصيل ، ونفي وجدان السبيل أبلغ من نفي الهادي ، وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء ، وجعل السبيل بمعنى الحجة ، وأن المعنى من يجعله الله تعالى في حكمه ضالاً فلن تجد له في ضلالته حجة كما قال جعفر بن حرب ليس بشيء كما لا يخفى ، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر للإنكار السابق مؤكد لاستحالة الهداية ، أو حال من فاعل { تُرِيدُونَ } أو { تَهْدُواْ } ، والرابط الواو . { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } بيان لغلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالتهم في أنفسهم ، و { لَوْ } مصدرية لا جواب لها أي تمنوا أن تكفروا؛ وقوله تعالى : { كَمَا كَفَرُواْ } نعت لمصدر محذوف ، و ( ما ) مصدرية أي كفراً مثل كفرهم ، أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه ، ولا دلالة في نسبة الكفر إليهم على أنه مخلوق لهم استقلالاً لا دخل لله تعالى فيه لتكون هذه الآية دليلاً على صرف ما تقدم عن ظاهره كما زعمه ابن حرب لأن أفعال العباد لها نسبة إلى الله تعالى باعتبار الخلق ، ونسبة إلى العباد باعتبار الكسب بالمعنى الذي حققناه فيما تقدم ، وقوله تعالى : { فَتَكُونُونَ سَوَاء } عطف على { لَوْ تَكْفُرُونَ } داخل معه في حكم التمني أي : ودوا لو تكفرون فتكونون مستوين في الكفر والضلال ، وجوز أن تكون كلمة { لَوْ } على بابها ، وجوابها محذوف كمفعول ( ود ) أي ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء لسروا بذلك
{ فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء } الفاء فصيحة ، وجمع { أَوْلِيَاء } مراعاة لجمع المخاطبين فإن المراد نهي كل من المخاطبين عن اتخاذ كل من المنافقين ولياً أي إذا كان حالهم ما ذكر من الودادة فلا توالوهم . { حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } أي حتى يؤمنوا وتحققوا إيمانهم بهجرة هي لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا لغرض من أغراض الدنيا ، وأصل السبيل الطريق ، واستعمل كثيراً في الطريق الموصلة إليه تعالى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، والآية ظاهرة في وجوب الهجرة . وقد نص في «التيسير» على أنها كانت فرضاً في صدر الإسلام ، وللهجرة ثلاث استعمالات : أحدها : الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام وهو الاستعمال المشهور ، وثانيها : ترك المنهيات ، وثالثها : الخروج للقتال وعليه حمل الهجرة من قال : إن الآية نزلت فيمن رجع يوم أحد على ما حكاه خبر الشيخين وجزم به في الخازن { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله تعالى كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { فَخُذُوهُمْ } إذا قدرتم عليهم { واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } من الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسراً وقتلاً ، وقيل : المراد القتل لا غير إلا أن الأمر بالأخذ لتقدمه على القتل عادة . { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبداً كما يشعر بذلك المضارع الدال على الاستمرار أو التكرير المفيد للتأكيد .
--------------
وقال الرازي (1):
اعلم أن هذا نوع آخر من أحوال المنافقين ذكره الله تعالى ، وههنا مسائل :
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 5 / ص 321)(2/48)
المسألة الأولى : ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها : الأول : أنها نزلت في قوم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وآله مسلمين فأقاموا بالمدينة ما شاء الله ، ثم قالوا يا رسول الله : نريد أن نخرج إلى الصحراء فائذن لنا فيه ، فأذن لهم ، فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فتكلم المؤمنون فيهم ، فقال بعضهم : لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما صبرنا وقال قوم : هم مسلمون ، وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر إلى أن يظهر أمرهم ، فبين الله تعالى نفاقهم في هذه الآية . الثاني : نزلت الآية في قوم أظهروا الاسلام بمكة ، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين . فاختلف المسلمون فيهم وتشاجروا ، فنزلت الآية . وهو قول ابن عباس وقتادة . الثالث : نزلت الآية في الذين تخلفوا يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، فاختلف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ، فمنهم فرقة يقولون كفروا ، وآخرون قالوا : لم يكفروا ، فنزلت هذه الآية . وهو قول زيد بن ثابت ، ومنهم من طعن في هذا الوجه وقال : في نسق الآية ما يقدح فيه ، وإنهم من أهل مكة ، وهو قوله تعالى : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } [ النساء : 89 ] الرابع : نزلت الآية في قوم ضلوا وأخذوا أموال المسلمين وانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم ، فنزلت الآية : وهو قول عكرمة . الخامس : هم العرنيون الذين أغاروا وقتلوا يسارا مولى الرسول صلى الله عليه وسلم . السادس : قال ابن زيد : نزلت في أهل الافك .
