المُفَصَّلُ في أحْكامِ الهِجرَةِ
(1)
الباب الأول
الهجرة في القرآن والسنة
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الهجرة من مكان إلى مكان آخر وجدت منذ وجود الإنسان على هذه الأرض ، ولها أسباب كثيرة :
منها- أنَّ الإنسان إذا أصبح المكان الذي يعيش فيه جدباً تركه وبحث عن مكان آخر أكثر خصوبة من أجل العيش والبقاء
ومنها- طلباً للعلم والمعرفة إذا لم يكن ذلك متوفراً في البلد الذي يعيش فيه
ومنها - بسبب الكوارث الطبيعية ( من فيضانات وسيول وصواعق وزلازل ) التي يسلطها الله تعالى على من عصاه كما فعل بأهل سبأ قال تعالى :{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) }[سبأ/15-21] وكما فعل بالأمم السابقة
ومنها- بسبب الحروب بين الناس فيفرُّ المهزوم إلى مكان آخر آمن
ومنها- الخوف من عدو أو وحوش ونحو ذلك
ومنها- للسياحة ....
وهذه الأنواع تحدث مع جميع البشر وفي كل العصور .
ومنها- الفرار بالدين ، وهي أعظم أنواع الهجرة ، قال تعالى عن النبي إبراهيم عليه السلام لما هاجر من العراق إلى الشام : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) }سورة العنكبوت .
وقد كان الكفار والفجار يستخدمون هذه الوسيلة عندما تعييهم الحيل في القضاء على الدين الحق ، قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) [إبراهيم/13-15] }
وفعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (30) سورة الأنفال
وهذه الهجرة ( إذا ضيق على المؤمن في مكانٍ ما ولم يستطع القيام بشئون دينه ) واجبة عليه حتى قيام الساعة ، قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) [النساء/97-101] }
ذلك لأن الدين أغلى ما يملك الإنسان ، فإذا تعرض للأذى في دينه ضحَّى بكل شيء يملكه ليسلم له دينه ، فإذا سلم الدين سلم كل شيء وإذا ضاع الدين ضاع كل شيء وفي سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ (2484 ) عن بُكَيْرَ بْنِ فَيْرُوزَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " " مَنْ خَافَ أَدْلَجَ ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ " " : وهو حديث صحيح لغيره
==============
والمشكلة الكبرى أن الهجرة سابقا كانت من ديار الكفر والفسوق والعصيان إلى دار الإسلام ، لكنها اليوم أصحبت من دار الإسلام إلى ديار الكفر والفسوق والعصيان .
وقد تمخَّض عن هذه الهجرة مشكلات كثيرة جدًّا :
منها موضوع الحصول على الجنسية والإقامة
ومنها مشكلات الأسرة من حيث التعليم والتربية والرعاية
ومنها مشكلات اللباس والاختلاط والمعاملات والحلال والحرام في الأطعمة والأشربة والعادات والتقاليد، والعلاقات الاجتماعية مع الكفار وأهمها مشكلة الحفاظ على الهوية وغير ذلك .....
================
وهذا الكتاب الذي بين يدينا يتحدث عن هذا الموضوع بشكل مفصل ، وقد قسمته لثلاثة أبواب :
الباب الأول- الهجرة في القرآن والسنة :
وقد تكلمت فيه عن تعريف الهجرة وأنواعها ، وعرجت على هجرة الصحابة رضي الله عنهم للحبشة ،وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة هو وأصحابه الكرام وما يستفاد منهما من دروس وعبر .
ثم استقصيت الآيات المتعلقة بالهجرة ووضعت لها عناوين وقمت بشرحها من أهم كتب التفسير القديمة والحديثة ....
وقد تكلمت عن أحكام الهجرة عند الفقهاء بالتفصيل قدامى ومحدثين بما فيها أنواع الدور وأحكامها.....
الباب الثاني -فتاوى وبحوث حول الهجرة :
ذكرت في هذا الباب الفتاوى التي قالها العلماء اليوم والمعوَّل عليهم في هذا الباب حول مفهوم الهجرة وأحكامها ، وهي عبارة عن فتاوى وبحوث واستشارات قيمة ، وقد بلغ عددها حوالي مائة وثلاثة وثمانين
الباب الثالث - أحكام الدور الثلاث عند المعاصرين :
استقصيت ما ورد عند العلماء المعاصرين حول أحكام الدور الثلاث دار الإسلام ودار الحرب ودار الكفر
وهي عبارة عن فتاوى واستشارات وبحوث قيمة تجلِّي هذه الحقيقة بالتفصيل
وقد استبعدت غالب فتاوى فقهاء الهزيمة ، الذين رضوا بالدون ، والذين باع كثير منهم دينه بثمن بخس !!!!
وقد بلغ عددها حوالي ثلاثمائة وسبعة وثلاثين فتوى وبحثا
وبذلك يكون كتابنا هذا قد حوى - بإذن الله - جلَّ ما يتعلق بهذا الموضوع الجلل ، وذلك لكي يعرف المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها حكم الإسلام في قضايا الهجرة وشروطها وأبعادها وما يتمخض عنها
==============
المراجع التي اعتمدت عليها :
هي سائر مراجع كتب التراث من كتب تفسير وحديث وفقه وشروح الحديث
وفتاوى فقهاء العصر لا سيما
فتاوىاللجنة الدائمة
وفتاوى العلامة ابن باز
وفتاوى العلامة ابن عثيمين
والدرر السنية
وفتاوى الأزهر
وفتاوى أستازنا الزحيلي والفقه الإسلامي وأدلته له (مع تحفظنا عن بعض ما ورد في الفقه الإسلامي )
وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
والشبكة الإسلامية
الإسلام اليوم
الإسلام سؤال وجواب
صيد الفوائد
شبكة نور الإسلام
موقع المنبر
شبكة مشكاة الإسلامية
موقع المختار الإسلامي
المسلم اليوم
وغيرها كثير
==============
قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* (74) سورة الأنفال
نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم ، وأن يجزي كل من ساعد على نشر هذا العلم في الدارين آمين
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 14 شعبان لعام 1428 هـ الموافق ل 27/8 /207 م
=============(1/1)
الباب الأول- الهجرة في القرآن والسنة
تعريفها لغة واصطلاحا :
جاء في مفردات القرآن (1):هجر
- الهجر والهجران: مفارقة الإنسان غيره؛ إما بالبدن؛ أو باللسان؛ أو بالقلب. قال تعالى: { واهجروهن في المضاجع } [النساء/34] كناية عن عدم قربهن، وقوله تعالى: { إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } [الفرقان/30] فهذا هجر بالقلب، أو بالقلب واللسان. وقوله: { واهجرهم هجرا جميلا } [المزمل/10] يحتمل الثلاثة، ومدعو إلى أن يتحرى أي الثلاثة إن أمكنه مع تحري المجاملة، وكذا قوله تعالى: { واهجرني مليا } [مريم/46]، وقوله تعالى: { والرجز فاهجر } [المدثر/5]، فحث على المفارقة بالوجوه كلها.
__________
(1) - غريب القرآن للأصفهاني - (ج 1 / ص 536) ومفردات ألفاظ القرآن الكريم - (ج 3 / ص 53)(1/2)
والمهاجرة في الأصل: مصارمة الغير ومتاركته؛ من قوله عز وجل: { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا } [الأنفال/74]، وقوله: { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } [الحشر/8]، وقوله: { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله } [النساء/100]، { فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله } [النساء/89] فالظاهر منه الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان كمن هاجر من مكة إلى المدينة، وقيل: مقتضى ذلك هجران الشهوات والأخلاق الذميمة والخطايا وتركها ورفضها، وقوله: { إني مهاجر إلى ربي } [العنكبوت /26] أي: تارك لقومي وذاهب إليه. وقوله: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } [النساء/97]، وكذا المجاهدة تقتضي مع العدى مجاهدة النفس كما روي في الخبر: (رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) (عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) قال العراقي: رواه البيهقي في الزهد، وفيه ضعف.
انظر: تخريج أحاديث الإحياء 4/1537 والزهد للبيهقي ص 165)، وهو مجاهدة النفس. وروي: (هاجروا ولا تهجروا) (هذا من حديث عمر فإنه قال: (هاجروا ولا تهجروا، واتقوا الأرنب أن يحذفها أحدكم بالعصا، ولكن ليذك لكم الأسل الرماح والنبل). انظر: غريب الحديث 3/310؛ والنهاية 5/245) أي: كونوا من المهاجرين، ولا تتشبهوا بهم في القول دون الفعل، والهجر: الكلام القبيح المهجور لقبحه. وفي الحديث: (ولا تقولوا هجرا) (شطر الحديث: عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نهيتكم عن لحوم الأضحى بعد ثلاث، فكلوا وتصدقوا وادخروا، ونهيتكم عن الانتباذ، فانتبذوا، وكل مسكر حرام، ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هجرا) أخرجه مالك في الموطأ، باب ادخار لحوم الأضاحي. انظر: شرح الزرقاني 3/76. وأخرجه الطبراني في الأوسط 3/343) وأهجر فلان: إذا أتى بهجر من الكلام عن قصد، وهجر المريض: إذا أتى ذلك من غير قصد، وقرئ: { مستكبرين به سارما تهجرون } [المؤمنون/67] (وبها قرأ نافع)، وقد يشبه المبالغ في الهجر بالمهجر، فيقال: أهجر: إذا قصد ذلك، قال الشاعر:
- 464 - كما جدة الأعراق قال ابن ضرة * عليها كلاما جار فيه وأهجرا
(البيت للشماخ من قصيدة مطلعها:
أتعرف رسما دارسا قد تغيرا * بذروة أقوى بعد ليلى وأقفر
وهو في ديوانه ص 135؛ والمجمل 4/899؛ وفصل المقال ص 24)
الشاعر:
ورماه بهاجرات فمه أي: فضائح كلامه، وقوله: فلان هجيراه كذا: إذا أولع بذكره، وهذي به هذيان المريض المهجر، ولا يكاد يستعمل الهجير إلا في العادة الذميمة اللهم إلا أن يستعمله في ضده من لا يراعي مورد هذه الكلمة عن العرب. والهجير والهاجرة: الساعة التي يمتنع فيها من السير كالحر؛ كأنها هجرت الناس وهجرت لذلك، والهجار: حبل يشد به الفحل، فيصير سببا لهجرانه الإبل، وجعل على بناء العقال والزمام، وفحل مهجور، أي: مشدود به، وهجار القوس: وترها، وذلك تشبيه بهجار الفحل.
وفي النهاية في غريب الحديث (1):
{هجر* (س) فيه «لا هَجْرةَ بعد الفَتْح، ولكِنْ جِهَادٌ ونِيَّة».
(س) وفي حديث آخر «لا تَنْقَطِع الهِجْرةُ حتَّى تَنْقَطِعَ التَّوبَة» الهِجْرة في الأصْل: الاسْم من الهَجْرِ، ضِدّ الوَصْلِ. وقد هَجَره هَجْراً وهِجْراناً، ثُم غَلَب على الخُرُوج من أرض إلى أرض، وتَركِ الأولى للثَّانية. يُقال منه: هاجَر مُهاجَرةً.
والهِجْرَة هِجْرتَان: إحْدَاهُما التّي وَعَدَ اللَّه عليها الجنّة في قوله «إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِن المؤمنين أنْفُسَهُمْ وأمْوالَهم بأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ» فكَان الرَّجُل يَأتي النبيَّ صلى اللَّه عليه وسلم ويَدَعُ أهْلَه وَمَاله، لا يَرْجِع في شيء منه، ويَنْقَطِع بِنَفْسه إلى مُهاجَرِه، وكان النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم يَكْرَه أن يَمُوت الرَّجُلُ بالأرض التي هَاجَر منها، فَمِن ثَمَّ قال: «لكِن البَائِس سَعْد بنُ خَوْلَةَ» يَرْثي له رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنْ ماتَ بِمَكّة. وقال حين قدم مكة: «اللّهم لا تَجْعَل مَنَايَانَا بِهَا» فلمَّا فُتِحَتْ مَكّةُ صارَت دَارَ إسْلام كالمدِينَة، وانْقَطَعت الهِجْرَة.
والهِجْرة الثَّانِيَة: مَن هَاجَر مِن الأعْرابِ وغَزَا مع المُسْلمين، ولم يفعل كما فَعَل أصْحابُ الهِجْرة الأولى، فهو مُهاجِر، ولَيْس بِدَاخِل في فَضْل من هاجَر تِلْك الهِجْرَة، وهُو المرادُ بقوله: «لا تنْقَطِع الهجرةُ حتى تَنْقَطِع التَّوبَة».
فهَذا وجْه الجَمْع بَيْن الحديثين. وإذا أُطْلِق في الحديث ذِكْرُ الهِجْرَتَيْن فإنما يُرَادُ بهما هِجْرةُ الحَبَشَة وهجْرةُ المدينة.
* - ومنه الحديث «سَتَكون هجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرة، فَخِيَار أهْل الأرض ألْزَمُهُم مُهَاجَرا إبراهيم» المُهَاجَر، بفتح الجيم: موضِع المُهاجَرَة، ويُريدُ به الشّام؛ لأنَّ إبراهيم عليه السلام لَمَّا خَرج من أرض العرَاق مَضَى إلى الشَّام وأقام به.
__________
(1) - النهاية في غريب الأثر - (ج 5 / ص 557)(1/3)
(ه) وفي حديث عمر «هَاجِرُوا ولا تَهَجَّروا» أي أخْلِصُوا الهِجْرةَ للَّه، ولا تَتَشَبَّهوا بالمهاجِرين على غَيْر صحَّة منكم. يقال: تَهَجَّر وتَمَهْجَر، إذا تَشَبَّه بالمُهاجِرين.
وقد تكرر ذِكْر هذه الكَلِمَة في الحديث، اسْماً وفِعْلا، ومُفْرداً وجَمْعاً.
(س) وفيه «لا هِجْرَةَ بَعْد ثلاثٍ» يريد به الهَجْر ضِدّ الوَصل يَعْني فيما يَكُون بَيْن المسلمين من عَتْب ومَوْجِدَة، أو تَقْصِيرٍ يَقَع في حُقُوق العِشْرَة والصُّحْبَة، دونَ ما كان من ذلك في جانب الدِّين، فإنَّ هِجْرة أهْلِ الأهْواء والبِدَع دَائمة على مَرِّ الأوقاتِ، ما لم تَظْهر منْهُم التَّوْبة والرُّجُوع إلى الحقِّ، فإنَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما خاف على كعْب بن مالك وأصحابه النِّفاقَ حين تَخَلّفوا عن غَزْوة تَبوك أمَر بِهِجْرانِهم خَمْسين يَوْماً وقد هَجَر نِساءَه شَهراً، وهَجَرت عائشة ابنَ الزُّبَير مُدَّة وَهَجر جَمَاعةٌ من الصحابة جَماعةً منهم وماتُوا مُتَهاجِرِين. ولعلّ أحَدَ الأمْرَيْن مَنْسُوخٌ بالآخَر.
(ه) ومنه الحديث «من الناسِ من لا يَذْكُر اللَّهَ إلا مُهاجِراً» يريد هِجْرَان القَلْب وتَرْكَ الإخْلاص في الذِّكْر. فكأنَّ قَلْبَه مُهاجرٌ للسَانه غَيْرُ مواصلٍ له.
وفي تاج العروس (1):
هَجَرَه يَهْجُره هَجْرَاً بالفتح وهِجْراناً بالكسر : صَرَمَه وَقَطَعه . والهَجْرُ : ضِدُّ الوَصْل . هَجَرَ الشيءَ يَهْجُره هَجْرَاً : تَرَكَه وأَغْفَله واَعْرَض عنه ومنه حديثُ أبي الدَّرْداء : " ولا يَسْمَعون القرآنَ إلاّ هَجْرَاً " يريد التَّركَ له والإعراضَ عنه ورواه ابنُ قُتَيْبة في كتابه : إلاّ هُجْراً بالضمّ وقال : هو الخَنا والقَبيح من القول وقد غلَّطه الخَطَّابيّ في الرِّواية والمعنى راجِع النِّهاية لابن الأثير كَأَهْجَرَه وهذه هُذَليَّة قال أسامة : كأنِّي أُصادِيها على غُبْرِ مانعٍ مُقلَّصَةً قد أَهْجَرتْهَا فُحولُها هَجَرَ الرجلُ هَجْرَاً : إذا تَباعَدَ ونأى . وقال الليث : الهَجْرُ من الهِجْران وهو تَرْكُ ما لا يَلْزَمُكَ تَعاهُدُه . وَهَجَرَ في الصَّوم يَهْجُر هِجْراناً : اعتزَلَ فيه عن النِّكاح كان أَخْصَر . يقال : هما يَهْتَجِران ويتَهاجَران والاسمُ الهِجرةُ بالكسر وفي الحديث : " لا هِجْرَةَ بعدَ ثلاث " يريد به الهَجْرَ ضِدّ الوَصْل يعني فيما يكون بين المسلمين من عَتْب ومَوْجِدةَ أو تقصير يقع في حقوقِ العشرةِ والصُّحبة دون ما كان من ذلك في جانبِ الدِّين فإنّ هِجْرَةَ أهلِ الأهواءِ والبِدَع دائمةٌ على مَمَرِّ الأوقات ما لم تَظْهَر منهم التَّوبة والرّجوع إلى الحقّ . وَهَجَرَ فلانٌ الشِّركَ هَجْرَاً بالفتح : وهِجْراناً بالكسر وهِجرَةً حَسَنَةً بالكسر أيضاً حكاه الخَطَّابيّ عن اللِّحْيانيّ . والهُجْرَة بالكسر والضمّ : الخروجُ من أرضٍ إلى أخرى وقد هاجَر . قال الأَزْهَرِيّ : وأصلُ المُهاجَرَة عند العرب : خروج البَدَويِّ من بادِيَته إلى المُدُن يقال : هاجَر الرجلُ إذا فعل ذلك وكذلك كلّ مُخْلٍ بمَسكَنِه مُنتَقِلٍ إلى قومٍ آخرين بسُكناه ومَساكِنَهم التي نشأوا بها لله ولَحِقوا بدارٍ ليس لهم بها أهلٌ ولا مالٌ حين هاجَروا إلى المدينة : فكلُّ مَن فارَقَ بَلَدَه من بَدويٍّ أو حَضَرِيٍّ أو سَكَنَ بَلَدَاً آَخَرَ فهو مُهاجِرٌ والاسمُ منه الهِجْرَة قال الله عزَّ وجلَّ : " ومن يُهاجِرْ في سبيل الله يَجِدْ في الأرضِ مُرَاغَماً كثيراً وسَعَةً " وكلّ من أقامَ من البَوادي بمَباديهم ومَحاضِرِهم في القَيْظ ولم يَلْحَقوا بالنبيِّ صلّى الله عليه وسلَّم ولم يتحَوَّلوا إلى أمصار المُسلمين التي أُحدِثَت في الإسلام وإنْ كانوا مُسلمين فهم عيرُ مُهاجِرين وليس لهم في الفَيْءِ نَصيبٌ ويُسَمَّوْن الأعْراب . وفي البصائر للمصنّف : والهِجْرانُ يكون بالبَدَنِ وباللسان وبالقلب وقولُه تعالى : " واهْجُروهُنَّ في المضاجع " أي بالأبْدان وقوله : " هذا القرآن مَهْجُوراً " أي باللسان أو بالقَلب وقولَه : واهْجُرْهُم هَجْرَاً جَميلا " محتمل للثلاثة وقوله : " والرُّجْزَ فاهْجُرْ " حَثَّ على المفارَقة بالوُجوه كلّها . والمُهاجَرَة في الأصل مُصارَمةُ الغَيرِ ومُتارَكَتُه . وفي قَوْلُهُ تَعالى : " والذين هاجَروا وجاهَدوا " الخروجُ من دارِ الكُفر إلى دارِ الإيمان . والهِجْرَتان : هِجرَةٌ إلى الحبَشَة وهِجرَةٌ إلى المدينة وهذا هو المُراد من الهِجْرَتَيْن إذا أُطلِقَ ذِكرُهما قاله ابنُ الأثير . والمُهاجَرَةُ من أرضٍ : تَرْكُ الأولى للثانية وذو الهِجْرَتَيْن من الصَّحابة : مَن هاجَرَ إليْهما . وفي الحديث : " لا هِجْرَةَ بعدَ الفَتْح ولكنْ جِهادٌ ونِيَّة " . وفي حديثٍ آخَرَ : " لا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حتى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ " . انظر الجمع بينهما في النِّهاية . والهِجِرّ كفِلِزٍّ : المُهاجَرَةُ إلى القُرى عن ثعلب وأنشد :
__________
(1) - تاج العروس - (ج 1 / ص 3623)(1/4)
شَمْطَاءُ جاءَتْ من بلادِ الحَرِّ ... قد تَرَكَتْ حَيَّهْ وقالت حَرِّ ثمّ أمالَتْ جانِبَ الخِمِرِّ عَمْدَاً على جانِبِها الأَيْسَرِّ " تَحْسَبُ أنَّا قُرُبَ الهِجِرِّ ولَقيتُه عن هَجْرٍ بالفتح أي بعد حَوْلٍ ونحوِه وقيل : الهَجْرُ : السَّنَةُ فصاعِداً أو بعد سِتَّةِ أيّامٍ فصاعِداً أو بعدَ مَغيب أيَّاً كان أنشد ابْن الأَعْرابِيّ
لمّا أتاهُمْ بعد طُولِ هَجْرِهِ ... يَسْعَى غلامُ أَهْلِهِ ببِشْرِهِ وقال أبو زيد : لَقيتُ فلاناً عن عُفْرٍ : بعد شَهر ونَحوه وعن هَجْرٍ : بعدَ الحَولِ ونحوِه . عن أبي زيد : يقال للنخلةِ الطَّويلة : ذَهَبَت الشجرةُ هَجْرَاً أي طُولاً وعِظَماً . ونَخلةٌ مُهْجِرٌ ومُهْجِرَةٌ : طويلةٌ عظيمةٌ . وقال أبو حنيفة : هي المُفرِطة الطُولِ والعِظَمِ وهذا أَهْجَرُ منه أي أَطْوَلُ منه أو أَضْخَم هكذا في النسخ وهو نَصُّ التَّكملة . وفي بعضِ الأُصول : وأَعظم . وناقةٌ مُهْجِرَةٌ : فائقةٌ في الشَّحْمِ والسَّيْرِ . وفي التهذيب : في الشَّحم والسِّمَن وقيل : ناقةٌ مُهْجِرَةٌ إذا وُصِفت بنَجابةٍ أو حُسْنٍ . والمُهْجِرُ كمُحسِن : النَّجيبُ الحَسَنُ الجميلُ يَهْجُرون بذِكره أي يَتَنَاعَتُونه يقال : بَعيرٌ مُهْجِرٌ من ذلك قال الشاعر :
عَرْكَركٌ مُهْجِرُ الضُّوبانِ أَوَّمَهُ ... رَوْضُ القِذَافِ رَبيعاً أيَّ تَأْوِيمِ المُهْجِرُ : الجَيِّدُ الجَميلُ من كلِّ شيءٍ وقيل : الفائقُ الفاضلُ على غيرِه قال :
" لمّا دَنَا من ذات حُسْنٍ مُهْجِرِ وقال أبو زيد : يقال لكلِّ شيءٍ أَفْرَطَ في طُولٍ أو تَمامٍ وحُسْنٍ : إنّه لمُهْجِرٌ . قال : وسمعتُ العربَ تقولُ في نَعْتِ كلِّ شيءٍ جاوزَ حَدَّه في التَّمام : مُهْجِرٌ . قلتُ : وإنّما قيل ذلك في كلّ ممّا ذُكِر لأنّ واصِفَه يَخْرُج من حَدّ المُقارِبِ الشَّكلِ للموصوفِ إلى صفة كأنّه يَهْجُرُ فيها أي يَهْذِي . كالهَجِرِ ككَتِف هكذا في سائر النسخ وهو غَلَطٌ وصوابُه : كالهَجير كأَمير ففي اللسان وغيرِه : والهَجيرُ كالمُهْجِر ومنه قَوْلُ الأعْرابِيَّةُ لمُعاويةَ حين قال لها : هل من غَداءٍ ؟ فقالت : نعم خُبزٌ خَميرٌ ولَبَنٌ هَجيرٌ وماءٌ نَميرٌ . أي فائقٌ فاضِل . والهاجِر يقال : بعير هاجِرٌ وناقةٌ هاجِرةٌ أي فائقةٌ فاضِلة والجمع الهاجِرات . قال أبو وَجْزَةَ : تَبارى بأَجْيادِ العَقيق غُدَيَّةً على هاجِراتِ حان منها نُزولُها وأَهجَرَت الناقةُ هكذا في سائر النسخ ونَصُّ ابنِ دُرَيْد على ما في التكملة واللسان : أَهْجَرَت الجاريةُ إذا شَبَّتْ شَباباً حَسَنَاً . وقال غيرُه : جاريةٌ مُهْجِرَةٌ إذا وُصِفَت بالفَراهةِ والحُسْن . والهَجْرُ بالفتح : الحَسَنُ الكريمُ الجَيِّد يقال : جَملٌ هَجْرٌ وكَبشٌ هَجْرٌ أي حَسَنٌ كريمٌ وقال الشاعر :
" وماءٍ يَمانٍ دونه طَلَقٌ هَجْرُ(1/5)
يقول : طَلَقٌ لا طَلَقَ مثله كالهاجِرِيّ وهو الجيِّدُ الحَسنُ من كلِّ شيء . الهَجْرُ أيضاً : الخِطامُ نَقَلَه الصَّاغانِيّ . الهُجْرُ بالضمّ : القبيح من الكلام والفُحشُ في المَنْطق والخَنَا نقله الكسائيّ والأصمعيّ كالهَجْراءِ ممدوداً نَقَلَه الصَّاغانِيّ . الهِجْرُ بالكسر : الفائقةُ والفائقُ في الشَّحم والسَّيْر من النُّوقِ والجِمالِ نقله الصَّاغانِيّ يقال : ناقةٌ هِجْرٌ مثل مُهْجِرَةٍ . وأَهْجَرَ في مَنْطقه إهْجاراً وهُجْراً بالضمّ عن كُراع واللِّحيانيّ والصحيح أن الهُجْر بالضمّ الاسم من الإهْجار وأنّ الإهْجار المصدر . أَهْجَرَ به إهْجاراً : اسْتَهزأَ به وقال فيه قولاً قبيحاً وقال هَجْرَاً وبَجْرَاً وهُجراً وبُجْراً إذا فَتَحَ فهو المصدر وإذا ضمَّ فهو الاسم . وَتَكَلَّم بالمَهاجِر أي الهُجْرِ من القَول ورَماهُ بهاجِراتٍ ومُهْجِرات أي بفَضائح كذا في التهذيب وفي الأساس : أي بفَواحِش قال : والهاجِرات : هي الكلماتُ التي فيها فُحْشٌ فهي من بابِ لابِن وتامِرٍ . الهُجْرُ أيضاً : الهَذَيانُ وإكثارُ الكلام فيما لا ينبغي . يقال : هَجَرَ في نَوْمِه ومَرضِه يَهْجُرُ هُجْراً بالضمّ وهِجِّيرَى وإهْجيرَى كِلاهما بالكسر : هَذَى . قال سيبويه : الهِجِّيرَى : كَثْرَةُ الكلام والقول السيِّئ وقال الليث : الهِجِّيرى : اسمٌ من هَجَرَ إذا هَذى وَهَجَرَ المريضُ هَجْرَاً فهو هاجِرٌ وَهَجَرَ به في النَّوم هَجْرَاً : حَلَمَ وهَذى وفي التنزيل : " مُستَكبرينَ به سامِراً تَهْجُرون " قال الأَزْهَرِيّ : قرأ ابنُ عبّاس : تُهْجِرون من أَهْجَرْت من الهُجْر وهو الإفْحاش وقال الفَرّاء : وإن قُرئَ تَهْجُرون جُعلَ من قولك : هَجَرَ الرجلُ في مَنامِه إذا هَذى وقال أبو عُبَيْد : هو مِثلُ كلامِ المَحْموم والمُبَرْسَم ؛ والكلامُ مَهْجُورٌ وقد هَجَرَ المريضُ ورُوي عن إبراهيمَ في قوله عزَّ وجلَّ : " إنّ قومي اتَّخذوا هذا القُرآنَ مَهْجُوراً " قال : قالوا فيه غَيْرَ الحقّ . أَلَمْ ترَ إلى المريضِ إذا هَجَرَ قال غَيْرَ الحقِّ . وعن مُجاهدٍ نَحْوُه . يقال : هذا هِجِّيراه وإهْجيراهُ وإهْجِيرَاؤُه بالمدّ والقَصْر وهِجِّيرُه كسِكِّيتٍ وأُهْجورَته بالضمّ وهِجْرِيَّاهُ وإجْرِيّاه أي دَأْبُه ودَيْدنُه وشَأْنَه وعادَتُه . وفي التهذيب : هِجِّيرى الرجلِ : كلامُه ودَأْبُه وشَأْنه . قال ذو الرُّمَّة :
رَمى فَأَخْطَأَ والأقدارُ غالِبَةٌ ... فانْصَعْنَ والوَيْلُ هِجِّيراهُ والحَرَبُ وفي الصّحاح : الهِجِّيرُ مِثالُ الفِسِّيق : الدَّأْبُ والعادة وكذلك الهِجِّيرى والإهْجيرى وفي حديث عمر رضي الله عنه : " مالَه هِجِّيرى غيرُها " هي الدَّأْبُ والعادةُ والدَّيْدَن . يقال : ما عندَه غَناءُ ذلك ولا هَجْرَاؤُه بمعنىً واحدٍ . والهَجيرُ كأَميرٍ والهَجيرَةُ بزيادةِ الهاءِ والهَجْرُ بالفتح والهاجِرَةُ : نِصفُ النَّهارِ عندَ زَوالِ الشَّمسِ مع الظُّهْرِ أو من عند زَوالِها إلى العَصْر سُمِّي بذلك لأنّ الناسَ يَسْتَكِنُّونَ في بيوتهم كأنّهم قد تَهاجَروا وحكى ابن السِّكِّيت عن النَّضْر أنّه قال : الهاجرَةُ إنّما تكون في القَيْظ وهي قَبْلَ الظُّهرِ بقليل وبَعدَه بقليل وقال أبو سعيد : الهاجرةُ من حين تزول الشمسُ والهُوَيْجِرَةُ بعدها بقليل . أو شِدَّةُ الحَرِّ في كلّ ذلك . وفي الصّحاح : هو نِصفُ النَّهارِ عندَ اشتدادِ الحَرِّ . قال ذو الرُّمَّة :
وبَيْداءَ مِقْفارٍ يكادُ ارْتكاضُها ... بآلِ الضُّحى والهَجْرُ بالطَّرْفِ يَمْصَحُ وهَجَّرْنا تَهْجِيراً وأَهْجَرْنا وتهجَّرْنا : سِرنا في الهاجرة . الأخيرةُ عن ابْن الأَعْرابِيّ وأنشد :
بأطْلاحِ مَيْسٍ قد أَضَرَّ بطِرْقِها ... تَهَجُّرُ رَكْبٍ واعْتِسافُ خُروقِ وفي حديث زَيْدِ بن عمرو : " وهل مُهَجِّرٌ كَمَنْ قال ؟ " أي هل مَن سارَ في الهاجِرَةِ كَمَنْ أقامَ في القائلة ؟ وتقول منه : هَجَّرَ النّهارُ قال امرؤُ القَيس :
فَدَعْها وسَلِّ الهَمَّ عنكَ بجَسْرَةٍ ... ذَمولٍ إذا صام النَّهارُ وهَجَّرا
---------------------
الخلاصة في تعريفها (1):
الهِجْرَة والهُجْرَة: الانتقال والخروج من أرض إلى أرض.
وشرعاً: الخروج في سبيل الله من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دارٍ شديد الفتنة إلى دارٍ أقل منه فتنة.
فالهجرة تعني:تلمس مواطن الرضى والحط عندها، وتلمس مواطن السخط والغضب والهروب إلى الله منها.
والهَجْرُ: ضد الوصل؛ وهو الترك والابتعاد عن الشيء .. فإن كان هذا الشيء مذموماً تعين هجره وحُمد، وإن كان محموداً قد أثنى الشارع عليه خيراً حرم هجره وتعين وصله.
والهجرة نوعان: هجرة مكانية مرتبطة بالخروج والانتقال من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، ومن دار تشتد فيه الفتن إلى دار تقل فيها الفتن .. طلباً للسلامة في النفس والدين.
__________
(1) - انظر كتاب الهجرة مسائل وأحكام(1/6)
وهذا النوع من الهجرة قد شرعه الله تعالى لعباده، وحضهم عليه في نصوص عدة، كما في قوله تعالى: { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } النساء:100.
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } النحل:41.
وقال تعالى: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } النحل:110.
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الأنفال:74.
وفي الحديث فقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في ديارهم "[(1)].
وقال - صلى الله عليه وسلم -:" أنا بريء من كل مسلمٍ يقيم بين أظهر المشركين " قالوا: يا رسول الله ولمَ ؟ قال:" لا تراءى نارَاهُما "[(2)].
وقال - صلى الله عليه وسلم -:" آمركم بخمس كلمات أمرني الله بهنّ: السمع والطاعة، والجماعة، والهجرة، والجهاد "[(3)].
وعن أبي فاطمة أنه قال يا رسول الله، حدثني بعمل أستقيم عليه وأعمله. قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" عليك بالهجرة، فإنه لا مِثل لها "[(4)]. أي لا مثل لها من حيث الخير والثواب الذي تدره على صحبها المهاجر .. في الدنيا والآخرة.
وعن جرير قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترط عليَّ، فأنت أعلم، قال:" أبايعك على أن تعبدَ الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتُناصح المسلمين، وتفارقَ المشركين "[(5)].
وقال - صلى الله عليه وسلم -:" إني بريء من كل مسلم مع مشرك .. ألا لا تراءى نارهما
"[(6)]. وذلك كناية على المفارقة وبعد السكن الذي يفصل المسلم عن مساكن المشركين.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:" من جامع المشرك، وسكن معه، فإنه مثله "[(7)].
وقال - صلى الله عليه وسلم -:" من خرج به خُراجٌ في سبيل الله فإن عليه طابع الشهداء "[(8)].
وقال - صلى الله عليه وسلم -:" إن الرجل إذا مات بغير مولده، قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة "[(9)]. وذلك ترغيباً بالهجرة ومفارقة الديار في سبيل الله ..!
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: مات رجل بالمدينة ممن وُلد بها، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال:" يا ليته مات بغير مولده ". قالوا: ولمَ ذاك يا رسول الله ؟ قال:" إن الرجل إذا مات بغير مولده قِيس له من مولده إلى منقطَع أثره في الجنة "[(10)].
وغيرها كثير من الأحاديث والنصوص الشرعية التي تحض على هذا النوع من الهجرة في سبيل الله وترغِّب به .. والتي ترهّب من التقاعس أو التخلف عنه.
أما النوع الثاني من الهجرة: هو هجر المعاصي والذنوب والآثام، وكل
ما نهى الله تعالى عنه، كما في الحديث الصحيح:" المسلم من سلم المسلمون
من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " البخاري.
ومما نهى الله تعالى عنه الإقامة بين أظهر المشركين .. فالحديث عام يشمل نوعي الهجرة: هجر الديار والأوطان، وهجر المعاصي والذنوب والآثام.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:" المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجرَ الخطايا والذنوب "[(11)].
وقال - صلى الله عليه وسلم -:" أفضل الهجرة أن تهجر ما كره ربك - عز وجل - "[(12)].
وفي رواية: سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الهجرة أفضل؟ قال:" من هجر ما حرم الله "[(13)].
قال ابن حجر في الفتح 1/5: وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة؛ فالباطنة ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة الفرار بالدين من الفتن ا- هـ.
بواعث وغايات الهجرة (14)
الهجرة لم تُشرع لذاتها بغض النظر عن البواعث والغايات منها .. حيث أن للهجرة بواعث وغايات حيثما توجد توجد الهجرة، وحيثما تنتفي تلك البواعث والغايات تنتفي معها الهجرة .. أهم تلك البواعث والغايات، هي:
__________
(1) أخرجه الطبراني وغيره، صحيح الجامع الصغير: 2818.
(2) صحيح سنن الترمذي: 1307.
(3) الترمذي وغيره، صحيح سنن الترمذي: 2298.
(4) صحيح سنن النسائي: 3885.
(5) صحيح سنن النسائي: 3893.
(6) صحيح سنن أبي داود: 2420.
(7) السلسلة الصحيحة: 2330.
(8) صحيح سنن أبي داود: 2216.
(9) صحيح سنن النسائي: 1728.
(10) أخرجه النسائي وغيره، صحيح الترغيب والترهيب: 3134.
(11) صحيح سنن ابن ماجة: 3178.
(12) أخرجه أحمد، السلسلة الصحيحة: 553.
(13) أخرجه أبو داود والنسائي، صحيح الترغيب: 1318.
(14) - انظر كتاب الهجرة مسائل وأحكام(1/7)
1- سلامة العبادة والدين: من أعظم بواعث وغايات الهجرة الحفاظ على سلامة العبادة والدين، وإخلاص العبادة لله - عز وجل - .. فحيثما يُضيَّق على المرء في دينه وعبادته .. ويُمنع من إظهار دينه، والقيام بالواجبات الدينية المفروضة عليه .. يتعين عليه الهجرة إلى حيث يجد المكان الأمثل للمحافظة على دينه وعبادته لربه - عز وجل -.
وذلك أن المرء خُلق لله - عز وجل - ولعبادته - سبحانه وتعالى - .. فعبادته لله تعالى هي الغاية العظمى من وجوده وخلقه، ترخص في سبيلها جميع الغايات والمقاصد، كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذريات:56.
نفي جاء بعده استثناء يفيد الحصر والقصر؛ أي أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس لشيءٍ أبداً إلا لعبادته وحده - سبحانه وتعالى -.
وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } التوبة:31.
وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } البينة:5.
أي وما أمروا بشيء أبداً إلا بشيءٍ واحد وهو أن يعبدوا الله تعالى وحده مخلصين له الدين حنفاء غير مشركين به شيئاً.
والعبادة هنا يُراد منها معناها العام، وهي العبادة الشاملة لجميع ما يحبه الله تعالى من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، والتي تتسع لجميع مساحة حياة الإنسان، ونشاطاته.
هذه هي الغاية من وجود الإنسان التي يجب أن يتحرك معها وعلى ضوئها سلماً وحرباً، حلاًّ وترحالاً .. فيقيم حيث تتحقق له سلامة العبادة والدين، ويرحل حيث تنتفي عنه سلامة العبادة والدين.
قال تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }
العنكبوت:56.
أي أن الله تعالى وسّع الأرض ليتمكن الإنسان من عبادة الله تعالى على الوجه الأكمل .. فإن ضُيق عليه في أرضٍ وجد أرضاً أخرى يعبده فيها - سبحانه وتعالى - .. ولا ينبغي له أن يتعذر بضيق الأرض.
قال مجاهد: إنّ أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها.
وقال سعيد بن جبير: إذا عُمل في الأرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة.
وقال عطاء: إذا أُمرتم بالمعاصي فاهربوا، فإن أرضي واسعة، وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يُهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة.
وقال مطرف بن عبد الله: أرضي واسعة أي رزقي لكم واسع فاخرجوا [(1)].
قال ابن كثير في التفسير 3/430: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيراً فأقم ". ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى فآواهم وأيدهم بنصره، وجعلهم سيوماً ببلاده ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر:10.
فتأمل الربط والعلاقة بين الأمر بتقوى الله تعالى وبين كون أرض الله واسعة؛ أي لا يحملنك ـ يا عبد الله ـ شيء على عدم التقوى فإن تعرضت لشيء يحول بينك وبين التقوى فعليك أن تهاجر في أرض الله الواسعة حيث تجد الأرض التي يتحقق لك فيها التقوى على الوجه الأكمل والأفضل.
قال ابن كثير في التفسير 4/52: قوله { وأرض الله واسعة } قال مجاهد: فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان.
وقال شريك عن منصور عن عطاء: إذا دعيتم إلى معصية فاهربوا ا- هـ.
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } النساء:97.
قوله تعالى { ظالمي أنفسهم } أي ظالمي أنفسهم بشحهم بالوطن والديار وتركهم للهجرة، وتكثيرهم لسواد المشركين على المسلمين .. ولما تعللوا بقولهم { كنا مستضعفين في الأرض } لم يقبل الله تعالى منهم عذرهم لوجود الأرض التي يقدرون على الهجرة فيها .. فقالت الملائكة لهم { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } فعلام لم تهاجروا ..؟!
ومما يؤكد على هذا الباعث على الهجرة أن المكث بين أظهر الظالمين، والجلوس معهم في مجالسهم ومحافلهم ـ من غير إنكار ـ يؤثر سلباً على دين وخُلق المسلم ولا بد، لذا جاء النهي عن الجلوس مع الظالمين، كما في قوله تعالى: { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } الأنعام:68.
__________
(1) انظر تفسير البغوي: 3/472.(1/8)
وقال تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } النساء:140.
فجعل - سبحانه وتعالى - حكم الجالس معهم ـ من غير إنكار ولا قيام ولا إكراه ـ حكمهم { فإنهم مثلهم } من حيث الكفر أو الظلم أو الفسق، بحسب ما يدور في المجلس؛ فإن كان كفراً فهو كافر مثلهم وإن كان فسقاً أو ظلماً دون الكفر فهو فاسق وظالم، كما في الأثر عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أنه أخذ قوماً على شرابٍ، فضربهم وفيهم صائم! فقالوا: إن هذا صائم .. فتلا عليهم قوله تعالى: { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره إنكم إذاً مثلهم } .
وقال تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } المائدة:78-79.
جاء في تفسير هذه الآية: أن بني إسرائيل لما وقعت في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى ابن مريم.
قلت: هذا فيمن يجالسهم بعد أن ينهاهم فلا ينتهوا .. فكيف بمن يجالسهم من غير نهي ولا إنكار .. لا شك أنه أولى باللعن والطرد من رحمة الله تعالى. وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" مثل جليسِ الصالح والسوء كمثل حامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبةً. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثةً " متفق عليه. فهجر الظالمين .. وهجر مجالسهم مطلب شرعي قد
حضت عليه الشريعة، لا بد من مراعاته والعمل به، وفق ضوابط الشرع.
2- سلامة النفس: فحيثما يجد المرء نفسه مهددة بالقتل أو الهلاك المحقق من قبل الظالمين .. وليس له القدرة على دفع الظلم عن نفسه فله أن يُهاجر طلباً للسلامة إلى حيث يجد الأمن والأمان لنفسه وأهله.
فمن مقاصد الشريعة التي جاء الإسلام للحفاظ عليها وصونها من أي خطر يتهددها " النفس " .. فرخص للمسلم أموراً عدة من أجل أن يُحافظ على نفسه من الهلاك أو الموت.
منها: فعل بعض المحظورات بقدر دفعاً لهلاك النفس؛ كالذي يكون في صحراء وتنقطع عنه جميع الطرق التي توصله إلى الماء .. ولم يجد إلا خمراً .. فله أن يشرب من الخمر القدر الذي يمكنه من الوصول إلى أماكن توفر الماء.
وكذلك لو كاد أن يموت من الجوع ولم يجد إلا ميتة أو لحم خنزير فله أن يأكل القدر الذي يقيم صلبه إلى حين يصل إلى المكان الذي يتوفر فيه الطعام الحلال، كما قال تعالى: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } الأنعام:119. فاستثنى الله تعالى من الوقوع في الإثم أهل الاضطرار.
وقال تعالى: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } البقرة:173.
من هذه النصوص وغيرها استنبط أهل العلم القاعدة الفقهية المعروفة التي تقول بأن:" الضرورات تبيح المحظورات ".
ومنها: أن يُظهر كلمة الكفر ـ وقلبه مطمئن بالإيمان ـ لو كان القتل
ونحوه لا يندفع عنه إلا بذلك، لقوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } النحل:106.
ولحديث عمار وفيه أن المشركين أخذوه، فلم يتركوه حتى سبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر آلهتهم بخير! فلما أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" ما وراءك؟" قال: شرٌّ يا رسول الله، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" فكيف تجد قلبك؟" قال: أجد قلبي مطمئناً بالإيمان. قال:" فإن عادوا فعُد ".
ومنها: الهجرة ـ ولو إلى بلاد الكفر ـ إن لم يجد سبيلاً لدفع الهلاك عن نفسه وأهله إلا بالهجرة والاغتراب، كما حصل لبعض الصحابة رضي الله عنهم لما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى الحبشة لكونها بلدة يوجد فيها ملكاً عُرف بالعدل لا يُظلم عنده أحد .. ولما في الحبشة ـ رغم كونها دار كفر ـ من الأمن والسلام مالا يجده المسلمون ـ وبخاصة منهم المستضعفين ـ في مكة يومئذٍ.
فإن قيل الحبشة كانت دار كفر .. ومكة كانت دار كفر فما الفرق بينهما ؟(1/9)
أقول: الفرق بينهما كالفرق بين الكفر المجرد والكفر المغلظ المركب الذي يعلو بعضه بعضاً ويركب بعضه بعضاً، فمكة كانت يومئذٍ بالنسبة للحبشة كالكفر المركب المغلّظ قياساً إلى الكفر المجرد .. والله تعالى أعلم.
قال ابن حزم في المحلى 12/125: وأما من فرَّ إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يُحارب المسلمين، ولا أعانهم عليهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه لأنه مضطر مكره.
وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب، كان عازماً على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم؛ لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه، وهو كان الوالي بعد هشام، فمن كان هكذا فهو معذور ا- هـ.
3- تقوية المسلمين وإضعاف المشركين: من بواعث وغايات الهجرة كذلك إحياء فريضة الجهاد، وتقوية المسلمين وتكثير سوادهم على المشركين .. فالهجرة والجهاد شيئان متلازمان، وأحدهما سبب للآخر ولازم له، وبقاء أحدهما لازم لبقاء الآخر.
هذا الترابط والتلازم والعلاقة دلت عليها نصوص عدة، كما في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } الأنفال:72.
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } البقرة:218.
وقال تعالى: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } النحل:110.
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } الأنفال:74.
وقال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } التوبة:20.فتأمل كيف تُذكر الهجرة مع الجهاد، وكمقدمة ضرورية للجهاد.
وفي الحديث فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" إن الهجرة لا تنقطع ما
دام الجهاد "[(1)]. أي ما دام الجهاد ماضٍ وقائماً فإن الهجرة ماضية وقائمة معه لتلازم الجهاد في سبيل الله للهجرة وانحياز المسلمين إلى دار الجهاد وصفوف المجاهدين.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:" لا تنقطع الهجرة ما جوهد العدو "[(2)].
وقال - صلى الله عليه وسلم -:" لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها "[(3)].
قلت: وسبب عدم انقطاع الهجرة حتى تنقطع التوبة .. وحتى تطلع الشمس من مغربها أن الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة، كما في الحديث:" الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة؛ الأجر والغنيمة "مسلم. فبقاء الجهاد إلى يوم القيامة دل على بقاء لازمه " الهجرة " إلى قيام الساعة كما أفاد بذلك منطوق الأحاديث الصحيحة.
ومما يؤكد على هذا التلازم بين الهجرة والجهاد .. أن عدم الهجرة من دار الحرب يؤدي في الغالب إلى أن يكون المسلمون المقيمون في دار الكفر ترساً يتترس به أهل الكفر والشرك عند نشوب أي حرب بينهم وبين المسلمين .. هذا إذا ما أرغموا على الخروج للقتال في صفوفهم وتكثير سوادهم على المسلمين[(4)].
هذا المزلق المحتمل قد أشارت إليه النصوص الشرعية في مواضع عدة، كما في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } النساء:97.
{ ظالمي أنفسهم } بتركهم للهجرة، وإقامتهم بين أظهر المشركين، وتكثير سوادهم على المسلمين مع قدرتهم على الهجرة والتحول إلى دار الإسلام .. قبل أن يُكرهوا أو يُضطروا على الخروج مع المشركين لقتال المسلمين!
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع: 1991.
(2) السلسلة الصحيحة: 1674.
(3) أخرجه أحمد، وأبو داود، صحيح الجامع: 7469.
(4) كما حصل ذلك مؤخراً للمسلمين المقيمين في أمريكا والمتجنسين بجنسيتها .. الذين اضطروا للمشاركة مع الجيش الأمريكي الكافر المعتدي في قتاله ضد المسلمين في أفغانستان
والغريب في الأمر أنه وجد من علماء السوء المعاصرين من برر وجوز لهم المشاركة في هذه الحرب الآثمة التي تقودها أمريكا ـ راعية الكفر والظلم والإرهاب العالمي ـ ضد المسلمين .. وضد المستضعفين من أبناء المسلمين .. على اعتبار ضرورة تقديم الولاء الوطني .. وللجنسية .. على الولاء العقدي الديني ..!!(1/10)
لذلك لما قُتلوا في المعركة بسهام المسلمين .. واعتذروا إلى الله بالاستضعاف والإكراه لم يقبل الله تعالى عذرهم لأنهم كانوا قادرين على الهجرة والتحول إلى دار الإسلام قبل أن يتعرضوا لهذا النوع من الإكراه .. لكنهم أبوا أن يفعلوا شيئاً من ذلك!
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس: أن أناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب عنقه فيقتله، فأنزل الله { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } .
قال ابن كثير في التفسير: قال الضحاك: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } أي بترك الهجرة، { قالوا فيم كنتم } أي لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة ا- هـ.
فتأمل كيف أن تخلفهم عن الهجرة كان سبباً في خروجهم مع المشركين وتكثير سوادهم وتقويتهم على المسلمين .. وهذا مزلق لا بد من اعتباره ومراعاته عند الحديث عن الهجرة وبواعثها.
وكان ممن اضطروا ـ غير معذورين ـ على الخروج مع المشركين لقتال المسلمين يوم وقعة بدر العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقيل، ونوفل .. ولما أُسروا قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - للعباس:" افد نفسك وابن أخيك " قال يا رسول الله: ألم نصلِّ قبلتك، ونشهد شهادتك ؟! قال:" يا عباس إنكم خاصمتم فخُصمتم ثم تلا عليه هذه الآية: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } .
وفي الأثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: من كثر سواد قومٍ فهو منهم، ومن رضي عمل قومٍ كان شريك من عمل به ".
قال ابن حجر في الفتح 13/38: فيه تخطئة من يقيم بين أهل المعاصي باختياره لا لقصد صحيح من إنكار عليهم مثلاً أو رجاء إنقاذ مسلم من هلكة، وأن القادر على التحول عنهم لا يُعذر كما وقع للذين كانوا أسلموا ومنعهم المشركون من أهلهم من الهجرة ثم كانوا يخرجون مع المشركين لا لقصد قتال المسلمين بل لإيهام كثرتهم في عيون المسلمين فحصلت لهم المؤاخذة بذلك ا- هـ.
وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله: من مقاصد الهجرة الانحياز إلى الله بعبادته والإنابة إليه، والجهاد في سبيله، ومراغمة أعدائه، وإلى رسوله بطاعته وتعزيره ونصره ولزوم جماعة المسلمين، ولذلك يقرن الهجرة بالإيمان في غير موضع من كتاب الله [(1)].
4- الدعوة إلى الله تعالى: ومن بواعث الهجرة كذلك والانتقال من بلد إلى بلد، ومن أرض إلى أرض .. الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ رسالة التوحيد إلى العالمين .. وتثبيت الناس على دينهم وعبادتهم لله - عز وجل -، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فصلت:33.
فرسالة الإسلام أرسلت للعالمين .. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بعث للعالمين .. وهو خاتم الأنبياء والمرسلين .. وبالتالي فإن دعوته لا بد من أن تُحمل إلى العالمين.
لكن يُشترط فيمن ينهض لهذه المهمة العظيمة أن يكون من ذوي العلم الذين يملكون من المعرفة والعلم ما يحتاجه الناس وما يمكن أن يُعطيه للآخرين .. وإلا فإن جاهل الشيء كفاقده لا يمكن أن يُعطي شيئاً أو ينتفع منه أحد!
ـ تنبيه: قبل الخوض في الحديث عن حكم الهجرة ـ كما سنبينه ـ لا بد من التنبيه إلى ضرورة مراعاة النظر إلى مجموع بواعث الهجرة الآنفة الذكر وإعمالها جميعاً بعضها مع بعض .. حيث قد يضعف باعث ويقوى مقابله باعث آخر .. وقد ينتفي باعث أو بواعث وتتواجد مقابلها بواعث أخرى .. فحينئذٍ لا بد من عملية الترجيح والنظر إلى مجموع المصالح والمفاسد المترتبة عن الهجرة أو عدمها .. والنظر إلى الراجح شرعاً من البواعث الآنفة الذكر والقول به .. فالقضية من هذا الوجه لا تخضع إلى باعثٍ واحد فقط تتواجد الهجرة بوجوده،
وتنتفي بانتفائه من دون النظر إلى بقية البواعث الأخرى.
=====================
تاريخها :
الهجرة موجودة في كل عصور التاريخ ولا سيما هجرة الأنبياء والمرسلين ومقصودنا هنا الهجرة في الإسلام
الهجرة إلى الحبشة (2)
أسباب الهجرة إلى الحبشة(3):
__________
(1) الرسائل المفيدة: ص181.
(2) - زاد المعاد - (ج 1 / ص 94) والروض الأنف - (ج 2 / ص 104)
السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 282)فما بعدها
(3) - السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 282)(1/11)
اشتد البلاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الكفار يحبسونهم ويعذبونهم, بالضرب والجوع والعطش, ورمضاء مكة والنار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من تصلب في دينه وعصمه الله منهم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجا مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.(1)
وقد ذكر الباحثون أسبابا عديدة في سبب هجرة المسلمين إلى الحبشة منها ما
ذكرت، ومنها:
* ظهور الإيمان:
حيث كثر الداخلون في الإسلام، وظهر الإيمان, وتحدث الناس به، قال الزهري في حديثه عن عروة في هجرة الحبشة: فلما كثر المسلمون، وظهر الإيمان فُتحدث به, ثار المشركون من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم يعذبونهم ويسجنونهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذين آمنوا به: «تفرقوا في الأرض» قالوا: فأين نذهب يا رسول الله، قال: «هاهنا» وأشار إلى أرض الحبشة(2).
* ومنها الفرار بالدين:
كان الفرار بالدين خشية الافتتان فيه سببًا مهمًّا من أسباب هجرتهم للحبشة قال ابن إسحاق: «فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم» (3).
* ومنها: نشر الدعوة خارج مكة:
قال الأستاذ سيد قطب: «ومن ثم كان يبحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة، وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة، ولقد سبق الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، القول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس وجاهة وقوة ومنعة من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم في بيئة قبلية ما يعصمهم من الأذى, ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين...»(4).
ووافق الأستاذ الغضبان الأستاذ سيد في ما ذهب إليه: «وهذه اللفتة العظيمة من (سيد) رحمه الله لها في السيرة ما يعضدها ويساندها، وأهم ما يؤكدها في رأيي هو الوضع العام الذي انتهى إليه أمر مهاجرة الحبشة، فلم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث في طلب مهاجرة الحبشة حتى مضت هجرة يثرب, وبدر وأحد والخندق والحديبية، لقد بقيت يثرب معرضة لاجتياح كاسح من قريش خمس سنوات، وكان آخرها هذا الهجوم والاجتياح في الخندق، وحين اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن المدينة قد أصبحت قاعدة أمينة للمسلمين, وانتهى خطر اجتياحها من المشركين, عندئذ بعث في طلب المهاجرين من الحبشة، ولم يعد ثمة ضرورة لهذه القاعدة الاحتياطية, التي كان من الممكن أن يلجأ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سقطت يثرب في يد العدو(5).
ويميل الأستاذ دروزة إلى أن فتح مجال للدعوة في الحبشة كان سببًا من أسباب هجرة الحبشة حيث يقول: «بل إنه ليخطر بالبال أن يكون من أسباب اختيار الحبشة النصرانية أمل وجود مجال للدعوة فيها، وأن يكون هدف انتداب جعفر متصلاً بهذا الأمل»(6) وذهب إلى هذا القول الدكتور سليمان بن حمد العودة: ومما يدعم الرأي القائل بكون الدعوة للدين الجديد في أرض الحبشة سببًا وهدفًا من أسباب الهجرة, إسلام النجاشي، وإسلامُ آخرين من أهل الحبشة، وأمر آخر، فإذا كان ذهاب المهاجرين للحبشة بمشورة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه فبقاؤهم في الحبشة إلى فتح خيبر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه، وفي صحيح البخاري: فقال جعفر: للأشعريين - حين وافقوه بالحبشة: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا، وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا»(7).
وهذا يعني أنهم ذهبوا لمهمة معينة -ولا أشرف من مهمة الدعوة لدين الله- وأن هذه المهمة قد انتهت حين طلب المهاجرون(8).
* ومنها البحث عن مكان آمن للمسلمين:
__________
(1) الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290.
(2) المغازي النبوية، للزهري، تحقيق: سهيل زكار، ص96.
(3) السيرة النبوية لابن هشام، (1/398).
(4) في ظلال القرآن (1/29). …(2) المنهاج الحركي للسيرة (1/67، 68).
(6) سيرة الرسول (1/265) عن الشامي، ص111.
(7) الصحيح مع الفتح (6/237).
(8) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، د. سليمان العودة، ص34.(1/12)
كانت الخطة الأمنية للرسول صلى الله عليه وسلم تستهدف الحفاظ على الصفوة المؤمنة؛ ولذلك رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحبشة تعتبر مكانًا آمنًا للمسلمين ريثما يشتد عود الإسلام وتهدأ العاصفة، وقد وجد المهاجرون في أرض الحبشة ما أمنهم وطمأنهم، وفي ذلك تقول أم سلمة رضي الله عنها: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أَمِنَّا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى...)(1).
2- لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة؟
هناك عدة أسباب تساعد الباحث للإجابة عن لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة؟ منها:
أ- النجاشي العادل:
أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد»(2).
ب- النجاشي الصالح:
فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ثناؤه على ملك الحبشة بقوله: «وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه»، وكان يُنْثَي (يشاع) عليه مع ذلك صلاحه(3) ويظهر هذا الصلاح في حمايته للمسلمين، وتأثره بالقرآن الكريم عندما سمعه من جعفر - رضي الله عنه -، وكان معتقده في عيسى عليه السلام صحيحًا.
ج- الحبشة متجر قريش:
إن التجارة كانت عماد الاقتصاد القرشي، والحبشة تعتبر من مراكز التجارة في
الجزيرة، فربما عرفها بعض المسلمين عندما ذهبوا إليها في التجارة، أو ذكرها لهم من
ذهب إليهم قبلهم, وقد ذكر الطبري في معرض ذكره لأسباب الهجرة للحبشة: «وكانت
أرض الحبشة متجرًا لقريش، يتجرون فيها، يجدون فيها رفاها من الرزق وأمنًا،
ومتجرًا حسنًا»(4).
د- الحبشة البلد الآمن:
فلم يكن في حينها في خارج الجزيرة بلد أكثر أمنًا من بلاد الحبشة، ومن المعلوم بُعد الحبشة عن سطوة قريش من جانب وهي لا تدين لقريش بالاتباع كغيرها من القبائل(5)، وفي حديث ابن إسحاق عن أسباب اتخاذ الحبشة مكانًا للهجرة أنها: أرض صدق، وأن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد(6) فهي أرض صدق، وملكها عادل، وتلك من أهم سمات البلد الآمن(7).
هـ- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للحبشة ومعرفته بها:
ففي حديث الزهري أن الحبشة كانت أحب الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إليها(8) ولعل تلك المحبة لها أسباب منها:
* حكم النجاشي العاجل.
* التزام الأحباش بالنصرانية، وهي أقرب إلى الإسلام من الوثنية.
* معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأخبار الحبشة من خلال حاضنته أم أيمن رضي الله عنها، وأم أيمن هذه ثبت في صحيح مسلم وغيره أنها كانت حبشية(9)، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خبيرًا بطبائع وأحوال الدول التي في زمانه.
================
وقت خروج المهاجرين، وسرية الخروج والوصول إلى الحبشة(10):
غادر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في رجب من السنة الخامسة للبعثة، وكانوا عشرة رجال، وأربع نسوة، وقيل: خمس نسوة، وحاولت قريش أن تدركهم لتردهم إلى مكة, وخرجوا في أثرهم حتى وصلوا البحر، ولكن المسلمين كانوا قد أبحروا متوجهين إلى الحبشة(11).
وعند التأمل في فقه المرويات يتبين لنا سرية المهاجرين, ففي رواية الواقدي: «فخرجوا متسللين سرًا» (12) وعنه الطبري(13) وممن ذكر السرية في الهجرة، ابن سيد الناس(14)، وابن القيم(15) والزرقاني(16)، ولما وصل المسلمون إلى أرض الحبشة أكرم النجاشي مثواهم، وأحسن لقاءهم ووجدوا عنده من الطمأنينة بالأمن ما لم يجدوه في وطنهم وأهليهم.
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام تحقيق همام أبو صعيليك (1/413).
(2) نفس المصدر (1/397). …(5) انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري (2/328).
(4) مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن الزبير، ص104.
(5) انظر: هجرة الرسول وأصحابه في القرآن والسنة، أحمد الجمل، ص97.
(6) السيرة النبوية لابن هشام، (1/397).
(7) الهجرة الأولى في الإسلام، ص46.
(8) مغازي الزهري، ص96.
(9) صحيح مسلم (3/1392)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (3/357).
(10) - انظر السيرة النبوية للصلابي
(11) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290، 291.
(12) الطبقات (1/204). …(2) تاريخ الطبري (2/329).
(14) عيون الأثر(1/116). …(4) زاد المعاد (3/23).
(16) شرح المواهب (1/271)(1/13)
إن المتأمل في أسماء الصحابة الذين هاجروا (1)لا يجد فيهم أحدًا من الموالي الذين نالهم من أذى قريش وتعذيبها أشد من غيرهم، كبلال، وخباب، وعمار رضي الله عنهم، بل نجد غالبيتهم من ذوي النسب والمكانة في قريش، ويمثلون عددًا من القبائل، صحيح أن الأذى شمل ذوي النسب والمكانة كما طال غيرهم، ولكنه كان على الموالي أشد في بيئة تقيم وزنًا للقبيلة وترعى النسب، وبالتالي فلو كان الفرار من الأذى وحده, هو السبب في الهجرة، لكان هؤلاء الموالي المعذبون أحق بالهجرة من غيرهم، ويؤيد هذا أن ابن إسحاق وغيره ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ولم يذكر هجرتهم للحبشة(2).
ويصل الباحث إلى حقيقة مهمة ألا وهي أن ثمة أسبابًا أخرى, تدفع للهجرة غير الأذى اختار لها النبي صلى الله عليه وسلم نوعية من أصحابه، تمثل عددًا من القبائل، وقد يكون لذلك أثر في حمايتهم, لو وصلت قريش إلى إقناع أهل الحبشة بإرجاعهم من جانب، وتهز هجرتهم قبائل قريش كلها أو معظمهم من جانب آخر، فمكة ضاقت بأبنائها، ولم يجدوا بدًّا من الخروج عنها بحثًا عن الأمن في بلد آخر، ومن جانب ثالث, يرحل هؤلاء المهاجرون بدين الله لينشروه إلى الآفاق، وقد تكون محلاً أصوب وأبرك للدعوة إلى الله فتتفتح عقول وقلوب حين يستغلق سواها(3).
عاش المسلمون ثلاثة أشهر من بدء الهجرة، وحدث تغير كبير على حياة المسلمين في مكة، وهناك ظروف نشأت لم تكن موجودة من قبل، بعثت في المسلمين الأمل في إمكان نشر الدعوة في مكة، حيث أسلم في تلك الفترة حمزة بن عبد المطلب, عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عصبية لابن أخيه, ثم شرح الله صدره للإسلام، فثبت عليه, وكان حمزة أعز فتيان قريش وأشدهم شكيمة، فلما دخل في الإسلام عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع وأن عمه سيمنعه ويحميه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه(4).
وبعد إسلام حمزة - رضي الله عنه - أسلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكان عمر ذا شكيمة لا يرام، فلما أسلم امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازَّوا قريشًا(5).
كان إسلام الرجلين العظيمين بعد خروج المسلمين إلى الحبشة، فكان إسلامُهما عزةً للمسلمين وقهرًا للمشركين وتشجيعًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجاهرة بعقيدتهم.
قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه(6).
وعن ابن عمر قال: «لما أسلم عمر قال: أيُّ قريش أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجُمحي، قال: فغدا عليه، قال عبد الله: وغدوت معه أتبع أثره, وأنظر ماذا يفعل حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه وتبعه عمر، واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن ابن الخطاب قد صبأ(7) قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت, وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وَطَلِح فقعد, وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها أو تركتموها لنا(8) «لقد أصبح المسلمون إذًا في وضع غير الذي كانوا فيه قبل الهجرة إلى الحبشة، فقد امتنعوا بحمزة وعمر رضي الله عنهما، واستطاعوا أن يصلوا عند الكعبة بعد أن كانوا لا يقدرون على ذلك، وخرجوا من بيت الأرقم بن أبي الأرقم مجاهرين حتى دخلوا المسجد، وكفت قريش عن إيذائهم بالصورة الوحشية التي كانت تعذبهم بها قبل ذلك، فالوضع قد تغير بالنسبة للمسلمين، والظروف التي كانوا يعيشون فيها قبل الهجرة قد تحولت إلى أحسن، فهل ترى هذا يخفى على أحد؟ وهل تظن أن هذه التغييرات التي جرت على حياة المسلمين في مكة لم تصل إلى أرض الحبشة، ولو عن طريق البحارة الذين كانوا يمرون بجدة؟
__________
(1) ارجع إليهم في: البداية والنهاية (3/96، 97)، سيرة ابن هشام، (1/344: 352).
(2) الأنساب, البلاذري (1/156: 198) ابن هشام (1/392: 396).
(3) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص37.
(4) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الوهاب، ص90.
(5) السيرة النبوية (1/294)، وعازوا قريشا: أي غلبوهم.
(6) السيرة النبوية لابن هشام (1/365)
(7) صبأ: خرج من دين إلى دين آخر: القاموس المحيط، باب الهمزة (1/20).
(8) سبل الهدى والرشاد للصالحي (2/498، 499).(1/14)
لا بد أن كل ذلك قد وصلهم، ولا شك أن هؤلاء الغرباء قد فرحوا بذلك كثيرًا، ولا يستغرب أحد بعد ذلك أن يكون الحنين إلى الوطن، وهو فطرة فطر الله عليها جميع المخلوقات، قد عاودهم ورغبت نفوسهم في العودة إلى حيث الوطن العزيز مكة أم القرى، وإلى حيث يوجد الأهل والعشيرة فعادوا إلى مكة في ظل الظروف الجديدة والمشجعة، وتحت إلحاح النفس وحنينها إلى حرم الله وبيته العتيق»(1).
لقد رجع المهاجرون إلى مكة بسبب ما علموا من إسلام حمزة وعمر, واعتقادهم أن إسلام هذين الصحابيين الجليلين سيعتز به المسلمون وتقوى شوكتهم.
ولكن قريشًا واجهت إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما بتدبيرات جديدة يتجلى فيها المكر والدهاء من ناحية، والقسوة والعنف من ناحية أخرى، فزادت في أسلحة الإرهاب التي تستعملها ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم سلاحًا قاطعًا وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية، وقد تحدثت عنه, وكان من جراء ذلك الموقف العنيف أن رجع المسلمون إلى الحبشة مرة ثانية، وانضم إليهم عدد كبير ممن لم يهاجروا قبل ذلك(2).
ثانيًا: هجرة المسلمين الثانية إلى الحبشة:
قال ابن سعد: قالوا: لما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكة من الهجرة الأولى, اشتد عليهم قومهم، وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدًا، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الثانية أعظمها مشقة، ولقوا من قريش تعنيفًا شديدًا ونالوهم بالأذى، واشتد عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة ولست معنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم مهاجرون إلى الله تعالى وإليَّ، لكم هاتان الهجرتان جميعًا» قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله(3).
وهاجر معهم كثيرون غيرهم أكثر منهم وعدتهم -كما قال ابن إسحاق وغيره ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان عمار بن ياسر فيهم واثنان وثمانون رجلاً إن لم يكن فيهم، قال السهيلي وهو الأصح عند أهل السير كالواقدي، وابن عقبة وغيرهما(4) وثماني عشرة امرأة: إحدى عشرة قرشيات، وسبع غير قرشيات، وذلك عدا أبنائهم الذين خرجوا معهم صغارًا، ثم الذين ولدوا لهم فيها(5).
1- سعي قريش لدى النجاشي في رد المهاجرين:
فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا، واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارًا واستقرارًا، وحسن جوار من النجاشي، وعبدوا الله لا يؤذيهم أحد، ائتمروا فيما بينهم أن يبعثوا وفدا للنجاشي لإحضار من عنده من المسلمين إلى مكة بعد أن يوقعوا بينهم وبين ملك الحبشة, إلا أن هذا الوفد خدم الإسلام والمسلمين من حيث لا يدري، فقد أسفرت مكيدته عند النجاشي عن حوار هادف دار بين أحد المهاجرين وهو جعفر بن أبي طالب، وبين ملك الحبشة, أسفر هذا الحوار عن إسلام النجاشي، وتأمين المهاجرين المسلمين عنده(6).
__________
(1) تأملات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، لمحمد سيد الوكيل، ص59، الهجرة في القرآن الكريم، ص302.
(2) انظر: القول المبين في سيرة سيد المرسلين، د. محمد النجار، ص111، الهجرة في القرآن الكريم، ص302.
(3) طبقات ابن سعد (1/207) (ط. بيروت) الهجرة في القرآن الكريم، ص303.
(4) انظر: الروض الأنف للسهيلي (3/228). …(5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص303.
(6) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص304. …(2) الجلد، القوة، الشدة.(1/15)
فعن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خيرَ جار (النجاشي) أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى, لا نؤذى, ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين(1) وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم(2) فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته(3) بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يُسلِمَهم إليكم قبل أن يكلمهم قالت: فخرجا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار وخير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشرف قومهم، لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى(4) بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم ثم إنهما قرَّبا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا: أيها الملك، إنه صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم, ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت, وقد بَعَثَنَا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم, لتردهم إليهم, فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: ولم يكن شيء أبغضَ إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومَهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لا هَيْمُ(5) الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا أُكادُ(6) قومًا جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما, ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم، ما جاوروني(7).
2- حوار بين جعفر والنجاشي:
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبيّنا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاءه وقد دعا النجاشي أساقفته(8) فنشروا مصاحفهم(9) حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟
قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال له: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده, لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت: فعدد عليه أمور الإسلام.. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به. فعبدنا الله وحده, فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقَّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا, خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك(10).
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي، فاقرأه عليَّ؟
__________
(2) الأدم: جمع أديم وهو الجلد المدبوغ. (4) جمع بطريق: وهو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم.
(4) أعلى بهم عينا: قال السهيلي: أي أبصر بهم، أي عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم في أمرهم، الروض الأنف (1/92).
(5) والمعنى: لا والله.
(6) لا أكاد: قال في اللسان: يقولون إذا حمل أحدهم ما يكره، لا والله ولا كيد.
(7) أخرجه أحمد (5/290) إسناده صحيح.
(8) أساقفته: جمع الأسقف، وهو العالم والرئيس من علماء النصارى.
(9) أي أناجيلهم وكانوا يسمونها مصاحف. …
(10) مسند الإمام أحمد (1/202، 203).(1/16)
فقرأ عليه صدرًا من ( كهيعص ) قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أخضل(1) لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أُسلِمُهم إليكم أبدًا ولا أكاد(2).
3- محاولة أخرى للدس بين المهاجرين والنجاشي:
قالت أم سلمة: فلما خرجا (عمرو بن العاص, وعبد الله بن أبي ربيعة) من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنه غدًا عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم(3) قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا، لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا.
قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيمًا فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه، ما قال الله، وما جاء به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه, وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء، البتول(4).
قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت(5) بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي (والسيوم الآمنون) من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دَبرًا ذهبًا، وإني آذيت رجلا منكم، والدبر بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناسَ في فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما، ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار(6).
4- إسلام النجاشي:
وقد أسلم النجاشي وصدق بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد أخفى إيمانه عن قومه، لما علمه فيهم من الثبات على الباطل, وحرصهم على الضلال، وجمودهم على العقائد المنحرفة وإن صادمت العقل والنقل(7)، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم, وكبر عليه أربع تكبيرات» (8) وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: «مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة» (9).
رضي الله عنه وأرضاه، وكانت وفاته رحمه الله, سنة تسع عند الأكثر وقبل سنة ثمان قبل فتح مكة(10).
===================
دروس وعبر وفوائد من هجرة الحبشة:
1- إن ثبات المؤمنين على عقيدتهم, بعد أن يُنْزِل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب والاضطهاد، دليل على صدق إيمانهم, وإخلاصهم في معتقداتهم، وسمو نفوسهم وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضمير, واطمئنان النفس والعقل، وما يأملونه من رضا الله جل شأنه, أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من تعذيب وحرمان واضطهاد؛ لأن السيطرة في المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين، تكون دائمًا وأبدًا لأرواحهم لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطالب أرواحهم من حيث لا يبالون بما تتطلبه أجسامهم من راحة وشبع ولذة؛ وبهذا تنتصر الدعوات وبهذا تتحرر الجماهير من الظلمات والجهالات(11).
__________
(1) ابتلت بالدموع: يقال خضل وأخضل إذا ندي، النهاية (3/43).
(2) مسند الإمام أحمد (1/202، 203).
(3) استأصل به خضراءهم: أي أقضي به على دهمائهم وسوادهم، الهجرة في القرآن الكريم، ص307.
(4) العذراء: الجارية التي لم يمسها رجل وهي البكر. يقال امرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم.
(5) فتناخرت: أي تكلمت وكأنه كلام مع غضب ونفور.
(6) مسند الإمام أحمد (1/203) ورجاله رجال الصحيح.
(7) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص309.
(8) البخاري، كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة (5/64) رقم 1333.
(9) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب موت النجاشي، حديث رقم 3877.
(10) أسد الغابة (1/99) الإصابة (1/109).
(11) السيرة النبوية للدكتور مصطفى السباعي، ص57.(1/17)
2- مما يتبادر إلى الذهن من هذه الهجرة العظيمة, هو شفقة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على أصحابه ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عما فيه أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى الملك العادل الذي لا يُظلم أحد عنده، فكان الأمر كما قال صلوات الله وسلامه عليه، فأمنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل(1) فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وجَّه الأنظار إلى الحبشة وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ودعوته، كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر, أن تخطط بحكمة وبعد نظر لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزًا من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه فجنود الدعوة
هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايتهم، دون أن يتم
أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ما على الأرض من بشر خارجين عن دين الله وتوحيده(2).
3- كانت الأهداف من هجرة الحبشة متعددة، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار نوعيات معينة لتحقيق هذه الأهداف، كشرح قضية الإسلام وموقف قريش منه، وإقناع الرأي العام بعدالة قضية المسلمين، على نحو ما تفعله الدول الحديثة من تحرك سياسي يشرح قضاياها وكسب الرأي العام إلى جوارها(3) وفتح أرض جديدة للدعوة، فلذلك هاجر سادات الصحابة في بداية الأمر ثم لحق بهم أكثر الصحب وأوكل الأمر إلى جعفر - رضي الله عنه -(4).
4- إن وجود ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر، وصهره عثمان، وابنته رقية رضي الله عنهم جميعًا, في مقدمة المهاجرين له دلالة عميقة تشير إلى أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد, وأهله ورحمه، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة فهو منهج بعيد عن نهج النبي صلى الله عليه وسلم(5).
5- مشروعية الخروج عن الوطن -وإن كان الوطن مكة على فضلها- إذا كان الخروج فرارًا بالدين وإن لم يكن إلى إسلام، فإن أهل الحبشة كانوا نصارى يعبدون المسيح ولا يقولون: هو عبد الله، وقد تبين ذلك في هذا الحديث -يعني حديث أم سلمة- المتقدم، وسموا بهذه مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين الذين أثنى عليهم بالسبق فقال: ( وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ ) وجاء في التفسير: إنهم هم الذين شهدوا بيعة الرضوان(6) فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة، وهم قد خرجوا من بيت الله الحرام إلى دار الكفر، لما كان فعلهم ذلك احتياطًا على دينهم, ورجاء أن يُخلى بينهم وبين عبادة ربهم, يذكرونه آمنين مطمئنين، وهذا حكم مستمر متى غلب المنكر في بلد, وأوذي على الحق مؤمن ورأى الباطل قاهرًا للحق ورجا أن يكون في بلد آخر، أي بلد كان، خلى بينه وبين دينه ويظهر فيه عبادة ربه فإن الخروج على هذا الوجه حق على المؤمن، هذه الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة ( وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [البقر: 115] (7).
6- يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي، إذ كان نصرانيًّا عندئذ، ولكنه أسلم بعد ذلك، أو كان مشركًا كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة، وكأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمطعم بن عدي الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من الطائف(8).
وهذا مشروط -بحكم البداهة- بألا تستلزم مثل هذه الحماية إضرارًا بالدعوة الإسلامية، أو تغييرًا لبعض أحكام الدين، أو سكوتًا على اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز على المسلم الدخول فيها، ودليل ذلك ما كان من فقهه صلى الله عليه وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقي على نفسه ولا يحمله ما لا يطيق فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه إذ ذاك على الخروج من حماية عمه وأَبَى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه(9).
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص312.
(2) انظر: التربية القيادية للغضبان (1/333). …(3) أضواء على الهجرة، توفيق محمد سبع، ص427.
(4) انظر: التربية القيادية، (1/333). …(5) نفس المصدر (1/333).
(6) تفسير الطبري (11/6) تفسير ابن كثير (2/331).
(7) الروض الأنف للسهيلي (2/92) الهجرة في القرآن الكريم، ص312.
(8) الهجرة في القرآن الكريم، ص316.
(9) فقه السيرة للبوطي ص 126، الهجرة في القرآن الكريم، ص317.(1/18)
7- إن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الحبشة يشير إلى نقطة إستراتيجية هامة، تمثلت في معرفة الرسول بما حوله من الدول والممالك، فكان يعلم طيبها من خبيثها، وعادلها من ظالمها، الأمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة لهجرة أصحابه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال قائد الدعوة الذي لا بد أن يكون ملمًّا بما يجري حوله، مطلعًا على أحوال وأوضاع الأمم والحكومات(1).
8- يظهر الحس الأمني عند الرعيل الأول, في هجرتهم الأولى, وكيفية الخروج, فيتمثل في كونه تم تسللاً وخفية حتى لا تفطن له قريش فتحبطه كما أنه تم على نطاق ضيق لم يزد على ستة عشر فردًا، فهذا العدد لا يلفت النظر في حالة تسللهم فردًا أو فردين، وفي ذات الوقت يساعد على السير بسرعة، وهذا ما يتطلبه الموقف فالركب يتوقع المطاردة والملاحقة في أي لحظة، ولعل السرية المضروبة على هذه الهجرة، فوتت على قريش العلم بها في حينها، فلم تعلم بها إلا مؤخرًا، فقامت في إثرهم لتلحق بهم، لكنها أخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحدًا، وهذا مما يؤكد على أن الحذر هو مما يجب أن يلتزمه المؤمن في تحركاته الدعوية، فلا تكون التحركات كلها مكشوفة ومعلومة للعدو بحيث يترتب عليها الإضرار به وبالدعوة(2).
9- لم ترض قريش بخروج المسلمين إلى الحبشة وشعرت بالخطر الذي يهدد مصالحها في المستقبل، فربما تكبر الجالية هناك وتصبح قوة خطرة، ولذلك جد المشركون وشرعوا في الأخذ بالأسباب لإعادة المهاجرين، وبدأت قريش تلاحق المهاجرين؛ لكي تنزع هذا الموقع الجديد منهم في تخطيط محكم ذكي، فالهدايا إلى النجاشي والهدايا إلى بطارقته ووضعت الخطة داخل مكة، وكيف توزع الهدايا، وما نوعية الكلام الذي يرافق الهدايا، وصفات السفراء، فعمرو من أصدقاء النجاشي ومعروف بالدهاء! وما أحوجنا إلى ألا نستصغر عدونا، وألا ننام عن مخططاته، وأن نعطيه حجمه الحقيقي، وندرس تحركاته، لنستعد لمواجهة
مخططاته الماكرة(3).
10- نفذت خطة قريش بحذافيرها كاملة، ولكنها فشلت؛ لأن شخصية النجاشي, التي تم جوارها, رفضت أن تسلم المسلمين قبل السماع منهم، وبذلك أتاحت الفرصة للمسلمين إلى أن يعرضوا قضيتهم العادلة ودينهم القويم.
11- اجتمع الصحابة حين جاءهم رسول النجاشي وطلب منهم الحضور، وتدارسوا الموقف، وهكذا كان أمر المسلمين شورى بينهم، وكل أمر يتم عن طريق الشورى هو أدعى إلى نجاحه؛ لأنه يضم خلاصة عقول كثيرة، وتبدو مظاهر السمو التربوي في كون الصحابة لم يختلفوا بل أجمعوا على رأي واحد، ألا وهو أن يعرض الإسلام كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، وعزموا على عرض الإسلام بعزة، وإن كان في ذلك هلاكهم(4).
12- كان وعي القيادة النبوية على مستوى الأحداث؛ ولذلك وضع جعفر بن أبي طالب على إمارة المسلمين في الهجرة، وتم اختياره من قبل المسلمين المهاجرين ليتحدث باسمهم بين يدي الملك، وليتمكن من مواجهة داهية العرب عمرو بن العاص، وقد امتازت شخصية جعفر بعدة أمور جعلتها تتقدم لسد هذه الثغرة العظيمة منها:
* جعفر بن أبي طالب من ألصق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عاش معه في بيت واحد، فهو أخبر الناس بقائد الدعوة, وسيد الأمة من بين كل المهاجرين إلى الحبشة.
* وهذا الموقف بين يدي النجاشي يحتاج إلى بلاغة وفصاحة، وبنو هاشم قمة قريش نسبًا وفضلاً، وجعفر في الذؤابة من بني هاشم، والله تعالى قد اختار هاشمًا من كنانة، واختار نبيه من بني هاشم، فهم أفصح الناس لسانًا وأوسطهم نسبًا.
* وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يجعل النجاشي أكثر اطمئنانًا وثقة بما يعرض عن ابن عمه(5).
* خلق جعفر المقتبس من مشكاة النبوة، وجمال خلقه المنحدر من أصلاب بني هاشم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر: «أشبهت خَلْقي وخُلُقي» (6) فالسفير بين يدي النجاشي كان قدوة لسفراء المسلمين على مر الزمان, وكر العصور، فقد اتصف بسمات السفراء المسلمين، كالإسلام والانتماء إليه، والفصاحة، العلم، حسن الخلق، الصبر، الشجاعة، الحكمة، سعة الحيلة، المظهر الجذاب(7).
13- كان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - وهو يمثل في تلك المرحلة عداوة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على مستوى كبير من الذكاء والدهاء والمكر، وكان قبل دخول جعفر وحديثه قد شحن كل ما لديه من حجة، وألقى بها بين يدي النجاشي من خلال النقاط الآتية:
* تحدث عن بلبلة جو مكة وفساد ذات بينها من خلال دعوة محمد صلى الله عليه وسلم, وهو سفير مكة وممثلها بين يدي النجاشي، فكلامه مصدق لا يعتريه الشك، وهو عند النجاشي موضع ثقة.
__________
(1) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص101.
(2) نفس المصدر، ص101.
(3) انظر: التربية القيادية (1/317).
(4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (2/92).
(5) انظر: التربية القيادية، (1/335). …(2) نفس المصدر (1/336).
(7) انظر: سفراء النبي صلى الله عليه وسلم, لمحمود شيت خطاب (2/252: 317).(1/19)
* تحدث عن خطورة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وربما سيزلزلون الأرض تحت قدمي النجاشي، كما أفسدوا جوّ مكة، ولولا حب قريش للنجاشي وصداقتها معه, ما تعنوا هذا العناء لنصحه «وأنت لنا عيبة صدق، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف، ويأمن تاجرنا عندك» فلا أقل من رد المعروف بمثله، ولا أقل من وفاء حسن الجوار والعلاقة بين مكة والحبشة من تحذيره من هذه الفتنة المخيفة.
* وأخطر ما في أمرهم, هو خروجهم على عقيدة النجاشي وكفرهم بها «فهم لا يشهدون أن عيسى ابن مريم إله، فليسوا على دين قومهم وليسوا على دينك» فهم مبتدعة دعاة فتنة.
* ودليل استصغارهم لشأن الملك، واستخفافهم به أن كل الناس يسجدون للملك لكنهم لا يفعلون ذلك، فكيف يتم إيواؤهم عندك وهو عودة إلى إثارة الرعب في نفسه, من عدم احترام الدعاة له حين يستخفون بملكه، ولا يسجدون له، فكان على جعفر أن يفند كل الاتهامات الباطلة التي ألصقها سفير قريش بالمهاجرين(1).
14- كان رد جعفر على أسئلة النجاشي في غاية الذكاء, وقمة المهارة السياسية، والإعلامية والدعوية، والعقدية، فقام بالتالي:
* عدَّد عيوب الجاهلية، وعرضها بصورة تنفر السامع، وقصَدَ بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك، وركز على الصفات الذميمة التي لا تنتزع إلا بنبوة.
* عرض شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجتمع الآسن المليء بالرذائل، وكيف كان بعيدًا عن النقائص كلها، ومعروفًا بنسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فهو المؤهل للرسالة.
* أبرز جعفر محاسن الإسلام وأخلاقه التي تتفق مع أخلاقيات دعوات الأنبياء، كنبذ عبادة الأوثان، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، وكون النجاشي وبطارقته موغلين في النصرانية فهم يدركون أن هذه رسالات الأنبياء, التي بعثوا بها من لدن موسى, وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
* فضح ما فعلته قريش بهم؛ لأنهم رفضوا عبادة الأوثان، وآمنوا بما نزل على
محمد صلى الله عليه وسلم وتخلقوا بخلقه.
* أحسن الثناء على النجاشي بما هو أهله، بأنه لا يُظلم عنده أحد، وأنه يقيم العدل في قومه.
* وأوضح أنهم اختاروه كهفًا من دون الناس، فرارًا من ظلم هؤلاء الذين يريدون تعذيبهم؛ وبهذه الخطوات البينة الواضحة دحر بها بلاغة عمرو وفصاحته، واستأثر بلب النجاشي وعقله، وكذلك استأثر بلب وعقل البطارقة, والقسيسين الحاضرين.
* وعندما طلب الملك النجاشي شيئًا مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم جاء صدر سورة مريم في غاية الإحكام والروعة والتأثير، حتى بكى النجاشي، وأساقفته، وبللوا لحاهم ومصاحفهم من الدموع، واختيار جعفر لسورة مريم، يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب المهاجرين، فسورة مريم تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السلام(2).
* إن عبقرية جعفر - رضي الله عنه - في حسن اختيار الموضوع، والزمن المناسب، والقلب المتفتح، والشحنة العاطفية، أدت إلى أن يربح الملك إلى جانبه(3).
* كان رده في قضية عيسى عليه السلام دليلاً على الحكمة والذكاء النادر، فرد بأنهم لا يألهون عيسى ابن مريم، ولكنهم كذلك لا يخوضون في عرض مريم عليها السلام، كما يخوض الكاذبون, بل عيسى ابن مريم كلمته وروحه ألقاها إلى مريم البتول العذراء الطاهرة، وليس عند النجاشي زيادة عما قال جعفر، ولا مقدار هذا العود(4).
* هم لا يسجدون للنجاشي، فهم معاذ الله أن يعدلوه بالله، ولا ينبغي السجود إلا لله، لكنهم لا يستخفون بالملك، بل يوقرونه ويسلمون عليه كما يسلمون على نبيهم، ويحيونه بما يحيي أهل الجنة أنفسهم به في الجنة(5).
* انتهى الأمر بأن أعلن النجاشي صدق القوم، وأيقن بأن هؤلاء صديقون, وعزم على أن يكون في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الناموس كناموس موسى، وأن يتقرب إلى الله بحماية أصحابه، وأكد لعمرو أنه لا يضيره تجارة قريش، ولا مال قريش، ولا جاهها، ولو قطعت علاقتها معه(6).
15- وبذلك انهزمت قريش في هذه الجبهة سياسيًّا ومعنويًّا، وإعلاميًّا أمام مقاومة المسلمين الموفقة وخطواتهم، وأساليبهم الرصينة.
__________
(1) انظر: التربية القيادية (1/319، 340).
(2) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص106.
(3) انظر: التربية القيادية، (1/337).
(4) نفس المصدر (1/342). …
(5) المصدر السابق، (1/342).…(4) المصدر السابق (1/342).(1/20)
16- كان موقف جعفر وإخوانه مثالاً تطبيقيًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضا الله بسخط الناس, كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» (1) فهؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- قد التمسوا رضا الله عز وجل، مع أن الظاهر في الأمر أنه يترتب عليه في هذه القضية سخط أولئك النصارى وهم الذين لهم الهيمنة عليهم، فكانت النتيجة أن الله عز وجل سخر لهم ملك الحبشة حتى نطق بالحق الموافق لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم, مع مخالفته الصريحة لمعتقدهم المنحرف, الذي قام عليه ملكهم وما يغلب على الظن من ثورة النصارى المتعصبين عليه(2).
17- كان عند بعض النصارى إيمان صحيح بدينهم، ولكنهم يكتمون ذلك, لكون الغلبة والسيادة في الأرض لأصحاب الدين المحرف، ومن الذين كانوا على الاعتقاد الصحيح ملك الحبشة، وكان يخفي إيمانه هذا مداراة لقومه إبقاء على نفسه وملكه، فلما وقع في هذا الابتلاء أظهر إيمانه، إرضاءً لربه وإراحة لضميره وانتصارًا لحزب الله المؤمنين مهما ترتب على ذلك من نتائج, فكان بهذا الموقف من عظماء التاريخ(3).
18- ومن دروس هجرة الحبشة أن الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحة لا يضر، قال ابن تيمية -رحمه الله- وهو يقرر العذر بالجهل: «ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان مَنْ بعيدًا عنه مثل من كان بمكة، وبأرض الحبشة يصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة»(4).
وقال الذهبي: «فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة، وقد كان سادة الصحابة بالحبشة ينزل الواجب والتحريم على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يبلغهم إلا بعد أشهر فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص...»(5).
19- ومن دروس هجرة الحبشة، تفاضل الجهاد حسب الحاجة، فإذا كانت الهجرة للمدينة جهادًا ميز الله أصحابها وخصهم بالذكر والفضيلة، فقد نال هذا الفضل أصحاب هجرة الحبشة وإن تأخر لحوقهم بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى فتح خيبر، وذلك للحاجة لبقائهم في الحبشة، وهذا ما أكده النبي لأصحاب السفينتين(6) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: ودخلت أسماء بنت عميس, وهي ممن قدم معنا, على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر, فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم, ويعظ جاهلكم, وكنا في دار -أو في أرض- البُعداء البُغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعامًأ ولا أشرب شرابًا, حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نُؤذى ونُخاف وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا، قال: «فما قلتِ له؟» قالت: قلت له كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتون أرسالا يسألوني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرحُ ولا أعظمُ في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم(7).
20- كانت بداية إسلام عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بأرض الحبشة، وهذا بلا شك أثر من آثار الهجرة للحبشة، وبرهان على ما حققه المهاجرون من مكاسب للدعوة من خلال مكوثهم بأرض الحبشة، وإن كانت كثير من المرويات تتجه إلى أن بداية إسلام عمرو بن العاص كانت على يد النجاشي وهو المشهور كما يقول ابن حجر(8) وهي لطيفة لا مثل لها, إذ أسلم صحابي على يد تابعي، كما يقول الزرقاني(9) وهناك ما يفيد إسلام عمرو على يد جعفر رضي الله عنهم.
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب الزهد تحفة الأحوذي (7/97) صحيح الجامع الصغير، رقم 5973.
(2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (2/105).
(3) التاريخ الإسلامي للحميدي (2/106). …(2) الفتاوى (22/43).
(5) الكبائر، ص12. …(4) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص205.
(7) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، (5/8).
(8) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص167. …
(2) انظر: شرح المواهب (1/271).(1/21)
21- يرتبط زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بهجرة الحبشة ارتباطًا وثيقًا، ويحمل هذا الزواج منه صلى الله عليه وسلم, لأحد المهاجرات الثابتات, معنى كبيرًا، وكان عقد الزواج على أم حبيبة -رضي الله عنها- وهي في أرض الحبشة، وجاء تأكيده في كتب السنة، فقد روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن أم حبيبة -رضي الله عنها- أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشيُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة(1).
ويستنتج الباحث من دلالات هذا الحديث المهم متابعةَ الرسول صلى الله عليه وسلم لأحوال المهاجرين، ومشاركتهم في مصابهم، وتطييب أنفس الصابرين، وتقديرَ ثبات الثابتين وبالتتبع لأحوال المهاجرات لا نجد (أم حبيبة) رضي الله عنها هي الوحيدة التي يعني الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأمرها، ويواسيها في مصابها، بل سبق ذلك صنيعه مع (سودة) رضي الله عنها(2) فلما رجعت مع زوجها إلى مكة من الحبشة توفي زوجها السكران بن عمرو، فلما حلت أرسل إليها صلى الله عليه وسلم وخطبها، فقالت: أمري إليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مري رجلاً من قومك يزوجك» فأمرت حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود فزوجها، فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة(3).
وهذان الحدثان مؤشران, من مؤشرات حكمة تعدده صلى الله عليه وسلم في الزواج بشكل عام ولهما دلالتهما وحكمتهما بالاهتمام بالنساء المجاهدات بشكل خاص, هذا فضلاً عن ما يمكن أن يقال, إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهدف أيضا من وراء الزواج بأم حبيبة تخفيف عداوة (بني أمية) بشكل عام، وتخفيف عداوة زعيمهم أبي سفيان (والدها) بشكل أخص للإسلام ونبيه والمسلمين(4).
فالتأليف للإسلام وارد في السيرة والرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على قومه بكل وسيلة لا تتنافى مع قيم الإسلام(5).
22- يرى بعض الباحثين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحب أن يهاجر إلى الحبشة لأسباب كثيرة:
* منها أنه ثبت -كما سيجيء- رؤية النبي صلى الله عليه وسلم دار الهجرة أرضًا ذات نخل بين حرتين، وأنه ظنها هجر(6).
* ومنها طبيعة الوضع الجغرافي للحبشة الذي يعوق انتشار الدعوة وبسط سلطانها على العالم.
* ومنها أن اختيار الجزيرة العربية، ومكة بالذات ثم المدينة لنزول الوحي وانطلاق الدين لم يكن اتفاقيًّا بل كان لمميزات كثيرة(7).
* ومنها أن هذه البيئة الحبشية لم تكن لتسمح لهذا الدين اللاجئ أن ينمو إلى جوار المسيحية، ولم تكن الرومان -وهي المهيمنة على المسيحية في العالم- لتسمح للحبشة بذلك(8).
23- كان للهجرة إلى الحبشة أثر في الحط من مكانة القرشيين عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدعوة وحملتها، إذ كانت البيئة العربية تفتخر بإيواء الغريب وإكرام الجار وتتنافس في ذلك، وتحاذر السبة والعار في خلافه، فهاهم الأحباش يسبقون قريشًا ويؤوون مَنْ طردتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس، ومن ضعفائهم، ومن غربائهم(9)
وقال العلامة السباعي رحمه الله(10):
إن على الداعية إذا وجد جماعته في خطر على حياتهم أو معتقداتهم من الفتنة، أن يهيئ لهم مكانا يأمنون فيه من عدوان المبطلين، ولا ينافي ذلك ما يجب على دعاة الحق من تضحية، فإنهم إذا كانوا قلة استطاع المبطلون أن يقضوا عليهم قضاء مبرما، فيتخلصوا من دعوتهم، وفي وجودهم في مكان آمن ضمان لاستمرار الدعوة وانتشارها.
إن في أمر الرسول أصحابه أولا وثانيا بالهجرة إلى الحبشة، ما يدل على أن رابطة الدين بين المتدينين ولو اختلفت دياناتهم هي أقوى وأوثق من رابطتهم مع الوثنيين والملحدين، فالديانات السماوية في مصدرها وأصولها الصحيحة متفقة في الأهداف الاجتماعية الكبرى، كما هي متفقة في الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وهذا ما يجعل وشائج [روابط] القربى بينها أوثق من أية وشيجة من قرابة أو دم أو موطن مع الإلحاد والوثنية والكفر بشرائع الله.
إن المبطلين لا يستسلمون أمام أهل الحق بسهولة ويسر، فهم كلما أخفقت لهم وسيلة من وسائل المقاومة والقضاء على دعوة الحق، ابتكروا وسائل أخرى وهكذا حتى ينتصر الحق انتصاره النهائي ويلفظ الباطل أنفاسه الأخيرة.
الهجرة إلى الحبشة.. محاولة للخروج من الأزمة
__________
(1) صحيح سنن أبي داود للألباني (2/396) …
(2) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص188.
(3) الطبقات (8/3).
(4) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله، ص706، 707.
(5) انظر: الهجرة الأولى، ص188.
(6) هجر: هي الاحساء.
(7) انظر: الغرباء الأولون، ص169، 170.
(8) انظر: أضواء على الهجرة ص 156: 161، الهجرة في القرآن الكريم، ص320.
(9) انظر: الغرباء الأولون، ص170، 171.
(10) - السيرة النبوية السباعي - (ج 1 / ص 31)(1/22)
حين اشتد العذاب بأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وضاقت بهم السبل، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة "فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه"، فخرج فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة؛ مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.
وتفكير النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحبشة ينطوي على معرفة واسعة للنبي الكريم بأحوال شبه الجزيرة العربية، واتجاهاتها السياسية، فلم يكن هناك مكان أصلح للحماية والإيواء من الحبشة، فالقبائل العربية تربطها بقريش علاقات وثيقة، وروابط متينة تمنعها من استقبال هؤلاء المسلمين إذا ما فكروا في الهجرة إليها، وبلاد اليمن غير مستقرة يتنازعها التنافس بين الفرس والروم، والصراع بين اليهودية والنصرانية، ولم تكن أي مدينة من مدن الجزيرة العربية تصلح أن تكون مكانًا مناسبًا لإيوائهم، حتى يثرب نفسها التي استقبلت النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك، وأقام بها دولته -لم تكن تصلح هي الأخرى في هذا الوقت لاستقبال المهاجرين، حيث كانت تمزقها الخلافات الداخلية، والصراعات بين قبائلها. وكان جملة من هاجر إلى الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً.
=================
الهجرة إلى المدينة(1)
أولاً: التمهيد والإعداد لها:
إن الهجرة إلى المدينة سبقها تمهيد وإعداد وتخطيط من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بتقدير الله تعالى وتدبيره، وكان هذا الإعداد في اتجاهين، إعداد في شخصية المهاجرين، وإعداد في المكان المهاجر إليه.
1- إعداد المهاجرين:
لم تكن الهجرة نزهة أو رحلة يروح فيها الإنسان عن نفسه، ولكنها مغادرة الأرض والأهل، ووشائج القربى، وصلات الصداقة والمودة، وأسباب الرزق، والتخلي عن كل ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهد كبير حتى وصل المهاجرون إلى قناعة كاملة بهذه الهجرة ومن تلك الوسائل:
- التربية الإيمانية العميقة التي تحدثنا عنها في الصفحات الماضية.
- الاضطهاد الذي أصاب المؤمنين حتى وصلوا إلى قناعة كاملة بعدم إمكانية المعايشة مع الكفر.
- تناول القرآن المكي التنويه بالهجرة، ولفت النظر إلى أن أرض الله واسعة، قال تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [الزمر: 10].
ثم تلا ذلك نزول سورة الكهف، وتحدثت عن الفتية الذين آمنوا بربهم وعن هجرتهم من بلدهم إلى الكهف، وهكذا استقرت صورة من صور الإيمان في نفوس الصحابة وهي ترك أهلها ووطنها من أجل عقيدتها.
ثم تلا ذلك آيات صريحة تتحدث عن الهجرة في سورة النحل، قال تعالى: ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) [النحل: 41،42].
وفي أواخر السورة يؤكد المعنى مرة أخرى بقوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [النحل: 110].
وكانت الهجرة إلى الحبشة تدريباً عملياًّ على ترك الأهل والوطن(2).
2- الإعداد في يثرب:
نلاحظ: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسارع بالانتقال إلى الأنصار من الأيام الأولى، وإنما أخر ذلك لأكثر من عامين، حتى تأكد من وجود القاعدة الواسعة نسبيًّا، كما كان في الوقت نفسه يتم إعدادها في أجواء القرآن الكريم، وخاصة بعد انتقال مصعب إلى المدينة.
وقد تأكد أن الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كماله، وذلك بطلبهم هجرة الرسول الكريم إليهم، كما كانت المناقشات التي جرت في بيعة العقبة الثانية، تؤكد الحرص الشديد من الأنصار على تأكيد البيعة، والاستيثاق للنبي صلى الله عليه وسلم بأقوى المواثيق على أنفسهم، وكان في رغبتهم أن يميلوا على أهل منى، ممن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسيافهم لو أذن الرسول الكريم بذلك، ولكنه قال لهم: «لم أؤمر بذلك».
وهكذا تم الإعداد لأهل يثرب ليكونوا قادرين على استقبال المهاجرين وما يترتب على ذلك من تبعات(3).
ثانياً: طلائع المهاجرين:
__________
(1) - عيون الأثر - (ج 1 / ص 227) والسيرة النبوية لابن كثير - (ج 2 / ص 220) والروض الأنف - (ج 2 / ص 298) وزاد المعاد - (ج 1 / ص 94)وزاد المعاد - (ج 3 / ص 38) وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد - (ج 3 / ص 224) ومختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم - (ج 1 / ص 181) والسيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث - (ج 1 / ص 381) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 3 / ص 479)
(2) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، صالح الشامي، ص118.
(3) نفس المصدر،ص 120، 121.(1/23)
لما بايعت طلائع الخير ومواكب النور من أهل يثرب النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، والدفاع عنه، ثارت ثائرة المشركين، فازدادوا إيذاء للمسلمين، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، وكان المقصود من الهجرة إلى المدينة إقامة الدولة الإسلامية التي تحمل الدعوة، وتجاهد في سبيلها، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله(1) وكان التوجه إلى المدينة من الله تعالى، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة، وقوماً أهل حرب وعدة، ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فيضيقوا على أصحابه وتعبثوا(2) بهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة، فقال: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين، وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي»، ثم مكث أياماً ثم خرج إلى أصحابه مسروراً فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فيخرج إليها».
فجعل القوم يتجهون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم قدم بعده عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمة، فهي أول ظعينة قدمت المدينة، ثم قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً، فنزلوا على الأنصار، في دورهم فآووهم ونصروهم وآسوهم، وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين بقباء، قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم فلما خرج المسلمون في هجرتهم إلى المدينة، كَلِبَت(3) قريش عليهم، وحربوا واغتاظوا على من خرج من فتيانهم، وكان نفر من الأنصار بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة الآخرة، ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدم أول من هاجر إلى قباء خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، حتى قدموا مع أصحابه في الهجرة، فهم مهاجرون أنصاريون، وهم ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب بن كلدة والعباس بن عبادة بن نضلة، وزياد بن لبيد، وخرج المسلمون جميعاً إلى المدينة فلم يبقَ بمكة فيهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعلي، أو مفتون أو مريض أو ضعيف عن الخروج(4).
ثالثاً: من أساليب قريش في محاربة المهاجرين ومن مشاهد العظمة في الهجرة:
عملت قيادة قريش ما في وسعها للحيلولة دون خروج من بقي من المسلمين إلى المدينة، واتبعت في ذلك عدة أساليب منها:
1- أٍسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده:
ونترك أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية تحدثنا عن روائع الإيمان وقوة اليقين في هجرتها وهجرة زوجها أبي سلمة قالت رضي الله عنها: «لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبْتَنَا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها إلى البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة. قالوا: لا، والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففرق بيني وبين زوجي، وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة، فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني. قالت: فارتحلتُ بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله. قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت، حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار. فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله إلا الله وبني هذا. قال: والله ما لك من مترك.
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص33، 34.
(2) عبث: عبثا، لعب فهو عابث لاعب لما لا يعنيه، انظر: لسان العرب (2/166)
(3) كلبت قريش عليهم: أي غضبت عليهم. …(2) انظر: طبقات ابن سعد (1/325).(1/24)
فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت عنه أستأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلاً، فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة.
قال فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة»(1).
فهذا مثل على الطرق القاسية التي سلكتها قريش لتحول بين أبي سلمة والهجرة، فرجل يفرق بينه وبين زوجه عنوة، وبينه وبين فلذة كبده، على مرأى منه، كل ذلك من أجل أن يثنوه عن الهجرة، ولكن متى ما تمكن الإيمان من القلب، استحال أن يُقدِّم صاحبه على الإسلام والإيمان شيئاً، حتى لو كان ذلك الشيء فلذة كبده، أو شريكة حياته لذا انطلق أبو سلمة - رضي الله عنه - إلى المدينة لا يلوي على أحد، وفشل معه هذا الأسلوب وللدعاة إلى الله فيه أسوة(2).
وهكذا أَثَر الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، فهذه أسرة فُرِّق شملُها، وامرأة تبكي شدة مصابها، وطفل خُلعت يده وحُرم من أبويه، وزوج وأب يسجل أروع صور التضحية والتجرد، ليكون أول مهاجر يصل أرض الهجرة، محتسبين في سبيل الله ما يلقون، مصممين على المضي في طريق الإيمان، والانحياز إلى كتيبة الهدى، فماذا عسى أن ينال الكفر وصناديده من أمثال هؤلاء؟
وأما صنيع عثمان بن طلحة - رضي الله عنه - فقد كان يومئذ كافراً (وأسلم قبل الفتح) ومع ذلك تشهد له أم سلمة رضي الله عنها بكرم الصحبة، وذلك شاهد صدق على نفاسة هذا المعدن، وكمال مروءته، وحمايته للضعيف(3)، فقد أبت عليه مروءته وخلقه العربي الأصيل أن يدع امرأة شريفة تسير وحدها في هذه الصحراء الموحشة، وإن كانت على غير دينه، وهو يعلم أنها بهجرتها تراغمه وأمثاله من كفار قريش.
فأين من هذه الأخلاق، يا قوم المسلمين، أخلاق الحضارة في القرن العشرين، من سطو على الحريات، واغتصاب للأعراض، بل وعلى قارعة الطريق، وما تطالعنا به الصحافة كل يوم من أحداث يندى لها جبين الإنسانية، ومن تفنن في وسائل الاغتصاب وانتهاك الأعراض، والسطو على الأموال.
إن هذه القصة- ولها مثل ونظائر- لتشهد أن ما كان للعرب من رصيد من الفضائل كان أكثر من مثالبهم ورذائلهم، فمن ثم اختار الله منهم خاتم أنبيائه ورسله، وكانوا أهلاً لحمل الرسالة، وتبليغها للناس كافة(4).
وتظهر عناية الله تعالى بأوليائه، وتسخيره لهم، فهو جل وعلا الذي سخر قلب عثمان ابن طلحة للعناية بأم سلمة، ولذلك بذل الجهد والوقت من أجلها(5) كما تظهر سلامة فطرة عثمان بن طلحة، التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، ولعل إضاءة قلبه بدأ منذ تلك الرحلة، في مصاحبته لأم سلمة رضي الله عنهم(6).
2- أسلوب الاختطاف:
لم تكتف قيادة قريش بالمسلمين داخل مكة، لمنعهم من الهجرة، بل تعدت ذلك إلى محاولة إرجاع من دخل المدينة مهاجراً، فقامت بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين، ولقد نجحت هذه المحاولة وتم اختطاف أحد المهاجرين من المدينة وأعيد إلى مكة(7)، وهذه الصورة التاريخية للاختطاف يحدثنا بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث قال: «اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب(8) من أضاة(9) بني غفار، فوق سرف(10)، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن(11).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/202، 203).
(2) انظر: في السيرة النبوية، د. إبراهيم علي محمد، ص130، 131، تقسيم الأساليب أخُذ من هذا الكتاب، ومشاهد العظمة من الهجرة النبوية المباركة.
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص124.
(4) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة (1/461).
(5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/128). …(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/204).
(7) انظر: في السيرة النبوية ص132. …(6) التناضب: جمع تنضيب وهو شجر.
(9) الأضاة: على عشرة أميال من مكة. …(8) سرف: واد متوسط الطول من أودية مكة
(11) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص129.…(1/25)
فلما قدمنا المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاها لأمهما، حتى قدما علينا المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فكلماه، وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها فقلت له: عياّش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
قال: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.
قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول(1) فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني(2) على ناقتك هذه؟ قال: بلى، قال: فأناخ، وأناخ، ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن(3).
قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) [الزمر: 53-55].
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى(4) أُصَعَّد بها فيه وأصَوَّبُ ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها، قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة(5).
هذه الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر - رضي الله عنه - خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيداً عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد الزمان والمكان بالضبط بحيث إنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه ولا ينتظرانه؛ لأنه قد حبس، وكما توقعوا فقد حبس هشام بن العاص - رضي الله عنه - بينما مضى عمر وعياش بهجرتهما، ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالمين(6).
إلا أن قريشاً صممت على متابعة المهاجرين؛ ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها أبو جهل، والحارث وهما أخَوا عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئن لهما، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جلياًّ عندما أظهر موافقته على العودة معهما، كما تظهر الحادثة الحس الأمني الرفيع الذي كان يتمتع به عمر - رضي الله عنه -، حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف(7).
كما يظهر المستوى العظيم من الأخوة التي بناها الإسلام في هذه النفوس، فعمر يضحي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عياشاً عاطفته نحو أمه، وبره بها؛ ولذلك قرر أن يمضي لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر - رضي الله عنه -، وماله قائم في مكة لم يمس، غير أن أفق عمر - رضي الله عنه - كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين المصير المشؤوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز عن إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين به(8).
__________
(1) الذلول: أذلها العمل، فصارت سهلة الركوب والانقياد.
(2) تعقبني: تجعلني أعقبك عليها لركوبها. …(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/205).
(4) ذو طوى، واد من أودية مكة. …(5) المجمع للهيثمي (6/61) الهجرة النبوية المباركة، ص131.
(6) انظر: التربية القيادية (2/159). …(2) انظر: في السيرة النبوية، ص134.
(7) 3، 4) انظر: التربية القيادية (2/160).(1/26)
وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفاً ولا عدلاً من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا وتعايشوا مع المجتمع الجاهلي، فنزل قول الله تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ ) وما إن نزلت هذه الآيات حتى سارع الفاروق - رضي الله عنه - فبعث بهذه الآية إلى أَخَوَيْهِ الحميمين عياش وهشام ليجددوا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر، أي سمو عظيم عند ابن الخطاب - رضي الله عنه - لقد حاول، مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله، على ألا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليها، ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم يَتَشَفَّ منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه، ولكل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر الإسلامي(1).
3- أسلوب الحبس:
لجأت قريش إلى الحبس كأسلوب لمنع الهجرة فكل من تقبض عليه وهو يحاول الهجرة، كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت، مع وضع يديه ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن من الهرب، وأحيانًا يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما، حيث كانا محبوسين في بيت لا سقف له(2)، وذلك زيادة في التعذيب، إذ يضاف إلى وحشة الحبس حرارة الشمس وسط بيئة جبلية شديدة الحرارة مثل مكة.
فقيادة قريش تريد بذلك تحقيق هدفين: أولهما منع المحبوسين من الهجرة، والآخر أن يكون هذا الحبس درساً وعظة لكل من يحاول الهجرة من أولئك الذين يفكرون فيها ممن بقي من المسلمين بمكة، ولكن لم يمنع هذا الأسلوب المسلمين من الخروج إلى المدينة المنورة، فقد كان بعض المسلمين محبوسين في مكة مثل عياش، وهشام رضي الله عنهما، ولكنهم تمكنوا من الخروج واستقروا بالمدينة(3).
كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته يقنت ويدعو للمستضعفين في مكة عامة، ولبعضهم بأسمائهم خاصة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف»(4).
ولم يترك المسلمون أمر اختطاف عياش، فقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصابه وفعلاً استعد للمهمة ورتب لها ما يحقق نجاحها، وجاء إلى مكة واستطاع بكل اقتدار وذكاء أن يصل إلى البيت الذي حُبسا فيه وأطلق سراحهما، ورجع بهما إلى المدينة المنورة(5).
4- أسلوب التجريد من المال:
كان صهيب بن سنان النَّمَري من النَّمِر بن قاسط، أغارت عليهم الروم، فسبي وهو صغير، وأخذ لسان أولئك الذي سبوه، ثم تقلب في الرق، حتى ابتاعه عبد الله بن جدعان ثم أعتقه، ودخل الإسلام هو وعمار بن ياسر رضي الله عنهما في يوم واحد(6).
وكانت هجرة صهيب - رضي الله عنه - عملاً تتجلى فيه روعة الإيمان، وعظمة التجرد لله، حيث ضحى بكل ما يملك في سبيل الله ورسوله، واللحوق بكتيبة التوحيد والإيمان(7) فعن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: «بلغني أن صهيباً حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صعلوكا(8) حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» (9) وعن عكرمة رحمه الله قال:«لما خرج صهيب مهاجراً تبعه أهل مكة، فنثل(10) كنانته، فأخرج منها أربعين سهمًا، فقال: لا تصلون إليّ حتى أضع في كل رجل منكم سهمًا، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني رجل، وقد خلَّفت بمكة فينتين فهما لكم) (11) وقال عكرمة: ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) [البقرة: 207] فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبا يحيى، ربح البيع» قال: وتلا عليه(12) الآية.
__________
(2) انظر: في السيرة النبوية، ص132. …(2) انظر: في السيرة النبوية ، ص132.
(3) البخاري، باب الاستسقاء، (2/33) رقم 1006.
(5) انظر: في السيرة النبوية، ص135. …(5) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص119.
(7) الهجرة النبوية المباركة، ص120. …(2) الصعلوك: الفقير.
(9) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، (1/477)
(10) نثل: استخرج ما فيها من النبل والسهام. …(5) مرسل أخرجه الحاكم (3/398)
(12) أخرجه الحاكم (3/398) صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عليه الذهبي.(1/27)
لكأني(1) بصهيب - رضي الله عنه - يقدم الدليل القاطع على فساد عقل أولئك الماديين الذين يَزِنُون حركات التاريخ وأحداثه كلها بميزان المادة، فأين هي المادة التي سوف يكسبها صهيب في هجرته والتي ضحى من أجلها بكل ما يملك؟
هل تراه ينتظر أن يعطيه محمد صلى الله عليه وسلم منصباً يعوضه عما فقده؟ أم هل ترى محمدا صلى الله عليه وسلم يمنيه بالعيش الفاخر في جوار أهل يثرب؟
إن صهيًبا ما فعل ذلك وما انحاز إلى الفئة المؤمنة إلا ابتغاء مرضاة الله، بالغاً ما بلغ الثمن ليضرب لشباب الإسلام مثلاً في التضحية عزيزة المنال، عساهم يسيرون على الدرب، ويقتفون الأثر(2).
إن هذه المواقف الرائعة لم تكن هي كل مواقف العظمة، والشموخ في الهجرة المباركة، بل امتلأ هذا الحدث العظيم بكثير من مشاهد العظمة، والتجرد والتضحية، التي تعطي الأمة دروساً بليغة في بناء المجد وتحصيل العزة(3).
رابعًا: البيوتات الحاضنة وأثرها في النفوس:
لقد كان من نتائج إيمان الأنصار ومبايعتهم وتعهدهم بالنصرة أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الهجرة إلى المدينة، كما كان من نتائج ذلك أن ظهرت ظاهرة عظيمة من التكافل بين المسلمين، ففتحت بيوت الانصار أبوابها وقلوب أصحابها لوفود المهاجرين، واستعدت لاحتضانهم رجالاً ونساء، إذ أصبح المسكن الواحد يضم المهاجر والأنصاري، والمهاجرة والأنصارية، يتقاسمون المال والمكان والطعام والمسئولية الإسلامية، فمن هذه البيوتات الحاضنة:
1- دار مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بقباء: ونزل بها مجموعة من المهاجرين نساء ورجالاً، وقد ضمت هذه الدور عمر بن الخطاب، ومن لحق به من أهله، وقومه وابنته حفصة وزوجها وعياش بن ربيعة.
2- دار خبيب بن إساف أخي بني الحارث بن الخزرج بالسنح(4) نزل بها طلحة بن عبيد الله بن عثمان وأمه وصهيب بن سنان.
3- دار أسعد بن زرارة من بني النجار، قيل: نزل بها حمزة بن عبد المطلب.
4- دار سعد بن خيثمة أخي بني النجار، وكان يسمّى بيت العزاب ونزل بها الأعزاب من المهاجرين.
5- دار عبد الله بن سلمة أخي بَلْعجلان بقباء: نزل بها عبيدة بن الحارث وأمه سخيلة، ومِسْطَح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب، والطفيل بن الحارث، وطُليب بن عُمير، والحصين بن الحارث نزلوا جميعاً على عبد الله بن سلمة بقباء.
6- دار بني جَحْجبتى، والمحتضن هو منذر بن محمد بن عقبة، نزل عنده الزبير بن العوام، وزوجه أسماء بنت أبي بكر، وأبو سبرة بن أبي وهب وزوجته أم كلثوم بنت سهيل(5).
7- دار بني عبد الأشهل، والمحتضن هو سعد بن معاذ بن النعمان من بني عبد الأشهل، نزل بها مصعب بن عمير، وزوجته حَمنة بنت جحش.
8- دار بني النجار، والمحتضن هو أوس بن ثابت بن المنذر، نزل بها عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم(6).
فهذه المقاسمة وهذا التكافل الاجتماعي، كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين معه، وبعده، إقامة طيبة، تنبض بالإيثار على النفس وبود الأخوة الصادقة المؤمنة(7).
بهذه الروح العالية، والإيمان الوثيق، والصدق في المعاملة، تمت المؤاخاة، وتم الوفاق بين المهاجرين والأنصار، وقد يحدث تساؤل فيقال: لماذا لم نسمع ولم تسجل المصادر ولم تكتب المراجع أن خلافات وقعت في هذه البيوت؟
وأين النساء وما اشتهرن به من مشاكسات؟ إنه الدين الحق الذي جعل تقوى الله أساساً لتصرف كل نفس، والأخلاق السامية التي فرضت الأخوة بين المسلمين، ونصرة الدعوة، وإنها المبايعة وأثرها في النفوس، إنه الصدق، والعمل من أجل المجموعة خوفاً من العقاب ورهبة من اليوم الآخر، ورغبة في الثواب وطمعاً في الجنة، إنه دفء حضانة الإيمان، واستقامة النفس والسلوك وصدق الطوية. فكل من أسلم، وكل من بايع، وكل من أسلمت وبايعت، يعملون جميعهم بما يؤمرون به ويخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السر والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت الأنصارية المهاجرة ، فالكل يعمل من أجل مصلحة الكل، فهذا هو التكافل الاجتماعي في أجلى صورة، وأقدس واقعة، رغب الكل في الثواب حتى أن الواحد منهم يخاف ذهاب الأنصاري بالأجر كله(8).
__________
(1) ،8) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص121.
(2) نفس المصدر، ص129.
(4) المرأة في العهد النبوي، ص116. …(2) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص117.
(6) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لأبي شهبة، (1/468، 469).
(7) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص118.
(8) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص132. …(2) انظر: التربية القيادية، (2/171، 172).(1/28)
إن جانب البذل والعطاء ظاهرة نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كل وقت، إننا في عالمنا المعاصر، وفي الصف الإسلامي وفي رحلة لبضعة أيام تتكشف النفوس والعيوب والحزازات والظنون، وهذا مجتمع يبني ولما يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، ومع ذلك تفتح البيوت للوافدين الجدد ليس على مستوى فرد فقط، بل على مستوى جماعي كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار أشهراً عدة، والمعايشة اليومية مستمرة، والأنصار يبذلون المال والحب والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم، نحن أمام مجتمع إسلامي بلغ الذروة في لحمته وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلاً فقراء، بل كانوا يملكون المال، ويملكون الدار، وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كله لطاعته جل وعلا، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) [الحشر:8].
كان هذا المجتمع المدني الجديد يتربى على معاني الإيمان والتقوى، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم بعد، ولكن تحت إشراف النقباء الاثني عشر الذين كانوا في كفالتهم لقومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وبإشراف قيادات المهاجرين الكبرى، التي وصلت المدينة والذين استقوا جميعاً من النبع النبوي الثر، واقتبسوا من هديه(1).
ومن معالم هذا المجتمع الجديد ذوبان العصبية، فقد كان إمام المسلمين سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنه -؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا، فهذا المجتمع الذي يوجد فيه علية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وسادة العرب من قريش والأوس والخزرج، يقوده ويؤمه حامل القرآن، فالكرامة العليا فيه لقارئ كتاب الله وحامله، وحامل القرآن في المجتمع الإسلامي هو نفسه حامل اللواء في الحرب، فليس بينهما ذلك الانفصام الذي نشهده اليوم من حملة القرآن من الحفاظ، وبين المجاهدين في سبيل الله، فقد كان حامل لواء المهاجرين في معركة اليمامة سالم مولى أبي حذيفة، فقيل له في ذلك، فكان شعاره: بئس حامل القرآن- يعني إن فررت- فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره فقطعت، فاعتنقه إلى أن صرع، واستُشهد في سبيل الله(2).
ومن معالم المجتمع الإسلامي الجديد: حرية الدعوة إلى الله علانية، فقد أصبح واضحاً عند الجميع أن معظم قيادات يثرب دخلت في هذا الدين، ونشط الشباب والنساء، والرجال في الدعوة إلى الله، والتبشير بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدم وساق.
ولابد من المقارنة بين المجتمع الذي قام بالحبشة من المسلمين وبين المجتمع الإسلامي في يثرب، لقد كانت الحبشة تحمل طابع اللجوء السياسي، والجالية الأجنبية أكثر مما كانت تحمل طابع المجتمع الإسلامي الكامل، صحيح أن المسلمين ملكوا حرية العبادة هناك، لكنهم معزولون عن المجتمع النصراني، لم يستطيعوا أن يؤثروا فيه التأثير المنشود، وإن كانت هجرة الحبشة خطوة متقدمة على جو مكة، حيث لا تتوفر حرية الدعوة وحرية العبادة، ولكنه دون المجتمع الإسلامي في المدينة بكثير؛ ولذلك شرع مهاجرو الحبشة بمجرد سماع خبر هجرة المدينة بالتوجه نحوها مباشرة، أو عن طريق مكة إلا من طلبت منه القيادة العليا البقاء هناك، لقد أصبحت المدينة مسلمة بعد أن عاشت قرونا وثنية مشركة.
لقد أصبح المجتمع المدني مسلماً وبدأ نموه وتكوينه الفعلي بعد عودة الاثني عشر صحابياً من البيعة الأولى، والتي كان على رأسها الصحابي الجليل أسعد بن زرارة، والتي حملت المسؤولية الدعوية فقط، دون الوجود السياسي، وبلغ أوج توسعه وبنائه بعد عودة السبعين الذين ملكوا الشارع السياسي والاجتماعي، وقرروا أن تكون بلدهم عاصمة المسلمين الأولى في الأرض وهم على استعداد أن يواجهوا كل عدو خارجي، يمكن أن ينال من هذه السيادة حتى قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في المدينة.
إن القاعدة الصلبة التي بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً وجهداً في تربيتها، بدأت تعطي ثمارها أكثر بعد أن التحمت بالمجتمع المدني الجديد، وانصهر كلاهما في معاني العقيدة وإخوة الدين.
لقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأفراد وصقلهم في بوتقة الجماعة، وكون بهم القاعدة الصلبة، ولم يقم المجتمع الإسلامي الذي تقوم عليه الدولة إلا بعد بيعة الحرب؛ وبذلك نقول بأن المجتمع الإسلامي قام بعد ما تهيأت القوة المناسبة لحمايته في الأرض(3).
وهكذا انتقلت الجماعة المسلمة المنظمة القوية إلى المدينة، والتحمت مع إخوانها الأنصار، وتشكل المجتمع المسلم الذي أصبح ينتظر قائده الأعلى عليه الصلاة والسلام، ليعلن ولادة دولة الإسلام، التي صنعت فيما بعد حضارة لم يعرف التاريخ مثلها حتى يومنا هذا.
================
__________
(2) انظر: التربية القيادية (1/174، 175).
(3) انظر: التربية القيادية (1/146، 147). …(2) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص157.(1/29)
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه(1)
المبحث الأول
فشل خطة المشركين والترتيب النبوي الرفيع للهجرة
أولاً: فشل خطة المشركين لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم:
بعد أن منيت قريش بالفشل في منع الصحابة -رضي الله عنهم- من الهجرة إلى المدينة، على الرغم من أساليبهم الشنيعة والقبيحة، فقد أدركت قريش خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الاجتماعي القائم بين قبائل العرب؛ لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة، وقد تحدث ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال:30] فقال: فتشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: أن أخرجوه، فاطلع الله نبيه على ذلك فبات عليٌّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة(2)، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليًّا رد الله كيدهم، فقالوا أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم الأمر، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن ينسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثاً(3).
قال سيد قطب في تفسيره للآيات التي تتحدث عن مكر المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم: «إنه التذكير بما كان في مكة، قبل تغير الحال، وتبدل الموقف، وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل، كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته، فيما يقضي به ويأمر: ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق، وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب، وما كان فيه من خوف وقلق، في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة، وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم، لا مجرد النجاة منهم.
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبسوه حتى يموت، أو ليقتلوه ويتخلصوا منه، أو ليخرجوه من مكة منفيًّا مطروداً، ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله، على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعاً، ليتفرق دمه في القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ).
إنها صورة ساخرة وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة، فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل من تلك القدرة القادرة، قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط(4).
ثانيًا: الترتيب النبوي للهجرة:
عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة(5)، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث.
قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج عني من عندك» فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك، فداك أبي وأمي! فقال: «إنه قد أذن لي في الخروج والهجرة» قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: «الصحبة» قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاها لميعادهما(6).
__________
(1) - انظر السيرة النبوية للصلابي
(2) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص 135.
(3) انظر: البداية والنهاية (3/181)، وابن حجر في الفتح وحسن إسناده، فتح الباري (7/236).
(4) انظر: في ظلال القرآن (3/1501).
(5) الهاجرة: نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو إلى العصر.
(6) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/233، 234).(1/30)
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا(1) فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام، شاب، ثقف(2) لقن(3)، فيدلج(4) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يَكتادان(5) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك، حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولي أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليها حين تذهب ساعة من العشاء فيبتان في رِسَل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما(6)- حتى ينعق(7) بها عامر بن فهيرة بغلس(8) يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا- والخريت الماهر- بالهداية قد غمس حلفاً(9) في آل العاص ابن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر به فهيرة، والدليل فأخذ بهم طريق السواحل»(10).
ثالثًا: خروج الرسول صلى الله عليه وسلم ووصوله إلى الغار:
لم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر.
أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلف، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته(11) وكان الميعاد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر - رضي الله عنه - فخرجا من خوخة(12) لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لا تتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبد الله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال(13).
رابعًا: رِقة النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة:
وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالحزورة في سوق مكة، وقال: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت»(14).
ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من بطش المشركين، وصرفهم عنهما.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس: (أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل جبل ثور اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه)(15) وهذه من جنود الله عز وجل التي يخذل بها الباطل، وينصر به الحق؛ لأنه جنود الله جلت قدرته أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتثمل في ضخامتها فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب، قال تعالى: ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) [المدثر: 31]. أي وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فجنود الله غير متناهية؛ لأن مقدوراته غير متناهية(16) كما أنه لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة(17).
خامساً: عناية الله سبحانه وتعالى ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم:
بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها(18) قال تعالى: ( وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) [الإسراء: 80].
__________
(1) كمنا فيه: أي استترا واستخفيا ومنه الكمين في الحربة، النهاية (4/201).
(2) ثَقِفْ: ذو فطنة وذكاء والمراد ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، النهاية (1/216).
(3) لقن: فهم حسن التلقي لما يسمعه، النهاية (4/266).
(4) يدلج: أدلج إذا سار أول الليل وادّلج بالتشديد إذا سار آخره.
(5) يُكتادان: أي يطلب لهما فيه المكروه وهو من الكيد.
(6) الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وَخَمُه.
(7) ينعق: نعق بغنمه، أي صاح بها وزجرها، القاموس المحيط (3/295).
(8) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح، النهاية (3/377).
(9) غمس حلفاً: أي أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم يأمن به.
(10) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي رقم 3905.
(11) السيرة النبوية لابن كثير (2/234) …(11) الهجرة في القرآن الكريم، ص334.
(13) خاتم النبيين لأبي زهرة (1/659) السيرة النبوية لابن كثير (2/234).
(14) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722).
(15) مسند الإمام أحمد (1/348). …(3) انظر: تفسير الرازي (30/208).
(16) انظر: تفسير أبي مسعود (9/60).
(18) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص72. …(1/31)
وفي هذه الآية الكريمة دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها وما بين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته، بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله غيره. وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص ( وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) قوة وهيبة أستعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة ( مِن لَّدُنْكَ ) تصور القرب والاتصال بالله، والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه.
وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يُهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه، ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله، والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان، والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه(1).
وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم الصديق بمعية الله لهما؛ فعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟(2)».
وفي رواية: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما».
وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة: 40].
سادساً: خيمة أم معبد في طريق الهجرة:
وبعد ثلاث ليالٍ من دخول النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب ويئس المشركون من الوصول إلى رسول الله، وقد قلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الديل يسمى عبد الله بن أريقط وكان مشركًا، وقد أمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، وقد جاءهما فعلا في الموعد المحدد وسلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش(3)، وفي الطريق إلى المدينة مر النبي صلى الله عليه وسلم بأم معبد(4) في قديد(5) حيث مساكن خزاعة، وهي أخت خنيس بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثير: «وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا»(6)، فعن خالد بن خنيس الخزاعي - رضي الله عنه - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، وخرج منها مهاجراً إلى المدينة، هو وأبو بكر - رضي الله عنه - ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة - رضي الله عنه - ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة(7) جلدة(8) تحتبي(9) بفناء القبة ثم تسقي وتطعم، فسألوهما لحماً وتمراً، ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مُرْمِلين(10) مسنتين(11) فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة(12) فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: «فهل بها من لبن؟» قالت: هي أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين أن أحلبها؟» قالت: بلى بأبي أنت وأمي، نعم، إن رأيت بها حلباً فاحلبها.
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن (4/2247).
(2) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين، رقم 3653.
(3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/101). …(4) هي عاتكة بنت كعب الخزاعية.
(5) وادي قديد: يبعد عن الطريق المعبدة حوالي ثمانين ميلاً.
(6) البداية والنهاية (3/188).
(7) برزة: كهلة كبيرة السن، لا تحتجب احتجاب الشواب.
(8) جلدة: قوية صلبة وقيل عاقلة.
(9) تحتبي: أي تجلس وتضم يديها إحداهما إلى الأخرى، على ركبتيها، وتلك جلسة الأعراب.
(10) مرملين: نفذ زادهم.
(11) مسنتين: أي داخلين في أسَنَة وهي الجدب والمجاعة والقحط.
(12) كسر الخيمة: بفتح الكاف وكسرها، وسكون المهملة: أي جانبها.(1/32)
فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله عز وجل، ودعا لها في شاتها، فتفاجت(1) عليه، ودرت(2) واجترت(3) ودعا بإناء يُرْبِض(4) الرهط، فحلب فيها ثجا(5) حتى علاه البهاء(6) ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم ثم أراضوا(7)، ثم حلب فيها ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.
فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافاً(8) يتساوكن هُزلا(9) ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاة عازب حيال(10) ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة(11)، أبلج الوجه(12)،
حسن الخلق، لم تعبه نحلة(13) ولا تزر به صعلة(14) وسيم(15)، في عينيه دعج(16)، وفي أشفاره وطف(17)، وفي صوته صهل(18) وفي عنقه سطع(19) وفي لحيته كثاثة، أزج(20)، أقرن(21)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما(22) وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا هذر ولا نزر(23)، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربع(24) لا يأس من طول(25) ولا تقتحمه العين من قصر(26) غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود(27)، محشود(28)، لا عابس ولا مُفنَّد(29).
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. (30)
سابعاً: سراقة بن مالك يلاحق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيًّا أو ميتًا، فله مائة ناقة، وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب الذين في ضواحي مكة، وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لا يغلبها غالب، جعله يرجع مدافعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كان جاهداً عليه.
__________
(1) تفاجت: فتحت ما بين رجليها للحلب. …(8) درت: أرسلت اللبن.
(3) واجترت: من الجرة وهي ما تخرجها البهيمة من كرشها تمضغها.
(4) يربض: يرويهم حتى يثقلوا فيربضوا، أي يقعوا على الأرض للنوم والراحة.
(5) ثجا: لبنا كثيراً سائلا. …(12) علاه البهاء: أي أعلا الإناء بهاء اللبن.
(7) أراضوا: أي رووا، فنقعوا بالري، يريد شربوا مرة بعد مرة.
(8) عجافا: ضد السمن، وهو جمع عجفاء وهي المهزولة.
(9) يتساوكن هزلا: يتمايلن من الضعف.
(10) عازب: بعيدة المرعى لا تأوي إلى البيت إلا في الليل، حيال: لا تحمل.
(11) ظاهر الوضاءة: ظاهر الجمال والحسن….
(18) أبلغ الوجه: مشرق الوجه مضيئه.
(13) نحلة: من النحول والدقة والضمور، أي أنه ليس نحيلا.
(14) صعلة: صغر الرأس وهي تعني الدقة والنحول في البدن.
(15) وسيم: الوسيم المشهور بالحسن كأنه صار الحسن له سمة.
(16) دعج: شديد سواد العين في شدة بياضها. …
(5) في أشفاره وطف: الشعر النابت على الجفن فيه طول.
(18) صهل: كالبحة وهو ألا يكون حاد الصوت. …(7) سطع: طول العنق.
(20) أزج: دقيق شعر الحاجبين مع طولهما.
(21) أقرن: متصل ما بين حاجبين من الشعر، أو مقرون الحاجبين.
(22) سما: علا برأسه، أو بيده وارتفع.
(23) لا هذر ولا نذر: الهذر من الكلام ما لا فائدة فيه والنزر: القليل.
(24) رَبْع: ليس بالقصير ولا بالطويل. …(13) لا يأس من طول: لا يجاوز الناس طولا.
(26) لا تقتحمه العين من قصر: لا تزدريه ولا تحتقره. …(15) محفود: مخدوم.
(28) محشود: يجتمع الناس حواليه.
(29) لا عابس ولا مفند: ليس عابس الوجه ولا مفند: ليس منسوباً إلى الجهل وقلة العقل.
(30) انظر: الهجرة النبوية المباركة (ص 104-106) والهوامش منه ببعض تصرف.(1/33)
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعشم، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رُسُل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، دية كل منها لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أَسْوِدة(1) بالساحل أُراها محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم: فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهى من وراء أكمة(2) فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه(3) الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام(4) فاستقسمت بها، أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام؛ تُقَرّب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت(5) يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضتْ فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان(6) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني(7) ولم يسألاني، إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي في كتاب آمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم(8) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم(9).
وكان مما اشتهر عند الناس من أمر سراقة ما ذكره ابن عبد البر، وابن حجر وغيرهما، قال ابن عبد البر: روى سفيان بن عيينة عن أبي موسى عن الحسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟» قال: فلما أُتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها، وكان سراقة رجلاً أزب(10) كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقال: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابياًّ من بني مدلج، ورفع بها عمر صوته(11)، ثم أركب سراقة، وطيف به المدينة، والناس حوله، وهو يرفع عقيرته مردداً قول الفاروق: الله أكبر، الحمد الله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابياًّ من بني مدلج(12).
ثامنًا: سبحان مقلب القلوب:
كان سراقة في بداية أمره يريد القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلمه لزعماء مكة لينال مائة ناقة، وإذا بالأمور تنقلب رأساً على عقب، ويصبح يرد الطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده قائلا: كفيتم هذا الوجه، فلما اطمأن إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى المدينة المنورة، جعل سراقة يقص ما كان من قصته وقصة فرسه، واشتهر هذا عنه، وتناقلته الألسنة حتى امتلأت به نوادي مكة، فخاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سبباً لإسلام بعض أهل مكة، وكان سراقة أمير بني مدلج، ورئيسهم فكتب أبو جهل إليهم:
بني مدلج إني أخاف سفيهكم ... سراقة مستغوٍ لنصر محمد
عليكم به ألا يفرق جمعكم فيصبح شتى بعد عز وسؤدد ... فيصبح شتى بعد عز وسؤدد
فقال سراقة يرد على أبي جهل:
أبا حكم والله لو كنتَ شاهداً ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تَشْكُك بأن محمداً ... رسول وبرهان فمن ذا يقاومه
عليك فكُف القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوماً ستبدو معالمه
بأمر تود الناس فيه بأسرهم ... بأن جميع الناس طُراً مسالمه(13)
تاسعاً: استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) أسودة: جمع قلة لسواد وهو الشخص يرى من بعيد أسود، الهجرة في القرآن، ص344.
(2) الأكمة: هي الرابية. …(3) الزج: الحديدة في أسفل الرمح.
(4) الأزلام: الأقداح التي كانت في الجاهلية مكتوب عليها الأمر، والنهي: افعل ولا تفعل.
(5) ساخت يدا فرسي: أي غاصت في الأرض.
(6) عثان: أي دخان، وجمعه عواثن على غير قياس، النهاية (3/183).
(7) فلم يرزآني: أي لم يأخذا مني شيئاً. …(8) أديم: قطعة من جلد.
(9) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3906. …(10) التزبب في الإنسان: كثرة الشعر وطوله.
(11) انظر: الروض الأنف (4/218)، الهجرة في القرآن، ص346.
(12) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/495).…(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/494).
(13) أطم: كالحصن.…(5) مبيضين: عليهم ثياب بيض.(1/34)
لما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفَى رجل من يهود على أُطُم(1) من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين(2) يزول بهم السراب(3)، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم(4) الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين(5)، من شهر ربيع الأول(6) فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك «فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة(7)، وأُسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته»(8).
وبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم المدة التي مكثها بقباء، وأراد أن يدخل المدينة «بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح»(9).
وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخذ أهل المدينة يقولون: «جاء نبي الله، جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله، جاء نبي الله» (10).
فكان يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقًّا يوم عيد؛ لأنه اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها إلى سائر بقائع الأرض. لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم به أيضاً، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام كما أصبحت موطناً للنظام الإسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج، ويقولون: يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله(11).
روى الإمام مسلم بسنده قال: «عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق العلماء والخدم في الطرق ينادون: «يا محمدُ، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله»(12).
وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الإنسانية سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل في دار أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فعن أنس - رضي الله عنه - في حديث الهجرة الطويل وفيه: «فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب فإنه ليحدث أهله(13) إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف(14) لهم فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي مع فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أي بيوت أهلنا(15) أقرب» فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي، قال: «فانطلق فهيئ لنا مقيلا(16)...»(17) ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه.
__________
(3) السراب: أي يزول بهم السراب عن النظر بسبب عروضهم له.
(4) جدكم: حظكم وصاحب دولتكم، الذي تتوقعونه.
(5) قال الحافظ بن حجر: هذا هو المعتمد وشذ من قال يوم الجمعة، الفتح (7/544).
(6) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص351.…(4) نفس المصدر، ص352.
(8) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي (5/77، 78).
(9) ،7) نفس المصدر رقم 3911. …(8) الهجرة في القرآن الكريم، ص 353.
(12) مسلم، كتاب الزهد والرقائق باب حديث الهجرة، رقم 2009.
(13) الضمير هنا للنبي صلى الله عليه وسلم (فتح الباري (7/251) …(2) يخترف: أي يحتبي من ثمارها، انظر: النهاية (2/24)
(15) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص354. …(4) مقيلا: أي مكاناً تقع فيه القيلولة.
(17) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي إلى المدينة (5/79).(1/35)
وبهذا قد تمت هجرته صلى الله عليه وسلم وهجرة أصحابه رضي الله عنهم، ولم تنته الهجرة بأهدافها وغاياتها، بل بدأت بعد وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم سالماً إلى المدينة، وبدأ معها رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم للوصول للمستقبل الباهر للأمة، والدولة الإسلامية، التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة، على أسس من الإيمان والتقوى، والإحسان والعدل، بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما: دولة الفرس ودولة الروم(1).
==================
ويقول السرجاني حفظه الله :(2)
بعد أن نجحت بيعت العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًا لا بأس به في المدينة المنورة وَقبِل الأنصار أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأبناءهم وأموالهم.. بعد كل هذه الأمور العظيمة، والتي حدثت في فترة وجيزة جدًّا.. جاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنورة..
كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر.. بل يجب أن يهاجر..
يستوي في ذلك الضعفاء والأقوياء.. الفقراء والأغنياء.. الرجال والنساء.. الأحرار والعبيد..
الكل يجب أن يهاجر إلى المدينة.. فهناك مشروع ضخم سيُبنى على أرض المدينة.. وهو مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين.. هذا هو مشروع إقامة الأمة الإسلامية!..
ولن يسمح لمسلم صادق بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم..
انظروا إلى الآيات تتحدث عن الهجرة:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
الهجرة لم تكن أمراً سهلاً ميسوراً.. الهجرة لم تكن ترك بلد ما إلى بلد ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، (ليست عقد عمل بأجر أعلى).. الهجرة كانت تعني ترك الديار.. وترك الأموال.. وترك الأعمال.. وترك الذكريات.. الهجرة كانت ذهابًا للمجهول.. لحياة جديدة.. لا شك أنها ستكون شاقة.. وشاقة جدًّا.. الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة.. حرب شاملة.. ضد كل المشركين في جزيرة العرب.. بل ضد كل العالمين.. الحرب التي صوّرها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه على أنها الاستعداد لحرب الأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة.. ليست هروباً ولا فراراً، بل كانت استعداداً ليوم عظيم.. أو لأيام عظيمة..
لذلك عظّم الله جدًّا من أجر المهاجرين.. {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين على الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلى المدينة.. فلم يكن من همه صلى الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، وأن يحافظ على أمواله.. إنما كان كل همه صلى الله عليه وسلم أن يطمئن على حال المسلمين المهاجرين.. كان صلى الله عليه وسلم يتصرف كالربّان الذي لا يخرج من سفينته إلا بعد اطمئنانه على كل الركاب أنهم في أمان.. فالقيادة عنده ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية.. إنما القيادة مسئولية وتضحية وأمانة.
ونستطيع أن نلاحظ بعض الملامح الهامة لهجرة المسلمين من مكة إلى المدينة:
(1) الاهتمام بقضية النية:
لماذا تهاجر؟
روى البخاري عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص355. …(7) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص199.
(2) - موسوعة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - (ج 3 / ص 57) في كتابه في ظلال الهجرة النبوية(1/36)
ومع أن الهجرة للزواج ليست محرمة.. ومع أن الهجرة لإصابة الدنيا الحلال ليست محرمة.. لكن هذه هجرة ليست كالهجرة لبناء أمة إسلامية.
وهيهات أن يكون الذي ترك كل ما يملك ابتغاء مرضات الله وسعيًا لإنشاء أمة إسلامية ورغبةً في تطبيق شرع الله عز وجل في الأرض.. كالذي عاش لحياته فقط.. وإن كانت حياتُه حلالاً.
(2) الهجرة الكاملة لكل المسلمين لم تكن إلا بعد أن أُغلقت أبواب الدعوة تمامًا في مكة.. وقد أغلقت أبواب الدعوة منذ ثلاث سنوات.. بعد موت أبي طالب والسيدة خديجة رضي الله عنها.. ومنذ ذلك التاريخ، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطط للهجرة.. وكان من الممكن أن يكون مكان الهجرة مختلفًا عن المدينة لو آمن وفد من الوفود التي دعاها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام مثل بني شيبان أو بني حنيفة أو بني عامر، ولكن الله عز وجل أراد أن تكون الهجرة إلى المدينة المنورة.. فليس المهم هو المكان، ولكن المهم هنا ملاحظة أن الهجرة لم تكن نوعًا من الكسل عن الدعوة في مكة، أو "الزهق" من الدعوة في مكة.. أبدًا.. الدعوة في مكة من أول يوم وهي صعبة، ولكن ما ترك المسلمون بكاملهم البلد إلا بعد أن أُغلقت تمامًا أبواب الدعوة.. أما إذا كانت السبل للدعوة مفتوحة -ولو بصعوبة- فالأولى البقاء لسد الثغرة التي وضعك الله عز وجل عليها.
(3) الهجرة كانت للجميع، وذلك على خلاف الهجرة إلى الحبشة والتي كانت لبعض الأفراد دون الآخرين.. والسبب أن طبيعة المكان وظروفه تختلف من الحبشة إلى المدينة.. فالمسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا يريدون حفظ أنفسهم في مكان آمن حتى لا يستأصل الإسلام بالكلية إذا تعرض المسلمون في مكة للإبادة.. ولم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلامية في الحبشة، بل كان المسلمون مجرد لاجئين إلى ملك عادل.. أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلامية تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها.
ولماذا تصلح المدينة لإقامة الأمة الإسلامية ولا تصلح الحبشة؟ إن هذا ليس راجعاً إلى عامل البُعْد عن مكة واختلاف اللغة واختلاف التقاليد فقط، وإن كانت هذه عوامل هامة، ولكن الاختلاف الرئيسي -في نظري- هو أن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد هو النجاشي -ملك لا يظلم عنده أحد- فإذا مات هذا الرجل أو خلع، فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم.. وقد كاد أن يحدث ذلك، ودارت حرب أهلية كاد النجاشي فيها أن يفقد ملكه، فما كان من النجاشي إلا أن يسر سبيل الهروب للمسلمين المهاجرين عنده.. فهو لا يملك لهم إلا هذا.. هذا كان الوضع في الحبشة.. أما في المدينة المنورة فالهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين.. بل تعتمد على شعب المدينة.. والجو العام في المدينة أصبح محبًّا للإسلام.. أو على الأقل أصبح قابلاً للفكرة الإسلامية، ومن ثَم كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعية كاملة..
(4) الهجرة لم تكن عشوائية، بل كانت بأمر القيادة إلى مكان معين.. وهذا الذي أدى إلى نجاح الهجرة، وقيام الأمة.. أما أن يهاجر فلان إلى مكان كذا، ويهاجر آخر إلى مكان كذا.. ويتفرق المسلمون.. فهذا وإن كان يكتب نجاة مؤقتة للأفراد، إلا أنه لا يقيم أمة.. وعلى المسلمين الفارين بدينهم من ظلم ما أن يفقهوا هذا الأمر جيدًا..
الهجرة النبوية إلى المدينة كانت هجرة منظمة مرتبة.. أُعد لها بصبر وبحكمة وبسياسة وفقه.. فالعشوائية ليست من أساليب التغيير في الإسلام.
(5) بهذه الهجرة الناجحة تمت مرحلة هامة -بل هامة جدًّا- من مراحل السيرة النبوية.. وهي المرحلة المكية..
لقد تمت هذه المرحلة بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها..
وهي مرحلة ذات طابع خاص جدًّا..
بدأ الإسلام فيها غريباً.. واستمر غريباً إلى قرب نهايتها.. إلى أن آمن الأنصار.. رضي الله عنهم ورضي الله عن المهاجرين.. وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين..
كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة أن يبني الجانب العقائدي عند الصحابة.. فلا يؤمنون بإله غير الله.. ولا يتوجهون بعبادة لأحد سواه.. ولا يطيعون أحداً يخالف أمره.. وهم يتوكلون عليه.. وينيبون إليه.. ويخافون عذابه.. ويرجون رحمته..
إيمان عميق برب العالمين.. وإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبإخوانه من الأنبياء و المرسلين..
واعتقاد جازم بأن هناك يوماً سيبعث فيه الخلائق أجمعون.. سيقوم فيه الناس لرب العالمين يحاسبون على ما يعملون.. لن يُظلم في ذلك اليوم أحد.. لن تُغفل الذرة والقطمير.. إنها والله إما الجنة أبداً أو النار أبداً..
وإلى جانب العقيدة الراسخة فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة الأخلاق الحميدة، والخصال الرفيعة.. هذبت نفوسهم.. وسمت بأرواحهم.. وارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض.. إلى قيم السماء وأخلاق السماء وطبائع السماء.. لقد نزل الميزان الحق الذي يستطيع الناس به أن يقيموا أعمالهم بصورة صحيحة..(1/37)
وعرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعي للجنة طريق شاق صعب.. مليء بالابتلاءات والاختبارات.. ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر.. تعب كلها الحياة.. والله يراقب العباد في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم.. ولن يُستثنى أحد من الاختبار.. ويُبتلى المرء على حسب دينه.
لقد كانت الفترة المكية يا إخواني بمثابة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل.
ومن المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كبَدْر وكالأحزاب وكخَيْبر وكتَبوك، دون المرور على فترة مكة..
ومن المستحيل أن تبنى أمة صالحة.. أو تنشأ دولةً قوية.. أو تخوض جهاداً ناجحاً.. أو تثبت في قتال ضار.. إلا بعد أن تعيش في فترة مكة بكل أبعادها..
وعلى الدعاة المخلصين أن يدرسوا هذه المرحلة بعمق.. وعليهم أن يقفوا أمام كل حدث ـ وإن قصر وقته أو صغر حجمه، وقوفاً طويلاً طويلاً..
فهنا البداية التي لا بد منها..
وبغير مكة لن تكون هناك المدينة..
وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار..
وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أمة ودولة وسيادة وتمكين..
(6) الهجرة - وإن كانت حدثاً تاريخياً مر منذ مئات السنين، ولا يستطيع أحد بعد جيل المهاجرين أن يحققه، وذلك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ" - إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم فتح باب العمل للمسلمين الذين يأتون بعد ذلك، فقال في نفس الحديث: "وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"، فالجهاد والبذل والحركة والعمل في سبيل الله لن يتوقف أبداً في الدنيا، والسعيد حقاً هو من انشغل بعمله عن قوله، وبنفسه عن غيره، وبآخرته عن دنياه.
(7) أول مراحل الهجرة هي ترك المعاصي، والبُعْد عن مواطن الشبهات، ولن ينصر الدين رجل غرق في شهواته، والمعروف أن ترك المعاصي مقدم على فعل فضائل الأعمال، والإنسان قد يُعذر في ترك قيام أو صيام نفل أو صدقة تطوع، لكنه لا يُعذر في فعل معصية، وذلك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"؛ ولذلك عرف الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجر الحقيقي بتعريف عميق من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فقال فيما رواه أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما: "إِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ".
==================
الدروس والعبر من الهجرة للمدينة المنورة (1)
:
1- الصراع بين الحق والباطل: صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال عز وجل: ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40].
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ ) [المجادلة: 21].
2- مكر خصوم الدعوة بالداعية: أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله(2)، كما قال عز وجل: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال: 30].
ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة، ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حيًّا أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديًّا بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمَّي الطريق عن الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة(3) قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) [الأنفال: 36].
3- إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط
__________
(1) - انظر السيرة النبوية للصلابي
(3) انظر الهجرة النبوية المباركة، ص200. …(1/38)
المسدد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائمًا، وأن التخطيط جزء من السنّة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنّة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين(1).
فعندما حان وقت الهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم وشرع النبي صلى الله عليه وسلم في التنفيذ نلاحظ الآتي:
* وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، رغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلا:
أ- جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر- الوقت الذي لا يخرج فيه أحد- بل من عادته لم يكن يأتي فيه، لماذا؟ حتى لا يراه أحد.
ب- إخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم(2).
ج- أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرِج مَنْ عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.
د - وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر(3).
هـ- بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً ما دام على خلق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها(4).
* انتقاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل من هؤلاء الأفراد وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
* وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
* فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول، فكرة ناجحة، قد ضللت القوم وخدعتهم، وصرفتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية الله وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة بمضجع الرسول صلى الله عليه وسلم فما كانوا يشكون في أنه ما يزال نائماً، مسجى في بردته في حين النائم هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
ونرى احتياجات الرحلة قد دبرت تدبيرا محكما:
أ- علي :- رضي الله عنه - ينام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليخدع القوم، ويُسلَّم الودائع ويلحق بالرسول.
ب- وعبد الله بن أبي بكر: صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو.
جـ- وأسماء ذات النطاقين: حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنون المشركين بحثاً عن محمد صلى الله عليه وسلم ليقتلوه.
د- وعامر بن فهيرة: الراعي البسيط الذي قدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه، كيلا يتفرسها القوم، لقد كان هذا الراعي يقوم بدور الإمداد والتموين.
هـ- وعبد الله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير، ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول، ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى يثرب.
فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف.
لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذًا قويًّا حسب استطاعته وقدرته.. ومن ثم باتت عناية الله متوقعة(5).
4- الأخذ بالأسباب أمر ضروري:
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياًّ وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض ويكلل العمل بالنجاح(6).
5- الإيمان بالمعجزات الحسية:
وفي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك -على ما روي- نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم معبد، وما جرى له مع سراقة ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة ألا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته عليه السلام(7).
__________
(1) انظر: الأساس في السنة، سعيد حوى (1/357).
(2) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحيطة، ص141.
(3) انظر: معين السيرة، ص147. …(5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص361.
(5) انظر: أضواء على الهجرة، لتوفيق محمد، ص393: 397.
(6) انظر: من معين السيرة، ص148. …(2،3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/108).(1/39)
6- جواز الاستعانة بالكافر المأمون:
ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم، ما داموا يثقون بهم ويأتمنونهم على ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعده عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة، قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة، أو المعرفة القديمة أو الجوار، أو عمل معروف، كان قد قدمه الداعية لهم، أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية، مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص(1).
7- دور المرأة في الهجرة:
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأسماء ذات النطاقين(2) التي ساهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...» (3).
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم! وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: «والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: «فوضع يده عليه»، فقال: «لا بأس، إذا كان ترك الكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم»، «قالت:ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك»(4).
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفافها فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا، هُن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله.
وظلت أسماء مع أخواتها في مكة لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجة، حتى بعث
النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسوده بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمه بركة، المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان(5).
8- أمانات المشركين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع محاربتهم له، وتصميمهم على قتله، دليل باهر على تناقضهم العجيب، الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر، أو مجنون أو كذاب، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق، الذي جاء به، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم(6)، وصدق الله العظيم: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) [الأنعام: 33].
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه - بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلا عن غيره(7).
9- الراحلة بالثمن:
__________
(2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص206.
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص126.
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/102) إسناده صحيح.
(5) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص128.
(6) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص193. …(2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص364.(1/40)
لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر - رضي الله عنه -، واستقر الثمن ديناً بذمته، وهذا درس واضح بأن حملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد في وقت من الأوقات، فهم مصدر العطاء في كل شيء. إن يدهم إن لم تكن العليا، فلن تكون السفلى، وهكذا يصر عليه السلام أن يأخذها بالثمن، وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى: ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الشعراء: 109].
إن الذين يحملون العقيدة والإيمان، ويبشرون بهما ما ينبغي أن تمتد أيديهم إلى أحد إلا الله؛ لأن هذا يتناقض مع ما يدعون إليه، وقد توعد الناس أن يعوا لغة الحال لأنها أبلغ من لغة المقال، وما تأخر المسلمون، وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة المادة، ينتظر الواحد منهم مرتبه، ويومها تحول العمل إلى عمل مادي فقد الروح والحيوية، وأصبح الأئمة موظفين.
إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من الله والأمل في رضاه، غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة، فإذا توقفت توقف الصوت، وقديما قالوا: ليست النائحة كالثكلى، ولهذا قل التأثير، وبعد الناس عن جادة الصواب(1).
10- الداعية يعف عن أموال الناس:
لما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن سراقة عرض عليه سراقة المساعدة فقال: وهذه كنانتيفخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لي فيها»(2).
فحين يزهد الدعاة فيما عند الناس يحبهم الناس، وحين يطمعون في أموال الناس ينفر الناس عنهم، وهذا درس بليغ للدعاة إلى الله تعالى(3).
11- الجندية الرفيعة والبكاء من الفرح:
تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأبو بكر - رضي الله عنه - عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً» فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة «فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك، وفي رواية البخاري، «وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر»، لقد كان يدرك بثاقب بصره - رضي الله عنه -، وهو الذي تربى ليكون قائدا، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة؛ ولذلك هيأ وسيلة الهجرة، ورتب تموينها، وسخر أسرته لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكى من شدة الفرح، وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ»، إنها قمة الفرح البشري أن يتحول الفرح إلى بكاء.
__________
(1) انظر: معين السيرة، ص148، 149. …
(2) المسند (1/3) تحقيق أحمد محمد شاكر. …(2) انظر: في ظلال الهجرة النبوية، ص58.(1/41)
فالصديق - رضي الله عنه - يعلم أن معنى هذه الصحبة، أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشرة يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض، ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة(1) وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون، ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق، مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة، وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين(2)، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة منها، حين أجاب السائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض، فرارا من الحرج أو الكذب(3)،؛ لأن الهجرة كانت سراًّ وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك(4)، وفي موقف علي بن أبي طالب مثال للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي - رضي الله عنه - ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي - رضي الله عنه -، ولكن علياًّ - رضي الله عنه - لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة(5).
12- فن قيادة الأرواح، وفن التعامل مع النفوس:
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق، أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه شيء من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسؤولين في أمة الإسلام(6).
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقَ إلا المستضعفون والمفتونون ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة(7).
13- وفي الطريق أسلم بريدة الأسلمي - رضي الله عنه - في ركب من قومه:
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/191، 192). …(4) السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي، ص71.
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص204.…(2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص254.
(5) انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص68. …(4) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص54.
(7) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص205.(1/42)
إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة، والأمن مفقود بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى، هذا نبي الله تعالى يوسف -عليه السلام- حينما زج به في السجن ظلماً، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس ومحاربة الشرك وعبادة غير الله والخضوع لأي مخلوق قال تعالى: ( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ - وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ - يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ - مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [يوسف: 37-40].
وسورة يوسف عليه السلام مكية، وقد أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته إلى الله؛ ولذلك نجده صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة، وقد كان مطارداً من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة، ليأتوا برأسه حياً أو ميتاً، ومع هذا فلم ينس مهمته ورسالته، فقد لقي صلى الله عليه وسلم في طريقه رجلاً يقال له بريدة بن الحصيب الأسلمي - رضي الله عنه - في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فآمنوا وأسلموا(1).
وذكر ابن حجر العسقلاني رحمه الله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة لقي بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ست عشرة(2) غزوة، وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام، وفتح الله لقومه -أَسْلَم- على يديه أبواب الهداية، واندفعوا إلى الإسلام وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجاً فريداً في فقه النفوس قال صلى الله عليه وسلم: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما وإني لم أقلها، ولكن قالها الله عز وجل»(3).
14- وفي طريق الهجرة أسلم لصّان على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كان في طريقه صلى الله عليه وسلم بالقرب من المدينة لِصَّان من أسلم يقال لهما المهانان، فقصدهما صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المهانان، فقال: «بل أنتما المكرمان» وأمرهما أن يقدما عليه المدينة(4) وفي هذا الخبر يظهر اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله حيث اغتنم فرصة في طريقه ودعا اللصين إلى الإسلام فأسلما، وفي إسلام هذين اللصين مع ما ألفاه من حياة البطش والسلب والنهب، دليل على سرعة إقبال النفوس على اتباع الحق، إذا وجد من يمثله بصدق وإخلاص، وتجردت نفس السامع من الهوى المنحرف، وفي اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بتغيير اسمي هذين اللصين من المهانين، إلى المكرمين دليل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بسمعة المسلمين، ومراعاته مشاعرهم إكراماً لهم ورفعاً لمعنوياتهم.
وإن في رفع معنوية الإنسان تقوية لشخصيته ودفعا له إلى الأمام ليبذل كل طاقته في سبيل الخير والفلاح(5).
15- الزبير وطلحة رضي الله عنهما ولقاؤهما برسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة:
ومما وقع في الطريق إلى المدينة أنه صلى الله عليه وسلم لقي الزبير بن العوام، في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاء، رواه البخاري(6)، وكذا روى أصحاب السير أن طلحة بن عبيد الله لقيهما أيضا وهو عائد من الشام وكساهما بعض الثياب(7).
16- أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن:
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص59. شرح المواهب (1/405).
(2) انظر: الإصابة، (1/146).
(3) صحيح الجامع الصغير (1/328) رقم 986. …(4) الفتح الرباني للساعتي (20/289).
(5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/178). …(2) انظر السيرة النبوية لأبي شهبة، (1/495).
(7) المصدر السابق، (1/495) صحيح السيرة النبوية، ص181.(1/43)
إن العقيدة الصحيحة السليمة والدين الإسلامي العظيم لهما أهمية كبرى في إزالة العداوات والضغائن، وفي التأليف بين القلوب والأرواح، وهو دور لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تقوم به، وها قد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلامية بين الأوس والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرت عقوداً من الزمن، وأغلقت ملف ثارات كثيرة في مدة قصيرة، بمجرد التمسك بها والمبايعة عليها، وقد رأينا ما فعلته العقيدة في نفوس الأنصار، فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة، وتآخوا معهم في مثالية نادرة، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر، فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في النفوس.
ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب إلى إضعاف هذه العقيدة، وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين، واندفاعهم المستمر نحو تزكية النعرات العصبية والوطنية والقومية وغيرها، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة(1).
17- فرحة المهاجرين والأنصار بوصول النبي صلى الله عليه وسلم:
كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصوله إليهم سالمًا، فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك لسكانها في الفرحة ظاهراً، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطناً، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم فلا عجب فيها، وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه، وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه، وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب، ويحول بينهم وبين سلب أموالها باسم القروض، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك دينهم، وتلك جبلتهم(2).
ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية استقبال الأمراء والعلماء عند مقدمهم بالحفاوة والإكرام، فقد حدث ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الإكرام وهذه الحفاوة نابعين من حب للرسول، بخلاف ما نراه من استقبال الزعماء والحكام في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنافس في الخير وإكرام ذوي العلم والشرف، فقد كانت كل قبيلة تحرص أن تستضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرض أن يكون رجاله حُراسًا له، ويؤخذ من هذا إكرام العلماء والصالحين، واحترامهم وخدمتهم(3).
17- وضوح سنة التدرج:
حيث نلاحظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام وتلاوة القرآن عليهم، فلما جاءوا في العام التالي بايعهم بيعة النساء على العبادات والأخلاق والفضائل، فلما جاءوا في العام التالي كانت بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر والإيواء(4).
وجدير بالملاحظة أن بيعة الحرب لم تتم إلا بعد عامين كاملين، أي بعد تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين، وهكذا تم الأمر على تدرج، ينسجم مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم(5).
إنه المنهج الذي هدى الله نبيه إلى التزامه، ففي البيعة الأولى بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام عقيدة ومنهاجًا وتربية، وفي البيعة الثانية بايعه الأنصار على حماية الدعوة واحتضان المجتمع الإسلامي الذي نضجت ثماره واشتدت قواعده قوة وصلابة.
إن هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التربوي للدعوة الإسلامية، وإن الأمر الأول هو المضمون، والأمر الثاني، وهو بيعة الحرب، هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون، نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام وليس فور إعلانهم.
بعد عامين إذ تم إعدادهم، حتى غدوا موضع ثقة، وأهلاً لهذه البيعة، ويلاحظ أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل اليوم مع أي مسلم، إنما حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤلاء الأنصار وفي الأرض التي يقيمون فيها، المعقل الملائم الذي ينطلق منه المحاربون، لأن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب(6).
وقد اقتضت رحمة الله بعباده «أن لا يحملهم واجب القتال، إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه، ويلوذون به، وقد كانت المدينة المنورة أول دار إسلام»(7).
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص405.
(2) انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص43، الهجرة في القرآن الكريم، ص367.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص358، 359. ……(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص202.
(5) انظر: بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص119.
(6) انظر: بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص122، 123.
(7) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص172.(1/44)
لقد كانت البيعة الأولى قائمة على الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والبيعة الثانية على الهجرة والجهاد، وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان بالله، والهجرة، والجهاد، يتحقق وجود الإسلام في واقع جماعي ممكن، والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [الأنفال: 72]. وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الأنفال: 75].
وقد كانت بيعة الحرب هي التمهيد الأخير، لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وبذلك وجد الإسلام موطنه الذي ينطلق منه دعاة الحق بالحكمة والموعظة، وتنطلق منه جحافل الحق المجاهدة أول مرة، وقامت الدولة الإسلامية المحكمة لشرع الله(1).
19- الهجرة تضحية عظيمة في سبيل الله:
كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البلد الأمين، تضحية عظيمة عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت»(2).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلا- يعني ماء آجنا- فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك(3) فدنوت من أبي بكر فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ فقال:
كل امرئ مصبَّح في أهله ... والموت أدنى من شِراك نعله
قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه
... إن الجبان حتفُه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطَوقه(4) ... كالثور يحمي جلده بِرَوقه(5)
قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول، قلت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته(6) ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر(7) وجليل
وهل أَرِدَنْ يومًا مياه مجنة ... وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطفيل(8)
قالت: فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وانقل حماها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا في مدنا وصاعها»(9).
وقد استجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم(10).
20- مكافأة النبي صلى الله عليه وسلم لأم معبد:
وقد روي أنها كثرت غنمها، ونمت حتى جلبت منها جلباً إلى المدينة، فمر أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: أو ما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها. وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب (الوفاء) أنها هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها خنيس واستشهد يوم الفتح(11).
21- أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - ومواقف خالدة:
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص198، 199.
(2) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722) رقم 3925.
(4) الوعك: الحمى. (2) بطوقه: بطاقته. … ( ) بروقه: بقرنه.
(6) عقيرته: صوته، قال الأصمعي، إن رجلا عقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال له: رفع عقيرته وإن لم يرفع رجله.
(7) الأذخر: نبات طيب الرائحة.
(8) شامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة على بريد مكة.
(9) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء برفع الوباء والوجع، رقم 6372.
(10) انظر: التربية القيادية (2/310).
(11) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/489، 490).(1/45)
قال أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: «ولما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العُلْو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: «يا أبا أيوب: إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سُفل البيت» قال: فلقد انكسر حُب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه»(1).
22- هجرة علي - رضي الله عنه - وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في المجتمع الجديد:
بعد أن أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانات التي كانت عنده للناس، لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركه بقباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلتين، ثم خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الجمعة(2) وقد لاحظ سيدنا علي مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، ورأى إنسانا يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليها فيعطيها شيئاً معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت: يا أمة الله، من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف بن وهب، وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان علي - رضي الله عنه - يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق(3).
23- الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة:
كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة، أعظم حدث حول مجرى التاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين ونظم وأعراف، وعادات وأخلاق وسلوك للأفراد والجماعات، وعقائد وتعبدات وعلم ومعرفة، وجهالة وسفه وضلال وهدى، وعدل وظلم(4).
24- الهجرة من سنن الرسل الكرام:
إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدعا في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها، وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة.
وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات، يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدى على مروءته وكرامته(5).
هذه بعض الفوائد والعبر والدروس، وأترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها ويستنبط سواها من الدروس والعبر والفوائد الكثيرة النافعة من هذا الحدث العظيم.
==============
وقال السباعي رحمه الله(6) :
إن المؤمن إذا كان واثقا من قوته لا يستخفي في عمله، بل يجاهر فيه، ولا يبالي بأعداء دعوته ما دام واثقا من التغلب عليهم، كما فعل عمر رضي الله عنه حين هاجر، وفي ذلك دليل أيضا على أن موقف القوة يرهب أعداء الله، ويلقي الجزع في نفوسهم، ولا شك أنهم لو أرادوا أن يجتمعوا على قتل عمر لاستطاعوا، ولكن موقف عمر الجريء ألقى الرعب في نفس كل واحد منهم، فخشي إن تعرض له أن تثكله أمه، وأهل الشر ضنينون [بخلاء] بحياتهم حريصون عليها.
حين ييأس المبطلون من إيقاف دعوة الحق والإصلاح، وحين يفلت المؤمنون من أيديهم ويصبحون في منجى من عدوانهم، يلجؤون آخر الأمر إلى قتل الداعية المصلح، ظنا منهم أنهم إن قتلوه تخلصوا منه، وقضوا على دعوته، وهذا هو تفكير الأشرار أعداء الإصلاح في كل عصر، وقد شاهدناه ورأينا مثله في حياتنا.
إن الجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح، يفدي قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه انتقاما منه، لأنه سهل لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاة، ولكن عليا رضي الله عنه لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/220). …
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/497).
(3) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (2/421).
(4) انظر: محمد رسول الله، (2/423).
(5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص175.
(6) - السيرة النبوية السباعي - (ج 1 / ص 41)(1/46)
وفي إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله، دليل على أن أعداء الإصلاح يوقنون في قرارة نفوسهم باستقامة الداعية وأمانته ونزاهته، وأنه خير منهم سيرة، وأنقى سريرة، ولكن العماية واللجاجة والجمود على العادات والعقائد الضالة، هو الذي يحملهم على محاربته، ونصب الكيد له، والتآمر على قتله إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
إن تفكير قائد الدعوة، أو رئيس الدولة، أو زعيم حركة الإصلاح في النجاة من تآمر المتربصين والمغتالين، وعمله لنجاح خطة النجاة ليستأنف حركته أشد قوة ومراسا في ميدان آخر، لا يعتبر جبنا ولا فرارا من الموت، ولا ضنا بالتضحية بالنفس والروح.
في موقف عبد الله بن أبي بكر ما يثبت أثر الشباب في نجاح الدعوات، فهم عماد كل دعوة إصلاحية، وباندفاعهم للتضحية الفداء، تتقدم الدعوات سريعا نحو النصر والغلبة. ونحن نرى في المؤمنين السابقين إلى الإسلام كلهم شبابا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمره أربعين سنة عند البعثة، وأبو بكر رضي الله عنه كان أصغر منه بثلاث سنين، وعمر رضي الله عنه أصغر منهما، وعلي رضي الله عنه أصغر الجميع، وعثمان رضي الله عنه كان أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والأرقم بن أبي الأرقم، وسعيد بن زيد، وبلال بن رباح، وعمار بن ياسر، رضي الله عنهم، وغيرهم، كل هؤلاء كانوا شبابا، حملوا أعباء الدعوة على كواهلهم، فتحملوا في سبيلها التضحيات، واستعذبوا من أجلها العذاب والألم والموت، وبهؤلاء انتصر الإسلام، وعلى جهودهم وجهود إخوانهم قامت دولة الخلفاء الراشدين، وتمت الفتوحات الإسلامية الرائعة، وبفضلهم وصل إلينا الإسلام الذي حررنا الله به من الجهالة والضلالة والوثنية والكفر والفسوق.
وفي موقف عائشة وأسماء رضي الله عنهما أثناء هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يثبت حاجة الدعوات الإصلاحية إلى النساء، فهن أرق عاطفة، وأكثر اندفاعا، وأسمح نفسا، وأطيب قلبا، والمرأة إذا آمنت بشيء لم تبال بنشره والدعوة إليه بكل صعوبة، وعملت على إقناع زوجها وأخوتها وأبنائها به، ولجهاد المرأة في سبيل الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم صفحات بيضاء مشرقة، تؤكد لنا اليوم أن حركات الإصلاح الإسلامي ستظل وئيدة الخطأ، قليلة الأثر في المجتمع حتى تشترك فيها المرأة، فتنشئ جيلا من الفتيات على الإيمان والخلق والعفة والطهارة، هؤلاء أقدر على نشر القيم التي يحتاج إليها مجتمعنا اليوم في أوساط النساء من الرجال، عدا أنهن سيكن زوجات وأمهات، وأن الفضل الكبير في تربية كبار الصحابة ثم التابعين من بعدهم يعود إلى نساء الإسلام اللاتي أنشأن هذه الأجيال على أخلاق الإسلام وآدابه، وحب الإسلام ورسوله، فكانت أكرم الأجيال التي عرفها التاريخ في علو الهمة، واستقامة السيرة، وصلاح الدين والدنيا.
……إن علينا اليوم أن ندرك هذه الحقيقة، فنعمل على أن تحمل الفتيات والزوجات لواء دعوة الإصلاح الإسلامي في أوساط النساء، وهن أكثر من نصف الأمة، وذلك يقتضينا أن نشجع بناتنا وأخواتنا على تعلم الشريعة في معهد موثوق بحسن تدريسه للإسلام، مثل كلية الشريعة في جامعتنا، وكلما كثر عدد هؤلاء الفتيات العالمات بالدين، الفقيهات في الشريعة، الملمات بتاريخ الإسلام، المحبات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخلقات بأخلاقه وأخلاق أمهات المؤمنين، استطعنا أن ندفع حركة الإصلاح الإسلامي إلى الأمام دفعا قويا، وأن نقرب اليوم الذي يخضع فيه مجتمعنا الإسلامي لأحكام الإسلام وشريعته، وإن ذلك لواقع إن شاء الله.
وفي عمى أبصار المشركين عن رؤية رسول الله وصاحبه في «غار ثور» وهم عنده، وفيما تحكيه لنا الروايات من نسيج العنكبوت وتفريخ الطير على فم الغار، مثل تخشع له القلوب من أمثلة العناية الإلهية برسله ودعاته وأحبابه، فما كان الله في رحمته لعباده ليسمح أن يقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين فيقضوا عليه وعلى دعوته وهو الذي أرسله رحمة للعالمين، وكذلك يعود الله عباده الدعاة المخلصين أن يلطف بهم في ساعات الشدة، وينقذهم من المآزق الحرجة، ويعمي عنهم - في كثير من الأحيان- أبصار المتربصين لهم بالشر والغدر، وليس في نجاة الرسول وصاحبه بعد أن أحاط بهما المشركون في «غار ثور» إلا تصديق قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ* [غافر:51] وقول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا* [الحج:38].(1/47)
وفي خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون مثل لما يجب أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده الأمين حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه من الموت، ولو كان كذلك، لما رافق الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين.
وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر تطمينا له على قلقه « يا أبابكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» مثل من أمثلة الصدق في الثقة بالله والاطمئنان إلى نصره، والاتكال عليه عند الشدائد، وهو دليل واضح على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة، فهو في أشد المآزق حرجا ومع ذلك تبدو عليه أمارات الاطمئنان إلى أن الله [الذي] بعثه هدى ورحمة للناس لن يتخلى عنه في تلك الساعات، فهل مثل هذا الاطمئنان يصدر عن مدع للنبوة، منتحل صفة الرسالة؟ وفي مثل هذه الحالات يبدو الفرق واضحا بين دعاة الإصلاح وبين المدعين له والمنتحلين لاسمه، أولئك تفيض قلوبهم دائما وأبدا بالرضى عن الله، والثقة بنصره، وهؤلاء يتهاوون عند المخاوف، وينهارون عند الشدائد، ثم لا تجد لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.
ويبدو لنا من موقف سراقة حين أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم وعجزه عن الوصول إليه دليل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت قوائم فرسه تسيخ في الرمل وهي متجهة صوب الرسول، حتى إذا نزل عنها ووجهها شطر مكة نشطت من كبوتها، فإذا أراد أن يعيدها كرة في اتجاه الرسول صلى الله عليه وسلم عادت إلى عجزها وكعِّها [ضعفها]، أفترى هذا يقع إلا لنبي مرسل مؤيد من الله بالنصر والعون؟ كلا، وهذا ما أدركه سراقة، فنادى الرسول بالأمان، وأدرك أن للرسول صلى الله عليه وسلم من العناية الإلهية ما تعجز عن إدراكه قوى البشر، فرضي أن يخسر الجائزة ويفوز بالوعد.
وفي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم لسراقة بسواري كسرى معجزة أخرى، فالإنسان الذي يبدو هاربا من وجه قومه لا يؤمل في فتح الفرس والاستيلاء على كنوز كسرى، إلا أن يكون نبيا مرسلا، ولقد تحقق وعد الرسول صلى الله عليه وسلم له، وطالب كسرى عمر بن الخطاب بإنفاذ وعد الرسول صلى الله عليه وسلم له حين رأى سواري كسرى في الغنائم، فألبسهما عمر سراقة على ملأ من الصحابة، وقال: «الحمد لله الذي سلب كسرى سواريه وألبسهما سراقة بن جعشم الأعرابي» وهكذا تتوالى المعجزات في هذه الهجرة واحدة بعد أخرى ليزداد المؤمنون ويستيقن الذين أوتوا الكتاب من المترددين والجاحدين أنه رسول من رب العالمين.
كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصوله إليهم سالما فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك في الفرحة ظاهرا، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطنا، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم، فلا عجب فيها وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه، وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب، ويحول بينهم وبين سلب أموالها باسم القروض، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات، ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك ديدنهم، وتلك جبلتهم، وقد فعلوا مثل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استقراره بالمدينة، برغم ما أمضاه بينه وبينهم على التعاون والتعايش بسلامن ولكن اليهود قوم يشعلون نار الحروب دائما وأبدا، و{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ* [المائدة:64].
من وقائع الهجرة إلى المدينة تبين لنا أنه صلى الله عليه وسلم ما أقام بمكان إلا كان أول ما يفعله بناء مسجد يجتمع فيه المؤمنون فقد أقام مسجد قباء حين اقام فيها أربعة أيام، وبنى مسجدا في منتصف الطريق بين قباء والمدينة لما أدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن الوادي « وادي رانوناء».
فلما أن وصل إلى المدينة، كان أول عمل عمله بناء مسجد فيها.
وهذا يدلنا على أهمية المسجد في الإسلام، وعبادات الإسلام كلها تطهير للنفس، وتزكية للأخلاق، وتقوية لأواصر التعاون بين المسلمين، وصلاة الجماعة والجمعة والعيدين، مظهر قوي من مظاهر اجتماع المسلمين، ووحدة كلمتهم، وأهدافهم، وتعاونهم على البر والتقوى، لا جرم أن كان للمسجد رسالة اجتماعية وروحية عظيمة الشأن في حياة المسلمين، فهو الذي يوحد صفوفهم، ويهذب نفوسهم، ويوقظ قلوبهم وعقولهم، ويحل مشاكلهم، وتظهر فيه قوتهم وتماسكهم.(1/48)
ولقد أثبت تاريخ المسجد في الإسلام أنه منه انطلقت جحافل الجيوش الإسلامية لغمر الأرض بهداية الله، ومنه انبعثت أشعة النور والهداية للمسلمين وغيرهم، وفيه ترعرعت بذور الحضارة الإسلامية ونمت، وهل كان أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، وسعد، وأبو عبيدة وأمثالهم من عظماء التاريخ الإسلامي إلا تلامذة المدرسة المحمدية التي كان مقرها المسجد النبوي.
وميزة أخرى للمسجد في الإسلام أنه تنبعث منه في كل أسبوع كلمة الحق مدوية مجلجلة على لسان خطيبه، في إنكار منكر أو أمر بمعروف، أو دعوة إلى خير أو إيقاظ من غفلة، أو دعوة إلى تجمع، أو احتجاج على ظالم، أو تحذير لطاغية، ولقد شاهدنا في عصر الطفولة كيف كانت المساجد مراكز الانطلاق للحركات الوطنية ضد المستعمرين الفرنسيين، يلجأ إليها زعماء الجهاد ضد الاستعمار وضد الصهيونية، وإذا كنا نرى تعطيلها اليوم عن القيام بوظيفتها الكبرى، فما ذلك إلا ذنب بعض الخطباء من الموظفين المرتزقين، أو الجاهلين الغافلين، ويوم يعتلي منابرها ويؤم محاريبها دعاة أشداء في الحق، علماء بالشريعة، مخلصون لله ولرسوله، ناصحون لأئمة المسلمين وعامتهم، يعود للمسجد في مجتمعنا الإسلامي مكان الصدارة في مؤسساتنا الاجتماعية، ويعود المسجد ليعمل عمله في تربية الرجال، وإخراج الأبطال، وإصلاح الفساد، ومحاربة المنكر، وبناء المجتمع على أساس من تقوى الله ورضوانه.
وإنا لنأمل ذلك إن شاء الله حين تحتل هذه الطليعة الطاهرة من شبابنا المؤمن المثقفة بدين الله المتخلقة بأخلاق رسول الله منابره وأرجاءه.
في مؤخاة الرسول بين المهاجرين والأنصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية الأخلاقية البناءة، فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم، فجاؤوا المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئا، والأنصار قوم أغنياء بزروعهم وأموالهم وصناعتهم، فليحمل الأخ أخاه، وليقتسم معه سراء الحياة وضراءها، ولينزله في بيته مادام فيه متسع لهما، وليعطه نصف ماله ما دام غنيا عنه، موفرا له، فأية عدالة اجتماعية في الدنيا تعدل هذه الأخوة؟
إن الذين ينكرون أن يكون الإسلام عدالة اجتماعية، قوم لا يريدون أن يبهر نور الإسلام أبصار الناس ويستولي على قلوبهم، أو قوم جامدون يكرهون كل لفظ جديد ولو أحبه الناس وكان في الإسلام مدلوله، وإلا فكيف تنكر العدالة الاجتماعية في الإسلام وفي تاريخه هذه المؤاخاة الفذة في التاريخ، وهي التي عقدها صاحب الشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه، وطبقها بإشرافه، وأقام على أساسها أول مجتمع ينشؤه، وأول دولة يبنيها؟
سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم..