المسألة الثانية : في معنى الآية وجهان : الأول : أن «فئتين» نصب على الحال : كقولك : مالك قائما ، أي مالك في حال القيام ، وهذا قول سيبويه . الثاني : أنه نصب على خبر كان ، والتقدير : مالكم صرتم في المنافقين فئتين ، وهو استفهام على سبيل الانكار ، اي لم تختلفون في كفرهم مع أن دلائل كفرهم ونفاقهم ظاهرة جلية ، فليس لكم أن تختلفوا فيه بل يجب أن تقطعوا بكفرهم .
المسألة الثالثة : قال الحسن : إنما سماهم منافقين وان أظهروا الكفر لأنهم وصفوا بالصفة التي كانوا عليها من قبل ، والمراد بقوله : { فِئَتَيْنِ } ما بينا ان فرقة منهم كانت تميل اليهم وتذب عنهم وتواليهم ، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم ، فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبري والتكفير ، والله أعلم .
ثم قال تعالى مخبرا عن كفرهم : { والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الركس : رد الشيء من آخره إلى أوله ، فالركس والنكس والمركوس والمنكوس واحد ، ومنه يقال للروث الركس لأنه رد إلى حالة خسيسة ، وهي حالة النجاسة ، ويسمى رجيعا لهذا المعنى أيضا ، وفيه لغتان : ركسهم وأركسهم فارتكسوا ، أي ارتدوا . وقال أمية .
فأركسوا في حميم النار إنهم ... كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا
المسألة الثانية : معنى الآية أنه ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل بما كسبوا ، أي بما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النفاق ، وذلك أن المنافق ما دام يكون متمسكا في الظاهر بالشهادتين لم يكن لنا سبيل إلى قتله ، فاذا أظهر الكفر فحينئذ يجري الله تعالى عليه أحكام الكفار .
المسألة الثالثة : قرأ ابي كعب وعبدالله بن مسعود { والله أَرْكَسَهُمْ } وقد ذكرنا أن أركس وركس لغتان .
ثم قال تعالى : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } قالت المعتزلة المراد من قوله : { أَضَلَّ الله } ليس أنه هو خلق الضلال فيه للوجوه المشهورة ، ولأنه تعالى قال قبل هذه الآية : { والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ } فبين تعالى انه إنما ردهم وطردهم بسبب كسبهم وفعلهم ، وذلك ينفي القول بان إضلالهم حصل بخلق الله وعند هذا حملوا قوله : { مَنْ أَضَلَّ الله } على وجوه : الأول : المراد منه ان الله تعالى حكم بضلالهم وكفرهم كما يقال فلان يكفر فلانا ويضله : بمعنى أنه حكم به وأخبر عنه : الثاني : أن المعنى أتريدون أن تهدوا إلى الجنة من أضله الله عن طريق الجنة ، وذلك لأنه تعالى يضل الكفار يوم القيامة عن الاهتداء إلى طريق الجنة . الثالث : أن يكون هذا الاضلال مفسرا بمنع الالطاف .
واعلم أنا قد ذكرنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ضعف هذه الوجوه ، ثم نقول : هب أنها صحيحة ، ولكنه تعالى لما أخبر عن كفرهم وضلالهم ، وانهم لا يدخلون الجنة فقد توجه الاشكال لأن انقلاب علم الله تعالى جهلا محال ، والمفضي الى المحال محال ، ومما يدل على أن المراد من الآية أن الله تعالى أضلهم عن الدين قوله : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } فالمؤمنون في الدنيا انما كانوا يريدون من المنافقين الايمان ويحتالون في إدخالهم فيه .(2/49)
ثم قال تعالى : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } فوجب أن يكون معناه أنه تعالى لما أضلهم عن الايمان امتنع أن يجد المخلوق سبيلا الى ادخاله في الايمان ، وهذا ظاهر .
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : انه تعالى لما قال قبل هذه الآية : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } [ النساء : 88 ] وكان ذلك استفهاما على سبيل الانكار قرر ذلك الاستبعاد بأن قال : انهم بلغوا في الكفر الى أنهم يتمنون أن تصيروا أيها المسلمون كفارا ، فلما بلغوا في تعصبهم في الكفر الى هذا الحد فكيف تطمعون في ايمانهم .
المسألة الثانية : قوله : { فَتَكُونُونَ سَوَاء } رفع بالنسق على { تَكْفُرُونِ } والمعنى : ودّوا لو تكونون ، والفاء عاطفة ولا يجوز أن يجعل ذلك جواب التمني ، ولو أراد ذلك على تأويل إذا كفروا استووا لكان نصبا ، ومثله قوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] ولو قيل : { فيدهنوا } على الجواب لكان ذلك جائزا في الاعراب ، ومثله : { وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 102 ] ومعنى قوله : { فَتَكُونُونَ سَوَاء } أي في الكفر ، والمراد فتكونون أنتم وهم سواء الا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لوضوح المعنى بسبب تقدم ذكرهم ، واعلم أنه تعالى لما شرح للمؤمنين كفرهم وشدة غلوهم في ذلك الكفر ، فبعد ذلك شرح للمؤمنين كيفية المخالطة معهم فقال : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والالحاد ، وهذا متأكد بعموم قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } والسبب فيه أن أعز الاشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين ، لأن ذلك هو الامر الذي به يتقرب الى الله تعالى ، ويتوسل به الى طلب السعادة في الآخرة ، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة ، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه والله أعلم .
المسألة الثانية : قوله : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حتى يُهَاجِرُواْ } قال أبو بكر الرازي : التقدير حتى يسلموا ويهاجروا ، لأن الهجرة في سبيل الله لا تكون إلا بعد الاسلام ، فقد دلت الآية على إيجاب الهجرة بعد الاسلام ، وانهم وإن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة ، ونظيره قوله : { مَالَكُمْ مّن ولايتهم مّن شَىْء حتى يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] .
واعلم أن هذا التكليف إنما كان لازما حال ما كانت الهجرة مفروضة قال صلى الله عليه وسلم : « أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك » فكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة ، ثم نسخ فرض الهجرة . عن طاوس عن ابن عباس قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة « لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية »وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الاسلام قائما .
المسألة الثالثة : اعلم أن الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الايمان ، وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين ، قال صلى الله عليه وسلم : « المهاجر من هجر ما نهى الله عنه » وقال المحققون : الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته وفعل منهياته ، ولما كان كل هذه الأمور معتبرا لا جرم ذكر الله تعالى لفظا عاما يتناول الكل فقال : { حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } فانه تعالى لم يقل : حتى يهاجروا عن الكفر ، بل قال : { حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله } وذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر ومهاجرة شعار الكفر ، ثم لم يقتصر تعالى على ذكر الهجرة ، بل قيده بكونه في سبيل الله ، فانه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الاسلام ، ومن شعار الكفر إلى شعار الاسلام لغرض من أغراض الدنيا ، إنما المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى .
ثم قال تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } [ النساء : 89 ] . والمعنى فان أعرضوا عن الهجرة ولزموا مواضعهم خارجا عن المدينة فخذوهم اذا قدرتم عليهم ، واقتلوهم أينما وجدتموهم في الحل والحرم ، ولا تتخذوا منهم في هذه الحالة ولياً يتولى شيئا من مهماتكم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم .
-------------
وقال السعدي(1) :
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 191)(2/50)
المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات: المنافقون المظهرون إسلامهم، ولم يهاجروا مع كفرهم، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه، فبعضهم تحرج عن قتالهم، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم. فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا، بل أمرهم واضح غير مشكل، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم، وودوا مع ذلك كفركم وأن تكونوا مثلهم. فإذا تحققتم ذلك منهم { فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } وهذا يستلزم عدم محبتهم لأن الولاية فرع المحبة.
ويستلزم أيضا بغضهم وعداوتهم لأن النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا الأمر موقت بهجرتهم فإذا هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجري أحكام الإسلام لكل مَنْ كان معه وهاجر إليه، وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر الإيمان.
وأنهم إن لم يهاجروا وتولوا عنها { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } أي: في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم.
ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق:
فرقتين أمر بتركهم وحتَّم [على] ذلك، إحداهما (3) : من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم، فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال.
والفرقة الثانية: قوم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ } أي: بقوا، لا تسمح أنفسهم بقتالكم، ولا بقتال قومهم، وأحبوا ترك قتال الفريقين، فهؤلاء أيضا أمر بتركهم، وذكر الحكمة في ذلك في قوله: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام:
إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم، وهذا متعذر من هؤلاء، فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين، وهو أهون الأمرين عليكم، والله قادر على تسليطهم عليكم، فاقبلوا العافية، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك.