وفي الكتاب الذي عقد فيه الرسول الأخوة بين المهاجرين والأنصار، والتعاون بين المسلمين وغيرهم جملة من الأدلة التي لا ترَدُّ على أن أساس الدولة الإسلامية قائم على العدالة الاجتماعية، وأن أساس العلائق بين المسلمين وغيرهم هو السلم ما سالموا، وأن مبدأ الحق والعدل والتعاون على البر والتقوى والعمل لخير الناس، ودفع أذى الأشرار عن المجتمع، هو أبرز الشعارات التي تنادي بها دولة الإسلام، وبذلك تكون الدولة الإسلامية أينما قامت، وفي أي عصر نشأت قائمة على أقوم المبادئ وأعدلها، وهي تنطبق اليوم على أكرم المبادئ التي تقوم عليها الدول، وتعيش في ظلها الشعوب، وإن العمل في عصرنا هذا لإقامة دولة في مجتمعنا الإسلامي تركز قواعدها على مبادئ الإسلام عمل يتفق مع تطور الفكر الإنساني في مفهوم الدولة، عدا أنه يحقق للمسلمين بناء مجتمع من أقوى المجتمعات وأكملها وأسعدها وأرقاها.
وأيا ما كان فإن من مصلحتنا أن تبنى الدولة عندنا على أساس الإسلام، وفي ترك ذلك خرابنا ودمارنا، والإسلام لا يؤذي غير المسلمين في الوطن الإسلامي، ولا يضطهد عقائدهم، ولا ينتقص من حقوقهم، ففيم الخوف من إلزام الدول في البلاد الإسلامية بتنفيذ شرائع الإسلام، وإقامة أحكامه وهي كلها عدل وحق وقوة وإخاء وتكافل اجتماعي شامل على أساس من الإخاء والحب والتعاون الكريم؟ إننا لن نخلص من الاستعمار، إلا بالمناداة بالإسلام، وفي سبيل ذلك فليعمل العاملون {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ* [الأعراف: 96] {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ* [الأنعام: 153] {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا * [الطلاق: 2] {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا* [الطلاق: 4] {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا* [الطلاق: 5].
=================
خصائص المجتمع الإسلامي(1)
نَقْلةٌ بَعِيدَة
__________
(1) - انظر كتاب معالم في الطريق(1/49)
هناك حقيقة أولية ، ينبغي أن تكون واضحة في نفوسنا تماماً ونحن نقدم الإسلام للناس : الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء .. هذه الحقيقة تنبثق من طبيعة الإٍسلام ذاته ، وتنبع من تاريخه .
إن الإسلام تصور مستقل للوجود والحياة ، تصور كامل ذو خصائص متميزة ، ومن ثَمَّ ينبثق منه منهج ذاتي مستقل للحياة كلها ، بكل مقوماتها وارتباطاتها ، ويقوم عليه نظام ذو خصائص معينة .
هذا التصور يخالف مخالفة أساسية سائر التصورات الجاهلية قديماً وحديثاً . وقد يلتقي مع هذه التصورات في جزئيات عرضية جانبية ، ولكن الأصول التي تنبثق منها هذه الجزئيات مختلفة عن سائر ما عرفته البشرية من نظائرها .
ووظيفة الإسلام الأولى هي أن ينشئ حياة إنسانية توافق هذا التصور ، وتمثله في صورة واقعية ، وأن يقيم في الأرض نظاماً يتبع المنهج الرباني الذي اختاره الله ، وهو يخرج هذه الأمة المسلمة لتمثله وتقوم عليه ، وهو - سبحانه - يقول :
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ * ... [ آل عمران : 110 ]
ويقول في صفة هذه الأمة :
{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ * ... [ الحج : 41 ]
وليست وظيفة الإسلام إذن أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض ، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان .. لم تكن هذه وظيفته يوم جاء ، ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا في المستقبل .. فالجاهلية هي الجاهلية ، الجاهلية هي الانحراف عن العبودية لله وحده وعن المنهج الإلهي في الحياة ، واستنباط النظم والشرائع والقوانين والعادات والتقاليد والقيم والموازين من مصدر آخر غير المصدر الإلهي .. الإسلام وهو الإسلام ، ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام !
الجاهلية هي عبودية الناس للناس : بتشريع بعض الناس للناس ما لم يأذن به الله ، كائنة ما كانت الصورة التي يتم بها هذا التشريع .. !
والإسلام هو عبودية الناس لله وحده بتلقيهم منه وحده تصوراتهم وعقائدهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم والتحرر من عبودية العبيد !
هذه الحقيقة المنبثقة من طبيعة الإسلام ، وطبيعة دوره في الأرض ، هي التي يجب أن نقدم بها الإسلام للناس : الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء !
إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية . لا من ناحية التصور ، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور .. فإما إسلام وإما جاهلية . وليس هنالك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية ، يقبله الإسلام ويرضاه .. فنظرة الإسلام واضحة في أن الحق واحد لا يتعدد ، وأن ما عدا هذا الحق فهو الضلال . وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج . وأنه إما حكم الله وإما حكم الجاهلية ، وإما شريعة الله ، وإما الهوى .. والآيات القرآنية في هذا المعنى متواترة كثيرة :
{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ * .. [ المائدة : 49 ]
{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ * .. [ الشورى : 15 ]
{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * .. [ القصص : 50 ]
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * .. [ الجاثية : 18-19 ]
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * [ المائدة : 50 ]
فهما أمران لا ثالث لهما . إما الاستجابة لله والرسول ، وإما اتباع الهوى . إما حكم الجاهلية . إما الحكم بما أنزل الله كله وإما الفتنة عما أنزل الله .. وليس بعد هذا التوكيد الصريح الجازم من الله سبحانه مجال للجدال أو للمحال ..(1/50)
وظيفة الإسلام إذن هي إقصاء الجاهلية من قيادة البشرية ، وتولي هذه القيادة على منهجه الخاص ، المستقل الملامح ، الأَصيل الخصائص .. يريد بهذه القيادة الرشيدة الخير للبشرية واليسر . الخير الذي ينشأ من رد البشرية إلى خالقها ، واليسر الذي ينشأ من التنسيق بين حركة البشرية ، وتولي هذه القيادة منهجه الخاص ، المستقل ، ترتفع إلى المستوى الكريم الذي أراده الله لها، وتخلص من حكم الهوى . أو كما قال ربعي بن عامر حين سأله رستم قائد الفرس : ما الذي جاء بكم ؟ فكان جوابه : " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " .
لم يجيء الإسلام إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم .. سواء منها ما عاصر مجيء الإسلام ، أو ما تخوض البشرية فيه الآن ، في الشرق أو في الغرب سواء .. إنما جاء هذا كله إلغاءً ، وينسخه نسخاً ، ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة . جاء لينشئ الحياة إنشاءً . لينشئ حياة تنبثق منه انبثاقاً ، وترتبط بمحوره ارتباطاً . وقد تشابه جزئيات منه جزئيات في الحياة التي يعيشها الناس في الجاهلية . ولكنها ليست هي ، وليست منها . إنما هي مجرد مصادفة هذا التشابه الظاهري الجانبي في الفروع . أما أصل الشجرة فهو مختلف تماماً . تلك شجرة تطلعها حكمة الله ، وهذه شجرة تطلعها أهواء البشر :
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً * .. [ الأعراف : 58 ]
وهذه الجاهلية خبثت قديماً وخبثت حديثاً .. يختلف خبثها في مظهره وشكله ، ولكنه واحد في مغرسه وأصله .. إنه هوى البشر الجهال المغرضين ، الذين لا يملكون التخلص من جهلهم وغرضهم ، ومصلحة أفراد منهم أو طبقات أو أمم أو أجناس يغلبونها على العدل والحق والخير . حتى تجيء شريعة الله فتنسخ هذا كله ، وتشرِّع للناس جميعاً تشريعاً لا يشوبه جهل البشر ، ولا يلوِّثه هواهم ، ولا تميل به مصلحة فريق منهم .
ولأن هذا هو الفارق الأَصيل بين طبيعة منهج الله ومناهج الناس ، فإنه يستحيل الالتقاء بينهما في نظام واحد ، ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد . ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هنا ونصفه من هناك . وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به . فكذلك هو لا يقبل منهجاً مع منهجه .. هذه كتلك سواء بسواء . لأن هذه هي تلك على وجه اليقين .
هذه الحقيقة ينبغي أن تكون من القوة والوضوح في نفوسنا ونحن نقدم الإسلام للناس بحيث لا نتلجلج في الإدلاء بها ولا نتلعثم ، ولا ندع الناس في شك منها ، ولا نتركهم حتى يستيقنوا أن الإسلام حين يفيئون إليه سيبدِّل حياتهم تبديلاً ..
سيبدل تصوراتهم عن الحياة كلها . كما سيبدل أوضاعهم كذلك . سيبدلها ليعطيهم خيراً منها بما لا يقاس . سيبدلها ليرفع تصوراتهم ويرفع أوضاعهم ، ويجعلهم أقرب إلى المستوى الكريم اللائق بحياة الإنسان . ولن يبقى لهم شيئاً من أوضاع الجاهلية الهابطة التي هم فيها ، اللهم إلا الجزيئات التي يتصادف أن يكون لها من جزئيات النظام الإسلامي شبيه . وحتى هذه لن تكون هي بعينها ، لأنها ستكون مشدودة إلى أصل كبير يختلف اختلافاً بيِّناً عن الأصل الذي هم مشدودون إليه الآن : أصل الجاهلية النكد الخبيث !
وهو في الوقت ذاته لن يسلبهم شيئاً من المعرفة " العلمية البحتة " بل سيدفعها قوية إلى الأمام ..
يجب ألاَّ ندع الناس حتى يدركوا أن الإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجتماعية الوضعية ، كما أنه ليس أي نظام من أنظمة الحكم الوضعية .. بشتى أسمائها وشياتها وراياتها جميعاً .. وإنما هو الإسلام فقط ! الإسلام بشخصيته المستقلة وتصوره المستقل ، وأوضاعه المستقلة . الإسلام الذي يحقق للبشرية خيراً مما تحلم به كله من وراء هذه الأوضاع . الإٍسلام الرفيع النظيف المتناسق الجميل الصادر مباشرة من الله العلي الكبير .
وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو ، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام ، في ثقة وقوة ، وفي عطف كذلك ورحمة .. ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق وأن ما عليه الناس هو الباطل . وعطف الذي يرى شقوة البشر ، وهو يعرف كيف يسعدهم . ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى !
لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً . ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة .. سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة ..(1/51)
هذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس والله يريد أن يطهركم .. هذه الأوضاع التي أنتم فهيا خبث ، والله يريد أن يطيِّبكم .. هذه الحياة التي تحيونها دون ، والله يريد أن يرفعكم .. هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد ، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم .. والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم ، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة التي تعيشونها ، وإلى أوضاع أخرى تحتقرون معها أوضاعكم في مشارق الأرض ومغاربها ، وإلى قيم أخرى تشمئزون معها من قيمكم السائدة في الأرض جميعاً .. وإذا كنتم أنتم - لشقوتكم - لم تروا صورة واقعية للحياة الإسلامية ، لأن أعداءكم - أعداء هذا الدين - يتكتلون للحيلولة دون قيام هذه الحياة ، ودون تجسد هذه الصورة ، فنحن قد رأيناها - والحمد لله ممثلة في ضمائرنا من خلال قرآننا وشريعتنا وتاريخنا وتصورنا المبدع للمستقبل الذي لا نشك في مجيئه !
هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام . لأن هذه هي الحقيقة ، ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة . سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم . أم في أي مكان خاطب الناس فيه .
نظر إليهم من عل ، لأن هذه هي الحقيقة . وخاطبهم بلغة الحب والعطف لأنها حقيقة كذلك في طبيعته . وفاصلهم مفاصلة كاملة لا غموض فيها ولا تردد لأن هذه هي طريقته .. ولم يقل لهم أبداً : إنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة !
أو أنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها .. كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام .. مرة تحت عنوان : " ديمقراطية الإسلام " ! ومرة تحت عنوان " اشتراكية الإسلام " !
ومرة بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا لتعديلات طفيفة !!! إلى آخر هذا التدسس الناعم والتربيت على الشهوات !
كلا . إن الأمر مختلف جداً . والانتقال من هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض إلى الإسلام نقلة واسعة بعيدة ، وصورة الحياة الإسلامية مغايرة تماماً لصور الحياة الجاهلية قديماً وحديثاً . وهذه الشقوة التي تعانيها البشرية لن يرفعها عنها تغييرات طفيفة في جزئيات النظم والأوضاع . ولن ينجي البشر منها إلا تلك النقلة الواسعة البعيدة . النقلة من مناهج الخلق إلى منهج الخالق ، ومن نظم البشر إلى نظام رب البشر ، ومن أحكام العبيد إلى حكم رب العبيد .
هذه حقيقة . وحقيقة مثلها أن نجهر بها ونصدع ، وألا ندع الناس في شك منها ولا لبس .
وقد يكره الناس هذا في أول الأمر ، وقد يجفلون منه ويشفقون . ولكن الناس كذلك كرهوا مثل هذا وأشفقوا منه في أول العهد بالدعوة إلى الإسلام . أجفلوا وآذاهم أن يحقر محمد - صلى الله عليه وسلم - تصوراتهم ، ويعيب آلهتهم ، وينكر أوضاعهم ، ويعتزل عاداتهم وتقاليدهم ، ويتخذ لنفسه وللقلة المؤمنة معه أوضاعاً وقيماً وتقاليد غير أوضاع الجاهلية وقيمها وتقاليدها .
ثم ماذا ؟ ثم فاؤوا إلى الحق الذي لم يعجبهم أول مرة ، والذي أجفلوا منه :
{ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * .. [ المدثر : 50 – 51 ]
والذي حاربوه ودافعوه بكل ما يملكون من قوة وحيلة ، والذي عذبوا أهله عذاباً شديداً وهم ضعاف في مكة ، ثم قاتلوهم قتالاً عنيداً وهم أقوياء في المدينة ..
ولم تكن الدعوة في أول عهدها في وضع أقوى ولا أفضل منها الآن .. كانت مجهولة مستنكرة من الجاهلية ، وكانت محصورة في شعاب مكة ، مطاردة من أصحاب الجاه والسلطان فيها ، وكانت غريبة في زمانها في العالم كله . وكانت تحف بها امبراطوريات ضخمة عاتية تنكر كل مبادئها وأهدافها . ولكنها مع هذا كله كانت قوية ، كما هي اليوم قوية ، وكما هي غداً قوية .. إن عناصر القوة الحقيقية كامنة في طبيعة هذه العقيدة ذاتها ، ومن ثَمَّ فهي تملك أن تعمل في أسوأ الظروف وأشدها حرجاً . إنها تكمن في الحق البسيط الوضاح الذي نقوم عليه . وفي تناسقها مع الفطرة التي لا تملك أن تقاوم سلطانها طويلاً ، وفي قدرتها على قيادة البشرية صعداً في طريق التقدم ، في أية مرحلة كانت البشرية من التأخر أو التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والعقلي .. كما أنها تكمن في صراحتها هذه وهي تواجه الجاهلية بكل قواها المادية فلا تخرم حرفاً واحداً من أصولها ، ولا تربت على شهوات الجاهلية ، ولا تتدسس إليها تدسساً . إنما تصدع بالحق صدعاً مع إشعار الناس بأنها خير ورحمة وبركة ..
والله الذي خلق البشر يعلم طبيعة تكوينهم ومداخل قلوبهم ويعلم كيف تستجيب حين تصدع بالحق صدعاً . في صراحة وقوة . بلا تلعثم ولا وصوصة !
إن النفس البشرية فيها الاستعداد للانتقال الكامل من حياة إلى حياة . وذلك قد يكون أيسر عليها من التعديلات الجزئية في أحيان كثيرة ..(1/52)
والانتقال الكامل من نظام حياة إلى نظام آخر أعلى منه وأكمل وأنظف ، انتقال له ما يبرره في منطق الننفس .. ولكن ما الذي يبرر الانتقال من نظام الجاهلية إلى نظام الإسلام ، إذا كان النظام الإسلامي لا يزيد إلا تغييراً طفيفاً هنا ، وتعديلاً طفيفاً هناك ؟ إن البقاء على النظام المألوف أقرب إلى المنطق . لأنه على الأقل نظام قائم ، قابل للإصلاح والتعديل ، فلا ضرورة لطرحه ، والانتقال إلى نظام غير قائم ولا مطبق ، مادام أنه شبيه به في معظم خصائصه !
كذلك نجد بعض الذين يتحدثون عن الإسلام يقدمونه للناس كأنه منهم يحاولون هم دفع التهمة عنه ! ومن بين ما يدفعون به أن الأنظمة الحاضرة تفعل كذا وكذا مما تعيب على الإسلام مثله ، وأن الإسلام لم يصنع شيئاً - في هذه الأمور - إلا ما تصنعه " الحضارات " الحديثة بعد ألف وأربعمئة عام !
وهان ذلك دفاعاً ! وساء ذلك دفاعاً !
إن الإسلام لا يتخذ المبررات له من النظم الجاهلية والتصرفات النكدة التي نبعث منها . وهذه " الحضارات " التي تبهر الكثيرين وتهزم أرواحهم ليست سوى نظم جاهلية في صميمها . وهي نظم معيبة مهلهلة هابطة حين تقاس إلى الإسلام .. ولا عبرة بأن حال أهلها بخير من حال السكان في ما يسمى الوطن الإسلامي أو " العالم الإسلامي " ! فهؤلاء صاروا إلى هذا البؤس بتركهم للإسلام لا لأنهم مسلمون .. وحجة الإسلام التي يدلى بها للناس : إنه خير منها بما لا يقاس ، وإنه جاء ليغيّرها لا ليقرّها ، وليرفع البشرية عن وهدتها لا ليبارك تمرغها في هذا الوحل الذي يبدو في ثوب " الحضارة " ..
فلا تبلغ بنا الهزيمة أن نتلمس للإسلام مشابهات في بعض الأنظمة القائمة ، وفي بعض المذاهب القائمة ، وفي بعض الأفكار القائمة . فنحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق أو في الغرب سواء .. إننا نرفضها كلها لأنها منحطة ومتخلفة بالقياس إلى ما يريد الإسلام أن يبلغ بالبشرية إليه .
وحين نخاطب الناس بهذه الحقيقة ، ونقدم لهم القاعدة العقيدية للتصور الإسلامي الشامل ، يكون لديهم في أعماق فطرتهم ما يبرر الانتقال من تصور إلى تصور ، ومن وضع إلى وضع . ولكننا لا نخاطبهم بحجة مقنعة حين نقول لهم : تعالوا من نظام قائم فعلاً إلى نظام آخر غير مطبق ، لا يغير في نظامكم القائم إلا قليلاً . وحجته إليكم أنكم تفعلون في هذا الأمر وذاك مثلما يفعل هو ، ولا يكلفكم إلا تغيير القليل من عاداتكم وأوضاعكم وشهواتكم ، وسيبقى لكم كل ما تحرصون عليه منها ولا يمسه مساً خفيفاً !!
هذا الذي يبدو سهلاً في ظاهره ، ليس مغرياً في طبيعته ، فضلاً على أنه ليس هو الحقيقة .. فالحقيقة أن الإسلام يبدل التصورات والمشاعر ، كما يبدل النظم والأوضاع ، كما يبدل الشرائع والقوانين تبديلاً أساسياً لا يمت بصلة إلى قاعدة الحياة الجاهلية ، التي تحياها البشرية .. ويكفي أنه ينقلهم جملة وتفصيلاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ..
{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ * ..
{ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * ..
والمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان ، مسألة شرك وتوحيد ، مسألة جاهلية وإسلام . وهذا ما ينبغي أن يكون واضحاً .. إن الناس ليسوا مسلمين - كما يدّعون - وهم يحيون حياة الجاهلية . وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين ، فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك . ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئاً .. ليس هذا إسلاماً ، وليس هؤلاء مسلمين . والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام ، ولتجعل منهم مسلمين من جديد .
ونحن لا ندعو الناس إلى الإسلام لننال منهم أجراً . ولا نريد علوّاً في الأرض ولا فساداً . ولا نريد شيئاً خاصاً لأنفسنا إطلاقاً ، وحسابنا وأجرنا ليس على الناس . إنما نحن ندعو الناس إلى الإسلام لأننا نحبهم ونريد لهم الخير .. مهما آذونا .. لأن هذه هي طبيعة الداعية إلى الإسلام ، وهذه هي دوافعه .. ومن ثَمَّ يجب أن يعلموا منا حقيقة الإسلام ، وحقيقة التكاليف التي سيطلبها إليهم ، في مقابل الخير العميق الذي يحمله لهم . كما يجب أن يعرفوا رأينا في حقيقة ما هم عليه من الجاهلية .. إنها الجاهلية وليست في شيء من الإسلام ، إنها " الهوى " ما دام أنها ليست هي " الشريعة " . إنها " الضلال " ما دام أنها ليست هي الحق .. فماذا بعد الحق إلا الضلال !
وليس في إسلامنا ما نخجل منه ، وما نضطر للدفاع عنه ، وليس فيه ما نتدسس به للناس تدسساً ، أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته .. إن الهزيمة الروحية أمام الغرب وأمام الشرق وأمام أوضاع الجاهلية هنا وهناك هي التي تجعل بعض الناس .. " المسلمين " .. يتلمس للإسلام موافقات جزئية من النظم البشرية ، أو يتلمس من أعمال " الحضارة " الجاهلية ما يسند به أعمال الإسلام وقضاءه في بعض الأمور ..(1/53)
إنه إذا كان هناك من يحتاج للدفاع والتبرير والاعتذار فليس هو الذي يقدم الإسلام للناس . وإنما هو ذاك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات وبالنقائض والعيوب ، ويريد أن يتلمس المبررات للجاهلية . وهؤلاء هم الذين يهاجمون الإسلام ويلجئون بعض محبيه الذين يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه ، كأنه متهم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص الاتهام !
بعض هؤلاء كانوا يواجهوننا - نحن القلائل المنتسبين إلى الإسلام - في أمريكا في السنوات التي قضيتها هناك - وكان بعضنا يتخذ موقف الدفاع والتبرير .. وكنت على العكس أتخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية .. سواء في معتقداتها الدينية المهلهلة . أو في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المؤذية .. هذه التصورات عن الأقانيم وعن الخطيئة وعن الفداء ، وهي لا تستقيم في عقل ولا ضمير .. وهذه الرأسمالية باحتكارها ورباها وما فيها من بشاعة كالحة .. وهذه الفردية الأثرة التي ينعدم معها التكافل إلا تحت مطارق القانون .. وهذا التصور المادي التافه الجاف للحياة .. وحرية البهائم التي يسمونها " حرية الاختلاط " .. وسوق الرقيق التي يسمونها " حرية المرأة " .. والسخف والحرج والتكلف المضاد لواقع الحياة في نظم الزواج والطلاق ، والتفريق العنصري الحادّ الخبيث .. ثم .. ما في الإسلام من منطق وسمو وإنسانية وبشاشة ، وتطلع إلى آفاق تطلع البشرية دونها ولا تبلغها . ومن مواجهة الواقع في الوقت ذاته ومعالجته معالجة تقوم على قواعد الفطرة الإنسانية السليمة .
وكانت هذه حقائق نواجهها في واقع الحياة الغربية .. وهي حقائق كانت تخجل أصاحبها حين تعرض في ضوء الإسلام ..
ولكن ناساً - يدّعون الإسلام - ينهزمون أمام ذلك النتن الذي تعيش فيه الجاهلية ، حتى ليتلمسون للإسلام مشابهات في هذا الركاب المضطرب البائس في الغرب . وفي تلك الشناعة المادية البشعة في الشرق أيضاً !
ولست في حاجة بعد هذا إلى أن أقول : إننا نحن الذين نقدم الإسلام للناس ، ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها ، ولا في شئ من أوضاعها ، ولا في شئ من تقاليدها . مهما يشتد ضغطها علينا .
إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية في مكان هذه الجاهلية . ولن يتحقق هذا بمجاراة الجاهلية والسير معها خطوات في أول الطريق ، كما قد يخيل إلى البعض منا .. إن هذا معناه إعلان الهزيمة منذ أول الطريق ..
إن ضغط التصورات الاجتماعية السائدة ، والتقاليد الاجتماعية الشائعة ، ضغط ساحق عنيف ، وبخاصة في دنيا المرأة . ولكن لا بد مما ليس منه بد . لا بد أن نثبت أولاً ، ولا بد أن نستعلي ثانياً ، ولا بد أن نُرى الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرفة للحياة الإسلامية التي نريدها .
ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات ، كما أنه لن يكون بأن نقاطعها الآن وننزوي عنها وننعزل .. كلا ، إنما هي المخالطة مع التميز ، والأخذ والعطاء مع الترفع ، والصدع بالحق في مودة ، والاستعلاء بالإيمان في تواضع . والامتلاء بعد هذا كله بالحقيقة الواقعة . وهي أننا نعيش في وسط جاهلية ، وأننا أهدى طريقاً من هذه الجاهلية ، وإنها نقلة بعيدة واسعة ، هذه النقلة من الجاهلية إلى الإسلام ، وإنها هوة فاصلة لا يقام فوقها معبر للالتقاء في منتصف الطريق ، ولكن لينتقل عليه أهل الجاهلية إلى الإسلام ، سواء كانوا ممن يعيشون فيما يسمى الوطن الإسلامي ، ويزعمون أنهم مسلمون ، أو كانوا يعيشون في غير الوطن " الإسلامي " ، وليخرجوا من الظلمات إلى النور ، ولينجوا من هذه الشقوة التي هم فيها ، وينعموا بالخير الذي ذقناه نحن الذين عرفنا الإسلام وحاولنا أن نعيش به .. وإلا فلنقل ما أمر الله سبحانه الرسول صلى الله عليه وسَلم أن يقوله :
{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ * ... [ الكافرون : 6 ]
اسْتِعْلاءُ الإِيمَان
{ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * .. [ آل عمران : 6 ]
أول ما يتبادر إلى الذهن من هذا التوجيه أنه ينصب على حالة الجهاد الممثلة في القتال .. ولكن حقيقة هذا التوجيه ومداه أكبر وأبعد من هذه الحالة المفردة ، بكل ملابساتها الكثيرة .
إنه يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص سواء .
إنه يمثل حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل شيء ، وكل وضع ، وكل قيمة ، وكل أحد ، الاستعلاء بالإيمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإيمان .
الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان . وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان . وعلى تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان ، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان ، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان .
الاستعلاء .. مع ضعف القوة ، وقلة العدد ، وفقر المال ، كالاستعلاء مع القوة والكثرة والغنى على السواء .(1/54)
الاستعلاء الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية ، ولا عرف اجتماعي ولا تشريع باطل ، ولا وضع مقبول عند الناس ولا سند له من الإيمان .
وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إلا حالة واحدة من حالات الاستعلاء التي يشملها هذا التوجيه الإلهي العظيم .
والاستعلاء بالإيمان ليس مجرد عزمة مفردة ، ولا نخوة دافعة ، ولا حماسة فائرة ، إنما هو الاستعلاء القائم على الحق الثابت المركوز في طبيعة الوجود . الحق الباقي وراء منطق القوة ، وتصور البيئة ، واصطلاح المجتمع ، وتعارف الناس ، لأنه موصول بالله الحي الذي لا يموت .
إن للمجتمع منطقه السائد وعرفه العام وضغطه الساحق ووزنه الثقيل .. على من ليس يحتمي منه بركن ركين ، وعلى من يواجهه بلا سند متين .. . وللتصورات السائدة والأفكار الشائعة إيحاؤهما الذي يصعب التخلص منه بغير الاستقرار على حقيقة تصغر في ظلها تلك التصورات والأفكار ، والاستمداد من مصدر أعلى من مصدرها وأكبر وأقوى .
والذي يقف في وجه المجتمع ، ومنطقه السائد ، وعرفه العام ، وقيمه واعتباراته ، وأفكاره وتصوراته ، وانحرافاته ونزواته .. يشعر بالغربة كما يشعر بالوهن ، ما لم يكن يستند إلى سند أقوى من الناس ، وأثبت من الأرض ، وأكرم من الحياة .
والله لا يترك المؤمن وحيداً يواجه الضغط ، وينوء به الثقل ، ويهدّه الوهن والحزن ، ومن ثم يجيء هذا التوجيه :
{ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * . [ آل عمران : 139 ]
يجيء هذا التوجيه . ليواجه الوهن كما يواجه الحزن . هما الشعوران المباشران اللذان يساوران النفس في هذا المقام .. يواجههما بالاستعلاء لا بمجرد الصبر والثبات ، والاستعلاء الذي ينظر من عل إلى القوى الطاغية ، والقيم السائدة ، والتصورات الشائعة ، والاعتبارات والأوضاع والتقاليد والعادات ، والجماهير المتجمعة على الضلال .
إن المؤمن هو الأعلى .. الأعلى سنداً ومصدراً .. فما تكون الأرض كلها ؟ وما يكون الناس ؟ وما تكون القيم السائدة في الأرض ؟ والاعتبارات الشائعة عند الناس ؟ وهو من الله يتلقى ، وإلى الله يرجع ، وعلى منهجه يسير ؟
وهو الأعلى إدراكاً وتصوراً لحقيقة الوجود .. فالإيمان بالله الواحد في هذه الصورة التي جاء بها الإسلام هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى . وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب ، سواء ما جاءت به الفلسفات الكبرى قديماً وحديثاً ، وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة ، وما اعتفسته المذاهب المادية الكالحة .. حين تقاس هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة ، إلى ذلك الركام وهذه التعسفات ، تتجلى عظمة العقيدة الإسلامية كما لم تتجل قط . وما من شك ان الذين يعرفون هذه المعرفة هم الأعلون على كل من هناك .
وهو الأعلى تصوراً للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والأحداث والأشياء والأشخاص . فالعقيدة المنبثقة عن المعرفة بالله ، بصفاته كما جاء بها الإسلام ، ومن المعرفة بحقائق القيم في الوجود الكبير لا في ميدان الأرض الصغير . هذه العقيدة من شأنها أن تمنح المؤمن تصوراً للقيم أعلى وأضبط من تلك الموازين المختلفة في أيدي البشر ، الذين لا يدركون إلا ما تحت أقدامهم . ولا يثبتون على ميزان واحد في الجيل الواحد . بل في الأمة الواحدة . بل في النفس الواحدة من حين إلى حين .
وهو الأعلى ضميراً وشعوراً ، وخلقاً وسلوكاً .. فإن عقيدته في الله ذي الأسماء الحسنى والصفات المثلى ، هي بذاتها موحية بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى ، والعمل الصالح والخلافة الراشدة . فضلاً على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة . الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها جميعاً . ويطمئن إليه ضمير المؤمن ، ولو خرج من الدنيا بغير نصيب .
وهو الأعلى شريعة ونظاماً . وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديماً وحديثاً ، ويقيسه إلى شريعته ونظامه ، فسيراه كله أشبه شيء بمحاولات الأطفال وخبط العميان ، إلى جانب الشريعة الناضجة والنظام الكامل . وسينظر إلى البشرية الضالة من عل في عطف وإشفاق على بؤسها وشقوتها ، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء على الشقوة والضلال .
وهكذا كان المسلمون الأوائل يقفون أمام المظاهر الجوفاء ، والقوى المتنفجة ، والاعتبارات التي كانت تتعبد الناس في الجاهلية .. والجاهلية ليست فترة من الزمان ، إنما هي حالة من الحالات تتكرر كلما انحرف المجتمع عن نهج الإسلام ، في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء ..
وهكذا وقف المغيرة ابن شعبة أمام صور الجاهلية وأوضاعها وقيمها وتصوراتها في معسكر رستم قائد الفرس المشهور :(1/55)
" عن أبي عثمان النهدي قال : لما جاء المغيرة إلى القنطرة ، فعبرها إلى أهل فارس أجلسوه ، واستأذنوا رستم في إجازته ، ولم يغيروا شيئاً من شارتهم تقوية لتهاونهم ، فأقبل المغيرة ابن شعبة والقوم في زيهم ، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب ، وبسطهم على غلوة ( والغلوة مسافة رمية سهم وتقدر بثلاثمائة أو أربعمائة خطوة ) لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليها غلوة ، وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى يجلس على سريره ووسادته ، فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه ( ) ، فقال : كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ولا أرى قوماً أسفه منكم ، إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضاً ، إلا أن يكون محارباً لصاحبه ؛ فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى . وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض ، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ، فلا تصنعه ، ولم آتكم ولكن دعوتموني . اليوم علمت أن أمركم مضمحل ، وأنكم مغلوبون ، وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول " .
كذلك وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية :
" أرسل سعد بن أبي وقاص قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم ، قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير ( ) ، وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة العظيمة ، وعليه تاجه ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب . ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة . ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد . وأقبل وعليه سلاحه وبيضته على رأسه . فقالوا له : ضع سلاحك فقال : إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق لخرق عامتها . فقال له رستم : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
وتتبدل الأحوال ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية ، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى . وينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمناً . ويستيقن أنها فترة وتمضي ، وإن للإيمان كرة لا مفر منها . وهبها كانت القاضية فإنه لا يحني لها رأساً . إن الناس كلهم يموتون أما هو فيستشهد . وهو يغادر هذه الأرض إلى الجنة ، وغالبه يغادرها إلى النار . وشتان شتان . وهو يسمع نداء ربه الكريم :
{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ، لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ * … [ آل عمران : 196 - 198 ]
وتسود المجتمع عقائد وتصورات وقيم وأوضاع كلها مغاير لعقيدته وتصوره وقيمه وموازينه ، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى ، وبأن هؤلاء كلهم في الموقف الدون . وينظر إليهم من عل في كرامة واعتزاز ، وفي رحمة كذلك وعطف ، ورغبة في هدايتهم إلى الخير الذي معه ، ورفعهم إلى الأفق الذي يعيش فيه .
ويضج الباطل ويصخب ، ويرفع صوته وينفش ريشه ، وتحيط به الهالات المصطنعة التي تغشي على الأبصار والبصائر ، فلا ترى ما وراء الهالات من قبح شائه دميم ، وفجر كالح لئيم .. وينظر المؤمن من عل إلى الباطل المنتفش ، وإلى الجموع المخدوعة ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا ينقص إصراره على الحق الذي معه ، وثباته على المنهج الذي يتبعه ، ولا تضعف رغبته كذلك في هداية الضالين والمخدوعين .
ويغرق المجتمع في شهواته الهابطة ، ويمضي مع نزواته الخليعة ، ويلصق بالوحل والطين ، حاسباً أنه يستمتع وينطلق من الأغلال والقيود . وتعز في مثل هذا المجتمع كل متعة بريئة وكل طيبة حلال ، ولا يبقى إلا المشروع الآسن ، وإلا الوحل والطين .. وينظر المؤمن من عل إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين . وهو مفرد وحيد ، فلا يهن ولا يحزن ، ولا تراوده نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر ، وينغمس في الحمأة ، وهو الأعلى بمتعة الإيمان ولذة اليقين .
ويقف المؤمن قابضاً على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع الشارد عن الدين ، وعن الفضيلة ، وعن القيم العليا ، وعن الاهتمامات النبيلة ، وعن كل ما هو طاهر نظيف جميل .. ويقف الآخرون هازئين بوقفته ، ساخرين من تصوراته ، ضاحكين من قيمه .. فما يهن المؤمن وهو ينظر من عل إلى الساخرين والهازئين والضاحكين ، وهو يقول كما قال واحد من الرهط الكرام الذين سبقوه في موكب الإيمان العريق الوضيء ، في الطريق اللاحب الطويل .. نوح عليه السلام ..
{ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * ... [ هود : 38 ]
وهو يرى نهاية الموكب الوضيء ، ونهاية القافلة البائسة في قوله تعالى :(1/56)
{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ، وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * .. ؟ [ المطففين : 29 - 36 ]
وقديماً قص القرآن الكريم قول الكافرين للمؤمنين :
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً * .. [ مريم : 73 ]
أي الفريقين ؟ الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد ؟ أم الفقراء الذين يلتفون حوله ؟ أي الفريقين ؟ النضر بن الحارث ، وعمرو بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، وأبو سفيان بن حرب ؟ أم بلال وعمار وصهيب وخباب ؟ أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيراً أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر ، الذين لا سلطان لهم في قريش ولا خطر ، وهم يجتمعون في بيت متواضع كدار الأرقم ، ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب الندوة الفخمة الضخمة ، والمجد والجاه والسلطان ؟!
إنه منطق الأرض ، منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان . وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء عاطلة من عوامل الإغراء ، لا قربى من حاكم ، ولا اعتزاز بسلطان ، ولا هتاف بلذة ، ولا دغدغة لغريزة . وإنما هو الجهد والمشقة والجهاد والاستشهاد .. ليقبل عليها من يقبل ، وهو على يقين من نفسه أنه يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس ، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ، ولينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع ، ومن يشتهي الزينة والابهة ، ومن يطلب المال والمتاع ، ومن يقيم لاعتبارات الناس وزناً حين تخف في ميزان الله .
إن المؤمن لا يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من الناس حتى يأسى على تقدير الناس ، إنما يستمدها من رب الناس وهو حسبه وكافيه .. إنه لا يستمدها من شهوات الخلق حتى يتأرجح مع شهوات الخلق ، إنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي لا يتأرجح ولا يميل .. إنه لا يتلقاها من هذا العالم الفاني المحدود ، وإنما تنبثق في ضميره من ينابيع الوجود .. فأنّى يجد في نفسه وهناً أو يجد في قلبه حزناً ، وهو موصول برب الناس وميزان الحق وينابيع الوجود ؟
إنه على الحق .. فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وليكن للضلال سلطانه ، وليكن له هيله وهيلمانه ، ولتكن معه جموعه وجماهيره .. إن هذا لا يغير من الحق شيئاً ، إنه على الحق وليس بعد الحق إلا الضلال ، ولن يختار مؤمن الضلال على الحق - وهو مؤمن - ولن يعدل بالحق الضلال كائنة ما كانت الملابسات والأحوال ..
{ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ، رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ * . [ آل عمران : 8 - 9 ]
================
دروس من الهجرة النبوية
يقول الشيخ عبد الرحمن السديس إمام الحرم :(1)
عباد الله، تعيش الأمة الإسلامية هذه الأيام إشراقة سنة هجرية جديدة، وإطلالة عام مبارك بإذن الله، بعد أن أَفَلَت شمس عام كامل، مضى بأفراحه وأتراحه، فقوِّضت خيامه، وتصرّمت أيامه، فالله المستعان عباد الله، ما أسرع مرور الليالي والأيام، وتصرّم الشهور والأعوام، لكن الموفَّق الملهم من أخذ من ذلك دروسا وعبرا، واستفاد منه مدَّكراًً ومزدجراً، وتزود من المَمَرِّ للمقر، فإلى الله سبحانه المرجع والمستقر، والكيس المُسَدَّد من حاذر الغفلة عن الدار الآخرة حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرة، فيكون بعد ذلك عظة وعبرة، والله نسأل أن يجعل من هذا العام نصرة للإسلام والمسلمين، وصلاحا لأحوالهم في كل مكان، وأن يعيده على الأمة الإسلامية بالخير والنصر والتمكين إنه جواد كريم.
إخوة الإسلام، حديث المناسبة في مطلع كل عام هجري ما سطّره تأريخنا الإسلامي المجيد من أحداث عظيمة، ووقائع جسيمة، لها مكانتها الإسلامية، ولها آثارها البليغة في عزِّ هذه الأمة وقوتها وصلاح شريعتها لكل زمان ومكان، وسعيها في تحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد.
معاشر المسلمين، ما أجمل أن نشير إشارات عابرة لعدد من القضايا المهمة الجديرة بالإشادة والتذكير ونحن في بداية هذا العام الجديد، علها تكون سببا في شحذ الهمم واستنهاض العزمات للتمسك الجاد بكتاب الله وسنة رسوله ، وحاملة على الاتعاظ والاعتبار، ووقفاتِ المحاسبة الدقيقة، ونظرات المراجعة المستديمةِ في الأمة تجديدا في المواقف وإصلاحا في المناهج وتقويما للمسيرة في كافة جوانبها.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2333)(1/57)
إخوة العقيدة، وأول هذه الإشارات مع حدث الساعة وحديثها، الحدث الذي غير مجرى التأريخ، الحدث الذي يحمل في طياته معاني الشجاعة والتضحية والإباء، والصبر والنصر والفداء، والتوكل والقوة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، إنه حدث الهجرة النبوية الذي جعله الله سبحانه طريقا للنصر والعزة، ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته، وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يشع في جميع أرجاء المعمورة لو بقي حبيسا في مهده، ولله الحكمة البالغة في شرعه وكونه وخلقه.
إن في هذا الحدث العظيم من الآيات البينات والآثار النيرات والدروس والعبر البالغات ما لو استلهمته أمة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطرق لتحقق لها عزها وقوتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنه لا حل لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلا بالتمسك بإسلامها والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فوَالذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين، ولا نال المسلمون العزة والكرامة والنصر والتمكين إلا لما خضعوا لرب العالمين، وهيهات أن يحل أمن ورخاء وسلام إلا باتباع نهج الأنبياء والمرسلين. إذا تحقق ذلك أيها المسلمون، وتذكرت الأمة هذه الحقائق الناصعة وعملت على تحقيقها في واقع حياتها كانت هي السلاح الفاعل الذي تقاتل به والدرع الحصين الذي تتقي به في وجه الهجمات الكاسحة والصراع العالمي العنيف، فالقوة لله جميعا، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
أمة التوحيد والوحدة، لقد أكدت دروس الهجرة النبوية أن عزة الأمة تكمن في تحقيق كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأن أي تفريط في أمر العقيدة أو تقصير في أخوة الدين مآله ضعف الأفراد وتفكك المجتمع وهزيمة الأمة، وإن المتأمل في هزائم الأمم وانتكاسات الشعوب عبر التأريخ يجد أن مردّ ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة والتساهل في جانب الثوابت المعنوية مهما تقدمت الوسائل المادية، وقوة الإيمان تفعل الأعاجيب وتجعل المؤمن صادقا في الثقة بالله والاطمئنان إليه والاتكال عليه، لا سيما في الشدائد، ينظر أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار فيقول: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فيجيبه جواب الواثق بنصر الله: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما))(1)[1]. الله أكبر، ما أعظم لطف الله بعباده ونصره لأوليائه، وفي هذا درس بليغ لدعاة الحق وأهل الإصلاح في الأمة أنه مهما احلولكت الظلمات فوعد الله آت لا محالة، حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110].
أمة الإسلام، ودرس آخر من دروس الهجرة النبوية يتجلى في أن عقيدة التوحيد هي الرابطة التي تتضاءل أمامها الانتماءات القومية والتمايزات القبلية والعلاقات الحزبية، واستحقاق الأمة للتبجيل والتكريم مدين بولائها لعقيدتها وارتباطها بمبادئها، يقال ذلك ـ أيها المسلمون ـ وفي الأمة في أعقاب الزمن منهزمون كُثر أمام تيارات إلحادية وافدة ومبادئ عصرية زائفة ترفع شعارات مصطنعة وتطلق نداءات خادعة، لم يجنِ أهلها من ورائها إلا الذلّ والصغار، والمهانة والتبار، والشقاء والبوار، فأهواء في الاعتقاد، ومذاهب في السياسة، ومشارب في الاجتماع والاقتصاد، كانت نتيجتها التخلف المهين والتمزق المشين، وفي خضم هذا الواقع المزري يحق لنا أن نتساءل بحرقة وأسى: أين دروس الهجرة في التوحيد والوحدة؟! أين أخوة المهاجرين والأنصار مِن شعارات حقوق الإنسان المعاصرة ومدنيته الزائفة؟! فقولوا لي بربكم، أي نظام راعى حقوق الإنسان وكرمه أحسن تكريم وكفل حقوقه كهذا الدين القويم؟! فلتصخ منظمات حقوق الإنسان العالمية إلى هذه الحقائق، وتطَّرِح الشائعات المغرضة عن الإسلام وأهل الإسلام وبلاد الإسلام إن أرادت توخي الصدق والموضوعية.
إن هذه الإلماحة إلى درس الهجرة في التضحية والبذل والفداء ومراعاة كرامة الإنسان والحفاظ على حريته وحقوقه يجر ـ يا رعاكم الله ـ إلى تذكر أحوال إخواننا في العقيدة في بقاع شتى من العالم، حيث حلت بهم مصائب وبلايا، ونكبات ورزايا، سائلوا أرض النبوات ومهد الحضارات ومنطلق الرسالات وبلاد المعجزات فلسطين المجاهدة: ماذا تعاني من صلفٍ يهوديٍّ سافر ومن حقد صهيونيٍّ أرعن؟! سائلوا الشيشان وكشمير وغيرها عن الأوضاع المأساوية علَّ دروس الهجرة النبوية تحرِّك نخوة وتشحذ همة وتستنهض عزما، وما ذلك على الله بعزيز.(1/58)
إخوة الإيمان، وفي مجال تربية الشباب والمرأة وميدان البيت والأسرة يبرز الأثر العظيم في حدث الهجرة المصطفوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، ففي موقف عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما في خدمة ونصرة صاحب الهجرة عليه الصلاة والسلام ـ بأبي هو وأمي ـ ما يجلِّي أثر الشباب في الدعوة ودورهم في الأمة ونصرة الدين والملة، أين هذا مما ينادي به بعض المحسوبين على فكر الأمة وثقافتها من تخدير الشباب بالشهوات وجعلهم فريسة لمهازل القنوات وشبكات المعلومات في الوقت الذي يعدُّون فيه للاضطلاع بأغلى المهمات في الحفاظ على الدين والقيم، والثبات على الأخلاق والمبادئ أمام المتغيرات المتسارعة ودعاوَى العولمة المفضوحة؟!
أيها الإخوة والأخوات، وفي موقف أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ورضي الله عن آل أبي بكر وأرضاهم ما يجلِّي دور المرأة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها، فأين هذا من دعاة المدنية المأفونة الذين أجلبوا على المرأة بخيلهم ورجلهم زاعمين زوراً وبهتانا أن تمسك المرأة بثوابتها وقيمها واعتزازها بحجابها وعفافها تقييد لحريتها وفقد لشخصيتها وبئس ما زعموا؟! فخرجت من البيت تبحث عن سعادة موهومة وتقدميّة مزعومة لتظنها في الأسواق والشوارع والملاهي والمصانع، فرجعت مسلوبة الشرف مدنسة العرض مغتصبة الحقوق عديمة الحياء موءودة الغيْرَة، وتلك صورة من صور إنسانيات العصر المزعومة وحريته المأفونة ومدنيته المدعاة، ألا فليعلم ذلك اللاهثون واللاهثات وراء السراب الخادع والسائرون خلف الأوهام الكاذبة.
أيها الأحبة في الله، وإشارة أخرى إلى أمر يتعلق بحدث الهجرة النبوية في قضية تعبر بجلاء عن اعتزاز هذه الأمة بشخصيتها الإسلامية، وتثبت للعالم بأسره استقلال هذه الأمة بمنهجها المتميز المستقى من عقيدتها وتأريخها وحضارتها، إنها قضية إسلامية وسنة عُمرية أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنها التوقيت والتأريخ بالهجرة النبوية المباركة، وكم لهذه القضية من مغزًى عظيم يجدر بأمة الإسلام اليوم تذكره والتقيد به، كيف وقد فتن بعض أبنائها بتقليد غير المسلمين والتشبه بهم في تأريخهم وأعيادهم، أين عزة الإسلام؟! وأين هي شخصية المسلمين؟! هل ذابت في خضم مغريات الحياة؟! فإلى الذين تنكروا لثوابتهم وخدشوا بهاء هويتهم وعملوا على إلغاء ذاكرة أمتهم وتهافتوا تهافتا مذموما وانساقوا انسياقا محموما خلف خصومهم، وذابوا وتميعوا أمام أعدائهم ننادي نداء المحبة والإشفاق: رويدكم؛ فنحن أمة ذات أمجاد وأصالة وتأريخ وحضارة ومنهج متميز منبثق من كتاب ربنا وسنة نبينا ، فلا مساومة على شيء من عقيدتنا وثوابتنا وتأريخنا، ولسنا بحاجة إلى تقليد غيرنا، بل إن غيرنا في الحقيقة بحاجة إلى أن يستفيد من أصالتنا وحضارتنا، لكنه التقليد والتبعية والمجاراة والانهزامية والتشبه الأعمى من بعض المسلمين هداهم الله، وقد حذر أمته من ذلك بقوله فيما أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن: ((من تشبه بقوم فهو منهم))(2)[2]، والله المستعان.
(1) أخرجه البخاري في المناقب (3653)، ومسلم في الفضائل (2381) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
ويقول الشيخ رياض بن محمد المسيميري(1) :
أيّها المسلمون، فمعِ حلولِ العامِ الهجري الجديد تمضي بنا الذكرياتُ إلى الوراءِ شيئًا ما, مخترقةً حواجزَ الزمان, لتقفَ بنا على مشارفِ مكة, وهي تشهدُ هجرةَ النبيِ وأصحابهِ إلى المدينة. تلك الهجرة التي غيرتْ مسارَ التاريخ, وفاجأت العالم بأحداثِها الضخمة ونتائجِها المُدهشة, فقدْ كانتْ سببًا رئيسًا لقيامِ دولةِ الإسلامِ في المدينة, تلك الدولة التي لم تقفْ عند حدودٍ سياسيةٍ أو خطوطِ تماسٍ مكهربة صنعها المُحتلُ الأجنبي، ولكنَّها أخذتْ في الانتشارِ يمنةً ويسرة, حتى نتجَ عنها دولةُ الإسلامِ العالميةِ, والتي غمرتْ الدنيا بفيضِ نورِها المُشع, وبددتْ الظلامَ المتراكمِ عبرَ السنين, وقدمتْ للبشريةِ أنموذجًا نادرًا للكيفيةِ التي تُبنى من خلالِها الدول، فتتصاغرُ أمامَ ذلك الأُنموذجِ الفريد كلُّ النماذجِ الأُخرى, وما أحوجَ الأُمة اليومَ وهي تُعاني ما تعانيه من تمزقٍ وضعفٍ وتناحرٍ, ما أحوجَها إلى قراءةِ تاريخِها من جديد، ومراجعةِ سيرِ أسلافِها الأولين, لتأخذَ الدروسَ والعبر, علَّها تستعيد ُمجدها الغابر وتاجَها المفقود, فهيهات هيهات أن يصلحَ حالُ آخرِ هذه الأمةِ إلاّ بما صلحَ به حالُ أولِها, فاعتبروا يا أولي الأبصار.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4623)(1/59)
أيها المسلمون، لم تكنْ الهجرةُ الشريفةُ إلى المدينة, لم تكنْ يومًا من الأيام ترفًا ثقافيًا أو سياحةً ومتعة أو استكشافًا لعالمٍ جديد, كلاَّ, لقد كانتْ خيارًا لا مفرّ منه, وحلاً أخيرًا بعد أنْ ضاقتْ بالمسلمينَ أرضُ مكةَ بما رحبت, وتغيرَ عليهم الناسُ, وأصبحتْ بضعُ ركعاتٍ في المسجدِ الحرامِ جريمةً لا تُغتفر, وغدتْ قراءةُ القُرآن رجعيةً وهمجيةً وإرهابًا وتطرفًا, نزلَ جبرائيلُ عليه السلام بأمرٍ من السماء لا يحتملُ التأخيرَ أو التردد: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:1-3].
فالقضيةُ جدٌ ليستْ بهزلٍ, والدينُ حقٌ ليس بلعبٍ, فلا مكانَ للخانعين, ولا مكانَ للمتكاسلين, ولا مكانَ للمعوقين المُخذِّلين, ونزلَ جبرائيلُ كذلك بقولهِ جلَّ جلاله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94], فاصدعْ بما تُؤمر ولا تخفْ في اللهِ لومةَ لائم, لا تخف أبا جهلٍ مهما تجبر, ولا تخف أبا لهبٍ مهما تهور, فما هم في الحقيقةِ إلاَّ أقزام لا يملكون حولاً ولا طولاً, ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
فلبَّى عليه الصلاةُ والسلامُ النداء, وشمَّرَ عن ساقِ الجدِّ بكلِّ قُوة, وأسفرَ عن شجاعةٍ وبطولةٍ نادرتين, فما تركَ جبلاً إلا صعدَه, ولا واديًا إلا هبطَه, ولا شِعبًا إلا سلكَه: ((يا أيَّها الناسُ، قُولوا: لا إله إلا اللهُ تُفلحوا)), كلمةُ التوحيدِ العظيمةِ, ظلَّ يرفعُ بها صوتَه ثلاثةَ عشرَ عامًا غيرَ هيابٍ ولا وجلٍ, يصرخُ بها في كلِّ مجمعٍ من مجامعهم, وكلِّ مُنتدى من منتدياتِهم, فقامتْ عليه الجاهليةُ ولم تقعد, وحاربهُ الجاهليُّون بكلِّ وحشيةٍ وضراوة, فكلُّ من شعرَ بخطورةِ كلمةِ التوحيدِ على مصالحه وقفَ أمامَها وقفةَ الأسد, واستماتَ في الصدِّ عنها والتنديدِ بخطرِها، فقد شعرَ رؤساءُ العشائرِ أنَّ هذه الكلمة ستقوضُ سُلطتَهم من القواعد, فهبوا للدفاعِ عن سُلطانهمِ المُهدد ومكانتهمُ المستهدفة, كما أحسَّ الانتهازيون بخطرٍ يتهددُ مكاسبَهم الخبيثة وأرصدتهم الحرام وثرواتِهم المُغتصبة, فاستشاطوا غضبًا وامتلؤوا حنقًا, وتدافعوا يذودونَ عن مكاسبِهم بكلِّ وحشيةٍ وقسوة, كما أحسَّ الكهنةُ والمشعوذون بخطورةِ كلمةِ التوحيد على كهانتهِم وشعوذتهم, وأنَّها ستفرُقُ الناسَ من حولهم, فكشَّروا عن أنيابِهم, وأعلنوها حربًا لا تُبقي ولا تذر, كما أحسَّ بالخطرِ ذاته عُبادُ القوميةِ المتعصّبونَ لقومياتِهم وعشائرِهم, المقدّسون لتقاليدِهم وعاداتِهم, فجُنَّ جنونُهم وظهرَ مرضُ قلوبِهم وسفاهةُ عقولهمِ بأبشعِ صورةٍ وأقبحِها, فخرجوا للدفاعِ عن عصبياتِهمُ المُنتنةِ وتقاليدهمُ البالية, كما شعرَ بالخطرِ نفسِه عُبَّادُ الشهواتِ والأهواء, فقاموا من بين أحضانِ بغاياهم ومِن على موائدِ خمورهم معلنينَ الاحتجاجَ بشدة, ومدافعينَ عن مجونِهم وسُكرهم. وبالجملةِ فقد أحسَّ عُبادُ تلكَ الأوثانِ والأصنامِ على اختلافِ صورِها وأشكالِها وتعددِ ألقابِها ومسمياتِها, أحسوا بخطورةِ كلمةِ التوحيد على مصالحهم وأطماعهم, فاتحدوا جميعًا لحربِها وحربِ رافعِ لوائها، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:6، 7].
فعقدَ المجرمونَ العزمَ على مقاومةِ ذلكَ الناصح الأمين ووضع العراقيلِ في طريقه, فأوذي عليه السلامُ واضطُهد, وعُذِّب وطُرد, واتُهِم بالوسوسةِ والجنون والسحرِ والكِهانةِ, ورُمي بالكذبِ وقولِ الزور, ووصفوا القرآنَ بأنَّهُ أساطيرُ الأولين, وأنَّ محمدًا تتنزلُ عليه الشياطين, حتى إذا بلغَ السيلُ الزُبى واستعصتِ النفوسُ الخبيثة على الدعوة وظهرت صلابةُ القلوبِ وسفهُ الرجالِ أذنَ اللهُ بالهجرةِ إلى المدينةِ الشريفة, فخرجَ صحابةُ رسولِ اللهِ فرارًا بدينهم، وخوفًا من فرعونَ وملئِه أن يفتنهم, خرجوا تاركينَ الأرضَ التي وُلدوا فيها, والبلدَ الذي نشؤوا فيه, منخلعينَ من المالِ والأهلِ والولد, فما قيمةُ المالِ والأهلِ والولد حين تُهددُ العقيدةُ وتصادرُ الحُرية؟! وما كاد يمضي طويل وقتٍ إلاَّ ورسولُ اللهِ يخرجُ في أثرِ أصحابه وهو يقولُ: ((واللهِ يا مكةَ، إنَّكِ لخيرُ أرضِ الله, وأحبُ أرضِ اللهِ إلى الله، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجت)).
أيّها المسلمون، إنَّ في الهجرةِ دروسًا لا تُنسى ومآثرَ لا تُطوى, ألا ما أحوجَنا إلى تذاكرِ تلك الدروس واستلهام هاتيكَ العبر في وقتٍ كشَّر العدوُّ عن أنيابه وأطلَّتِ الرويبضةُ برأسِها القبيح. ألا إنَّ من أعظمِ دروسِ الهجرةِ الشريفةِ ما يجبُ أن نُدركَه جميعًا أنَّ الغايةَ الكُبرى من الوجودِ الإنسانيِ بأسرهِ هو عمارةُ الأرضِ بالتوحيدِ والإيمان, وإقامةُ حكم اللهِ وشرعهِ في عظائمِ الأُمورِ فما دُونها, أليس اللهُ يقولُ: إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]؟!(1/60)
إذًا فمتى تعذَّرَ تحقيقُ هذه الغايةِ فوقَ أرضٍ ما فلا بُدَّ من البحثِ عن غيرِها مهما كان الثمن, ومهما كانتِ التضحيات، أملاً في إيجادِ أرضيةٍ صالحةٍ للانطلاقةِ العُظمى ونشرِ الإسلامِ في ربوعِ الأرض وعرضِ العقيدةِ بصفائِها ونقائِها على الناسِ دون ضغطٍ أو إكراهٍ. وهكذا كان الأمرُ في مكة, فيومَ رفضَ أهلُها الإيمانَ والتوحيد وآثروا الكفرَ والتقليد أصبحتْ مكةُ بلدَ كفرٍ ودارَ حربٍ, وحُرِّمَ البقاءُ فيها, وأصبحتْ مجاورتُها مع القدرةِ على مُغادرتِها واحدةً من كبائرِ الذنوب، إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97].
وأمَّا الدرسُ الثاني من دُروس الهجرةِ وهو ذو علاقةٍ وثيقةٍ بسابقهِ، ويوضحهُ ويجلّيهِ أنَّهُ لا قيمةَ للأرضِ ولا للوطنِ حين تفسدُ الأرضُ ويكفرُ الوطن. لقد هاجرَ النبيُ وأصحابهُ الوطنَ الذي تربَّوا فيه والأرضَ التي نشؤوا فوقها, وباعوها بأرخصِ الأثمانِ, واشتروا أنفسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنَّة، وفي هذا كلِّهِ صفعةٌ لكلِّ الذين يُمجّدون الأرضَ والرمال, ويُعظمونَ الصخورَ والترابَ على حسابِ العقيدةِ, حتى إنّهم ليفضلونها على جنّةِ الخُلدِ لو دخلوها، فيقولُ شاعرهم:
وطني لو شُغلتُ بالخُلدِ عنهُ…نازعتني إليهِ في الخلدِ نفسي
ويقول آخر:
وطني لو صوّروهُ لي وثنًا…لهممتُ ألثم ذلك الوثنا
ويقول وثنيٌّ ثالث:
ويا وطنِي لقيتُكَ بعد يأسٍ…كأنّي قد لقيتُ بكَ الشبابا
أديرُ إليكَ قبلَ البيتِ وجهِي…إذا فهتُ الشهادةَ والْمتابا
وحتى الأطفالُ الصغار يُربّونَهم على مِثلِ هذا الإلحاد, اسمع إليهم وهم يُرددون:
وهبتُكِ رُوحي وغالي دمي…وأَسمى أمانيِّ أن تسلمي
وأُشقي حياتي لكي تنعمِي…وقلبي يُلبّيكِ قبلَ الفمِ
بلادي سلمتِ وروحي الفداء
فماذا بقيَّ لله إذًا؟! ماذا بقيَّ لله؟!
إنَّ الولاءَ ـ أيَّها المربُون ـ يَجبُ أن يكونَ للهِ وحده, فالأرواحُ لا تُبذلُ إلا في سبيلهِ, والدماءُ لا تُراقُ إلا من أجلهِ, والجهادُ لا يكونُ إلا لإعلاءِ دينهِ، أما حُبّ الوطنِ فإنَّما يَكونُ بمقدارِ حبِّ أهلهِ للإسلام وتمسكِ أهلهِ بالإسلام، وبغيرِ الإسلام تصبحُ الأوطانُ مجرّدَ أتربةٍ وحجارة, لا وزنَ لها ولا قيمة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل [التوبة:38].
وأمَّا الدرسُ الثالثُ من دروسِ الهجرة فبيانُهُ أنَّ هذا الدينِ لا يَقومُ إلا بالتضحيةِ والبذلِ والعطاء, إنَّهُ دينٌ لا يُعلِّقُ كبيرَ أملٍ على الكُسالى والخانعين, ولا يمنحُ شرفَ حملهِ ونُصرتهِ للمتراجعينَ والمتثاقلين, إنَّ الدينَ ليس قضية بيعٍ وشراء أو منّةً وأذى, إنَّما هو جهدٌ وعناء, وبذلٌ وعطاء, وتضحيةٌ وفداء, ودموعٌ ودماء, وجراحٌ وأشلاء. قلِّبِ النظرَ أنَّى شئتَ في تاريخِ أسلافِك: أما خُلعتْ رؤوسٌ من أجلِ هذا الدين؟! أما بُقرتْ بطونٌ؟! أما قُطِّعتْ أطرافٌ؟! أما سُحلت عيونٌ؟! قلْ: بلى, بلى, بلى. ثم اجمعْ قُواكَ يا رعاك الله، واحملْ القرآنَ في يدٍ والسنةَ في الأخرى.
وهدِّم فراشكَ رمزَ الْخمول…وقمْ للجهادِ ولا تقعدِ
وقم للنضالِ وخوضَ القتال…وشمِّر عن الساقِ والساعدِ
لقد مضتْ قوافلُ الشهداء وقوافلُ المجاهدين إلى ربها، بعضُها إثرَ بعض، فماذا صنعت أنتَ أيُّها الأخُ الحبيب؟! ماذا قدَّمت لدينِك وأُمتِك المُعذّبة؟! ما مقدارُ الهمِّ الذي تحملهُ في قلبِك تِجاه قضايا الإصلاحِ والتغيير؟! كم شخصا أسديتَ لهُ نصيحة أو قدّمت لهُ موعظة؟! ما جهودُكَ في بيتك تجاهَ أُمكَ وأبيك وأُختكَ وأخيك؟! هل غمرتهم بإحسانِك وخفضت لهم جناحَ الذلِّ من الرحمة؟! هل صنعتَ شيئًا ما تَقي به أهلَ بيتك نارًا وقودُها الناسُ والحجارة؟! ما دورُكَ تجاهَ جيرانك؟! هل وعظتَ واحدًا منهم؟! هل دفعتَ إليه كتابًا ينفعُهُ أو شريطًا يسمعُه؟! ألا كفى ـ يرحمكَ الله ـ تسويفًا وتثاقلاً.
وتبوّأ ـ رعاكَ اللهُ ـ لنفسك مَقعدًا في قوافلِ الدُعاةِ المخلصين، تُحشر مع الأنبياءِ والصديقين والشهداءِ الصالحين.
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، ونفعني وإيَّاكم بالذكر الحكيم، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
أمَّا بعدُ: أيّها الموحدون، فدروسُ الهجرةِ كثيرة, وعبرُها متنوعة, والمقامُ مقامُ تذكيرٍ لا مقامُ بسطٍ وتفضيل, لكنَّنا نشيرُ أخيرًا إلى أنَّ الهجرةَ ماضيةٌ إلى يومِ القيامة كلَّما حِيلَ بين الناسِ وعبادةِ ربهم.
ثُمَّ تذكروا ـ يرحمكمُ الله ـ قولَه عليه السلام: ((المهاجرُ من هَجَر ما نهى الله عنه)).(1/61)
فما أحرانا اليومَ ونحنُ نستقبلُ عامًا جديدًا، ما أحرانا إلى فتحِ صفحةٍ بيضاء, نصطلحُ فيها مع اللهِ سبحانه الذي أمهلَنا كثيرًا, وصبرَ علينا طويلاً, ومنحنَا الفرصةَ تلوَ الفرصة، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:132-135].
إننا مُطالَبون جميعًا بهجرةِ ما نهى اللهُ عنه إن كُنَّا نُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر ونُوقنُ بالجنةِ والنار, وهجرة ما نهى اللهُ عنه تُطالبُ بها الأمةُ كلُها من أعلى القمةِ إلى أسفلِ القاع؛ فالأمةُ كُلها تستقلُ سفينةً واحدة, فليسَ لأحدٍ أن يخرقَ في نصيبهِ خرقًا, فمتى خُرقت السفينةُ أو عُقرت الناقةُ فويلٌ للعربِ من شرٍ قد اقترب. إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
=================
انقطاع الهجرة إلى المدينة بعد الفتح
نعم لقد انقطعت الهجرة إلى المدينة المنورة بعد فتح مكة المكرمة لأن الأرض أصبحت دار إسلام فلا حاجة للهجرة إلى المدينة لأن أسبابها قد انتهت
وفي البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ».
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله (1) :
قوله: (لا هجرة بعد الفتح) أي فتح مكة، قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجا فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو انتهى.
وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها، وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعا " لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين " ولأبي داود من حديث سمرة مرفوعا " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " وهذا محمول على من لم يأمن على دينه، وسيأتي مزيد لذلك في أبواب الهجرة من أول كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.
قوله: (ولكن جهاد ونية) قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك.
قوله: (وإذا استنفرتم فانفروا) قال النووي: يريد أن الخبر الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه.
وقال الطيبي: قوله " ولكن جهاد " معطوف على محل مدخول " لا هجرة " أي الهجرة من الوطن إما للفرار من الكفار أو إلى الجهاد أو إلى غير ذلك كطلب العلم، فانقطعت الأولى وبقي الأخريان فاغتنموهما ولا تقاعدوا عنهما، بل إذا استنفرتم فانفروا.
قلت: وليس الأمر في انقطاع الهجرة من الفرار من الكفار على ما قال، وقد تقدم تحرير ذلك.
وقال ابن العربي: الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، كانت فرضا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلا هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان.
وفي الحديث بشارة بأن مكة تبقى دار إسلام أبدا.
وفيه وجوب تعيين الخروج في الغزو على من عينه الإمام، وأن الأعمال تعتبر بالنيات.
(تكملة) : قال ابن أبي جمرة ما محصله: إن هذا الحديث يمكن تنزيله على أحوال السالك لأنه أولا يؤمر بهجرة مألوفه حتى يحصل له الفتح، فإذا لم يحصل له أمر بالجهاد وهو مجاهدة النفس والشيطان مع النية الصالحة في ذلك.
وفي عمدة القاري(2) :
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 432)
(2) - عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 15 / ص 359)(1/62)
فقوله لا هجرة يعني من مكة وأما الهجرة عن المواضع التي لا يتأتى فيها أمر الدين فهي واجبة اتفاقا وقال الخطابي كانت الهجرة على معنيين أحدهما أنهم إذا أسلموا وأقاموا بين قومهم أو ذوا فأمروا بالهجرة إلى دار الإسلام ليسلم لهم دينهم ويزول الأذى عنهم والآخر الهجرة من مكة لأن أهل الدين بالمدينة كانوا قليلا ضعيفين وكان الواجب على من أسلم أن يهاجروا إلى رسول الله لكن إن حدث حادث استعان بهم في ذلك فلما فتحت مكة استغنى عن ذلك إذ كان معظم الخوف من أهلها فأمر المسلمون أن يقيموا في أوطانهم ويكونوا على نية الجهاد مستعدين لأن ينفروا إذا استنفروا وقال الطيبي كلمة لكن تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها أي أن المفارقة عن الأوطان المسماة بالهجرة المطلقة انقطعت لكن المفارقة بسبب الجهاد باقية مدى الدهر وكذا المفارقة بسبب نية خالصة لله عز وجل كطلب العلم والفرار لدينه انتهى وذكر غير واحد من العلماء أن أنواع الهجرة خمسة أقسام الأول الهجرة إلى أرض الحبشة الثاني الهجرة من مكة إلى المدينة الثالث هجرة القبائل إلى رسول الله الرابع هجرة من أسلم من أهل مكة الخامس هجرة ما نهى الله عنه وبقي من الهجرة ثلاثة أنواع أخر وهي الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة وهجرة من كان مقيما ببلاد الكفر ولا يقدر على إظهار الدين فتجب عليه الهجرة والهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن على ما رواه أحمد في ( مسنده ) من رواية شهر قال سمعت عبد الله بن عمر سمعت رسول الله يقول لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام الحديث ولما روى الترمذي حديث ( ابن عباس ) هذا قال وفي الباب عن أبي سعيد وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن حبشي أما حديث أبي سعيد فأخرجه أحمد في ( مسنده ) من رواية أبي البختري الطائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله أنه قال لما نزلت هذه الآية إذا جاء نصر الله والفتح ( الفتح 1 ) قرأها رسول الله حتى ختمها وقال الناس حيز وأنا وأصحابي حيز وقال لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية قلت الحيز بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف المكسورة وفي آخره زاي والمعنى الناس في ناحية وأنا وأصحابي في ناحية وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البخاري على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وأخرجه أبو داود والنسائي وأما حديث عبد الله بن حبشي فأخرجه أبو داود والنسائي من رواية عبيد بن عمير عن عبد الله بن حبشي الخثعمي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل قال طول القنوت قيل فأي صدقة أفضل قال جهد المقل قيل فأي الهجرة أفضل قال من هجر ما حرم الله عليه الحديث(1/63)
قلت وفي الباب عن جماعة آخرين وهم عبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وفضالة بن عبيد وزيد ابن ثابت ورافع بن خديج ومجاشع بن مسعود وغزية بنت الحارث وقيل الحارث بن غزية وعبد الله بن وقدان السعدي وجنادة بن أبي أمية وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وثوبان ومحمد بن حبيب النصري وفديك وواثلة بن الأسقع وصفوان بن أمية ويعلى بن مرة وعمر بن الخطاب وأبو هريرة وابن مسعود وأبو مالك الأشعري وعائشة وأبو فاطمة رضي الله تعالى عنهم أما حديث عبد الرحمن بن عوف فأخرجه أحمد والطبراني من رواية مالك بن يخامر عن ابن السعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل فقال معاوية وعبد الرحمن ابن عوف وعبد الله بن عمرو إن النبي صلى الله عليه وسلم قال الهجرة خصلتان إحداهما تهجر السيئات والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة ورواه البزار مقتصرا على حديث عبد الرحمن بن عوف ومعاوية وحده رواه أبو داود والنسائي بلفظ لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها وأما حديث فضالة بن عبيد فأخرجه ابن ماجه من رواية عمرو بن مالك عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم المهاجر من هجر الخطايا والذنوب وأما حديث زيد بن ثابت ورافع بن خديج فأخرجه أحمد في ( مسنده ) من رواية أبي البختري عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث فيه لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فقال له مروان كذبت وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت وهما قاعدان معه على السرير فقال أبو سعيد لو شاء هذان لحدثاك فرفع عليه مروان الدرة ليضربه فلما رأيا ذلك قالا صدق وأما حديث مجاشع بن مسعود فأخرجه أحمد في ( مسنده ) من رواية يحيى بن إسحاق عن مجاشع بن مسعود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بابن أخ له ليبايعه على الهجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بل على الإسلام فإنه لا هجرة بعد الفتح وأما حديث غزية بن الحارث فأخرجه الطبراني في ( الكبير ) من رواية عبد الله ابن رافع عن غزية بن الحارث أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا هجرة بعد الفتح إنما هي ثلاث الجهاد والنية والحشر وأما حديث عبد الله بن وقدان السعدي فأخرجه النسائي من رواية بشر بن عبيد الله عن عبد الله بن وقدان السعدي قال وفدت على رسول الله كلنا نطلب حاجة وكنت آخرهم دخولا على رسول الله فقلت يا رسول الله إني تركت من خلفي وهم يقولون إن الهجرة قد انقطعت قال لن تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار وأما حديث جنادة بن أمية فأخرجه أحمد من رواية أبي الخيران جنادة بن أبي أمية حدثه أ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قال بعضهم إن الهجرة قد انقطعت فاختلفوا في ذلك قال فانطلقت إلى رسول الله فقلت يا رسول الله إن ناسا يقولون إن الهجرة قد انقطعت فقال رسول الله إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه أحمد في ( مسنده ) في رواية شهر قال سمعت عبد الله بن عمر سمعت رسول الله يقول لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه في مسنده عن حجاج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ المهاجر من هجر ما نهى الله عنه وأما حديث ثوبان فأخرجه البزار في ( مسنده ) من رواية أبي الأشعث الصنعاني عن ابن عثمان عن ثوبان قال قال رسول الله لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار وأما حديث محمد بن حبيب النصري فأخرجه البزار أيضا من رواية أبي إدريس الخولاني عن ابن السعدي عن محمد بن حبيب النصري قال قال رسول الله فذكره بلفظ الذي قبله وأما حديث فديك فأخرجه الطبراني في ( الكبير ) من رواية الزهري عن صالح بن بشير بن فديك أن جده فديكا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أقم الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء واسكن من أرض قومك حيث شئت وهذا مرسل فإن صالح بن بشير لم يسنده إلى جده وإنما روى القصة من عنده مرسلة وأما حديث واثلة بن الأسقع فأخرجه الطبراني أيضا من رواية عمرو بن عبد الله الحضرمي عن واثلة بن الأسقع قال خرجت مهاجرا إلى رسول الله الحديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ما حاجتك قلت الإسلام فقال هو خير لك قال وتهاجر قلت نعم قال هجرة البادية أو هجرة الباتة قلت أيهما أفضل قال هجرة الباتة وهجرة الباتة أن تثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهجرة البادية أن ترجع إلى باديتك الحديث وأما حديث صفوان بن أمية فأخرجه النسائي من رواية عبد الله بن طاووس عن أبيه عن صفوان بن أمية قال قلت يا رسول الله إنهم يقولون إن الجنة لا يدخلها إلا من هاجر قال لا هجرة بعد فتح مكة لكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا وأما حديث يعلى بن أمية فأخرجه النسائي أيضا من رواية عبد الرحمن بن أمية عن يعلى بن أمية قال جئت رسول الله بأبي أمية فقلت يا رسول الله بايع أبي على الهجرة فقال رسول الله أبايعه على الجهاد وقد انقطعت الهجرة وأما حديث عمر رضي الله تعالى عنه(1/64)
فأخرجه الأئمة الستة وهو حديث الأعمال بالنيات الحديث وأما حديث أبي هريرة فأخرجه وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الطبراني بإسناد رجاله ثقات وأما حديث أبي مالك الأشعري فأخرجه الطبراني أيضا من رواية عطاء الخراساني عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله قال إن الله أمرني أن آمركم بخمس كلمات عليكم بالجهاد والسمع والطاعة والهجرة الحديث وأما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فأخرجه مسلم من رواية عطاء عنها قالت سئل رسول الله عن الهجرة فقال لا هجرة بعد الفتح وأما حديث أبي فاطمة فأخرجه النسائي من رواية كثير بن مرة أن أبا فاطمة حدثه أنه قال يا رسول الله حدثني بعمل أستقيم عليه وأعمله قال له رسول الله عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها
==================
ويقول الأستاذ: نبيه عبد ربه :
يعتبر حادث الهجرة فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، ولقد كان لهذه الحادث آثار جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضاً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته.
فسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تحد آثارها بحدود الزمان والمكان، وخاصة أنها سيرة القدوة الحسنة والقيادة الراشدة قيادة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وما نتج عن هذه الهجرة من أحكام ليست منسوخة ولكنها تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان ما دام حال المسلمين مشابهاً للحال التي كانت عليها حالهم أيام الهجرة إلى يثرب.
وعلى هذا فإن من معاني الهجرة يمكن أن يأخذ بها المسلمون في زماننا هذا، بل إن الأخذ بها ضرورة حياتية، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال، إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة، ومن حالة الجمود إلى الحركة.
فالهجرة تعني لغة ترك شي إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال، أو من بلد إلى بلد، يقول تعالى: »والرجزَ فاهجرْ« (المزمل 5)، وقال أيضاً: »واهجرهم هجراً جميلاً« (المزمل 10)، وتعني بمعناها الاصطلاحي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وهذه هي الهجرة المادية، أما الهجرة الشعورية فتعني الانتقال بالنفسية الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة أخرى بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى كالانتقال من حالة التفرقة إلى حالة الوحدة، أو تعتبر مكملة لها كالانتقال بالدعوة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.
فالهجرة المادية من بلد لا يحكم بالإسلام إلى بلد تحكمه شريعة القرآن ليست منسوخة، بل هي واجبة على جميع المسلمين إذا خشوا أن يفتنهم الذين كفروا في دينهم وعقيدتهم، لأن هدف المسلم في الحياة أن يعيش في مجتمع يساعده على طاعة الله والالتزام بأوامره وأحكامه، أو على الأقل لا يحارب بعقيدته، لأن الفتنة في الدين هي الفتنة الكبرى، فالله تبارك وتعالى يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولكن لا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، أو كمال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتتم هجرة المسلم من بلد إلى آخر لعدة أهداف:
- فقد يهاجر المسلم فراراً بدينه وعقيدته، حتى لا يرده الحكام الكافرون إلى الكفر، كما فعل بعض مسلمي الجمهوريات الإسلامية حينما هاجروا من بلادهم فراراً من الشيوعية الملحدة. يقول تعالى: »يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون« (العنكبوت 56)، ويقول صلى الله عليه وسلم: »من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً منها وجبت له الجنة وكان رفيقاً لأبيه إبراهيم.«
- وقد يهاجر المسلم فراراً من ظلم اجتماعي أو اقتصادي لحق به وخشي إن لم يهاجر أن يمتد ذلك الظلم إلى دينه، يقول تعالى: »والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون« (النحل 41) وقال تعالى: »ومن يهاجر في سبيل الله يجدْ في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموتُ فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً« (النساء 100).(1/65)
وروى الإمام أحمد عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »البلاد بلادُ الله والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيراً فأقم.« وقد توعد القرآن الكريم المسلمين الذين لم يهاجروا إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما توعد الأعراب الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة حرصاً على أموالهم وديارهم، فقال تعالى: »إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً« (النساء 98). وكانت نتيجة ذلك أن بعض هؤلاء فتن في دينه واضطر إلى إظهار التقية، ولكن هذه التقية كانت جائزة يوم أن لم تكن للإسلام دولة، أما بعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأقام فيها دولة الإسلام، فلم يعد لهؤلاء عذر، بل وجبت عليهم الهجرة، ولهذا نجد القرآن الكريم لا يفرض علىالمسلمين ولاية هؤلاء، لأنهم ليسوا أعضاء في المجتمع الإسلامي، وإذا كانت تربطهم بالمسلمين رابطة العقيدة، فإن نصرتهم تكون بناء على طلب منهم، يقول تعالى: »والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق« (الأنفال 72).
ويتحتم على المسلم أن يهاجر من أرض الشرك إلى أرض الإسلام حينما تقوم الدولة الإسلامية ويتكون المجتمع الإسلامي، والهجرة هنا حسب مقتضيات الحال، إذ أن الهدف هنا تدعيم الدولة الإسلامية الجديدة بقوى بشرية وتقنية وعلمية، ولكن تقدير هذا كله متروك لقادة هذه الدولة، لأن الهجرة العشوائية قد تترك آثاراً سلبية على هذه الدولة فتصبح عقبة في طريق قوتها وانطلاقها.
أما الهجرة الشعورية، فتعني اصطلاحاً انكار ومعاداة كل ما لا يرضي الله أو يخالف شريعة الله، ويظهر المسلم هذا العداء بكل الوسائل الممكنة، بالجوارح أو باللسان أو بالقلب، ويعمل على تغييرها بكل الامكانات المتاحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: »من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان.« وأساس هذه الهجرة النية، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: »إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه«. ومن هذا نرى الشارع الحكيم قد حدد نوعين من الهجرة لا ثالث لهما: هجرة إلى الله، وهجرة لغير الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: »الهجرة خصلتان، إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرة أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة.«
إذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة الشعورية واجبة على كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة. ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: »قد مضت الهجرةُ بأهلها« قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »على الإسلام والجهاد والخير«. ويقول صلى الله عليه وسلم: »لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها«. أما قوله صلى الله عليه وسلم: »لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية« فالمراد بها هنا أن لا هجرة واجبة بعد الفتح، وقد زاد مسلم »وإذا استنفرتم فانفروا«.
والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحل اله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: »وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون« (الذاريات 56)، وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟ ولهذا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: »المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه«. (رواه البخاري) وفي رواية (ابن حبان): »المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده«.(1/66)
والمعنى الذي حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية، فتقيمها على أسس قويمة، أسس تقوم على أساس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية، ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية المعذبة إلى شاطئ الأمان والاطمئنان. فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية منها والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد، ولهذا أكد الحديث على (كف اللسان واليد) إذ أنهما الأعضاء التي تصدر عنها المفاسد القولية والفعلية، وإذا كانت هذه الأعضاء سلاحاً ذا حديثن يمكن أن يصدر عنها الخير كما يمكن أن يصدر عنها الشر، فإن إمكانية صدور الشر عنها أرجح من صدور الخير، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: »من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت« (متفق عليه).
واللسان اسم العضو الذي يصدر عنه الكلام، وعبر الحديث باللسان عن الكلام ليندرج تحته كل أنواع الكلام، وقدم الحديث اللسان على اليد لأن الإيذاء باللسان أسهل وأشد تأثيراً على النفس من الإيذاء باليد. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: »اهجُ المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبال«. ورحم الله من قال:
جراحاتُ السنانِ لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسانُ
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللهُ تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه« (رواه مالك والترمذي).
واليد اسم العضو الذي تصدر عنه الأفعال، حسية كانت أم معنوية، فالحسية: كالضرب والسرقة والكتابة والاشارة. والمعنوية: كأكل مال الناس بالباطل، والاستيلاء على حقوق الآخرين بغير حق، واليد مظهر السلطة الفعلية، ففيها يحدث الأخذ والمنع، والبطش والقهر، فإذا أضفنا إلى هذين العضوين عضواً ثالثاً هو (الفرج) نجد أن الإسلام أقام الحياة الإنسانية على دعائم قوية من تقوى الله والخلق الحسن والأمان والاطمئنان. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: »تقوى الله وحسن الخلق«. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: »الفم والفرج« (رواه الترمذي وابن حبان والبيهقي).
وكان الهدف من الهجرة هدفاً عظيماً، وهو الانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، والمؤرخون يقسمون سيرة الدعوة الإسلامية إلى مرحلتين متميزتين: العهد المكي الذي يمثل مرحلة الدعوة، والعهد المدني الذي مثل مرحلة الدولة. ولكنني أرى أن بين هاتين المرحلتين مرحلة انتقالية تمثل مرحلة الثورة، لأنها نقلت الدعوة الإسلامية نقلة هائلة سريعة من مؤحلة كان هدفها تربية الفرد المسلم إلى مرحلة أصبح هدفها تكوين المجتمع المسلم. ومن دعوة كانت مجرد عقيدة وفكرة إلى دعوة أصبحت شريعة ودولة، ومن حركة محدودة الآثار إلى حركة عالمية الأهداف، ومن دعوةأتباعها قلة مستضعفون إلى دعوة أتباعها سادة فاتحون. ولهذا كانت الهجرة ثورة عقائدية، بكل ما تحمله هذه العبارة من معان إيجابية، لأنها غيرت أحوال المسلمين تغييراً جذرياً، فنقلتهم من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الانحصار إلى الانتشار، ومن الاندحار إلى الانتصار، ولم تقف آثارها عند هذا الحد بل كانت ثورة على كل ما يخالف شريعة السماء وفطرة الإنسان السليمة، فشملت آثارها النواحي العقائدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
لقد كان هدف المصطفى صلى الله عليه وسلم من هجرته إلى المدينة إيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولقد كانت هذا الهدف أملاً يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مرة لأصحابه: »رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب«.
كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة، لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود ويذلل في طريقها الكثير من الصعاب، والمجال الخصب الذي تتحقق فيه الأهداف، والمنطلق الذي تنطلق من الطاقات، ولهذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث (مصعب بن عمير) إلى المدينة ليعلم الأنصار الإسلام وينشر دعوة الله فيها. ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة حثّ أصحابه إلى الهجرة إليها وقال لهم: »هاجروا إلى يثرب فقد جعل الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها«.(1/67)
كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة، فقد كان وضعاً أن يكون الرسول القائد في مكة، والأنصار والمهاجرون في المدينة، ولهذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بين ظهراني أتباعه، لأن الجماعة بدون قائد كالجسد بلا رأس، ولأن تحقيق أهداف الإسلام الكبرى لا يتم إلا بوجود جماعة مؤمنة منظمة، تغذ السير إلى أهدافها بخطى وئيدة.
فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرة إلى الله ورسوله: هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، باتباع سنته، والاقتداء بسيرته، فإن فعلوا ذلك فقد بدأوا السسير في الطريق الصحيح، وبدأوا يأخذون بأسباب النصر، وما النصر إلى من عند الله.
ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً.
مجلة الأمة، العدد الأول، محرم 1401 هـ
==================
هل الهجرة تهدم ما قبلها ؟
قال العلامة ابن حزم رحمه الله (1):
__________
(1) - المحلى بالآثار - (ج 1 / ص 32) والمحلى لابن حزم - (ج 1 / ص 12)(1/68)
مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ عَمِلَ فِي كُفْرِهِ عَمَلًا سَيِّئًا ثُمَّ أَسْلَمَ ; فَإِنْ تَمَادَى عَلَى تِلْكَ الْإِسَاءَةِ حُوسِبَ وَجُوزِيَ فِي الْآخِرَةِ بِمَا عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ فِي شِرْكِهِ وَإِسْلَامِهِ ; وَإِنْ تَابَ عَنْ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ مَا عَمِلَ فِي شِرْكِهِ . وَمَنْ عَمِلَ فِي كُفْرِهِ أَعْمَالًا صَالِحَةً ثُمَّ أَسْلَمَ جُوزِيَ فِي الْجَنَّةِ بِمَا عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ فِي شِرْكِهِ وَإِسْلَامِهِ ; فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ جُوزِيَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ ثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَا ثنا حَجَّاجٌ وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ - عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا , ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : إنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ , وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَتْ : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمِنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا * * فَلَمْ يُسْقِطْ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - تِلْكَ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ إلَّا بِالْإِيمَانِ مَعَ التَّوْبَةِ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ قَالَ - أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ * . وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالَ مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ * . وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ ثنا يَعْقُوبُ هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ثنا عَنْ صَالِحٍ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ - عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْت أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ أَفِيهَا أَجْرٌ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت مِنْ خَيْرٍ * . فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ * . وَقَوْلَهُ عليه السلام لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ { إنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَإِنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * . قُلْنَا : إنَّ كَلَامَهُ عليه السلام لَا يُعَارِضُ كَلَامَهُ وَلَا كَلَامَ رَبِّهِ , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ - وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ مِنْ هَذَا - لَمَا كَانَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ وَلَبَطَلَتْ حُجَّةُ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا يُعَارِضُ الْقُرْآنَ وَلَا السُّنَّةَ . قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا * فَأَمَّا قوله تعالى : { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ * فَنَعَمْ هَذَا هُوَ نَفْسُ قَوْلِنَا : إنَّ مَنْ انْتَهَى غُفِرَ لَهُ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ فَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَغْفِرُهُ لَهُ , فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِالْآيَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام : { إنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * فَحَقٌّ وَهُوَ قَوْلُنَا ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ(1/69)
اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ , وَالتَّوْبَةُ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ مِنْ الطَّاعَاتِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام فِي الْهِجْرَةِ إنَّمَا هِيَ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ , كَمَا صَحَّ عَنْهُ عليه السلام { الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ * . حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ ثنا الْبُخَارِيُّ ثنا آدَم بْنُ أَبِي إيَاسٍ ثنا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَر وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ * . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ ثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ دَاوُد عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ , فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ ؟ قَالَ : لَا يَنْفَعُهُ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا مُسْلِمٌ ثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ , وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُعْطَى بِحِسَابِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إذَا أَفْضَى إلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا * .
وقال ابن العربي (1):
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ * . فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ثَبَتَ عَنْ { ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ : حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ , وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ , فَبَكَى طَوِيلًا , وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى الْجِدَارِ , فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ : مَا يَبْكِيك يَا أَبَتَاهُ ؟ أَمَا بَشَّرَك رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا أَمَا بَشَّرَك رَسُولُ اللَّهِ بِكَذَا ؟ قَالَ : فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ , فَقَالَ : إنَّ أَفْضَلَ مَا بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَنِّي كُنْت عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ : لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدُّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ مِنِّي , وَلَا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَمْكَنْت مِنْهُ فَقَتَلْته , فَلَوْ مِتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْت مِنْ أَهْلِ النَّارِ . فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْت النَّبِيَّ فَقُلْت : اُبْسُطْ يَمِينَك لِأُبَايِعَك , فَبَسَطَ يَمِينَهُ . قَالَ : فَقَبَضْت يَدِي . قَالَ : مَا لَك يَا عَمْرُو ؟ قَالَ : قُلْت : أَرَدْت أَنْ أَشْتَرِطَ . قَالَ : تَشْتَرِطُ مَاذَا ؟ قُلْت : أَنْ يُغْفَرَ لِي . قَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ , وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنَيَّ مِنْهُ , وَمَا كُنْت أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إجْلَالًا لَهُ , وَلَوْ سُئِلْت أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْت ; لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ , وَلَوْ مِتُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَرَجَوْت أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ , ثُمَّ وُلِّينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا ; فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ , وَلَا نَارٌ ; فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا التَّفِل عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا , ثُمَّ أُقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ , وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ , وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي * .
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 4 / ص 116)(1/70)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1):
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ دَفْعَ مَا حَصَلَ بِذُنُوبٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْضَارِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ ؟
فَجَوَابُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ آخَرَ إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْ الْمُقْتَضِي لِلتَّوْبَةِ مِنْ الْآخَرِ , أَوْ كَانَ الْمَانِعُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَشَدَّ , وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ . وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَأَبِي هَاشِمٍ إلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ قَبِيحٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْآخَرِ , قَالُوا : لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى التَّوْبَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ تَوْبَةً صَحِيحَةً . وَالْخَشْيَةُ مَانِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لَا مِنْ بَعْضِهَا , وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى , وَابْنُ عَقِيلٍ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ; لِأَنَّ الْمَرُّوذِيَّ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَابَ مِنْ الْفَاحِشَةِ وَقَالَ : لَوْ مَرِضْت لَمْ أَعُدْ لَكِنْ لَا يَدَعُ النَّظَرَ , فَقَالَ أَحْمَدُ : أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ ؟ , قَالَ { جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ : اصْرِفْ بَصَرَك * . وَالْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ التَّوْبَةِ , وَأَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ تَوْبَةً عَامَّةً يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا مِنْ التَّائِبِينَ تَوْبَةٌ مُطْلَقًا , لَمْ يَرِدْ أَنَّ ذَنْبَ هَذَا كَذَنْبِ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ , فَإِنَّ نُصُوصَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ وَأَقْوَالَهُ الثَّابِتَةَ تُنَافِي ذَلِكَ , وَحَمْلُ كَلَامِ الْإِمَامِ عَلَى مَا يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّنَاقُضِ , لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مُبْتَدَعًا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَأَحْمَدُ يَقُولُ : إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ . وَكَانَ فِي الْمِحْنَةِ يَقُولُ : كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ . وَاتِّبَاعُ أَحْمَدَ لِلسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَقُوَّةُ رَغْبَتِهِ فِي ذَلِكَ وَكَرَاهَتُهُ لِخِلَافِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْخَشْيَةَ تُوجِبُ الْعُمُومَ . فَجَوَابُهُ : أَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ قُبْحَ أَحَدِ الذَّنْبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ , وَإِنَّمَا يَتُوبُ مِمَّا يَعْلَمُ قُبْحَهُ . وَأَيْضًا : فَقَدْ يَعْلَمُ قُبْحَهَا وَلَكِنَّ هَوَاهُ يَغْلِبُهُ فِي إحْدَاهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَتُوبُ مِنْ هَذَا دُونَ ذَاكَ , كَمَنْ أَدَّى بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ دُونَ بَعْضٍ ; فَإِنَّ ذَلِكَ يُقْبَلُ مِنْهُ . وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُمْ أَصْلٌ فَاسِدٌ وَافَقُوا فِيهِ الْخَوَارِجَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الِاسْمِ , فَقَالُوا : إنَّ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا , وَعِنْدَهُمْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِمَّنْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ ثُمَّ يُثِيبُهُ ; وَلِهَذَا يَقُولُونَ : بِحُبُوطِ جَمِيعِ الْحَسَنَاتِ بِالْكَبِيرَةِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَعَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَشْفَعُ فِيهِمْ . وَأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ وَلَكِنْ قَدْ يُحْبَطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ , وَلَا يُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الْكُفْرُ . كَمَا لَا يُحْبِطُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ . فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ إذَا أَتَى بِحَسَنَاتٍ يَبْتَغِي بِهَا رِضَا اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ عَلَى كَبِيرَتِهِ . وَكِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُفَرِّقُ بَيْنَ حُكْمِ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا , وَبَيْنَ حُكْمِ الْكُفَّارِ فِي " الْأَسْمَاءِ , وَالْأَحْكَامِ " . وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 319) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 375) والفتاوى الكبرى - (ج 7 / ص 410)(1/71)
الْمَوْضِعِ . وَعَلَى هَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * . فَعَلَى قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ لَا تُقْبَلُ حَسَنَةٌ إلَّا مِمَّنْ اتَّقَاهُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَأْتِ كَبِيرَةً , وَعِنْدَ الْمُرْجِئَةِ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ مِمَّنْ اتَّقَى الشِّرْكَ , فَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ دَاخِلِينَ فِي اسْمِ " الْمُتَّقِينَ " وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُتَقَبَّلُ الْعَمَلُ مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ فِيهِ فَعَمِلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ مُوَافِقًا لِأَمْرِ اللَّهِ , فَمَنْ اتَّقَاهُ فِي عَمَلٍ تَقَبَّلَهُ مِنْهُ , وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا فِي غَيْرِهِ . وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِيهِ لَمْ يَتَقَبَّلْهُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا فِي غَيْرِهِ . وَالتَّوْبَةُ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ كَفِعْلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا دُونَ بَعْضٍ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَتْرُوكُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْمَفْعُولِ كَالْإِيمَانِ الْمَشْرُوطِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * . وَقَالَ تَعَالَى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً * . وَقَالَ : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * . الْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ مَنْ لَهُ ذُنُوبٌ فَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ أَمَّا مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَهُوَ بَاقٍ فِيهِ عَلَى حُكْمِ مَنْ لَمْ يَتُبْ , لَا عَلَى حُكْمِ مَنْ تَابَ , وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا إلَّا فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ , فَإِنَّ إسْلَامَهُ يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِنْ الْكُفْرِ فَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ , وَهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ . أَحَدُهُمَا : يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ , لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * رَوَاهُ مُسْلِمٌ . . مَعَ قوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ * . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ إلَّا مَا تَابَ مِنْهُ ; فَإِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى كَبَائِرَ دُونَ الْكُفْرِ فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ , وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ , فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ : أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : قَالَ لَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالَ : مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ * فَقَدْ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تُرْفَعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي فُعِلَتْ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ عَمَّنْ أَحْسَنَ لَا عَمَّنْ لَا يُحْسِنُ ; وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ , وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَمْ يُحْسِنْ . وقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ * يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ , لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَنْ شَيْءٍ يُغْفَرُ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْ غَيْرِهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ : إنْ انْتَهَيْت غَفَرْت لَك مَا تَقَدَّمَ , وَنَحْوَ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَنَّكَ إنْ انْتَهَيْت عَنْ هَذَا الْأَمْرِ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ , وَإِذَا انْتَهَيْت عَنْ شَيْءٍ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ , كَمَا يُفْهَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : " إنْ تُبْت " , لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّك بِالِانْتِهَاءِ عَنْ ذَنْبٍ يُغْفَرُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ * وَفِي رِوَايَةٍ { يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ * فَهَذَا قَالَهُ لَمَّا أَسْلَمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَطَلَبَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ(1/72)
ذَنْبِهِ فَقَالَ لَهُ : { يَا عَمْرُو , أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَأَنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا * وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا تُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا تَابَ مِنْهُ , لَا تُوجِبُ التَّوْبَةُ غُفْرَانَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ . الْأَصْلُ الثَّالِثُ : إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَحْضِرُ ذُنُوبًا فَيَتُوبُ مِنْهَا وَقَدْ يَتُوبُ تَوْبَةً مُطْلَقَةً لَا يَسْتَحْضِرُ مَعَهَا ذُنُوبَهُ , لَكِنْ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ فَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَرَاهُ ذَنْبًا ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ تَتَضَمَّنُ عَزْمًا عَامًّا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ , وَكَذَلِكَ تَتَضَمَّنُ نَدَمًا عَامًّا عَلَى كُلِّ مَحْظُورٍ . " وَالنَّدَمُ " سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ , أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرَادَاتِ , أَوْ قِيلَ : إنَّهُ مِنْ بَابِ الْآلَامِ الَّتِي تَلْحَقُ النَّفْسَ بِسَبَبِ فِعْلِ مَا يَضُرُّهَا ; فَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْقَلْبُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا يَضُرُّهُ , حَصَلَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ , وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ , وَكَرَاهِيَةٌ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ , وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ ; وَحَصَلَ لَهُ أَذًى وَغَمٌّ لِمَا كَانَ فَعَلَهُ ; وَهَذَا مِنْ بَابِ الْآلَامِ , كَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ , كَمَا أَنَّ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ هُوَ مِنْ بَابِ اللَّذَّاتِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ : إنَّ اللَّذَّةَ هِيَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلَائِمٌ , وَإِنَّ الْأَلَمَ هُوَ إدْرَاكُ الْمُنَافِرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُنَافِرٌ فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّذَّةَ وَالْأَلَمَ حَالَانِ يَتَعَقَّبَانِ إدْرَاكَ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِرِ فَإِنَّ الْحُبَّ لِمَا يُلَائِمُهُ , كَالطَّعَامِ الْمُشْتَهَى مَثَلًا لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ . أَحَدُهَا : الْحُبُّ , كَالشَّهْوَةِ لِلطَّعَامِ . وَالثَّانِي : إدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ , كَأَكْلِ الطَّعَامِ . وَالثَّالِثُ : اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ , وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلشَّهْوَةِ وَلِذَوْقِ الْمُشْتَهِي , بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ لِذَوْقِ الْمُشْتَهِي ; لَيْسَتْ نَفْسَ ذَوْقِ الْمُشْتَهَى . وَكَذَلِكَ " الْمَكْرُوهُ " كَالضَّرْبِ مَثَلًا . فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ شَيْءٌ , وَحُصُولَهُ شَيْءٌ آخَرُ , وَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ بِهِ ثَالِثٌ . وَكَذَلِكَ مَا لِلْعَارِفِينَ أَهْلَ مَحَبَّةِ اللَّهِ مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ بِذَلِكَ ; فَإِنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ شَيْءٌ , ثُمَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ شَيْءٌ , ثُمَّ اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ بِذَلِكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحُبَّ مَشْرُوطٌ بِشُعُورِ الْمَحْبُوبِ , كَمَا أَنَّ الشَّهْوَةَ مَشْرُوطَةٌ بِشُعُورِ الْمُشْتَهِي ; لَكِنَّ الشُّعُورَ الْمَشْرُوطَ فِي اللَّذَّةِ غَيْرُ الشُّعُورِ الْمَشْرُوطِ فِي الْمَحَبَّةِ , فَهَذَا الثَّانِي يُسَمَّى إدْرَاكًا وَذَوْقًا وَنَيْلًا وَوَجْدًا وَوِصَالًا , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ إدْرَاكِ الْمَحْبُوبِ , سَوَاءً كَانَ بِالْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ , ثُمَّ هَذَا الذَّوْقُ يَسْتَلْزِمُ اللَّذَّةَ , وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يُحِسُّهُ الْحَيُّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا , وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا , وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا * وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ سِوَاهُمَا , وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ , وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ * . فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ لِمَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا , وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا , وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا , وَإِنْ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَاصِلٌ لِمَنْ كَانَ حُبُّهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِ لِغَيْرِهِمَا , وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ شَخْصًا لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ , وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ ضِدَّ الْإِيمَانِ , كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ ; فَهَذَا الْحُبُّ لِلْإِيمَانِ . وَالْكَرَاهِيَةُ(1/73)
لِلْكُفْرِ اسْتَلْزَمَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ , كَمَا اسْتَلْزَمَ الرِّضَى الْمُتَقَدِّمُ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ , وَهَذَا هُوَ اللَّذَّةُ ; وَلَيْسَ هُوَ نَفْسُ التَّصْدِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ , وَلَا نَفْسُ الْحُبِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ ; بَلْ هَذَا نَتِيجَةُ ذَاكَ وَثَمَرَتُهُ وَلَازِمٌ لَهُ , وَهِيَ أُمُورٌ مُتَلَازِمَةٌ , فَلَا تُوجَدُ اللَّذَّةُ إلَّا بِحُبٍّ وَذَوْقٍ , وَإِلَّا فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَذُقْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَجِدْ لَذَّةً , كَاَلَّذِي يَشْتَهِي الطَّعَامَ وَلَمْ يُذَقْ مِنْهُ شَيْئًا , وَلَوْ ذَاقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لَمْ يَجِدْ لَذَّةً , كَمَنْ ذَاقَ مَا لَا يُرِيدُهُ , فَإِذَا اجْتَمَعَ حُبُّ الشَّيْءِ وَذَوْقُهُ حَصَلَتْ اللَّذَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَإِنْ حَصَلَ بُغْضُهُ : وَبِذَوْقِ الْبَغِيضِ حَصَلَ الْأَلَمُ , فَاَلَّذِي يَبْغُضُ الذَّنْبَ وَلَا يَفْعَلُهُ لَا يَنْدَمُ , وَاَلَّذِي لَا يَبْغُضُهُ لَا يَنْدَمُ عَلَى فِعْلِهِ , فَإِذَا فَعَلَهُ وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَبْغُضُهُ وَيَضُرُّهُ نَدِمَ عَلَى فِعْلِهِ إيَّاهُ . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { النَّدَمُ تَوْبَةٌ * . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا , فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا , وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أَعْيَانَ الذُّنُوبِ إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ; لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ لَيْسَ بِقَبِيحٍ , فَمَا كَانَ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّوْبَةِ , وَأَمَّا مَا كَانَ لَوْ حَضَرَ بِعَيْنِهِ لَكَانَ مِمَّا يَتُوبُ مِنْهُ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْعَامَّةَ شَامِلَتُهُ . وَأَمَّا " التَّوْبَةُ الْمُطْلَقَةُ " : وَهِيَ أَنْ يَتُوبَ تَوْبَةً مُجْمَلَةً , وَلَا تَسْتَلْزِمُ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ , فَهَذِهِ لَا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَلَا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كَاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ ; لَكِنَّ هَذِهِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْمُعَيَّنِ . كَمَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الْجَمِيعِ ; بِخِلَافِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِلْغُفْرَانِ الْعَامِّ , كَمَا تَنَاوَلَتْ الذُّنُوبَ تَنَاوُلًا عَامًّا . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَسْتَحْضِرُ عِنْدَ التَّوْبَةِ إلَّا بَعْضَ الْمُتَّصِفَاتِ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ مُقَدَّمَاتِهَا أَوْ بَعْضَ الظُّلْمِ بِاللِّسَانِ أَوْ الْيَدِ , وَقَدْ يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَحَقَائِقِهِ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ بَعْضِ الْفَوَاحِشِ , فَإِنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا أَعْظَمُ نَفْعًا مِنْ نَفْعِ تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ , كَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; فَإِنَّ هَذَا أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الْفِعْلِيَّةِ حَتَّى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُدْعَى حِمَارًا , وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ , وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَلَدَهُ الْحَدَّ , فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ أُتِيَ بِهِ مَرَّةً فَأَمَرَ بِجِلْدِهِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ * . فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الشُّرْبِ لِكَوْنِهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ , مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً : { لَعَنَ الْخَمْرَ , وَعَاصِرَهَا , وَمُعْتَصِرَهَا , وَشَارِبَهَا , وَسَاقِيَهَا , وَحَامِلَهَا , وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ , وَبَائِعَهَا , وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا * . وَلَكِنْ لَعْنُ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ لَعْنَ الْمُعَيَّنِ الَّذِي قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُ لُحُوقَ اللَّعْنَةِ لَهُ . وَكَذَلِكَ " التَّكْفِيرُ الْمُطْلَقُ " " وَالْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ " . وَلِهَذَا كَانَ الْوَعِيدُ الْمُطْلَقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطًا بِثُبُوتِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ . فَلَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يَلْحَقُ مَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ تَمْحُو سَيِّئَاتِهِ , وَلَا يَلْحَقُ الْمَشْفُوعَ لَهُ ,(1/74)
وَالْمَغْفُورَ لَهُ ; فَإِنَّ الذُّنُوبَ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا الَّتِي هِيَ جَهَنَّمُ بِأَسْبَابِ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ - لَكِنَّهَا مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا - وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ الشِّدَّةِ , وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ , وَتَزُولُ أَيْضًا بِدُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ : كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَشَفَاعَةِ الشَّفِيعِ الْمُطَاعِ , كَمَنْ يَشْفَعُ فِيهِ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا . وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ ارْتَفَعَ مُوجِبُهُ , وَمَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَهُ حُكْمُ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا , فَالشِّدَّةُ إذَا حَصَلَتْ بِذُنُوبٍ وَتَابَ مِنْ بَعْضِهَا خَفَّفَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا تَابَ مِنْهُ , بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ ; بِخِلَافِ صَاحِبِ التَّوْبَةِ الْعَامَّةِ . وَالنَّاسُ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ لَا يَتُوبُونَ تَوْبَةً عَامَّةً مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ فِي كُلِّ حَالٍ ; لِأَنَّهُ دَائِمًا يَظْهَرُ لَهُ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ مَا اعْتَدَى فِيهِ مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ , فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ دَائِمًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي الآداب الشرعية (1):
__________
(1) - الآداب الشرعية - (ج 1 / ص 125)(1/75)
فَصْلٌ ( حُكْمُ تَوْبَةِ الْكَافِرِ مِنْ الْمَعَاصِي دُونَ الْكُفْرِ وَالْعَكْسِ ) . وَلَا تَصِحُّ تَوْبَةُ كَافِرٍ مِنْ مَعْصِيَةٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ فِي قوله تعالى : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ * لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلًا . وَقِيلَ : تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْكُفْرِ بِالْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ , وَمِنْهُ بِالْإِسْلَامِ , وَيُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ , وَهَلْ تُغْفَرُ لَهُ الذُّنُوبُ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فِي الْإِسْلَامِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ( أَحَدُهُمَا ) يُغْفَرُ لَهُ الْجَمِيعُ لقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ * أَيْ : يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ , وَلِأَنَّهُ انْدَرَجَ فِي ضِمْنِ الْمُحَرَّمِ الْأَكْبَرِ فَسَقَطَ بِسُقُوطِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ يَنْدَرِجُ وَيَسْقُطُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ تَوْبَتِهِ مِنْهُ ؟ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ رحمهم الله وَلَمْ أَجِدْهُ صَرِيحًا فِي كَلَامِهِمْ , وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ ابْنِ حَامِدٍ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْغُفْرَانِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْخَبَرَ إلَّا حُجَّةً لِمَنْ اعْتَبَرَ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ أَعْمَالًا صَالِحَةً , وَإِنَّهُ يَجِيءُ عَلَى مَقَالَةِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَشْهَرَ خِلَافُهُ . ( وَالثَّانِي ) : لَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ عَنْ أَحْمَدَ رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّقُولُ وَالنُّصُوصُ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ , إنَّهُ إنْ تَابَ مِنْ جَمِيعِ مَعَاصِيهِ غُفِرَ لَهُ , وَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ . وَإِنْ كَانَ ذَاهِلًا عَنْ الْإِصْرَارِ وَالْإِقْلَاعِ إمَّا نَاسِيًا , أَوْ ذَاكِرًا غَيْرَ مُرِيدٍ لِلْفِعْلِ وَلَا لِلتَّرْكِ غُفِرَ لَهُ أَيْضًا وَالْحَدِيثَانِ يَأْتَلِفَانِ عَلَى هَذَا يَعْنِي حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ يَا عَمْرُو { أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ . وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أُنَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ : أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا , وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ * قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : فَالْإِسْلَامُ لِتَضَمُّنِهِ التَّوْبَةَ الْمُطْلَقَةَ يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُنَافِي هَذَا الِاقْتِضَاءَ وَهُوَ الْإِصْرَارُ كَمَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مَا لَمْ يُنَاقِضْهُ كُفْرٌ مُتَّصِلٌ , فَالْإِصْرَارُ فِي الذُّنُوبِ كَالِاعْتِقَادِ فِي التَّصْدِيقِ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ بَلْ الْإِسْلَامُ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ مِنْ نَقِيضِهِ وَهُوَ الشِّرْكُ , وَالْكُفْرُ لَا تَوْبَةً مُطْلَقَةً , حَتَّى يُوجِبَ مَغْفِرَةً مُطْلَقَةً وَلَوْ تَضَمَّنَ تَوْبَةً مُطْلَقَةً فَإِنَّمَا يُوجِبُ مَغْفِرَةً مُطْلَقَةً , إذَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْمُحَرَّمُ , أَمَّا إذَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ بَلْ تَوَقَّفَ فِيهِ فَلَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ , وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ فَكَيْفَ يَسْقُطُ ؟ يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ قَالَ : كَمَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ . وَهَذَا يَكْفِي إذَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَلَوْ ذَكَرَهُ وَتَوَقَّفَ فِيهِ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا عَنْ عَمَلِ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ , فَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ بِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَا رَفَعَ عَمَلَ الْمُقْتَضِي بِالْكُلِّيَّةِ وَهُنَاكَ لَمْ يَرْفَعْهُ مُطْلَقًا فَلَيْسَ هُوَ نَظِيرُهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْثِيرُ التَّوَقُّفِ فِي الْأَمْرِ الْخَاصِّ وَهَذَا حَاصِلٌ , وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : فَالْإِسْلَامُ لِتَضَمُّنِهِ التَّوْبَةَ الْمُطْلَقَةَ يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ إلَّا(1/76)
أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يُنَافِي هَذَا الِاقْتِضَاءَ وَهُوَ تَوَقُّفُهُ فِي بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ ذِكْرِهَا فَلَمْ يَنْدَمْ وَلَمْ يُقْلِعْ , كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ يُوجِبُ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ مَا لَمْ يُنَاقِضْهُ تَوَقُّفٌ فِي بَعْضِ الْمُكَفِّرَاتِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فَلَمْ يَنْدَمْ وَلَمْ يُقْلِعْ , وَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا لِلْقَوْلِ الثَّانِي وَمُوَافِقًا لِقَوْلِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ إنَّهُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ . هَذَا إنْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَتَضَمَّنُ تَوْبَةً مُطْلَقَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ , وَلِمَنْ قَالَ بِالْغُفْرَانِ أَنْ يَحْمِلَ خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى النِّفَاقِ فَيُسْلِمُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا , وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَكَانَ قَدْ فَعَلَ خَيْرًا وَإِحْسَانًا فَهَلْ يُكْتَبُ لَهُ فِي إسْلَامِهِ مَا عَمِلَهُ فِي كُفْرِهِ ؟ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ إنْ قُلْنَا : يُخَفَّفُ عَنْ الْكَافِرِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِمَا عَمِلَهُ فِي كُفْرِهِ , أَوْ ثَبَتَ خَبَرُ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي كُتِبَ لَهُ ذَلِكَ فِي إسْلَامِهِ وَإِلَّا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ . وَحَكَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ حَكِيمٍ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّهُ { سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أُمُورٍ كَانَ يَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ لَهُ : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ * وَإِنْ لَمْ يُكْتَبْ لَهُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِ الْخَيْرِ وَإِسْلَامِهِ . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا , وَمَحَا عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا , وَكَانَ عَمَلُهُ بَعْدُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ . وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ * ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرِيبِ حَدِيثِ مَالِكٍ وَرَوَاهُ عَنْهُ مِنْ تِسْعِ طُرُقٍ , وَثَبَتَ فِيهَا كُلِّهَا أَنَّ الْكَافِرَ إذَا حَسُنَ إسْلَامُهُ يُكْتَبُ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ كُلُّ حَسَنَةٍ عَمِلَهَا فِي الشِّرْكِ , وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَصِلْ سَنَدَهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ { كَتَبَ اللَّهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا * وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ , وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ * وَقَدْ فُسِّرَ حُسْنُ الْإِسْلَامِ هُنَا بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا , وَبَاطِنًا لَا يَكُونُ مُنَافِقًا وَلَعَلَّ يُؤَيِّدُ مَنْ قَالَ بِمِثْلِهِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَقَدْ يَقُولُ مَنْ قَالَ بِحُسْنِ الْإِسْلَامِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْكُفْرِ أَنْ يَقُولَ : حُسْنُ الْإِسْلَامِ هُنَا أَخَصُّ وَأَيْضًا بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ وَيَقُولُ : هَذَا أَخَصُّ مِنْ الظَّوَاهِرِ فِي الْمُضَاعَفَةِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَهُوَ أَوْلَى لَكِنْ لَا أَعْرِفُهُ قِيلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَلَا يَجُوزُ لَوْمُ التَّائِبِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ قَالَ وَإِذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ أَظْهِرْ لَهُ الْخَيْرَ .
وفي البحر الزخار(1) :
فَصْلٌ . وَشُرُوطُ وُجُوبِهَا خَمْسَةٌ ( الْأَوَّلُ ) الْإِسْلَامُ عَلَى الْخِلَافِ ( ى خعي م جط ح ) وَتَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ إذْ لَا تَطْهِيرَ مَعَ الْكُفْرِ , قُلْت : وَفِيهِ نَظَرٌ ( ش مد ) لَا تَسْقُطُ لِتَعَلُّقِهَا بِالذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ . وَقِيلَ : تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ * فَلَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا أُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ ى عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ . قُلْت : هِيَ بِالدَّيْنِ أَشْبَهُ ح تَلْزَمُ الذِّمِّيَّ , لَنَا لَا قُرْبَةً لِكَافِرٍ .
__________
(1) - البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - زيدية - (ج 4 / ص 390)(1/77)
( قَوْلُهُ ) { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ * هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةُ وَغَيْرُهُ , عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم , وَلَفْظُهُ { أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ * انْتَهَى . وَهُوَ أَيْضًا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ وَلَفْظُهُ { أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * .
" مَسْأَلَةٌ " ( هب ) وَإِذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْمَظْلَمَةُ , إذْ أَصْلُهَا لِمُعَيَّنٍ فَأَشْبَهَتْ الدَّيْنَ , بِخِلَافِ الزَّكَاةِ , إذْ قَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وسلم { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ * عَامٌّ إلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ كَالدَّيْنِ ( ص ) إنْ صَارَتْ لَهُ شَوْكَةٌ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ حَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لِآدَمِيٍّ . قُلْت : وَهُوَ قَوِيٌّ , قِيلَ : وَحَقُّ الْمَسْجِدِ كَحَقِّ الْآدَمِيِّ , وَقِيلَ : كَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ ) { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ * لَفْظُهُ فِي حَدِيثِ إسْلَامِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ { أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * أَخْرَجَ الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ مُسْلِمٌ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي البحر الرائق (1):
__________
(1) -البحر الرائق شرح كنز الدقائق - (ج 6 / ص 475)(1/78)
( قَوْلُهُ ثُمَّ إلَى الْمَوْقِفِ وَقِفْ بِقُرْبِ الْجَبَلِ ) أَيْ ثُمَّ رُحْ وَالْمُرَادُ بِالْجَبَلِ جَبَلُ الرَّحْمَةِ ( قَوْلُهُ وَعَرَفَاتٌ كُلِّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ ) لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ { عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ وَشِعَابُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ * وَفِي الْمُغْرِبِ عُرَنَةُ وَادٍ بِحِذَاءِ عَرَفَاتٍ وَبِتَصْغِيرِهَا سُمِيَتْ عُرَيْنَةُ يُنْسَبُ إلَيْهَا الْعُرَنِيُّونَ وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهَا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا بِغَرْبِيِّ مَسْجِدِ عَرَفَةَ حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إنَّ الْجِدَارَ الْغَرْبِيَّ مِنْ مَسْجِدِ عَرَفَةَ لَوْ سَقَطَ سَقَطَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ , وَحَكَى الْبَاجِيَّ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ عَرَفَةَ فِي الْحِلِّ وَعُرَنَةَ فِي الْحَرَمِ . ( قَوْلُهُ حَامِدًا مُكَبِّرًا مُهَلِّلًا مُلَبِّيًا مُصَلِّيًا دَاعِيًا ) أَيْ قِفْ حَامِدًا إلَى آخِرِهِ لِحَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَكَانَ عليه السلام يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ عليه السلام دَعَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لِأُمَّتِهِ بِالْمَغْفِرَةِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ ثُمَّ أَعَادَ الدُّعَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَأُجِيبَ حَتَّى الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ * خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فَإِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ سَاقِطُ الِاحْتِجَاجِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحُفَّاظُ لَكِنَّ لَهُ شَوَاهِدَ كَثِيرَةً فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { كَانَ فُلَانٌ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ فَجَعَلَ الْفَتَى يُلَاحِظُ النِّسَاءَ وَيَنْظُرُ إلَيْهِنَّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ أَخِي إنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ غُفِرَ لَهُ * وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مَرْفُوعًا { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ * وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا { أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مَرْفُوعًا { مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ * فَإِنَّهَا تَقْتَضِي تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ , وَلَوْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَكِنْ ذَكَرَ الْأَكْمَلُ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الذُّنُوبَ السَّالِفَةَ تُحْبَطُ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً , وَتَتَنَاوَلُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْعِبَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَرْبِيِّ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى لَوْ كَانَ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا كَانَ الْإِسْلَامُ كَافِيًا فِي تَحْصِيلِ مُرَادِهِ وَلَكِنْ ذَكَرَ صلى الله عليه وسلم الْهِجْرَةَ وَالْحَجَّ تَأْكِيدًا فِي بِشَارَتِهِ وَتَرْغِيبًا فِي مُبَايَعَتِهِ فَإِنَّ الْهِجْرَةَ وَالْحَجَّ لَا يُكَفِّرَانِ الْمَظَالِمَ , وَلَا يُقْطَعُ فِيهِمَا بِمَحْوِ الْكَبَائِرِ , وَإِنَّمَا يُكَفِّرَانِ الصَّغَائِرَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَالْكَبَائِرُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا كَالْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَحِينَئِذٍ لَا يُشَكُّ أَنَّ ذِكْرَهُمَا كَانَ لِلتَّأْكِيدِ ا هـ . وَهَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الطِّيبِيِّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ , وَقَالَ إنَّ الشَّارِحِينَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ , وَهَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي(1/79)
عِيَاضٌ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ , فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ , وَأَنَّ الْحَجَّ لَا يُقْطَعُ فِيهِ بِتَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّكْفِيرِ لِلْكُلِّ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ عَنْهُ , وَكَذَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامَاتِ وَالزَّكَاةِ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ , وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ إثْمَ مَطْلِ الدَّيْنِ وَتَأْخِيرِهِ يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إذَا مَطَلَ صَارَ آثِمًا الْآنَ , وَكَذَا إثْمُ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوْقَاتِهَا يَرْتَفِعُ بِالْحَجِّ لَا الْقَضَاءُ ثُمَّ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ آثِمًا عَلَى الْقَوْلِ بِفَوْرِيَّتِهِ , وَكَذَا الْبَقِيَّةُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمُقْتَضَى عُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَجِّ كَمَا لَا يَخْفَى . وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مُلَبِّيًا إلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ يَقْطَعُهَا إذَا وَقَفَ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ , وَهُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { الْحَجُّ عَرَفَةَ * وَشَرْطُهُ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ فِي أَرْضِ عَرَفَاتٍ . الثَّانِي أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَلَيْسَ الْقِيَامُ مِنْ شَرْطِهِ وَلَا مِنْ وَاجِبَاتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ جَالِسًا جَازَ ; لِأَنَّ الْوُقُوفَ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْكَيْنُونَةُ فِيهِ , وَكَذَا النِّيَّةُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ وَوَاجِبُهُ الِامْتِدَادُ إلَى الْغُرُوبِ وَأَمَّا سُنَنُهُ فَالِاغْتِسَالُ لِلْوُقُوفِ وَالْخُطْبَتَانِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَتَعْجِيلُ الْوُقُوفِ عَقِيبَهُمَا , وَأَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا لِكَوْنِهِ أَعْوَنَ عَلَى الدُّعَاءِ وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَضِّئًا لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ , وَأَنْ يَقِفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَأَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ حَاضِرَ الْقَلْبِ فَارِغًا مِنْ الْأُمُورِ الشَّاغِلَةِ مِنْ الدُّعَاءِ , فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ فِي مَوْقِفِهِ طَرِيقَ الْقَوَافِلِ وَغَيْرِهِمْ لِئَلَّا يَنْزَعِجَ بِهِمْ , وَأَنْ يَقِفَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ السُّودِ مَوْقِفَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ يَقِفُ بِقُرْبٍ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا مَا اُشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَوَّام مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ جَبَلِ الرَّحْمَةِ الَّذِي هُوَ بِوَسَطِ عَرَفَاتٍ , وَتَرْجِيحُهُمْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ وَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ , وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي صُعُودِ هَذَا الْجَبَلِ فَضِيلَةً تَخْتَصُّ بِهِ بَلْ لَهُ حُكْمُ سَائِرِ أَرَاضِي عَرَفَاتٍ غَيْرَ مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ أَفْضَلُ إلَّا الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي فَإِنَّهُمَا قَالَا بِاسْتِحْبَابِ قَصْدِ هَذَا الْجَبَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ جَبَلُ الدُّعَاءِ . قَالَ وَهُوَ مَوْقِفُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا قَالَاهُ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ كَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَمِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَإِنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلَفُّظِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ الْمُخَالَفَاتِ مَعَ النَّدَمِ بِالْقَلْبِ , وَأَنْ يُكْثِرَ الْبُكَاءَ مَعَ الذِّكْرِ فَهُنَاكَ تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ , وَتُسْتَقَالُ الْعَثَرَاتُ وَتُرْتَجَى الطَّلَبَاتُ , وَأَنَّهُ لَمَجْمَعٌ عَظِيمٌ وَمَوْقِفٌ جَسِيمٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُخْلَصِينَ , وَهُوَ أَعْظَمُ مَجَامِعِ الدُّنْيَا , وَقَدْ قِيلَ إذَا وَافَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ غُفِرَ لِكُلِّ أَهْلِ الْمَوْقِفِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حِجَّةً فِي غَيْرِ يَوْمِ جُمُعَةٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ , وَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَالْمُنَافَرَةِ وَالْكَلَامِ الْقَبِيحِ بَلْ وَمِنْ الْمُبَاحِ(1/80)
أَيْضًا فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ .
( قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقَفَ بِقُرْبِ الْجَبَلِ ) أَيْ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ الْكِبَارِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُؤَلِّفُ وَهُوَ مَوْقِفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ الصَّخَرَاتُ السُّودُ الْكِبَارُ الْمُفْتَرِشَاتُ فِي طَرَفَيْ الْجُبَيْلَاتِ الصِّغَارِ الَّتِي كَأَنَّهَا الرَّوَابِي الصِّغَارُ عِنْدَ جَبَلِ الرَّحْمَةِ وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَطْنَ نَاقَتِهِ إلَى الصَّخَرَاتِ وَجَبَلِ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَكَانَ مَوْقِفُهُ عِنْدَ النَّابِتِ . قَالَ الْأَزْرَقِيُّ وَالنَّابِتُ هُوَ الْفَجْوَةُ الَّتِي خَلْفَ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَأَنَّ مَوْقِفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى ضِرْسٍ مُضَرَّسٍ بَيْنَ أَحْجَارٍ هُنَاكَ نَاتِئَةٌ مِنْ جَبَلِ الْآلِ قَالَ الْفَارِسِيُّ قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ وَقَدْ اجْتَهَدْت عَلَى تَعْيِينِ مَوْقِفِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَوَافَقَنِي عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ مُحَدِّثِي مَكَّةَ وَعُلَمَائِهَا حَتَّى حَصَلَ الظَّنُّ بِتَعْيِينِهِ , وَأَنَّهُ الْفَجْوَةُ الْمُسْتَعْلِيَةُ الْمُشْرِفَةُ عَلَى الْمَوْقِفِ الَّتِي عَنْ يَمِينِهَا وَوَرَاءَهَا صَخْرَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِصَخَرَاتِ الْجَبَلِ , وَهَذِهِ الْفَجْوَةُ بَيْنَ الْجَبَلِ وَالْبِنَاءِ الْمُرَبَّعِ عَنْ يَسَارِهِ وَهِيَ إلَى الْجَبَلِ أَقْرَبُ بِقَلِيلٍ بِحَيْثُ يَكُونُ الْجَبَلُ قُبَالَتَك بِيَمِينٍ إذَا اسْتَقْبَلْت الْقِبْلَةَ وَالْبِنَاءُ الْمُرَبَّعُ عَنْ يَسَارِك بِقَلِيلٍ وَرَاءَ فَإِنْ ظَفِرْت بِمَوْقِفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى فَلَازِمْهُ وَلَا تُفَارِقْهُ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْك فَقِفْ مَا بَيْنَ الْجَبَلِ وَالْبِنَاءِ الْمَذْكُورِ عَلَى جَمِيعِ الصَّخَرَاتِ وَالْأَمَاكِن الَّتِي بَيْنَهُمَا وَعَلَى سَهْلِهَا تَارَةً وَعَلَى جَبَلِهَا تَارَةً لَعَلَّك أَنْ تُصَادِفَ الْمَوْقِفَ النَّبَوِيَّ كَذَا فِي الْمُرْشِدِيِّ عَلَى الْكَنْزِ , وَقَالَ الْقَاضِي مُحَمَّدٌ عِيدٌ وَالْبِنَاءُ الْمُرَبَّعُ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِمَطْبَخِ آدَمَ عليه السلام وَقَدْ وَقَفْت بِمَوْقِفِهِ عليه السلام مِرَارًا كَثِيرَةً , وَحَصَلَ لِي مِنْهُ خُشُوعٌ عَظِيمٌ وَيُعْرَفُ بِحِذَائِهِ صَخْرَةٌ مَخْرُوقَةٌ تَتْبَعُ هِيَ وَمَا حَوْلَهَا مِنْ الصَّخَرَاتِ الْمَفْرُوشَةِ وَمَا وَرَاءَهَا مِنْ الصِّخَارِ السُّودِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْجَبَلِ هُنَا الْمَطْلُوبُ ا هـ . كَذَا فِي حَاشِيَةِ الْمَدَنِيِّ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ . ( قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ ) ظَاهِرُ هَذَا وَكَذَا قَوْلُهُ فِي مُزْدَلِفَةَ وَهِيَ مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ أَنَّ الْمَكَانَيْنِ لَيْسَا بِمَكَانِ وُقُوفٍ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِمَا كَمَا سَيَأْتِي ( قَوْلُهُ تُحْبَطُ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ ) أَيْ بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثَةِ لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ . ( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ إثْمَ مَطْلِ الدَّيْنِ وَتَأْخِيرِهِ يَسْقُطُ إلَخْ ) أَقُولُ : بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ صَلَاةً عَنْ وَقْتِهَا فَقَدْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً وَهِيَ التَّأْخِيرُ , وَوَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ الْقَضَاءُ وَكَذَا إذَا مَطَلَ الدَّيْنَ , وَكَذَا إذَا قَتَلَ أَحَدًا ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً وَهِيَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ مُخَالِفًا نَهْيَ الرَّبِّ تَعَالَى وَوَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلْقِصَاصِ إنْ كَانَ عَمْدًا أَوْ تَسْلِيمُ الدِّيَةِ وَكَذَا نَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ مَعْصِيَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا وَاجِبٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَاجِبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقِ الْعَبْدِ فَمَا وَرَدَ مِنْ تَكْفِيرِ الْحَجِّ لِلْكَبَائِرِ , وَالْمُرَادُ تَكْفِيرُهُ لِلْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ كَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ وَمَطْلِ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي مِنْ لُزُومِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ وَأَدَاءِ الدَّيْنِ وَتَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْقِصَاصِ أَوْ تَسْلِيمِ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ ; لِأَنَّ التَّكْفِيرَ إنَّمَا يَكُونُ لِلذَّنْبِ وَهَذِهِ وَاجِبَاتٌ لَا ذُنُوبٌ حَتَّى تَسْقُطَ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ سُقُوطُ الْوَاجِبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى تِلْكَ الذُّنُوبِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لَا تَتِمُّ(1/81)
إلَّا بِفِعْلِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا ثُمَّ تَابَ لَا تَتِمُّ تَوْبَتُهُ إلَّا بِضَمَانِ مَا غَصَبَ فَمَا بَالُك بِالْحَجِّ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ , وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا لَا تَتِمُّ تَوْبَتُهُ إلَّا بِفِعْلِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْغَصْبِ فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِذَلِكَ وَإِلَّا فَلَوْ غَصَبَ وَتَابَ عَنْ فِعْلِ الْغَصْبِ الْمَذْكُورِ وَحَبَسَ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ عِنْدَهُ وَمَنَعَ صَاحِبَهُ عَنْهُ , وَقَدْ عَزَمَ عَلَى رَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ وَإِنْ بَقِيَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بِهِ إلَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ فَحِينَئِذٍ تَتِمُّ تَوْبَتُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ , وَكَذَا يُقَالُ فِي مَطْلِ الدَّيْنِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ الْحَجَّ كَالتَّوْبَةِ فِي تَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِحُقُوقِ الْعَبْدِ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِحَقِّ أَحَدٍ أَيْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا وَاجِبٌ آخَرُ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ فَيُكَفِّرُ الْحَجُّ الذَّنْبَ وَيَبْقَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي ذِمَّتِهِ إنْ كَانَ ذَنْبًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَقُّ أَحَدِهِمَا كَمَا قَرَّرَنَا , وَإِلَّا فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَاغْتَنِمْ هَذَا التَّحْرِيرَ الْفَرِيدَ فَإِنَّ بِهِ يَتَّضِحُ الْمَرَامُ وَتَنْدَفِعُ الشُّبْهَةُ وَالْأَوْهَامُ , وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْعَلَّامَةُ إبْرَاهِيمُ اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ عَلَى مَنْظُومَتِهِ فِي التَّوْحِيدِ فَقَالَ إنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم { مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ * لَا يَتَنَاوَلُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقَ عِبَادِهِ ; لِأَنَّهَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَتْ ذَنْبًا , وَإِنَّمَا الذَّنْبُ الْمَطْلُ فِيهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إسْقَاطِ صَاحِبِهِ فَاَلَّذِي يَسْقُطُ إثْمُ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ ا هـ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( قَوْلُهُ أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ فِي أَرْضِ عَرَفَاتٍ ) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا رُكْنُهُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ بِدُونِهِ كَذَا فِي شَرْحِ اللُّبَابِ ( قَوْلُهُ وَأَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا ) عَدَّ فِي اللُّبَابِ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُقُوفِ الصَّوْمُ لِمَنْ قَوِيَ وَالْفِطْرُ لِلضَّعِيفِ . قَالَ وَقِيلَ يُكْرَهُ قَالَ شَارِحُهُ وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لِئَلَّا يُسِيءَ خُلُقَهُ فَيُوقِعَهُ فِي مَحْذُورٍ أَوْ مَحْظُورٍ , وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ ; لِأَنَّهُ يُعْجِزُهُ عَنْ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَفْطَرَ يَوْمَ عَرَفَةَ مَعَ كَمَالِ الْقُوَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ أَحَدًا عَنْ صَوْمِهِ فَلَا وَجْهَ لِكَرَاهَتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَأَمَّا مَا فِي الْخَانِيَّةِ وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ ; لِأَنَّهُ يُعْجِزُهُ عَنْ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَمَبْنِيٌّ عَلَى حُكْمِ الْأَغْلَبِ فَلَا يُنَافِيهِ مَا فِي الْكَرْمَانِيِّ مِنْ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجِّ الصَّوْمُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ عِنْدَنَا إلَّا إذَا كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ فَحِينَئِذٍ تَرْكُهُ أَوْلَى وَفِي الْفَتْحِ إنْ كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ الْوُقُوفِ وَالدَّعَوَاتِ وَالْمُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ ا هـ . ( قَوْلُهُ وَأَنْ يَقِفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ) عِبَارَةُ مَتْنِ التَّنْوِيرِ وَوَقَفَ الْإِمَامُ عَلَى نَاقَتِهِ قَالَ الْمَدَنِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ لَا خُصُوصِيَّةَ لِلْإِمَامِ هُنَا بَلْ يَنْبَغِي الرُّكُوبُ لِكُلِّ وَاقِفٍ فِي عَرَفَةَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِمَامَ لِأَنَّهُ يُقْتَدَى بِهِ فِي جَمِيعِ الْمَنَاسِكِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا يَقْتَدُونَ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم , وَلِأَنَّهُ مَتَى وَقَفَ رَاكِبًا يَكُونُ قَلْبُهُ فَارِغًا مِنْ جَانِبِ الدَّابَّةِ فَيَكُونُ قَلْبُهُ فِي الدُّعَاءِ أَسْكَنَ وَفِي الْمُنَاجَاةِ أَخْلَصَ , قَالَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الْعَفِيفُ ثُمَّ قَالَ وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ نَقْلًا عَنْ مَنْسَكِ ابْنِ الْعَجَمِيِّ يُكْرَهُ الْوُقُوفُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ إلَّا فِي حَالِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ , وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُسْتَثْنًى عَمَّا نَهَى عَنْهُ مِنْ اتِّخَاذِ ظُهُورِ الدَّوَابِّ مَسَاطِبَ يُجْلَسُ عَلَيْهَا ا هـ . وَفِي مَنْسَكِ ابْنِ الْعَجَمِيِّ(1/82)
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَرْكَبٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ قَائِمًا فَإِذَا أَعْيَا جَلَسَ وَلَوْ وَقَفَ جَالِسًا جَازَ ا هـ . وَمَفْهُومُ عِبَارَةِ الْكَرْمَانِيِّ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوبِ وَلَمْ يَرْكَبْ يَكُونُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ فَافْهَمْ وَإِلَّا فَقَاعِدًا وَهُوَ يَلِي الْقِيَامَ فِي الْفَضِيلَةِ , وَيُكْرَهُ الِاضْطِجَاعُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْمَنَاسِكِ ا هـ . ( قَوْلُهُ وَقَدْ قِيلَ إذَا وَافَقَ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَخْ ) قَالَ الرَّمْلِيُّ قَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ عَرَفَةَ وَإِذَا وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حِجَّةٍ فِي غَيْرِ يَوْمِ جُمُعَةٍ أَخْرَجَهُ رَزِينٌ وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم { إذَا كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ * قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ سُئِلَ وَالِدِي عَنْ وَقْفَةِ الْجُمُعَةِ هَلْ لَهَا مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهَا ؟ فَأَجَابَ أَنَّ لَهَا مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهَا مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ . الثَّالِثُ أَنَّ الْعَمَلَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْأَزْمِنَةِ كَمَا يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْأَمْكِنَةِ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ أَفْضَلَ . الرَّابِعُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ وَلَيْسَتْ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ . الْخَامِسُ مُوَافَقَةُ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم فَإِنَّ وَقْفَتَهُ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , وَإِنَّمَا يُخْتَارُ لَهُ الْأَفْضَلُ . قَالَ وَالِدِي أَمَّا مِنْ حَيْثُ إسْقَاطُ الْفَرْضِ فَلَا مَزِيَّةَ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا , وَسَأَلَهُ بَعْضُ الطَّلَبَةِ فَقَالَ قَدْ جَاءَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ ذَلِكَ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي الْحَدِيثِ يَعْنِي الْمُتَقَدِّمَ ؟ فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَفِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَهَبُ قَوْمًا لِقَوْمٍ ا هـ . كَذَا فِي حَاشِيَةِ الشَّيْخِ نُورِ الدِّينِ الزِّيَادِيِّ الشَّافِعِيِّ . ( قَوْلُهُ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَا تَطَوُّعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ) أَيْ بَلْ يُصَلِّي سُنَّةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْوِتْرَ بَعْدَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ مَوْلَانَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْجَامِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السَّامِي فِي مَنْسَكِهِ كَذَا فِي شَرْحِ اللُّبَابِ لِلْقَارِي . ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إلَخْ ) لَا أَصْلَ لِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ فَعَلَهُ , وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ وَتَمَامُهُ فِي الْفَتْحِ .
وفي الزواجر(1) :
__________
(1) - الزواجر عن اقتراف الكبائر - (ج 1 / ص 78)(1/83)
وَمِنْهَا : مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ , وَلَا عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ * نَعَمْ . يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ قَوْمُ يُونُسَ لقوله تعالى : { إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ * بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ , وَأَنَّ إيمَانَهُمْ كَانَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ , وَهُوَ قَوْلٌ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ , وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ اسْتِثْنَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ كَرَامَةً وَخُصُوصِيَّةً لِنَبِيِّهِمْ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم قَدْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِحَيَاةِ أَبَوَيْهِ لَهُ حَتَّى آمَنَا بِهِ , كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ , وَابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ حَافِظُ الشَّامِ وَغَيْرُهُمَا فَنَفَعَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ إكْرَامًا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُصُوصِيَّاتُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا , وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي خَبَرِ إحْيَاءِ أَبَوَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَأَطَالَ فِيهِ بِمَا رَدَدْته عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى , وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ دِحْيَةَ وَغَيْرُهُمَا : لَمْ تَزَلْ فَضَائِلُهُ صلى الله عليه وسلم وَخَصَائِصُهُ تَتَوَالَى وَتَتَتَابَعُ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ , فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ , وَلَيْسَ إحْيَاؤُهُمَا , وَإِيمَانُهُمَا بِهِ مُمْتَنِعًا عَقْلًا , وَلَا سَمْعًا فَقَدْ أَحْيَا قَتِيلَ بَنِي إسْرَائِيلَ حَتَّى أَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ , وَكَانَ عِيسَى عليه السلام يُحْيِي الْمَوْتَى , وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم أَحْيَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ الْمَوْتَى , وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ إحْيَائِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَفَضِيلَتِهِ , وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم الشَّمْسَ بَعْدَ مَغِيبِهَا حَتَّى صَلَّى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ الْعَصْرَ , فَكَمَا أُكْرِمَ بِعَوْدِ الشَّمْسِ وَالْوَقْتِ بَعْدَ فَوَاتِهِ , فَكَذَلِكَ أُكْرِمَ بِعَوْدِ الْحَيَاةِ وَوَقْتِ الْإِيمَانِ بَعْدَ فَوَاتِهِ إكْرَامًا لَهُ أَيْضًا , وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ { وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ * نَزَلَتْ فِي أَبَوَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْنِي سَبَبَ نُزُولِهَا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ , وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْمُرَادُ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لَوْلَا كَرَامَتُك . وَخَبَرُ مُسْلِمٍ : { أَبِي وَأَبُوك فِي النَّارِ * . إمَّا كَانَ قَبْلَ عِلْمِهِ أَوْ قَالَهُ تَطْمِينًا , وَإِرْشَادًا لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ , فَإِنَّهُ تَغَيَّرَ لَمَّا قَالَ أَبُوك فِي النَّارِ , وَأَخَذَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَمُجْتَهِدُوهَا الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الْمُعَوَّلُ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى أَعْنِي قوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا * إجْمَاعَهُمْ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ , وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ عليه السلام مِنْ طَرِيقَيْنِ وَقَالَ فِي إحْدَاهُمَا حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَفِي الْأُخْرَى حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { خَلَقَ اللَّهُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا وَخَلَقَ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا * . وَأَمَّا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَزَّ قَائِلًا : { حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * فَهُوَ لَا يَنْفَعُهُ بِدَلِيلِ قوله تعالى عَقِبَ ذَلِكَ : { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * وَسَبَبُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ كَرَّرَ الْإِيمَانَ مَرَّتَيْنِ بِنَاءً عَلَى فَتْحِ أَنَّ وَثَلَاثًا بِنَاءً عَلَى كَسْرِهَا أَنَّهُ إنَّمَا آمَنَ عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَهُ وَلِقَوْمِهِ , وَالْإِيمَانُ حِينَئِذٍ غَيْرُ نَافِعٍ لِمَا تَقَرَّرَ , وَأَيْضًا فَإِيمَانُهُ إنَّمَا كَانَ تَقْلِيدًا مَحْضًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ * فَكَأَنَّهُ(1/84)
اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ , وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّ لِلْعَالَمِ إلَهًا فَآمَنَ بِذَلِكَ الْإِلَهِ الَّذِي سَمِعَ بَنِي إسْرَائِيلَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِهِ فَآمَنَ بِهِ , وَهَذَا هُوَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا مُنْكِرًا لِوُجُودِ الصَّانِعِ , وَمِثْلُ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْخَبِيثِ الْبَالِغِ نِهَايَةَ الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ لَا يَزُولُ بِتَقْيِيدٍ مَحْضٍ , بَلْ لَا بُدَّ فِي مُزِيلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بُرْهَانًا قَطْعِيًّا وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَلَا بُدَّ فِي إسْلَامِ الدَّهْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ كَانَ قَدْ دَانَ بِشَيْءٍ أَنْ يُقِرَّ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ , فَلَوْ قَالَ : آمَنْت بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُ مُسْلِمًا كَمَا مَرَّ وَفِرْعَوْنُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِبُطْلَانِ مَا كَانَ كَفَرَ بِهِ مِنْ نَفْيِ الصَّانِعِ , وَإِلَهِيَّةِ نَفْسِهِ , وَقَوْلُهُ : { إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ * لَا يُدْرَى مَا الَّذِي أَرَادَ بِهِ , فَإِذَا صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ فِي " آمَنْتُ بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ " بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ لِاحْتِمَالِهِ فَكَذَا فِيمَا قَالَهُ . وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ , فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ آمَنَ بِاَللَّهِ إيمَانًا صَحِيحًا هُوَ لَمْ يُؤْمِنُ بِمُوسَى صلى الله عليه وسلم , وَلَا تَعَرَّضَ لَهُ حِينَئِذٍ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ إيمَانُهُ نَافِعًا , أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ قَالَ أُلُوفًا مِنْ الْمَرَّاتِ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ الَّذِي آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَقُولَ : وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَإِنْ قُلْت : السَّحَرَةُ لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي إيمَانِهِمْ لِلْإِيمَانِ بِمُوسَى وَمَعَ ذَلِكَ قُبِلَ إيمَانُهُمْ . قُلْت : مَمْنُوعٌ بَلْ تَعَرَّضُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * عَلَى أَنَّ إيمَانَهُمْ حِينَئِذٍ إيمَانٌ بِمُعْجِزَةِ مُوسَى وَهِيَ الْعَصَا الَّتِي تَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا , وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِمُعْجِزَةِ الرَّسُولِ إيمَانٌ بِالرَّسُولِ فَهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى صَرِيحًا بِخِلَافِ فِرْعَوْنَ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ صَرِيحًا , وَلَا إشَارَةً , بَلْ ذِكْرُهُ بَنِي إسْرَائِيلَ دُونَ مُوسَى مَعَ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْحَقُّ الْعَارِفُ بِالْإِلَهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَالْهَادِي إلَى طَرِيقِهِ فِيهِ إشَارَةٌ مَا إلَى بَقَائِهِ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ . فَإِنْ قُلْت : قَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ الْقَاضِي عَبْدُ الصَّمَدِ الْحَنَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ , وَلَوْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ قَدِيمٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوَائِلَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ , وَقَالَ الذَّهَبِيُّ : الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ رَأْسُ الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الثَّلَاثُمِائَةِ , وَإِذَا كَانَ مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ ذَلِكَ , فَكَيْفَ سَاغَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ ؟ . قُلْت : لَوْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ ذَلِكَ عَنْ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا , وَلَمْ يَخْتَلَّ بِهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ , لِأَنَّا لَمْ نَحْكُمْ بِكُفْرِهِ لِأَجْلِ إيمَانِهِ عِنْدَ الْيَأْسِ فَحَسْبُ , بَلْ لِمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ إيمَانًا صَحِيحًا , وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهُوَ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُوسَى أَصْلًا فَلَا يَرُدُّ مَا حُكِيَ عَنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا . فَإِنْ قُلْت : قَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي فُتُوحَاتِهِ الْمَكِّيَّةِ بِصِحَّةِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ , وَأَنَّ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنٌ , فَإِنَّهُ قَالَ : مَا حَاصِلُهُ لَمَّا حَالَ الْغَرَقُ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ أَطْمَاعِهِ لَجَأَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَإِلَى مَا أَعْطَاهُ بَاطِنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ , فَقَالَ : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي(1/85)
آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ * لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ , كَمَا قَالَتْ السَّحَرَةُ لَمَّا آمَنَتْ : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * لِرَفْعِ الِارْتِيَابِ , وَإِزَاحَةِ الْإِشْكَالِ ثُمَّ قَالَ : { وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * فَخَاطَبَهُ بِلِسَانِ الْعَتْبِ آلْآنَ أَظْهَرْتَ مَا كُنْتَ قَبْلُ عَلِمْتَهُ { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * فِي اتِّبَاعِك { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ * فَبَشَّرَهُ قَبْلَ قَبْضِ رُوحِهِ { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَك آيَةً * أَيْ لِتَكُونَ النَّجَاةُ عَلَامَةً لَهُ إذَا قَالَ مَا قُلْتَهُ كَانَتْ لَهُ النَّجَاةُ مِثْلَ مَا كَانَتْ لَك إذْ الْعَذَابُ مَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِظَاهِرِك , وَقَدْ أَرَيْتُ الْخَلْقَ نَجَاتَهُ مِنْ الْعَذَابِ فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْغَرَقِ عَذَابًا وَصَارَ الْمَوْتُ فِيهِ شَهَادَةً خَالِصَةً , كُلُّ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَيْأَسَ أَحَدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ * وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ . وَأَمَّا قوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا * فَكَلَامٌ مُحَقَّقٌ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ فَإِنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ فَمَا نَفَعَهُمْ إلَّا اللَّهُ , وقوله تعالى : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ * يَعْنِي الْإِيمَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْيَأْسِ , وَإِنَّمَا قَبَضَ فِرْعَوْنَ , وَلَمْ يُؤَخِّرْ فِي أَجَلِهِ فِي حَالِ إيمَانِهِ لِئَلَّا يَرْجِعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّعْوَى . وَأَمَّا قوله تعالى : { فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ * فَمَا فِيهِ نَصٌّ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا مَعَهُمْ بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ * , وَلَمْ يَقُلْ أَدْخِلُوا فِرْعَوْنَ , وَرَحْمَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ حَيْثُ أَنْ لَا يَقْبَلَ إيمَانَ الْمُضْطَرِّ , وَأَيُّ اضْطِرَارٍ أَعْظَمَ مِنْ اضْطِرَارِ فِرْعَوْنَ فِي حَالِ الْغَرَقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ * فَقَرَنَ لِلْمُضْطَرِّ إذَا دَعَاهُ الْإِجَابَةَ وَكَشْفَ السُّوءِ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْغَرَقِ فِي الْمَاءِ انْتَهَى كَلَامُهُ . فَهَلْ هَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرٌ أَوْ مَرْدُودٌ فَمَا وَجْهُ رَدِّهِ ؟ قُلْت : لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرًا , وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ جَلَالَةَ قَائِلِهِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ لَيْسَتْ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ . , وَلَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ : مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ إلَّا صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ كُتُبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ هَامَانَ وَقَارُونَ فِي النَّارِ , , وَإِذَا اخْتَلَفَ كَلَامُ إمَامٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِمَا يُوَافِقُ الْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ وَيُعْرَضُ عَمَّا خَالَفَهَا , بَلْ قَدْ مَرَّ لَك أَنَّ الْآيَةَ وَحَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ الصَّحِيحَ صَرِيحَانِ فِي بُطْلَانِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْيَأْسِ فَلَا يُلْتَفَتُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا مَرَّ مِنْ تَأْوِيلِ { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ * بِأَنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ , وَأَيْضًا فَمِمَّا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إضَافَةُ الْأَشْيَاءِ إلَى أَسْبَابِهَا . فَإِذَا قِيلَ : لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ إلَّا الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ , وَأَيُّ مَعْنًى مُسَوِّغٍ لِهَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَخُصَّ نَفْعَ اللَّهِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ وُقُوعِ الْعَذَابِ مَعَ النَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ الْحَقُّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَقْتٍ , وَلَوْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ لَمَا اسْتَأْصَلَهُمْ بِالْعَذَابِ . وقوله تعالى : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ * دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ * أَنَّهُمْ بَاقُونَ مَعَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ عَلَى الْكُفْرِ , وَكَفَى بِتَفْسِيرِ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , فَمَنْ بَعْدَهُمْ الْمُوَافِقِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِلْإِجْمَاعِ السَّابِقَيْنِ الْآيَةَ بِمَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ ؟ , وَإِذَا ثَبَتَ وَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُ الْيَأْسِ ثَبَتَ أَنَّ إيمَانَ فِرْعَوْنَ لَا يَصِحُّ , عَلَى أَنَّنَا قَدَّمْنَا أَنَّنَا لَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ إيمَانِ الْيَأْسِ ,(1/86)
فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ أَيْضًا لِعَدَمِ إيمَانِهِ بِمُوسَى وَهَارُونَ صلى الله عليهما وسلم بِخِلَافِ السَّحَرَةِ , وَمَنْ تَأَمَّلَ صِيغَةَ إيمَانِهِمْ الْمَحْكِيَّتَيْنِ عَنْهُمَا فِي الْقُرْآنِ عَلِمَ اتِّضَاحَ مَا بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ فَلَا يَصْغَ إلَى قِيَاسِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ , وَقَوْلُهُ : إنَّهُ لَجَأَ إلَى مَا أَعْطَاهُ بَاطِنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ عَجِيبٌ , وَأَيُّ ذِلَّةٍ وَافْتِقَارٍ كَانَ عَلَيْهِمَا بَاطِنُهُ وَهُوَ يُنْكِرُ رُبُوبِيَّةَ رَبِّ الْأَرْبَابِ , وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْإِلَهَ الْمُطْلَقَ وَالرَّبَّ الْأَكْبَرَ يُؤْذِي مُوسَى وَيُكَذِّبُهُ وَيُعَانِدُهُ , فَهَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ إلَّا كَأَبِي جَهْلٍ . وَمِنْ ثَمَّ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ , وَبِتَسْلِيمِ أَنَّ بَاطِنَهُ كَانَ عَلَيْهِمَا فَأَيُّ نَفْعٍ لَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَحَمْلُ { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * عَلَى الْعَتْبِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ إذْ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ , وَإِيمَانُهُ لَكَانَ الْأَنْسَبُ بِمَقَامِ الْفَضْلِ الَّذِي طَمَحَ إلَيْهِ نَظَرُ الشَّيْخِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : الْآنَ نَقْبَلُك وَنُكْرِمُك لِاسْتِلْزَامِ صِحَّةِ إيمَانِهِ رِضَا الْحَقِّ عَنْهُ . وَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ الرِّضَا الْأَكْبَرُ لَا يُقَالُ لَهُ بِاعْتِبَارِ رِعَايَةِ مَقَامِ الْفَضْلِ جَوَابًا لِإِيمَانِهِ الصَّحِيحِ { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَهُ أَدْنَى رَوِيَّةٍ وَسَلِيقَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ لَا الْمَرْضِيُّ عَنْهُ , وَتَخْصِيصُ { وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * بِمَا مَرَّ يَأْبَاهُ هَذَا الْبَيَانُ الَّذِي تَقَرَّرَ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ إيمَانُهُ مُحِيَ عَنْهُ مَا عَصَاهُ وَأَفْسَدَهُ فِي أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ , فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ الْمَحْوِ الْعَظِيمِ يُعَاقَبُ وَيُخَاطَبُ بِذَلِكَ التَّأْنِيبِ الْمَحْضِ وَالتَّقْرِيعِ الصِّرْفِ وَالتَّوْبِيخِ الْحَقِّ , فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إلَّا لِإِقَامَةِ أَعْظَمِ نَوَامِيسِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ , وَتَذْكِيرِهِ بِقَبَائِحِهِ الَّتِي قَدَّمَهَا , وَإِعْلَامِهِ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي مَنَعَتْهُ عَنْ النُّطْقِ بِالْإِيمَانِ إلَى آخِرِ رَمَقٍ مِنْهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ النُّطْقُ بِهَا حِينَئِذٍ . سِيَّمَا وَهُوَ بَاقٍ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِرَسُولِهِ وَعِنَادِهِ لِآيَاتِهِ , وَإِعْرَاضِهِ عَنْ جَنَابِهِ , وَتَخْصِيصُ النَّجَاةِ , بِالْبَدَنِ أَعْظَمُ وَأَعْدَلُ شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهَا إلَّا مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ , وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُعْتَبِرُونَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِغَرَقِهِ سِيَّمَا مَعَ دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةَ , وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَمُوتُ فَأُلْقِيَ بِنَجْوَةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَيْ رَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ , وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ لِيُعْرَفَ بِهَا , وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْبَدَنَ عَلَى الدِّرْعِ وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ يُعْرَفُ بِهَا , وَيُؤَيِّدُهُ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ بِأَبْدَانِك أَيْ دُرُوعِك , لِأَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ كَثِيرًا مِنْهَا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَهُوَ عُرْيَانٌ لَا شَيْءَ يَسْتُرُهُ أَوْ أَنَّهُ بَدَنٌ بِلَا رُوحٍ , وَلَا تُنَافِيهِ الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ لِأَنَّهُ عَلَيْهَا جُعِلَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بَدَنًا عَلَى حَدِّ : شَابَتْ مَفَارِقُهُ . وَقُرِئَ شَاذًّا أَيْضًا نُنَحِّيكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ نُلْقِيك بِنَاحِيَةٍ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : رَمَاهُ إلَى جَانِبِ الْبَحْرِ كَالثَّوْرِ لِيَكُونَ لِمَنْ خَلْفَهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ عَلَامَةً عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ مِمَّنْ تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقْصَمَ وَيُؤْخَذَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ , لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْ طَرِيقَتِهِ مَعَ مَا فِي تَخْصِيصِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ قَوْمِهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى بَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِدْقِ مُوسَى فِيمَا جَاءَ بِهِ , ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى هَذَا الْمَقَامَ عَزَّ قَائِلًا : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ * زَجْرًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّلَائِلِ وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ *(1/87)
. وَمِنْهَا : دَلَّتْ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ فِي جَهَنَّمَ دَائِمٌ مُؤَبَّدٌ وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ , فَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إلَّا مَا شَاءَ رَبُّك إنَّ رَبَّك فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * فَظَاهِرُهُ أَنَّ مُدَّةَ عِقَابِهِمْ مُسَاوِيَةٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا يَكُونُونَ فِيهِ خَالِدِينَ فِيهَا , وَقَدْ أَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ بِنَحْوِ عِشْرِينَ وَجْهًا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى حِكْمَةِ التَّقْيِيدِ بِمُدَّةِ دَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ , وَبَعْضُهَا إلَى حِكْمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَعْنَاهُ . فَمِنْ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْمُرَادَ سَمَوَاتُ الْجَنَّةِ وَأَرْضُهَا ; إذْ السَّمَاءُ كُلُّ مَا عَلَاك , وَالْأَرْضُ كُلُّ مَا اسْتَقْرَيْتَ عَلَيْهِ , وَكَوْنُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَهُمَا سَمَاءٌ وَأَرْضٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ , فَانْدَفَعَ التَّنْظِيرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِلْمُخَاطَبِينَ أَوْ سَمَوَاتِ الدُّنْيَا وَأَرْضِهَا , وَأُجْرِيَ ذَلِكَ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ دَوَامِ الشَّيْءِ وَتَأْبِيدِهِ بِذَلِكَ وَنَحْوِهِ كَقَوْلِهِمْ : لَا آتِيك مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ , أَوْ مَا جَنَّ لَيْلٌ وَسَالَ سَيْلٌ , أَوْ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ , أَوْ مَا طَمَا الْبَحْرُ , أَوْ مَا قَامَ الْجَبَلُ , لِأَنَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُ الْعَرَبَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي عُرْفِهِمْ تُفِيدُ الْأَبَدَ وَالدَّوَامَ , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ أَصْلُهَا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ , وَأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي الْآخِرَةِ يُرَدَّانِ إلَى النُّورِ الَّذِي خُلِقَا مِنْهُ وَهُمَا دَائِمَانِ أَبَدًا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ , ثُمَّ هَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ التَّقْيِيدِ بِدَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ لَا يَبْقَوْنَ فِي النَّارِ إلَّا بِقَدْرِ مُدَّةِ دَوَامِهِمَا مِنْ حِينِ إيجَادِهِمَا إلَى إعْدَامِهِمَا , وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّهُمَا مَتَى كَانَتَا دَائِمَتَيْنِ كَانَ كَوْنُهُمَا فِي النَّارِ بَاقِيًا , وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا حَصَلَ الشَّرْطُ وَهُوَ دَوَامُهُمَا حَصَلَ الْمَشْرُوطُ وَهُوَ بَقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ , وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا عُدِمَ الشَّرْطُ يُعْدَمُ الْمَشْرُوطُ , وَنَظِيرُهُ أَنَّك إذَا قُلْت : إنْ كَانَ هَذَا إنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ , ثُمَّ قُلْت : لَكِنَّهُ إنْسَانٌ , أَنْتَجَ أَنَّهُ حَيَوَانٌ , أَوْ لَكِنَّهُ لَيْسَ هَذَا بِإِنْسَانٍ لَمْ يُنْتِجْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ عَقِيمٌ , فَكَذَا هُنَا إذَا قُلْنَا : مَا دَامَتَا بَقِيَ عِقَابُهُمْ , ثُمَّ قُلْنَا : لَكِنَّهُمَا دَائِمَتَانِ لَزِمَ دَوَامُ عِقَابِهِمْ . أَوْ لَكِنَّهُمَا مَا بَقِيَتَا لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ دَوَامِ عِقَابِهِمْ . لَا يُقَالُ : إذَا دَامَ عِقَابُهُمْ بَقِيَتَا أَوْ عُدِمَتَا فَلَا فَائِدَةَ لِلتَّقْيِيدِ بِدَوَامِهِمَا . لِأَنَّا نَقُولُ : بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعَذَابِ دَهْرًا دَائِمًا طَوِيلًا لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِقَدْرِ طُولِهِ وَامْتِدَادِهِ , فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ لِذَلِكَ الْعَذَابِ آخِرٌ أَمْ لَا ؟ فَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَهُوَ الْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَأْبِيدِ خُلُودِهِمْ الْمُسْتَلْزِمِ أَنَّهُ لَا آخِرَ لَهُ . وَمِنْ الثَّانِي : أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ مَنْ فِيهَا لِأَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ إلَى الزَّمْهَرِيرِ , وَإِلَى شُرْبِ الْحَمِيمِ ثُمَّ يَعُودُونَ فِيهَا فَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا إلَّا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ , فَإِنَّهَا , وَإِنْ كَانَتْ أَوْقَاتَ عَذَابٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا حِينَئِذٍ فِيهَا حَقِيقَةً أَوْ أَنَّ مَا لِمَنْ يَعْقِلُ كَ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ * فَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً لِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضَمِيرِ خَالِدِينَ مُتَّصِلًا بِنَاءً عَلَى شُمُولِ شَقُوا لَهُمْ أَوْ مُنْقَطِعًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ شُمُولِهِ لَهُمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَوْ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ , وَإِلَّا بِمَعْنَى سِوَى : أَيْ مَا دَامَتَا سِوَى(1/88)
مَا شَاءَ رَبُّك زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ , وَبَقِيَتْ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَعْرَضْتُ عَنْهَا لِبُعْدِهَا , وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تَصْفِقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَذَلِكَ بَعْدَمَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا * . لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ مَنْ قَالُوا فِيهِ : إنَّهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَصَاحِبُ أَكَاذِيبَ كَثِيرَةٍ عَظِيمَةٍ , نَعَمْ نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَأَبِي هُرَيْرَةَ , وَأَنَسٍ . وَذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ , وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ , وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ انْتَهَى . وَيَرُدُّ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْحَسَنِ قَوْلَ غَيْرِهِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ , قَالَ ثَابِتٌ : سَأَلْت الْحَسَنَ عَنْ هَذَا فَأَنْكَرَهُ , وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ . وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَمَعْنَى كَلَامِهِمْ كَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ . أَمَّا مَوَاضِعُ الْكُفَّارِ فَهِيَ مُمْتَلِئَةٌ بِهِمْ لَا يُخْرَجُونَ عَنْهَا أَبَدًا , كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ , وَفِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ . قَالَ قَوْمٌ : إنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعٌ , وَلَهُ نِهَايَةٌ , وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَبِ { لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * وَبِأَنَّ مَعْصِيَةَ الظُّلْمِ مُتَنَاهِيَةٌ , فَالْعِقَابُ عَلَيْهَا بِمَا لَا يَتَنَاهَى ظُلْمٌ انْتَهَى . وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ مَرَّ وقوله تعالى : { أَحْقَابًا * لَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ نِهَايَةً لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ بِهِ وَبِنَحْوِهِ عَنْ الدَّوَامِ , وَلَا ظُلْمَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ حَيًّا فَعُوقِبَ دَائِمًا فَهُوَ لَمْ يُعَاقَبْ بِالدَّائِمِ إلَّا عَلَى دَائِمٍ , فَلَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ إلَّا جَزَاءً وِفَاقًا . وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْيِيدَ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا ظَاهِرَهُمَا بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لقوله تعالى : { غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَيُؤَوَّلُ بِنَظِيرِ مَا مَرَّ , وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا إذَا جَعَلْنَاهَا بِمَعْنًى مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوهَا إلَّا بَعْدُ , قَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاَلَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ : { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * أَيْ مَقْطُوعٍ , وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِاَلَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ النَّارِ . [ خَاتِمَةٌ ] أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْكَعْبَةِ { مَا أَطْيَبَك وَأَطْيَبَ رِيحَك , مَا أَعْظَمَك وَأَعْظَمَ حُرْمَتَك , وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْك مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إلَّا خَيْرًا * . وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ جَاءَ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيَتَّقِي الْكَبَائِرَ فَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ , قَالُوا : وَمَا هِيَ الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ * الْحَدِيثَ . وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ . وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِي وَأَسْلَمَ وَهَاجَرَ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ - أَيْ أَسْفَلِهَا - وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا , وَلَا مِنْ الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يَمُوتَ * . وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ مَاتَ وَاَللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ * . وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُعْطَى عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ , وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُعْطَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إذَا أَفْضَى إلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا * . وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يُقْبَلُ إيمَانٌ بِلَا عَمَلٍ , وَلَا(1/89)
عَمَلٌ بِلَا إيمَانٍ * . وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ : { إنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا فَقَالَ اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُك وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ , إنَّمَا مَثَلُك وَمَثَلُ أُمَّتِك كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إلَى طَعَامِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ , وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ , فَاَللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ , وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ , وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ , مَنْ أَجَابَك دَخَلَ الْإِسْلَامَ , وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ , وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مَا فِيهَا * . وَأَبُو نُعَيْمٍ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْمُوَحِّدِينَ فِي جَهَنَّمَ بِقَدْرِ نُقْصَانِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يَرُدُّهُمْ إلَى الْجَنَّةِ خُلُودًا دَائِمًا أَبَدًا بِإِيمَانِهِمْ * . وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : { طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي مَرَّةً وَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي سَبْعَ مَرَّاتٍ . وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّيَالِسِيِّ : ثَلَاثَ مَرَّاتٍ * . وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ بِهِ * . وَمُسْلِمٌ : { أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * .
وفي النيل (1):
بَابُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ لَمْ يَقْضِ الصَّلَاةَ
417 - ( عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ * . رَوَاهُ أَحْمَدُ )
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرٍو أَيْضًا بِلَفْظِ : { أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ : { مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ , وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُوخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ * فَهَذَا مُقَيَّدٌ , وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مُطْلَقٌ وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاجِبٌ فَهَدْمُ الْإِسْلَامِ مَا كَانَ قَبْلَهُ مَشْرُوطٌ بِالْإِحْسَانِ . قَوْلُهُ : ( يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ) أَيْ يَقْطَعُهُ , وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُذْهِبُ أَثَرَ الْمَعَاصِي الَّتِي فَارَقَهَا حَالَ كُفْرِهِ . . وَأَمَّا الطَّاعَاتُ الَّتِي أَسْلَفَهَا قَبْلَ إسْلَامِهِ فَلَا يَجُبُّهَا لِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عِنْد مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ . هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ * وَقَدْ قَالَ الْمَازِرِيُّ : إنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقَرُّبُ الْكَافِرِ فَلَا يُثَابُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الصَّادِرِ مِنْهُ حَالَ شِرْكِهِ ; لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُتَقَرِّبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ , وَالْكَافِرُ لَيْسَ كَذَلِكَ , وَتَابَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْإِشْكَالِ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَاسْتَضْعَفَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ فَقَالَ : الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ بَلْ بَعْضُهُمْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ , ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ ثَوَاب ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ . .
وفي رد المحتار :
__________
(1) - نيل الأوطار - (ج 2 / ص 275)(1/90)
هَلْ الْحَجُّ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ ؟ قِيلَ نَعَمْ كَحَرْبِيٍّ أَسْلَمَ , وَقِيلَ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآدَمِيِّ كَذِمِّيٍّ أَسْلَمَ . وَقَالَ عِيَاضٌ : أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ , وَلَا قَائِلَ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ وَلَوْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَدَيْنِ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ , نَعَمْ إثْمُ الْمَطْلِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا يَسْقُطُ , وَهَذَا مَعْنَى التَّكْفِيرِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ , وَحَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اُسْتُجِيبَ لَهُ حَتَّى فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ * ضَعِيفٌ .(1/91)
مَطْلَبٌ فِي تَكْفِيرِ الْحَجِّ الْكَبَائِرَ ( قَوْلُهُ قِيلَ نَعَمْ إلَخْ ) أَيْ لِحَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَأُجِيبَ إنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُمْ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ فَإِنِّي آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ , فَقَالَ : أَيْ رَبِّ إنْ شِئْت أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ الْجَنَّةَ وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ فَلَمْ يُجِبْ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ فَأُجِيبَ إلَى مَا سَأَلَ * " الْحَدِيثُ . وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : إنَّ كِنَانَةَ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُنْكَرَ الْحَدِيثِ وَكِلَاهُمَا سَاقِطُ الِاحْتِجَاجِ . وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الشُّعَبِ , فَإِنْ صَحَّ بِشَوَاهِدِهِ فَفِيهِ الْحُجَّةُ وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ * وَظُلْمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا دُونَ الشِّرْكِ ا هـ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ " { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ الْمَشْعَرِ وَضَمِنَ عَنْهُمْ التَّبَعَاتِ , فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَنَا خَاصَّةً ؟ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه كَثُرَ خَيْرُ رَبِّنَا وَطَابَ * " وَتَمَامُهُ فِي الْفَتْحِ , وَسَاقَ فِيهِ أَحَادِيثَ أُخَرَ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَاجَهْ وَإِنْ ضُعِّفَ فَلَهُ شَوَاهِدُ تُصَحِّحُهُ وَالْآيَةُ أَيْضًا تُؤَيِّدُهُ , وَمِمَّا يَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا " { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ * " وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا " { إنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَإِنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * " لَكِنْ ذَكَرَ الْأَكْمَلُ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَرْبِيَّ تَحْبَطُ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ , حَتَّى لَوْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَعَلَى هَذَا كَانَ الْإِسْلَامُ كَافِيًا فِي تَحْصِيلِ مُرَادِهِ , وَلَكِنْ ذَكَرَ صلى الله عليه وسلم الْهِجْرَةَ وَالْحَجَّ تَأْكِيدًا فِي بِشَارَتِهِ وَتَرْغِيبًا فِي مُبَايَعَتِهِ فَإِنَّ الْهِجْرَةَ وَالْحَجَّ لَا يُكَفِّرَانِ الْمَظَالِمَ وَلَا يُقْطَعُ فِيهِمَا بِمَحْوِ الْكَبَائِرِ , وَإِنَّمَا يُكَفِّرَانِ الصَّغَائِرَ . وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَالْكَبَائِرُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ أَحَدٍ كَإِسْلَامِ الذِّمِّيِّ ا هـ مُلَخَّصًا , وَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الطِّيبِيِّ فِي شَرْحِهِ وَقَالَ إنَّ الشَّارِحِينَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ , وَهَكَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ كَمَا فِي الْبَحْرِ . وَفِي شَرْحِ اللُّبَابِ وَمَشَى الطِّيبِيِّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ الْكَبَائِرَ وَالْمَظَالِمَ , وَوَقَعَ مُنَازَعَةٌ غَرِيبَةٌ بَيْنَ أَمِيرِ بَادْشَاهْ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ مَالَ إلَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ وَبَيْنَ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , وَقَدْ مَالَ إلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَكَتَبْتُ رِسَالَةً فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . ا هـ . قُلْت : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْفَتْحِ الْمَيْلُ إلَى تَكْفِيرِ الْمَظَالِمِ أَيْضًا , وَعَلَيْهِ مَشَى الْإِمَامُ وَالسَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَقَاسَ عَلَيْهِ الشَّهِيدُ الصَّابِرُ الْمُحْتَسِبُ , وَعَزَاهُ أَيْضًا الْمُنَاوِيُّ إلَى الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ " { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ * إلَخْ فَقَالَ : وَهُوَ يَشْمَلُ الْكَبَائِرَ وَالتَّبَعَاتِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُرْطُبِيُّ . وَقَالَ عِيَاضٌ : هُوَ مَحْمُولٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَظَالِمِ عَلَى مَنْ تَابَ وَعَجَزَ عَنْ وَفَائِهَا . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا الْعِبَادِ , وَلَا يَسْقُطُ الْحَقُّ نَفْسُهُ بَلْ مَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ يَسْقُطُ عَنْهُ إثْمُ تَأْخِيرِهَا لَا نَفْسُهَا , فَلَوْ أَخَّرَهَا بَعْدُ تَجَدَّدَ إثْمٌ آخَرُ ا هـ وَنَحْوُهُ فِي الْبَحْرِ , وَحَقَّقَ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ اللَّقَانِيُّ فِي(1/92)
شَرْحِهِ الْكَبِيرِ عَلَى جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ بِأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم " { خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ * " لَا يَتَنَاوَلُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقَ عِبَادِهِ لِأَنَّهَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَتْ ذَنْبًا وَإِنَّمَا الذَّنْبُ الْمَطْلُ فِيهَا , فَاَلَّذِي يَسْقُطُ إثْمُ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى . ا هـ . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ وَتَأْخِيرُ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ حُقُوقِهِ تَعَالَى , فَيَسْقُطُ إثْمُ التَّأْخِيرِ فَقَطْ عَمَّا مَضَى دُونَ الْأَصْلِ وَدُونَ التَّأْخِيرِ الْمُسْتَقْبَلِ . قَالَ فِي الْبَحْرِ : فَلَيْسَ مَعْنَى التَّكْفِيرِ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ عَنْهُ , وَكَذَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ . ا هـ . وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ الشَّارِحِ كَحَرْبِيٍّ أَسْلَمَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِاقْتِضَائِهِ كَمَا قَالَ ح سُقُوطَ نَفْسِ الْحَقِّ وَلَا قَائِلَ بِهِ كَمَا عَلِمْتَهُ بَلْ هَذَا الْحُكْمُ يَخُصُّ الْحَرْبِيَّ كَمَا مَرَّ عَنْ الْأَكْمَلِ . قُلْتُ : قَدْ يُقَالُ بِسُقُوطِ نَفْسِ الْحَقِّ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى أَدَائِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقَّ عِبَادِهِ , وَلَيْسَ فِي تَرِكَتِهِ مَا يَفِي بِهِ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ إثْمُ التَّأْخِيرِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ إثْمٌ بَعْدَهُ فَلَا مَانِعَ مِنْ سُقُوطِ نَفْسِ الْحَقِّ , أَمَّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَظَاهِرٌ , وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يُرْضِي خَصْمَهُ عَنْهُ كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الْقَائِلِينَ بِتَكْفِيرِ الْمَظَالِمِ أَيْضًا وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ لِلْقَوْلِ بِتَكْفِيرِهَا مَحَلٌّ , عَلَى أَنَّ نَفْسَ مَطْلِ الدَّيْنِ حَقُّ عَبْدٍ أَيْضًا لِأَنَّ فِيهِ جِنَايَةً عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ عَنْهُ , فَحَيْثُ قَالُوا بِسُقُوطِهِ فَلْيَسْقُطْ نَفْسُ الدَّيْنِ أَيْضًا عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عِيَاضٍ , لَكِنَّ تَقْيِيدَ عِيَاضٍ بِالتَّوْبَةِ وَالْعَجْزِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِأَنَّ التَّوْبَةَ مُكَفِّرَةٌ بِنَفْسِهَا وَهِيَ إنَّمَا تُسْقِطُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقَّ الْعَبْدِ , فَتَعَيَّنَ كَوْنُ الْمُسْقِطِ هُوَ الْحَجَّ كَمَا اقْتَضَتْهُ الْأَحَادِيثُ الْمَارَّةُ ; أَمَّا أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِسُقُوطِ الدَّيْنِ فَنَقُولُ : نَعَمْ ذَلِكَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَجِّ . وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ الشَّارِحَيْنِ الْمَارُّ . وَحِينَئِذٍ صَحَّ قَوْلُ الشَّارِحِ كَحَرْبِيٍّ أَسْلَمَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَافْهَمْ . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ تَجْوِيزَهُمْ تَكْفِيرَ الْكَبَائِرِ بِالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ مُنَافٍ لِنَقْلِ عِيَاضٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ الْمَظَالِمِ أَيْضًا , بَلْ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ إثْمِ الْمَطْلِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ يُنَافِيهِ لِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَقَدْ كَفَّرَهَا الْحَجُّ بِلَا تَوْبَةٍ . وَكَذَا يُنَافِيهِ عُمُومُ قوله تعالى - { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ * - وَهُوَ اعْتِقَادُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبَائِرِ كُلِّهَا سِوَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْفَى عَنْهُ بِشَفَاعَةٍ أَوْ بِمَحْضِ الْفَضْلِ . وَالْحَاصِلُ كَمَا فِي الْبَحْرِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ فَلَا يُقْطَعُ بِتَكْفِيرِ الْحَجِّ لِلْكَبَائِرِ مِنْ حُقُوقِهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ ضَعِيفٌ ) أَيْ بِكِنَانَةَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُمَا سَاقِطَا الِاحْتِجَاجِ كَمَا مَرَّ لَا بِأَبِيهِ الْعَبَّاسِ بْن مِرْدَاسٍ كَمَا وَقَعَ فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُ صَحَابِيٌّ وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ كَمَا بُيِّنَ فِي مَحَلِّهِ فَافْهَمْ .
وفي الموسوعة الفقهية (1):
تَكْفِيرُ الْحَجِّ لِلْكَبَائِرِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12448)(1/93)
17 - رَوَى عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ رضي الله عنه { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ فَأُجِيبَ : إنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُمْ مَا خَلَا الظَّالِمَ فَإِنِّي آخِذٌ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ , قَالَ : أَيْ رَبِّ , إنْ شِئْت أَعْطَيْت الْمَظْلُومَ مِنْ الْجَنَّةِ وَغَفَرْت لِلظَّالِمِ , فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ , فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ , فَأُجِيبَ إلَى مَا سَأَلَ . . . * , وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ الْمَشْعَرِ وَضَمِنَ عَنْهُمْ التَّبِعَاتِ , فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَذَا لَنَا خَاصَّةً ؟ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : كَثُرَ خَيْرُ اللَّهِ وَطَابَ * , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَتَمَامُهُ فِي الْفَتْحِ وَسَاقَ فِيهِ أَحَادِيثَ أُخَرَ , وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَاجَهْ - وَإِنْ ضُعِّفَ - فَلَهُ شَوَاهِدُ تُصَحِّحُهُ , وَالْآيَةُ أَيْضًا تُؤَيِّدُهُ , وَمِمَّا يَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ : { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ * , وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : { أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ * . لَكِنْ ذَكَرَ الْأَكْمَلُ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَرْبِيَّ تَحْبَطُ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ حَتَّى لَوْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَعَلَى هَذَا كَانَ الْإِسْلَامُ كَافِيًا فِي تَحْصِيلِ مُرَادِهِ وَلَكِنْ ذَكَرَ صلى الله عليه وسلم الْهِجْرَةَ وَالْحَجَّ تَأْكِيدًا فِي بِشَارَتِهِ وَتَرْغِيبًا فِي مُبَايَعَتِهِ فَإِنَّ الْهِجْرَةَ وَالْحَجَّ لَا يُكَفِّرَانِ الْمَظَالِمَ وَلَا يُقْطَعُ فِيهِمَا بِمَحْوِ الْكَبَائِرِ وَإِنَّمَا يُكَفِّرَانِ الصَّغَائِرَ , وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَالْكَبَائِرَ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ أَحَدٍ كَإِسْلَامِ الذِّمِّيِّ , وَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الطِّيبِيُّ فِي شَرْحِهِ وَقَالَ : إنَّ الشَّارِحِينَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ , وَهَكَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَفِي شَرْحِ اللُّبَابِ : وَمَشَى الطِّيبِيُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ الْكَبَائِرَ وَالْمَظَالِمَ , وَوَقَعَ مُنَازَعَةٌ غَرِيبَةٌ بَيْنَ أَمِيرِ بَادْشَاهْ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ مَالَ إلَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ , وَبَيْنَ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَقَدْ مَالَ إلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ , وَكَتَبْت رِسَالَةً فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَظَاهِرُ كَلَامِ الْفَتْحِ الْمَيْلُ إلَى تَكْفِيرِ الْمَظَالِمِ أَيْضًا , وَعَلَيْهِ مَشَى الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُرْطُبِيُّ . وَقَالَ عِيَاضٌ : هُوَ مَحْمُولٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَظَالِمِ عَلَى مَنْ تَابَ وَعَجَزَ عَنْ وَفَائِهَا , وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ , وَتَأْخِيرَ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ حُقُوقِهِ تَعَالَى , فَيَسْقُطُ إثْمُ التَّأْخِيرِ فَقَطْ عَمَّا مَضَى دُونَ الْأَصْلِ وَدُونَ التَّأْخِيرِ الْمُسْتَقْبَلِ , وَنَقَلَهُ عَنْ التِّرْمِذِيِّ وَاللَّقَانِيِّ , وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ سُقُوطَ الدَّيْنِ أَيْضًا عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا قَالَ عِيَاضٌ لَكِنَّ تَقْيِيدَ عِيَاضٍ بِالتَّوْبَةِ وَالْعَجْزِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ مُكَفِّرَةٌ بِنَفْسِهَا , وَهِيَ إنَّمَا تُسْقِطُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقَّ الْعَبْدِ , فَتَعَيَّنَ كَوْنُ الْمُسْقِطِ هُوَ الْحَجَّ كَمَا اقْتَضَتْهُ الْأَحَادِيثُ . قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَجَّ لَا يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ , وَلَيْسَ مُرَادُ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يُكَفِّرُهَا أَنَّهُ يُسْقِطُ عَنْهُ قَضَاءَ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَتَرَكَهُ وَالْمَظَالِمَ وَالدَّيْنَ , وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ إثْمَ تَأْخِيرِ ذَلِكَ , فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ طُولِبَ بِقَضَاءِ مَا لَزِمَهُ , فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَعَ قُدْرَتِهِ فَقَدْ ارْتَكَبَ الْآنَ الْكَبِيرَةَ الْأُخْرَى , وَالْمَسْأَلَةُ(1/94)
ظَنِّيَّةٌ , فَلَا يُقْطَعُ بِتَكْفِيرِ الْحَجِّ لِلْكَبَائِرِ مِنْ حُقُوقِهِ تَعَالَى , فَضْلًا عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ .
==================
أنواع الهجرة : للهجرة أنواع عدة وهي
هجر المعاصي
ففي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ »(1).
وفي الفتح (2):
قوله: (والمهاجر) هو بمعنى الهاجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل من اثنين، لكنه هنا للواحد كالمسافر.
ويحتمل أن يكون على بابه لأن من لازم كونه هاجرا وطنه مثلا أنه مهجور من وطنه، وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة.
فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان.
والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن.
وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام.