{ فَـ } هؤلاء { إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا } .
الفرقة الثالثة: قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم، وهم الذين قال الله فيهم: { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ } أي: من هؤلاء المنافقين. { يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ } أي: خوفا منكم { وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي: لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم، وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم، وازداد كفرهم ونفاقهم، وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية، وفي الحقيقة مخالفة لها.
فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترامًا لهم لا خوفا على أنفسهم، وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا لا احتراما، بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين، فإنهم مستعدون (4) لانتهازها، فهؤلاء إن لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم، فإنهم يقاتلون، ولهذا قال: { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي: المسالمة والموادعة { وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي: حجة بينة واضحة، لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة، فلا يلوموا إلا أنفسهم.
----------------
وفي التفسير الوسيط(1) :
أورد المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } روايات أهمها روايتان :
أولهما : أن هذه الآية نزلت فى شأن المنافقين الذين تخلفوا عن الاشتراك مع المؤمنين فى غزوة أحد . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد ومعه المسلمون . وفى الطريق رجع عبد الله بن ابى بن سلول بثلث الناس وقالوا { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } فاختلف أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن هؤلاء المنافقين . فقال بعضهم : نقتلهم فقد كفروا .
وقال آخرون : لم يكفروا . فأنزل الله - تعالى - الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها طيبة وإنها تنفى الخبث كما ينفى الكير خبث الحديد " .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1023)(2/51)
أما الرواية الثاينة : فيؤخذ منها أنها نزلت فى قوم كانوا يظهرون الإِسلام بمكة إلا أنهم كانوا يظاهرون المشركين . فقد أخرج ابن جريرعن ابن عباس أن قوما كانوا بمكة قد تكلوا بالإِسلام وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم . فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس . وإن المؤمنين لما اخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى هؤلاء الخبثاء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوكم . وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله : - أو كما قالوا - أتقتلون قوما قد تكلنوا بمثل ما تكلمت به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول صلى الله عليه وسلم عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شئ ، فنزلت : { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } .
وهناك روايات أخرى قريبة من هذه الرواية فى معناها قد ذكرها المفسرون .
ويبدو لنا أن الرواية الثانية هى الأقرب إلى سياق الآيات وإلى الواقع التاريخى ، لأنه من الثابت تاريخيا أن منافقى المدينة لم يرد أمر بقتالهم ، وإنما استعمل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم وسائل أخرى أدت إلى نبذهم وهوان أمرهم ، لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ } يؤيد أنه ليس المقصود بالمنافقين هنا منافقى المدينة ، وإنما المقصود بهم جماعة أخرى من المنافقين كانوا خارج المدينة ، إذ لا هجرة من المدينة إلى غيرها وإنما الهجرة تكون من غيرها إليها ، لأنها دار الإِسلام ، ولم يكن فتح مكة قد تم عند نزول هذه الآية .
وقد رجح الإِمام ابن جرير سبب النزول الذى حكته الرواية الثانية فقال ما ملخصه : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآية فى اختلاف أصحاب رسول الله فى قوم كانوا قد ارتدوا عن الإِسلام بعد إسلامهم من أهل مكة . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ } أوضح دليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة ، لأن الهجرة كانت على عهد الله إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر . فأما من كان من المدنية فى دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك فلم يكن عليه فرض هجرة .
والفاء فى قوله { فَمَا لَكُمْ } للتفريع على ما تقدم من أخبار المنافقين وأحوالهم أو هى للافصاح و " ما " مبتدأ و " لكم " خبره .
قال الجمل : وقوله { فِي المنافقين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق بما تعلق به الخبر وهو " لكم " أى : أى شئ كان لكم أو مستقر لكم فى أمر المنافقين .
والثانى : أنه متعلق بمعنى فئتين ، فإنه فى قوة : ما لكم تفترقون فى أمر المنافقين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
والثالث : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من فئتين ، لأنه فى الأصل صفة لها تقديره : فئتين مفترقين فى المنافقين وصفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصبت حالا . وقوله " فئتين " حال من ضمير " لكم " المجرور والعامل فيه الاستقرار أو الظرف لنيابته عنه . . .
والاستفهام لإِنكار خلافهم فى شأن المنافقين ولوم المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمنافقين مع أن أحوال هؤلاء المنافقين تدعو إلى سوء الظن بهم .