--------------
حول إسلام معاوية رضي الله عنه
وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (3):
سُئِلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ إسْلَامِ " مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ " مَتَى كَانَ ؟ وَهَلْ كَانَ إيمَانُهُ كَإِيمَانِ غَيْرِهِ أَمْ لَا ؟ وَمَا قِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ .
الْجَوَابُ
__________
(1) - برقم(10)
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 14)
(3) - مجموع الفتاوى - (ج 4 / ص 453)ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 390)(1/95)
فَأَجَابَ : - إيمَانُ " مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَابِتٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ ؛ كَإِيمَانِ أَمْثَالِهِ مِمَّنْ آمَنَ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ مِثْلَ أَخِيهِ " يَزِيدَ " بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَمِثْلَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ . وَأَبِي أَسَدِ بْنِ أَبِي العاص بْنِ أُمَيَّةَ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ " الطُّلَقَاءَ " : فَإِنَّهُمْ آمَنُوا عَامَ فَتْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَهْرًا وَأَطْلَقَهُمْ وَمَنْ عَلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمْ وَتَأَلَّفَهُمْ وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَهَاجَرَ كَمَا أَسْلَمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ العاص وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الحجبي - قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ - وَهَاجَرُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَإِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا فَهَذَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ . وَأَمَّا إسْلَامُهُ عَامَ الْفَتْحِ مَعَ مَنْ ذَكَرَ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ سَوَاءٌ كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ إسْلَامُهُ إلَّا عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْكَذَّابِينَ زَعَمَ : أَنَّهُ عَيَّرَ أَبَاهُ بِإِسْلَامِهِ وَهَذَا كَذِبٌ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ إسْلَامًا وَأَحْمَدُهُمْ سِيرَةً : لَمْ يُتَّهَمُوا بِسُوءِ وَلَمْ يَتَّهِمْهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِنِفَاقِ كَمَا اُتُّهِمَ غَيْرُهُمْ ؛ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ حُسْنِ الْإِسْلَامِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ : مَا دَلَّ عَلَى حُسْنِ إيمَانِهِمْ الْبَاطِنِ وَحُسْنِ إسْلَامِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَعْمَلَهُ نَائِبًا لَهُ كَمَا اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ أَمِيرًا عَلَى مَكَّةَ نَائِبًا عَنْهُ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يَقُولُ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ وَاَللَّهِ لَا يَبْلُغُنِي أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ . وَقَدْ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَبَا سُفْيَانَ " بْنَ حَرْبٍ - أَبَا مُعَاوِيَةَ - عَلَى نَجْرَانَ نَائِبًا لَهُ وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ عَامِلَهُ عَلَى نَجْرَانَ . وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَحْسَنَ إسْلَامًا مِنْ أَبِيهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ أَخَاهُ " يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ " كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ ؛ وَلِهَذَا اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قِتَالِ النَّصَارَى حِينَ فَتَحَ الشَّامَ وَكَانَ هُوَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ اسْتَعْمَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَوَصَّاهُ بِوَصِيَّةٍ مَعْرُوفَةٍ نَقَلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهَا وَذَكَرَهَا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ وَمَشَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِكَابِهِ مُشَيِّعًا لَهُ فَقَالَ لَهُ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ إمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ فَقَالَ : لَسْت بِنَازِلِ وَلَسْت بِرَاكِبِ أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَكَانَ عَمْرُو بْنُ العاص أَحَدَ الْأُمَرَاءِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَيْضًا وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِشَجَاعَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ فِي الْجِهَادِ . فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَلَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا عُبَيْدَةَ أَمِيرًا عَلَى الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ شَدِيدًا فِي اللَّهِ فَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ كَانَ لَيِّنًا . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيِّنًا وَخَالِدٌ شَدِيدًا عَلَى الْكُفَّارِ فَوَلَّى اللَّيِّنَ الشَّدِيدَ وَوَلَّى الشَّدِيدَ اللَّيِّنَ ؛ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ وَكِلَاهُمَا فَعَلَ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ فَإِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَنَعَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَعْتِ أُمَّتِهِ : { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } وَقَالَ فِيهِمْ : { أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(1/96)
أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي أَسَارَى بَدْرٍ وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدْيَةَ مِنْهُمْ وَإِطْلَاقَهُمْ وَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنْ الْبَزِّ وَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنْ الصَّخْرِ وَإِنَّ مَثَلَك يَا أَبَا بَكْرٍ مَثْلُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ إذْ قَالَ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَمَثَلُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ إذْ قَالَ : { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَمَثَلَك يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذْ قَالَ : { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } وَمَثَلُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ إذْ قَالَ : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } } وَكَانَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَعَتَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَا هُمَا وَزِيرَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ سَرِيرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وُضِعَ وَجَاءَ النَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَالْتَفَتّ فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِعَمَلِهِ مِنْ هَذَا الْمَيِّتِ . وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْشُرَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك فَإِنِّي كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ . دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَذَهَبْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ } . ثُمَّ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ وَكَانَ الْقَوْمُ الْمَرَامَ إذْ قَالَ : أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ ثُمَّ قَالَ : أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ فَقَالَ : أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ } الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فَهَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَائِدُ الْأَحْزَابِ لَمْ يَسْأَلْ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ رُءُوسُ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ الرَّشِيدُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : أَخْبِرْنِي عَنْ مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْزِلَتُهُمَا مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَالَ : شَفَيْتَنِي يَا مَالِكُ فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ الشِّدَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى فَاقَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بَعْدَ أَنْ جَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ وَكَانَ ذَلِكَ تَكْمِيلًا لَهُ لِكَمَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي صَارَ خَلِيفَةً لَهُ . وَلَمَّا اسْتَخْلَفَ عُمَرَ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ تَكْمِيلًا لَهُ حَتَّى صَارَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا اسْتَعْمَلَ هَذَا خَالِدًا ؛ وَهَذَا أَبَا عُبَيْدَةَ . وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الشَّامِ ؛ إلَى أَنْ وُلِّيَ عُمَرُ ؛ فَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ ؛ فَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ مُعَاوِيَةَ مَكَانَ أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ(1/97)
أَبِي سُفْيَانَ وَبَقِيَ مُعَاوِيَةُ عَلَى وِلَايَتِهِ تَمَامَ خِلَافَتِهِ وَعُمَرُ وَرَعِيَّتُهُ تَشْكُرُهُ وَتَشْكُرُ سِيرَتَهُ فِيهِمْ وَتُوَالِيهِ وَتُحِبُّهُ لِمَا رَأَوْا مِنْ حُلْمِهِ وَعَدْلِهِ ؛ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَشْكُهُ مِنْهُمْ مُشْتَكٍ وَلَا تظلمه مِنْهُمْ مُتَظَلِّمٌ ، وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ ؛ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ يَزِيدَ بَاسِمِ عَمِّهِ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَقَدْ شَهِدَ مُعَاوِيَةُ ؛ وَأَخُوهُ يَزِيدُ ؛ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ؛ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ حنين ؛ وَدَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } وَكَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزْوَةَ الطَّائِفِ لَمَّا حَاصَرُوا الطَّائِفَ وَرَمَاهَا بِالْمَنْجَنِيقِ وَشَهِدُوا النَّصَارَى بِالشَّامِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا سُورَةَ بَرَاءَةٍ ؛ وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ الَّتِي جَهَّزَ فِيهَا عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِأَلْفِ بَعِيرٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَاعْوَزَّتْ وَكَمَّلَهَا بِخَمْسِينَ بَعِيرًا فَقَالَ النَّبِيُّ : " { مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمِ } " وَهَذَا آخِرُ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ . وَقَدْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ غَزَاةٍ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ الْقِتَالُ إلَّا فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ : بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَبَنِيَّ الْمُصْطَلِقِ وَالْخَنْدَقِ وَذِي قَرَدٍ وَغَزْوَةِ الطَّائِفِ وَأَعْظَمُ جَيْشٍ جَمَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بحنين وَالطَّائِفِ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا . وَأَعْظَمُ جَيْشٍ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشُ تَبُوكَ فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرًا لَا يُحْصَى غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِتَالٌ . وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطُّلَقَاءَ مُسْلِمَةُ الْفَتْحِ : هُمْ مِمَّنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ وَقَدْ وَعَدَهُمْ اللَّهُ الْحُسْنَى فَإِنَّهُمْ أَنْفَقُوا بحنين وَالطَّائِفِ وَقَاتَلُوا فِيهِمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَهُمْ أَيْضًا دَاخِلُونَ فِيمَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } فَإِنَّ السَّابِقِينَ هُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } كَانُوا أَكْثَرَ مَنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَكُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } " وَكَانَ فِيهِمْ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة وَكَانَتْ لَهُ سَيِّئَاتٌ مَعْرُوفَةٌ مِثْلُ مُكَاتَبَتِهِ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِسَاءَتِهِ إلَى مَمَالِيكِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ مَمْلُوكَهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ حَاطِبٌ النَّارَ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبْت . إنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا والحديبية } " . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { لَمَّا كَتَبَ إلَى الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِمَسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ أَرْسَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ إلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَ مَعَهَا الْكِتَابُ فَأَتَيَا بِهَا فَقَالَ : مَا هَذَا يَا حَاطِبُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ(1/98)
اللَّهِ مَا فَعَلْت ذَلِكَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رَضِيت بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ كُنْت امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ لَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَكَانَ مَنْ مَعَك مِنْ أَصْحَابِك لَهُمْ بِمَكَّةَ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهَالِيَهُمْ فَأَحْبَبْت إذْ فَاتَنِي ذَلِكَ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَدْ غَفَرْت لَكُمْ } . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِهَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ - كَأَهْلِ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةِ - مِنْ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ ؛ مَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِهَا كَمَا لَمْ تَجِبْ مُعَاقَبَةُ حَاطِبٍ مِمَّا كَانَ مِنْهُ . وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَا جَرَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِمْ : فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادًا لَا ذَنْبَ فِيهِ فَلَا كَلَامَ . فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } " . وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ذَنْبٌ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ مَا فَعَلُوهُ ؛ فَلَا يَضُرُّهُمْ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنْ الذُّنُوبِ إنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَنْبٌ ؛ بَلْ إنْ وَقَعَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ كَانَ اللَّهُ مَحَاهُ بِسَبَبِ قَدْ وَقَعَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُمَحِّصُ اللَّهُ بِهَا الذُّنُوبَ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَابَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ أَوْ يَكُونَ قَدْ كَفَّرَ عَنْهُ بِبَلَاءِ ابْتَلَاهُ بِهِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا غَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ مِنْ خَطَايَاهُ } " . وَأَمَّا مَنْ بَعْدُ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ فَهَؤُلَاءِ دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ العاص وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الحجبي وَغَيْرُهُمْ . وَأَسْلَمَ بَعْدَ الطُّلَقَاءِ أَهْلُ الطَّائِفِ وَكَانُوا آخِرَ النَّاسِ إسْلَامًا وَكَانَ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي العاص الثَّقَفِيُّ الَّذِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ ؛ مَعَ تَأَخُّرِ إسْلَامِهِ . فَقَدْ يَتَأَخَّرُ إسْلَامُ الرَّجُلِ وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَهُ بِالْإِسْلَامِ كَمَا تَأَخَّرَ إسْلَامُ عُمَر فَإِنَّهُ يُقَالُ : إنَّهُ أَسْلَمَ تَمَامَ الْأَرْبَعِينَ وَكَانَ مِمَّنْ فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ وَكَانَ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَسْلَمُوا قَبْلَ عُمَر عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ وَتَقَدَّمَهُمْ عُمَر . وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ أَبُو بَكْر وَمِنْ الْأَحْرَارِ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ وَمِنْ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَمِنْ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ أَمْ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } . فَهَذِهِ عَامَّةٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ(1/99)
هُمُ الصَّادِقُونَ } { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . فَهَذِهِ الْآيَةُ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا : تَتَنَاوَلُ مَنْ دَخَلَ فِيهَا بَعْدَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَجَاهَدُوا مَعَهُ ؟ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ } " فَمَنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ مِنْ الطُّلَقَاءِ وَهَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ مَعْنَى هَذِهِ الْهِجْرَةِ فَدَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } كَمَا دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ الرَّسُولِ مُطْلَقًا . وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ : " { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } " . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَبَيْنَ خَالِدٍ كَلَامٌ فَقَالَ : يَا خَالِدُ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي . فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } " قَالَ ذَلِكَ لِخَالِدِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ . يَقُولُ : إذَا أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نِصْفَ مُدِّهِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ . وَكَيْفَ يَكُونُ بَعْدَ أَصْحَابِهِ ؟ وَالصُّحْبَةُ اسْمُ جِنْسٍ تَقَعُ عَلَى مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مِنْ الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَمَنْ صَحِبَهُ سَنَةً أَوْ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً أَوْ رَآهُ مُؤْمِنًا فَلَهُ مِنْ الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { يَغْزُوا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُونَ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي لَفْظٍ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ؛ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ؛ ثُمَّ يَغْزُوا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُونَ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ - وَفِي لَفْظٍ - هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُوا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُونَ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ - وَفِي لَفْظٍ - مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟(1/100)
فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ؛ فَيُفْتَحُ لَهُمْ } " وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ فَيُذْكَرُ فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ كَذَلِكَ . فَقَدْ عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بِصُحْبَتِهِ وَعَلَّقَ بِرُؤْيَتِهِ وَجَعَلَ فَتْحَ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَنْ رَآهُ مُؤْمِنًا بِهِ . وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ لَا تَثْبُتُ لِأَحَدِ غَيْرَ الصَّحَابَةِ ؛ وَلَوْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْوَاحِدِ مِنْ أَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(1/101)
فَصْلٌ إذَا تَبَيَّنَ هَذَا ؛ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ إيمَانُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ إيمَانُ نُظَرَائِهِ وَالطَّرِيقُ الَّتِي تُعْلَمُ بِهَا صُحْبَتُهُ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا صُحْبَةَ أَمْثَالِهِ . فَالطُّلَقَاءُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَامَ الْفَتْحِ مِثْلَ : مُعَاوِيَةَ وَأَخِيهِ يَزِيدَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ ؛ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ؛ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو . وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ إسْلَامُهُمْ وَبَقَاؤُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ إلَى حِينِ الْمَوْتِ . وَمُعَاوِيَةُ أَظْهَرُ إسْلَامًا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ تَوَلَّى أَرْبَعِينَ سَنَةً ؛ عِشْرِينَ سَنَةً نَائِبًا لِعُمَرِ وَعُثْمَانَ مَعَ مَا كَانَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِشْرِينَ سَنَةً مُسْتَوْلِيًا ؛ وَأَنَّهُ تَوَلَّى سَنَةَ سِتِّينَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِينَ سَنَةً . وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْأَمْرَ عَامَ أَرْبَعِينَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ عَامُ الْجَمَاعَةِ ؛ لِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَزَوَالِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا أَثْنَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي بَكْر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } " فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَثْنَى بِهِ عَلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَمَدَحَهُ عَلَى أَنْ أَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ حِينَ سَلَّمَ الْأَمْرَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَكَانَ قَدْ سَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ بِعَسَاكِرَ عَظِيمَةٍ . فَلَمَّا أَثْنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَسَنِ بِالْإِصْلَاحِ وَتَرْكِ الْقِتَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ تِلْكَ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فِعْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِتَالَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ وَلَوْ كَانَ مُعَاوِيَةُ كَافِرًا لَمْ تَكُنْ تَوْلِيَةُ كَافِرٍ وَتَسْلِيمُ الْأَمْرِ إلَيْهِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ بَلْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ؛ كَمَا كَانَ الْحَسَنُ وَأَصْحَابُهُ مُؤْمِنِينَ ؛ وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْبُوبًا مُرْضِيًا لَهُ وَلِرَسُولِهِ . وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري أَنَّهُ قَالَ : " { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ فَتَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ وَفِي لَفْظٍ فَتَقْتُلُهُمْ أَدْنَاهُمْ إلَى الْحَقِّ } " فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ المُقْتَتِلَتَيْنِ - عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ وَمُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ - عَلَى حَقٍّ وَأَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ . فَإِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ الَّذِي قَاتَلَ الْمَارِقِينَ وَهُمْ " الْخَوَارِجُ الحرورية " الَّذِينَ كَانُوا مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ ثُمَّ خَرَجُوا عَلَيْهِ وَكَفَّرُوهُ وَكَفَّرُوا مَنْ وَالَاهُ وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ وَقَاتَلُوهُ وَمَنْ مَعَهُ . وَهُمْ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ ؛ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهِمْ : " { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آيَتُهُمْ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا مُخْدَجَ الْيَدَيْنِ لَهُ عَضَلٌ عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ تَدَرْدُرُ } " . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ نَصَبُوا الْعَدَاوَةَ لِعَلِيِّ وَمَنْ وَالَاهُ وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا قَتْلَهُ(1/102)
وَجَعَلُوهُ كَافِرًا وَقَتَلَهُ أَحَدُ رُءُوسِهِمْ " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ الْمُرَادِيَّ " فَهَؤُلَاءِ النَّوَاصِبُ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ إذْ قَالُوا : إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُمَا كَانُوا كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ [ فَإِنَّ مِنْ ] حُجَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ مَا تَوَاتَرَ مِنْ إيمَانِ الصَّحَابَةِ وَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ مَدْحِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَثَنَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ هَذِهِ الْحُجَجَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُثْبِتَ إيمَانَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمْثَالِهِ . فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا النَّاصِبِيَّ للرافضي : إنَّ عَلِيًّا كَانَ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا ظَالِمًا وَأَنَّهُ قَاتَلَ عَلَى الْمُلْكِ : لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ ؛ لَا لِلدِّينِ وَأَنَّهُ قَتَلَ " مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ " مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَمَلِ وصفين وَحَرُورَاءَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً وَلَمْ يُقَاتِلْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافِرًا وَلَا فَتَحَ مَدِينَةً بَلْ قَاتَلَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ وَنَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ - الَّذِي تَقَوَّلَهُ النَّوَاصِبُ الْمُبْغِضُونَ لِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجِيبَ هَؤُلَاءِ النَّوَاصِبَ إلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ الَّذِينَ يُحِبُّونَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كُلَّهُمْ وَيُوَالُونَهُمْ . فَيَقُولُونَ لَهُمْ : أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَنَحْوُهُمْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ إيمَانُهُمْ وَهِجْرَتُهُمْ وَجِهَادُهُمْ . وَثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالرِّضَى عَنْهُمْ وَثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ثَنَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ خُصُوصًا وَعُمُومًا كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْتَفِيضِ عَنْهُ : " { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا } " وَقَوْلِهِ : " { إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } " وَقَوْلِهِ عَنْ عُثْمَانَ : " { أَلَا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ } " ؟ وَقَوْلُهُ لِعَلِيِّ : " { لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ } " وَقَوْلِهِ : " { لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيُّونَ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ } " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَأَمَّا الرافضي فَلَا يُمْكِنْهُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ عَلِيًّا مِنْ النَّوَاصِبِ كَمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْجَمِيعَ . فَإِنَّهُ إنْ قَالَ : إسْلَامُ عَلِيٍّ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ . قَالَ لَهُ : وَكَذَلِكَ إسْلَامُ أَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ وَأَنْتَ تَطْعَنُ فِي هَؤُلَاءِ إمَّا فِي إسْلَامِهِمْ ؛ وَإِمَّا فِي عَدَالَتِهِمْ . فَإِنْ قَالَ : إيمَانُ عَلِيٍّ ثَبَتَ بِثَنَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْنَا لَهُ : هَذِهِ الْأَحَادِيثُ إنَّمَا نَقَلَهَا الصَّحَابَةُ الَّذِينَ تَطْعَنُ أَنْتَ فِيهِمْ وَرُوَاةُ فَضَائِلِهِمْ : سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَائِشَةُ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ الساعدي وَأَمْثَالُهُمْ وَالرَّافِضَةُ تَقْدَحُ فِي هَؤُلَاءِ . فَإِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ ضَعِيفَةً بَطَلَ كُلُّ فَضِيلَةٍ تُرْوَى لِعَلِيِّ وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّافِضَةِ حُجَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَتُهُمْ صَحِيحَةً ثَبَتَتْ فَضَائِلُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ ؛ مِمَّنْ رَوَى هَؤُلَاءِ فَضَائِلَهُ : كَأَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنْ قَالَ الرافضي : فَضَائِلُ عَلِيٍّ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الشِّيعَةِ - كَمَا يَقُولُونَ : إنَّ النَّصَّ عَلَيْهِ بِالْإِمَامَةِ مُتَوَاتِرٌ - قِيلَ لَهُ أَمَّا " الشِّيعَةُ " الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ الصَّحَابَةِ : فَإِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَمِعُوا كَلَامَهُ وَنَقْلَهُمْ نَقْلَ مُرْسَلٍ مُنْقَطِعٍ إنْ لَمْ يُسْنِدْهُ إلَى الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا . وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ تُوَالِيهِمْ الرَّافِضَةُ نَفَرٌ قَلِيلٌ - بِضْعَةَ عَشَرَ وَإِمَّا نَحْوَ ذَلِكَ - وَهَؤُلَاءِ لَا يَثْبُتُ التَّوَاتُرُ بِنَقْلِهِمْ لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَدَدِ الْقَلِيلِ ،(1/103)
وَالْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَقَلُوا فَضَائِلَهُمْ تَقْدَحُ الرَّافِضَةُ فِيهِمْ ؛ ثُمَّ إذَا جَوَّزُوا عَلَى الْجُمْهُورِ الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ الْكَذِبَ وَالْكِتْمَانَ فَتَجْوِيزُ ذَلِكَ عَلَى نَفَرٍ قَلِيلٍ أَوْلَى وأجوز . وَأَيْضًا فَإِذَا قَالَ الرافضي : إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانَ قَصْدُهُمْ الرِّيَاسَةَ وَالْمُلْكَ فَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ بِالْوِلَايَةِ . قَالَ لَهُمْ : هَؤُلَاءِ لَمْ يُقَاتِلُوا مُسْلِمًا عَلَى الْوِلَايَةِ وَإِنَّمَا قَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ وَالْكُفَّارَ وَهُمْ الَّذِينَ كَسَرُوا كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَفَتَحُوا بِلَادَ فَارِسَ وَأَقَامُوا الْإِسْلَامَ وَأَعَزُّوا الْإِيمَانَ وَأَهْلَهُ وَأَذَلُّوا الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ . وَعُثْمَانُ هُوَ دُونَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْمَنْزِلَةِ . وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ طَلَبُوا قَتْلَهُ وَهُوَ فِي وِلَايَتِهِ فَلَمْ يُقَاتِلْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا قَتَلَ مُسْلِمًا عَلَى وِلَايَتِهِ ؛ فَإِنْ جَوَّزْت عَلَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ فِي وِلَايَتِهِمْ أَعْدَاءَ الرَّسُولِ : كَانَتْ حُجَّةُ الناصبي عَلَيْك أَظْهَرَ . وَإِذَا أَسَأْت الْقَوْلَ فِي هَؤُلَاءِ وَنَسَبْتهمْ إلَى الظُّلْمِ وَالْمُعَادَاةِ لِلرَّسُولِ وَطَائِفَتِهِ : كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً لِلْخَوَارِجِ النَّوَاصِبِ الْمَارِقِينَ عَلَيْك . فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : أَيُّمَا أَوْلَى أَنْ يُنْسَبَ إلَى طَلَبِ الرِّيَاسَةِ : مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وِلَايَتِهِ - وَلَمْ يُقَاتِلْ الْكُفَّار - وَابْتَدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ لِيُطِيعُوهُ ؛ وَهُمْ لَا يُطِيعُونَهُ وَقَتَلَ مِنْ " أَهْلِ الْقِبْلَةِ " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ؛ وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً ؛ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مُسْلِمًا ؛ بَلْ أَعَزُّوا أَهْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَصَرُوهُمْ وَآوَوْهُمْ أَوْ مَنْ قَتَلَ وَهُوَ فِي وِلَايَتِهِ لَمْ يُقَاتِلْ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى قُتِلَ فِي دَارِهِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؟ فَإِنْ جَوَّزْت عَلَى مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لِلْمُلْكِ ظَالِمًا لِلْمُسْلِمِينَ بِوِلَايَتِهِ فَتَجْوِيزُ هَذَا عَلَى مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْوِلَايَةِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا أَوْلَى وَأَحْرَى . وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الرَّافِضَةَ أُمَّةٌ لَيْسَ لَهَا عَقْلٌ صَرِيحٌ ؛ وَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ وَلَا دِينٌ مَقْبُولٌ ؛ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ بَلْ هُمْ مِنْ أَعْظَمِ الطَّوَائِفِ كَذِبًا وَجَهْلًا وَدِينُهُمْ يُدْخِلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ زِنْدِيقٍ وَمُرْتَدٍّ كَمَا دَخَلَ فِيهِمْ النصيرية ؛ وَالْإسْماعيليَّةُ وَغَيْرُهُمْ فَإِنَّهُمْ يَعْمِدُونَ إلَى خِيَارِ الْأُمَّةِ يُعَادُونَهُمْ وَإِلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ يُوَالُونَهُمْ وَيَعْمِدُونَ إلَى الصِّدْقِ الظَّاهِرِ الْمُتَوَاتِرِ يَدْفَعُونَهُ وَإِلَى الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ الَّذِي يُعْلَمُ فَسَادُهُ يُقِيمُونَهُ ؛ فَهُمْ كَمَا قَالَ فِيهِمْ الشَّعْبِيُّ - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِمْ - لَوْ كَانُوا مِنْ الْبَهَائِمِ لَكَانُوا حُمْرًا وَلَوْ كَانُوا مِنْ الطَّيْرِ لَكَانُوا رَخَمًا . وَلِهَذَا كَانُوا أَبْهَتْ النَّاسِ وَأَشَدَّهُمْ فِرْيَةً مِثْلَ مَا يَذْكُرُونَ عَنْ مُعَاوِيَةَ . فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَمَرَ غَيْرَهُ وَجَاهَدَ مَعَهُ وَكَانَ أَمِينًا عِنْدَهُ يَكْتُبُ لَهُ الْوَحْيَ وَمَا اتَّهَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابَةِ الْوَحْيِ . وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِالرِّجَالِ وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَّهِمْهُ فِي وِلَايَتِهِ . وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاهُ أَبَا سُفْيَانَ إلَى أَنْ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى وِلَايَتِهِ فَمُعَاوِيَةُ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ وَأَحْسَنُ إسْلَامًا مِنْ أَبِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَّى أَبَاهُ فَلَأَنْ تَجُوزُ وِلَايَتُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ قَطُّ وَلَا نَسَبَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى الرِّدَّةِ فَاَلَّذِينَ يَنْسُبُونَ هَؤُلَاءِ إلَى الرِّدَّةِ هُمْ الَّذِينَ(1/104)
يَنْسُبُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَامَّةَ أَهْلِ بَدْرِ وَأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ . وَاَلَّذِينَ نَسَبُوا هَؤُلَاءِ إلَى الرِّدَّةِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ مَاتَ وَوَجْهُهُ إلَى الشَّرْقِ وَالصَّلِيبُ عَلَى وَجْهِهِ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا فِيمَنْ هُوَ دُونَ مُعَاوِيَةَ مِنْ مُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِيَّ الْعَبَّاسِ كَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَأَوْلَادِهِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ وَوَلَدَيْهِ - الْمُلَقَّبَيْنِ بِالْمَهْدِيِّ وَالْهَادِي - وَالرَّشِيدِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الْخِلَافَةَ وَأَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَمَنْ نَسَبَ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ إلَى الرِّدَّةِ وَإِلَى أَنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِ النَّصَارَى لَعَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِرْيَةً فَكَيْفَ يُقَالُ مِثْلُ هَذَا فِي مُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ . بَلْ يَزِيدُ ابْنُهُ مَعَ مَا أَحْدَثَ مِنْ الْأَحْدَاثِ مَنْ قَالَ فِيهِ : إنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ . بَلْ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَأَكْثَرُ الْمُلُوكِ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَلَهُمْ سَيِّئَاتٌ وَحَسَنَاتُهُمْ عَظِيمَةٌ وَسَيِّئَاتُهُمْ عَظِيمَةٌ فَالطَّاعِنُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ نُظَرَائِهِ إمَّا جَاهِلٌ وَإِمَّا ظَالِمٌ . وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مَا لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ تَابَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يُعَاقِبُهُ لِسَيِّئَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ فِيهِ شَفَاعَةَ نَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الشُّفَعَاءِ فَالشَّهَادَةُ لِوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالنَّارِ هُوَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ . وَكَذَلِكَ قَصْدُ لَعْنَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّالِحِينَ وَالْأَبْرَارِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَةَ وَعَاصِرُهَا وَمُعْتَصِرُهَا وَحَامِلُهَا وَسَاقِيهَا وَشَارِبُهَا وَبَائِعُهَا وَمُشْتَرِيهَا وَآكِلُ ثَمَنِهَا } " . وَصَحَّ عَنْهُ : { أَنَّهُ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يُكْثِرُ شُرْبَهَا يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَهُ فأتى بِهِ إلَيْهِ لِيَجْلِدَهُ فَقَالَ رَجُلٌ : لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } " . وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا وَنَهَى عَنْ لَعْنَةِ الْمُؤْمِنِ الْمُعَيَّنِ . كَمَا أَنَّا نَقُولُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَشْهَدَ لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ فِي النَّارِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَغْفِرَ لَهُ اللَّهُ بِحَسَنَاتِ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ أَوْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ . فَهَكَذَا الْوَاحِدُ مِنْ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِ الْمُلُوكِ وَإِنْ كَانَ صَدَرَ مِنْهُ مَا هُوَ ظُلْمٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ نَلْعَنَهُ وَنَشْهَدَ لَهُ بِالنَّارِ . وَمَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ حَسَنَاتٌ عَظِيمَةٌ يُرْجَى لَهُ بِهَا الْمَغْفِرَةُ مَعَ ظُلْمِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو قُسْطَنْطِينِيَّةَ مَغْفُورٌ لَهُ } " وَأَوَّلُ جَيْشٍ غَزَاهَا كَانَ أَمِيرُهُمْ " يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ " وَكَانَ مَعَهُ فِي الْغُزَاةِ أَبُو أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيُّ وَتُوُفِّيَ هُنَاكَ وَقَبْرُهُ هُنَاكَ إلَى الْآنِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ يَقُولُونَ فِي يَزِيدَ(1/105)
وَأَمْثَالِهِ : إنَّا لَا نَسُبُّهُمْ وَلَا نُحِبُّهُمْ أَيْ لَا نُحِبُّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ ظُلْمٍ . وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَجْتَمِعُ فِيهِ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَطَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ وَبِرٌّ وَفُجُورٌ وَشَرٌّ فَيُثِيبُهُ اللَّهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيُعَاقِبُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ إنْ شَاءَ أَوْ يَغْفِرُ لَهُ وَيُحِبُّ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَيُبْغِضُ مَا فَعَلَهُ مِنْ الشَّرِّ . فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ صَغَائِرَ فَقَدْ وَافَقَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهَا . وَأَمَّا صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ فَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنَّارِ بَلْ يُجَوِّزُونَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَهَذِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ فَإِنَّهُ قَيَّدَهَا بِالْمَشِيئَةِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } فَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تَابَ وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ وَعَمَّ . وَالْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ : إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ ثُمَّ إنَّهُمْ قَدْ يَتَوَهَّمُونَ فِي بَعْضِ الْأَخْيَارِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ كَمَا تَتَوَهَّمُ الْخَوَارِجُ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَتْبَاعِهِمَا أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ كَمَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص وَأَمْثَالِهِمَا وَيَبْنُونَ مَذَاهِبَهُمْ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ : ( إحْدَاهُمَا : أَنَّ فُلَانًا مَنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ . ( وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ كُلَّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ يَخْلُدُ فِي النَّارِ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ . وَأَمَّا الثَّانِي فَبَاطِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِيهِ . وَمَنْ قَالَ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِ ؛ مِمَّنْ ظَهَرَ إسْلَامُهُ وَصَلَاتُهُ وَحَجُّهُ وَصِيَامُهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ وَأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ ذَلِكَ فِي الْعَبَّاسِ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٍ وَفِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ . وَكَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ لَيْسَا وَلَدَيْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إنَّمَا هُمَا أَوْلَادُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَمْ يُزَوِّجْ بِنْتَيْهِ عُثْمَانَ ؛ بَلْ إنْكَارُ إسْلَامِ مُعَاوِيَةَ أَقْبَحُ مِنْ إنْكَارِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ . وَأَمَّا إسْلَامُ مُعَاوِيَةَ وَوِلَايَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمَارَةِ وَالْخِلَافَةِ فَأَمْرٌ يَعْرِفُهُ جَمَاهِيرُ الْخَلْقِ وَلَوْ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ إسْلَامَ عَلِيٍّ أَوْ ادَّعَى بَقَاءَهُ عَلَى الْكُفْرِ ؛ لَمْ يُحْتَجَّ عَلَيْهِ إلَّا بِمَثَلِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إسْلَامَ أَبِي بَكْر ؛ وَعُمَر ؛ وَعُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ فَتَفَاضُلُهُمْ لَا يَمْنَعُ اشْتِرَاكَهُمْ فِي ظُهُورِ إسْلَامِهِمْ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إيمَانُ مُعَاوِيَةَ كَانَ نِفَاقًا ؛ فَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ اتَّهَمَ مُعَاوِيَةَ بِالنِّفَاقِ ؛ بَلْ الْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى حُسْنِ إسْلَامِهِ ؛ وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ فِي حُسْنِ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ - أَبِيهِ - وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ ؛ وَأَخُوهُ يَزِيدُ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُسْنِ إسْلَامِهِمَا كَمَا لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُسْنِ إسْلَامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَكَيْفَ يَكُونُ رَجُلًا مُتَوَلِّيًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعِينَ سَنَةً نَائِبًا وَمُسْتَقِلًّا يُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَيَخْطُبُ وَيَعِظُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُ فِيهِمْ الْحُدُودَ وَيُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ فَيْأَهُمْ وَمَغَانِمَهُمْ وَصَدَقَاتِهِمْ وَيَحُجُّ بِهِمْ وَمَعَ هَذَا يُخْفِي نِفَاقَهُ عَلَيْهِمْ كُلَّهُمْ ؟ وَفِيهِمْ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةٌ(1/106)
كَثِيرَةٌ . بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - لَمْ يَكُنْ مِنْ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِيَّ الْعَبَّاسِ أَحَدٌ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَبَنُو أُمَيَّةَ لَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُنْسَبُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْبِدْعَةِ أَوْ نَوْعٍ مِنْ الظُّلْمِ لَكِنْ لَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى زَنْدَقَةٍ وَنِفَاقٍ . وَإِنَّمَا كَانَ الْمَعْرُوفُونَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ بَنِي عُبَيْدٍ الْقَدَّاحَ الَّذِينَ كَانُوا بِمِصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَكَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَوِيُّونَ وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ الْكُفَّار فَهَؤُلَاءِ قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى رَمْيِهِمْ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَكَذَلِكَ رُمِيَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ قَوْمٌ مِنْ مُلُوكِ النَّوَاحِي الْخُلَفَاءُ مِنْ بَنِي بويه وَغَيْرِ بَنِي بويه ؛ فَأَمَّا خَلِيفَةٌ عَامُّ الْوِلَايَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ طَهَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ أَمْرِهِمْ زِنْدِيقًا مُنَافِقًا فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ وَيُعْرَفَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي هَذَا الْبَابِ . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَفْضَلُ مُلُوكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْأَرْبَعَةَ قَبْلَهُ كَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ ؛ كَانَ مُلْكُهُ مُلْكًا وَرَحْمَةً كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { يَكُونُ الْمُلْكُ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ وَرَحْمَةٌ ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ وَرَحْمَةٌ ثُمَّ مُلْكٌ وَجَبْرِيَّةٌ ثُمَّ مُلْكٌ عَضُوضٌ } " وَكَانَ فِي مُلْكِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحُلْمِ وَنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ . وَأَمَّا مَنْ قَبْلَهُ فَكَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { تَكُونُ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا } " وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ } " . وَقَدْ تَنَازَعَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ ؛ وَقَالُوا : زَمَانُهُ زَمَانُ فِتْنَةٍ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ جَمَاعَةٌ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يَصِحُّ أَنْ يُوَلَّى خَلِيفَتَانِ فَهُوَ خَلِيفَةٌ وَمُعَاوِيَةُ خَلِيفَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَتَّفِقْ عَلَيْهِ وَلَمْ تَنْتَظِمْ فِي خِلَافَتِهِ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ : أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَزَمَانُ عَلِيٍّ كَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالصَّحَابَةُ تُسَمِّيهِ بِذَلِكَ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : " مَنْ لَمْ يُرَبِّعْ بِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْخِلَافَةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ " وَمَعَ هَذَا فَلِكُلِّ خَلِيفَةٍ مَرْتَبَةٌ . فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ لَا يُوَازِنُهُمَا أَحَدٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي : أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرُ } " وَلَمْ يَكُنْ نِزَاعٌ بَيْنَ شِيعَةِ عَلِيٍّ الَّذِينَ صَحِبُوهُ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا أوتى بِرَجُلِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي . وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَنَازَعُونَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَكِنْ ثَبَتَ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ بِاتِّفَاقِ السَّابِقِينَ عَلَى مُبَايَعَةِ ( عُثْمَانَ طَوْعًا بِلَا كُرْهٍ ؛ بَعْدَ أَنْ جَعَلَ عُمَر الشُّورَى فِي سِتَّةٍ : عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . وَتَرَكَهَا " ثَلَاثَةٌ " وَهُمْ : طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ . فَبَقِيَتْ فِي " ثَلَاثَةٍ " عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ . فَوُلِّيَ أَحَدُهُمَا فَبَقِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَالتَّابِعِينَ(1/107)
لَهُمْ بِإِحْسَانِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْدِلُوا بِعُثْمَانِ . وَنَقَلَ وَفَاتَهُ وَوِلَايَتَهُ : حَدِيثٌ طَوِيلٌ فَمَنْ أَرَادَهُ فَعَلَيْهِ بِأَحَادِيثِ الثِّقَاتِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ .
===============
هل يتميز أولياء الله عن غيرهم بشيء ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1):
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 194) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 487)(1/108)
فَصْلٌ وَلَيْسَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ شَيْءٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ النَّاسِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُبَاحَاتِ فَلَا يَتَمَيَّزُونَ بِلِبَاسِ دُونَ لِبَاسٍ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُبَاحًا وَلَا بِحَلْقِ شَعْرٍ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ ظَفْرِهِ إذَا كَانَ مُبَاحًا كَمَا قِيلَ : كَمْ مِنْ صِدِّيقٍ فِي قَبَاءٍ وَكَمْ مِنْ زِنْدِيقٍ فِي عَبَاءٍ ؛ بَلْ يُوجَدُونَ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الظَّاهِرَةِ وَالْفُجُورِ فَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْجِهَادِ وَالسَّيْفِ وَيُوجَدُونَ فِي التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَصْنَافَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } . وَكَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ " الْقُرَّاءَ " فَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْعُلَمَاءُ وَالنُّسَّاكُ ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْمُ " الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ " . وَاسْمُ " الصُّوفِيَّةِ " هُوَ نِسْبَةٌ إلَى لِبَاسِ الصُّوفِ ؛ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى صَفْوَةِ الْفُقَهَاءِ وَقِيلَ إلَى صُوفَةَ بْنِ أد بْنِ طانجة قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالنُّسُكِ وَقِيلَ إلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ وَقِيلَ إلَى الصَّفَا وَقِيلَ إلَى الصَّفْوَةِ وَقِيلَ إلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذِهِ أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ صفي أَوْ صَفَائِيٌّ أَوْ صفوي أَوْ صفي وَلَمْ يَقُلْ صُوفِيٌّ . وَصَارَ أَيْضًا اسْمُ " الْفُقَرَاءِ " يَعْنِي بِهِ أَهْلَ السُّلُوكِ وَهَذَا عُرْفٌ حَادِثٌ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ أَيُّمَا أَفْضَلُ مُسَمًّى " الصُّوفِيُّ " أَوْ مُسَمَّى " الْفَقِيرِ " ؟ وَيَتَنَازَعُونَ أَيْضًا أَيُّمَا أَفْضَلُ : الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ أَوْ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ ؟ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ قَدِيمٌ بَيْنَ الجنيد وَبَيْن أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَطَاءٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ وَالصَّوَابُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيْثُ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } . وَفِي اِ لصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ : { أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ أَتْقَاهُمْ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك فَقَالَ : يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ يَعْقُوبَ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ إسْحَاقَ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ . فَقِيلَ لَهُ : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك . فَقَالَ : عَنْ مَعَادِنَ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي ؟ النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا } . فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى . كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } . وَعَنْهُ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ النَّاسُ رَجُلَانِ : مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ } . فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَتْقَى لِلَّهِ فَهُوَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ . وَلَفْظُ " الْفَقْرِ " فِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ مِنْ الْمَالِ وَيُرَادُ بِهِ فَقْرُ الْمَخْلُوقِ إلَى خَالِقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ(1/109)
وَالْمَسَاكِينِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ } وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ صِنْفَيْنِ مِنْ الْفُقَرَاءِ : أَهْلَ الصَّدَقَاتِ وَأَهْلَ الْفَيْءِ فَقَالَ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا } وَقَالَ فِي الصِّنْفِ الثَّانِي وَهُمْ أَفْضَلُ الصِّنْفَيْنِ { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ } . أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ { رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ } فَلَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْعَالِهِ وَجِهَادُ الْكُفَّارِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ ؛ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ { النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنْت عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ : مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ وَقَالَ آخَرُ : مَا أُبَالِي أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أُعَمِّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا ذَكَرْتُمَا فَقَالَ عُمَرُ : لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ إذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ سَأَلْته فَسَأَلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { سُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { رَجُلًا قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلِ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ : لَا تَسْتَطِيعُهُ أَوْ لَا تُطِيقُهُ قَالَ فَأَخْبِرْنِي بِهِ قَالَ : هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ وَتَقُومَ(1/110)
وَلَا تَفْتُرَ } ؟ وَفِي السُّنَنِ عَنْ { مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَّاهُ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : يَا مُعَاذُ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ وَقَالَ : يَا مُعَاذُ إنِّي لَأُحِبُّك فَلَا تَدَعُ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ : اللَّهُمَّ أَعَنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك وَقَالَ لَهُ - وَهُوَ رَدِيفُهُ - يَا مُعَاذُ : أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قُلْت اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟ قُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ } . وَقَالَ أَيْضًا لِمُعَاذِ : { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَالَ : { يَا مُعَاذُ أَلَا أُخْبِرُك بِأَبْوَابِ الْبِرِّ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَرَأَ { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ثُمَّ قَالَ : يَا مُعَاذُ أَلَا أُخْبِرُك بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ قُلْت بَلَى فَقَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْك لِسَانَك هَذَا فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ : ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } . وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } فَالتَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ وَالصَّمْتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ فَأَمَّا الصَّمْتُ الدَّائِمُ فَبِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَكَذَلِكَ الِامْتِنَاعُ عَنْ أَكْلِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَشُرْبِ الْمَاءِ فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : مَا هَذَا فَقَالُوا : أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ } . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَنَسٍ أَنَّ رِجَالًا سَأَلُوا عَنْ عِبَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُمْ تقالوها فَقَالُوا وَأَيُّنَا مِثْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } أَيْ سَلَكَ غَيْرَهَا ظَانًّا أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ كُلَّ يَوْمِ جُمْعَةٍ .
================
الانتقال من مكان إلى مكان
وتعني الهجرة الانتقال من مكان إلى مكان أي من دار الكفر والحرب إلى دار الإسلام وسيمر حكمها
التهجير والطرد(1/111)
والنوع الثالث التهجير والطرد القسري كما فعل بأهلنا في فلسطين وفي الشيشان وفي كشمير وفي البوسنة وفي غيرها من بلدان المسلمين التي ترزح تحت الاحتلال المباشر من قبل أعداء الإسلام
فقد هجِّر الملايين من المسلمين الذين تفرقوا في أصقاع هذه الأرض وكثير منهم قد ضاعوا وذابوا في المجتمعات التي هجروا إليها وذلك بسبب جهلهم بالإسلام عقيدة وعبادة منهج حياة وبسبب الحرب الشاملة على الإسلام والمسلمين من قبل أعداء الإسلام والتي لم يخب أوارها منذ أن جاء الإسلام وإلى قيام الساعة
قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* (217) سورة البقرة
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر ; وعلى فتنة المسلمين عن دينهم ; بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم . وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل . . إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ; ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم . فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل , ويرهبه كل باغ , ويكرهه كل مفسد . إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج , ومن منهج قويم , ومن نظام سليم . . إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد . ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون .ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه , ويردوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة . ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم , وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين , وتتبع هذا المنهج , وتعيش بهذا النظام .
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته , ولكن الهدف يظل ثابتا . . أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا . وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره , وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها . . والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام , وينبهها إلى الخطر ; ويدعوها إلى الصبر على الكيد , والصبر على الحرب , وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة ; والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر:
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر , فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . .
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثم نفقت . . والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل , فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي . . يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره , وهلاكه في النهاية وبواره . . مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ ّ !
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ; تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . . حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلودا .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه , لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا . إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر , مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي , وفي الارتداد الحقيقي , بحيث يموت وهو كافر . . والعياذ بالله
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . .
ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه , ويرتد عن إيمانه وإسلامه , ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . .
وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به , ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيرا:إحدى الحسنيين:النصر أو الشهادة (1).
=================
أحكام الهجرة في القرآن الكريم
الحث على الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام (1)
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* (218) سورة البقرة
قال الإمام القرطبي رحمه الله (2):
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 31)
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 630)(1/112)
قال جُندُب ابن عبد الله وعُروة بن الزّبير وغيرهما : لمّا قَتَل واقدُ بن عبد الله التميميّ عمرو بن الحضرميّ في الشهر الحرام تَوقَّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خُمُسه الذي وُفِّق في فرضه له عبدُ الله ابن جحش وفي الأسيرين ، فعنّف المسلمون عبدَ الله بن جحش وأصحابه حتى شَقَّ ذلك عليهم ، فتلافاهم الله عزّ وجلّ بهذه الآية في الشهر الحرام وفرّج عنهم ، وأخبر أن لهم ثواب من هاجر وغزا ، فالإشارة إليهم في قوله : «إِن الَّذِينَ آمَنُوا» ثم هي باقية في كلّ من فعل ما ذكره الله عز وجل . وقيل : إن لم يكونوا أصابوا وِزْراً فليس لهم أجر؛ فأنزل الله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ } إلى آخر الآية .
والهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع ، وقصدُ ترك الأوّل إيثاراً للثاني . والهَجْر ضدّ الوصل . وقد هَجره هَجْراً وهِجراناً ، والاسم الهِجْرة . والمهاجرة من أرض إلى أرض تركُ الأُولى للثانية . والتَّهاجُر التّقاطع . ومن قال : المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم؛ بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب ، وليس أهل مكة مهاجرين على قوله . «وجاهد» مفاعلة مِن جَهَد إذا استخرج الجهد ، مجاهدة وجِهاداً . والاجتهاد والتجاهد : بذل الوسع والمجهود . والجَهاد ( بالفتح ) : الأرض الصُّلبة . «ويرجون» معناه يطمعون ويستقربون . وإنما قال «يرجون» وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كلَّ مبلغ ، لأمرين : أحدهما لا يدري بما يُختم له . والثاني لئلا يتّكل على عمله؛ والرجاء يَنْعَمُّ ، والرجاء أبدا معه خوف ولا بُدّ ، كما أن الخوف معه رجاء . والرجاء من الأمل ممدود؛ يقال : رَجَوت فلاناً رَجْوا ورَجَاء ورَجَاوة ، يقال : ما أتيتك إلا رَجَاوَةَ الخير . وترجّيته وارتجيته ورَجّيته وكله بمعنَى رَجَوته ، قال بِشرٌ يخاطب بنته :
فَرَجِّي الخيرَ وانتظري إيابي ... إذا ما القارِظُ العَنَزِيُّ آبَا
ومالي في فلان رِجيَّة ، أي ما أرجو . وقد يكون الرَّجْو والرجاء بمعنى الخوف ، قال الله تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي لا تخافون عظمةَ الله؛ قال أبو ذُؤَيب :
إذا لسعته النّحلُ لم يَرْجُ لَسْعَها ... وخالفَهَا في بَيت نُوبٍ عوامِلِ
أي لم يَخَفْ ولم يُبالِ . والرجا مقصور : ناحية البئر وحافتاها ، وكل ناحيةٍ رَجاً . والعَوَام من الناس يخطئون في قولهم : يا عظيمَ الرّجَا؛ فيَقْصُرون ولا يمدّون .
--------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
(إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله , والله غفور رحيم) . .
ورجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبدا . . ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق , فجاهدوا وصبروا , حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة . وكلاهما خير . وكلاهما رحمة . وفازوا بمغفرة الله ورحمته: (والله غفور رحيم) . .
وهو هو طريق المؤمنين . .
------------------
وفي التفسير الوسيط (2):
قال الإِمام الرازي : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان :
الأول : أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله : هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا ، فهل نطمع منه أجراً وثواباً؟ فنزلت الآية ، لأن عبد الله كان مؤمناً وكان مهاجراً ، وكان مجاهداً بسبب هذه المقاتلة .
وفي الثاني : أنه تعالى لما أوجب الجهاد قبل بقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به وجزاؤه فقال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ } ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد " .
والمعنى : إن الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، واستقاموا على طريق الحق ، وأذعنوا لحكمه ، واستجابوا لأوامر الله ونواهيه : { والذين هَاجَرُواْ } أي : تركوا أموالهم وأوطانهم من أجل نصرة دينهم : { وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله } لإِعلاء كلمته { أولائك } الموصوفون بتلك الصفات الثلاثة { يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله } أي : يؤملون تعلق رحمته - تعالى - بهم ، أو ثوابه على أعمالهم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : واسع المغفرة للتائبين المستغفرين ، عظيم الرحمة بالمؤمنين المحسنين .
قال القرطبي : " والهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع ، والقصد ترك الأول إيثارا للثاني . والهجرة ضد الوصل ، والاسم الهجرة . وجاهد مفاعله من جهد إذا استخرج الجهد . والاجتهاد والتجاهد : بذل الوسع والمجهود ، والجهاد - بالفتح - الأرض الصلبة .
وإنما قال { يَرْجُونَ } وقد مدحهم ، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين :
أحدهما : أنه لا يدري بماذا ختم له .
والثاني : لئلا يتكل على عمله ، والرجاء أبداً معه خوف كما أن الخوف معه رجاء " .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 31)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 380)(1/113)
وجيء بهذه الأوصاف الثلاثة مترتبة على حسب الواقع إذا الإِيمان يكون أولا ثم المهاجرة من أرض الضالمين إذا لم يستطع دفع ظلمهم ، ثم الجهاد من أجل إعلاء كملة الحق .
وأفرد الإِيمان بموصول وحده لأنه أصل الهجرة والجهاد ، وجمع الهجرة والجهاد في موصول واحد لأنهما فرعان عنه .
وبذلك نرى أن هذه الآية الكريمة قد دعت المؤمنين إلى بذل أموالهم وأنفسهم في سبيل نصرة الحق بأحكم أسلوب ، وبرأتهم مما أثاره المشركون حولهم من شبهات ، وحذرتهم من السير في طريقهم ، وبشرتهم بحسن العاقبة متى استجابوا لتعاليم دينهم ، واعتصموا بحبله .
-----------------
وقال السعدي رحمه الله (1):
هذه الأعمال الثلاثة، هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان، من الربح والخسران، فأما الإيمان، فلا تسأل عن فضيلته، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد، قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل، ولا فرض، ولا نفل.
وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب المألوف، لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله، وأهله، وخلانه، تقربا إلى الله ونصرة لدينه.
وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله، وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه، أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر، لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام، وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.
فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا.
فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله، لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل، وعدم القيام بالأسباب، فهذا عجز وتمن وغرور، وهو دال على ضعف همة صاحبه، ونقص عقله، بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح، ووجود الغلة بلا بذر وسقي، ونحو ذلك.
وفي قوله: { أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها، ويعول عليها، بل يرجو رحمة ربه، ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه، وستر عيوبه.
ولهذا قال: { وَاللَّهُ غَفُورٌ } أي: لمن تاب توبة نصوحا { رَحِيمٌ } وسعت رحمته كل شيء، وعم جوده وإحسانه كل حي.
وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة، حصل له مغفرة الله، إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله.
وإذا حصلت له المغفرة، اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة، التي هي آثار الذنوب، التي قد غفرت واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له الرحمة، حصل على كل خير في الدنيا والآخرة؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم، فلولا توفيقه إياهم، لم يريدوها، ولولا إقدارهم عليها، لم يقدروا عليها، ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولا وآخرا، وهو الذي منّ بالسبب والمسبب.
-----------------
وقال الطاهر بن عاشور (2):
قال الفخر: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان، أحدهما: أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرا أو ثوابا? فنزلت هذه الآية؛ لأن عبد الله كان مؤمنا ومهاجرا وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا "يعني فتحققت فيه الأوصاف الثلاثة". الثاني: أنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] أتبع ذلك بذكر من يقوم به اه، والذي يظهر لي أن تعقيب ما قبلها بها من باب تعقيب الإنذار بالبشارة وتنزيه للمؤمنين من احتمال ارتدادهم فإن المهاجرين لم يرتد منهم أحد. وهذه الجملة معترضة بين آيات التشريع.
و {الَّذِينَ هَاجَرُوا} هم الذين خرجوا من مكة إلى المدينة فرارا بدينهم، مشتق من الهجر وهو الفراق، وإنما اشتق منه وزن المفاعلة للدلالة على أنه هجر نشأ عن عداوة من الجانبين فكل من المنتقل والمنتقل عنه قد هجر الآخر وطلب بعده، أو المفاعلة للمبالغة كقولهم: عافاك الله فيدل على أنه هجر قوما هجرا شديدا، قال عبدة بن الطيب:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
والمجاهدة مفاعلة مشتقة من الجهد وهو المشقة وهي القتال لما فيه من بذل الجهد كالمفاعلة للمبالغة، وقيل: لأنه يضم جهده إلى جهد آخر في نصر الدين مثل المساعدة وهي ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر للإعانة والقوة، فالمفاعلة بمعنى الضم والتكرير، وقيل: لأن المجاهد يبذل جهده في قتال من يبذل جهده كذلك لقتاله فهي مفاعلة حقيقية.
و"في" للتعليل.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 98)
(2) - التحرير والتنوير - (ج 2 / ص 319)(1/114)
و"سبيل الله" ما يوصل إلى رضاه وإقامة دينه، والجهاد والمجاهدة من المصطلحات القرآنية والإسلامية، وكرر الموصول التعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء.وجيء باسم الإشارة للدلالة على أن رجاءهم رحمة الله لأجل إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، فتأكد بذلك ما يدل عليه الموصول من الإيماء إلى وجه بناء الخبر، وإنما احتيج لتأكيده لأن الصلتين لما كانتا مما اشتهر بهما المسلمون وطائفة منهم صارتا كاللقب؛ إذ يطلق على المسلمين يومئذ في لسان الشرع اسم الذين آمنوا كما يطلق على مسلمي قريش يومئذ اسم المهاجرين فأكد قصد الدلالة على وجه بناء الخبر من الموصول.
والرجاء: ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله، فإن وعد الله وإن كان لا يخلف فضلا منه وصدقا، ولكن الخواتم مجهولة ومصادفة العمل لمراد الله قد تفوت لموانع لا يدريها المكلف ولئلا يتكلوا في الاعتماد على العمل.
---------------
وقال شيه الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1):
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 33 / ص 11) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 8 / ص 401) والفتاوى الكبرى - (ج 4 / ص 284)(1/115)
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } ثُمَّ قَالَ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أَيْ فِي ذَلِكَ التَّرَبُّصِ . ثُمَّ قَالَ : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ أَحَقَّ بِرَدِّهَا : هُوَ ( مَرَّتَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَمَا إذَا قِيلَ لِلرَّجُلِ : سَبِّحْ مَرَّتَيْنِ . أَوْ سَبِّحْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَ اللَّهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ . حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ . فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُجْمِلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : الطَّلَاقُ طَلْقَتَانِ . بَلْ قَالَ : ( مَرَّتَانِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ عَشْرًا أَوْ أَلْفًا . لَمْ يَكُنْ قَدْ طَلَّقَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَّةَ : لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْته مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ . سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ التَّسْبِيحَ بِعَدَدِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ } لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَبَّحَ تَسْبِيحًا بِقَدْرِ ذَلِكَ . فَالْمِقْدَارُ تَارَةً يَكُونُ وَصْفًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَفِعْلُهُ مَحْصُورٌ . وَتَارَةً يَكُونُ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ فَذَاكَ الَّذِي يَعْظُمُ قَدْرُهُ ؛ وَإِلَّا فَلَوْ قَالَ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَلَمَا شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُحَمَّدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ . فَلَوْ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ خَلْقَهُ . لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَّحَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً . وَلَا نَعْرِفُ أَنَّ أَحَدًا طَلَّقَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ فَأَلْزَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّلَاثِ وَلَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا حَسَنٌ وَلَا نَقَلَ أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَدِّ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا ؛ بَلْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بَلْ مَوْضُوعَةٌ ؛ بَلْ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ عَنْ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ : طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً . فَقَالَ عُمَرُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ وَغَيْرِهِ عَنْ طَاوُوسٍ أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَتَعْلَمُ إنَّمَا كَانَتْ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَعَمْ : وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : هَاتِ مِنْ هَنَاتِك أَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً ؟ قَالَ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ(1/116)
مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ حَدَّثَنِي داود بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ . { طَلَّقَ ركانة بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا ؛ قَالَ : فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ طَلَّقْتهَا ؟ قَالَ : طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا . قَالَ ؛ فَقَالَ : فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَإِنَّمَا تِلْكَ وَحْدَةٌ فَأَرْجِعْهَا إنْ شِئْت قَالَ : فَرَجَعَهَا } . فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ ؛ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ المقدسي فِي كِتَابِهِ " الْمُخْتَارَةِ " الَّذِي هُوَ أَصَحُّ مِنْ " صَحِيحِ الْحَاكِمِ " . وَهَكَذَا رَوَى أَبُو داود وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ } مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي مَجَالِسَ لَأَمْكَنَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ ارْتَجَعَهَا ؛ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الرَّجْعَةِ يَقَعُ . وَالْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ فِي جَانِبِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ تَفْصِيلٌ كَقَوْلِهِ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ أَوْ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } وَهُوَ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَقَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ وَقَدْ لَا يَحْمِلُهُ . وَقَوْلُهُ { فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ } وَهِيَ إذَا لَمْ تَكُنْ سَائِمَةً قَدْ يَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ - زَكَاةُ التِّجَارَةِ - وَقَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَمَنْ لَمْ يَقُمْهَا فَقَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِسَبَبِ آخَرَ . وَكَقَوْلِهِ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وقَوْله تَعَالَى تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ يَعْمَلُ عَمَلًا آخَرَ يَرْجُو بِهِ رَحْمَةَ اللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ . فَلَوْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِيهَا رَجْعَةٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ : بِخِلَافِ الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ لَا يُرَاجِعُهَا فِيهِ ؛ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ الرَّجْعَةَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { ارْجِعْهَا إنْ شِئْت } وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا } فَأَمَرَهُ بِالرَّجْعَةِ وَالرَّجْعَةُ يَسْتَقِلُّ بِهَا الزَّوْجُ ؛ بِخِلَافِ الْمُرَاجَعَةِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو داود وَغَيْرُهُ { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : مَا أَرَدْت بِهَا إلَّا وَاحِدَةً . فَرَّدَهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَأَبُو داود لَمَّا لَمْ يَرْوِ فِي سُنَنِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ : حَدِيثُ " أَلْبَتَّةَ " أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } لِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ أَعْلَمُ ؛ لَكِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَكَابِرَ الْعَارِفُونَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِيهِ : كَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ : ضَعَّفُوا حَدِيثَ أَلْبَتَّةَ وَبَيَّنُوا أَنَّ رُوَاتَهُ قَوْمٌ مَجَاهِيلُ ؛ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ وَأَحْمَد أَثْبَتَ حَدِيثَ الثَّلَاثِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ الصَّوَابُ مِثْلَ قَوْلِهِ : حَدِيثُ ركانة لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ . وَقَالَ أَيْضًا : حَدِيثُ ركانة فِي أَلْبَتَّةَ لَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّ ابْنَ إسْحَاقَ يَرْوِيه عَنْ داود بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ ركانة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا } وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا طَلَّقَ أَلْبَتَّةَ وَأَحْمَد إنَّمَا عَدَلَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الثَّلَاثَ جَائِزَةٌ مُوَافَقَةً لِلشَّافِعِيِّ . فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ : حَدِيثُ ركانة مَنْسُوخٌ . ثُمَّ(1/117)
لَمَّا رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ طَلَاقٌ مُبَاحٌ إلَّا الرَّجْعِيُّ عَدَلَ : عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِخِلَافِهِ وَهَذَا عِلَّةٌ عِنْدَهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ؛ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الَّتِي عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَعْذَارَ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الَّذِينَ أَلْزَمُوا مَنْ أَوْقَعَ جُمْلَةَ الثَّلَاثِ بِهَا مِثْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمْعِ الثَّلَاثِ وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِعُقُوبَةِ : رَأَى عُقُوبَتَهُمْ بِإِلْزَامِهَا ؛ لِئَلَّا يَفْعَلُوهَا . إمَّا مِنْ نَوْعِ التَّعْزِيرِ الْعَارِضِ الَّذِي يُفْعَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا كَانَ يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَيَحْلِقُ الرَّأْسَ وَيَنْفِي وَكَمَا مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ الِاجْتِمَاعِ بِنِسَائِهِمْ . وَإِمَّا ظَنًّا أَنْ جَعْلَهَا وَاحِدَةً كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطِ وَقَدْ زَالَ كَمَا ذَهَبَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي مُتْعَةِ الْحَجِّ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مُتْعَةَ الْفَسْخِ . وَالْإِلْزَامُ بِالْفُرْقَةِ لِمَنْ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ : مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ؛ لَكِنْ تَارَةً يَكُونُ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ . كَمَا فِي الْعِنِّينِ وَالْمَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَالْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ . وَتَارَةً يُقَالُ : إنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ كَمَا فِي تَفْرِيقِ الْحُكْمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إذَا لَمْ يَجْعَلَا وَكِيلَيْنِ وَكَمَا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْمَوْلَى عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إذَا لَمْ يَفِ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ وَكَمَا قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : إنَّهُمَا إذَا تَطَاوَعَا فِي الْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ فُرِّقَ بَيْنِهِمَا وَالْأَبُ الصَّالِحُ إذَا أَمَرَ ابْنَهُ بِالطَّلَاقِ لِمَا رَآهُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُ كَمَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ كَمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُطِيعَ أَبَاهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ } . فَالْإِلْزَامُ إمَّا مِنْ الشَّارِعِ . وَإِمَّا مِنْ الْإِمَامِ . بِالْفُرْقَةِ إذَا لَمْ يَقُمْ الزَّوْجُ بِالْوَاجِبِ : هُوَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ . فَلَمَّا كَانَ النَّاسُ إذَا لَمْ يُلْزِمُوا بِالثَّلَاثِ يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ رَأَى عُمَرُ إلْزَامَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْزَمُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ ؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ نَازَعُوا مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؛ إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا التَّعْزِيزَ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَإِمَّا لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُعَاقِبْ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَهَذَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ . وَأَمَّا مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِجَهْلِ أَوْ تَأْوِيلٍ فَلَا وَجْهَ لِإِلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ . وَهَذَا شَرْعٌ شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا شَرَعَ نَظَائِرَهُ لَمْ يَخُصَّهُ : وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إنَّ مَا شَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ - التَّمَتُّعُ كَمَا أَمَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - هُوَ شَرْعٌ مُطْلَقٌ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ { لِمَا سُئِلَ أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا ؟ أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ : لَا ؛ بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّمَا شُرِعَ لِلشُّيُوخِ لِمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِمْ مِثْلَ بَيَانِ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ : قَوْلٌ فَاسِدٌ ؛ لِوُجُوهِ مَبْسُوطَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ تَنَازُعِهِمْ بِرَدِّ مَا(1/118)
تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ . فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوجِبُ الْإِلْزَامَ بِالثَّلَاثِ بِمَنْ أَوْقَعَهَا جُمْلَةً بِكَلِمَةِ أَوْ كَلِمَاتٍ بِدُونِ رَجْعَةٍ أَوْ عُقْدَةٍ ؛ بَلْ إنَّمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْإِلْزَامُ بِذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ الطَّلَاقَ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ الْقِيَاسُ وَالِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ أُصُولِ الشَّرْعِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ يُبَاحُ تَارَةً وَيَحْرُمُ تَارَةً - كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ - إذَا فُعِلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ الْحَلَالُ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا حَرَمَهُ اللَّهُ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَمِنْ النِّكَاحِ . فِي الْعِدَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَقَعُ بَاطِلًا غَيْرَ لَازِمٍ وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْعِ الْمُحْرِمَاتِ : كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ؛ وَالْمَيْتَةِ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ مُحَرَّمُ الْجِنْسِ كَالظِّهَارِ وَالْقَذْفِ وَالْكَذِبِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ مِنْ فِعْلِهِ الْعُقُوبَةَ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَارَةً حَلَالًا وَتَارَةً حَرَامًا حَتَّى يَكُونَ تَارَةً صَحِيحًا وَتَارَةً فَاسِدًا . وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُبَاحًا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ - كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ وَاشْتِرَاءِ الْمَجْحُودِ عِتْقَهُ وَرِشْوَةِ الظَّالِمِ لِدَفْعِ ظُلْمَةٍ أَوْ لِبَذْلِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ وَكَاشْتِرَاءِ الْإِنْسَانِ الْمُصَرَّاةَ وَمَا دُلِّسَ عَيْبُهُ وَإِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِيَفْعَلَ الْوَاجِبَ أَوْ لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ وَكَبَيْعِ الْجَالِبِ لِمَنْ تَلَقَّى مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ - الْمَظْلُومَ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَلَهُ أَنْ يُمْضِيَهُ ؛ بِخِلَافِ الظَّالِمِ فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ لَيْسَ بِلَازِمِ . وَالطَّلَاقُ هُوَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَارَةً وَحَرَّمَهُ أُخْرَى . فَإِذَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا نَافِذًا كَمَا يَلْزَمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا - وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ - ( مَرَّتَانِ وَبَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ : إمَّا { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } بِأَنْ يُرَاجِعَهَا فَتَبْقَى زَوْجَتَهُ وَتَبْقَى مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ . وَإِمَّا { تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } بِأَنْ يُرْسِلَهَا إذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وَهَذَا هُوَ الْخُلْعُ سَمَّاهُ " افْتِدَاءً " لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْتَدِي نَفْسهَا مِنْ أَسْرِ زَوْجِهَا كَمَا يَفْتَدِي الْأَسِيرُ وَالْعَبْدُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَا يَبْذُلُهُ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يَعْنِي الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } . { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يَعْنِي هَذَا الزَّوْجَ الثَّانِيَ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } يَعْنِي عَلَيْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ { أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ(1/119)
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } . وَفِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ . فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ . مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ بَعْدُ أَمْسَكَهَا . وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا . فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ " قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ : الطَّلَاقُ عَلَى " أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ " : وَجْهَانِ حَلَالٌ . وَوَجْهَانِ حَرَامٌ . فَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَلَالٌ فَأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا فِي غَيْرِ جِمَاعٍ . أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا . وَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَرَامٌ فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا . أَوْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا رَوَاهُ الدارقطني وَغَيْرُهُ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إلَّا إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا ؛ وَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ . أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ الطُّهْرَ أَوْ الْعِدَّةَ . فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ يَكُونُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَيَكُونُ قَدْ طَوَّلَ عَلَيْهَا التَّرَبُّصَ وَطَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إلَى طَلَاقِهَا . وَالطَّلَاقُ فِي الْأَصْلِ مِمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَهُوَ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا أَبَاحَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ كَمَا تُبَاحُ الْمُحَرَّمَاتُ لِلْحَاجَةِ ؛ فَلِهَذَا حَرَّمَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ عُقُوبَةً لَهُ لِيَنْتَهِيَ الْإِنْسَانُ عَنْ إكْثَارِ الطَّلَاقِ . فَإِذَا طَلَّقَهَا لَمْ تَزَلْ فِي الْعِدَّةِ مُتَرَبِّصَةً ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَهُوَ مَالِكٌ لَهَا يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ وَلَيْسَ لَهُ فَائِدَةٌ فِي تَعْجِيلِ الطَّلَاقِ قَبْلَ وَقْتِهِ ؛ كَمَا لَا فَائِدَةَ فِي مُسَابَقَةِ الْإِمَامِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْتَدُّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ ؛ بَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إذَا تَعَمَّدَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لَا يَزَالُ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُسَلِّمَ .
-----------------
وفي غذاء الألباب (1):
__________
(1) - غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (ج 2 / ص 267)(1/120)
مَطْلَبٌ : فِي حُسْنِ الظَّنِّ . فَهَذَا حَالُ السَّلَفِ رَجَاءٌ بِلَا إهْمَالٍ , وَخَوْفٌ بِلَا قُنُوطٍ . وَلَا بُدَّ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ ( وَلَاقِ ) أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ( بِحُسْنِ الظَّنِّ ) بِاَللَّهِ تَعَالَى رَبَّك ) جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ , فَإِنَّهُ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ , فَإِنْ لَقِيته وَأَنْتَ حَسَنُ الظَّنِّ بِهِ ( تَسْعَدْ ) السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ , وَتَسْلَمْ السَّلَامَةَ السَّرْمَدِيَّةَ . وَمَفْهُومُهُ أَنَّك إنْ لَمْ تُلَاقِيهِ بِحُسْنِ الظَّنِّ تَشْقَ شَقَاوَةَ الْأَبَدِ , وَتَعْطَبُ عَطَبًا مَا عَطِبَهُ غَيْرُك أَنْتَ وَأَمْثَالُك فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام { قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ ذَكَرَنِي * الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ الْعِبَادَةُ * وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ { إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ * . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ { سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ * . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ { حَيَّانَ أَبِي النَّضْرِ قَالَ خَرَجْت عَائِدًا لِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ فَلَقِيت وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ وَهُوَ يُرِيدُ عِيَادَتَهُ , فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ , فَلَمَّا رَأَى وَاثِلَةَ بَسَطَ يَدَهُ وَجَعَلَ يُشِيرُ إلَيْهِ , فَأَقْبَلَ وَاثِلَةُ حَتَّى جَلَسَ فَأَخَذَ يَزِيدُ بِكَفَّيْ وَاثِلَةَ فَجَعَلَهُمَا عَلَى وَجْهِهِ , فَقَالَ لَهُ وَاثِلَةُ كَيْفَ ظَنُّك بِاَللَّهِ ؟ قَالَ ظَنِّي بِاَللَّهِ وَاَللَّهِ حَسَنٌ , قَالَ فَأَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي , إنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ * . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ " وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاَللَّهِ الظَّنَّ إلَّا أَعْطَاهُ ظَنَّهُ وَذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا { أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ , فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفَتِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنٌ , فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رُدُّوهُ أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي * .(1/121)
( تَنْبِيهَاتٌ ) : ( الْأَوَّلُ ) : رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَكَّارٍ رحمه الله تعالى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ : أَنْ لَا تَجْمَعَك وَالْفُجَّارَ دَارٌ وَاحِدَةٌ . وَدَعَا رَجُلٌ بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ : لَا تُعَذِّبْنَا بِالنَّارِ بَعْدَ أَنْ أَسْكَنْت تَوْحِيدَك قُلُوبَنَا , ثُمَّ بَكَى وَقَالَ مَا إخَالُك تَفْعَلُ بِعَفْوِك , ثُمَّ بَكَى وَقَالَ وَلَئِنْ عَذَّبْتنَا بِذُنُوبِنَا لَتَجْمَعَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَقْوَامٍ طَالَ مَا عَادَيْنَاهُمْ فِيك . وَقَالَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه الصلاة والسلام : اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ مَنْ كَانَ يُشْرِكُ بِك بِمَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِك . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ إذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ * قَالَ : وَنَحْنُ نُقْسِمُ بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِنَا لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ أَتُرَاك تَجْمَعُ بَيْنَ أَهْلِ الْقِسْمَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ . ثُمَّ بَكَى أَبُو حَفْصٍ الصَّيْرَفِيُّ بُكَاءً شَدِيدًا . ( الثَّانِي ) : ظَنَّ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى سَعَةِ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ مَعَ تَعْطِيلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي كَافٍ , وَهَذَا خَطَأٌ قَبِيحٌ وَجَهْلٌ فَضِيحٌ , فَإِنَّ رَجَاءَك لِمَرْحَمَةِ مَنْ لَا تُطِيعُهُ مِنْ الْخِذْلَانِ وَالْحُمْقِ كَمَا قَالَهُ مَعْرُوفٌ رَحِمَهُ اللَّهِ وَرَضِيَ عَنْهُ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْك فِي الدُّنْيَا بِسَرِقَةِ رُبْعِ دِينَارٍ لَا تَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ هَذَا . وَلَمْ يُفَرِّقْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالتَّمَنِّي . وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّجَاءَ يَكُونُ مَعَ بَذْلِ الْجَهْدِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فِي الْإِتْيَانِ بِأَسْبَابِ الظَّفَرِ وَالْفَوْزِ . وَالتَّمَنِّي حَدِيثُ النَّفْسِ بِحُصُولِ ذَلِكَ مَعَ تَعْطِيلِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ . قَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ * فَطَوَى سُبْحَانَهُ بِسَاطَ الرَّجَاءِ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الرُّوحُ الْكُبْرَى : الرَّجَاءُ لِعَبْدٍ قَدْ امْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ , فَمَثُلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ وَجَنَّتِهِ , فَامْتَدَّ الْقَلْبُ مَائِلًا إلَى ذَلِكَ شَوْقًا إلَيْهِ وَحِرْصًا عَلَيْهِ , فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَادِّ عُنُقَهُ إلَى مَطْلُوبٍ قَدْ صَارَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ . قَالَ وَعَلَامَةُ الرَّجَاءِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّاجِيَ لِخَوْفِ فَوْتِ الْجَنَّةِ وَذَهَابِ حَظِّهِ مِنْهَا يَتْرُكُ مَا يَخَافُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِهَا . وَأَمَّا الْأَمَانِيُّ فَإِنَّهَا رُءُوسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ , أَخْرَجُوهَا فِي قَالَبِ الرَّجَاءِ , وَتِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ , وَهِيَ تَصْدُرُ مِنْ قَلْبٍ تَزَاحَمَتْ عَلَيْهِ وَسَاوِسُ النَّفْسِ فَأَظْلَمَ مِنْ دُخَانِهَا , فَهُوَ يَسْتَعْمِلُ قَلْبَهُ فِي شَهَوَاتِهَا , وَكُلَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنَّتْهُ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ وَالنَّجَاةَ , وَأَحَالَتْهُ عَلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ , وَالْفَضْلِ , وَأَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ وَلَا تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ وَلَا تُنْقِصُهُ الْمَغْفِرَةُ وَيُسَمِّي ذَلِكَ رَجَاءً , وَإِنَّمَا هُوَ وَسَاوِسُ وَأَمَانِيُّ بَاطِلَةٌ تَقْذِفُ بِهَا النَّفْسُ إلَى الْقَلْبِ الْجَاهِلِ فَيَسْتَرْوِحُ إلَيْهَا قَالَ تَعَالَى { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * فَإِذَا قَالَتْ لَك النَّفْسُ أَنَا فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ فَطَالِبْهَا بِالْبُرْهَانِ , وَقُلْ هَذِهِ أُمْنِيَّةٌ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَالْكَيِّسُ يَعْمَلُ أَعْمَالَ الْبِرِّ عَلَى الطَّمَعِ وَالرَّجَاءِ . وَالْأَحْمَقُ الْعَاجِزُ يُعَطِّلُ أَعْمَالَ الْبِرِّ وَيَتَّكِلُ عَلَى الْأَمَانِيِّ الَّتِي يُسَمِّيهَا رَجَاءً . وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ وَالرَّجَاءِ إنْ حَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ وَحَثَّ عَلَيْهِ وَسَاقَ إلَيْهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَنَافِعٌ , وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَقَامَاتِ(1/122)
وَرُءُوسِ الْمُعَامَلَاتِ وَإِنْ دَعَا إلَى الْبَطَالَةِ وَالْتَوَانِي وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي وَالْأَمَانِيِّ وَالِانْكِبَابِ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالْأَغَانِي فَهُوَ غُرُورٌ ضَارٌّ مُهْلِكٌ لِصَاحِبِهِ , وَقَاطِعٌ لَهُ عَنْ رَبِّهِ , وَقَامِعٌ لِهِمَّتِهِ عَنْ حُبِّهِ . وَحُسْنُ الظَّنِّ هُوَ الرَّجَاءُ , فَمَنْ كَانَ رَجَاؤُهُ حَادِيًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ زَاجِرًا لَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ رَجَاءٌ صَحِيحٌ , وَمَنْ كَانَتْ بَطَالَتُهُ رَجَاءً , وَرَجَاؤُهُ بِطَالَةً وَتَفْرِيطًا فَهُوَ الْمَغْرُورُ , وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْأُمُورِ . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَرْضٌ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ مُغِلِّهَا مَا يَنْفَعُهُ , فَأَهْمَلَهَا بِلَا حَرْثٍ وَلَمْ يَبْذُرْهَا وَحَسُنَ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مُغِلِّهَا مِثْلُ مَا أَتَى مَنْ حَرَثَ وَبَذَرَ وَسَقَى وَتَعَاهَدَ الْأَرْضَ لَعَدَّهُ النَّاسُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ , وَكَذَا لَوْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ , أَوْ يَصِيرَ أَعْلَمَ زَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لِلْعِلْمِ , وَبَذْلِ مَجْهُودِهِ فِي تَحْصِيلِهِ وَتَقْيِيدِ شَوَارِدِهِ وَتَحْقِيقِ فَوَائِدِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ , وَكَذَا مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ , وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ فِي الْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ , مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا امْتِثَالٍ لِمَا أَمَرَ تَعَالَى بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ , فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ وَيُعَدُّ مِنْ أَحْمَقِ الْحُمَقَاءِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ أُمُورًا : أَحَدُهَا مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ . الثَّانِي خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ . الثَّالِثُ سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ , وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ , وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إذَا خَافَ أَسْرَعَ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم { مَنْ خَافَ أَدْلَجَ , وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ * وَهُوَ جَلَّ شَأْنُهُ إنَّمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ . فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ إنَّمَا يَنْفَعُ إذَا حَثَّ صَاحِبَهُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ حَسُنَ ظَنُّهُ بِاَللَّهِ مَعَ انْهِمَاكِهِ فِي اللَّذَّاتِ وَانْكِبَابِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالشُّبُهَاتِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الْأَوَامِرِ وَالطَّاعَاتِ فَهُوَ مِنْ الْحُمْقِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ , وَإِنَّمَا الَّذِي عَلَيْهِ أَمَانِيُّ وَغُرُورٌ . وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ , وَقَدْ ذَكَرْت فِي كِتَابِي الْبُحُورِ الزَّاخِرَةِ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا فَإِنْ رَاجَعْته ظَفِرْت بِمُرَادِك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( الثَّالِثُ ) : الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالرَّغْبَةِ أَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ , وَالرَّغْبَةَ طَلَبٌ , فَهِيَ ثَمَرَةُ الرَّجَاءِ . فَإِنَّهُ إذَا رَجَا الشَّيْءَ طَلَبَهُ , وَالرَّغْبَةُ مِنْ الرَّجَا كَالْهَرَبِ مِنْ الْخَوْفِ . فَمَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَرَغِبَ فِيهِ , وَمَنْ خَافَ شَيْئًا هَرَبَ مِنْهُ . قَالَ تَعَالَى { يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا * وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
------------------
وفي شرح النيل (1):
__________
(1) - شرح النيل وشفاء العليل - إباضية - (ج 33 / ص 375)(1/123)
الْأَوَّلُ : الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَنَاحَانِ بِهِمَا يَطِيرُ الْمُقَرَّبُونَ إلَى كُلِّ مَقَامٍ مَحْمُودٍ , وَمَطِيَّتَانِ بِهِمَا يَقْطَعُ مِنْ طُرُقِ الْآخِرَةِ كُلَّ عَقَبَةٍ كَئُودٍ , كَمَا أَنَّ الْخَوْفَ سَوْطٌ زَاجِرٌ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ , وَالرَّجَاءَ دَاعٍ إلَى الطَّاعَةِ , وَالرَّجَاءُ مِنْ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ وَإِنَّمَا يُسَمَّى مَقَامًا مَا ثَبَتَ وَدَامَ , وَمَا كَانَ عَارِضًا سَرِيعَ الزَّوَالِ يُسَمَّى حَالًا , وَالْمُنْتَظَرُ إذَا كَانَ مَحْبُوبًا يَحْصُلُ مِنْ انْتِظَارِهِ لَذَّةٌ لِلْقَلْبِ , فَالرَّجَاءُ هُوَ ارْتِيَاحُ الْقَلْبِ لِانْتِظَارِهِ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ عِنْدَهُ , فَإِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ لِحُصُولِ أَسْبَابِهِ الْكَثِيرَةِ فَرَجَاءٌ صَادِقٌ , وَإِلَّا فَكَاذِبٌ , وَإِلَّا الْغُرُورُ أَحَقُّ بِهِ , وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ إلَّا فِيمَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ , وَالْأَسْبَابُ : الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ , وَالِاحْتِرَازُ عَمَّا يُفْسِدُهَا , وَالتَّوْبَةُ عَمَّا صَدَرَ , وَمَنْ كَرِهَ الْمَعْصِيَةَ وَتَسُوءُهُ وَالْحَسَنَةَ تَسُرُّهُ وَيَذُمُّ بِنَفْسِهِ وَيَشْتَهِي التَّوْبَةَ فَحَقِيقٌ بِرَجَاءِ التَّوْفِيقِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى التَّوْبَةِ بَلْ هُوَ أَصْلُهَا وَطَرَفٌ مِنْهَا , قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَنْ تَرَكَ الْأَسْبَابَ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ * الْآيَةَ , وَقَالَ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ * الْآيَةَ , وَقَالَ عَنْ الْكَافِرِ : { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلَى رَبِّي * الْآيَةَ , فَمَنْ انْهَمَكَ فِي الْمَعَاصِي وَلَا يَعْزِمُ عَلَى التَّوْبَةِ فَرَجَاؤُهُ كَرَجَاءِ مَنْ لَمْ يَزْرَعْ , أَوْ زَرَعَ فِي سَبْخَةٍ أَنْ يَحْصُدَ أَوْ كَرَجَاءِ مَنْ زَرَعَ وَلَمْ يَتَعَهَّدْهُ بِسَقْيٍ وَلَا تَنْقِيَةٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم { الْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ * وَإِنَّمَا الرَّجَاءُ الْحَقِيقُ بَعْدَ تَأَكُّدِ الْأَسْبَابِ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ * أَيْ : يَسْتَحِقُّونَ الرَّجَاءَ , فَإِنَّ رَجَاءَ الْعَفْوِ وَالتَّوْبَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ الرَّحْمَانِ بِبَذْرِ النَّارِ بِلَا نَدَامَةٍ مِنْ أَعْظَمِ الِاغْتِرَارِ : تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
================
الحث على الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام (2)
قال تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ* (195) سورة آل عمران
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
قوله تعالى : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي أجابهم . قال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم . وقال جعفر الصَّادق : من حَزَبَه أمرٌ فقال خمسَ مرّات ربنا أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد . قيل : وكيف ذلك؟ قال : إقرءوا إن شئتم { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } إلى قوله : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : { أَنِّي } أي أَنِّي؛ وقرأ عيسى بن عمر «إني» بكسر الهمزة ، أي فقال : إني . وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه عن أُم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، ألا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله تعالى : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } الآية . وأخرجه الترمذي . ودخلت «من» للتأكيد؛ لأنّ قبلها حرف نفي . وقال الكوفيون؛ هي للتفسير ولا يجوز حذفها؛ لأنها دخلت لمعنى لا يصلح الكلام إلاَّ به ، وإنما تحذف إذا كانت تأكيداً للجحد . { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } ابتداء وخبر ، أي دِينكم واحد . وقيل : بعضكم من بعض في الثواب والأحكام والنصرة وشِبهِ ذلك . وقال الضحّاك : رجالكم شكل نسائكم في الطاعة ، ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة؛ نظيرها قوله عزّ وجلّ : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] . ويُقال : فلان مِنِّي ، أي على مذهبي وخلقي .
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1210)(1/124)
السادسة عشرة : قوله تعالى : { فالذين هَاجَرُواْ } إبتداء وخبر ، أي هجروا أوطانهم وساروا إلى المدينة . { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } في طاعة الله عزّ وجلّ . { وَقَاتَلُواْ } أي وقاتلوا أعدائي . { وَقُتِلُواْ } أي في سبيلي . وقرأ ابن كثير وابن عامر : «وقاتلوا وقُتِّلوا» على التكثير . وقرأ الأعمش «وقتِلوا وقاتلوا» لأن الواو لا تدل على أن الثاني بعد الأوّل . وقيل : في الكلام إضمار قد ، أي قتِلوا وقد قاتلوا؛ ومنه قول الشاعر :
تَصَابَى وَأمْسَى عَلاَهُ الكِبَرْ ... أي وقد علاه الكبر . وقيل : أي وقد قاتل من بَقِيَ منهم؛ تقول العرب : قتلنا بني تميم ، وإنما قتل بعضهم . وقال امرؤ القيس :
فَإنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ ... وقرأ عمر بن عبد العزيز : «وَقَتَلُوا وقُتِلُوا» خفيفة بغير ألف . { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي لأسترنّها عليهم في الآخرة ، فلا أوبِّخهم بها ولا أُعاقبهم عليها . { ثَوَاباً مِّن عِندِ الله } مصدر مؤكد عند البصريين؛ لأن معنى { لأدخِلنهم جناتٍ تجرِي مِن تحتها الأنهار } لأثيبنّهم ثواباً . الكسائي : انتصب على القطع . الفرّاء : على التفسير . { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أي حسن الجزاء ، وهو ما يرجِع على العامِل من جراء عمله؛ من ثاب يثوب .
--------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله (1):
يقول تعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي: فأجابهم ربهم، كما قال الشاعر : وداعٍ دعا: يَا مَن يجيب إلى النّدى ... فَلم يَسْتجبْه عنْد ذاك مجيب (1) ...
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سلمة، رجل من آل أم سلمة، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا نَسْمَع اللهَ ذَكَر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله [عز وجل] (2) { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } إلى آخر الآية. وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قَدمت علينا.
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عُيَيْنة، ثم قال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه (3) .
وقد روى ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، عن أم سَلَمة قالت: آخر آية أنزلت هذه الآية: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } إلى آخرها. رواه ابن مَرْدُويَه.
ومعنى الآية: أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا -مما تقدم ذكره-فاستجاب لهم ربهم -عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186] .
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (7/488) وهو لكعب بن سعد الغنوي.
(2) زيادة من أ.
(3) سنن سعيد بن منصور برقم (552) والمستدرك (2/300) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (1/144) ومن طريقه ابن جرير في تفسيره (7/488) ولم يذكر قوله: "وقالت الأنصار إلى آخره" من طريق سفيان بنحوه.
وقوله: { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } هذا تفسير للإجابة، أي قال لهم مُجِيبًا (1) لهم: أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يُوَفّي كل عامل بقسط عمله، من ذكر أو أنثى.
وقوله: { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي: جميعكم في ثوابي سَواء { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا } أي: تركوا دار الشِّرك وأتَوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران، { وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم؛ ولهذا قال: { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي: إنما كان ذنْبُهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [الممتحنة:1] . وقال تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج:8] .
وقوله: { وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله، فيُعْقَر جَواده، ويعفَّر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرا مُحْتَسبا مُقْبلا غير مُدبِر، أيُكَفِّر الله عني خطاياي؟ قال: "نعم" ثم قال: "كيف قلت؟": فأعاد عليه (2) ما قال، فقال: "نعم، إلا الدَّين، قاله لي جبريل آنفًا".
ولهذا قال تعالى: { لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك، مما لا عَيْنَ رَأتْ، ولا أذن سَمِعت، ولا خَطَر على قلب بَشَر.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 190)(1/125)
وقوله: { ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أضافه إليه ونسبه إليه لِيدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جَزيلا كثيرًا، كما قال الشاعر : إن يُعَذب يَكُن غَرامًا وإن يُعْ ... طِ جَزيلا فإنَّه لا يُبَالي ...
وقوله: { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } أي: عنده حُسْن الجزاء لمن عمل صالحا.
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن دُحَيم بن إبراهيم: حدثنا الوليد بن مسلم، أخبرني حَرِيز (3) بن عثمان: أن شداد بن أوس كان يقول: يا أيها الناس، لا تَتهِموا الله في قضائه، فإنه (4) لا يبغي على مؤمن، فإذا نزل بأحدكم شيء مما يُحِب فليحْمَد الله، وإذا أنزل (5) به شيء مما يكره فَليَصْبر وليحتسب، فإن الله عنده حسن الثواب .
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "مخبرا".
(2) في أ، و: "قال: فأعاد عليه".
(3) في جـ، ر: "جرير".
(4) في أ: "فإن الله"، وفي و: "فالله".
(5) في جـ، ر، أ: "نزل".
---------------
وفي التفسير الوسيط (1):
قال الحسن البصرى : " ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم " .
وقال جعفر الصادق : " من حزبه أمر فقال خمس مرات { رَبَّنَآ } أنجاه الله مما يخالف ، وأعطاه ما أراد ، قيل : وكيف ذلك؟ قال : اقرءوا أن شئتم قوله - تعالى - { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً } . . . إلخ فإن هؤلاء الأخيار قد نادوا ربهم خمس مرات فأجاب الله لهم دعاءهم .
ودلت الفاء فى قوله { فاستجاب } على سرعة الإجابة ، لأن الفاء للتعقيب ، فهم لأنهم دعوا الله بقلب سليم ، أجاب الله لهم دعاءهم بدون إبطاء .