والمعنى : لقد سقت لكم - أيها المؤمنون - من أحوال المنافقين ما يكشف عن خبثهم ومكرهم ، وبينت لكم من صفاتهم ما يدعو إلى الحذر منهم وسوء الظن بهم ، وإذا كان هذا هو حالهم فما الذى سوغ لكم أن تختلفوا فى شأنهم إلى فئتين؟ فئة تحسن الظن بهم وتدافع عنهم ، وفئة أخرى صادقة الفراسة ، سليمة الحكم لأنها عندما رأت الشر قد استحوذ على المنافقين أعرضت عنهم ، واحتقرتهم ، وأخذت حذرها منهم ، وحكمت عليهم بالحكم الذى رضيه الله - تعالى - .
والآن - أيها المؤمنون - بعد أن ظهر الحق ، وانكشف حال أولئك المنافقين ، عليكم أن تتركوا الخلاف فى شأنهم ، وأن تتفقوا جميعا على أنهم قوم بعيدون عن الحق والإِيمان . ومنغمسون فى الضلال والبطلان .
وقوله { والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا } حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإِنكار السابق أى : لم تختلفوا - أيها المؤمنون - فى شأن المنافقين هذا الاختلاف والحال أن الله - تعالى - قد ردهم إلى الكفر بعد الإِيمان بسب أقولاهم الأثيمة ، وأعمالهم القبيحة .
وقوله { أَرْكَسَهُمْ } من الركس وهو رد أول الشئ على آخره . يقال : ركس الشئ يركسه ركسا إذا قلبه على رأسه . والركس والنكس بمعنى واحد .
والاستفهام فى قوله { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } للإِنكار على من أحسن الظن بأولئك المنافقين .
أى : أتريدون أيها المؤمنون الذين أحسنتم الظن بهؤلاء المنافقين أن تعدوهم من جملة المهتدين ، مع أن الله - تعالى - قد خلق فيهم الضلال ، لأنهم قد استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الغى على الرشد . وقوله { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أى : ومن يكتب الله عليه الضلالة ، فلن تجد أحداً يهديه ويرشده ، لأن فضاء الله لا يتبدل ، وقدره لا يتخلف .(2/52)
وقوله - تعالى - { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً } كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم فى الكفر وتصديقهم لإِضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالهم فى أنفسهم .
أى : أن هؤلاء المنافقين الذين يحسن الظن بهم بعضكم - أيها المؤمنون - لا يكتفون بكفرهم فى أنفسهم بل هم يتمنون ويودون كفركم مثلهم بحيث تكونون أنتم وهم متساوين فى الكفر والنفاق ، وإذا كان هذا هو حالهم فكيف تطمعون فى إيمانهم؟ وكيف تحسنون الظن بهم؟
و { لَوْ } فى قوله { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } مصدرية . أى تمنوا كفركم . وقوله { كَمَا كَفَرُواْ } نعت لمصدر محذوف : أى تمنوا أن تكفروا كفراً مثل كفرهم .
وقوله { فَتَكُونُونَ سَوَآءً } معطوف على قوله { لَوْ تَكْفُرُونَ } ومفرع عليه . أى : ودوا لو تكفرون فتكونون مستوين معهم فى الضلال والكفر والنفاق .
وما أبلغ التعبير فى جانب محاولة المؤمنين بالإِرادة فى قوله { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } وفى جانب محاولة المنافقين بالود؛ لأن الإِرادة ينشأ عنها الفعل . فالمؤمنون يستقربون حصول الإِيمان من المنافقين ، لأن الإِيمان قريب من فطرة الناس وعقولهم . والمنافقون يعلمون أن المؤمنين لا يرتدون عن دينهم ، ويرونهم متمسكين به غاية التمسك ، فلم يكن طلبهم تكفير المؤمنين إلا كلون من التمنى الذى لا أمل فى تحققه ، فعبر عنه بالود المجرد ، أى ودوا ذلك ولكنه ود بعيد التحقق .
وقوله { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } نهى من الله - تعالى - للمؤمنين من موالاة المنافقين حتى يصدر منهم ما يدل على إقلاعهم عن النفاق والضلال .