واستجاب هنا بمعنى أجاب عند جمهور العلماء ، إن السين والتاء للتأكيد ، مثل استوقد واستخلص .
وقال بعضه : إن استجاب أخص من أجاب ، لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعى إليه ، وأجاب أعم فيقال لمن أجاب بالقبول وبالرد .
والمعنى : أن الله - تعالى - قد بشر هؤلاء الأخيار برضاه عنهم ، بأن أخبرهم بأنه قد أجاب لهم دعاءهم ، وأنه - سبحانه - لا يضيع عمل عامل منهم ، بل سيجازيهم بالجزاء الأوفى ، وسيمنحهم من الثواب . فوق ما عملوا لأنه هو الكريم الوهاب ، ولن يفرق فى عطائه بين ذكر وأنثى ، لأن الذكر من الأثنى والأنثى من الذكر وقد خلقهم جميعا من نفس واحدة .
وفى التعبير باللفظ السامى { رَبُّهُمْ } إشارة إلى أن الذى سيجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم ، والرحيم بهم .
ومعنى { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } لا أزيل ثواب عمل أى عامل منكم ، بل أكافئه عليه بما يستحقه ، وأعطيه من ثوابى ورحمتى ما يشرح صدره ، ويدخل البهجة والسرور على نفسه .
وقوله { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } بيان لعامل ، وتأكيد عمومه ، أى لا اضيع عمل أى شخص عامل سواء أكان هذا العامل ذكراً أم أنثى .
ومعنى { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، كلكم بنو آدم وهذه جملة معترضة مبينة لسبب شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده من أجر جزاء أعمالهم الصالحة .
روى الترمذى عن أم سلمة قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله - تعالى - ذكر النساء فى الهجرة ، فأنز الله - تعالى - { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } .
ثم بين - سبحانه - الأعمال الصالحة التى استحق بها هؤلاء الأبرار حسن الثواب منه - سبحانه - فقال : { فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } .
أى فالذين هاجروا بأن تركوا أوطانهم التى أحبوها إلى أماكن أخرى من أجل إعلاء كلمة الله ، وأخرجوا من ديارهم ، فرارا بدينهم من ظلم ظالمين ، واعتداء المعتدين ، { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أى تحملوا الأذى والاضطهاد فى سبيل الحق الذى آمنوا به { وَقَاتَلُواْ } أعداء الله { وَقُتِلُواْ } وهم يجاهدون من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل .
هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك ، وعدهم الله - تعالى - بالأجر العظيم فقال : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أى لأمحون عنهم ما ارتكبوه من سيئات ، ولأسترنها عليهم حتى تعتبر نسيا منسيا { وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى تجرى من تحت قصورها الأنهار التى فيها العسل المصفى ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين .
وقوله { ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أى لأثيبنهم ثوابا عظيما من عندى ، والله - تعالى - عنده حسن الجزاء لمن آمن وعمل صالحا .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد منح هؤلاء الأخيرا ذلك الأجر الجزيل لأنهم قد هاجروا من الأرض التى أحبوها إلى غيرها من أجل إعلاء كلمة الله ، وأخرجوا منها مضطرين لا مختارين فرارا بدينهم ، ولقد ذكر المؤرخون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال : " يا مكة والله لأنت أحب بلاد الله إلى ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت " .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 830)(1/126)
ولأنهم قد تحملوا ما تحملوا من الأذى فى سبيل الله ، ولأنهم قد جاهدوا أعداء الله وأعداءهم حتى استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله .
وقوله { الذين هَاجَرُواْ } مبتدأ ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له ، والتفخيم لشأنه . وخبره قوله { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } .
وقوله { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } معطوف على { هَاجَرُواْ } . وجمع بينهما للإشعار بأنهم قد تركوا أوطانهم تارة باختيارهم ليبحثوا عن مكان أصلح لنماء دعوتهم ، وانتشار الحق الذى اعتنقوه ، وتارة بغير اختيارهم بل تركوها مجبرين ومضطرين بعد أن ألجأهم أعداؤهم إلى الخروج منها بسبب ما نالهم منهم من ظلم واعتداء .
وقوله { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } معطوف على ما قبله . والمراد من الإيذاء ما هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار ، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من جهة المشركين .
وجمع - سبحانه - بين قوله { وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ } للإشارة إلى أن للقسمين ثوابا وأنهم لن يصيبهم إلا أحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة ، وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } جواب قسم محذوف ، أى والله لأكفرن عنهم سيئاتهم .
وقدّم - سبحانه - تكفير سيئاتهم على إدخالهم الجنة ، لأن التخلية - كما يقولون - مقدمة على التحلية ، فهو أولا طهرهم من الذنوب والآثام ونقاهم منها ، ثم أدخلهم بعد ذلك جنته وأعطاهم فيها ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
وقوله { ثَوَاباً } مصدر مؤكد لما قبله ، لأن المعنى لأثيبنهم على ما عملوه ثوابا عظيما .
وقوله { مِّن عِندِ الله } صفة لقوله { ثَوَاباً } وهو وصف مؤكد؛ لأن الثواب لا يكون إلا من عنده - تعالى - ، لكنه صرح به - سبحانه - تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه .
وقوله { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
وقد ختم - سبحانه - الآية بهذه الجملة الكريمة لبيان اختصاصه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال فى الدنيا لا يعد حسنا بجوار ما أعده - سبحانه - فى الآخرة لعباده المتقين .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد دعت المؤمنين إلى الإكثار من ذكر الله وإلى التفكر السليم فى عجائب صنعه ، وساقت لنا ألوانا من الدعوات الطيبات الخاشعات التى تضرع بها الأخيار إلى خالقهم ، وبينت لنا الثواب الجزيل والعطاء العظيم الذى منحه الله لهم فى مقابل إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح ، فقد جرت سنته - سبحانه - أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأنه لا يرد دعاء الأبرار من عباده
----------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
وهي استجابة مفصلة , وتعبير مطول , يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني ; وفق مقتضى الحال , ومتطلبات الموقف , من الجانب النفسي والشعوري .
ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية , ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته , ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه . .
إن أولي الألباب هؤلاء , تفكروا في خلق السماوات والأرض , وتدبروا اختلاف الليل والنهار , وتلقوا من كتاب الكون المفتوح , واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه , فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق . . ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم , على دعائهم المخلص الودود . . فماذا كانت الاستجابة ?
لقد كانت قبولا للدعاء , وتوجيها إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن:
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم . . من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) . .
إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر . وليس مجرد الخشوع والارتجاف . وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار . . إنما هو "العمل" . العمل الإيجابي , الذي ينشأ عن هذا التلقي , وعن هذه الاستجابة , وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة . العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر والتدبر , والذكر والاستغفار , والخوف من الله , والتوجه إليه بالرجاء . بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة , والذي يقبل من الجميع:ذكرانا وإناثا بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس . فكلهم سواء في الإنسانية - بعضهم من بعض - وكلهم سواء في الميزان . .
ثم تفصيل للعمل , تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال ; كما تتبين منه طبيعة المنهج , وطبيعة الأرض التي يقوم عليها , وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك , وضرورة مغالبة العوائق , وتكسيرالأشواك , وتمهيد التربة للنبتة الطيبة , والتمكين لها في الأرض , أيا كانت التضحيات , وأيا كانت العقبات:
(فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا . لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ثوابا من عند الله , والله عنده حسن الثواب) .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 77)(1/127)
وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . الذين هاجروا من مكة , وأخرجوا من ديارهم , في سبيل العقيدة , وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه , وقاتلوا وقتلوا . . ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها . . في كل أرض وفي كل زمان . . صورتها وهي تنشأ في الجاهلية - أية جاهلية - في الأرض المعادية لها - أية أرض - وبين القوم المعادين - أي قوم - فتضيق بها الصدور , وتتأذى بها الأطماع والشهوات , وتتعرض للأذى والمطاردة , وأصحابها - في أول الأمر - قلة مستضعفة . . ثم تنمو النبتة الطيبة - كما لا بد أن تنمو - على الرغم من الأذى , وعلى الرغم من المطاردة , ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها . فيكون القتال , ويكون القتل . .
وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات , ويكون الجزاء ويكون الثواب .
هذا هو الطريق . .
طريق هذا المنهج الرباني , الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري , وعن طريق هذا الجهد , وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله . ابتغاء وجه الله .
وهذه هي طبيعة هذا المنهج , ومقوماته , وتكاليفه . .
ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية , وطريقته في التوجيه , للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله ; إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله .
-------------------
وقال الطاهر بن عاشور (1):
دلت الفاء على سرعة الإجابة بحصول المطلوب، ودلت على أن مناجاة العبد ربه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء قابل للإجابة.
واستجاب بمعنى أجاب عند جمهور أئمة اللغة، فالسين والتاء للتأكيد، مثل: استوقد واستخلص. وعن القراء، وعلي بن عيسى الربعي: أن استجاب أخص من أجاب لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعي إليه، وأجاب أعم، فيقال لمن أجاب بالقبول بالرد. وقال الراغب: الاستجابة هي التحري للجواب والتهيؤ له، لكن عبر به عن الإجابة لقلة انفكاكها منه. ويقال: استجاب له واستجابه، فعدي في الآية بالأم، كما قالوا: حمد له وشكر له، ويعدى بنفسه أيضا مثلها. قال كعب بن سعد الغنوي، يرثي قريبا له:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وتعبيرهم في دعائهم بوصف {ربنا} دون أسم الجلالة لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب، ومحبة الخير له، ومن الاعتراف بأنهم عبيده ولتتأتى الإضافة المفيدة التنشريف والقرب، ولرد حسن دعائهم بمثله بقولهم ربنا، ربنا.
ومعنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه: جعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه.
فنفي إضاعة العمل بالاعتداد بعلمهم وحسبانه لهم، فقد تضمنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطمينا لقلوبهم من وجل عدم القبول، وفي هذا دليل على أنهم أرادوا في قولهم: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحبط.
وقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بيان لعامل ووجه الحاجة إلى هذا البيان هنا أن الأعمال التي أتوا بها أكبرها الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد، ولما كان الجهاد أكثر تكررا خيف أن يتوهم أن النساء لاحظ لهن في ذلك فهن في الإيمان والهجرة يساوين الرجال، وهن لهن حظهن في ثواب الجهاد لأنهن يقمن على المرضى ويداوين الكلمى، ويسقين الجيش، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين، فهو لا يقصر عن القتال الذي بع إتلاف نفوس عو المؤمنين.
وقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} من فيه اتصالية أي بعض المستجاب لهم متصل ببعض، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أن شأنهم واحد وأمرهم سواء. قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} [التوبة: 67] الخ... وقولهم: هو مني وأنا منه، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة:
فإني لست منك ولست مني
وقد حملها جمهور المفسرين على معنى أن نساءكم ورجالكم يجمعهم أصل واحد، وعلى هذا فموقع هذه الجملة موقع التعليل للتعميم في قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} أي لأن شأنكم واحد. وكل قائم بما لو لم يقم بع لضاعت مصلحة الآخر، فلا جزم أن كانوا سواء في تحقيق وعد الله إياهم، وإن اختلفت أعمالهم وهذا كقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32].
والأظهر عندي أن ليس هذا تعليلا لمضمون قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بل هو بيان للتساوي في الأخبار المتعلقة بضمائر المخاطبين أي أنتم في عنايتي بأعمالكم سواء، وهو قضاء لحق ما لهم من الأعمال الصالحة المتساوين فيها، ليكون تمهيدا لبساط تمييز المهاجرين بفضل الهجرة الآتي في قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} ، الآيات.
وقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} تفريع عن قوله: {لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ} وهو من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بذلك الخاص، واشتمل على بيان ما تفضلوا فيه العمل، وهو الهجرة التي فاز بها المهاجرون.
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 3 / ص 313)(1/128)
والمهاجرة: هي ترك الموطن بقصد استيطان غيره، والمفاعلة فيها للتقوية كأنه هجر قومه وهجروه لأنهم لم يحصروا على بقائه، وهذا أصل المهاجرة أن تكون لمنافرة ونحوها، وهي تصديق بهجرة الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة وبهجرة الذين هاجروا إلى المدينة.
وعطف قوله: {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} على {هاجروا} لتحقيق معنى المفاعلة في هاجر أي هاجروا مهاجرة لزهم إليها قومهم، سواء كان الإخراج بصريح القول أن بالإلجاء، من جهة سوء المعاملة، ولقد هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة لما لاقوه من سوء معاملة المشركين، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرته إلى المدينة والتحق به المسلمون كلهم، لما لاقوه من أذى المشركين. ولا يوجد ما يدل على أن المشركين أخرجوا المسلمين، وكيف واختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى المدينة يدل على حرص المشركين على صده عن الخروج، ويدل لذلك أيضا قول كعب:
في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
أي قال قائل من المسلمين اخرجوا من مكة، وعليه فكل ما ورد مما فيه أنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق فتأويله أنه الإلجاء إلى الخروج، ومنه قول ورقة ابن نوفل يا ليتني أكونة معك إذ يخرجك قومك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له "أو مخرجي هم?" فقال: ما جاء نبي بمثل ما جئت به إلا عودي. وقوله: {وََأُوذُوا فِي سَبِيلِي} أي أصابهم الأذى وهو مكروه قليل من قول أو فعل وفهم منه أن من أصابهم الضر أولى بالثواب وأوفى. وهذه حالة تصديق بالذين أوذوا قبل الهجرة وبعدها.
وقوله: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} جمع بينهما الإشارة إلى أن للقسمين ثوابا. وقرأ الجمهور: وقاتلوا وقتلوا وقرأ حمزة. والكسائي، وخلف: وقتلوا وقاتلوا عكس قراءة الجمهور ومآل القراءتين واحد، وهذه حالة تصديق على المهجرين والأنصار من الذين جاهدوا فاستشهدوا أو بقوا. وقوله: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} الخ مؤكد بلام القسم. وتكفير السيئات تقدم السيئات تقدم آنفا.
-----------------
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1):
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 96) والفتاوى الكبرى - (ج 1 / ص 42)(1/129)
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَظْلِمُ مُحْسِنًا فَيُنْقِصُهُ مِنْ إحْسَانِهِ أَوْ يَجْعَلُهُ لِغَيْرِهِ وَلَا يَظْلِمُ مُسِيئًا فَيَجْعَلُ عَلَيْهِ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ بَلْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ وِزْرِ غَيْرِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مَا سَعَاهُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ تَعْذِيبَ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ يُنَافِي الْأَوَّلَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ إذْ ذَلِكَ النَّائِحُ يُعَذَّبُ بِنَوْحِهِ لَا يُحَمَّلُ الْمَيِّتُ وِزْرَهُ وَلَكِنَّ الْمَيِّتَ يَنَالُهُ أَلَمٌ مِنْ فِعْلِ هَذَا كَمَا يَتَأَلَّمُ الْإِنْسَانُ مِنْ أُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْ كَسْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَزَاءَ الْكَسْبِ . وَالْعَذَابُ أَعَمُّ مِنْ الْعِقَابِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ } " . وَكَذَلِكَ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الْحَيِّ يُنَافِي قَوْلَهُ : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الْحَيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآيَةِ كَانْتِفَاعِهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْآيَةَ تُخَالِفُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ بَلْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآيَةِ كَانْتِفَاعِهِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالشَّفَاعَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا يُبَيِّنُ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِسَعْيِ غَيْرِهِ ؛ إذْ الْآيَةُ إنَّمَا نَفَتْ اسْتِحْقَاقَ السَّعْيِ وَمِلْكَهُ ؛ وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يَمْلِكُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِ مَالِكُهُ وَمُسْتَحِقُّهُ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْهُ فَهَذَا نَوْعٌ وَهَذَا نَوْعٌ وَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ مَنْفَعَةٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا كَذِبٌ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ . وَهَذِهِ النُّصُوصُ النَّافِيَةُ لِلظُّلْمِ تُثْبِتُ الْعَدْلَ فِي الْجَزَاءِ ؛ وَأَنَّهُ لَا يُبْخَسُ عَامِلٌ عَمَلَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِيمَنْ عَاقَبَهُمْ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } وَقَوْلُهُ { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } بَيَّنَ أَنَّ عِقَابَ الْمُجْرِمِينَ عَدْلًا لِذُنُوبِهِمْ لَا لِأَنَّا ظَلَمْنَاهُمْ فَعَاقَبْنَاهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ : " { لَوْ عَذَّبَ اللَّهُ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ } " يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَذَابَ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ ؛ لَا لِكَوْنِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ عُقُوبَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ } { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا ؛ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ ذَلِكَ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ ؛ وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَمْدَحَ الْمَمْدُوحَ بِعَدَمِ إرَادَتِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَدْحُ بِتَرْكِ الْأَفْعَالِ إذَا كَانَ الْمَمْدُوحُ قَادِرًا عَلَيْهَا فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ مِنْ الظُّلْمِ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَبِذَلِكَ يَصِحُّ قَوْلُهُ : " { إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي } " وَأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْمَنْعُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ : حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي أَوْ مَنَعْت(1/130)
نَفْسِي مِنْ خَلْقِ مِثْلِي ؛ أَوْ جَعْلِ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِقَةً ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَالَاتِ . وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ : إنِّي أَخْبَرْت عَنْ نَفْسِي بِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَا يَكُونُ مِنِّي . وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَتَيَقَّنُ الْمُؤْمِنُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادَ الرَّبِّ ؛ وَأَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ إرَادَة مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَلِيقُ الْخِطَابُ بِمِثْلِهِ إذْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ شِبْهَ التَّكْرِيرِ وَإِيضَاحَ الْوَاضِحِ : لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا ثَنَاءٌ وَلَا مَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُسْتَمِعُ فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ أَمْرٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِهِ مُقَدَّسٌ عَنْهُ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ النَّاسُ فِي حُدُودِ الظُّلْمِ يَتَنَاوَلُ هَذَا دُونَ ذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَقَوْلِهِمْ : مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ . أَيْ : فَمَا وَضَعَ الشَّبَهَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمٌ عَدْلٌ لَا يَضَعُ الْأَشْيَاءَ إلَّا مَوَاضِعَهَا وَوَضْعُهَا غَيْرَ مَوَاضِعِهَا لَيْسَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ ؛ بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ؛ بَلْ يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ ؛ إذْ قَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : الظُّلْمُ إضْرَارٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِغَيْرِ حَقٍّ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : هُوَ نَقْصُ الْحَقِّ ؛ وَذَكَرَ أَنَّ أَصْلَهُ النَّقْصُ كَقَوْلِهِ : { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : هُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَهَذَا لَيْسَ بِمُطَّرِدِ وَلَا مُنْعَكِسٍ فَقَدْ يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِحَقِّ وَلَا يَكُونُ ظَالِمًا وَقَدْ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ ظَالِمًا وَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : فِعْلُ الْمَأْمُورِ خِلَافُ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ إنْ سَلِمَ صِحَّةُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ فَهُوَ لَا يَفْعَلُ خِلَافَ مَا كَتَبَ وَلَا يَفْعَلُ مَا حَرَّمَ . وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي نَبَّهْنَا عَلَيْهَا فِيهِ وَإِنَّمَا نُشِيرُ إلَى النُّكَتِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْقَوْلُ الْمُتَوَسِّطُ وَهُوَ : أَنَّ الظُّلْمَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ : أَنْ يَتْرُكَ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِ فَلَا يَجْزِيهِ بِهَا ؛ وَيُعَاقِبَ الْبَرِيءَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ السَّيِّئَاتِ ؛ وَيُعَاقِبَ هَذَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ ؛ أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ الْقِسْطِ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهَا لِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ لِأَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الظُّلْمَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ فَهُوَ أَيْضًا مُنَزَّهٌ عَنْ أَفْعَالِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ . وَعَلَى قَوْلِ الْفَرِيقِ الثَّانِي مَا ثَمَّ فَعَلَ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ أَصْلًا وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلَكِنَّ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لَمَّا نَاظَرُوا مُتَكَلِّمَةَ النَّفْيِ أَلْزَمُوهُمْ لَوَازِمَ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنْهَا إلَّا بِمُقَابَلَةِ الْبَاطِلِ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا مِمَّا عَابَهُ الْأَئِمَّةُ وَذَمُّوهُ كَمَا عَابَ الأوزاعي وَالزُّبَيْدِيُّ وَالثَّوْرِيّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ مُقَابَلَةَ الْقَدَرِيَّةِ بِالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ وَأَمَرُوا بِالِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَمَا عَابُوا أَيْضًا عَلَى مَنْ قَابَلَ الجهمية نفاة الصِّفَاتِ بِالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ حَتَّى دَخَلَ فِي تَمْثِيلِ الْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا وَهَذَا وَذَكَرْنَا كَلَامَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى " مَسْأَلَةِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ " فَمَنْ قَالَ : الْعَقْلُ يُعْلَمُ بِهِ(1/131)
حُسْنُ الْأَفْعَالِ وَقُبْحُهَا فَإِنَّهُ يُنَزِّهُ الرَّبَّ عَنْ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَمَنْ قَالَ : لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّمْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ النَّهْيِ فِي حَقِّهِ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ بِنَاءُ هَذِهِ عَلَى تِلْكَ بِلَازِمِ وَبِتَقْدِيرِ لُزُومِهَا فَفِي تِلْكَ تَفْصِيلٌ وَتَحْقِيقٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَذَلِكَ أَنَّا فَرَضْنَا أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ حُسْنَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا ؛ لَكِنَّ الْعَقْلَ لَا يَقُولُ : إنَّ الْخَالِقَ كَالْمَخْلُوقِ ؛ حَتَّى يَكُونَ مَا جَعَلَهُ حَسَنًا لِهَذَا أَوْ قَبِيحًا لَهُ جَعَلَهُ حَسَنًا لِلْآخَرِ أَوْ قَبِيحًا لَهُ ؛ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ ؛ لِمَا بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ مِنْ الْفُرُوقِ الْكَثِيرَةِ . وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ حُسْنَ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَالشَّرْعُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَفْعَالٍ وَأَحْكَامٍ - فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهَا - تَارَةً بِخَبَرِهِ مُثْنِيًا عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا ؛ وَتَارَةً بِخَبَرِهِ أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ . فَنَقُولُ : النَّاسُ لَهُمْ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ مَا يَصْلُحُ مِنْهُ وَيَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : طَرَفَانِ وَوَسَطٌ . فَالطَّرَفُ الْوَاحِدُ : طَرَفُ الْقَدَرِيَّةِ وَهُمْ الَّذِينَ حَجَرُوا عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا ظَنُّوا بِعَقْلِهِمْ أَنَّهُ الْجَائِزُ لَهُ حَتَّى وَضَعُوا لَهُ شَرِيعَةَ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ بِعَقْلِهِمْ أُمُورًا كَثِيرَةً وَحَرَّمُوا عَلَيْهِ بِعَقْلِهِمْ أُمُورًا كَثِيرَةً ؛ لَا بِمَعْنَى : أَنَّ الْعَقْلَ آمِرٌ لَهُ وَنَاهٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ بَلْ بِمَعْنَى : أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ مِمَّا عُلِمَ بِالْعَقْلِ وُجُوبُهَا وَتَحْرِيمُهَا وَلَكِنْ أَدْخَلُوا فِي ذَلِكَ [ مِنْ ] الْمُنْكَرَاتِ مَا بَنَوْهُ عَلَى بِدْعَتِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ . وَالطَّرَفُ الثَّانِي : طَرَفُ الْغُلَاةِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا : لَا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْ فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ وَلَا نَعْلَمُ وَجْهَ امْتِنَاعِ الْفِعْلِ مِنْهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ خَبَرِهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ الْمُطَابِقِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ . وَهَؤُلَاءِ مَنَعُوا حَقِيقَةَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي } " وَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُجَرَّدَ الْمُطَابِقَ لِلْعِلْمِ لَا يُبَيِّنُ وَجْهَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ ؛ إذْ الْعِلْمُ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ ؛ فَعِلْمُهُ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِأَنَّهُ كَتَبَ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَ هَذَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ كَائِنٍ مَنْ كَانَ أَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا وَلَا يَفْعَلُ كَذَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا بَيَانٌ لِكَوْنِهِ مَحْمُودًا مَمْدُوحًا عَلَى فِعْلِ هَذَا وَتَرْكِ هَذَا ؛ وَلَا فِي ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ قِيَامَ الْمُقْتَضِي لِهَذَا وَالْمَانِعِ مِنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ الْمَحْضَ كَاشِفٌ عَنْ الْمُخْبِرِ عَنْهُ ؛ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَا يَدْعُو إلَى الْفِعْلِ وَلَا إلَى التَّرْكِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } { وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ } فَإِنَّ التَّحْرِيمَ مَانِعٌ مِنْ الْفِعْلِ وَكِتَابَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ دَاعِيَةٌ إلَى الْفِعْلِ ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ ؛ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ كِتَابَتِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ وَهُوَ كِتَابَةُ التَّقْدِيرِ كَمَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : " { أَنَّهُ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } " ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } وَلَوْ أُرِيدَ كِتَابَةُ التَّقْدِيرِ(1/132)
لَكَانَ قَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْغَضَبَ كَمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ؛ إذْ كَانَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْخَبَرِ عَمَّا سَيَكُونُ وَلَكَانَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ كُلَّ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ الْإِحْسَانِ كَمَا حَرَّمَ الظُّلْمَ . وَكَمَا أَنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ فِي حَقِّنَا بَيْنَ [ قَوْله تَعَالَى ] : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } وَبَيْنَ قَوْلِهِ : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } وَقَوْلِهِ : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } وَقَوْلِهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] : " { فَيُبْعَثُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ لَهُ : اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ } " . فَهَكَذَا الْفَرْقُ أَيْضًا ثَابِتٌ فِي حَقِّ اللَّهِ . وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كِتَابَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَوْله تَعَالَى { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ قُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ قُلْت ؟ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ : " كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَذَا " . فَهَذَا الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ هُوَ أَحَقَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ . وَنَظِيرُ تَحْرِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَسَمِهِ لَيَفْعَلَن وَكَلِمَتُهُ السَّابِقَةُ كَقَوْلِهِ : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ } وَقَوْلِهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ } { لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } ؟ { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْقَسَمِ الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْمَعْنَى بِخِلَافِ الْقَسَمِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْخَبَرِ الْمَحْضِ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : الْيَمِينُ إمَّا أَنْ تُوجِبَ حَقًّا ؛ أَوْ مَنْعًا ؛ أَوْ تَصْدِيقًا ؛ أَوْ تَكْذِيبًا . وَإِذَا كَانَ مَعْقُولًا فِي الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَكُونُ آمِرًا مَأْمُورًا كَقَوْلِهِ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } وَقَوْلِهِ : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ آمِرٌ وَنَاهٍ فَوْقَهُ وَالرَّبُّ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ لَأَنْ يَتَصَوَّرَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ الْكَاتِبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَالنَّاهِي الْمُحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَكِتَابَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ تَسْتَلْزِمُ إرَادَتَهُ لِذَلِكَ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ وَرِضَاهُ بِذَلِكَ وَتَحْرِيمُهُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَلْزِمُ بُغْضَهُ لِذَلِكَ وَكَرَاهَتَهُ لَهُ وَإِرَادَتَهُ وَمَحَبَّتُهُ لِلْفِعْلِ تُوجِبُ وُقُوعَهُ مِنْهُ وَبُغْضَهُ لَهُ وَكَرَاهَتَهُ لِأَنْ يَفْعَلَهُ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ مِنْهُ . فَأَمَّا مَا يُحِبُّهُ وَيُبْغِضُهُ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ فَذَلِكَ نَوْعٌ آخَرُ فَفَرْقٌ بَيْنَ فِعْلِهِ هُوَ وَبَيْنَ مَا هُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ لَهُ وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقِهِ مَا هُوَ ظُلْمٌ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَاعِلِهِ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ هُوَ ظُلْمٌ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَ الْإِنْسَانِ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَكُونُ سَرِقَةً وَزِنًا وَصَلَاةً وَصَوْمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُهَا بِمَشِيئَتِهِ وَلَيْسَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَذَلِكَ إذْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ هِيَ لِلْفَاعِلِ الَّذِي قَامَ بِهِ هَذَا الْفِعْلُ كَمَا أَنَّ الصِّفَاتِ هِيَ صِفَاتٌ لِلْمَوْصُوفِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ لَا لِلْخَالِقِ الَّذِي خَلَقَهَا وَجَعَلَهَا صِفَاتٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ مَوْصُوفٍ وَصِفَتَهُ . ثُمَّ صِفَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَتْ صِفَاتٍ لَهُ : كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ لِعَدَمِ قِيَامِ ذَلِكَ بِهِ . وَكَذَلِكَ حَرَكَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَتْ(1/133)
حَرَكَاتٍ لَهُ وَلَا أَفْعَالًا لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ؛ لِكَوْنِهَا مَفْعُولَاتٍ هُوَ خَلَقَهَا . وَبِهَذَا الْفَرْقُ تَزُولُ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ وَالْأَمْرُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ تَرْكِ هَذَا الَّذِي لَوْ تُرِكَ لَكَانَ تَرْكُهُ نَقْصًا وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ فِعْلِهِ الَّذِي لَوْ كَانَ لَأَوْجَبَ نَقْصًا . وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عِنْدَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَهُوَ أَيْضًا مُسْتَقِرٌّ فِي قُلُوبِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْقَدَرِيَّةَ شَبَّهُوا عَلَى النَّاسِ بِشُبَهِهِمْ فَقَابَلَهُمْ مَنْ قَابَلَهُمْ بِنَوْعِ مِنْ الْبَاطِلِ كَالْكَلَامِ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ يَذُمُّونَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا : قَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَالِمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ كَمَا أَنَّ الْعَادِلَ مَنْ فَعَلَ الْعَدْلَ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ سَمْعًا وَعَقْلًا قَالُوا : وَلَوْ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الَّتِي هِيَ الظُّلْمُ لَكَانَ ظَالِمًا . فَعَارَضَهُمْ هَؤُلَاءِ بِأَنْ قَالُوا : لَيْسَ الظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ بَلْ الظَّالِمُ مَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الظَّالِمُ مَنْ اكْتَسَبَ الظُّلْمَ وَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَوْ مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ لِنَفْسِهِ . وَهَؤُلَاءِ يَعْنُونَ : أَنْ يَكُونَ النَّاهِي لَهُ وَالْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَصَوُّرُ الظُّلْمِ مِنْهُ مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ لِذَاتِهِ ؛ كَامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ آمِرٌ لَهُ وَنَاهٍ . وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ يَعُودَ إلَى الرَّبِّ مِنْ أَفْعَالِهِ حُكْمٌ لِنَفْسِهِ . وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُنَازِعُوا أُولَئِكَ فِي أَنَّ الْعَادِلَ مَنْ فَعَلَ الْعَدْلَ بَلْ سَلَّمُوا ذَلِكَ لَهُمْ وَإِنْ نَازَعَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ مُنَازَعَةً عنادية . وَاَلَّذِي يَكْشِفُ تَلْبِيسَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ : الظَّالِمُ وَالْعَادِلُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لِلظُّلْمِ وَالْعَدْلِ فَذَلِكَ يَأْثَمُ بِهِ أَيْضًا وَلَا يَعْرِفُ النَّاسُ مَنْ يُسَمَّى ظَالِمًا وَلَمْ يَقُمْ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي بِهِ صَارَ ظَالِمًا بَلْ لَا يَعْرِفُونَ ظَالِمًا إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلَهُ وَبِهِ صَارَ ظَالِمًا ؛ وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ وَلَهُ مَفْعُولٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ . لَكِنْ لَا يَعْرِفُونَ الظَّالِمَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ بِهِ ذَلِكَ فَكَوْنُكُمْ أَخَذْتُمْ فِي حَدِّ الظَّالِمِ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ وَعَنَيْتُمْ بِذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ . فَهَذَا تَلْبِيسٌ وَإِفْسَادٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ كَمَا فَعَلْتُمْ فِي مُسَمَّى الْمُتَكَلِّمِ حَيْثُ قُلْتُمْ : هُوَ مِنْ فِعْلِ الْكَلَامِ وَلَوْ فِي غَيْرِهِ . وَجَعَلْتُمْ مَنْ أَحْدَثَ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ قَائِمًا بِغَيْرِهِ مُتَكَلِّمًا وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ هُوَ كَلَامٌ أَصْلًا . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبُهْتَانِ وَالْقَرْمَطَةِ وَالسَّفْسَطَةِ . وَلِهَذَا أَلْزَمَهُمْ السَّلَفُ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْجَمَادَاتِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَلَا يُفَرِّقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ نَطَقَ وَأَنْطَقَ وَإِنَّمَا قَالَتْ الْجُلُودُ : { أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } وَلَمْ تَقُلْ نَطَقَ اللَّهُ بِذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ كَسُلَيْمَانَ بْنِ داود الْهَاشِمِيِّ وَغَيْرِهِ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّهُ عَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ الَّذِي خُلِقَ فِي فِرْعَوْنَ حَتَّى قَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } كَالْكَلَامِ الَّذِي خُلِقَ فِي الشَّجَرَةِ حَتَّى قَالَتْ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ مُحِقًّا أَوْ تَكُونُ الشَّجَرَةُ كَفِرْعَوْنَ . وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِنَحْوِ الِاتِّحَادِيَّةِ مِنْ الجهمية وَيُنْشِدُونَ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ(1/134)
وَهَذَا يَسْتَوْعِبُ أَنْوَاعَ الْكُفْرِ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْأَمْرِ الْبَيِّنِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ : الْمُتَكَلِّمُ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ أَصْلًا . فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمِ ؛ إذْ لَيْسَ الْمُتَكَلِّمُ إلَّا هَذَا وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُوهُمْ يَقُولُونَ : لَيْسَ بِمُتَكَلِّمِ . ثُمَّ قَالُوا : هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَذَلِكَ لِمَا اسْتَقَرَّ فِي الْفِطَرِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ فَاعِلًا لَهُ كَمَا يَقُومُ بِالْإِنْسَانِ كَلَامُهُ وَهُوَ كَاسِبٌ لَهُ . أَمَّا أَنْ يَجْعَلَ مُجَرَّدَ إحْدَاثِ الْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا لَهُ : فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ . وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الظُّلْمِ فَهَبْ أَنَّ الظَّالِمَ مَنْ فَعَلَ الظُّلْمَ فَلَيْسَ هُوَ مَنْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلٌ أَصْلًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ بِهِ فِعْلٌ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَى غَيْرِهِ فَهَذَا جَوَابٌ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : الظُّلْمُ فِيهِ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ فَهُوَ ظُلْمٌ مِنْ الظَّالِمِ بِمَعْنَى : أَنَّهُ عُدْوَانٌ وَبَغْيٌ مِنْهُ وَهُوَ ظُلْمٌ لِلْمَظْلُومِ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَغْيٌ وَاعْتِدَاءٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدًّى عَلَيْهِ بِهِ وَلَا هُوَ مِنْهُ عُدْوَانٌ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ فِي حَقِّهِ لَيْسَ بِظُلْمِ لَا مِنْهُ وَلَا لَهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ خَلْقِهِ لِصِفَاتِهِمْ فَهُمْ الْمَوْصُوفُونَ بِذَلِكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا جَعَلَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَسْوَدَ وَبَعْضَهَا أَبْيَضَ أَوْ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا أَوْ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا أَوْ عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ قَادِرًا أَوْ عَاجِزًا أَوْ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا أَوْ سَعِيدًا أَوْ شَقِيًّا أَوْ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا : كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ وَالْحَيُّ وَالْمَيِّتُ وَالظَّالِمُ وَالْمَظْلُومُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا إحْدَاثُهُ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ مِنْ شَخْصٍ وَظُلْمٌ لِآخَرَ بِمَنْزِلَةِ إحْدَاثِهِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ الَّذِي هُوَ أَكْلٌ مِنْ شَخْصٍ وَأَكْلٌ لِآخَرَ وَلَيْسَ هُوَ بِذَلِكَ آكِلًا وَلَا مَأْكُولًا . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ . وَإِنْ كَانَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَازِمِهَا وَمُتَعَدِّيهَا حِكَمٌ بَالِغَةٌ كَمَا لَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فِي خَلْقِ صِفَاتِهِمْ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ . وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ تَدْلِيسُ الْقَدَرِيَّةِ . وَأَمَّا تِلْكَ الْحُدُودُ الَّتِي عُورِضُوا بِهَا فَهِيَ دَعَاوٍ وَمُخَالِفَةٌ أَيْضًا لِلْمَعْلُومِ مِنْ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَالْعَقْلِ أَوْ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْإِجْمَالِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : الظَّالِمُ مَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَهُ آمِرًا لَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لَهُ مَعَ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى تَفْسِيرِ الظَّالِمِ بِمَنْ قَامَ بِهِ الظُّلْمُ كَاقْتِصَارِ أُولَئِكَ عَلَى تَفْسِيرِ الظَّالِمِ فِي فِعْلِ الظُّلْمِ وَاَلَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ عَامُّهُمْ وَخَاصُّهُمْ أَنَّ الظَّالِمَ فَاعِلٌ لِلظُّلْمِ وَظُلْمُهُ فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ وَكُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ جَحَدَ بَعْضَ الْحَقِّ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْإِطْلَاقُ صَحِيحٌ . لَكِنْ يُقَالُ : قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِ نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَجْزِيَ الْمُطِيعِينَ وَأَنَّهُ حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي حَرَّمَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَتَبَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَوْ مُوجِبًا عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِعَقْلِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الظُّلْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ ظُلْمٌ بِلَا رَيْبٍ وَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ(1/135)
يَتْرُكُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ لِأَنَّهُ عَادِلٌ لَيْسَ بِظَالِمِ كَمَا يَتْرُكُ عُقُوبَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَمَا يَتْرُكُ أَنْ يَحْمِلَ الْبَرِيءُ ذُنُوبَ الْمُعْتَدِينَ .
=================
بعض أحكام الهجرة في القرآن الكريم
تحريم الإقامة في دار الحرب للمستطيع
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) سورة النساء
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
المراد بها جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان به ، فلما هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم وفُتِن منهم جماعة فافتتنوا ، فلما كان أمر بَدْر خرج منهم قوم مع الكفار؛ فنزلت الآية . وقيل : إنهم لما استحقروا عدد المسلمين دخلهم شك في دينهم فارتدّوا فقُتِلوا على الردّة؛ فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأُكرِهوا على الخروج فاستغفروا لهم؛ فنزلت الآية . والأول أصح . روى البخاريّ عن محمد بن عبد الرحمن قال : قُطِع على أهل المدينة بَعْث فاكْتُتِبْتُ فيه فلَقِيت عِكرمةَ مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشدّ النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يُكَثِّرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيُرْمَى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يُضرب فيُقتل؛ فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ } .
قوله تعالى : { تَوَفَّاهُمُ الملائكة } يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً لم يستند بعلامة تأنيث ، إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي ، ويحتمل أن يكون فعلاً مستقبلاً على معنى تتوفاهم؛ فحذفت إحدى التاءين . وحكى ابن فُورَك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار . وقيل : تقبض أرواحهم؛ وهو أظهر . وقيل : المُراد بالملائكة ملك الموت؛ لقوله تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] . و { ظالمي أَنْفُسِهِمْ } نصب على الحال؛ أي في حال ظلمهم أنفسهم ، والمراد ظالمين أنفسهم فحذف النون استخفافاً وأضاف؛ كما قال تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] . وقول الملائكة : { فِيمَ كُنتُمْ } سؤال تقريع وتوبيخ ، أي أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين! وقول هؤلاء : { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } يعني مكة ، اعتذار غير صحيح؛ إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل ، ثم وقفتهم الملائكة على دينهم بقولهم { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً } . ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة ، وإلاَّ فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا ، وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدّة ما واقعوه ، ولعدم تعيّن أحدهم بالإيمان ، واحتمال ردّته . والله أعلم . ثم استثنى تعالى منهم من الضمير الذي هو الهاء والميم في { مَأْوَاهُمُ } من كان مستضعفاً حقيقة من زمني الرجال وضعفة النساء والوِلدان؛ كعيّاش ابن أبي ربيعة وسلمة بن هشام وغيرهم الذين دعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : كنت أنا وأُمي ممن عنَى اللَّهُ بهذه الآية؛ وذلك أنه كان من الوِلدان إذ ذاك ، وأُمّه هي أُمّ الفضل بنت الحارث واسمها لُبابة ، وهي أخت ميمونة ، وأُختها الأخرى لبابة الصغرى ، وهن تسع أخوات قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهن :
" الأخوات مؤمنات " ومنهنّ سلمى والعصماء وحفيدة ويُقال في حفيدة : أُم حفيد ، واسمها هزيلة . هنّ ست شقائق وثلاث لأم؛ وهنّ سلمى ، وسلامة ، وأسماء بنت عُميس الخَثْعَمِيّة امرأة جعفر بن أبي طالب ، ثم امرأة أبي بكر الصدّيق ، ثم امرأة عليّ رضي الله عنهم أجمعين .
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1485)(1/136)
قوله تعالى : { فِيمَ كُنتُمْ } سؤال توبيخ ، وقد تقدّم . والأصل «فيما» ثم حذفت الألف فرقاً بين الاستفهام والخبر ، والوقف عليها «فِيمه» لئلا تحذف الألف والحركة . والمراد بقوله : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً } المدينة؛ أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم! وفي هذه الآية دليل على هِجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي . وقال سعيد بن جبير : إذا عمِل بالمعاصي في أرض فاخرج منها؛ وتلا : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من فرّ بِدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمدٍ عليهما السَّلام " { فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي مثواهم النار . وكانت الهجرة واجبة على كل من أسلم . { وَسَآءَتْ مَصِيراً } نصب على التفسير . وقوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص . والسبيل سبيل المدينة؛ فيما ذكر مجاهد والسديّ وغيرهما ، والصواب أنه عامّ في جميع السبل . وقوله تعالى : { فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } هذا الذي لا حيلة له في الهجرة لا ذنب له حتى يعفى عنه؛ ولكن المعنى أنه قد يتوهم أنه يجب تحمل غاية المشقة في الهجرة ، حتى أن من لم يتحمل تلك المشقة يعاقب فأزال الله ذلك الوهم؛ إذ لا يجب تحمل غايةِ المشقة ، بل كان يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة . فمعنى الآية : فأُولئك لا يستقصي عليهم في المحاسبة؛ ولهذا قال : { وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } والماضي والمستقبل في حقه تعالى واحد ، وقد تقدّم .
فيه خمس مسائل :
الأولى قوله تعالى : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ } شرط وجوابه . { فِي الأرض مُرَاغَماً } اختلِف في تأويل المراغم؛ فقال مجاهد : المراغَم المتزَحْزَح . وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم : المراغم المتحول والمذهب . وقال ابن زيد : والمراغَم المهاجَر؛ وقاله أبو عبيدة . قال النحاس : فهذه الأقوال متفِقة المعاني . فالمراغم المذهب والمتحوَّل في حال هجرة ، وهو اسم الموضع الذي يُراغَم فيه ، وهو مشتق من الرِّغام . ورَغِم أنف فلان أي لَصِق بالتراب . وراغمت فلاناً هجرته وعاديته ، ولم أُبالِ إن رغِم أنفه . وقيل : إنما سمي مهاجراً ومراغماً لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم ، فسمّي خروجه مُراغَماً ، وسمّى مصيره إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم هجرة . وقال السديّ : المراغم المبتغي للمعيشة . وقال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول : المراغم الذهاب في الأرض . وهذا كله تفسير بالمعنى ، وكله قريب بعضه من بعض؛ فأما الخاص باللفظة فإن المراغم موضع المراغمة كما ذكرنا ، وهو أن يرغِم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده؛ فكأن كفار قريش أرغموا أُنوف المحبوسين بمكة ، فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أُنوف قريش لحصوله في منعة منهم ، فتلك المنعة هي موضع المراغمة . ومنه قول النابغة :
كطَوْدٍ يُلاذُ بِأركانِه ... عزِيزِ المُراغَمِ والْمَهْرَبِ
الثانية قوله تعالى : { وَسَعَةً } أي في الرزق؛ قاله ابن عباس والربيع والضحاك . وقال قتادة : المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العَيْلَة إلى الغنى . وقال مالك : السعة سعة البلاد . وهذا أشبه بفصاحة العرب؛ فإن بسعة الأرض وكثرة المعاقل تكون السعة في الرزق ، واتساع الصدر لهمومه وفِكَره وغير ذلك من وجوه الفرَج . ونحو هذا المعنى قول الشاعر :
وكنتُ إذا خلِيلٌ رَامَ قَطْعِي ... وجدتُ ورَاي منْفَسَحاً عَرِيضَا
آخر :
لكان لي مُضْطَرَبٌ وَاسِعٌ ... في الأرض ذاتِ الطّولِ والعَرْضِ
الثالثة قال مالك : هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المُقام بأرض يُسَبُّ فيها السلفُ ويعملُ فيها بغير الحق . وقال : والمرَاغَم الذهاب في الأرض . والسَّعَةُ سَعَةُ البلاد على ما تقدم . واستدل أيضاً بعض العلماء بهذه الآية على أن للغازي إذا خرج إلى الَغزْوِ ثم مات قبل القتال له سهمه وإن لم يحضر الحرب؛ رواه ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أهل المدينة . ورُوِي ذلك عن ابن المبارك أيضاً .
الرابعة قوله تعالى : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ } الآية . قال عكرمة مولى ابن عباس : طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته . وفي قول عِكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديماً ، وأن الاعتناء به حَسَنٌ والمعرفة به فضل؛ ونَحْوٌ منه قول ابن عباس : مكثت سنين أُريد أن أسأل عمر عن المرأتينِ اللتينِ تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما يمنعني إلاَّ مهابته .(1/137)
والذي ذكره عِكرمة هو ضَمْرة بن العِيص أو العِيص بن ضمرة بن زِنْبَاع؛ حكاه الطبريّ عن سعيد بن جبير . ويُقال فيه : ضُمَيرة أيضاً . ويُقال : جُنْدَع بن ضَمْرة من بني ليث ، وكان من المستضعَفين بمكة وكان مريضاً ، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال : أخرجوني؛ فهيء له فراش ثم وضع عليه وخرج به فمات في الطريق بالتّنْعيم ، فأنزل الله فيه { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً } الآية . وذكر أبو عمر أنه قد قِيل فيه : خالد بن حِزَام بن خُوَيْلد ابن أخي خديجة ، وأنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يبلغ أرض الحبشة؛ فنزلت فيه الآية ، والله أعلم . وحكى أبو الفرج الجَوْزِيّ أنه حبيب بن ضمرة . وقيل : ضمرة بن جُنْدب الضمريّ؛ عن السدّيّ . وحكي عن عِكرمة أنه جندب بن ضمرة الجُنْدَعِيّ . وحكي عن ابن جابر أنه ضمرة بن بغِيض الذي من بني ليث . وحكى المهَدوِيّ أنه ضمرة بن ضمرة بن نُعيم . وقيل : ضمرة بن خُزَاعة ، والله أعلم . وروى معمر عن قتادة قال : لما نزلت { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ } الآية ، قال رجل من المسلمين وهو مريض : واللَّهِ ما لي من عذرٍ ا إني لدليل في الطريق ، وإني لموسِر ، فاحملوني . فحملوه فأدركه الموت في الطريق؛ فقال أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : لو بلغ إلينا لتَمّ أجره؛ وقد مات بالتنعيم . وجاء بنوه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقِصة ، فنزلت هذه الآية { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً } الآية . وكان اسمه ضَمْرة بن جُنْدب ، ويُقال : جندب بن ضمرة على ما تقدّم . { وَكَانَ الله غَفُوراً } لما كان منه من الشرك . { رَّحِيماً } حين قَبِل توبته .
الخامسة قال ابن العربي : قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين : هرباً وطلباً؛ فالأوّل ينقسم إلى ستة أقسام الأول الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وكانت فرضاً في أيام النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كان؛ فإن بقي في دار الحرب عصي؛ ويُخْتَلف في حاله . الثاني الخروج من أرض البدعة؛ قال ابن القاسم : سمعت مالكاً يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسَبّ فيها السلف . قال ابن العربي : وهذا صحيح؛ فإن المنكر إذا لم تقدِر أن تغيّره فَزُل عنه ، قال الله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأنعام : 68 ] إلى قوله { الظالمين } [ الأنعام : 68 ] . الثالث الخروج من أرض غلب عليها الحرام : فإنّ طلب الحلال فرض على كل مسلم . الرابع الفرار من الأذية في البدن؛ وذلك فضل من الله أرخص فيه ، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور .(1/138)
وأوّل من فعله إبراهيم عليه السَّلام؛ فإنه لما خاف من قومه قال : { إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي } [ العنكبوت : 26 ] ، وقال : { إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] . وقال مخبراً عن موسى : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 21 ] . الخامس خوف المرض في البلاد الوَخمَة والخروج منها إلى الأرض النَّزهة . وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرّعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصِحّوا . وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون؛ فمنع الله سبحانه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدّم بيانه في «البقرة» . بَيْدَ أن علماءنا قالوا : هو مكروه . السادس الفِرار خوف الأذية في المال؛ فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، والأهل مثله وأوكد . وأما قِسم الطلب فينقسم قسمين : طلب دِين وطلب دُنْيا؛ فأما طلب الدين فيتعدّد بتعدّد أنواعه إلى تسعة أقسام : الأوّل سفر العِبرة؛ قال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ الروم : 9 ] وهو كثير . ويُقال : إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها . وقيل : لينفذ الحق فيها . الثاني سفر الحج . والأوّل وإن كان ندباً فهذا فرض . الثالث سفر الجهاد وله أحكامه . الرابع سفر المعاش؛ فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه ، من صيد أو احتطاب أو احتشاش؛ فهو فرض عليه . الخامس سفر التجارة والكسب الزائد على القوت ، وذلك جائز بفضل الله سبحانه وتعالى؛ قال الله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] يعني التجارة ، وهي نِعمة مَنّ الله بها في سفر الحج ، فكيف إذا انفردت . السادس في طلب العِلم وهو مشهور . السابع قصد البِقاع؛ قال صلى الله عليه وسلم : " لا تشدّ الرّحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد " الثامن الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها . التاسع زيارة الإخوان في الله تعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " زار رجل أخاً له في قريةٍ فأرصد الله له ملكاً على مَدْرَجِتِهِ فقال أين تريد فقال أُريد أخاً لي في هذه القرية قال هل لك من نعمةٍ تَرُبّها عليه قال لا غير أني أحببته في الله عزّ وجل قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه " رواه مسلم وغيره
-------------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله(1) :
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حَيْوَة وغيره قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال: قطع على (5) أهل المدينة بعْثٌ، فاكتتبت فيه، فلقيتُ عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فَيُرمى (6) به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيقتل، فأنزل الله [عز وجل] (7) { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } رواه الليث عن أبي الأسود (8) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرَّمَادِي، حدثنا أبو أحمد -يعني الزبيري-حدثنا
__________
(1) في أ: "الجنات".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1884)، وهو عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا من حديث أبي سعيد الخدري برقم (2790).
(3) في أ: "إنه".
(4) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردويه كما في الدر المنثور (2/645).
(5) في أ: "من".
(6) في د، ر أ: "يرمى".
(7) زيادة من ر.
(8) صحيح البخاري برقم (4596).
محمد بن شَرِيك المكي، حدثنا عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم بفعل بعض (1) قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين (2) وأكرهوا، فاستَغْفَروا لهم، فنزلت: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [قَالُوا فِيمَ كُنْتُم } إلى آخر] (3) الآية، قال: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية: لا عذر لهم. قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه (4) الآية: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ } الآية (5) [البقرة: 8] .
وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في شباب من قريش، كانوا تكلموا بالإسلام بمكة، منهم: علي بن أمية بن خَلَف، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاص بن منبه (6) بن الحجاج، والحارث بن زَمْعة.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 388)(1/139)
وقال الضحاك: نزلت في ناس (7) من المنافقين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وخرجوا مع المشركين يوم بدر، فأصيبوا فيمن أصيب فنزلت هذه (8) الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } أي: بترك الهجرة { قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } أي: لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة؟ { قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ } أي: لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض { قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] (9) } .
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، حدثني يحيى بن حسان، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب (10) بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " (11) .
وقال السدي : لما أسر العباس وَعقِيل ونَوْفَل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: " افد نفسك وابن أخيك " قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال: " يا عباس، إنكم خاصمتم فخُصمتم". ثم تلا عليه هذه الآية: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] (12) } رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ [مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (13)
__________
(1) في ر، أ: "بنبل".
(2) في ر: "مسلمون".
(3) زيادة من ر، أ.
(4) في أ: "فيهم".
(5) ورواه الطبراني في تفسيره (9/102) حدثنا أحمد بن منصور الرمادي به.
(6) في د: "ابن منصور".
(7) في د، ر: "أناس".
(8) في أ: "فهذه".
(9) زيادة من د، ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(10) في ر، أ: "حبيب".
(11) سنن أبي داود برقم (2787).
(12) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(13) زيادة من د، ر، أ، وفي هـ: "إلى آخر الآية".
] } هذا عذر من الله تعالى لهؤلاء في ترك الهجرة، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولهذا قال: { لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا } قال مجاهد وعكرمة، والسدي: يعني طريقا.
وقوله تعالى: { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ } أي: يتجاوز عنهم بترك (1) الهجرة، وعسى من الله موجبة { وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (2) } .
قال البخاري : حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا شَيْبَان، عن يَحْيَى، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هريرة قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: " سمع الله لمن حمده " ثم قال قبل أن يسجد " اللهم نَج (3) عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج (4) سلمة بن هشام، اللهم نج (5) الوليد بن الوليد، اللهم نَج (6) المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، اللهم اجعلها سنين كسِنِيِّ يوسف". (7)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو معمر المقري (8) حدثنا عبد الوارث، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسَّيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعدما سلم، وهو مستقبل القبلة فقال: " اللهم خلص الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسَلَمة بن هشام، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا من أيدي الكفار" (9) .
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا حجاج، حدثنا حماد، عن علي بن زيد عن عبد الله (10) -أو إبراهيم بن عبد الله القرشي-عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دُبُرِ صلاة الظهر: " اللهم خَلِّص الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " .
ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم (11) .
وقال عبد الرزاق: أنبأنا (12) ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان (13)
وقال البخاري : أنبأنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس: { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ } قال : كانت أمي ممن عَذَر الله عز وجل (14) .
وقوله: { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً } هذا تحريض على
__________
(1) في د، أ: "بتركهم".
(2) في ر: "عفوا غفورا" وهو خطأ.
(3) في ر، أ: "أنج".
(4) في ر، أ: "أنج".
(5) في ر، أ: "أنج".
(6) في ر، أ: "أنج".
(7) صحيح البخاري برقم (4598).
(8) في ر: "المنقري".
(9) وفي إسناده علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة ضعيف لا يحتج به، وقد اختلف عليه فيه، كما سيأتي في رواية الطبري.(1/140)
(10) في ر، أ: "عبيد الله".
(11) تفسير الطبري (9/110) وإسناده ضعيف.
(12) في أ: "أخبرنا".
(13) تفسير عبد الرزاق (1/166).
(14) صحيح البخاري برقم (4597).
الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه، و "المراغم" مصدر، تقول العرب: راغم فلان قومه مراغما ومراغمة، قال نابغة (1) بني جعدة (2) .
كَطَوْدٍ يُلاذُ بأرْكَانِه ... عَزيز المُرَاغَم وَالْمَهْربِ ...
وقال ابن عباس : "المراغَم": التحول من أرض إلى أرض . وكذا رُوي عن الضحاك والربيع بن أنس، الثوري، وقال مجاهد : { مُرَاغَمًا كَثِيرًا } يعني: متزحزحا عما يكره. وقال سفيان بن عيينة: { مُرَاغَمًا كَثِيرًا } يعني: بروجا.
والظاهر -والله أعلم-أنه (3) التمنّع الذي يُتَحصَّن به، ويراغم به الأعداء.
قوله: { وَسَعَةً } يعني: الرزق. قاله غير واحد، منهم: قتادة، حيث قال في قوله: { يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً } إي، والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى.
وقوله: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي: ومن خرج من منزله بنية الهجرة، فمات في أثناء الطريق، فقد حصل له من (4) الله ثواب من هاجر، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري (5) عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وَقّاص الليثي، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (6) .
وهذا عام في الهجرة وفي كل الأعمال. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين (7) في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نَفْسًا. ثم أكمل بذلك العابد المائة، ثم سأل عالما: هل له من توبة؟ فقال: ومن يَحُول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الآخر، أدركه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء: إنه جاء تائبا. وقال هؤلاء: إنه لم يَصِلْ بَعْدُ. فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما (8) كان أقرب كان (9) منها، فأمر الله هذه أن يُقرب (10) من هذه، وهذه أن تبعد (11) فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بِشِبْر، فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية: أنه لما جاءه
__________
(1) في أ: "نابغة في بني جعدة.
(2) البيت في تفسير الطبري (10/112) واللسان مادة (رغم).
(3) في أ: "أن المراغم هو".
(4) في أ: "عند".
(5) في أ: "القطان".
(6) صحيح البخاري برقم (1، 54) وصحيح مسلم برقم (1907) وسنن أبي داود برقم (2201) وسن الترمذي برقم (1647)، وسنن النسائي (1/59) وسنن ابن ماجه برقم (4227) ومسند أحمد (1/25) ومسند الحميدي (1/16) ومسند الطيالسي (2/27) "منحة المعبود".
(7) صحيح البخاري برقم (3470) وصحيح مسلم برقم (2766).
(8) في د، ر: "أيها"، وفي أ: "أيهما".
(9) في د، ر: "فهو".
(10) في د: "تقترب"، وفي ر: "تقرب".
(11) في د: "تبتعد".
الموت ناء بصدره إلى الأرض (1) التي هاجر إليها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد الله بن عَتِيك، عن أبيه عبد الله بن عَتِيك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من خرج من بيته مهاجرا (2) في سبيل الله-ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث: الوسطى والسبابة والإبهام، فجمعهن وقال: وأين المجاهدون-؟ فخرَّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات، فقد وقع أجره على الله أو مات حَتْف أنفه، فقد وقع أجره على الله -والله! إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم-ومن قتل قَعْصًا (3) فقد استوجب المآب (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي (5) حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي (6) عن المنذر بن عبد الله، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه؛ أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حِزَام (7) إلى أرض الحبشة، فنهشته حية في الطريق فمات، فنزلت فيه: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } قال الزبير : فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة، فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغني؛ لأنه قَلّ أحد ممن هاجر من قريش إلا معه بعض أهله، أو ذوي رحمه، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى، ولا أرجو غيره.
وهذا الأثر غريب جدا (8) فإن هذه القصة مكية، ونزول هذه الآية مدنية، فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره، وإن لم يكن ذلك سبب النزول، والله أعلم.(1/141)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبد الرحمن (9) بن سليمان، عن الأشعث (10) -هو ابن سَوَّار-عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج ضَمْرَةُ بن جُنْدُب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] (11) } (12) .
وحدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رَجَاء، أنبأنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة بن العيص الزُّرَقِي، الذي كان مصاب البصر، وكان بمكة فلما نزلت: { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } فقلت: إني لغني، وإني لذو حيلة، [قال] (13) فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتَّنْعِيم، فنزلت هذه الآية: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] (14) }
__________
(1) في د: "البلد".
(2) في أ : "مجاهدا".
(3) في د: "نفسا"، وفي ر: "بعضا"، وفي أ: "بعض".
(4) المسند (4/36)، وقال الهيثمي في المجمع (5/260: "فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات".
(5) في أ: "الخزامي".
(6) في أ: "الخزامي".
(7) في أ: "ابن حرام".
(8) ووجه غرابته أيضا كما قال ابن حجر: أن الذي نزلت فيه هذه الآية جندب بن ضمرة، وسيأتي حديثه عقب هذا.
(9) في ر: "عبد الرحيم".
(10) في ر: "أشعث".
(11) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(12) ورواه أبو يعلى في مسنده (5/81) والطبراني في المعجم الكبير (11/272 ) من طريق أشعث بن سوار به. قال الهيثمي بعد أن عزاه لأبي يعلى وحده: "رجاله ثقات، لكن في إسناده أشعث بن سوار وهو ضعيف".
(13) زيادة من ر.
(14) تفسير ابن أبي حاتم (ق176) وقد روي هذا الأثر من طرق أخرى مرسلة، فرواه سعيد بن منصور في سننه برقم (685) قال: أخبرنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير به مرسلا، ورواه الطبري في تفسيره (9/118) من طريق قيس بن الربيع عن سالم عن سعيد بن جبير به مرسلا.
قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن زياد سَبَلانُ، حدثنا أبو معاوية، حدثنا محمد بن إسحاق، عن حميد بن أبي حميد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج حاجا فمات، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات، كتب له أجر الغازي (1) إلى يوم القيامة".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه (2) .
__________
(1) في ر: "المغازي".
(2) مسند أبي يعلى (1/238) وفي إسناده جميل بن أبي ميمونة لم يوثقه سوى ابن حبان، وابن إسحاق مدلس وقد عنعن.(قلت بل الصواب أنه حديث حسن )
-------------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية - في مكة وغيرها - بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيام الدولة المسلمة . فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا . حبستهم أموالهم ومصالحهم - حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجرا يحمل معه شيئا من ماله - أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة - حيث لم يكن المشركون يدعون مسلما يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق . . وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي , من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلا للهجرة . .
وقد اشتد أذى المشركين لهؤلاء الباقين من أفراد المسلمين ; بعد عجزهم عن إدراك الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه , ومنعهما من الهجرة . وبعد قيام الدولة المسلمة . وبعد تعرض الدولة المسلمة لتجارة قريش في بدر , وانتصار المسلمين ذلك الانتصار الحاسم . فأخذ المشركون يسومون هذه البقية المتخلفة ألوانا من العذاب والنكال , ويفتنونهم عن دينهم في غيظ شديد .
وقد فتن بعضهم عن دينهم فعلا ; واضطر بعضهم إلى إظهار الكفر تقية , ومشاركة المشركين عبادتهم . . وكانت هذه التقية جائزة لهم يوم أن لم تكن لهم دولة يهاجرون إليها - متى استطاعوا - فأما بعد قيام الدولة , ووجود دار الإسلام فإن الخضوع للفتنة , أو الالتجاء للتقية , وفي الوسع الهجرة والجهر بالإسلام , والحياة في دار الإسلام . . أمر غير مقبول .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 105)(1/142)
وهكذا نزلت هذه النصوص ; تسمي هؤلاء القاعدين محافظة على أموالهم ومصالحهم , أو إشفاقا من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق . . حتى يحين أجلهم . . تسميهم: (ظالمي أنفسهم) . . بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام , تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة . وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة , وتوعدهم (جهنم وساءت مصيرًا) . . مما يدل على أنها تعني الذين فتنواعن دينهم بالفعل هناك !
ولكن التعبير القرآني - على أسلوب القرآن - يعبر في صورة , ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار: (إن الذين توفاهم الملائكة . . ظالمي أنفسهم . . قالوا:فيم كنتم ? قالوا:كنا مستضعفين في الأرض ! قالوا:ألم تكن أرض الله واسعة , فتهاجروا فيها ?!) . .
إن القرآن يعالج نفوسا بشرية ; ويهدف الى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها ; وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة . . لذلك يرسم هذا المشهد . . إنه يصور حقيقة . ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام , في علاج النفس البشرية . .
ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية , وتتحفز لتصور ما فيه . وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافا وتحفزا وحساسية .
وهم - القاعدون - ظلموا أنفسهم . وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم . . ظالمي أنفسهم . وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها . إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه ; وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه , فهذه هي اللحظة الأخيرة .
ولكن الملائكة لا يتوفونهم - ظالمي أنفسهم - في صمت . بل يقلبون ماضيهم , ويستنكرون أمرهم ! ويسألونهم:فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم ? وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا: (قالوا:فيم كنتم ?) . .
فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع ; كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع !
ويجيب هؤلاء المحتضرون , في لحظة الاحتضار , على هذا الاستنكار , جوابا كله مذلة , ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة .
(قالوا:كنا مستضعفين في الأرض) . .
كنا مستضعفين . يستضعفنا الأقوياء . كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئا
وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية ; وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار , بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة . . فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم . بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة ; ويؤنبونهم على عدم المحاولة , والفرصة قائمة: (قالوا:ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ?!) . .
إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم - إذن - على قبول الذل والهوان والاستضعاف , والفتنة عن الإيمان . . إنما كان هناك شيء آخر . .
حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر , وهناك دار الإسلام . ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة . والهجرة إليها مستطاعة ; مع احتمال الآلام والتضحيات .
وهنا ينهي المشهد المؤثر , بذكر النهاية المخيفة:
فأولئك مأواهم جهنم , وساءت مصيرًا . .
ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر ; والتعرض للفتنة في الدين ; والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف , والنساء والأطفال ; فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته . بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار:
إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان , لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم , وكان الله عفوا غفورًا . .
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان ; متجاوزا تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين , وفي بيئة معينة . . يمضي حكما عاما ; يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض ; وتمسكه أمواله ومصالحه , أو قراباته وصداقاته ; أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها . متى كان هناك - في الأرض في أي مكان - دار للإسلام ; يأمن فيها على دينه , ويجهر فيها بعقيدته , ويؤدي فيها عباداته ; ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله , ويستمتع بهذا المستوى الرفيع من الحياة . .
أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية ; التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها ; وتشفق من التعرض لها . وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معا . فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة - سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه - في حالة الهجرة في سبيل الله , وبضمان الله للمهاجر منذ ان يخرج من بيته مهاجرا في سبيله . ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق , فلا تضيق به الشعاب والفجاج:
(ومن يهاجر - في سبيل الله - يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة . ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله - ثم يدركه الموت - فقد وقع أجره على الله . وكان الله غفورا رحيما) . .
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة ; وهي تواجه مخاطر الهجرة ; في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة ; والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين .(1/143)
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة ; فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف ; ولا يداري عنها شيئا من الأخطار - بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى . .
فهو أولا يحدد الهجرة بأنها (في سبيل الله) . . وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام . فليست هجرة للثراء , أو هجرة للنجاة من المتاعب , أو هجرة للذائذ والشهوات , أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة . ومن يهاجر هذه الهجرة - في سبيل الله - يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض , ولا يعدم الحيلة والوسيلة . للنجاة وللرزق والحياة:
(ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) . .
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها ; يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق , مرهونة بأرض , ومقيدة بظروف , ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا .
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة ; هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم , وتسكت على الفتنة في الدين ; ثم تتعرض لذلك المصير البائس . مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله . . إنه سيجد في أرض الله منطلقا وسيجد فيها سعة . وسيجد الله في كل مكان يذهب إليه , يحييه ويرزقه وينجيه . .
ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله . . والموت - كما تقدم في سياق السورة - لا علاقة له بالأسباب الظاهرة ; إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم . وسواء أقام أم هاجر , فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر .
غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة . . والمنهج يراعي هذا ويعالجه . فيعطي ضمانة الله بوقوع الأجر على الله منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى الله ورسوله:
(ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله - ثم يدركه الموت - فقد وقع أجره على الله) . .
أجره كله . أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام . . فماذا بعد ضمان الله من ضمان ?
ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب . وهذا فوق الصفقة الأولى .
وكان الله غفورا رحيمًا .
إنها صفقة رابحة دون شك . يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى - خطوة الخروج من البيت مهاجرا إلى الله ورسوله - والموت هو الموت . في موعده الذي لا يتأخر . والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة . ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده . ولخسر الصفقة الرابحة . فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة . بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالما لنفسه !
وشتان بين صفقة وصفقة ! وشتان بين مصير ومصير !
ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس - إلى هذا الموضع - عدة اعتبارات , نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات .
يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل الله ; والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد . . اللهم إلا من عذرهم الله من أولي الضرر , ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . .
----------------
وفي التفسير الوسيط (1):
روى المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ } روايات منها ما أخرجه البخارى عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسوله صلى الله عليه وسلم يأتى السهم فيرمى به فيصب أحدهم فيقتله . أو يضرب فيقتل . فأنزل الله : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ } . . . الآية . ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا . وكانوا يخفون الإِسلام . فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر . فأصيب بعضهم . فقال المسلمون : هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستفغروا لهم فنزلت الآية .
قال ابن كثير - بعد ذكره لهذه الروايات - . هذه الآية الكريمة عامة فى كل من أقام بين ظهرانى المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه ، مرتكب حراما بالإِجماع وبنص هذه الآية .
وقوله : { تَوَفَّاهُمُ } يحتمل أن يكون فعلا ماضيا ، وتركت علامة التأنيث للفصل ، ولأن الفاعل ليس مؤنثاً تأنيثاً حقيقياً . ويحتمل أن يكون فعلا مضارعا وأصله " تتوفاهم " فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً . وهو من توفى الشئ إذا أخذه وافيا تام .
والمراد من التوفى : قبض أرواحهم وإماتتهم . وقيل المراد به : حشرهم إلى جهنم .
والمراد من الملائكة : ملك الموت وأعوانه الذين يتلون قبض الأرواح بإذن الله وأمره .
وظلم النفس معناه : أن يفعل الإِنسان فعلا يؤدى إلى مضرته وسوء عاقبته سواء أكان هذا الفعل كفراً أم معصية .
وإنما كان ظالما لنفسه لأنه قال قولا أو فعل فعلا ليس من شأن العقلاء أن يقولوه أو يفعلوه لو خامة عقباه .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1045)(1/144)
والمعنى : إن الذين تقبض الملائكة أوراحهم وتميتهم حال كونهم قد ظلموا أنفسهم بسبب رضاهم بالذل والهوان ، وإقامتهم فى أرض لم يستطيعوا أن يباشروا تعاليم دينهم فيها ، وعدم هجرتهم إلى الأرض التى يقيم فيها إخوانهم فى العقيدة مع قدرتهم على الهجرة . .
إن الذين تتوفاهم الملائكة وهم بهذه الحال ، تسألهم الملائكة سؤال تقريع وتوبيخ عند قبض أرواحهم أو يوم القيامة فتقول لهم : " فيم كنتم " أى : فى أى حال كنتم؟ أكنتم فى عزة أم فى ذلة؟ وكيف رضيتم البقاء مع الكافرين الذين أذلوا وسخروا من دينكم؟ أو المعنى : فى أى شئ كنتم من أمور دينكم؟
{ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } أى : قال الذين ظلموا أنفسهم للملائكة : كنا فى الدنيا يستضعفنا أهل الشرك فى أرضنا وبلادنا ، وصيرونا أذلاء لا نملك من أمرنا شيئاً . وهو اعتذار قبيح يدل على هوان المعتذرين به وضعف نفوسهم ، ولذلك لم تقبل منهم الملائكة هذا العذر ، بل ردت عليهم بما حكاه الله - تعالى - فى قوله : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } ؟
فالاستفهام لإِنكار عذرهم ، وعدم الاعتداد به .
أى أن الملائكة تقول لهم - كما يقول الآلوسى - : إن عذرهم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير ، إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذى أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة . أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله - تعالى - بأنكم مقهورون غير مقبول ، لأنكم متمكنون من المهاجرة ومن الخروج من تحت أيديهم .
وقوله { ظالمي أَنْفُسِهِمْ } جملة حالية من ضمير المفعول فى قوله : { تَوَفَّاهُمُ } أى : تتوفاهم الملائكة فى حال ظلمهم لأنفسهم . والإِضافة فيه لفظية فلا تفيده تعريفا . والأصل ظالمين أنفسهم فحذفت النون تخفيفا .
قال الجمل ما ملخصه : وخبر إن فى قوله { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ } . محذوف تقديره : إن الذين توفاهم الملائكة هلكوا . ويكون قوله : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } مبينا لتلك الجملة المحذوفة . أو يكون الخبر قوله { فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ودخلت الفاء فى الخبر تشبيها للموصول باسم الشرط . .
وقوله { قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } جملة مستأنفة جواباً عن سؤال مقدر فكأنه قيل : فماذا قال أولئك الذين ظلموا أنفسهم للملائكة؟ فكان الجواب : كنا مستضعفين فى الأرض . قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف صح وقوع قوله { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } جواباً عن قولهم : فيهم كنتم وكان حق الجواب : كنا فى كذا أو لم نكن فى شئ؟ قلت معنى " فيم كنتم " التوبيخ بأنهم لم يكونوا فى شئ من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا . فقالوا : كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به ، واعتلالا بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا فى شئ . فبكتتهم الملائكة بقولهم : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } ، أرادوا : إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التى تمنعون فيها من إظهار دينكم .
وهذا دليل على أن الرجل إذا كان فى بدل لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب لبعض الأسباب - والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر - أو علم أنه فى غير بلده أقوم بحق الله وأدوم للعبادة حقت عليه المهاجرة .
ويبدو أن الإِمام الزمخشرى كان عند تفسيره لهذه الآية قد هاجر من موطنه للإِقامة بجوار بيت الله الحرام ، فقد قال خلاف تفسيره لها " اللهم إن كنت تعلم أن هجرتى إليك لم تكن إلا للفرار بدينى فاجعلها سببا فى خاتمة الخير ، ودرك المرجو من فضلك ، والمبتغى من رحمت . وصل جوارى لك بعكوفى عند بيتك بجوارك فى دار كرامتك يا واسع المغفرة .
وقال القرطبى : يفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم فى تركهم الهجرة ، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شئ من هذا .
وإنما أضرب عن ذكرهم فى الصحابة لشدة ما واقعوه .
وقوله { فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً } بيان لسوء عاقبة هؤلاء الذين آثروا العيش فى أرض الكفر مع الذل على الهجرة إلى أرض الإِسلام .
أى : فأولئك الذين ماتوا ظالمين لأنفسهم { مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أى : مسكنهم الذى يأوون إليه فى الآخرة جهنم ، وهى مصيرهم الذى سيصيرون إليه { وَسَآءَتْ مَصِيراً } أى : وساءت جهنم لأهلها الذين صراوا إليها مصيرا ومسكنا ومأوى ، لأنهم سيذوقون فيها العذاب الأليم .
وجئ باسم الإِشارة { فأولئك } للاشعار بأنهم جديرون بالحكم الوارد بعده للصفات التى وصفوا بها قبله ، فهم كانوا قادرين على الهجرة لكنهم لم يهاجروا لضعف نفوسهم وحرصهم على أموالهم ومصالحهم .
والمخصوص بالذم فى قوله { وَسَآءَتْ مَصِيراً } محذوف . أى : جهنم .
ثم استثنى - سبحانه - من هذا المصير السئ لمن ظلموا أنفسهم ثلاثة أصناف من الناس فقال : { إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان } .(1/145)
أى : أن هذا المصير السئ والعذاب المهين هو للذين ظلموا أنفسهم بترك الهجرة إلى المسلمين مع قدرتهم عليها ، لكن هناك طوائف من الناس خارجون من هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ومن هذا المصير الأليم ، وهم أولئك الرجال الذين عجزوا حقا عن الهجرة لضعفهم أو مرضهم أو شيخوختهم . . . أو النساء اللائى لا يستطعن الخروج وحدهن خشية من الاعتداء عليهن أو الوالدان الذين لم يبلغوا الحلم بعد ، أو بلغوا بلوغا قريبا لكنهم لا يستطيعون الهجرة بمفردهم لقلة ذات يدهم أو لغير ذلك من الأعذار الصحيحة .
وقوله { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } جملة مستأنفة موضحة لمعنى الاستضعاف .
حتى لا يتوهم متوهم أن استضعاف هؤلاء كالاستضعاف الذى تذرع به أولئك الذين ظلموا أنفسهم عندما قالوا - كما حكى القرآن عنهم - { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } . ويصح أن تكون حالا من المستضعفين .
أى : ليس مندرجا مع الذين ظلموا أنفسهم فاستحقوا المصير السئ أولئك الضعفاء من الرجال والنساء والولدان؛ لأنهم { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } فى الخروج؛ إذ لا قوة لهم على الخروج ولا نفقة معهم توصلهم مبتغاهم { وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } أى : ولا يعرفون الطريق التى توصلهم إلى دار هجرتهم .
قال القرطبى : والحيلة : لفظ عام لأنواع أسباب التخلص . والسبيل : سبيل المدينة . فيما ذكر مجاهد والسدى وغيرهما والصواب أنه عام فى جميع السبل .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ المستضعفين } منقطع - على الصحيح - لأن هؤلاء الذين قعدوا عن الجرة لعجزهم ، خارجون من أولئك الذين ظلموا أنفسهم بقعودهم عن الهجرة مع قدرتهم على ذلك .
وفى ذكر الوالدان مبالغة فى أمر الهجرة حتى لكأنها لو استطاعها غير المكلفين لقاموا بها ، وإشعار بأن على أوليائهم أن يهاجروا بهم معهم متى تمكنوا من ذلك .
وقوله { فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } . بيان لحكم هؤلاء المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا .
أى : أن هؤلاء الذين قعدوا عن الهجرة لأعذار حالت بينهم وبينها { عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } أى : يتجاوز عنهم بفضله ورحمته بسبب عدم استطاعتهم للهجرة .
قال الجمل : وعسى ولعل فى كلام الله واجبتان ، وإن كانتا رجاء وطمعا فى كلام المخلوقين ، لأن المخلوق هو الذى تعرض له الشكوك والظنون . والبارى منزه عن ذلك ، وإذا أطمع - سبحانه - عبده وصله .
وقال الآلوسى : وفى قوله { عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى ان المضطر الذى تحقق عدم وجوبها عليه ينبغى له أن يعد تركها ذنبا ، ولا يأمن . ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها .
وقوله { وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه أى وكان الله - تعالى - . وما زال كثير العفو عن عباده فيما يقعون فيه من تقصير ، كثير المغفرة لمن تاب إليه وأناب .
ثم رغب - سبحانه - فى الهجرة من أجل أعلاء دينه بأسمى ألوان الترغيب فقال : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } .
وقوله : { مُرَاغَماً } اسم مكان أى يجد فى الأرض متحولا ومهاجرا .
قال القرطبى ما ملخصه : اختلف فى تأويل المراغم فقال مجاهد : المراغم : المتزحزح . وقال ابن عباس : المراغم : المتحول والمذهب . وقال ابن زيد : المراغم : المهاجر .
وهذه الأقوال متفقة المعانى وهو اسم الموضع الذى يراغم فيه . وهو مشتق من الرغام أى التراب ورغم أنف فلان أى لصق بالتراب . وراغمت فلانا هجرته وعاديته .
وهذا كله تفسير المعنى . فأما الخاص باللفظة هو أن المرغم موضع المراغمة كما ذكرناه وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده .
فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة ، فلو هاجر منهم لأرغم أنوف قريش لحصوله فى منعة منهم ، فتلك المنعة هى موضع المراغمة .
والمعنى : ومن يهاجر تاركا دار إقامته من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ، يجد فى الأرض أماكن كثيرة يأمن فيها مكر أعدائه وظلمهم ، ويجد فيها من الخير والنعمة والسعة فى الرزق ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين فارقهم كراهة لصحبتهم القبيحة ، ومعاملتهم السيئة .
قال الفخر الرازى : وذلك لأن من فارق بلده وذهب إلى بلده أجنبية ، فإذا استقام أمره فى تلك البلدة الأجنبية ، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بدلته خجلوا من سوء معاملتهم له ورغمت أنوفهم - أى أصابهم الذل - بسبب ذلك .
فكأنه قيل . يأيها الإِنسان إنك كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع فى المشقة والمحنة والسفر ، فلا تخف فإن الله - تعالى - سيعطيك من النعم الجليلة ، والمراتب العظيمة ، فى دار هجرتك ما يصير سببا لرغم أنوف أعدائك ، ويكون سببا لسعة عيشك .
وإنما قدم - سبحانه - ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش؛ لأن ابتهاج الإِنسان الذى يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم له بدولته من حيث إنها تصير سببا لرغم أنوف الأعداء .
أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث إنها صارت سببا لسعة العيش عليه .(1/146)
وقوله { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } تنويه عظيم بشأن الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله ، حيث جعل - سبحانه - ثوابها حاصلا حتى ولو لم يصل المهاجر إلى مقصده .
أى : ومن يخرج من بيته تاركا أهله ووطنه ، فارا بيدنه إلى المكان الذى تعلو فيه كلمة الله وكلمة رسوله ، قاصدا بذلك نصرة الحق وأهله ، من يفعل ذلك { يُدْرِكْهُ الموت } وهو فى طريقه قبل أن يصل إلى مكان هجرته { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } أى : فقد ثبت ووجب له الأجر عند الله - تعالى - تفضلا منه - سبحانه - وكرما { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } فيغفر لهذا المهاجر ما فرط منه من تقصير ، ويرحمه برحمته الواسعة .
وقوله { ثُمَّ يُدْرِكْهُ } بالجزم عطفا على فعل الشرط وهو { وَمَن يَخْرُجْ } . وجوابه قوله : { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } .
قال الآلوسى : وقرئ { ثُمَّ يُدْرِكْهُ } بالرفع . خرج ابن جنى على أنه فعل مضارع مرفوع والموت فاعله . والجملة خبر لمبتدأ محذوف أى : ثم هو يدركه الموت .
وفى التعبير بقوله { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } بعث للطمأنينة فى قلوب المهاجرين ، وحفز لهم على الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله؛ لأنهم إذاوصلوا إلى دار هجرتهم فقد راغموا أنف أعدائهم ورزقهم الله بالخير من فضله ، وإن ماتوا قبل أن يصلوا أعطاهم - سبحانه ثواب المهاجرين كاملا ببركة حسن نياتهم ، وكافأهم على ذلك أجرا جزيلا لا يعلم مقداره إلا هو .
وقد وردت روايات فى سبب نزول هذه الآية الكريمة منها ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها نزلت فى جندب بن ضمرة وكان قد بلغه وهو بمكة قوله - تعالى - : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ } . . الآية فقال لبنيه : أحملونى فإنى لست من المستضعفين ، وإنى لأهتدى إلى الطريق ، وإنى لا أبيت الليلة بمكة . فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة - وكان شيخا كبيرا ، فمات بالتنعيم - وهو موضع قرب مكة - ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ويقول : اللهم هذه لك . وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم أبايعك على ما بايع عليه رسلوك - ثم مات - ولما بلغ خبر موته الصحابة قالوا : ليته مات بالمدينة فنزلت الآية .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :
1- وجوب الهجرة من دار لا يستطيع المسلم فيها أن يؤدى شعائر دينه .
قال القرطبى : فى هذه الآيات دليل على هجران الأرض التى يعمل فيها بالمعاصى . وقال سعيد بن جبير : إذا عمل بالمعاصى فى أرض فاخرج منها . وتلا { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } . وقال مالك : هذه الآيات دالة على أنه ليس لأحد المقام فى أرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق .
وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : قال الحافظ بن حجر فى " الفتح " : الهجرة الترك . والهجرة إلى الشئ الانتقال إليه عن غيره . وفى الشرع : ترك ما نهى الله عنه .
وقد وقعت فى الإِسلام على وجهين :
الأول : الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن . كما فى هجرتى الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .
الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِيمان . وذلك بعد أن استقر النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين . وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالمدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقى عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا .
ثم قال الشيخ القاسمى : وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإِسماعيلى بلفظ : انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار . أى : ما دام فى الدنيا دار كفر ، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشى أن يفتن فى دينه .
وروى الإِمام أحمد وأبو عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة . ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " .
2- أن من خرج للهجرة فى سبيل الله ومات فى الطريق أعطاه الله - تعالى - أجر المهاجرين ببركة نيته الصادقة ، ويدل على ذلك ما جاء فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى . فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " .
وقال صاحب الكشاف : كل هجرة لغرض دينى - من طلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا فى الدنيا أو ابتغاء رزق طيب - فهى هجرة إلى الله ورسوله . وإن أدركه الموت فى طريقه فأجره واقع على الله .(1/147)
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد وبخت الذين رضوا أن يقيموا مع الكافرين فى ذلة وهوان مع قدرتهم على الهجرة ، وتوعدتهم على ضعف إيمانهم ، بسوء المصير ، وحرضت المؤمنين فى كل زمان ومكان على الهجرة فى سبيل الله بأسمى ألوان التحريض وأشدها ، ووعدت المهاجر من أجل إعلاء كلمة الحق بالخير الوفير ، والأجر الجزيل . { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم }
---------------------
وقال السعدي(1) :
هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: { فِيمَ كُنْتُمْ } أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم.
{ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْض } أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم [ ص 196 ] وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة.
ولهذا قالت لهم الملائكة: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله، كما قال تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم: { فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وهذا كما تقدم، فيه ذكر بيان السبب الموجِب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع.
وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر، وفي الآية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والأجل والعمل، وذلك مأخوذ من لفظ "التوفي" فإنه يدل على ذلك، لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا.
وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم، وموافقته لمحله.
ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة، الذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه { وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا } .
فهؤلاء قال الله فيهم: { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } و "عسى" ونحوها واجب وقوعها من الله تعالى بمقتضى كرمه وإحسانه، وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض الأعمال فائدة، وهو أنه قد لا يوفيه حق توفيته، ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي، بل يكون مقصرًا فلا يستحق ذلك الثواب. والله أعلم.
وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره فإنه معذور، كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد: { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } وقال في عموم الأوامر: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله: { لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } وفي الآية تنبيه على أن الدليل في الحج والعمرة ونحوهما مما يحتاج إلى سفر من شروط الاستطاعة.
{ 100 } { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغما في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا.
وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة، وفقرًا بعد الغنى، وذلا بعد العز، وشدة بعد الرخاء.
والأمر ليس كذلك، فإن المؤمن ما دام بين أظهر المشركين فدينه في غاية النقص، لا في العبادات القاصرة عليه كالصلاة ونحوها، ولا في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل، وتوابع ذلك، لعدم تمكنه من ذلك، وهو بصدد أن يفتن عن دينه، خصوصا إن كان مستضعفًا.
فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم، فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل، وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه، وقد وقع كما أخبر الله تعالى.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 195)(1/148)
واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل الله وتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم لله، كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من الإيمان التام والجهاد العظيم والنصر لدين الله، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم، وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم، ما كانوا به أغنى الناس، وهكذا كل من فعل فعلهم، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة.
ثم قال: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: قاصدا ربه ورضاه، ومحبة لرسوله ونصرًا لدين الله، لا لغير ذلك من المقاصد { ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ } بقتل أو غيره، { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي: فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى، وذلك لأنه نوى وجزم، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل، فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملا ولو لم يكملوا العمل، وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها.
ولهذا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } يغفر للمؤمنين ما اقترفوه من الخطيئات، خصوصا التائبين المنيبين إلى ربهم. [ ص 197 ]
{ رَحِيمًا } بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المال والبنين والقوة، وغير ذلك. رحيمًا بالمؤمنين حيث وفقهم للإيمان، وعلمهم من العلم ما يحصل به الإيقان، ويسر لهم أسباب السعادة والفلاح وما به يدركون غاية الأرباح، وسيرون من رحمته وكرمه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنسأل الله أن لا يحرمنا خيره بشر ما عندنا.
---------------------
وقال الطاهر بن عاشور(1) :
لما جاء ذكر القاعدين عن الجهاد من المؤمنين بعذر وبدونه، في الآية السالفة، كان حال القاعدين عن إظهار إسلامهم من الذين عزموا عليه بمكة، أو اتبعوه ثم صدهم أهل مكة عنه وفتنوهم حتى أرجعوهم إلى عبادة الأصنام بعذر وبدونه، بحيث يخطر ببال السامع أن يتساءل عن مصيرهم إن هم استمروا على ذلك حتى ماتوا، فجاءت هذه الآية مجيبة عما يجيش بنفوس السامعين من التساؤل عن مصير أولئك، فكان موقعها استئنافا بيانيا لسائل متردد، ولذلك فصلت، ولذلك صدرت بحرف التأكيد، فإن حالهم يوجب شكا في أن يكونوا ملحقين بالكفار، كيف وهم قد ظهر ميلهم إلى الإسلام، ومنهم من دخل فيه بالفعل ثم صد عنه أو فتن لأجله.
والموصول هنا في قوة المعرف بلام الجنس، وليس المراد شخصا أو طائفة بل جنس من مات ظالما نفسه، ولما في الصلة من الإشعار بعلة الحكم وهو قوله {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} ، أي لأنهم ظلموا أنفسهم.
ومعنى {توفاهم } تميتهم وتقبض أرواحهم، فالمعنى: أن الذين يموتون ظالمي أنفسهم، فعدل عن يموتون أو يتوفون إلى توفاهم الملائكة ليكون وسيلة لبيان شناعة فتنتهم عند الموت.
والملائكة جمع أريد به الجنس، فاستوى في إفادة معنى الجنس جمعه، كما هنا، ومفرده كما في قوله تعالى {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] فيجوز أن يكون ملك الموت الذي يقبض أرواح الناس واحدا، بقوة منه تصل إلى كل هالك، ويجوز أن يكون لكل هالك ملك يقبض روحه، وهذا أوضح، ويؤيده قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} إلى قوله {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} .
و {توفاهم} فعل مضي يقال: توفاه الله، وتوفاه ملك الموت، وإنما لم يقرن بعلامة تأنيث فاعل الفعل، لأن تأنيث صيغ جموع التكسير تأنيث لفظي لا حقيقي فيجوز لحاق تاء التأنيث لفعلها، تقول: غزت العرب، وغزى العرب.
وظلم النفس أن يفعل أحد فعلا يؤول إلى مضرته، فهو ظالم لنفسه، لأنه فعل بنفسه ما ليس من شأن العقلاء أن يعقلوه لوخامة عقباه. والظلم هو الشيء الذي لا يحق فعله ولا ترضى به النفوس السليمة والشرائع، واشتهر إطلاق ظلم النفس في القرآن على الكفر وعلى المعصية.
وقد اختلف في المراد به في هذه الآية، فقال ابن عباس: المراد به الكفر، وأنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر أقاموا مع قومهم بمكة ففتنوهم فارتدوا، وخرجوا يوم بدر مع المشركين فكثروا سواد المشركين، فقتلوا ببدر كافرين، فقال: المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ولكنهم أكرهوا على الكفر والخروج، فنزلت هذه الآية فيهم. رواه البخاري عن ابن عباس، قالوا: وكان منهم أبو قيس بن الفاكه، والحارث بن زمعة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحاج؛ فهؤلاء قتلوا. وكان العباس بن عبد المطلب، وعقيل ونوفل ابنا أبي طالب فيمن خرج معهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أسروا وفدوا أنفسهم وأسلموا بعد ذلك، وهذا أصح الأقوال في هذه الآية.