والفاء فى قوله : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ } للإِفصاح عن شرط مقدر . والتقدير إذا كان هذا هو شأن المنافقين فلا يصح لكم - أيها المؤمنون - أن تتخذوا منهم أولياء أو نصراء أو أصدقاء حتى تتحقوا من إسلامهم بأن يهاجروا من أجل إعلاء كلمة الله من دار الكفر التى يقيمون فيها ويناصرون أهلها إلى دار الإِيمان التى تقيمون فيها ، وينضمون إليكم لنصرة الحق ، ودفع الظلم .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : ( دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة لأن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين ، لأنه هو الأمر الذى به يتقرب إلى الله ، ويتوسل به إلى السعادة . . . . . وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع طلب المحبة والولاية فى الموضع الذى يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه ودلت على إيجاب الهجرة بعد الإِسلام - أى فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يسلموا ويهاجروا - وأنهم إن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة . ونظيره قوله - تعالى - { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } واعلم أن هذا التكليف إنما كان لازما حال ما كانت الهجرة مفروضة ففى الحديث الشريف : " أنا برئ من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين . وأنا برئ من كل مسلم مع مشرك " فكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة . ثم نسخ فرض الهجرة بما رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " وروى عن الحسن أن حكم الآية ثابت فى كل من اقام فى دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإِسلام قائما .
وقوله : { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } بيان لحكم الله - تعالى - فى هؤلاء المنافقين إذا ما استمروا فى غيهم وضلالهم .
والمعنى : فإن أعرض هؤلاء المنافقون عن الهجرة فى سبيل الله - تعالى - فلا تعتبروا إسلامهم ، بل خذوهم فى الأسر ، وضيقوا عليهم ( واقتلوهم حيث وجدتموهم ) لأنهم أعداء لكم { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ } فى هذه الحالة { وَلِيّاً } توادونه وتصادقونه { وَلاَ نَصِيراً } تنتصرون به على أعدائكم ، لأن ولاية هؤلاء المنافقين محادة لله ولرسوله ، والتناصر بهم يؤدى إلى الخذلان كما قال - تعالى - { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } فالجملة الكريمة تأمر المؤمنين بقتل المنافقين الذين ظهر الكفر منهم وتناههم عن اتخاذهم أولياء أو أصدقاء وعن الاستنصار بهم
------------
وقال الطاهر بن عاشور(1) :
الأظهر أن ضمير ودوا عائد إلى المنافقين في قوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88]. فضح الله هذا الفريق فأعلم المسلمين بأنهم مضمرون الكفر، وأنهم يحاولون رد من يستطيعون رده من المسلمين إلى الكفر.
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 4 / ص 211)(2/53)
وعليه فقوله {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إن حمل على ظاهر المهاجرة لا يناسب إلا ما تقدم في سبب النزول عن مجاهد وابن عباس، ولا يناسب ما في الصحيح عن زيد بن ثابت، فتعين تأويل المهاجرة بالجهاد في سبيل الله، فالله نهى المسلمين عن ولايتهم إلى أن يخرجوا في سبيل الله في غزوة تقع بعد نزول الآية لأن غزوة أحد، التي انخزل عنها عبد الله بن أبي وأصحابه، قد مضت قبل نزول هذه السورة.
وما أبلغ التعبير في جانب محاولة المؤمنين بالإرادة في قوله {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء:88]، وفي جانب محاولة المنافقين بالود، لأن الإرادة ينشأ عنها الفعل، فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين، لأن الإيمان قريب من فطرة الناس، والمنافقون يعلمون أن المؤمنين لا يرتدون عن دينهم، ويرون منهم محبتهم إياه، فلم يكن طلبهم تكفير المؤمنين إلا تمنيا، فعبر عنه بالود المجرد.
وجملة {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} تفيد تأكيد مضمون قوله {بِمَا كَفَرُوا} قصد منها تحذير المسلمين من الوقوع في حبالة المنافقين.
وقوله {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أقام الله للمسلمين به علامة على كفر المتظاهرين بالإسلام، حتى لا يعود بينهم الاختلاف في شأنهم، وهي علامة بينة، فلم يبق من النفاق شيء مستور إلا نفاق منافقي المدينة. والمهاجرة في سبيل الله هي الخروج من مكة إلى المدينة بقصد مفارقة أهل مكة، ولذلك قال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لأجل الوصول إلى الله، أي إلى دينه الذي أراده.
وقوله {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي أعرضوا عن المهاجرة. وهذا إنذار لهم قبل مؤاخذتهم، إذ المعنى: فأبلغوهم هذا الحكم فإن أعرضوا عنه ولم يتقبلوه فخذوهم واقتلوهم، وهذا يدل على أن من صدر منه شيء يحتمل الكفر لا يؤاخذ به حتى يتقدم له، ويعرف بما صدر منه، ويعذر إليه، فإن التزمه يؤاخذ به، ثم يستتاب. وهو الذي أفتى به سحنون.
والولي: الموالي الذي يضع عنده مولاه سره ومشورته. والنصير الذي يدافع عن وليه ويعينه.
-----------------
وقال الجصاص (1):
قوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا * رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ وَكَانُوا يُعِينُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ " وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ : " نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى مَكَّةَ فَأَظْهَرُوا الشِّرْكَ " . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : " نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ " . وَفِي نَسَقِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى خِلَافِ هَذَا التَّأْوِيلِ الْأَخِيرِ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ , وَهُوَ قوله تعالى : { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ * . وقوله تعالى : { أَرْكَسَهُمْ * قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " رَدَّهُمْ " . وَقَالَ قَتَادَةُ : " أَرْكَسَهُمْ أَهْلَكَهُمْ " . وَقَالَ غَيْرُهُمْ : " أَرْكَسَهُمْ نَكَسَهُمْ " . قَالَ الْكِسَائِيُّ : " أَرْكَسَهُمْ وَرَكَسَهُمْ بِمَعْنًى " وَإِنَّمَا الْمَعْنَى رَدَّهُمْ فِي حُكْمِ الْكُفْرِ مِنْ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ , وَقِيلَ مِنْ السَّبْيِ وَالْقَتْلِ ; لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الِارْتِدَادَ بَعْدَمَا كَانُوا عَلَى النِّفَاقِ . وَإِنَّمَا وُصِفُوا بِالنِّفَاقِ وَقَدْ أَظْهَرُوا الِارْتِدَادَ عَنْ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلُ مِنْ إضْمَارِ الْكُفْرِ , قَالَهُ الْحَسَنُ . وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ : هَذَا يَحْسُنُ مَعَ عَلَمِ التَّعْرِيفِ وَهُوَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ , كَمَا تَقُولُ : " هَذِهِ الْعَجُوزُ هِيَ الشَّابَّةُ " يَعْنِي هِيَ الَّتِي كَانَتْ شَابَّةً , وَلَا يَجُوزُ " هَذِهِ شَابَّةٌ " . فَأَبَانَ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أَحْوَالِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ لَكُمْ الْإِسْلَامَ وَإِذَا رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ وَالرِّدَّةَ , وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يُحْسِنُوا بِهِمْ الظَّنَّ وَأَنْ يُجَادِلُوا عَنْهُمْ . قوله تعالى : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً * يَعْنِي هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ ضَمَائِرِهِمْ وَاعْتِقَادَاتهمْ لِئَلَّا يُحْسِنَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ الظَّنَّ وَلِيَعْتَقِدُوا مُعَادَاتِهِمْ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ .
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 4 / ص 465)(2/54)
وقوله تعالى : { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ * يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : حَتَّى يُسْلِمُوا وَيُهَاجِرُوا ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ , وَأَنَّهُمْ وَإِنْ أَسْلَمُوا لَمْ تَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُوَالَاةٌ إلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ , وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * وَهَذَا فِي حَالِ مَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا ; وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ , وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ مَعَ مُشْرِكٍ قِيلَ : وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا * . فَكَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا إلَى أَنْ فُتِحَتْ مَكَّةُ فَنُسِخَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : { لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا * . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : { أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْهِجْرَةِ , فَقَالَ : وَيْحَك إنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ شَدِيدٌ فَهَلْ لَك مِنْ إبِلٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَهَلْ تُؤَدِّي صَدَقَتَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِك شَيْئًا * فَأَبَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ الْهِجْرَةِ . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إسْمَاعِيلَ بْن أَبِي خَالِدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَامِرٌ قَالَ : أَتَى رِجْلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَقَالَ : أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ , وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ * . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ ثَابِتٌ فِي كُلِّ مَنْ أَقَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَرَأَى فَرْضَ الْهِجْرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَائِمًا . وقوله تعالى : { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ * فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ الْهِجْرَةِ " . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ ; لِأَنَّ قوله تعالى : { حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ * قَدْ انْتَظَمَ الْإِيمَانَ وَالْهِجْرَةَ جَمِيعًا , وَقَوْلُهُ : { فَإِنْ تَوَلَّوْا * رَاجِعٌ إلَيْهِمَا ; وَلِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ : فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ .