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 4 / ص 230)(1/149)
وقيل: أريد بالظلم عدم الهجرة إذ كان قوم من أهل مكة أسلموا وتقاعسوا عن الهجرة. قال السدي: كان من أسلم ولم يهاجر يعتبر كافرا حتى يهاجر، يعني ولو أظهر إسلامه وترك حال الشرك. وقال غيره: بل كانت الهجرة واجبة ولا يكفر تاركها. فعلى قول السدي فالظلم مراد به أيضا الكفر لأنه معتبر من الكفر في نظر الشرع، أي أن الشرع لم يكتف بالإيمان إذا لم يهاجر صاحبه مع التمكن من ذلك، وهذا بعيد فقد قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] الآية؛ فأوجب على المسلمين نصرهم في الدين إن استنصروهم، وهذه حالة تخالف حالة الكفار. وعلى قول غيره: فالظلم المعصية العظيمة، والوعيد الذي في هذه الآية صالح للأمرين، على أن المسلمين لم يعدوا الذين لم يهاجروا قبل فتح مكة في عداد الصحابة. قال ابن عطية: لأنهم لم يتعين الذين ماتوا منهم على الإسلام والذين ماتوا على الكفر فلم يعتدوا بما عرفوا منهم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} خبر إن. والمعنى: قالوا لهم قول توبيخ وتهديد بالوعيد وتمهيد لدحض معذرتهم في قولهم {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} ، فقالوا {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} .
ويجوز أن يكون جملة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} موضع بدل الاشتمال من جملة {توفاهم} ، فإن توفى الملائكة إياهم المحكي هنا يشتمل على قولهم لهم {فِيمَ كُنْتُمْ} .
وأما جملة قالوا {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} فهي مفصولة عن العاطف جريا على طريقة المقاولة في المحاورة، على ما بيناه عند قوله تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة. وكذلك جملة {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} . ويكون خبر إن قوله {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} على أن يكون دخول الفاء في الخبر لكون اسم إن موصولا فإنه يعامل معاملة أسماء الشروط كثيرا، وقد تقدمت نظائره. والإتيان بالفاء هنا أولى لطول الفصل بين اسم إن وخبرها بالمقاولة، بحيث صار الخبر كالنتيجة لتلك المقاولة كما يدل عليه أيضا اسم الإشارة. والاستفهام في قوله {فِيمَ كُنْتُمْ} مستعمل للتقرير والتوبيخ.
وفي للظرفية المجازية. وما استفهام عن حالة كما دل عليه في. وقد علم المسؤولون أن الحالة المسؤول عنها حالة بقائهم على الكفر أو عدم الهجرة. فقالوا معتذرين {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} .
والمستضعف: المعدود ضعيفا فلا يعبأ بما يصنع به فليس هو في عزة تمكنه من إظهار إسلامه، فلذلك يضطر إلى كتمان إسلامه. والأرض هي مكة. أرادوا: كنا مكرهين على المكفر ما أقمنا في مكة، وهذا جواب صادق إذ لا مطمع في الكذب في عالم الحقيقة وقد حسبوا ذلك عذرا يبيح البقاء على الشرك، أو يبيح التخلف عن الهجرة، على اختلاف التفسيرين، فلذلك رد الملائكة عليهم بقولهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} ، أي تخرجوا من الأرض التي تستضعفون فيها، فبذلك تظهرون الإيمان، أو فقد اتسعت الأرض فلا تعدمون أرضا تستطيعون الإقامة فيها. وظاهر الآية أن الخروج إلى كل بلد غير بلد الفتنة يعد هجرة، لكن دل قوله {مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:100] أن المقصود الهجرة إلى المدينة وهي التي كانت واجبة، وأما هجرة المؤمنين إلى الحبشة فقد كانت قبل وجوب الهجرة؛ لأن النبي وفريقا من المؤمنين، كانوا بعد بمكة، وكانت بإذن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا رد مفحم لهم.
والمهاجرة: الخروج من الوطن وترك القوم، مفاعلة من هجر إذا ترك، وإنما اشتق للخروج عن الوطن اسم المهاجرة لأنها في الغالب تكون عن كراهية بين الراحل والمقيمين، فكل فريق يطلب ترك الآخر، ثم شاع إطلاقها على مفارقة الوطن بدون هذا القيد.
والفاء في قوله {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [النساء:97] تفريع على ما حكى من توبيخ الملائكة إياهم وتهديدهم.
وجيء باسم الإشارة في قوله {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} للتنبيه على أنهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة من أجل الصفات المذكورة قبله، لأنهم كانوا قادرين على التخلص من فتنة الشرك بالخروج من أرضه.
وقوله {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} استثناء من الوعيد، والمعنى إلا المستضعفين حقا، أي العاجزين عن الخروج من مكة لقلة جهد، أو لإكراه المشركين إياهم وإيثاقهم على البقاء: مثل عياش بن أبي ربيعة المتقدم خبره في قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، ومثل سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد. وفي البخاري أن رسول الله كان يدعو في صلاة العشاء: "اللهم نج عياش بن أبي ربيعة اللهم نج الوليد بن الوليد، اللهم نج سلمة بن هشام اللهم نج المستضعفين من المؤمنين" . وعن ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين.(1/150)
والتبيين بقوله {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} لقصد التعميم. والمقصد التنبيه على أن من الرجال مستضعفين، فلذلك ابتدئ بذكرهم ثم ألحق بذكرهم النساء والصبيان لأن وجودهم في العائلة يكون عذرا لوليهم إذا كان لا يجد حيلة. وتقدم ذكرهم بقوله تعالى {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75]، وإعادة ذكرهم هنا مما يؤكد أن تكون الآيات كلها نزلت في التهيئة لفتح مكة.
وجملة {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} حال من المستضعفين موضحة للاستضعاف ليظهر أنه غير الاستضعاف الذي يقوله الذين ظلموا أنفسهم {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} ، أي لا يستطيعون حيلة في الخروج إما لمنع أهل مكة إياهم، أو لفقرهم؛ {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي معرفة للطريق كالأعمى.
وجملة {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} الفاء فيها للفصيحة، والإتيان بالإشارة للتنبيه على أنهم جديرون بالحكم المذكور من المغفرة.
وفعل {عسى} في قوله {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} يقتضي أن الله يرجو أن يعفو عنهم، وإذ كان الله هو فاعل العفو وهو عالم بأنه يعفو عنهم أو عن بعضهم بالتعيين تعين أن يكون معنى الرجاء المستفاد من {عسى} هنا معنى مجازيا بأن عفوه عن ذنبهم عفو عزيز المنال، فمثل حال العفو عنهم بحال من لا يقطع بحصول العفو عنه، ولا مقصود من ذلك تضييق تحقق عذرهم، لئلا يتساهلوا في شروطه اعتمادا على عفو الله، فإن عذر الله لهم باستضعافهم رخصة وتوسعة من الله تعالى، لأن البقاء على إظهار الشرك أمر عظيم، وكان الواجب العزيمة أن يكلفوا بإعلان الإيمان بين ظهراني المشركين ولو جلب لهم التعذيب والهلاك، كما فعلت سمية أم عمار بن ياسر.
وهذا الاستعمال هو محمل موارد {عسى} ولعل إذا أسندا إلى اسم الله تعالى كما تقدم عند قوله تعالى {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} في سورة البقرة[53]، وهو معنى قول أبي عبيدة: عسى من الله إيجاب وقول كثير من العلماء: أن عسى ولعل في القرآن لليقين، ومرادهم إذا أسند إلى الله تعالى بخلاف نحو قوله {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف:24].
ومثل هذا ما قالوه في وقوع حرف إن الشرطية في كلام الله تعالى، مع أن أصلها أن تكون للشرط المشكوك في حصوله.
وقد اتفق العلماء على أن حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة لأن الهجرة كانت واجبة لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلما صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيده حديث "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة. وفي الحديث "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم" قاله بعد أن فتحت مكة. غير أن القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستة أحوال.
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصر، فخرجوا على وجوههم في كل واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902 وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016.
الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضر وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمى الإقامة ببلد الحرب المفسرة بأرض العدو.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أن المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر المدونة في كتاب التجارة إلى أرض الحرب والعتبية، كذلك تأول قول مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحق، وتأوله سحنون وابن حبيب على الحرمة وكذلك عبد الحميد الصائغ والمازري، وزاد سحنون فقال: إن مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحج وغيره. وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قويا على النصارى جاز السفر، وإلا لم يجز، لأنهم يهيئون المسلمين.(1/151)
الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي. وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإن أهلها أقاموا بها مدة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن، ولا القاطن على المهاجر.
الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرفهم في قومهم، وولاية حكامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكن تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرانسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيام الانتداب، وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.
الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملا صالحا وآخر سيئا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلا. وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أن ذلك قد حدث في القيروان أيام بني عبيد فلم يحفظ أن أحدا من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر مدة الفاطميين أيضا فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين. ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية.
[100] {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
جملة {وَمَنْ يُهَاجِرْ} عطف على جملة {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء:97]. ومن شرطية. والمهاجرة في سبيل الله هي المهاجرة لأجل دين الله. والسبيل استعارة معروفة، وزادها قبولا أن المهاجرة نوع من السير، فكان لذكر السبيل معها ضرب من التورية. والمراغم اسم مكان من راغم إذا ذهب في الأرض، وفعل راغم مشتق من الرغام بفتح الراء وهو التراب. أو هو من راغم غيره إذا غلبه وقهره، ولعل أصله أنه أبقاه على الرغام، أي التراب، أي يجد مكانا يرغم فيه من أرغمه، أي يغلب فيه قومه باستقلاله عنهم كما أرغموه بإكراهه على الكفر، قال الحارث بن وعلة الذهلي:
لا تأمنن قوما ظلمتهم ...وبدأتهم بالشتم والرغم
إن يأبروا نخلا لغيرهم...والشيء تحقره وقد ينمي
أي أن يكونوا عونا للعدو على قومهم. ووصف المراغم بالكثير لأنه أريد به جنس الأمكنة. والسعة ضد الضيق، وهي حقيقة اتساع الأمكنة، وتطلق على رفاهية العيش، فهي سعة مجازية. فإن كان المراغم هو الذهاب في الأرض فعطف السعة عليه عطف تفسير، وإن كان هو مكان الإغاضة فعطف السعة للدلالة على أنه يجده ملائما من جهة إرضاء النفس، ومن جهة راحة الإقامة.
ثم نوه الله بشأن الهجرة بأن جعل ثوابها حاصلا بمجرد الخروج من بلد الكفر، ولو لم يبلغ إلى البلد المهاجر إليه، بقوله {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الخ. ومعنى المهاجرة إلى الله المهاجرة إلى الموضع الذي يرضاه الله. وعطف الرسول على اسم الجلالة للإشارة إلى خصوص الهجرة إلى المدينة للالتحاق بالرسول وتعزيز جانبه، لأن الذي يهاجر إلى غير المدينة قد سلم من إرهاق الكفر ولم يحصل على نصرة الرسول، ولذلك بادر أهل هجرة الحبشة إلى اللحاق بالرسول حين بلغهم مهاجره إلى المدينة.(1/152)
ومعنى {يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} . أي في الطريق، ويجوز أن يكون المعنى: ثم يدركه الموت مهاجرا، أي لا يرجع بعد هجرته إلى بلاد الكفر وهو الأصح. وقد اختلف في الهجرة المرادة من هذه الآية: فقيل: الهجرة إلى المدينة، وقيل: الهجرة إلى الحبشة. واختلف في المعني بالموصول من قوله {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . فعند من قالوا: إن المراد الهجرة إلى المدينة قالوا المراد بمن يخرج رجل من المسلمين كان بقي بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما نزل قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} إلى قوله {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97، 100] كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين من أهل مكة، وكان هذا الرجل مريضا، فقال: إني لذو مال وعبيد، فدعا أبناءه وقال لهم: احملوني إلى المدينة. فحملوه على سرير، فلما بلغ التنعيم توفي، فنزلت هذه الآية فيه. وتعم أمثاله، فهي عامة في سياق الشرط لا يخصصها سبب النزول.
وكان هذا الرجل من كنانة، وقيل من خزاعة، وقيل من جندع، واختلف في اسمه على عشرة أقوال: جندب بن حمزة الجندعي، حندج بن ضمرة الليثي الخزاعي. ضمرة بن بغيض الليثي، ضمرة بن جندب الضمري، ضمرة بن ضمرة بن نعيم. ضمرة من خزاعة كذا. ضمرة بن العيص. العيص بن ضمرة بن زنباع، حبيب بن ضمرة، أكثم بن صيفي.
والذين قالوا: إنها الهجرة إلى الحبشة قالوا: إن المعني بمن يخرج من بيته خالدين حزام بن خويلد الأسدي ابن أخي خديجة أم المؤمنين، خرج مهاجرا إلى الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات. وسياق الشرط يأبى هذا التفسير.
--------------
وفي الأم (1):
فَرْضُ الْهِجْرَةِ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجِهَادَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَجَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إذْ كَانَ أَبَاحَهُ وَأَثْخَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَرَأَوْا كَثْرَةَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اشْتَدُّوا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَفَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ , أَوْ مَنْ فَتَنُوا مِنْهُمْ فَعَذَرَ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ الْمَفْتُونِينَ فَقَالَ { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ * وَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا وَفَرَضَ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ الْخُرُوجَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُفْتَنُ عَنْ دِينِهِ , وَلَا يُمْتَنَعُ * فَقَالَ فِي رَجُلٍ مِنْهُمْ تُوُفِّيَ تَخَلَّفَ عَنْ الْهِجْرَةِ فَلَمْ يُهَاجِرْ { الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَا كُنْتُمْ * الْآيَةَ . وَأَبَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَقَالَ { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً * إلَى " رَحِيمًا " . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى وَيُقَالُ " عَسَى " مِنْ اللَّهِ وَاجِبَةٌ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَطَاقَهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ فُتِنَ عَنْ دِينِهِ بِالْبَلَدِ الَّذِي يُسْلِمُ بِهَا ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِقَوْمٍ بِمَكَّةَ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ مِنْهُمْ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَغَيْرُهُ إذْ لَمْ يَخَافُوا الْفِتْنَةَ { وَكَانَ يَأْمُرُ جُيُوشَهُ أَنْ يَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ إنْ هَاجَرْتُمْ فَلَكُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ , وَإِنْ أَقَمْتُمْ فَأَنْتُمْ كَأَعْرَابٍ وَلَيْسَ يُخَيِّرُهُمْ إلَّا فِيمَا يَحِلُّ لَهُمْ * .
وفي أحكام القرآن له :
__________
(1) - الأم - (ج 4 / ص 220)(1/153)
فَرْضُ الْهِجْرَةِ وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : وَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) الْجِهَادَ , عَلَى رَسُولِهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : جِهَادَ الْمُشْرِكِينَ ; بَعْدَ إذْ كَانَ أَبَاحَهُ ; وَأَثْخَنَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَرَأَوْا كَثْرَةَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اشْتَدُّوا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ ; فَفَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ , أَوْ مَنْ فَتَنُوا مِنْهُمْ . فَعَذَرَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ الْمَفْتُونِينَ . فَقَالَ : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ * , وَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَنَّ اللَّهَ ( عَزَّ وَجَلَّ ) جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا . وَفَرَضَ عَلَى مَنْ قَدِرَ عَلَى الْهِجْرَةِ , الْخُرُوجَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُفْتَتَنُ عَنْ دِينِهِ , وَلَا يُمْنَعُ . فَقَالَ فِي رَجُلٍ مِنْهُمْ تُوُفِّيَ : تَخَلَّفَ عَنْ الْهِجْرَةِ , فَلَمْ يُهَاجِرْ { الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ * الْآيَةَ . وَأَبَانَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) عُذْرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ , فَقَالَ : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ * الْآيَةَ قَالَ : وَيُقَالُ : ( عَسَى ) مِنْ اللَّهِ : وَاجِبَةٌ . وَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَطَاقَهَا , إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ فُتِنَ عَنْ دِينِهِ , بِالْبَلْدَةِ الَّتِي يُسْلِمُ بِهَا . لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَذِنَ لِقَوْمٍ بِمَكَّةَ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا , بَعْدَ إسْلَامِهِمْ مِنْهُمْ : الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , وَغَيْرُهُ إذْ لَمْ يَخَافُوا الْفِتْنَةَ . وَكَانَ يَأْمُرُ جُيُوشَهُ أَنْ يَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ إنْ هَاجَرْتُمْ فَلَكُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَإِنْ أَقَمْتُمْ فَأَنْتُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ يُخَيِّرُهُمْ , إلَّا فِيمَا يَحِلُّ لَهُمْ .
وفي مشكل الاثار (1):
بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّبَبِ الَّذِي فِيهِ نَزَلَتْ { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ * ) الْآيَةَ .
__________
(1) - بيان مشكل الآثار ـ الطحاوى - (ج 8 / ص 146)(1/154)
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْقِذٍ جَمِيعًا قَالَا : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئِ قَالَ : حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْأَسَدِيُّ قَالَ : قُطِعَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْثٌ إلَى الْيَمَنِ فَكُنْتُ فِيهِمْ فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ فَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ فَيَأْتِي السَّهْمُ بِرِمَايَةٍ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ * . وَحَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ : ثنا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ قَالَ : ثنا أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَأْتِي السَّهْمُ بِرِمَايَةٍ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ * إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَحَدَّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ يُونُسَ قَالَ : ثنا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الْأَعْرَجُ قَالَ : ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ الْمَكِّيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِالْإِسْلَامِ فَأَخْرَجَهُمْ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ بَعْضُهُمْ قَبْلَ بَعْضٍ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفِرُوا لَهُمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ * إلَى آخِرِ الْآيَةِ . فَقَالَ قَائِلٌ : مَا مَعْنَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الَّذِي وَصَلَهُ بِمَا تَلَوْتَهُ عَلَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ * وَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذُنُوبٌ فَيُعْفَى لَهُمْ عَنْهَا . وَالْعَفْوُ فَإِنَّمَا يَكُونُ عَنْ مُسْتَحَقِّي الْعُقُوبَاتِ بِذُنُوبِهِمْ , وَهَؤُلَاءِ لَا ذُنُوبَ لَهُمْ فِيمَا ذُكِرُوا بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهَا فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَعَوْنِهِ أَنَّ الْعَفْوَ عَفْوَانِ فَعَفْوٌ مِنْهُمَا هُوَ الْعَفْوُ الَّذِي ذُكِرَ وَعَفْوٌ مِنْهُمَا هُوَ رَفْعُ الْعِبَادَةِ فِيمَا يُرْفَعُ فِيهِ فَيُعَادُ لَا عِبَادَةَ فِيهِ يَجِبُ بِالْقِيَامِ بِهَا الثَّوَابُ وَيَسْتَحِقُّ بِالتَّرْكِ لَهَا الْعِقَابَ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { قَدْ عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ * لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَيْئًا قَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَعَفَا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ , وَلَكِنَّهُ عَلَى التَّرْكِ لَهُمْ إيَّاهُمْ بِلَا حَقٍّ عَلَيْهِمْ فِيهِمْ وَلَا عِبَادَةٍ تَعَبَّدُوا بِهَا فِيهِمْ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ وَيَدَعُونَ أَشْيَاءَ تَقَذُّرًا فَلَمَّا بَعَثَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ فَمَا حَرَّمَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا أَحَلَّ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ . فَكَانَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ الْعَفْوَ عَنْ عُقُوبَاتِ ذُنُوبٍ كَانَتْ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ , وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ بِهِ تَرْكَ مَا عُفِيَ لَهُمْ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِلَا عِبَادَةٍ تَعَبَّدَهُمْ بِهَا يُوجِبُ إتْيَانُهُمْ بِهَا لَهُمْ الثَّوَابَ وَيُوجِبُ تَرْكُهُمْ الْإِتْيَانَ بِهَا عَلَيْهِمْ الْعِقَابَ فَمِثْلُ ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَفْوُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلَوْنَاهَا عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا بِقَوْلِهِ { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ * وَقَوْلُهُ { عَسَى اللَّهُ أَنْ(1/155)
يَعْفُوَ عَنْهُمْ * . هُوَ عَلَى إيجَابِهِ الْعَفْوَ مِنْهُ لَهُمْ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْمَقَامِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ حِيلَةٌ فِي التَّحَوُّلِ عَنْهُ , وَفِي الِانْتِقَالِ مِنْهُ إلَى ضِدِّهِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمَحْمُودَةِ فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَتَعَبَّدْهُمْ فِيهِ بِمَا تَعَبَّدَ بِهِ مَنْ سِوَاهُمْ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا * .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ بِإِسْنَادِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا .
وَكَانَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي وَعِيدٍ غَلِيظٍ فَرَفَعَ اللَّهُ مِثْلَهُ عَنْ الْمُقِيمِينَ فِي تِلْكَ الْأَمْكِنَةِ بِلَا اسْتِطَاعَةٍ مِنْهُمْ الْهَرَبَ عَنْهَا وَالتَّحَوُّلَ مِنْهَا إلَى الْأَمْكِنَةِ الْمَحْمُودَةِ وَرَفَعَ عَنْهُمْ التَّعَبُّدَ فِي ذَلِكَ بِهَذَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ فِي ذَلِكَ وَإِيَّاهُ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ .
-------------------
وقال الجصاص (1):
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ * الْآيَةَ . قِيلَ فِيهِ تُقْبَضُ أَرْوَاحُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ . وَقَالَ الْحَسَنُ : تَحْشُرُهُمْ إلَى النَّارِ . وَقِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ خَوْفًا وَإِذَا رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ أَظْهَرُوا لَهُمْ الْكُفْرَ وَلَا يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ , فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا ذَكَرَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَبِتَرْكِهِمْ الْهِجْرَةَ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِ الْهِجْرَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ , لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِهَا ; وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُكَلَّفُونَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهَا ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَمَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى تَرْكِ الْهِجْرَةِ , وَهَذَا نَظِيرُ قوله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى * فَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ . وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِهِ وَلَمَا قَرَنَهُ إلَى مُشَاقَّة رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْمُقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ , لقوله تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ إلَى أَيِّ أَرْضٍ كَانَتْ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تَخَلَّفُوا عَنْ الْهِجْرَةِ وَأَعْطَوْا الْمُشْرِكِينَ الْمَحَبَّةَ وَقُتِلَ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ عَلَى ظَاهِرِ الرِّدَّةِ , ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ الَّذِينَ أَقْعَدَهُمْ الضَّعْفُ بِقَوْلِهِ : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * يَعْنِي طَرِيقًا إلَى الْمَدِينَةِ دَارِ الْهِجْرَةِ . وقوله تعالى : { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ * قَالَ الْحَسَنُ : عَسَى مِنْ اللَّهِ وَاجِبَةٌ وَقِيلَ : إنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَعْدِ ; لِأَنَّهُ لَا يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْ شَكٍّ وَقِيلَ : إنَّمَا هَذَا عَلَى شَكِّ الْعِبَادِ , أَيْ كُونُوا أَنْتُمْ عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ .
------------------
وفي المحلى لابن حزم (2):
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 5 / ص 56)
(2) -المحلى [مشكول و بالحواشي] - (ج 11 / ص 257) والمحلى لابن حزم - (ج 7 / ص 160)(1/156)
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نا أَبُو الْوَلِيدِ - هُوَ الطَّيَالِسِيُّ - نا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : { لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهُ , وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِرْقَتَيْنِ : فِرْقَةٌ تَقُولُ : نُقَاتِلُهُمْ , وَفِرْقَةٌ تَقُولُ : لَا نُقَاتِلُهُمْ , فَنَزَلَتْ { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ * * فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ , وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى أُولَئِكَ : مُنَافِقِينَ . وَأَمَّا قوله تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً * إلَى قوله تعالى : { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ تَعَالَى عَنَى بِذَلِكَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ , وَهُوَ كَانَ الْأَظْهَرَ لَوْلَا قوله تعالى { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ * فَهَذَا يُوَضِّحُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ فِي قَوْمٍ آخَرِينَ غَيْرِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ , لِأَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مِنْ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ بِلَا شَكٍّ , وَلَيْسَ عَلَى سُكَّانِ الْمَدِينَةِ هِجْرَةٌ , بَلْ الْهِجْرَةُ كَانَتْ إلَى دَارِهِمْ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَحُكْمُ الْآيَةِ كُلِّهَا أَنَّهَا فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ لَمْ يُؤْمِنُوا بَعْدُ , وَادَّعُوا أَنَّهُمْ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا , وَكَانَ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ : أَنَّ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِإِيمَانِهِ , وَكَانَ كَافِرًا كَسَائِرِ الْكُفَّارِ وَلَا فَرْقَ , حَتَّى يُهَاجِرَ , إلَّا مَنْ أُبِيحَ لَهُ سُكْنَى بَلَدِهِ , كَمَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ , وَالْبَحْرَيْنِ , وَسَائِرِ مَنْ أُبِيحَ لَهُ سُكْنَى أَرْضِهِ , إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * فَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْوِلَايَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ , فَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ . وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ * إلَى قَوْلِهِ { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ * الْآيَةَ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَعْنَى { حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ * أَيْ حَتَّى يُجَاهِدُوا مَعَكُمْ , بِخِلَافِ فِعْلِهِمْ حِينَ انْصَرَفُوا عَنْ أُحُدٍ وَأَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْآيَةَ كُلَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْ أُحُدٍ ؟ قِيلَ لَهُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - : هَذَا مُمْكِنٌ , وَلَكِنْ قَدْ قَالَ تَعَالَى { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ * فَأَخْبِرُونَا هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ عليه السلام فَقَتَلَ الرَّاجِعِينَ عَنْ أُحُدٍ حَيْثُ وَجَدَهُمْ ؟ وَهَلْ أَخَذَهُمْ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا : قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ , كَذَبُوا كَذِبًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ , وَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ شَكٌّ فِي أَنَّهُ - عليه السلام - لَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا نَبَذَ الْعَهْدَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ . وَإِنْ قَالُوا : لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ - عليه السلام - وَلَا الْمُؤْمِنُونَ ؟ قِيلَ لَهُمْ : صَدَقْتُمْ , وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ - عليه السلام - خَالَفَ أَمْرَ رَبِّهِ , فَأَمَرَهُ تَعَالَى إنْ تَوَلَّوْا بِقَتْلِهِمْ , حَيْثُ وَجَدَهُمْ , فَلَمْ يَفْعَلْ , وَهَذَا كُفْرٌ مِمَّنْ ظَنَّهُ بِلَا شَكٍّ . فَإِنْ قَالُوا : لَمْ يَتَوَلَّوْا بَلْ تَابُوا وَرَجَعُوا وَجَاهَدُوا ؟ قِيلَ لَهُمْ : فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ النِّفَاقِ عَنْهُمْ - بِلَا شَكٍّ - وَحَصَلَ لَهُمْ حُكْمُ الْإِعْلَامِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ - بِلَا شَكٍّ - فَقَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ جُمْلَةً فِي أَنَّهُ - عليه السلام - كَانَ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ . وَلَكِنْ فِي قوله تعالى { إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ * إلَى قوله تعالى : { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * بَيَانٌ جَلِيٌّ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ مِنْ الْأَوْسِ وَلَا مِنْ الْخَزْرَجِ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَوْمٌ مُحَارِبُونَ لِلنَّبِيِّ - عليه السلام - وَلَا نُسِبُوا قَطُّ إلَى قَوْمٍ مُعَاهِدِينَ(1/157)
النَّبِيَّ - عليه السلام - بِمِيثَاقٍ مَعْقُودٍ , هَذَا مَعَ قوله تعالى { فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ * إلَى قوله تعالى { سَبِيلًا * فَإِنَّ هَذَا بَيَانٌ جَلِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ الْأَنْصَارِ , وَمِنْ غَيْرِ الْمُنَافِقِينَ , لَكِنْ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُجَاهِرِينَ بِالْكُفْرِ . إلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : إنَّ قوله تعالى { إلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ * اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي قَوْلِ { آخَرِينَ * وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُ النِّفَاقِ عَلَى أُولَئِكَ إنْ كَانَ هَكَذَا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ أَنَّ فِي قوله تعالى { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً * أَنَّهُ فِي قَوْمٍ مِنْ الْكُفَّارِ غَيْرِ أُولَئِكَ , فَحَسْبُنَا أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى أُولَئِكَ الرَّاجِعِينَ " مُنَافِقِينَ " فَصَارُوا مَعْرُوفِينَ ؟ قِيلَ لَهُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : وَقَدْ قُلْنَا إنَّ النِّفَاقَ قِسْمَانِ : قِسْمٌ لِمَنْ يُظْهِرُ الْكُفْرَ وَيُبْطِنُ الْإِيمَانَ , وَقِسْمٌ لِمَنْ يُظْهِرُ غَيْرَ مَا يُضْمِرُ فِيمَا سِوَى الدِّينِ وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا , وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ : إنَّا نَدْخُلُ عَلَى الْإِمَامِ فَيَقْضِي بِالْقَضَاءِ فَنَرَاهُ جَوْرًا فَنَمْسِكُ ؟ فَقَالَ : إنَّا مَعْشَرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعُدُّ هَذَا نِفَاقًا , فَلَا نَدْرِي مَا تَعُدُّونَهُ أَنْتُمْ ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَإِنْ صَلَّى وَإِنْ صَامَ وَقَالَ إنِّي مُسْلِمٌ * . فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَقْطَعَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِسْلَامِ إلَّا بِنَصٍّ , وَلَكِنَّا نَقْطَعُ عَلَيْهِمْ بِمَا قَطَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ اسْمِ النِّفَاقِ , وَالضَّلَالَةِ , وَالْإِرْكَاسِ , وَخِلَافِ الْهُدَى - وَلَا نَزِيدُ وَلَا نَتَعَدَّى مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِآرَائِنَا - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * إلَى قَوْلِهِ : { أَجْرًا عَظِيمًا * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَمُنَافِقُونَ النِّفَاقَ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ , فَلَا شَكَّ لِنَصِّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُمْ مُذَبْذَبُونَ , لَا إلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا إلَى الْمُجَاهِرِينَ بِالْكُفْرِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ , وَأَنَّهُمْ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْ الْكُفَّارِ , بِكَوْنِهِمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . وَلَكِنْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَهُمْ , بِأَعْيَانِهِمْ , وَعَرَفَ نِفَاقَهُمْ , إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ , فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَهُمْ , وَعَرَفَ نِفَاقَهُمْ . ثُمَّ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ قوله تعالى { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ * إلَى قوله تعالى { أَجْرًا عَظِيمًا * مُوجِبًا لِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ إذَا تَابُوا - وَهُمْ قَدْ أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ , وَالنَّدَمَ , وَالْإِقْرَارَ بِالْإِيمَانِ بِلَا شَكٍّ , فَبَطَلَ عَنْهُمْ بِهَذَا حُكْمُ النِّفَاقِ جُمْلَةً فِي الدُّنْيَا , وَبَقِيَ بَاطِنُ أَمْرِهِمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي عَلَى كُلِّ آيَةٍ فِيهَا نَصٌّ بِأَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَ مُنَافِقًا بِعَيْنِهِ , وَعَرَفَ نِفَاقَهُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ * إلَى قوله تعالى { فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمٍ يُسَارِعُونَ فِي الَّذِينَ كَفَرُوا حَذَرًا أَنْ تُصِيبَهُمْ دَائِرَةٌ , وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْكَافِرِينَ { أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ * يَعْنُونَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا خَبَرًا عَنْ قَوْمٍ أَظْهَرُوا الْمَيْلَ إلَى الْكُفَّارِ فَكَانُوا مِنْهُمْ كُفَّارًا خَائِبِي الْأَعْمَالِ وَلَا يَكُونُونَ فِي الْأَغْلَبِ إلَّا مَعْرُوفِينَ , لَكِنَّ قوله تعالى { فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * دَلِيلٌ عَلَى(1/158)
نَدَامَتِهِمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ , وَأَنَّ التَّوْبَةَ لَهُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذِهِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ * إلَى قوله تعالى { لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ * قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَهَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ بِلَا شَكٍّ , وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْلَمُونَهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخَاطَبٌ بِهَذَا الْخِطَابِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا شَكٍّ فَهُوَ لَا يَعْلَمُهُمْ , وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُهُمْ , وَقَالَ تَعَالَى { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوك * إلَى قوله تعالى { كَارِهُونَ * ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : لَيْسَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إلَّا أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ كَاذِبِينَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ فِي ذَلِكَ , وَأَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ , وَهَذِهِ صِفَةُ كُلِّ عَاصٍ فِي مَعْصِيَتِهِ . وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا : مُعَاتَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عليه السلام - عَلَى إذْنِهِ لَهُمْ . وَأَمَّا قوله تعالى { لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ * إلَى قوله تعالى { يَتَرَدَّدُونَ * فَإِنَّ وَجْهَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ لَا تُصْرَفَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ نَصٍّ , وَلَا إجْمَاعٍ : أَنَّهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ ; لِأَنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ الِاسْتِقْبَالِ . وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ تَبُوكَ , وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ تَبُوكَ غَزْوَةٌ أَصْلًا , وَلَكِنَّا نَقْطَعُ عَلَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هُنَاكَ غَزْوَةٌ بَعْدَ تَبُوكَ وَبَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فَاسْتَأْذَنَ قَوْمٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْقُعُودِ دُونَ عُذْرٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَكَانُوا بِلَا شَكٍّ مُرْتَابَةً قُلُوبُهُمْ كُفَّارًا بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مُتَرَدِّدِينَ فِي الرَّيْبِ - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ . ثُمَّ قوله تعالى { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً * إلَى قوله تعالى { كَارِهُونَ * فَهَذِهِ أَخْبَارٌ عَمَّا خَلَا لَهُمْ وَعَنْ سَيِّئَاتٍ اقْتَرَفُوهَا , وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُوجِبُ لَهُمْ الْكُفْرَ , حَتَّى لَوْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وقوله تعالى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي * إلَى قوله تعالى { وَهُمْ فَرِحُونَ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : قَدْ قِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ - وَهَذَا لَا يَنْسَنِدُ أَلْبَتَّةَ , وَإِنَّمَا هُوَ مُنْقَطِعٌ مِنْ أَخْبَارِ الْمَغَازِي , وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ يُقَالُ : هَذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَا شَكٍّ . وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ كَفَرَ بِذَلِكَ , وَلَكِنَّهُ عَصَى و ( . . . ) وَأَذْنَبَ , وَبَلَى { إنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ بِهَذَا النَّصِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ كَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ . وَأَمَّا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ إنْ أَصَابَتْ رَسُولَهُ - عليه السلام - سَيِّئَةٌ وَمُصِيبَةٌ تَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ , أَوْ أَنَّهُ إنْ أَصَابَتْهُ حَسَنَةٌ سَاءَتْهُمْ , فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ بِلَا شَكٍّ , وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ : ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي , كَانَ مِنْهُمْ , وَلَا فِيهَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام عَرَفَهُمْ وَعَرَفَ نِفَاقَهُمْ - فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَقَالَ تَعَالَى { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ * إلَى قَوْلِهِ { يَفْرَقُونَ * ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَكُفَّارٌ بِلَا شَكٍّ , مُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ , وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ - عليه السلام - عَرَفَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ , وَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا , وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةٌ وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ لِيُمَيِّزُوهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ . وَلَيْسَ فِي قوله تعالى { فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ * دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ , وَأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ نِفَاقَهُمْ , بَلْ قَدْ كَانَ لِلْفُضَلَاءِ مِنْ الْأَنْصَارِ - رضي الله عنهم - الْأَمْوَالُ الْوَاسِعَةُ , وَالْأَوْلَادُ النُّجَبَاءُ الْكَثِيرُ : كَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ , وَأَبِي طَلْحَةَ , وَغَيْرِهِمَا - فَهَذِهِ(1/159)
صِفَةٌ عَامَّةٌ يَدْخُلُ فِيهَا الْفَاضِلُ الصَّادِقُ , وَالْمُنَافِقُ , فَأَمَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ أَنْ لَا تُعْجِبَهُ أَمْوَالَهُمْ , وَلَا أَوْلَادَهُمْ , عُمُومًا , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ وَيَمُوتُوا كُفَّارًا وَلَا بُدَّ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُك فِي الصَّدَقَاتِ * إلَى قوله تعالى { رَاغِبُونَ * ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رحمه الله : وَهَذَا لَا يَدُلُّ أَلْبَتَّةَ لَا بِنَصٍّ , وَلَا بِدَلِيلٍ عَلَى كُفْرِ مَنْ فَعَلَ هَذَا , وَلَكِنَّهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا شَكٍّ . وَقَالَ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ * إلَى قوله تعالى { ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ * . قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِ مَنْ قَالَ حِينَئِذٍ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُذُنٌ , وَإِنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا مَنْ قَالَ ذَلِكَ , وَآذَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ , وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ , وَأَنَّ مَنْ حَادَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَلَهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا . فَقَدْ جَاءَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك لَأَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ إلَّا نَفْسِي , فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلَامًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَمَّا الْآنَ فَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَا يَصِحُّ أَنَّ أَحَدًا عَادَ إلَى أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُحَادَّتِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِالنَّازِلِ فِي ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا كَانَ كَافِرًا . وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ امْرَأً لَوْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْخَمْرَ - حَلَالٌ , وَأَنْ لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ صَلَاةٌ , وَهُوَ لَمْ يَبْلُغْهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِلَا خِلَافٍ يُعْتَدُّ بِهِ , حَتَّى إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَتَمَادَى حِينَئِذٍ بِإِجْمَاعِ الْأَمَةِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَيُبَيَّنُ هَذَا قوله تعالى فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ { يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * فَقَدْ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَإِرْضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَقُّ عَلَيْهِمْ مِنْ إرْضَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَصَحَّ هَذَا بِيَقِينٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَسْتَعِينُ . وَقَالَ تَعَالَى { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا لَا نَصَّ فِيهَا عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَلَا مُتَعَلَّقَ فِيهَا لِأَحَدٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى . وَقَالَ تَعَالَى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ * إلَى قوله تعالى { كَانُوا مُجْرِمِينَ * . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذِهِ بِلَا شَكٍّ فِي قَوْمٍ مَعْرُوفِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَلَكِنَّ التَّوْبَةَ مَبْسُوطَةٌ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * فَصَحَّ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ وَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ , فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ اللَّهُ تَعَالَى تَوْبَتَهُ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَهُ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِصِحَّتِهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ فِي الْبَاطِنِ فَهُمْ الْمُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ , وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَقَدْ تَابَ جَمِيعُهُمْ بِنَصِّ الْآيَةِ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
--------------------
وفي المغني لابن قدامة : فَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ (1):
__________
(1) - المغني - (ج 21 / ص 114)(1/160)
وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * . الْآيَاتِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكَيْنِ , لَا تَرَاءَا نَارَاهُمَا * . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ , وَيَرَوْنَ نَارَهُ , إذَا أُوقِدَتْ . فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى هَذَيْنِ كَثِيرٍ . وَحُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقٍ , لَا يَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَقَالَ قَوْمٌ : قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * . وَقَالَ : { قَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ * . وَرُوِيَ { أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا أَسْلَمَ , قِيلَ لَهُ : لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ . فَأَتَى الْمَدِينَةَ , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مَا جَاءَ بِك أَبَا وَهْبٍ ؟ قَالَ : قِيلَ إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ . قَالَ : ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إلَى أَبَاطِحِ مَكَّةَ , أَقِرُّوا عَلَى مَسَاكِنِكُمْ , فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ * . رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ سَعِيدٌ . وَلَنَا مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ , قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ , وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا * . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ , قَالَ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا كَانَ الْجِهَادُ * . رَوَاهُ سَعِيدٌ , وَغَيْرُهُ , مَعَ إطْلَاقِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا , وَتَحَقُّقِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ , فَأَرَادَ بِهَا لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مِنْ بَلَدٍ قَدْ فُتِحَ . وَقَوْلُهُ لِصَفْوَانَ : " إنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ " . يَعْنِي مِنْ مَكَّةَ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفَّارِ , فَإِذَا فُتِحَ لَمْ يَبْقَ بَلَدَ الْكُفَّارِ , فَلَا تَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ . وَهَكَذَا كُلِّ بَلَدٍ فُتِحَ لَا يَبْقَى مِنْهُ هِجْرَةٌ , وَإِنَّمَا الْهِجْرَةُ إلَيْهِ . إذَا ثَبَتَ هَذَا , فَالنَّاسُ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ; أَحَدُهَا , مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ , وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا , وَلَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ , وَلَا تُمْكِنُهُ إقَامَةُ وَاجِبَاتِ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ بَيْنَ الْكُفَّارِ , فَهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * . وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ . وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِوَاجِبِ دِينِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ , وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَتَتِمَّتِهِ , وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . الثَّانِي ; مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ . وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا , إمَّا لِمَرَضٍ , أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ , أَوْ ضَعْفٍ ; مِنْ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَشِبْهِهِمْ , فَهَذَا لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * . وَلَا تُوصَفُ بِاسْتِحْبَابٍ ; لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا . وَالثَّالِثُ , مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ , وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ . وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا , لَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ , وَإِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ , فَتُسْتَحَبُّ لَهُ , لِيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ , وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ , وَمَعُونَتِهِمْ , وَيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ , وَمُخَالَطَتِهِمْ , وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ . وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ ; لِإِمْكَانِ إقَامَةِ وَاجِبِ دِينِهِ بِدُونِ(1/161)
الْهِجْرَةِ . وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ . وَرَوَيْنَا { أَنَّ نُعَيْمَ النَّحَّامَ , حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ , جَاءَهُ قَوْمُهُ بَنُو عَدِيٍّ , فَقَالُوا لَهُ : أَقِمْ عِنْدَنَا , وَأَنْتَ عَلَى دِينِك , وَنَحْنُ نَمْنَعُك مِمَّنْ يُرِيدُ أَذَاك , وَاكْفِنَا مَا كُنْت تَكْفِينَا . وَكَانَ يَقُومُ بِيَتَامَى بَنِي عَدِيٍّ وَأَرَامِلِهِمْ , فَتَخَلَّفَ عَنْ الْهِجْرَةِ مُدَّةً , ثُمَّ هَاجَرَ بَعْدُ , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : قَوْمُك كَانُوا خَيْرًا لَك مِنْ قَوْمِي لِي , قَوْمِي أَخْرَجُونِي , وَأَرَادُوا قَتْلِي , وَقَوْمُك حَفِظُوك وَمَنَعُوك . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : بَلْ قَوْمُك أَخْرَجُوك إلَى طَاعَةِ اللَّهِ , وَجِهَادِ عَدُوِّهِ وَقَوْمِي ثَبَّطُونِي عَنْ الْهِجْرَةِ , وَطَاعَةِ اللَّهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ * .
---------------------
وفي أسنى المطالب (1):
( فَصْلٌ : تَجِبُ الْهِجْرَةُ ) مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ( عَلَى مُسْتَطِيعٍ ) لَهَا ( إنْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ ) لقوله تعالى { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ * الْآيَةَ وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ * سَوَاءٌ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا وَكَذَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ حَقًّا بِبَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إظْهَارِهِ تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ مِنْهَا نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ صَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ وَنَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْبَغَوِيّ أَيْضًا وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ فِي إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ لَهُ الْإِقَامَةُ , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْهِجْرَةَ فَهُوَ مَعْذُورٌ إلَى أَنْ يَسْتَطِيعَ , فَإِنْ فُتِحَ الْبَلَدُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ سَقَطَ عَنْهُ الْهِجْرَةُ صُرِّحَ بِهِ الْأَصْلُ .
( قَوْلُهُ : مِنْ دَارِ الْكُفْرِ ) عَبَّرَ فِي التَّنْبِيهِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَذَكَرَ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ مِنْ بَلَدِ الْهُدْنَةِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إظْهَارِهِ ) أَوْ خَافَ فِتْنَةً فِيهِ وَكَتَبَ أَيْضًا تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ مِنْهَا لِأَنَّ الْمُقَامَ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْمُنْكَرِ مُنْكَرٌ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَبْعَثُ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ ( قَوْلُهُ : نَقَلَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ ذَلِكَ إلَخْ ( قَوْلُهُ : فَتَجُوزُ الْإِقَامَةُ ) بَلْ تُرَجَّحُ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ { إسْلَامَ الْعَبَّاسِ كَانَ قَبْلَ بَدْرٍ وَكَانَ يَكْتُمُ إسْلَامَهُ وَيَكْتُبُ بِأَخْبَارِ الْمُشْرِكِينَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَتَقَوَّى بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَكَانَ يُحِبُّ الْهِجْرَةَ فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ مُقَامَك بِمَكَّةَ خَيْرٌ لَك *
( وَإِنْ قَدَرَ ) عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ لِكَوْنِهِ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ أَوْ لِأَنَّ لَهُ عَشِيرَةً تَحْمِيه ( وَلَمْ يَخَافُ فِتْنَةً فِيهِ اُسْتُحِبَّ ) لَهُ أَنْ يُهَاجِرَ لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ أَوْ يَمِيلَ إلَيْهِمْ أَوْ يَكِيدُوا لَهُ وَلَا يَجِبُ ; { لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عُثْمَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ إلَى مَكَّةَ * ; لِأَنَّ عَشِيرَتَهُ بِهَا فَيَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ ( لَا إنْ رَجَا إسْلَامَ غَيْرِهِ ) ثُمَّ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُهَاجِرَ بَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ .
ثُمَّ ( فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِاعْتِزَالِ وَالِامْتِنَاعِ ) فِي دَارِ الْحَرْبِ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ وَلَمْ يَخَفْ فِتْنَةً فِيهِ ( حَرُمَتْ ) أَيْ الْهِجْرَةُ مِنْهَا ; لِأَنَّ مَوْضِعَهُ دَارُ إسْلَامٍ فَلَوْ هَاجَرَ لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ نَعَمْ إنْ رَجَا نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِهِجْرَتِهِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُهَاجِرَ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ( وَقَاتَلَهُمْ ) عَلَى الْإِسْلَامِ ( إنْ قَدَرَ ) وَإِلَّا فَلَا .
قَوْلُهُ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ ( قَوْلُهُ : وَقَاتِلْهُمْ ) أَيْ وُجُوبًا
__________
(1) -أسنى المطالب - (ج 21 / ص 91)(1/162)
( وَعَلَى الْأَسِيرِ ) وَلَوْ مُخْلًى وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ ( الْهَرَبُ إنْ قَدَرَ ) عَلَيْهِ لِخُلُوصِهِ بِهِ مِنْ قَهْرِ الْأَسْرِ فَوَصْفُ الْأَصْلِ الْأَسِيرَ بِالْمَقْهُورِ بَيَانٌ لِحَقِيقَتِهِ لَا لِإِخْرَاجِ أَسِيرٍ غَيْرِ مَقْهُورٍ وَتَقْيِيدِي بِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ هُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ كَالْقَمُولِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ إنَّهُ قِيَاسُ مَا مَرَّ فِي الْهِجْرَةِ لَكِنَّهُ قَالَ قَبْلَهُ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَمْ لَا وَنَقَلَهُ عَنْ تَصْحِيحِ الْإِمَامِ .
( قَوْلُهُ : فَوَصْفُ الْأَصْلِ الْأَسِيرَ بِالْمَقْهُورِ إلَخْ ) قَالَ الْأَذْرَعِيُّ حَذَفَ فِي الْمِنْهَاجِ وَالْمُحَرَّرِ لَفْظَةَ الْمَقْهُورِ وَهُوَ الْأَجْوَدُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ قَيْدٌ فِي الْوُجُوبِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ غَيْرَ الْمَقْهُورِ الْهَرَبُ ( قَوْلُهُ : لَكِنَّهُ قَالَ قَبْلَهُ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ إلَخْ ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ ( قَوْلُهُ : وَنَقَلَهُ عَنْ تَصْحِيحِ الْإِمَامِ ) عِبَارَتُهُ وَحَكَى الْإِمَامُ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ إذَا أَمْكَنَتْهُ إقَامَةُ شِعَارِ الشَّرِيعَةِ قَالَ وَ الْأَصَحُّ الْمَنْعُ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ مُنْتَهَرٌ مُهَانٌ ( قَوْلُهُ : جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ ) لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَسِيرِ وَعِبَارَتُهُ يَجِبُ عَلَى الْأَسِيرِ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمٌ مُسْتَضْعَفٌ فِيهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ ا هـ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُمْكِنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْهُمْ أَوْ لَا قَالَ فِي الْبَسِيطِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً وَأَمْكَنَهُ إقَامَةُ شِعَارِ الشَّرِيعَةِ جَازَ لَهُ الْمُقَامُ وَهُوَ بَعِيدٌ ( قَوْلُهُ لَكِنَّهُ قَالَ قَبْلَهُ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَمْ لَا ) تَخْلِيصًا لِنَفْسِهِ مِنْ رِقِّ الْأَسْرِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ
( وَإِنْ أَطْلَقُوهُ ) مِنْ الْأَسْرِ ( بِلَا شَرْطٍ فَلَهُ اغْتِيَالُهُمْ ) قَتْلًا وَسَبْيًا وَأَخْذًا لِلْمَالِ إذْ لَا أَمَانَ .
( وَإِنْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ آمِنٌ ) مِنْهُمْ ( حَرُمَ ) عَلَيْهِ ( اغْتِيَالُهُمْ ) وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّنْهُمْ وَكَذَا إنْ أَمَّنَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّنُوهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ; لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَخْتَصُّ بِطَرَفٍ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْأُمِّ مَا لَوْ قَالُوا أَمَّنَّاك وَلَا أَمَانَ لَنَا عَلَيْك وَلَوْ تَبِعَهُ قَوْمٌ بَعْدَ خُرُوجِهِ فَلَهُ قَصْدُهُمْ وَقَتْلُهُمْ فِي الدَّفْعِ بِكُلِّ حَالٍ ذَكَرَهُ الْأَصْلُ .
( قَوْلُهُ : قَتَلَهُمْ بِكُلِّ حَالٍ إلَخْ ) لِأَنَّ الْقَتْلَ لِلدَّفْعِ لَيْسَ اغْتِيَالًا وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُمْ لِأَجْلِ الدَّفْعِ فَيُرَاعَى التَّرْتِيبُ فِي الصَّائِلِ وَقَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْإِمَامِ جَوَازُ الِاغْتِيَالِ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْأَمَانُ بِذَلِكَ وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَنَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي بَابِ الْهُدْنَةِ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْمَرَاوِزَةِ لِأَنَّهُمْ بِطَلَبِهِ نَاقِضُونَ لِلْعَهْدِ مَعَهُ وَصَرَّحَ الْكُلُّ بِأَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِغَيْرِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فس
( أَوْ ) أَطْلَقُوهُ ( بِشَرْطِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهُمْ وَحَلَّفُوهُ مُكْرَهًا ) عَلَى ذَلِكَ ( وَلَوْ بِالطَّلَاقِ خَرَجَ ) وُجُوبًا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ وَحَرُمَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ وَالْيَمِينِ لَا تُبِيحُ لَهُ الْإِقَامَةَ حَيْثُ حَرُمَتْ ( وَلَمْ يَحْنَثْ ) لِعَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِهِ ( وَإِنْ حَلَفَ لَهُمْ تَرْغِيبًا ) لَهُمْ لِيَثِقُوا بِهِ وَلَا يَتَّهِمُوهُ بِالْخُرُوجِ ( بِلَا شَرْطٍ ) مِنْهُمْ ( وَلَوْ ) كَانَ حَلِفُهُ ( قَبْلَ الْإِطْلَاقِ حَنِثَ ) بِخُرُوجِهِ لِانْعِقَادِ يَمِينِهِ فَإِنْ كَانَ ثَمَّ شَرْطٌ بِأَنْ قَالُوا : لَا نُطْلِقُك حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّك لَا تَخْرُجُ فَحَلَفَ فَأَطْلَقُوهُ فَخَرَجَ لَمْ يَحْنَثْ كَمَا لَوْ أَخَذَ اللُّصُوصُ رَجُلًا وَقَالُوا : لَا نَتْرُكُك حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّك لَا تُخْبِرُ بِمَكَانِنَا فَحَلَفَ ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَكَانِهِمْ لَمْ يَحْنَثْ ; لِأَنَّهُ يَمِينُ إكْرَاهٍ وَقَوْلُهُ مِنْ زِيَادَتِهِ بِلَا شَرْطٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ بَلْ قَدْ يُوهِمُ خِلَافَ الْمُرَادِ .
( وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ بَعْدُ ) أَيْ بَعْدَ إطْلَاقِهِ ; لِأَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ .(1/163)
( وَلَهُ ) عِنْدَ خُرُوجِهِ ( أَخْذُ مَالِ مُسْلِمٍ ) وَجَدَهُ عِنْدَهُمْ ( لِيَرُدَّهُ ) عَلَيْهِ ( وَلَوْ أَمَّنَهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يَضْمَنُهُ ) ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الْحَرْبِيِّ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَخَذَهُ شَخْصٌ مِنْ الْغَاصِبِ لِيَرُدَّهُ إلَى مَالِكِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ فَأُدِيمَ حُكْمُهُ وَتَرْجِيحُ عَدَمِ الضَّمَانِ مِنْ زِيَادَتِهِ .
( فَإِنْ الْتَزَمَ ) لَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِ ( مَالًا ) فِدَاءً ( وَهُوَ مُخْتَارٌ ) لَا مُكْرَهٌ ( أَوْ أَنْ يَعُودَ ) إلَيْهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ( حَرُمَ ) عَلَيْهِ ( الْعَوْدُ ) إلَيْهِمْ ( وَاسْتُحِبَّ ) لَهُ ( الْوَفَاءُ بِالْمَالِ ) الَّذِي الْتَزَمَهُ لِيَعْتَمِدُوا الشَّرْطَ فِي إطْلَاقِ الْأَسْرَى وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ; لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِغَيْرِ حَقٍّ قَالَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَالْمَالُ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِمْ فِدَاءٌ لَا يَمْلِكُونَهُ ; لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ حَقٍّ .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ الْتَزَمَ مَالًا فِدَاءً ) بِأَنْ عَاقَدَهُمْ عَلَيْهِ
( وَإِنْ بَايَعَهُمْ لَزِمَ الثَّمَنُ إنْ صَحَّ الْبَيْعُ ) كَمَا لَوْ بَايَعَ مُسْلِمًا ( وَإِلَّا رَدَّ الْعَيْنَ ) عِبَارَةُ الْأَصْلِ وَلَوْ اشْتَرَى مِنْهُمْ الْأَسِيرُ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إلَيْهِمْ ثَمَنَهُ أَوْ اقْتَرَضَ فَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ أَوْ مُكْرَهًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَيَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ كَمَا لَوْ أَكْرَهَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا عَلَى الشِّرَاءِ قَالَ وَلَوْ لَمْ يَجْرِ لَفْظُ بَيْعٍ بَلْ قَالُوا : خُذْ هَذَا وَابْعَثْ إلَيْنَا كَذَا مِنْ الْمَالِ فَقَالَ نَعَمْ فَهُوَ كَالشِّرَاءِ مُكْرَهٌ .
( قَوْلُهُ : عِبَارَةُ الْأَصْلِ وَلَوْ اشْتَرَى مِنْهُمْ إلَخْ ) مَا عَبَّرَ بِهِ هُوَ مُرَادُ الْأَصْلِ
( وَإِنْ وَكَّلُوهُ بِبَيْعِ شَيْءٍ ) لَهُمْ ( بِدَارِنَا بَاعَهُ وَرَدَّ ثَمَنَهُ ) إلَيْهِمْ .
( فَرْعٌ ) لَوْ ( تَبَارَزَا ) أَيْ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِدُونِهِ ( بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِعَانَةِ ) أَيْ أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْمُسْلِمُونَ الْمُسْلِمَ وَلَا الْكُفَّارُ الْكَافِرَ إلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ ( أَوْ ) بِغَيْرِ شَرْطٍ لَكِنْ ( كَانَ ) عَدَمُ الْإِعَانَةِ ( عَادَةً فَقَتَلَ ) الْكَافِرُ ( الْمُسْلِمَ أَوْ وَلَّى أَحَدُهُمَا ) مُنْهَزِمًا ( أَوْ أَثْخَنَ الْكَافِرُ قَتَلْنَاهُ ) جَوَازًا ; لِأَنَّ الْأَمَانَ كَانَ لِانْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَقَدْ انْقَضَى وَإِنْ شُرِطَ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لِلْمُثْخَنِ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَصْلُ .
( قَوْلُهُ : ذَكَرَهُ الْأَصْلُ ) هُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفُ وَإِنْ شَرَطَ الْأَمَانَ إلَخْ
--------------------
وفي البحر الزخار(1) :
__________
(1) - البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - زيدية - (ج 16 / ص 342)(1/164)
فَصْلٌ وَتَجِبُ الْهِجْرَةُ عَنْهَا إجْمَاعًا حَيْثُ حُمِلَ عَلَى مَعْصِيَةِ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ , أَوْ طَلَبَهَا الْإِمَامُ تَقْوِيَةً لِسُلْطَانِهِ " مَسْأَلَةٌ " ( ى هق ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إمَامٌ أَوْ كَانَ وَلَمْ يَطْلُبْهَا وَلَيْسَ بِمُتَمَيِّزٍ عَنْهُمْ تَمَيُّزًا ظَاهِرًا , لَزِمَتْهُ أَيْضًا لِئَلَّا يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ , وَذُرِّيَّتَهُ لِلسَّبْيِ , وَمَالَهُ لِلنَّهْبِ , وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ * , وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ * ( ى هق ) فَإِنْ تَمَيَّزَ لَمْ تَلْزَمْهُ إذْ لَا وَجْهَ لِوُجُوبِهَا سِوَى مَا ذَكَرْنَا , مِنْ اتِّقَاءِ جَرْيِ أَحْكَامِهِمْ عَلَيْهِ . قُلْت : بَلْ الْأَقْرَبُ لِلْمَذْهَبِ أَنَّهَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ عَنْهَا وَعَنْ دَارِ الْفِسْقِ إلَى خَلِيٍّ عَمَّا هَاجَرَ لِأَجْلِهِ , أَوْ مَا فِيهِ دُونَهُ , بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ أَوْ عُذْرٍ ( م ) لَا تَجِبُ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * قُلْنَا : مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ أَقَامَ فِي دَارِ الشِّرْكِ سَنَةً * وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { لَا يَحِلُّ لِعَيْنٍ تَرَى اللَّهَ يُعْصَى فَتَطْرِفَ حَتَّى تُغَيِّرَ أَوْ تَنْتَقِلَ , الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ لَا تَتَرَاءَى نِيرَانُهُمَا * وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وسلم { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * لَعَلَّهُ أَرَادَ مِنْ مَكَّةَ , لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ ( الْقَاضِي ) وَكُفْرُ التَّأْوِيلِ كَالتَّصْرِيحِ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ ( ى ) لَا تَجِبُ لِأَجْلِ كُفْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا فِسْقَ مَعَ التَّمْيِيزِ . لَنَا مَا مَرَّ .
فَصَلِّ وَتَجِبُ الْهِجْرَةُ ( قَوْلُهُ ) " فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ " تَقَدَّمَ . ( قَوْلُهُ ) " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ; وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ , وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا * أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إلَّا الْمُوَطَّأَ , وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ أُخَرُ . ( قَوْلُهُ ) { أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ أَقَامَ فِي دَارِ الشِّرْكِ سَنَةً * حَكَاهُ فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ هَكَذَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ , وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ . ( قَوْلُهُ ) { لَا يَحِلُّ لَعَيْنٍ تَرَى اللَّهَ يُعْصَى فَتَطْرِفَ حَتَّى تُغَيِّرَ أَوْ تَنْتَقِلَ * ذَكَرَهُ فِي الشِّفَاءِ وَغَيْرِهِ . ( قَوْلُهُ ) { الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ لَا تَتَرَاءَى نِيرَانُهُمَا * تَضَمَّنَ مَعْنَاهُ حَدِيثُ جَرِيرٍ الْمُتَقَدِّمُ .(1/165)
( فَرْعٌ ) فَأَمَّا تَعْظِيمُهُ لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ بِالْمُعَظِّمِ مِنْ تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ , أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ , فَالْأَقْرَبُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُبِحْهُ لِذَلِكَ إذْ عِتَابُ قوله تعالى { تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ * وَسَبَبُ نُزُولِهَا وَعُمُومُ لَفْظِ أَوَّلِهَا , لِكُلِّ عَدُوٍّ لِلَّهِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ ذَلِكَ , إذْ نَزَلَتْ مُعَاتِبَةً عَلَى مُدَاهَنَتِهِمْ رَجَاءَ مَنْفَعَتِهِمْ , وَلَفْظُهَا عَامٌّ لِكُلِّ مَوَدَّةٍ , فَلَا يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهَا , وَقَدْ نَبَّهَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قوله تعالى { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ * إلَى قَوْلِهِ { وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّ خَوْفَ الْمَضَرَّةِ مِنْ مُنَابَذَةِ الظَّالِمِينَ فِي النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ وَمُفَارِقَةِ الْأَحْبَابِ لَيْسَ وَجْهًا مُرَخِّصًا فِي تَرْكِ جِهَادِهِمْ حَيْثُ وَجَبَ , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَجَاءُ نَفْعِهِمْ وَخَوْفُ مَضَرَّتِهِمْ سَبَبَ تَرْخِيصٍ فِي جَوَازِ تَعْظِيمِهِمْ سِيَّمَا وَقَدْ قَرُبَ مِنْ التَّصْرِيحِ بِذَمِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ؟ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ . قَالُوا : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * وَكَفَى بِظَاهِرِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { الْقَوْا الْفُسَّاقَ بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ * وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم { مَنْ مَشَى إلَى ظَالِمٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الْإِسْلَامِ * فَلَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ إلَّا مَا خَصَّتْهُ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَمْ يُخَصَّصْ هَذَا الْوَجْهُ بِالْجَوَازِ دَلَالَةً , وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُ الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ مَعَ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي قَدَّمْنَا فِي حُكْمِ الْمُصَرِّحَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ , وَالْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ فِي الشَّمْسِ فِي ذَمِّ الْعُلَمَاءِ الْمُوَاصِلِينَ لِلْأُمَرَاءِ حَيْثُ قَالَ " فَأَصَبْتُمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ دُنْيَاهُمْ فِي دِينِكُمْ " مُصَرِّحٌ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ بِلَا إشْكَالٍ فَأَمَّا مَا اُشْتُهِرَ مِنْ مُوَاصَلَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام لِمُعَاوِيَةَ وَزَيْنِ الْعَابِدِينَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فَمَنْ بَحَثَ السِّيَرَ وَالْآثَارَ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إلَيْهِمْ وُصُولَ تَعْظِيمٍ فِي مُجَرَّدِ قَصْدِ زِيَارَةٍ أَوْ تَهْنِئَةٍ أَوْ وَدَاعٍ أَوْ وَجْهٍ يَقْصِدُونَ بِهِ مُدَارَاتَهُمْ بِوَجْهِ تَعْظِيمٍ وَإِنَّمَا وَصَلُوا فِي الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ إمَّا مَطْلُوبِينَ إلَى حَضْرَتِهِمْ أَوْ لِطَلَبِ حَاجَةٍ عَامَّةٍ , فَإِذَا عَرَضَ خِطَابٌ أَوْ فِعْلٌ ظَهَرَ مِنْهُمْ الِاسْتِخْفَافُ الْكُلِّيُّ بِهِمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ , وَمِنْهُ الْقِصَّةُ الْمَشْهُورَةُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَأَخِيهِ عُتْبَةُ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَا سَجَّلَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ كُلَّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ . وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي بَعْضِ الْحَوَائِجِ , فَانْقَطَعَ مُعَاوِيَةُ فِي مَشُورَةِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي جَانِبِ الْمَجْلِسِ سَاعَةً , فَكَتَبَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي دَوَاةِ مُعَاوِيَةَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ : لَنَا الْفَضْلُ يَا هَذَا عَلَيْكَ بِبَذْلِنَا إلَيْكَ وُجُوهًا لَمْ تَشِنْهَا الْمَطَالِبُ وَإِنَّ الَّذِي نُعْطِيكَ مِنْ حُرِّ أَوْجُهٍ لَأَفْضَلُ مِمَّا أَنْتَ مُعْطٍ وَوَاهِبُ وَكَفَى بِمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ رَبِّهِ فِي عِقْدِهِ وَالْمَسْعُودِيُّ فِي مُرُوجِهِ : أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ عَقْدِ الصُّلْحِ قَالَ لِلْحَسَنِ عليه السلام قُمْ فَأَعْلِمْ النَّاسَ أَنَّك قَدْ سَلَّمْت لِي هَذَا الْأَمْرَ , فَقَامَ وَخَطَبَ وَشَكَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ , وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ : إنَّمَا الْخَلِيفَةُ مَنْ عَمِلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ . وَأَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ مَلَكَ مُلْكًا يَتَمَتَّعُ بِهِ قَلِيلًا , وَيُعَذَّبُ بِسَبَبِهِ طَوِيلًا { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ * أَوْ كَمَا قَالَ : وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا نُقِلَ مِنْ مُوَاصَلَةِ الْعُلَمَاءِ الرَّاشِدِينَ(1/166)
لِبَعْضِ الظَّلَمَةِ , فَإِنَّمَا كَانَ لِطَلَبِ حَاجَةٍ أَوْ إجَابَةِ طَالِبٍ , لَا لِمُجَرَّدِ تَعْظِيمٍ بِتَسْلِيمٍ أَوْ تَهْنِئَةٍ أَوْ وَدَاعٍ . نَعَمْ رُبَّمَا نُقِلَ عَمَّنْ مَالَ قَلْبُهُ إلَى الدُّنْيَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ مُوَاصَلَتُهُمْ تَعْظِيمًا , فَقَالَ فِيهِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ " أَكَلَ مِنْ حَلْوَاهُمْ فَمَالَ فِي هَوَاهُمْ " فَلَا يَحْتَجُّ بِفِعْلِ مِثْلِهِمْ إلَّا ضَالٌّ عَنْ الطَّرِيقِ ,(1/167)
( قَوْلُهُ ) { الْقَوْا الْفُسَّاقَ * إلَخْ تَقَدَّمَ ( قَوْلُهُ ) { مَنْ مَشَى إلَى ظَالِمٍ * إلَخْ . تَقَدَّمَ ( قَوْلُهُ ) { فَأَصَبْتُمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ * إلَخْ . عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ { إنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ , وَيَقُولُونَ , نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا , وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ , كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنْ الْقَتَادِ إلَّا الشَّوْكُ . كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قَوْلِهِمْ إلًّا * قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ كَأَنَّهُ يَعْنِي الْخَطَايَا . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ . ( قَوْلُهُ ) " وَمِنْهُ الْقِصَّةُ الْمَشْهُورَةُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مَعَ مُعَاوِيَةَ " إلَخْ . حُكِيَ فِي كِتَابِ جَوَاهِرِ الْأَخْبَارِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ يَوْمًا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَقَالَ عَمْرٌو : يَا مُعَاوِيَةُ , إنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ أَحْيَا أَبَاهُ , وَقَدْ قَالَ فَصُدِّقَ وَأَمَرَ فَأُطِيعَ , وَخَفَقَتْ خَلْفَهُ النِّعَالُ , وَهَذَا رَافِعُهُ إلَى مَا هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ . فَلَوْ أَرْسَلْت إلَيْهِ فَأَخَذْنَا لَك مِنْهُ , فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ إلَّا كَرِهْت عِتَابَهُ , وَخِفْت جَوَابَهُ , وَلَئِنْ أَرْسَلْتُمْ إلَيْهِ لَأُنْصِفَنَّهُ مِنْكُمْ فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ , فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَحَّبَ بِهِ مُعَاوِيَةُ , ثُمَّ قَالَ : إنِّي لَمْ أُرْسِلْ إلَيْك , وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ غَلَبُونِي عَلَى أَمْرِي فَأَرْسَلُوا إلَيْك , فَلَا يَمْنَعُك مَكَانِي أَنْ تُجِيبَهُمْ بِمَا رَأَيْت . فَقَالَ الْحَسَنُ : سُبْحَانَ اللَّهِ الْمَنْزِلُ مَنْزِلُك وَالْأَمْرُ أَمْرُك , وَاَللَّهِ إنْ كَانُوا غَلَبُوك عَلَى مَا أَرَدْت , إنِّي لَأَسْتَحْيِي لَك مِنْ الضَّعْفِ , وَإِنْ كُنْت أَجَبْتهمْ إلَى مَا أَرَادُوهُ إنِّي لَأَسْتَحْيِي لَك مِنْ الْفُحْشِ فَبِأَيَّتِهِمَا تُقِرُّ , وَمِنْ أَيَّتِهِمَا تَفِرُّ , وَلَوْ عَلِمْت أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِي لَجِئْت وَمَعِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ عُدَّتُهُمْ لِيَكْفُوهُمْ فَتَكَلَّمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ثُمَّ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ , ثُمَّ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ , ثُمَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ , وَكُلُّهُمْ نَالَ مِنْ الْحَسَنِ وَمِنْ عَلِيٍّ , فَلَمَّا سَكَتُوا تَكَلَّمَ الْحَسَنُ , فَقَالَ : يَا مُعَاوِيَةُ , مَا شَتَمَنِي غَيْرُك ; وَلَا أَبْدَأُ إلَّا بِك , وَلَا أَقُولُ فِيك إلَّا دُونَ مَا هُوَ فِيك . ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ مَثَالِبِهِ , ثُمَّ أَجَابَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , وَذَكَرَ بَعْضَ مَسَاوِيهِمْ , فَقَالَ لَهُمْ مُعَاوِيَةُ : ذُوقُوا ذُوقُوا . فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ : وَاَللَّهِ مَا ذُقْنَا شَيْئًا إلَّا وَقَدْ ذُقْت مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ " هَذَا حَاصِلُ الْقِصَّةِ إجْمَالًا . وَتَرَكْت حِكَايَةَ كَلَامِهِمْ اخْتِصَارًا وَصِيَانَةً . ( قَوْلُهُ ) " وَكَفَى بِمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ رَبِّهِ فِي عِقْدِهِ , وَالْمَسْعُودِيُّ فِي مُرُوجِهِ " إلَخْ . قُلْت : قَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي صُورَةِ كَلَامِ الْحَسَنِ عليه السلام يَوْمَئِذٍ , وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيُّ فِي الْمُرُوجِ أَنَّ الْحَسَنَ عليه السلام لَمَّا صَالَحَ مُعَاوِيَةَ لِمَا نَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ , وَمَا نَزَلَ بِهِ أَشَارَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَذَلِكَ بِالْكُوفَةِ , أَنْ يَأْمُرَ الْحَسَنَ أَنْ يَقُومَ فَيَخْطُبَ النَّاسَ , فَكَرِهَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ , فَقَالَ عَمْرٌو : إنِّي أُرِيدُ أَنْ يَبْدُوَ عِيُّهُ فِي النَّاسِ , فَإِنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِي أُمُورٍ لَا يَدْرِي مَا هِيَ وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَطَاعَهُ . فَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَخَطَبَ النَّاسَ , وَأَمَرَ رَجُلًا فَنَادَى : حَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ , فَقَامَ إلَيْهِ , فَقَالَ : قُمْ يَا حَسَنٌ فَكَلِّمْ النَّاسَ , فَقَامَ وَتَشَهَّدَ , ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ , فَإِنَّ اللَّهَ هَدَاكُمْ بِأَوَّلِنَا , وَحَقَنَ دِمَاءَكُمْ بِآخِرِنَا , وَإِنَّ لِهَذَا الْأَمْرِ أَمَدًا , وَالدُّنْيَا دُوَلٌ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله وسلم { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * { إنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنْ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ *(1/168)
ثُمَّ قَالَ فِي كَلَامِهِ ذَلِكَ : يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ لَوْ لَمْ تُذْهَلْ نَفْسِي عَنْكُمْ إلَّا لِثَلَاثِ خِصَالٍ , لَذَهِلَتْ : مَقْتَلَكُمْ أَبِي , وَسَلْبَكُمْ ثِقْلِي , وَطَعْنَكُمْ فِي بَطْنِي , وَإِنِّي قَدْ بَايَعْت مُعَاوِيَةَ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا " انْتَهَى . وَلَعَلَّ الَّذِي فِي الْكِتَابِ رِوَايَةَ الْعِقْدِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( قَوْلُهُ ) " فَقَالَ فِيهِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ " إلَخْ . قِيلَ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَرْعٌ ) فَمَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْمَقَامُ فِي جِهَتِهِمْ إلَّا بِتَعْظِيمِهِمْ وَمُوَاصَلَتِهِمْ لَزِمَتْهُ الْهِجْرَةُ , إذْ مَنْ لَمْ تُمْكِنْهُ الْإِقَامَةُ فِي جِهَةٍ إلَّا بِفِعْلٍ قَبِيحٍ لَزِمَتْهُ الْهِجْرَةُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا تَقَدَّمَ بِدَلِيلِ { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ * الْآيَةَ .