-----------------
وفي المحلى (1):
__________
(1) - المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 11 / ص 258) والمحلى لابن حزم - (ج 7 / ص 161)(2/55)
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا أَبُو الْوَلِيدِ - هُوَ الطَّيَالِسِيُّ - نا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : { لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهُ , وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِرْقَتَيْنِ : فِرْقَةٌ تَقُولُ : نُقَاتِلُهُمْ , وَفِرْقَةٌ تَقُولُ : لَا نُقَاتِلُهُمْ , فَنَزَلَتْ { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ * * فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ , وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى أُولَئِكَ : مُنَافِقِينَ . وَأَمَّا قوله تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً * إلَى قوله تعالى : { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ تَعَالَى عَنَى بِذَلِكَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ , وَهُوَ كَانَ الْأَظْهَرَ لَوْلَا قوله تعالى { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ * فَهَذَا يُوَضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ فِي قَوْمٍ آخَرِينَ غَيْرِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ , لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مِنْ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ بِلَا شَكٍّ , وَلَيْسَ عَلَى سُكَّانِ الْمَدِينَةِ هِجْرَةٌ , بَلْ الْهِجْرَةُ كَانَتْ إلَى دَارِهِمْ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَحُكْمُ الْآيَةِ كُلِّهَا أَنَّهَا فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ لَمْ يُؤْمِنُوا بَعْدُ , وَادَّعُوا أَنَّهُمْ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا , وَكَانَ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ : أَنَّ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِإِيمَانِهِ , وَكَانَ كَافِرًا كَسَائِرِ الْكُفَّارِ وَلَا فَرْقَ , حَتَّى يُهَاجِرَ , إلَّا مَنْ أُبِيحَ لَهُ سُكْنَى بَلَدِهِ , كَمَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ , وَالْبَحْرَيْنِ , وَسَائِرِ مَنْ أُبِيحَ لَهُ سُكْنَى أَرْضِهِ , إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * فَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْوِلَايَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ , فَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ . وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ * إلَى قَوْلِهِ { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ * الْآيَةَ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَعْنَى { حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ * أَيْ حَتَّى يُجَاهِدُوا مَعَكُمْ , بِخِلَافِ فِعْلِهِمْ حِينَ انْصَرَفُوا عَنْ أُحُدٍ وَأَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْآيَةَ كُلَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْ أُحُدٍ ؟ قِيلَ لَهُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - : هَذَا مُمْكِنٌ , وَلَكِنْ قَدْ قَالَ تَعَالَى { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ * فَأَخْبِرُونَا هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ عليه السلام فَقَتَلَ الرَّاجِعِينَ عَنْ أُحُدٍ حَيْثُ وَجَدَهُمْ ؟ وَهَلْ أَخَذَهُمْ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ , كَذَبُوا كَذِبًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ , وَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ شَكٌّ فِي أَنَّهُ - عليه السلام - لَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا نَبَذَ الْعَهْدَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ . وَإِنْ قَالُوا : لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ - عليه السلام - وَلَا الْمُؤْمِنُونَ ؟ قِيلَ لَهُمْ : صَدَقْتُمْ , وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ - عليه السلام - خَالَفَ أَمْرَ رَبِّهِ , فَأَمَرَهُ تَعَالَى إنْ تَوَلَّوْا بِقَتْلِهِمْ , حَيْثُ وَجَدَهُمْ , فَلَمْ يَفْعَلْ , وَهَذَا كُفْرٌ مِمَّنْ ظَنَّهُ بِلَا شَكٍّ . فَإِنْ قَالُوا : لَمْ يَتَوَلَّوْا بَلْ تَابُوا وَرَجَعُوا وَجَاهَدُوا ؟ قِيلَ لَهُمْ : فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ النِّفَاقِ عَنْهُمْ - بِلَا شَكٍّ - وَحَصَلَ لَهُمْ حُكْمُ الْإِعْلَامِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ - بِلَا شَكٍّ - فَقَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ جُمْلَةً فِي أَنَّهُ - عليه السلام - كَانَ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ . وَلَكِنْ فِي قوله تعالى { إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ * إلَى قوله تعالى : { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * بَيَانٌ جَلِيٌّ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ مِنْ الْأَوْسِ وَلَا مِنْ الْخَزْرَجِ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَوْمٌ مُحَارِبُونَ لِلنَّبِيِّ - عليه السلام - وَلَا نُسِبُوا قَطُّ إلَى قَوْمٍ مُعَاهِدِينَ(2/56)