------------------
وفي تحفة المحتاج (1):
__________
(1) -تحفة المحتاج في شرح المنهاج - (ج 40 / ص 148)(1/169)
. ( وَالْمُسْلِمُ بِدَارِ كُفْرٍ ) أَيْ حَرْبٌ وَيَظْهَرُ أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا كَذَلِكَ . ( إنْ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ ) لِشَرَفِهِ أَوْ شَرَفِ قَوْمِهِ وَأَمِنَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ وَلَمْ يَرْجُ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ هُنَاكَ بِمُقَامِهِ . ( اُسْتُحِبَّ لَهُ الْهِجْرَةُ ) إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ وَرُبَّمَا كَادُوهُ وَلَمْ تَجِبْ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ وَلَمْ تَحْرُمْ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ بَيْنَهُمْ الْقَهْرَ وَالْعَجْزَ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ رَجَا ظُهُورَ الْإِسْلَامِ بِمُقَامِهِ ثَمَّ كَانَ مُقَامُهُ أَفْضَلَ أَوْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِزَالِ ثَمَّ وَلَمْ يَرْجُ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ كَانَ مُقَامُهُ وَاجِبًا ; لِأَنَّ مَحَلَّهُ دَارُ إسْلَامٍ فَلَوْ هَاجَرَ لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ , ثُمَّ إنْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَدُعَائِهِمْ لِلْإِسْلَامِ لَزِمَهُ وَإِلَّا فَلَا . ( تَنْبِيهٌ ) يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِمْ ; لِأَنَّ مَحَلَّهُ دَارُ إسْلَامٍ أَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ فِيهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ صَارَ دَارَ إسْلَامٍ وَحِينَئِذٍ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَوْدُهُ دَارَ كُفْرٍ وَإِنْ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ * فَقَوْلُهُمْ لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ الْمُرَادُ بِهِ صَيْرُورَتُهُ كَذَلِكَ صُورَةً لَا حُكْمًا وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ وَلَا أَظُنُّ أَصْحَابَنَا يَسْمَحُونَ بِذَلِكَ بَلْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ فَسَادٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَوْ اسْتَوْلَوْا عَلَى دَارِ إسْلَامٍ فِي مِلْكِ أَهْلِهِ , ثُمَّ فَتَحْنَاهَا عَنْوَةً مَلَكْنَاهَا عَلَى مُلَّاكِهَا وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ , ثُمَّ رَأَيْت الرَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا نَقْلًا عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَسْكُنُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَقِسْمٌ فَتَحُوهُ وَأَقَرُّوا أَهْلَهُ عَلَيْهِ بِجِزْيَةٍ مَلَكُوهُ أَوْ لَا , وَقِسْمٌ كَانُوا يَسْكُنُونَهُ , ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَعَدُّهُمْ الْقِسْمَ الثَّانِيَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي كَوْنِهَا دَارَ إسْلَامٍ كَوْنُهَا تَحْتَ اسْتِيلَاءِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ قَالَ : وَأَمَّا عَدُّهُمْ الثَّالِثَ فَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْقَدِيمَ يَكْفِي لِاسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مَحَلَّهُ إذَا لَمْ يَمْنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَإِلَّا فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ انْتَهَى وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعِيدٌ نَقْلًا وَمُدْرَكًا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُهُمْ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته أَنَّ مَا حُكِمَ بِأَنَّهُ دَارُ إسْلَامٍ لَا يَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ دَارَ كُفْرٍ مُطْلَقًا . ( وَإِلَّا ) يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَوْ خَافَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ . ( وَجَبَتْ ) الْهِجْرَةُ . ( إنْ أَطَاقَهَا ) وَأَثِمَ بِالْإِقَامَةِ وَلَوْ امْرَأَةً وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا لَكِنْ إنْ أَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ دُونَ خَوْفِ الْإِقَامَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَإِنْ لَمْ يُطِقْهَا فَمَعْذُورٌ , وَذَلِكَ لقوله تعالى { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ * الْآيَةَ وَلِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ * وَخَبَرِ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * أَيْ مِنْ مَكَّةَ ; لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاسْتُثْنِيَ مَنْ فِي إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَخْذًا مِمَّا جَاءَ أَنَّ الْعَبَّاسَ رضي الله عنه أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ وَاسْتَمَرَّ مُخْفِيًا إسْلَامَهُ إلَى فَتْحِ مَكَّةَ يَكْتُبُ بِأَخْبَارِهِمْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يُحِبُّ الْقُدُومَ عَلَيْهِ فَيَكْتُبُ لَهُ إنَّ مُقَامَك بِمَكَّةَ خَيْرٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ إسْلَامِهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ الْمَذْكُورَةَ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا إسْلَامٌ وَلَا عَدَمُهُ وَبِفَرْضِ ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ كَانَ آمِنًا غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ فِتْنَةٍ وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ فَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا , ثُمَّ رَأَيْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ الْحَافِظَ فِي(1/170)
الْإِصَابَةِ قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ : حَضَرَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ مَعَ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَشَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ مُكْرَهًا فَافْتَدَى نَفْسَهُ وَعُقَيْلًا وَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ فَيُقَالُ : إنَّهُ أَسْلَمَ وَكَتَمَ قَوْمَهُ ذَلِكَ فَكَانَ يَكْتُبُ الْأَخْبَارَ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم , ثُمَّ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِقَلِيلٍ انْتَهَى وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته . وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ أَنَّ الْهِجْرَةَ كَمَا تَجِبُ هُنَا تَجِبُ مِنْ بَلَدِ إسْلَامٍ أَظْهَرَ بِهَا حَقًّا أَيْ وَاجِبًا وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَا قَدَرَ عَلَى إظْهَارِهِ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ بِبَلَدٍ تُعْمَلُ فِيهِ الْمَعَاصِي وَلَا يُمْكِنُهُ تَغْيِيرُهَا الْهِجْرَةُ إلَى حَيْثُ تَتَهَيَّأُ لَهُ الْعِبَادَةُ لقوله تعالى { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * نَقَلَ ذَلِكَ جَمْعٌ مِنْ الشُّرَّاحِ وَغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ الْأَذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ وَأَقَرُّوهُ وَيُنَازَعُ فِيهِ مَا مَرَّ فِي الْوَلِيمَةِ أَنَّ مَنْ بِجِوَارِهِ آلَاتُ لَهْوٍ لَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ وَعَلَّلَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ فِي مُفَارَقَةِ دَارِهِ ضَرَرًا عَلَيْهِ وَلَا فِعْلَ مِنْهُ فَإِنْ قُلْت ذَاكَ مَعَ النَّقْلَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي بَلَدِ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ بِالنَّقْلَةِ يُفَارِقُ بَلَدَ الْمَعْصِيَةِ بِالْكُلِّيَّةِ قُلْت : قَضِيَّةُ هَذَا بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّ ذَاكَ يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ مِنْ الْبَلَدِ وَهَذَا لَمْ يُلْزِمُوهُ بِهِ ; لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَلْزَمْهُ مِنْ الْجِوَارِ فَأَوْلَى الْبَلَدُ عَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ السُّبْكِيّ الْمَذْكُورِ : أَنَّهُ لَا نَظَرَ لِبَلَدٍ وَلَا لِجِوَارٍ بَلْ لِلْمَشَقَّةِ وَهِيَ فِي التَّحَوُّلِ مِنْ الْبَلَدِ أَشَقُّ وَبِفَرْضِ اعْتِمَادِ ذَلِكَ فَيَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ تَكُنْ فِي إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَخْذًا مِنْ نَظِيرِهِ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ بِالْأَوْلَى , ثُمَّ رَأَيْت الْبُلْقِينِيَّ صَرَّحَ بِهِ , وَبِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِانْتِقَالِ لِبَلَدٍ سَالِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ الْمُؤَنُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحَجِّ , وَالْحَاصِلُ : أَنَّ الَّذِي يَتَعَيَّنُ اعْتِمَادُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الِانْتِقَالِ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ تَظْهَرَ الْمَعَاصِي الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِحَيْثُ لَا يَسْتَحْيِي أَهْلُهُ كُلُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِتَرْكِهِمْ إزَالَتَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ ; لِأَنَّ الْإِقَامَةَ حِينَئِذٍ مَعَهُمْ تُعَدُّ إعَانَةً وَتَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي
. قَوْلُهُ : أَوْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ إلَخْ ) قَدْ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُقَامِ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ مَعَ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ وَقَدَرُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ وَلَمْ يَخْتَلَّ أَمْرُ دَارِ الْإِسْلَامِ بِمُقَامِهِمْ هُنَاكَ وَلَا يَخْلُو عَنْ الْبُعْدِ فَلْيُتَأَمَّلْ . ( قَوْلُهُ : وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُهُمْ صَرِيحٌ إلَخْ ) فِي الصَّرَاحَةِ نَظَرٌ خُصُوصًا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِيلَاءِ الْقَدِيمِ الِاسْتِيلَاءُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ مِنْ لَازِمِ اسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ الطُّرُوُّ لِسَبْقِ الْكُفْرِ وَعُرُوضِ الْإِسْلَامِ . ( قَوْلُهُ : وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ إلَخْ ) لَا بُدَّ فِي عَدَمِ اللُّزُومِ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَيْضًا وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ(1/171)
( قَوْلُهُ : أَيْ : حَرْبٍ ) إلَى قَوْلِهِ وَلَا أَظُنُّ فِي النِّهَايَةِ ( قَوْلُهُ : كَذَلِكَ ) أَيْ كَدَارِ الْحَرْبِ فِي التَّفْصِيلِ الْآتِي ( قَوْلُهُ : لِشَرَفِهِ ) إلَى التَّنْبِيهِ فِي الْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ وَلَمْ تَحْرُمْ إلَى لَوْ رُجِيَ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ ( قَوْلُهُ : وَلَمْ يُرْجَ إلَخْ ) وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِزَالِ ثَمَّ وَلَمْ يَرْجُ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ بِهِجْرَتِهِ أَخْذًا مِمَّا يَأْتِي . ا هـ . ع ش ( قَوْلُهُ : بِمُقَامِهِ ) بَدَلٌ مِنْ هُنَاكَ ( قَوْلُ الْمَتْنِ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْهِجْرَةُ ) وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ بِحُصُولِ التَّقْوَى بِهَا لِلضُّعَفَاءِ الْعَاجِزِينَ عَنْ الْهِجْرَةِ أَخْذًا مِمَّا يَأْتِي فِي شَرْحِ وَإِلَّا وَجَبَتْ إنْ أَطَاقَهَا ( قَوْلُهُ : لِئَلَّا يُكَثِّرُ إلَخْ ) بِبِنَاءِ الْفَاعِلِ مِنْ التَّكْثِيرِ ( قَوْلُهُ : وَرُبَّمَا كَادُوهُ ) أَيْ : أَوْ يَمِيلُ إلَيْهِمْ أَسْنَى وَمُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَلَمْ تَجِبْ ) أَيْ : الْهِجْرَةُ . ا هـ . ع ش ( قَوْلُهُ : وَمِنْ ثَمَّ ) لَعَلَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ : ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ إلَخْ ( قَوْلُهُ : وَالِاعْتِزَالِ ) الْمُرَادُ بِهِ انْحِيَازُهُ عَنْهُمْ فِي مَكَان مِنْ دَارِهِمْ بُجَيْرِمِيٌّ ( قَوْلُهُ : بِالْهِجْرَةِ ) أَيْ : بِمَجِيئِهِ إلَيْهِمْ . ا هـ . ع ش ( قَوْلُهُ : كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ الْإِسْلَامُ يَعْلُو إلَخْ ) دَعْوَى صَرَاحَةِ الْحَدِيثِ فِيمَا أَفَادَهُ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ إذْ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ يَعْلُوهُ انْتِشَارُهُ وَاشْتِهَارُهُ وَإِخْمَادُ الْكُفْرِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ الْوَقْتُ الْمَوْعُودُ بِهِ قُرْبَ السَّاعَةِ وَهَذَا لَا يُنَافِي صَيْرُورَةَ بَعْضِ دَارِهِ دَارَ حَرْبٍ كَمَا لَا يُنَافِي غَلَبَةَ الْكُفَّارِ لِأَهْلِهِ وَنُصْرَتَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْوَقَائِعِ . ا هـ . سَيِّدُ عُمَرَ ( قَوْلُهُ : فَقَوْلُهُمْ إلَخْ ) هَذَا التَّأْوِيلُ خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ إذْ الْمُتَبَادِرُ كَوْنُهُ كَذَلِكَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا صُورَةً فَقَطْ وَبَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إذْ صَيْرُورَتُهُ كَذَلِكَ صُورَةٌ فَقَطْ لَا مَحْذُورَ كُلِّيًّا فِيهِ فَلْيُتَأَمَّلْ . ا هـ . سَيِّدُ عُمَرَ وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الشَّارِحَ عَلَّلَ التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ بِقَوْلِهِ وَإِلَّا لَزِمَ إلَخْ فَمَنْعُهُ دُونَ عِلَّتِهِ مُكَابَرَةٌ فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ ( قَوْلُهُ : بِذَلِكَ ) أَيْ : بِعَوْدِ دَارِ إسْلَامٍ دَارَ حَرْبٍ وَكَذَا ضَمِيرُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ : عَلَى مُلَّاكِهَا ) أَيْ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ ( قَوْلُهُ : وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ ) بَلْ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِأَخْذِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ مِنْهُ قَهْرًا فَعَلَى مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ وَلَوْ بِشِرَاءٍ رَدُّهُ إلَيْهِ كَمَا مَرَّ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ ( قَوْلُهُ : يَسْكُنُهُ الْمُسْلِمُونَ ) أَيْ فِي الْحَالِ ( قَوْلُهُ : أَوْ لَا ) بِسُكُونِ الْوَاوِ ( قَوْلُهُ : وَعَدُّهُمْ الْقِسْمَ الثَّانِيَ ) أَيْ : مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ( قَوْلُهُ : قَالَ ) أَيْ : ثُمَّ قَالَ الرَّافِعِيُّ ( قَوْلُهُ : إنَّ مَحَلَّهُ ) أَيْ : كِفَايَةِ الِاسْتِيلَاءِ الْقَدِيمِ ( قَوْلُهُ : وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُهُمْ صَرِيحٌ إلَخْ ) يُتَأَمَّلْ هَذِهِ الصَّرَاحَةُ أَيْنَ مَأْخَذُهَا مِمَّا سَبَقَ فِي كَلَامِهِ . ا هـ . سَيِّدُ عُمَرَ أَقُولُ مَأْخَذُهَا رِوَايَةُ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ عَدُّوا الْقِسْمَ الثَّالِثَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ أَيْضًا مَا فِي سم الْمَبْنِيُّ عَلَى أَنَّ مَأْخَذَهَا قَوْلُ الرَّافِعِيِّ فَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُشْعِرُ إلَخْ ( قَوْلُهُ : مُطْلَقًا ) أَيْ : غَلَبَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ بَعْدُ أَمْ لَا مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا أَمْ لَا ( قَوْلُهُ : يُمْكِنُهُ ) إلَى قَوْلِهِ لَكِنْ إنْ أَمِنَتْ فِي الْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ وَأَثِمَ بِالْإِقَامَةِ وَإِلَى قَوْلِهِ وَاسْتَثْنَى فِي النِّهَايَةِ ( قَوْلُهُ : وَجَبَتْ الْهِجْرَةُ ) وَسُمِّيَتْ هِجْرَةً ; لِأَنَّهُمْ هَجَرُوا دِيَارَهُمْ وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِأَمْنِ الطَّرِيقِ وَلَا بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَيَنْبَغِي عَدَمُ الْوُجُوبِ إنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ خَوْفِ الطَّرِيقِ , أَوْ مِنْ تَرْكِ الزَّادِ , أَوْ مِنْ عَدَمِ الرَّاحِلَةِ . ا هـ . مُغْنِي وَيَأْتِي فِي الشَّارِحِ مَا يُوَافِقُهُ ( قَوْلُهُ : وَأَثِمَ بِالْإِقَامَةِ ) مِنْ(1/172)
عَطْفٍ لَازِمٍ ( قَوْلُهُ : عَلَى نَفْسِهَا ) أَيْ : أَوْ بُضْعِهَا ( قَوْلُهُ : فَمَعْذُورٌ ) أَيْ : إلَى أَنْ يُطِيقَهَا فَإِنْ فُتِحَ الْبَلَدُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ سَقَطَ عَنْهُ الْهِجْرَةُ أَسْنَى وَمُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَلِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ إلَخْ ) فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ تَوَقُّفٌ عِبَارَةُ الْأَسْنَى وَالْمُغْنِي وَخَبَرُ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ * . ا هـ . ( قَوْلُهُ : وَخَبَرُ لَا هِجْرَةَ إلَخْ ) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : أَيْ : مِنْ مَكَّةَ ) خَبَرُ وَخَبَرُ لَا هِجْرَةَ إلَخْ ( قَوْلُهُ : وَاسْتَثْنَى ) إلَى قَوْلِهِ أَخْذًا فِي الْأَسْنَى وَإِلَى قَوْلِهِ وَالِاسْتِدْلَالُ فِي الْمُغْنِي عِبَارَةُ الْأَوَّلِ وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ فِي إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجُوزُ لَهُ الْإِقَامَةُ . ا هـ . وَعِبَارَةُ الثَّانِي وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْوُجُوبِ مَنْ فِي إقَامَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبِرِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ إسْلَامَ الْعَبَّاسِ رضي الله تعالى عنه كَانَ قَبْلَ بَدْرٍ وَكَانَ يَكْتُمُهُ وَيَكْتُبُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَخْبَارِ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ وَكَانَ يُحِبُّ إلَخْ ( قَوْلُهُ : إلَى فَتْحِ مَكَّةَ ) أَيْ : إلَى قُرْبِهِ فَلَا يُخَالِفُ مَا يَأْتِي عَنْ الْإِصَابَةِ ( قَوْلُهُ : وَبِذَلِكَ ) أَيْ : بِقِصَّةِ الْعَبَّاسِ رضي الله تعالى عنه ( قَوْلُهُ : قَبْلَ الْهِجْرَةِ ) أَيْ : هِجْرَةِ الْعَبَّاسِ ( قَوْلُهُ : وَإِنَّهُ إلَخْ ) أَيْ : وَثُبُوتَ أَنَّهُ إلَخْ ( قَوْلُهُ : وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ ) أَيْ : كُلٌّ مِنْهُمَا وَلَعَلَّ مُرَادَهُ لَمْ يَثْبُتْ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ وَإِلَّا فَمُطْلَقُ وُرُودِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ لَا يُنْكَرُ كَمَا مَرَّ ( قَوْلُهُ : عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ إلَخْ ) لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي احْتَاجَ إلَى هَذَا الْجَوَابِ الْعُلْوِيِّ ( قَوْلُهُ : وَبِفَرْضِ ذَلِكَ إلَخْ ) أَيْ : مِنْ ثُبُوتِ الْأَمْرَيْنِ وَاسْتِلْزَامِ الْكِتَابَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْإِسْلَامِ . ( قَوْلُهُ : وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ إلَخْ ) وَلَا بُدَّ فِي عَدَمِ اللُّزُومِ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَيْضًا وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ . ا هـ . سم ( قَوْلُهُ : فِي الْإِصَابَةِ ) فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِقَالَ وَقَوْلُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ أَيْ : الْعَبَّاسِ رضي الله تعالى عنه بَدَلٌ مِنْهُ ( قَوْلُهُ : فَافْتَدَى نَفْسَهُ وَعَقِيلًا ) أَيْ : بَعْدَ أَسْرِهِمَا ( قَوْلُهُ : وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته ) يَعْنِي فِي عَدَمِ ثُبُوتِ إسْلَامِ الْعَبَّاسِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَعَدَمِ ثُبُوتِ كِتَابَتِهِ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِ بِأَنَّ مُقَامَك بِمَكَّةَ خَيْرٌ أَقُولُ وَفِي كَوْنِهِ صَرِيحًا فِي الْأَمْرَيْنِ نَظَرٌ لَا سِيَّمَا فِي الثَّانِي إذْ الْإِصَابَةُ سَاكِتٌ عَنْهُ وَالسَّاكِتُ عَنْ شَيْءٍ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ ( قَوْلُهُ : وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ ) إلَى قَوْلِهِ وَأَفْرَدَهُ فِي الْمُغْنِي وَالْأَسْنَى إلَّا قَوْلَهُ أَيْ وَاجِبًا ( قَوْلُهُ : هُنَا ) لَعَلَّ كَلِمَةَ مِنْ سَقَطَتْ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ عِبَارَةُ الْمُغْنِي مِنْ دَارِ الْكُفْرِ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : تَجِبُ مِنْ بَلَدِ إسْلَامٍ إلَخْ ) وَفِي الْفُرُوعِ لِابْنِ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيَّ الْحَنْبَلِيِّ مَا نَصُّهُ وَلَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى { إنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ * إلَخْ أَنَّ الْمَعْنَى إذَا عُمِلَ بِالْمَعَاصِي فِي أَرْضٍ فَاخْرُجُوا مِنْهَا وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ الْحَدِيثَ وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ انْتَهَى . هـ ا . سَيِّدُ عُمَرَ ( قَوْلُهُ : وَيُوَافِقُهُ ) أَيْ : مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ ( قَوْلُهُ : إلَى حَيْثُ تَتَهَيَّأُ لَهُ الْعِبَادَةُ إلَخْ ) فَإِنْ اسْتَوَتْ جَمِيعُ الْبِلَادِ فِي عَدَمِ إظْهَارِ ذَلِكَ أَيْ الْحَقِّ كَمَا فِي زَمَانِنَا فَلَا وُجُوبَ بِلَا خِلَافٍ . ا هـ . مُغْنِي ( قَوْلُهُ : نَقَلَ ذَلِكَ ) أَيْ : مَا فِي الْمُعْتَمَدِ ( قَوْلُهُ : وَأَقَرُّوهُ ) وَمِمَّنْ أَقَرَّهُ الْأَسْنَى وَالْمُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَيُنَازَعُ فِيهِ ) أَيْ : فِيمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ ( قَوْلُهُ : آلَاتُ(1/173)
لَهْوٍ ) أَيْ : اسْتِعْمَالُهَا ( قَوْلُهُ : لَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ ) أَيْ : مِنْ جِيرَتِهَا ( قَوْلُهُ : وَلَا فِعْلَ مِنْهُ ) جُمْلَةٌ خَالِيَةٌ ( قَوْلُهُ : ذَاكَ ) أَيْ : مَنْ فِي جِوَارِهِ ( قَوْلُهُ : مَعَ النَّقْلَةِ ) أَيْ : إلَى دَارٍ بَعِيدَةٍ ( قَوْلُهُ : فَلَمْ يَلْزَمْهُ ) أَيْ : التَّحَوُّلُ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ هَذَا ) أَيْ : مَنْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ ( قَوْلُهُ : قَضِيَّةُ هَذَا ) أَيْ : الْفَرْقِ ( قَوْلُهُ : إنَّ ذَاكَ ) أَيْ : مَنْ فِي جِوَارِهِ آلَاتُ اللَّهْوِ وَكَذَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا إلَخْ ( قَوْلُهُ : إذَا لَمْ يَلْزَمْهُ ) أَيْ : الِانْتِقَالُ ( قَوْلُهُ : فَأَوْلَى الْبَلَدُ ) الْأَوْلَى مِنْ الْبَلَدِ ( قَوْلُهُ : عَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ إلَخْ ) وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ : ; لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَخْ قَابِلًا لِلْمَنْعِ بِمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ قُلْت إلَخْ احْتَاجَ إلَى هَذَا الْجَوَابِ الْعُلْوِيِّ ( قَوْلُهُ : وَبِفَرْضِ اعْتِمَادِ ذَلِكَ ) أَيْ : مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ ( قَوْلُهُ : بِهِ ) أَيْ : بِذَلِكَ الْقَيْدِ ( قَوْلُهُ : وَبِأَنْ شَرَطَ إلَخْ ) أَيْ : وَصَرَّحَ بِأَنَّ إلَخْ ( قَوْلُهُ : أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِانْتِقَالِ لِبَلَدٍ سَالِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ ) فَإِنْ اسْتَوَتْ جَمِيعُ الْبِلَادِ فِي عَدَمِ إظْهَارِ ذَلِكَ كَمَا فِي زَمَانِنَا فَلَا وُجُوبَ بِلَا خِلَافٍ . ا هـ . مُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي يَتَعَيَّنُ إلَخْ ) مَحَلُّ تَأَمُّلٍ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ وُجُوبُ الِانْتِقَالِ عِنْدَ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ هَذَا وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِمْ حَيْثُ يَتَهَيَّأُ لَهُ الْعِبَادَةُ أَنْ تُجْزِئَهُ الْهِجْرَةُ إلَى أَدْنَى مَحَلٍّ يَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ مُقِيمًا مَعَهُمْ وَدُخُولُهُ إلَى الْبَلَدِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ لَا يُعَدُّ بِهِ مُقِيمًا وَلَا يُنَافِي هِجْرَتَهُ . ا هـ . سَيِّدُ عُمَرَ ( قَوْلُهُ : الْمَعَاصِي إلَخْ ) لَعَلَّ أَلْ لِلْجِنْسِ لَا الِاسْتِغْرَاقِ(1/174)
. ( وَلَوْ قَدَرَ أَسِيرٌ عَلَى هَرَبٍ لَزِمَهُ ) وَإِنْ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ كَمَا صَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَاقْتَضَى كَلَامُ الزَّرْكَشِيّ اعْتِمَادَهُ تَخْلِيصًا لِنَفْسِهِ مِنْ رِقِّ الْأَسْرِ لَكِنَّ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْقَمُولِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ إنَّهُ قِيَاسُ مَا مَرَّ فِي الْهِجْرَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ وَلَك أَنْ تَقُولَ إنْ أَطْلَقُوهُ مِنْ الْأَسْرِ بِأَنْ أَبَاحُوا لَهُ مَا شَاءَ مِنْ مُكْثٍ عِنْدَهُمْ وَعَدَمِهِ تَعَيَّنَ الثَّانِي وَلَا تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ تَعْلِيلِهِ الْمَذْكُورِ . ( وَلَوْ أَطْلَقُوهُ بِلَا شَرْطٍ فَلَهُ اغْتِيَالُهُمْ ) قَتْلًا وَسَبْيًا وَأَخْذًا لِلْمَالِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَأْمِنُوهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا حَقِيقَةَ الْغِيلَةِ وَهِيَ أَنْ يَخْدَعَهُ فَيَذْهَبَ بِهِ لِمَحَلٍّ خَالٍ , ثُمَّ يَقْتُلَهُ . ( أَوْ ) أَطْلَقُوهُ . ( عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ ) أَوْ عَكْسِهِ . ( حَرُمَ ) عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ ; لِأَنَّ الْأَمَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُتَعَذِّرٌ نَعَمْ إنْ قَالُوا أَمَّنَّاك وَلَا أَمَانَ لَنَا عَلَيْك أَيْ وَلَا أَمَانَ يَجِبُ لَنَا عَلَيْك جَازَ لَهُ اغْتِيَالُهُمْ . ( فَإِنْ تَبِعَهُ قَوْمٌ ) أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ . ( فَلْيَدْفَعْهُمْ ) وُجُوبًا إنْ حَارَبُوهُ وَكَانُوا مِثْلَيْهِ فَأَقَلَّ وَإِلَّا فَنَدْبًا كَذَا قِيلَ وَيَرُدُّهُ مَا مَرَّ أَنَّ الثَّبَاتَ لِلضِّعْفِ إنَّمَا يَجِبُ فِي الصَّفِّ . ( وَلَوْ بِقَتْلِهِمْ ) ابْتِدَاءً وَلَا يُرَاعَى فِيهِمْ تَرْتِيبُ الصَّائِلِ لِانْتِقَاضِ أَمَانِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَذَا قِيلَ أَيْضًا وَهُوَ وَاضِحٌ إنْ سَلِمَ انْتِقَاضُ أَمَانِهِمْ بِذَلِكَ سَوَاءٌ أَرَادُوا مُجَرَّدَ رَدِّهِ أَمْ نَحْوَ قَتْلِهِ وَفِي عُمُومِهِ نَظَرٌ وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ جَمْعٌ بِأَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِمْ تَرْتِيبُ الصَّائِلِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ انْتِقَاضِ أَمَانِهِمْ ذَلِكَ وَهُوَ مُتَّجَهٌ إنْ لَمْ يُرِيدُوا نَحْوَ قَتْلِهِ فَلْيُحْمَلْ هَذَا عَلَى إرَادَةِ مُجَرَّدِ الرَّدِّ وَالْأَوَّلُ عَلَى إرَادَةِ نَحْوِ الْقَتْلِ ; لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِقِتَالِنَا فَالْمُؤَمَّنُ أَوْلَى . ( وَلَوْ شَرَطُوا ) عَلَيْهِ . ( أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ لَمْ يَجُزْ ) لَهُ . ( الْوَفَاءُ ) بِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ حَيْثُ أَمْكَنَهُ فِرَارًا بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ وَبِنَفْسِهِ مِنْ الذُّلِّ مَا لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ عَلَى مَا مَرَّ بَلْ يُسَنُّ وَلَوْ حَلَّفُوهُ عَلَى ذَلِكَ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ مُكْرَهًا عَلَى الْحَلِفِ فَيَمِينُهُ لَغْوٌ وَإِلَّا حَنِثَ وَإِنْ كَانَ حِينَ الْحَلِفِ مَحْبُوسًا وَمِنْ الْإِكْرَاهِ أَنْ يَقُولُوا لَهُ لَا نَتْرُكُك حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّك لَا تَخْرُجُ بَلْ هُنَا إكْرَاهٌ ثَانٍ شَرْعِيٌّ عَلَى الْخُرُوجِ لِوُجُوبِهِ كَمَا تَقَرَّرَ
( قَوْلُهُ : وَإِنْ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ ) كَتَبَ عَلَيْهِ م ر وَقَوْلُهُ : كَمَا صَحَّحَهُ الْإِمَامُ كَتَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا م ر قَوْلُهُ : وَإِلَّا حَنِثَ ) هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْخُرُوجَ مَعَ التَّمَكُّنِ مَعَ تَرْكِهِ يُوجِبُ الْحِنْثَ وَإِنْ كَانَ الْخُرُوجُ وَاجِبًا ( قَوْله بَلْ هُنَا إكْرَاهٌ ثَانٍ إلَخْ ) قَدْ يُقَالُ إنَّ أَثَرَ هَذَا الْإِكْرَاهِ الثَّانِي مَنَعَ الْحِنْثَ عَارَضَ قَوْلَهُ السَّابِقَ وَإِلَّا حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ لِذِكْرِهِ هُنَا(1/175)
( قَوْلُ الْمَتْنِ وَلَوْ قَدَرَ أَسِيرٌ ) أَيْ : فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ . ا هـ . مُغْنِي ( قَوْله وَإِنْ أَمْكَنَهُ ) إلَى قَوْلِهِ لَكِنَّ الَّذِي فِي النِّهَايَةِ وَالْمُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَاقْتَضَى كَلَامُ الزَّرْكَشِيّ اعْتِمَادَهُ ) وَهُوَ الْأَصَحُّ . ا هـ . نِهَايَةٌ ( قَوْلُهُ : لَكِنَّ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْقَمُولِيُّ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي وَإِنْ جَزَمَ الْقَمُولِيُّ وَغَيْرُهُ بِتَقْيِيدِهِ بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ ) أَيْ : وَإِلَّا فَيُسَنُّ ( قَوْلُهُ : وَالثَّانِي ) أَيْ : عَدَمُ اللُّزُومِ وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَيْ : اللُّزُومُ ( قَوْلُهُ : مِنْ تَعْلِيلِهِ ) أَيْ : الْإِمَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ : تَخْلِيصًا لِنَفْسِهِ إلَخْ ( قَوْلُهُ : قَتْلًا ) إلَى قَوْلِهِ إنْ حَارَبُوهُ فِي الْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ أَيْ : وَلَا أَمَانَ يَجِبُ لَنَا عَلَيْك وَإِلَى قَوْلِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي النِّهَايَةِ لَكِنْ بِزِيَادَةِ قَيْدٍ يَأْتِي ( قَوْلُهُ : وَهِيَ ) أَيْ : حَقِيقَةُ الْغِيلَةِ ( قَوْلُهُ : أَوْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ ) أَيْ : وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّنُوهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ . ا هـ . مُغْنِي ( قَوْلُهُ : أَوْ عَكْسُهُ ) أَيْ : أُوجِدَ عَكْسُهُ . ا هـ . ع ش وَيَجُوزُ جَرُّهُ عَطْفًا عَلَى مَدْخُولِ عَلَى عِبَارَةُ الْمُغْنِي وَكَذَا لَوْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانِهِمْ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : ; لِأَنَّ الْأَمَانَ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ وَلِأَنَّهُمْ إذَا أَمَّنُوهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : جَازَ لَهُ اغْتِيَالُهُمْ ) أَيْ : لِفَسَادِ الْأَمَانِ لِمَا مَرَّ مِنْ تَعَذُّرٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ . ا هـ . رَشِيدِيٌّ ( قَوْلُ الْمَتْنِ فَإِنْ تَبِعَهُ قَوْمٌ ) رَاجِعٌ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ . ا هـ . بُجَيْرِمِيٌّ وَلَكِنَّ قَضِيَّةَ تَفْصِيلِ رِعَايَةِ تَرْتِيبِ الصَّائِلِ رُجُوعُهُ لِلْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَقَطْ إذْ لَا يُرَاعَى التَّرْتِيبُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُطْلَقًا كَمَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ عَنْ الرَّوْضَةِ ( قَوْلُهُ وَيَرُدُّهُ مَا مَرَّ إلَخْ ) أَيْ : فَيَكُونُ الْمُعْتَمَدُ النَّدْبَ مُطْلَقًا . ا هـ . ع ش ( قَوْلُهُ : وَلَا يُرَاعَى فِيهِمْ تَرْتِيبُ الصَّائِلِ لِانْتِقَاضِ أَمَانِهِمْ ) أَيْ : حَيْثُ قَصَدُوا نَحْوَ قَتْلِهِ وَإِلَّا لَمْ يُنْتَقَضْ فَيَدْفَعُهُمْ كَالصَّائِلِ . ا هـ . نِهَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَمِنْ ثَمَّ ) أَيْ : لِلنَّظَرِ فِي عُمُومِهِ ( قَوْلُهُ : صَرَّحَ جَمْعٌ إلَخْ ) وَمِنْهُمْ الْمُغْنِي ( قَوْلُهُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ إلَخْ ) أَيْ : مَا صَرَّحَ بِهِ الْجَمْعُ ( قَوْلُهُ : وَهُوَ مُتَّجِهٌ ) أَيْ : عَدَمُ الِانْتِقَاضِ ( قَوْلُهُ : فَلْيُحْمَلْ ) إلَى الْمَتْنِ فِي النِّهَايَةِ مَا يُوَافِقُهُ ( قَوْلُهُ : هَذَا ) أَيْ : مَا صَرَّحَ بِهِ الْجَمْعُ مِنْ وُجُوبِ رِعَايَةِ التَّرْتِيبِ ( قَوْلُهُ : وَالْأَوَّلُ ) أَيْ : مَا قِيلَ مِنْ عَدَمِ الرِّعَايَةِ ( قَوْلُهُ : فَالْمُؤَمَّنُ ) بِفَتْحِ الْمِيمِ ( قَوْلُهُ : بِهَذَا الشَّرْطِ ) إلَى قَوْلِهِ بَلْ هُنَا فِي النِّهَايَةِ وَكَذَا فِي الْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ عَلَى مَا مَرَّ ( قَوْلُهُ : بَلْ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ ) وَلَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ أَخْذُ مَالِ مُسْلِمٍ وَجَدَهُ عِنْدَهُمْ لِيَرُدّهُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَمَّنَهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يَضْمَنُهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَى الْحَرْبِيِّ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَخَذَهُ شَخْصٌ مِنْ الْغَاصِبِ لِيَرُدّهُ إلَى مَالِكِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ فَأُدِيمَ حِكْمَةً . ( فُرُوعٌ ) لَوْ الْتَزَمَ لَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِ مَالًا فِدَاءً وَهُوَ مُخْتَارٌ , أَوْ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حُرِّمَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إلَيْهِمْ وَسُنَّ لَهُ الْوَفَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي الْتَزَمَهُ لِيَعْتَمِدُوا الشَّرْطَ فِي إطْلَاقِ الْأُسَرَاءِ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ; لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَالْمَالُ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِمْ فِدَاءٌ لَا يَمْلِكُونَهُ كَمَا قَالَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ اشْتَرَى مِنْهُمْ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إلَيْهِمْ ثَمَنَهُ , أَوْ اقْتَرَضَ فَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ , أَوْ مُكْرَهًا فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَيَجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَفْظُ بَيْعٍ بَلْ قَالُوا خُذْ هَذَا وَابْعَثْ إلَيْنَا كَذَا مِنْ الْمَالِ(1/176)
فَقَالَ : نَعَمْ فَهُوَ كَالشِّرَاءِ مُكْرَهًا وَلَوْ وَكَّلُوهُ بِبَيْعِ شَيْءٍ لَهُمْ بِدَارِنَا بَاعَهُ وَرَدَّ ثَمَنَهُ إلَيْهِمْ مُغْنِي وَرَوْضٌ مَعَ شَرْحِهِ ( قَوْلُهُ : مَا لَمْ يُمْكِنْهُ إلَخْ ) ظَرْفٌ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَجُزْ الْوَفَاءُ ( قَوْلُهُ : فَلَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ ) تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَفْهُومِ , أَوْ هُنَا سَقْطَةٌ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ عِبَارَةُ النِّهَايَة وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُهُ إلَخْ وَعِبَارَةُ الْمُغْنِي وَإِنْ أَمْكَنَهُ لَمْ يَحْرُمْ الْوَفَاءُ ; لِأَنَّ الْهِجْرَةَ حِينَئِذٍ مُسْتَحَبَّةٌ . ا هـ . وَكُلٌّ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ : عَلَى مَا مَرَّ ) أَيْ : مِنْ الْقَمُولِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ عِبَارَةُ النِّهَايَةِ كَمَا مَرَّ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : فَيَمِينُهُ لَغْوٌ ) أَيْ : وَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ . ا هـ . مُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَإِلَّا حَنِثَ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي وَالرَّوْضِ مَعَ شَرْحِهِ وَإِنْ حَلَفَ لَهُمْ تَرْغِيبًا لَهُمْ لِيَثِقُوا بِهِ وَلَا يَتَّهِمُوهُ بِالْخُرُوجِ وَلَوْ قَبْلَ الْإِطْلَاقِ حَنِثَ بِخُرُوجِهِ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : وَإِلَّا حَنِثَ ) هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْخُرُوجَ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ تَرْكِهِ يُوجِبُ الْحِنْثَ وَإِنْ كَانَ الْخُرُوجُ وَاجِبًا سم عَلَى حَجّ أَيْ : وَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْحِنْثِ . ا هـ . ع ش ( قَوْلُهُ : وَمِنْ الْإِكْرَاهِ أَنْ يَقُولُوا إلَخْ ) أَيْ : فَلَوْ حَلَفَ حِينَئِذٍ فَأَطْلَقُوهُ فَخَرَجَ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا كَمَا لَوْ أَخَذَ اللُّصُوصُ رَجُلًا وَقَالُوا لَا نَتْرُكُك حَتَّى تَحْلِفَ أَنَّك لَا تُخْبِرُ بِمَكَانِنَا فَحَلَفَ , ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَكَانِهِمْ لَمْ يَحْنَثْ ; لِأَنَّهُ يَمِينُ إكْرَاهٍ أَسْنَى وَمُغْنِي ( قَوْلُهُ : بَلْ هُنَا إكْرَاهٌ ثَانٍ إلَخْ ) قَدْ يُقَالُ إنَّ أَثَرَ هَذَا الْإِكْرَاهِ الثَّانِي مَعَ الْحِنْثِ عَارَضَ قَوْلَهُ السَّابِقَ وَإِلَّا حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ لِذِكْرِهِ هُنَا . ا هـ . سم أَيْ : فَكَانَ يَنْبَغِي حَذْفُهُ كَمَا فَعَلَهُ النِّهَايَةُ وَالْمُغْنِي إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مُقَوٍّ لِلْإِكْرَاهِ الْأَوَّلِ لَا مُؤَثِّرٌ مُسْتَقِلٌّ وَفِي ع ش هُنَا جَوَابٌ لَا يُلَاقِي السُّؤَالَ(1/177)
( وَلَوْ عَاقَدَ الْإِمَامُ عِلْجًا ) هُوَ الْكَافِرُ الْغَلِيظُ الشَّدِيدُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِدَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَمِنْهُ الْعِلَاجُ لِدَفْعِهِ الدَّاءَ . ( يَدُلُّ ) هـ . ( عَلَى ) نَحْوِ بَلَدٍ أَوْ . ( قَلْعَةٍ ) بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُبْهَمَةٍ مِنْ قِلَاعٍ مَحْصُورَةٍ عَلَى الْأَوْجَهِ أَيْ عَلَى أَصْلِ طَرِيقِهَا أَوْ أَسْهَلَ أَوْ أَرْفَقَ طَرِيقَيْهَا . ( وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ ) مَثَلًا وَلَوْ حُرَّةً مُبْهَمَةً وَيُعَيِّنُهَا الْإِمَامُ . ( جَازَ ) وَإِنْ كَانَ الْجُعْلُ مَجْهُولًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِلْحَاجَةِ مَعَ أَنَّ الْحُرَّةَ تُرَقُّ بِالْأَسْرِ وَيُسْتَحَقُّ بِالدَّلَالَةِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ كَأَنْ يَكُونَ تَحْتَهَا فَيَقُولَ لَهُ هِيَ هَذِهِ لِلْحَاجَةِ أَيْضًا وَبِهِ فَارَقَ مَا مَرَّ فِي الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ , أَمَّا الْمُسْلِمُ فَقَالَ جَمْعٌ : لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْمُعَاقَدَةُ مَعَهُ ; لِأَنَّ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنْ الْغَرَرِ وَاحْتُمِلَتْ مَعَ الْكَافِرِ ; لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِقِلَاعِهِمْ وَطُرُقِهِمْ وَقَالَ آخَرُونَ : لَا فَرْقَ وَرَجَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَالْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْغَنِيمَةِ اعْتِمَادُهُ وَعَلَيْهِ فَيُعْطَاهَا إنْ وُجِدَتْ حَيَّةً وَإِنْ أَسْلَمَتْ فَلَوْ مَاتَتْ بَعْدَ الظَّفَرِ فَلَهُ قِيمَتُهَا وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ مِنْهَا قَوْلُهُ مِمَّا عِنْدِي فَلَا يَصِحُّ لِلْجَهْلِ بِالْجُعْلِ بِلَا حَاجَةٍ . ( فَإِنْ فُتِحَتْ ) عَنْوَةً . ( بِدَلَالَتِهِ ) وَفَاتِحُهَا مُعَاقِدُهُ وَلَوْ فِي مَرَّةٍ أُخْرَى وَفِيهَا الْأَمَةُ الْمُعَيَّنَةُ أَوْ الْمُبْهَمَةُ وَلَمْ تُسْلِمْ أَصْلًا أَوْ أَسْلَمَتْ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ لَا عَكْسَهُ كَمَا يَأْتِي . ( أُعْطِيهَا ) وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سِوَاهَا وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لَازِمٌ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ بَعْضِهِمْ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ إذْ لَا اعْتِدَادَ بِمُعَامَلَتِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالشَّرْطِ قَبْلَ الظَّفَرِ . ( أَوْ ) فَتَحَهَا مُعَاقِدُهُ . ( بِغَيْرِهَا ) أَيْ دَلَالَتِهِ أَوْ غَيْرُ مُعَاقِدِهِ وَلَوْ بِدَلَالَتِهِ . ( فَلَا ) شَيْءَ لَهُ . ( فِي الْأَصَحِّ ) لِفَقْدِ الشَّرْطِ وَهُوَ دَلَالَتُهُ وَصَوَّبَ الْبُلْقِينِيُّ الِاسْتِحْقَاقَ وَيُتَّجَهُ اعْتِمَادُهُ إنْ كَانَ الْفَاتِحُ بِدَلَالَتِهِ نَائِبًا عَمَّنْ دَلَّهُ . ( وَإِنْ لَمْ تُفْتَحْ فَلَا شَيْءَ ) لَهُ لِتَعَلُّقِ جَعَالَتِهِ بِدَلَالَتِهِ مَعَ فَتْحِهَا فَالْجُعْلُ مُقَيَّدٌ بِهِ حَقِيقَةً وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَفْظُهُ . ( وَقِيلَ : إنْ لَمْ يُعَلَّقْ الْجُعْلُ بِالْفَتْحِ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ) لِوُجُودِ الدَّلَالَةِ وَيَرُدُّهُ مَا تَقَرَّرَ هَذَا إذَا كَانَ الْجَعْلُ فِيهَا , وَإِلَّا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي اسْتِحْقَاقِهِ فَتْحَهَا اتِّفَاقًا عَلَى مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ . ( فَإِنْ ) فَتَحَهَا مُعَاقِدُهُ بِدَلَالَتِهِ . ( وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَارِيَةٌ ) أَصْلًا أَوْ بِالْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ . ( أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ ) لِفَقْدِ الْمَشْرُوطِ . ( أَوْ ) مَاتَتْ . ( بَعْدَ الظَّفَرِ وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ ) إلَيْهِ . ( وَجَبَ بَدَلٌ ) ; لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ فَالتَّلَفُ مِنْ ضَمَانِهِ . ( أَوْ ) مَاتَتْ . ( قَبْلَ ظَفَرٍ فَلَا ) شَيْءَ لَهُ . ( فِي الْأَظْهَرِ ) كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا إذْ الْمَيْتَةُ وَمِثْلُهَا الْهَارِبَةُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا . ( وَإِنْ أَسْلَمَتْ ) الْمُعَيَّنَةُ الْحُرَّةُ كَذَا قَيَّدَ بِهِ شَارِحٌ , وَالثَّانِي غَيْرُ قَيْدٍ بَلْ لَا فَرْقَ وَزَعَمَ أَنَّ الْحُرَّةَ إذَا أَسْلَمَتْ قَبْلَ الظَّفَرِ لَا يُعْطِي قِيمَتَهَا مَرْدُودٌ وَكَذَا الْأَوَّلُ إذْ إسْلَامُ الْجَوَارِي كُلِّهِنَّ فِي الْمُبْهَمَةِ كَذَلِكَ فِيمَا يَظْهَرُ سَوَاءٌ أَكَانَ إسْلَامُهَا قَبْلَ الْعَقْدِ أَمْ بَعْدَهُ قَبْلَ الظَّفَرِ وَبَعْدَهُ هَذَا كُلُّهُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ وَإِلَّا أُعْطِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ إسْلَامُهُ بَعْدَهَا لِانْتِقَالِ حَقِّهِ لِبَدَلِهَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِنَاءً عَلَى مَنْعِ تَمَلُّكِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ . ( فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ بَدَلٍ ) ; لِأَنَّ إسْلَامَهَا يَمْنَعُ رِقَّهَا وَاسْتِيلَاءً عَلَيْهَا فَيُعْطِي الْبَدَلَ مِنْ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَنِيمَةٌ فَالَّذِي يَظْهَرُ وُجُوبُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . ( وَهُوَ ) أَيْ الْبَدَلُ . ( أُجْرَةُ مِثْلٍ(1/178)
وَقِيلَ قِيمَتُهَا ) وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ الْجُمْهُورِ قَالَا وَمَحَلُّ الْخِلَافِ الْمُعَيَّنَةُ , أَمَّا الْمُبْهَمَةُ إذَا مَاتَ كُلُّ مَنْ فِيهَا وَأَوْجَبْنَا الْبَدَلَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ قَطْعًا لِتَعَذُّرِ تَقْوِيمِ الْمَجْهُولِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يُسَلَّمُ إلَيْهِ قِيمَةُ مَنْ تُسْلِمُ إلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ انْتَهَى وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ الثَّانِيَ قَالَ : فَيُعَيِّنُ لَهُ وَاحِدَةً وَيُعْطِيهِ قِيمَتَهَا كَمَا يُعَيِّنُهَا لَهُ لَوْ كُنَّ أَحْيَاءً وَخَرَجَ بِعَنْوَةٍ مَا لَوْ فُتِحَتْ صُلْحًا بِدَلَالَتِهِ وَدَخَلَتْ فِي الْأَمَانِ فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ بَدَلِهَا وَهَمَّ مِنْ تَسْلِيمِهَا نُبِذَ الصُّلْحُ وَبُلِّغُوا الْمَأْمَنَ فَإِنْ رَضُوا بِتَسْلِيمِهَا بِبَدَلِهَا أَعْطَوْهُ مِنْ مَحَلِّ الرَّضْخِ
. ( قَوْلُهُ : وَبِهِ فَارَقَ مَا مَرَّ فِي الْإِجَارَةِ ) وَالْأَوْجَهُ حَمْلُ مَا هُنَا عَلَى مَا فِيهِ كُلْفَةٌ لِيُوَافِقَ مَا مَرَّ م ر . ( قَوْلُهُ : وَقَالَ آخَرُونَ لَا فَرْقَ ) كَتَبَ عَلَيْهِ م ر . ( قَوْلُهُ : لَا عَكْسُهُ ) لِانْتِقَالِ الْحَقِّ مِنْهَا إلَى قِيمَتِهَا . ( قَوْلُهُ : أَيْضًا لَا عَكْسُهُ ) بِأَنْ أَسْلَمَ هُوَ بَعْدَهَا . ( قَوْلُهُ : سَوَاءٌ أَكَانَ إسْلَامُهَا قَبْلَ الْعَقْدِ أَمْ بَعْدَهُ إلَخْ ) فِي شَرْحِ الرَّوْضِ , أَمَّا لَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَبِأَنَّهَا قَدْ فَاتَتْهُ ; لِأَنَّهُ عَمِلَ مُتَبَرِّعًا ذَكَرَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِيه انْتَهَى وَقَوْلُهُ : إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ إلَخْ هَلْ يَجْرِي فِيمَا إذَا مَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ . ( قَوْلُهُ : أَيْضًا سَوَاءٌ أَكَانَ إسْلَامُهَا قَبْلَ الْعَقْدِ أَمْ بَعْدَهُ قَبْلَ الظَّفَرِ وَبَعْدَهُ هَذَا كُلُّهُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ إلَخْ ) جَعَلَ فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي لَا شَيْءَ لَهُ فِيهَا مَا لَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ إسْلَامِهِ وَقَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَهَا انْتَهَى . ( قَوْلُهُ وَإِلَّا أُعْطِيهَا ) يُتَأَمَّلْ هَذَا مَا قَدَّمَهُ فِي شَرْحِ وَلَوْ أَسْلَمَ أَسِيرٌ عُصِمَ دَمُهُ إلَخْ مِنْ قَوْلِهِ لِامْتِنَاعِ طُرُوُّ الرِّقِّ عَلَى مَنْ قَارَنَ إسْلَامُهُ حُرِّيَّتَهُ فَإِنَّ إسْلَامَ هَذَا قَارَنَ حُرِّيَّتَهَا إذْ لَا تُرَقُّ إلَّا بِالْأَخْذِ . ( قَوْلُهُ : وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ ) بِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالظَّفَرِ وَقَدْ كَانَتْ إذْ ذَاكَ كَافِرَةً فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهَا كَمَا لَوْ مَلَكَهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ لَكِنْ لَا تُسَلَّمُ إلَيْهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا إلَخْ مَا أَطَالَ بِهِ مِمَّا حَكَاهُ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ . ( قَوْلُهُ يَمْنَعُ رِقَّهَا وَاسْتِيلَاءَهُ عَلَيْهَا ) كَأَنَّهُ عَلَى التَّوْزِيعِ أَيْ يَمْنَعُ رِقَّهَا إذَا كَانَتْ حُرَّةً وَأَسْلَمَتْ قَبْلَ الْأَسْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا إذَا أَسْلَمَتْ الْحُرَّةُ بَعْدَ الْأَسْرِ أَوْ أَسْلَمَتْ الرَّقِيقَةُ فَلْيُتَأَمَّلْ . ( قَوْلُهُ : وَدَخَلَتْ فِي الْأَمَانِ إلَخْ ) لَا يَخْفَى أَنَّ دُخُولَهَا فِي الْأَمَانِ يَمْنَعُ اسْتِرْقَاقَهَا فَكَيْفَ الصُّلْحُ بِبَدَلِهَا إذَا رَضُوا وَكَانَ الرِّضَا بِالتَّسْلِيمِ مَعَ تَسَلُّمِهَا فِي مَعْنَى رَفْعِ الْأَمَانِ عَنْهَا وَاسْتِرْقَاقِهَا أَوْ يُفْرَضُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ رَقِيقَةً(1/179)
( قَوْلُ الْمَتْنِ وَلَوْ عَاقَدَ الْإِمَامُ ) أَيْ : أَوْ نَائِبُهُ ا هـ مُغْنِي ( قَوْله هُوَ الْكَافِرُ ) إلَى قَوْلِ الْمَتْنِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ وَعَلَيْهِ إلَى وَخَرَجَ وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَعَلَّقَ إلَى وَذَلِكَ وَقَوْلُهُ وَصَوَّبَ إلَى الْمَتْنِ وَإِلَى قَوْلِهِ إذْ إسْلَامُ الْجَوَارِي فِي النِّهَايَةِ إلَّا قَوْلَهُ وَصَوَّبَ إلَى الْمَتْنِ وَمَا سَأُنَبِّهُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ : هُوَ الْكَافِرُ الْغَلِيظُ إلَخْ ) وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ . ا هـ . رَشِيدِيٌّ عِبَارَةُ الْقَامُوسِ الْعِلْجُ بِالْكَسْرِ الرَّجُلُ مِنْ كُفَّارُ الْعَجَمِ وَرَجُلٌ عَلِجٌ كَكَتِفٍ وَصُرَدٍ وَخُلُوٍّ شَدِيدٌ صَرِيعٌ مُعَالِجٌ لِلْأُمُورِ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : بِإِسْكَانِ اللَّامِ ) أَيْ : وَفَتْحِ الْقَافِ وَقَوْلُهُ مَحْصُورَةٌ أَيْ : وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ . ا هـ . مُغْنِي ( قَوْلُهُ : عَلَى الْأَوْجَهِ ) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ , أَوْ مُبْهَمَةٌ مِنْ قِلَاعٍ إلَخْ ( قَوْلُهُ : أَيْ : عَلَى أَصْلِ طَرِيقِهَا إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي إمَّا ; لِأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْنَا طَرِيقُهَا , أَوْ لِيَدُلَّنَا عَلَى طَرِيقٍ خَالٍ مِنْ الْكُفَّارِ , أَوْ سَهْلٍ , أَوْ كَثِيرِ الْمَاءِ , أَوْ الْكَلَأِ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : وَيُعَيِّنُهَا الْإِمَامُ ) وَيُجْبَرُ الْعِلْجُ عَلَى الْقَبُولِ ; لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ جَارِيَةٌ وَهَذِهِ جَارِيَةٌ أَسْنَى وَمُغْنِي ( قَوْلُهُ : بِالدَّلَالَةِ ) أَيْ : الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْفَتْحِ كَمَا يَأْتِي ( قَوْلُهُ : وَلَوْ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ إلَخْ ) وِفَاقًا لِلْمُغْنِي وَالرَّوْضِ وَخِلَافًا لِلنِّهَايَةِ حَيْثُ عَقَّبَ قَوْلَ الشَّارِحِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ إلَى قَوْلِهِ أَمَّا الْمُسَلَّمُ بِمَا نَصُّهُ كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَالْأَوْجَهُ حَمْلُ مَا هُنَا عَلَى مَا إذَا كَانَ فِيهِ كُلْفَةٌ لِيُوَافِقَ مَا مَرَّ ثَمَّ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : كَأَنْ يَكُونَ تَحْتَهَا إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي حَتَّى لَوْ كَانَ الْإِمَامُ نَازِلًا تَحْتَ قَلْعَةٍ لَا يَعْرِفُهَا فَقَالَ : مَنْ دَلَّنِي عَلَى قَلْعَةِ كَذَا فَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ فَقَالَ الْعِلْجُ : هِيَ هَذِهِ اسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَلَمْ يَعْتَبِرُوا التَّعَبَ هُنَا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الْعِلْجُ : الْقَلْعَةُ بِمَكَانِ كَذَا وَلَمْ يَمْشِ وَلَمْ يَتْعَبْ اسْتَحَقَّ الْجَارِيَةَ فَكَذَلِكَ هُنَا وَقَدْ اسْتَثْنَوْا مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى كَلِمَةٍ لَا تُتْعِبُ مَسْأَلَةَ الْعِلْجِ لِلْحَاجَةِ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَبِهِ فَارَقَ ) أَيْ : بِقَوْلِهِ لِلْحَاجَةِ . ( قَوْلُهُ : ; لِأَنَّ فِيهَا إلَخْ ) وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالدَّلَالَةُ نَوْعٌ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ أَسْنَى وَمُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَقَالَ آخَرُونَ : لَا فَرْقَ إلَخْ ) وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ نِهَايَةٌ وَمُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَعَلَيْهِ ) أَيْ : عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ ( قَوْلُهُ : فَيُعْطَاهَا ) أَيْ : الْمُسْلِمَ . هـ ا . ع ش ( قَوْلُهُ : وَإِنْ أَسْلَمَتْ ) غَايَةٌ . ا هـ . ع ش ( قَوْلُهُ : فَلَوْ مَاتَتْ إلَخْ ) هَذَا يَجْرِي فِي الْكَافِرِ أَيْضًا كَمَا يَأْتِي وَإِذَا تَأَمَّلْت كَلَامَهُ وَجَدْت حُكْمَ مُعَاقَدَةِ الْمُسْلِمِ كَحُكْمِ مُعَاقَدَةِ الْكَافِرِ وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ . ا هـ . بُجَيْرِمِيٌّ أَيْ : وَإِنْ أَسْلَمَتْ ( قَوْلُهُ : فَلَهُ قِيمَتُهَا ) أَيْ : لِلْمُسْلِمِ ( قَوْلُهُ : وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ وَلَهُ مِنْهَا جَارِيَةٌ عَمَّا إذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَهُ جَارِيَةٌ مِمَّا عِنْدِي مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلْجَهْلِ بِالْجُعْلِ كَسَائِرِ الْجِعَالَاتِ وَتَعْبِيرُهُ بِالْجَارِيَةِ مِثَالٌ وَلَوْ قَالَ جُعْلٌ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ لَكَانَ أَشْمَلَ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : لِلْجَهْلِ بِالْجُعْلِ بِلَا حَاجَةٍ ) عِبَارَةُ شَرْحِ الْمَنْهَجِ وَالْمُغْنِي عَلَى الْأَصْلِ فِي الْمُعَاقَدَةِ عَلَى مَجْهُولٍ . ا هـ . وَهِيَ أَحْسَنُ ( قَوْلُهُ : وَفَاتِحُهَا مُعَاقِدُهُ ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ لَكِنْ فِيهِ جَعْلُ الصِّفَةِ مُبْتَدَأً بِلَا اعْتِمَادٍ عَلَى نَفْيٍ , أَوْ اسْتِفْهَامٍ عَلَى مَا جَوَّزَهُ الْأَخْفَشُ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ فِي مَرَّةٍ أُخْرَى ) كَأَنْ تَرَكْنَاهَا بَعْدَ دَلَالَتِهِ , ثُمَّ عُدْنَا إلَيْهَا أَسْنَى وَمُغْنِي ( قَوْلُهُ : مَعَهُ ) أَيْ : الْعِلْجِ(1/180)
. هـ ا . رَشِيدِيٌّ ( قَوْلُهُ : لَا عَكْسُهُ ) أَيْ : بِأَنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ . ا هـ . ع ش عِبَارَةُ سم أَيْ : بِأَنْ أَسْلَمَ هُوَ بَعْدَهَا لِانْتِقَالِ الْحَقِّ مِنْهَا إلَى قِيمَتِهَا . ا هـ . ( قَوْلُهُ : كَمَا يَأْتِي ) أَيْ : فِي قَوْلِهِ هَذَا كُلُّهُ لَمْ يُسَلَّمْ وَإِلَّا أُعْطِيَهَا إلَخْ ( قَوْلُ الْمَتْنِ أُعْطِيَهَا ) أَيْ : أُعْطِيَ الْعِلْجُ الْجَارِيَةَ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مِنْ الْمُعَيَّنَةِ , أَوْ الْمُبْهَمَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْإِمَامُ . ا هـ . ع ش ( قَوْلُهُ : وَإِنْ تَعَلَّقَ إلَخْ ) غَايَةٌ ثَانِيَةٌ ( قَوْلُهُ : وَذَلِكَ ) رَاجِعٌ إلَى مَا فِي الْمَتْنِ ( قَوْلُهُ : أَوْ غَيْرَ مُعَاقِدِهِ ) عَطْفٌ عَلَى مُعَاقِدِهِ ( قَوْلُهُ : لِفَقْدِ الشَّرْطِ ) هَذِهِ عِلَّةُ الصُّورَةِ الْأُولَى فَقَطْ قَالَ الْمُغْنِي : وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِانْتِفَاءِ مُعَاقَدَتِهِ مَعَ مَنْ فَتَحَهَا . ا هـ . ( قَوْلُهُ : وَصَوَّبَ الْبُلْقِينِيُّ إلَخْ ) أَيْ : فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَخْذًا مِنْ آخِرِ كَلَامِهِ ( قَوْلُهُ : عَمَّنْ دَلَّهُ ) لَعَلَّ صَوَابَهُ عَنْ مُعَاقَدَةِ ( قَوْلُهُ : بِدَلَالَتِهِ مَعَ فَتْحِهَا ) فَالِاسْتِحْقَاقُ مُقَيَّدٌ بِشَيْئَيْنِ الدَّلَالَةُ وَالْفَتْحُ . ا هـ . مُغْنِي ( قَوْلُهُ : مُقَيَّدٌ بِهِ ) أَيْ : بِالْفَتْحِ ( قَوْلُهُ : مَا تَقَرَّرَ ) أَيْ : فِي قَوْلِهِ فَالْجُعْلُ مُقَيَّدٌ بِهِ . ا هـ . ع ش ( قَوْلُهُ : هَذَا ) أَيْ : الْخِلَافُ ( قَوْلُهُ : فِيهَا ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي مِنْ الْقَلْعَةِ . ا هـ . فَفِي بِمَعْنَى مِنْ ( قَوْلُهُ : اتِّفَاقًا إلَخْ ) لَعَلَّ صُورَتَهُ أَنَّهُ عُوقِدَ بِجَعْلِ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِ الْإِمَامِ , أَوْ بَيْتِ الْمَالِ وَإِلَّا فَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَوْ عَاقَدَهُ بِجَارِيَةٍ مِنْ غَيْرِ الْقَلْعَةِ لَمْ يَصِحَّ لِلْجَهْلِ بِالْجُعْلِ بِلَا حَاجَةٍ . ا هـ . ع ش وَقَدْ يُقَالُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ( قَوْلُ الْمَتْنِ , أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ ) جَعَلَ فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي لَا شَيْءَ فِيهَا مَا لَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ إسْلَامِهِ وَقَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَهَا . ا هـ . سم وَسَيَأْتِي عَنْ الْمُغْنِي وَالْأَسْنَى مَا يُفِيدُهُ ( قَوْلُهُ : وَالثَّانِي ) أَيْ : الْحُرِّيَّةُ ( قَوْلُهُ : بَلْ لَا فَرْقَ ) هَذَا قَدْ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ : الْآتِي ; لِأَنَّ إسْلَامَهَا يَمْنَعُ رِقَّهَا إلَّا إنْ يُقَالَ بِالتَّوْزِيعِ الْآتِي فِي كَلَامِ سم . ا هـ . ع ش ( قَوْلُهُ : وَكَذَا الْأَوَّلُ ) أَيْ : وَكَذَا التَّعْيِينُ لَيْسَ بِقَيْدٍ ( قَوْلُهُ : إذْ إسْلَامُ الْجَوَارِي ) أَيْ : الْمَوْجُودَةِ فِي الْقَلْعَةِ ( قَوْلُهُ : كَذَلِكَ ) أَيْ : كَإِسْلَامِ الْمُعَيَّنَةِ ( قَوْلُهُ : سَوَاءٌ أَكَانَ إسْلَامُهَا قَبْلَ الْعَقْدِ إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي مَعَ الْمَتْنِ وَإِنْ أَسْلَمَتْ دُونَ الْعِلْجِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ ظَفْرٍ بِهَا , أَوْ بَعْدَهُ فَالْمَذْهَبُ إلَخْ أَمَّا مَا لَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَبِأَنَّهَا قَاتَتْهُ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَكَلَامُ غَيْرِهِ يَقْتَضِيهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ اسْتِحْقَاقَهُ ; لِأَنَّهُ عَمِلَ مُتَبَرِّعًا . ا هـ . وَفِي سم بَعْدَ ذِكْرِ مِثْلِ قَوْلِهِ أَمَّا لَوْ أَسْلَمَتْ إلَخْ عَنْ الْأَسْنَى مَا نَصُّهُ وَقَوْلُهُ إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ إلَخْ هَلْ يَجْرِي فِيمَا إذَا مَاتَتْ قَبْلَ الْعَقْدِ . ا هـ . أَقُولُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ : وَبَعْدَهُ ) الْأَوْلَى أَمْ بَدَلَ الْوَاوِ ( قَوْلُهُ : إنْ لَمْ يُسْلِمْ ) أَيْ : الْعِلْجُ ( قَوْلُهُ : مَا لَمْ يَكُنْ إسْلَامُهُ بَعْدَهَا ) أَيْ : بِأَنْ أَسْلَمَ مَعَهَا , أَوْ قَبْلَهَا ( قَوْلُهُ : لِانْتِقَالِ إلَخْ ) أَيْ : وَإِنْ كَانَ إسْلَامُهُ بَعْدَ إسْلَامِهَا فَلَا يُعْطَاهَا لِانْتِقَالِ إلَخْ . ( قَوْلُهُ : وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ ) أَيْ : بِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالظَّفْرِ وَقَدْ كَانَتْ إذْ ذَاكَ كَافِرَةً فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهَا كَمَا لَوْ مَلَكَهَا , ثُمَّ أَسْلَمَتْ لَكِنْ لَا تُسَلَّمُ إلَيْهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا إلَى آخِرِ مَا أَطَالَ بِهِ مِمَّا حَكَاهُ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ . ا هـ . سم وَقَالَ الْمُغْنِي : وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ بِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ لَازِمٌ وَمَا هُنَا جِعَالَةٌ جَائِزَةٌ مَعَ الْمُسَامَحَةِ فِيهَا مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي غَيْرِهَا فَلَا(1/181)
تُلْحَقُ بِغَيْرِهَا . ا هـ . ( قَوْلُهُ : ; لِأَنَّ إسْلَامَهَا ) إلَى قَوْلِهِ قَالَا فِي النِّهَايَةِ وَالْمُغْنِي . ( قَوْلُهُ : يَمْنَعُ رِقَّهَا وَاسْتِيلَاءَهُ عَلَيْهَا ) كَأَنَّهُ عَلَى التَّوْزِيعِ أَيْ يَمْنَعُ رِقَّهَا إذَا كَانَتْ حُرَّةً وَأَسْلَمَتْ قَبْلَ الْأَسْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا إذَا أَسْلَمَتْ الْحُرَّةُ بَعْدَ الْأَسْرِ , أَوْ أَسْلَمَتْ الرَّقِيقَةُ فَلْيُتَأَمَّلْ سم عَلَى حَجّ . ا هـ . ع ش وَرَشِيدِيٌّ ( قَوْلُهُ : مِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ ) أَيْ : لَا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ وَلَا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ . ا هـ . مُغْنِي عِبَارَةُ النِّهَايَةِ فِي حَيْثُ يَكُونُ الرَّضْخُ كَمَا هُوَ , أَوْجَهُ احْتِمَالَيْنِ . هـ ا . ( قَوْلُهُ : أَيْ : الْبَدَلُ ) أَيْ : حَيْثُ وَجَبَ . ا هـ . مُغْنِي ( قَوْلُهُ : كُلُّ مَنْ فِيهَا ) أَيْ : فِي الْقَلْعَةِ مِنْ الْجَوَارِي ( قَوْلُهُ : وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ ) أَيْ : أُجْرَةُ الْمِثْلِ خِلَافًا لِلنِّهَايَةِ وَالْمُغْنِي . ( قَوْلُهُ : وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ الثَّانِيَ ) أَيْ : قِيمَةَ مَنْ تُسَلَّمُ إلَيْهِ اعْتَمَدَهُ النِّهَايَةُ وَالْمُغْنِي ( قَوْلُهُ : فَيُعَيَّنُ ) أَيْ : الْإِمَامُ . ا هـ . ع ش ( قَوْله وَخَرَجَ ) إلَى الْكِتَابِ فِي النِّهَايَةِ وَالْمُغْنِي ( قَوْلُهُ : وَدَخَلَتْ فِي الْأَمَانِ ) وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ الْأَمَانِ بِأَنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَمَانِ صَاحِبِ الْقَلْعَةِ وَأَهْلِهِ وَلَمْ تَكُنْ الْجَارِيَةُ مِنْهُمْ سُلِّمَتْ إلَى الْعِلْجِ . ا هـ . مُغْنِي ( قَوْلُهُ : فَإِنْ امْتَنَعَ ) أَيْ : الْعِلْجُ ( قَوْلُهُ : وَهَمَّ مِنْ تَسْلِيمِهَا إلَخْ ) عِبَارَةُ الْمُغْنِي وَالرَّوْضُ مَعَ شَرْحِهِ وَلَمْ يَرْضَ أَصْحَابُ الْقَلْعَةِ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ نَقَضْنَا الصُّلْحَ وَبُلِّغُوا الْمَأْمَنَ بِأَنْ يُرَدُّوا إلَى الْقَلْعَةِ , ثُمَّ يُسْتَأْنَفَ الْقِتَالُ وَإِنْ رَضِيَ أَصْحَابُ الْقَلْعَةِ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْعِلْجِ بِقِيمَتِهَا دَفَعْنَا لَهُمْ الْقِيمَةَ . ا هـ . ( قَوْلُهُ : نُبِذَ الصُّلْحُ ) ; لِأَنَّهُ صُلْحٌ مَنَعَ الْوَفَاءَ بِمَا شَرْطنَا قَبْلَهُ . ا هـ . أَسْنَى ( قَوْلُهُ : فَإِنْ رَضُوا بِتَسْلِيمِهَا إلَخْ ) لَا يَخْفَى أَنَّ دُخُولَهَا فِي الْأَمَانِ مَنَعَ اسْتِرْقَاقَهَا فَكَيْفَ تُسَلَّمُ لِلْعِلْجِ بِبَدَلِهَا إذَا رَضُوا وَكَانَ الرِّضَا بِالتَّسْلِيمِ مَعَ تَسَلُّمِهَا فِي مَعْنَى رَفْعِ الْأَمَانِ عَنْهَا وَاسْتِرْقَاقِهَا , أَوْ يُفْرَضُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ رَقِيقَةً . ا هـ . سم ( قَوْلُهُ : مِنْ مَحَلِّ الرَّضْخِ ) أَيْ : مِنْ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ لَا مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ وَلَا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ .
---------------------
وفي دقائق أولي النهى (1):
( وَ ) يَجِبُ ( عَلَى عَاجِزٍ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ بِمَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ كُفْرٍ أَوْ ) يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ ( بِدَعٍ مُضِلَّةٍ ) كَاعْتِزَالٍ وَتَشَيُّعٍ ( الْهِجْرَةُ ) أَيْ الْخُرُوجُ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * الْآيَاتِ " وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكِينَ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا * رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ . أَيْ لَا يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ وَيَرَوْنَ نَارَهُ إذَا أُوقِدَتْ . وَلَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي ( إنْ قَدَرَ ) عَاجِزٌ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الْهِجْرَةِ . لقوله تعالى : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ * الْآيَةَ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ( وَلَوْ ) كَانَتْ ( فِي عِدَّةٍ بِلَا رَاحِلَةٍ وَ ) بِلَا ( مَحْرَمٍ ) بِخِلَافِ الْحَجِّ ( وَسُنَّ ) هِجْرَةٌ ( لِقَادِرٍ ) عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ بِنَحْوِ دَارِ كُفْرٍ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ جِهَادِهِمْ . عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ : بَقَاءُ حُكْمِ الْهِجْرَةِ لِحَدِيثِ { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا * رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَأَمَّا حَدِيثُ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * أَيْ مِنْ مَكَّةَ . وَمِثْلُهَا كُلُّ بَلَدٍ فُتِحَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَلَدَ كُفْرٍ
وفي التاج المذهب :
__________
(1) -شرح منتهى الإرادات - (ج 4 / ص 162)(1/182)
( 471 ) ( فَصْلٌ ) فِي تَمْيِيزِ دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ دَارِ الْكُفْرِ وَمَتَى تَجِبُ الْهِجْرَةُ عَنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْبَقَاءُ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ عُذْرٍ . ( وَ ) اعْلَمْ أَنَّ ( دَارَ الْإِسْلَامِ ) هِيَ ( مَا ظَهَرَ فِيهَا ) أَرْكَانُهُ وَهِيَ ( الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ ) الْخَمْسُ وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِ ذِمَّةٍ وَلَا جِوَارٍ ( وَلَمْ تَظْهَرْ فِيهَا خَصْلَةٌ كُفْرِيَّةٌ ) مِنْ تَكْذِيبِ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ مِنْ أَيِّ كُتُبِ اللَّهِ أَوْ اسْتِخْفَافٍ أَوْ إلْحَادٍ ( وَلَوْ ) كَانَتْ تِلْكَ الْخَصْلَةُ لَيْسَتْ بِكُفْرٍ تَصْرِيحًا وَإِنَّمَا تَكُونُ كُفْرًا ( تَأْوِيلًا ) وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهَا مَنْ يَعْتَقِدُ مَا يُؤَوَّلُ إلَى الْكُفْرِ مِثْلَ الْجَبْرِ وَالْقَوْلِ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِي اعْتِقَادِهِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ مِمَّا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ كَالْقَطْعِ بِدُخُولِ فُسَّاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجَنَّةَ إذَا مَاتُوا عَلَى الْفِسْقِ وَالتَّمَرُّدِ فَهَذَا كُفْرٌ تَأْوِيلٍ لَا تَصْرِيحٍ فَإِذَا ظَهَرَ فِي دَارٍ مِنْ غَيْرِ ذِمَّةٍ وَلَا جِوَارٍ كَانَتْ دَارَ كُفْرٍ ( إلَّا ) أَنْ يَكُونَ ظُهُورُهُ مِمَّنْ أَظْهَرهُ إنَّمَا تَمَّ لَهُ فِي تِلْكَ الدَّارِ ( بِجِوَارٍ ) وَالْمُرَادُ بِالْجِوَارِ الذِّمَّةُ وَالْأَمَانُ مِنْ بَعْضِ مَنْ لَهُمْ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الدَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَمَهْمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهِيَ دَارُ إسْلَامٍ لَا دَارُ كُفْرٍ ( وَإِلَّا ) تَظْهَرُ فِيهَا الشَّهَادَتَانِ وَالصَّلَاةُ الْخَمْسُ إلَّا بِذِمَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ أَوْ ظَهَرَتْ فِيهَا خَصْلَةٌ كُفْرِيَّةٌ تَصْرِيحًا أَوْ تَأْوِيلًا مِنْ غَيْرِ ذِمَّةٍ لَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ( فَدَارُ كُفْرٍ ) أَيْ فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ ( وَإِنْ ) كَانَ الشَّهَادَتَانِ قَدْ ( ظَهَرَتَا فِيهَا ) مِنْ دُونِ جِوَارٍ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ لَكِنْ ظَهَرَ فِيهَا خَصْلَةٌ كُفْرِيَّةٌ مِنْ غَيْرِ جِوَارٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ دَارَ كُفْرٍ ( خِلَافَ الْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْحُكْمَ لِظُهُورِ الشَّهَادَتَيْنِ فِي الْبَلَدِ فَإِنْ ظَهَرَتَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ جِوَارٍ فَهِيَ دَارُ إسْلَامٍ وَلَوْ ظَهَرَ فِيهَا خَصْلَةٌ كُفْرِيَّةٌ مِنْ غَيْرِ جِوَارٍ فَلَا حُكْمَ لِظُهُورِ ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ . وَقَالَ الْمَنْصُورُ بِاَللَّهِ إنَّ الِاعْتِبَارَ بِالشَّوْكَةِ . وَقَالَ الْفَقِيهُ يُوسُفُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ إنَّ الْعِبْرَةَ بِالْكَثْرَةِ . وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَتَى ظَهَرَ فِي الْبَلَدِ خَصْلَةٌ كُفْرِيَّةٌ بِدُونِ جِوَارٍ صَارَتْ دَارَ كُفْرٍ وَلَوْ ظَهَرَ فِيهَا الشَّهَادَتَانِ بِدُونِ جِوَارٍ . ( مَسْأَلَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ دَارَيْ الْحَرْبِ وَالْكُفْرِ جَلِيٌّ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْحُكْمِ أَمَّا فِي التَّسْمِيَةِ فَدَارُ الْحَرْبِ هِيَ دَارُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ وَالْمُسْلِمِينَ الْحَرْبُ . وَأَمَّا دَارُ الْكُفْرِ فَهِيَ دَارُ الْكُفَّارِ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ وَفِي حُكْمِهَا دَارُ الْمُحَارِبِينَ فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ بَيْنَهُمْ وَالْمُسْلِمِينَ فَكُلُّ دَارِ حَرْبٍ دَارُ كُفْرٍ لَا الْعَكْسُ(1/183)
. وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَوُجُوبُ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ ظَنِّيٌّ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ وَأَمَّا دَارُ الْحَرْبِ فَوُجُوبُ الْهِجْرَةِ عَنْهَا بِالْإِجْمَاعِ وَيَجُوزُ سَبْيُ الْحَرْبِيِّ كَيْفَ أَمْكَنَ سَوَاءٌ وَجَدْنَاهُ بِدَارِنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلَا شِبْهِ أَمَانٍ كَالرَّسُولِ مِنْهُمْ إلَيْنَا أَمْ وَجَدْنَاهُ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَسَوَاءٌ كَانَ بِالْغَلَبَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِمْ وَقْتَ الْحَرْبِ أَمْ بِالتَّلَصُّصِ أَمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ إذَا كَانَ الْأَخْذُ غَيْرَ مُؤَمَّنٍ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ إبَاحَةٍ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ وَالْمُسْلِمِينَ يَمْلِكُ كُلٌّ فِيهَا مَا ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَلَا يَجُوزُ فِي دَارِ الْكُفْرِ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهَا وَلَا السَّبْيُ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَارَ إبَاحَةٍ إذْ الْوَاصِلُ إلَيْهِمْ فِي حُكْمِ الْمُؤَمَّنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي بَيَانِ دَارِ الْحَرْبِ أَنَّ أَمَانَهُمْ لِمُسْلِمٍ أَمَانٌ لَهُمْ مِنْهُ فَلَا يَغْنَمُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ بِالْمَالِ فَبِالْأَوْلَى دَارُ الْكُفْرِ ; وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي الْإِنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ لَا الرِّقِّيَّةُ وَقَدْ نَدَبَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ الْأَمِينِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْإِعْتَاقِ تَقَرُّبًا إلَى رِضَاهُ لِغَيْرِ سَبَبٍ أَوْ تَكْفِيرًا لِذَنْبٍ يَسِيرٍ اقْتَرَفْنَاهُ وَمِنْ ذَلِكَ الْمُثْلَةُ وَهُوَ أَنَّ السَّيِّدَ إذَا لَطَمَ مَمْلُوكَهُ فِي وَجْهِهِ أَلْزَمَهُ الْإِمَامُ بِإِعْتَاقِهِ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ مَمْلُوكُهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِعْتَاقِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي فَصْلِ ( 314 ) وَلَمْ يَحُثَّنَا عَلَى الِاسْتِرْقَاقِ بَلْ جَعَلَهُ مُبَاحًا لَنَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ فَصْلِ ( 461 ) فَحِينَئِذٍ الِاسْتِرْقَاقُ الْمَعْهُودُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ كَالْحَبَشَةِ وَنَحْوِهَا بَاطِلٌ وَالتَّسَرِّي بِالنِّسَاءِ اللَّاتِي يَخْتَطِفُهُنَّ النَّخَّاسُونَ أَوْ يَبِيعُهُنَّ الْآبَاءُ وَالْأَقْرَبُونَ أَوْ يُغْرِيهِنَّ التُّجَّارُ وَالْقَوَّادُونَ لَيْسَ مِنْ التَّسَرِّي الصَّحِيحِ فِي الْإِسْلَامِ بَلْ عِصْيَانٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْحَبَشَةِ وَقَدْ يَكُونُ الِاخْتِطَافُ مِنْهُمْ أَوْ مِمَّنْ بِتُخُومِ الْحَبَشَةِ مِنْ مُسْلِمِي أَفْرِيقِيَّةَ وَمِنْ قَوَاعِدِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ إذَا اجْتَمَعَ جِهَةُ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ فَالْحَظْرُ أَوْلَى حَيْثُ هُوَ الْأَصْلُ . وَالْمُؤْمِنُونَ وَقَّافُونَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم { الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ * " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدِّرَامِيُّ وَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم { لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ * " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ . ( وَتَجِبُ الْهِجْرَةُ عَنْهَا ) أَيْ عَنْ دَارِ الْكُفْرِ قَالَ فِي الْبَحْرِ إجْمَاعًا حَيْثُ حُمِلَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فِعْلٌ أَوْ تَرْكٌ . أَوْ طَلَبَ الْهِجْرَةَ الْإِمَامُ لِقُوَّةِ سُلْطَانِهِ ( وَ ) قَدْ ذَهَبَ جَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ وَبَعْضُ الْهَادَوِيَّةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ إلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ ( عَنْ دَارِ الْفِسْقِ ) وَهِيَ مَا ظَهَرَتْ فِيهَا الْمَعَاصِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُونِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُؤَمَّنُ مِنْ إنْكَارِهَا بِالْفِعْلِ وَلَا عِبْرَةَ بِتَمَكُّنِهِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ إذْ الْقَصْدُ نَفْيُهَا فَمَهْمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَغْيِيرِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ مِنْ مَوْضِعِهَا إلَى مَكَان لَوْ حَاوَلَ الْعَاصِي أَنْ يَعْصِي فِي تِلْكَ الدَّارِ مُنِعَ وَلَوْ فَوْقَ الْبَرِيدِ . وَلَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ عَنْهَا إلَّا ( إلَى ) مَوْضِعٍ ( خَلَى عَمَّا هَاجَرَ لِأَجْلِهِ ) مِنْ الْمَعَاصِي فَيُهَاجِرُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ دَارِ ظُلْمٍ وَعِصْيَانٍ إلَى دَارِ إنْصَافٍ وَإِحْسَانٍ أَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ شَرٍّ إلَى شَرٍّ وَمِنْ دَارِ عُصَاةٍ إلَى دَارِ عُصَاةٍ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا إتْعَابُ النَّفْسِ بِقَطْعِ الْمَفَاوِزِ وَشَتَاتِ الْحَالِ وَضَيَاعِ الْمَالِ ( أَوْ ) إذَا لَمْ يَجِدْ دَارَ إحْسَانٍ بَلْ كَانَ الْعِصْيَانُ(1/184)
مُنْتَشِرًا فِي الْبُلْدَانِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي فِيهِ الْمَعَاصِي ظَاهِرَةٌ إلَى ( مَا فِيهِ دُونَهُ ) مِنْ الْمَعَاصِي أَوْ مَا فِيهِ الْمُنْكَرُ إلَى مَا فِيهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ نَحْوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ فِيهِ يَظْهَرُ فِيهِ الزِّنَى وَالظُّلْمُ وَلَا يُنْكَرُ وَفِي غَيْرِهِ يَظْهَرُ الظُّلْمُ دُونَ الزِّنَى فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ إحْدَى الْمَعْصِيَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى ; لِأَنَّ فِي الشَّرِّ خِيَارًا .
وَاعْلَمْ أَنَّهَا تَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ الْمُهَاجَرَةُ ( بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ ) وَزَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَالْمَمَالِيكِ وَلَا يَكْفِيه أَنْ يَنْتَقِلَ بِنَفْسِهِ وَيَتْرُكَهُمْ بِدَارِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ ( إلَّا ) أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ فِي أَيِّهِمَا ( لِمَصْلَحَةٍ ) يَرَاهَا يَعُودُ نَفْعُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ كَإِرْشَادِ ضَالٍّ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَلَوْ وَاحِدًا أَوْ إنْقَاذِهِ مِنْ بَاطِلٍ أَوْ يَكُونُ مُعَلِّمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا لَا يَحْصُلُ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِوُقُوفِهِ بِذَلِكَ الْبَلَدِ أَوْ يَكُونُ وُقُوفُهُ دَاعِيًا لِغَيْرِهِ إلَى نُصْرَةِ الْإِمَامِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ أَوْ نَحْوِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ الْمُقْتَضَيَاتِ لِأَرْجَحِيَّةِ الْوُقُوفِ بِذَلِكَ الْبَلَدِ مَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ .
( أَوْ ) كَانَ تَرْكُ الْهِجْرَةِ مِنْ أَجْلِ ( عُذْرٍ ) نَحْوِ مَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ خَوْفِ سَبِيلٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّخَلُّفُ عَنْهَا . ( وَيَتَضَيَّقُ ) وُجُوبُ الْهِجْرَةِ ( بِأَمْرِ الْإِمَامِ ) فَإِذَا أَمَرَ الْإِمَامُ بِالْهِجْرَةِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُورِينَ الْإِقَامَةُ وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ مَصْلَحَةٌ عِنْدَهُمْ فِي وُقُوفِهِمْ إلَّا بِإِذْنِهِ ; لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ فَنَظَرُهُ أَوْلَى مِنْ نَظَرِ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ لِلْمَصْلَحَةِ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ إلَّا لِعُذْرٍ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ كَمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ جَازَ الْوُقُوفُ .
------------------
وقال الرملي في فتاويه (1):
( بَابُ الْأَمَانِ ) . ( سُئِلَ ) عَنْ الْمُسْلِمِينَ السَّاكِنِينَ فِي وَطَنٍ مِنْ الْأَوْطَانِ الْأَنْدَلُسِيَّةِ يُسَمَّى أرغون وَهُمْ تَحْتَ ذِمَّةِ السُّلْطَانِ النَّصْرَانِيِّ يَأْخُذُ مِنْهُمْ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِقَدْرِ مَا يُصِيبُونَهُ فِيهَا وَلَمْ يَتَعَدَّ عَلَيْهِمْ بِظُلْمٍ غَيْرِ ذَلِكَ لَا فِي الْأَمْوَالِ وَلَا فِي الْأَنْفُسِ وَلَهُمْ جَوَامِعُ يُصَلُّونَ فِيهَا وَيَصُومُونَ رَمَضَانَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَفُكُّونَ الْأُسَارَى مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى إذَا حَلُّوا بِأَيْدِيهِمْ وَيُقِيمُونَ حُدُودَ الْإِسْلَامِ جَهْرًا كَمَا يَنْبَغِي وَيُظْهِرُونَ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ عِيَانًا كَمَا يَجِبُ وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ النَّصْرَانِيُّ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الدِّينِيَّةِ وَيَدْعُونَ فِي خُطَبِهِمْ لِسَلَاطِينِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ شَخْصٍ وَيَطْلُبُونَ مِنْ اللَّهِ نَصْرَهُمْ وَهَلَاكَ أَعْدَائِهِمْ الْكُفَّارِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُونَ أَنْ يَكُونُوا عَاصِينَ بِإِقَامَتِهِمْ بِبِلَادِ الْكُفْرِ فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْهِجْرَةُ . وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ إظْهَارِ الدِّينِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى أَمَانٍ أَنْ يُكَلِّفُوهُمْ الِارْتِدَادَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى إجْرَاءِ أَحْكَامِهِمْ عَلَيْهِمْ أَوْ لَا تَجِبُ نَظَرًا إلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْحَالِ الْمَذْكُورِ , ثُمَّ إنْ رَجُلًا مِنْ الْوَطَنِ الْمَذْكُورِ جَاءَ إلَى أَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ إذْنِ أَبَوَيْهِ مَخَافَةَ أَنْ يَمْنَعَاهُ مِنْهُ فَأَدَّاهَا فَهَلْ حَجُّهُ صَحِيحٌ أَوْ لَا لِإِيقَاعِهِ بِغَيْرِ إذْنِ أَبَوَيْهِ وَهَلْ يَجُوزُ رُجُوعُهُ إلَى أَبَوَيْهِ فِي الْوَطَنِ الْمَذْكُورِ ؟
__________
(1) -فتاوى الرملي - (ج 5 / ص 182)(1/185)
( فَأَجَابَ ) بِأَنَّهُ لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَطَنِهِمْ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِمْ بِهِ وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عُثْمَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ إلَى مَكَّةَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ بِهَا بَلْ لَا تَجُوزُ لَهُمْ الْهِجْرَةُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ يُرْجَى بِإِقَامَتِهِمْ بِهِ إسْلَامُ غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّهُ دَارُ إسْلَامٍ فَلَوْ هَاجَرُوا مِنْهُ صَارَ دَارَ حَرْبٍ وَفِيمَا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ إظْهَارِهِمْ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَعَدَمِ تَعَرُّضِ الْكُفَّارِ لَهُمْ بِسَبَبِهَا عَلَى تَطَاوُلِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةِ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ الْغَالِبَ بِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْهُمْ مِنْ إكْرَاهِهِمْ عَلَى الِارْتِدَادِ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ عَلَى إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ * . وَأَمَّا خُرُوجُ الرَّجُلِ لِحَجِّ الْفَرْضِ بِغَيْرِ إذْنِ أَبَوَيْهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ إذْ لَيْسَ لِأَبَوَيْهِ مَنْعُهُ مِنْ الْحَجِّ الْفَرْضِ لَا ابْتِدَاءً وَلَا إتْمَامًا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ أَدَاءِ نُسُكِهِ رُجُوعُهُ إلَى أَبَوَيْهِ بِالْوَطَنِ الْمَذْكُورِ , وَحَجُّهُ صَحِيحٌ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي إسْقَاطِ الْفَرْضِ
------------------
وفي كشاف القناع (1):
( وَتَجِبُ ) الْهِجْرَةُ ( عَلَى مَنْ يَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَهِيَ مَا يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْكُفْرِ ) لقوله تعالى { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ * الْآيَةَ
وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا * رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ بِمَوْضِعٍ يَرَى نَارَهُمْ , وَيَرَوْنَ نَارَهُ إذَا أُوقِدَتْ ; وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِأَمْرِ الدِّينِ وَاجِبٌ وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ . ( زَادَ جَمَاعَةٌ ) وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى ( أَوْ بَلَدِ بُغَاةٍ أَوْ بِدَعٍ مُضِلَّةٍ , كَرَفْضٍ , وَاعْتِزَالٍ ) فَيَخْرُجُ مِنْهَا إلَى دَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ وُجُوبًا إنْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيهَا ( وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا ) أَيْ : عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا , لقوله تعالى { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ * ( وَلَوْ ) كَانَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ بِمَا ذُكِرَ ( امْرَأَةً ) لِدُخُولِهَا فِي الْعُمُومَاتِ ( وَلَوْ ) كَانَتْ ( فِي عِدَّةٍ أَوْ بِلَا رَاحِلَةٍ وَلَا مَحْرَمٍ ) بِخِلَافِ الْحَجِّ . وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ وَالرِّعَايَتَيْنِ : إنْ أَمِنَتْ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ الْفِتْنَةِ فِي دِينِهَا , لَمْ تُهَاجِرْ إلَّا بِمَحْرَمٍ , كَالْحَجِّ وَمَعْنَاهُ : فِي الشَّرْحِ وَشَرْحِ الْهِدَايَةِ لِلْمَجْدِ , وَزَادَ : وَأَمِنَتْهُمْ عَلَى نَفْسِهَا وَإِنْ لَمْ تَأْمَنْهُمْ فَلَهَا الْخُرُوجُ , حَتَّى وَحْدَهَا , بِخِلَافِ الْحَجِّ . ( وَتُسَنُّ ) الْهِجْرَةُ ( لِقَادِرٍ عَلَى إظْهَارِهِ ) أَيْ : دِينِهِ , لِيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ وَمُخَالَطَتِهِمْ وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ , , وَيَتَمَكَّنُ مِنْ جِهَادِهِمْ , وَإِعَانَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُكَثِّرُهُمْ , وَلَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي لَكِنْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً * أَنَّ الْمَعْنَى " إذَا عُمِلَ بِالْمَعَاصِي فِي أَرْضٍ فَاخْرُجُوا مِنْهَا " وَقَالَهُ عَطَاءٌ , وَيَرُدُّهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ * الْخَبَرَ .
-------------------
وفي سبل السلام (2):
__________
(1) -الشرح الكبير لابن قدامة - (ج 10 / ص 379) والإنصاف - (ج 7 / ص 22) وكشاف القناع عن متن الإقناع - (ج 8 / ص 12) والمبدع شرح المقنع - (ج 4 / ص 299)
(2) - سبل السلام - (ج 6 / ص 127)(1/186)
( وَعَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ * : رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ , وَرَجَّحَ الْبُخَارِيُّ إرْسَالَهُ ) وَكَذَا رَجَّحَ أَيْضًا أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ والدارقطني إرْسَالَهُ إلَى قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَوْصُولًا . وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْ دِيَارِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ لِحَدِيثِ جَرِيرٍ وَلِمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ مُشْرِكٍ عَمَلًا بَعْدَمَا أَسْلَمَ أَوْ يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ * وَلِعُمُومِ قوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ * الْآيَةَ وَذَهَبَ الْأَقَلُّ إلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ مَنْسُوخَةٌ لِلْحَدِيثِ الْآتِي وَهُوَ قَوْلُهُ ( وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ * . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) قَالُوا فَإِنَّهُ عَامٌّ نَاسِخٌ لِوُجُودِ الْهِجْرَةِ الدَّالُّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَرَبِ بِالْمُهَاجَرَةِ إلَيْهِ , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مَقَامَهُمْ بِبَلَدِهِمْ { وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ لِأَمِيرِهِمْ : إذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِلَالٍ , فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ عَنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ , وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ , فَإِنْ أَبَوْا وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * الْحَدِيثُ سَيَأْتِي بِطُولِهِ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ الْهِجْرَةَ وَالْأَحَادِيثُ غَيْرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ لَا يَأْمَنُ عَلَى دِينِهِ قَالُوا : وَفِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ . وَأَجَابَ مَنْ أَوْجَبَ الْهِجْرَةَ بِأَنَّ حَدِيثَ لَا هِجْرَةَ يُرَادُ بِهِ نَفْيُهَا عَنْ مَكَّةَ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ بَعْدَ الْفَتْحِ فَإِنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً مِنْ مَكَّةَ قَبْلَهُ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْهِجْرَةُ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ فَرْضًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَمَرَّتْ بَعْدَهُ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَاَلَّتِي انْقَطَعَتْ بِالْأَصَالَةِ هِيَ الْقَصْدُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَانَ وَقَوْلُهُ ( وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ) قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ : هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ يَقْتَضِي مُخَالَفَةَ حُكْمِ مَا بَعْدَهُ لِمَا قَبْلَهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهِجْرَةَ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ إلَى الْمَدِينَةِ قَدْ انْقَطَعَتْ إلَّا أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ بَاقِيَةٌ وَكَذَلِكَ الْمُفَارَقَةُ بِسَبَبِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَالْفِرَارِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْفِرَارِ مِنْ الْفِتَنِ وَالنِّيَّةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مُعْتَبَرَةٌ , وَقَالَ النَّوَوِيُّ : الْمَعْنَى أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِالْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَجِهَادٌ مَعْطُوفٌ بِالرَّفْعِ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ لَا : .
-------------------
وفي حاشية الجمل (1):
__________
(1) -حاشية البجيرمي على المنهج - (ج 15 / ص 369)(1/187)
( وَسُنَّ لِمُسْلِمٍ بِدَارِ كُفْرٍ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ ) لِكَوْنِهِ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ أَوْ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيهِ وَلَمْ يَخَفْ فِتْنَةً فِي دِينِهِ بِقَيْدٍ زِدْته بِقَوْلِي ( وَلَمْ يَرْجُ ظُهُورَ إسْلَامٍ ) ثُمَّ ( بِمُقَامِهِ هِجْرَةٌ ) إلَى دَارِنَا لِئَلَّا يَكِيدُوا لَهُ نَعَمْ إنْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِزَالِ ثَمَّ وَلَمْ يَرْجُ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ دَارُ إسْلَامٍ فَيَحْرُمُ أَنْ يُصَيِّرَهُ بِاعْتِزَالِهِ عَنْهُ دَارَ حَرْبٍ ( وَوَجَبَتْ ) عَلَيْهِ ( إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ) ذَلِكَ أَوْ خَافَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ ( وَأَطَاقَهَا ) أَيْ الْهِجْرَةَ لِآيَةِ { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ * فَإِنْ لَمْ يُطِقْهَا فَمَعْذُورٌ إلَى أَنْ يُطِيقَهَا أَمَّا إذَا رَجَا مَا ذُكِرَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ ( كَهَرَبِ أَسِيرٍ ) فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إنْ أَطَاقَهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ لِخُلُوصِهِ بِهِ مِنْ قَهْرِ الْأَسْرِ وَتَقْيِيدِي بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ هُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الْقَمُولِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ إنَّهُ قِيَاسُ مَا مَرَّ فِي الْهِجْرَةِ لَكِنَّهُ قَالَ قَبْلَهُ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَمْ لَا وَنَقَلَهُ عَنْ تَصْحِيحِ الْإِمَامِ .(1/188)
( قَوْلُهُ وَسُنَّ لِمُسْلِمٍ إلَخْ ) يَنْتَظِمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ صُورَةً لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُمْكِنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَرْجُوَ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ بِمُقَامِهِ أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يُمْكِنَهُ الِاعْتِزَالُ هُنَاكَ أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَخَافَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَرْجُوَ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لَا فَهَذِهِ تَعْمِيمَاتٌ خَمْسَةٌ يَتَحَصَّلُ مِنْهَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فَقَوْلُهُ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ إلَخْ أَيْ سَوَاءٌ رَجَا نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لَا وَسَوَاءٌ أَمْكَنَهُ الِاعْتِزَالُ هُنَاكَ أَوْ لَا فَالصُّوَرُ أَرْبَعَةٌ أَخْرَجَ مِنْهَا وَاحِدَةً لِلْحُرْمَةِ بِقَوْلِهِ نَعَمْ وَقَوْلُهُ وَالِاعْتِزَالُ الْمُرَادُ بِهِ انْحِيَازُهُ عَنْهُمْ فِي مَكَان مِنْ دَارِهِمْ وَقَوْلُهُ فَيَحْرُمُ أَنْ يُصَيِّرَهُ بِاعْتِزَالِهِ أَيْ بِهِجْرَتِهِ وَانْتِقَالِهِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ فَالِاعْتِزَالُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ خِلَافًا لِمَا تُوهِمُهُ عِبَارَتُهُ وَقَوْلُهُ ثَمَّ أَيْ بِدَارِ الْكُفْرِ وَقَوْلُهُ بِمُقَامِهِ أَيْ بِإِقَامَتِهِ هُنَاكَ أَيْ لَمْ يَرْجُ أَنَّهُ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ هُنَاكَ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ وَيَنْقَادُونَ فَيُسْلِمُونَ . وَعِبَارَةُ سم وَمُحَصِّلُ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الشَّخْصَ إنْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ وَجَبَتْ إنْ تَمَكَّنَ وَإِنْ قَدَرَ بِسَبَبِ عَشِيرَتِهِ مَثَلًا فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَادِرًا عَلَى امْتِنَاعِهِ وَانْعِزَالِهِ وَجَبَتْ إقَامَتُهُ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَدُعَائِهِمْ لِلْإِسْلَامِ أَمْ لَا وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالِانْعِزَالِ فَإِنْ رَجَا ظُهُورَ الْإِسْلَامِ بِمُقَامِهِ سُنَّتْ إقَامَتُهُ أَوْ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ بِهِجْرَتِهِ سُنَّتْ أَوْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ا هـ عَمِيرَةُ وَالظَّاهِرُ اسْتِحْبَابُ الْهِجْرَةِ فِي هَذَا الْأَخِيرِ انْتَهَتْ وَقَوْلُهُ فَيَحْرُمُ أَنْ يُصَيِّرَهُ بِاعْتِزَالِهِ عَنْهُ دَارَ حَرْبٍ أَيْ صُورَةً لَا حُكْمًا إذْ مَا حُكِمَ بِأَنَّهُ دَارُ إسْلَامٍ لَا يَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ دَارَ كُفْرٍ مُطْلَقًا كَمَا بَسَطَهُ فِي التُّحْفَةِ ا هـ شَوْبَرِيٌّ وَعِبَارَتُهَا ( تَنْبِيهٌ ) يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِمْ لِأَنَّ مَحَلَّهُ دَارُ إسْلَامٍ أَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ فِيهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ صَارَ دَارَ إسْلَامٍ وَحِينَئِذٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَوْدُهُ دَارَ كُفْرٍ وَإِنْ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ * فَقَوْلُهُمْ لَصَارَ دَارَ حَرْبٍ الْمُرَادُ صَيْرُورَتُهُ كَذَلِكَ صُورَةً لَا حُكْمًا وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ وَلَا أَظُنُّ أَصْحَابَنَا يَسْمَحُونَ بِذَلِكَ بَلْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ فَسَادٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَوْ اسْتَوْلَوْا عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مِلْكِ أَهْلِهِ ثُمَّ فَتَحْنَاهَا عَنْوَةً مَلَكْنَاهَا عَلَى مُلَّاكِهَا وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ ثُمَّ رَأَيْت الرَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا نَقْلًا عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ يَسْكُنُهُ الْمُسْلِمُونَ وَقِسْمٌ فَتَحُوهُ وَأَقَرُّوا أَهْلَهُ عَلَيْهِ بِجِزْيَةٍ مَلَكُوهُ أَوْ لَا وَقِسْمٌ كَانُوا يَسْكُنُونَهُ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَعَدُّهُمْ الْقِسْمَ الثَّانِيَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي كَوْنِهَا دَارَ إسْلَامٍ كَوْنُهَا تَحْتَ اسْتِيلَاءِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ قَالَ وَأَمَّا عَدُّهُمْ الثَّالِثَ فَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْقَدِيمَ يَكْفِي لِاسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ انْتَهَتْ وَقَوْلُهُ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ أَيْ إظْهَارُ دِينِهِ أَيْ وَالْمُقْسَمُ أَنَّهُ لَمْ يَرْجُ ظُهُورَ إسْلَامِ بِمُقَامِهِ وَحِينَئِذٍ تَصْدُقُ الْعِبَارَةُ بِصُوَرٍ ثَمَانِيَةٍ لِأَنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِاعْتِزَالِ أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَخَافَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَرْجُوَ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لَا وَقَوْلُ الشَّارِحِ أَوْ خَافَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ أَيْ أَوْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ أَيْ إظْهَارُ دِينِهِ أَيْ وَالْمُقْسَمُ(1/189)
أَنَّهُ لَمْ يَرْجُ ظُهُورَ إسْلَامٍ بِمُقَامِهِ فَحِينَئِذٍ تَصْدُقُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ بِصُوَرٍ أَرْبَعَةٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ وَالِاعْتِزَالِ أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَرْجُوَ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لَا فَتَلَخَّصَ أَنَّ صُوَرَ الْوُجُوبِ اثْنَا عَشَرَ وَقَوْلُهُ أَمَّا إذَا رَجَا مَا ذُكِرَ أَيْ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ بِمُقَامِهِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ أَيْ فَتَكُونُ الْهِجْرَةُ خِلَافَ الْأَوْلَى وَتَصْدُقُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ بِسِتَّةَ عَشَرَ صُورَةً لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُمْكِنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَخَافَ فِتْنَةً أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِاعْتِزَالِ أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَرْجُوَ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لَا فَتَلَخَّصَ أَنَّ صُوَرَ خِلَافِ الْأَوْلَى سِتَّةَ عَشَرَ وَصُوَرَ الْوُجُوبِ اثْنَا عَشْر وَصُورَةَ الْحُرْمَةِ وَاحِدَةٌ وَصُوَرَ النَّدْبِ ثَلَاثَةٌ فَالْأَحْكَامُ أَرْبَعَةٌ وَالصُّوَرُ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ كَمَا لَا يَخْفَى ا هـ ( قَوْلُهُ بِدَارِ كُفْرٍ ) أَيْ حَرْبٍ وَالْأَوْجَهُ أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا كَذَلِكَ ا هـ شَرْحُ م ر ( قَوْلُهُ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ ) إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك الْفَاعِلُ مِنْ الْمَفْعُولِ فَرُدَّ الِاسْمَ إلَى الضَّمِيرِ فَمَا رَجَعَ إلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَرْفُوعِ فَهُوَ الْفَاعِلُ وَمَا رَجَعَ إلَى ضَمِيرِهِ الْمَنْصُوبِ فَهُوَ الْمَفْعُولُ قَالَ ابْنُ هَاشِمٍ تَقُولُ أَمْكَنَ الْمُسَافِرَ السَّفَرُ بِنَصْبِ الْمُسَافِرِ لِأَنَّك تَقُولُ أَمْكَنَنِي السَّفَرُ وَلَا تَقُولُ أَمْكَنْت السَّفَرَ ا هـ شَوْبَرِيٌّ ( قَوْلُهُ وَوَجَبَتْ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ) أَيْ وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً بِلَا مَحْرَمٍ . ( تَنْبِيهٌ ) كَانَتْ الْهِجْرَةُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِ إلَيْهِ وَبَعْدَهُ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا مَرَّ وَأَمَّا الْهِجْرَةُ مِنْ بَلَدٍ يُعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاصِي وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إزَالَتِهَا فَقَالَ شَيْخُنَا لَا تَجِبُ بَلْ تُنْدَبُ وَقَالَ الْعَلَّامَةُ السَّنْبَاطِيُّ كَغَيْرِهِ أَيْضًا ا هـ ق ل عَلَى الْمَحَلِّيِّ ( قَوْلُهُ كَهَرَبِ أَسِيرٍ ) هَذَا التَّشْبِيهُ يُمْكِنُ رُجُوعُهُ لِلنَّدْبِ وَالْوُجُوبِ بَلْ وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ الْحُرْمَةِ وَخِلَافُ الْأَوْلَى فَتَجْرِي فِيهِ الْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ وَتُتَعَقَّلُ فِيهِ صُوَرُ النَّدْبِ الثَّلَاثَةِ وَصُورَةُ الْحُرْمَةِ الْوَاحِدَةِ وَصُوَرُ الْوُجُوبِ الِاثْنَا عَشَرَ وَصُوَرُ خِلَافِ الْأَوْلَى السِّتَّةَ عَشْرَ وَالشَّارِحُ جَعَلَهُ رَاجِعًا لِلْوُجُوبِ فَقَطْ بَلْ لِبَعْضِ صُوَرِهِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ إلَخْ أَيْ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يَرْجُ ظُهُورَ إسْلَامٍ بِمُقَامِهِ إذْ هَذَا هُوَ فَرْضُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَحِينَئِذٍ يُقَالُ هَذَا الْأَسِيرُ الَّذِي يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ إمَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الِاعْتِزَالِ أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَخَافَ فِتْنَةً أَوْ لَا وَعَلَى كُلٍّ إمَّا أَنْ يَرْجُوَ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لَا وَأَمَّا الصُّوَرُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ صُوَرِ الْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِ الشَّارِحِ أَوْ خَافَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ فَلَا تَتَحَمَّلُهَا عِبَارَتُهُ هُنَا لِتَقْيِيدِهِ هُنَا بِقَوْلِهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ وَالْأَرْبَعَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ وَالْحَامِلُ عَلَى التَّقْيِيدِ مُجَارَاةُ عِبَارَةِ الْمَتْنِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِيهَا مَوْجُودٌ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْمُشَبَّهِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ قَيْدًا فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ بِدَلِيلِ عَطْفِ الشَّارِحِ عَلَى الْقَيْدِ فِيهِ بِقَوْلِهِ أَوْ خَافَ فِتْنَةً إلَخْ وَلَا فِي الْمُشَبَّهِ كَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ وَتَقْيِيدِي بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ أَيْ تَقْيِيدِي لِهَرَبِ الْأَسِيرِ الَّذِي يُفِيدُهُ التَّشْبِيهُ تَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ إلَخْ ) هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّ نَفْسَ الْأَسْرِ ذُلٌّ ا هـ شَوْبَرِيٌّ . وَعِبَارَةُ أَصْلِهِ مَعَ شَرْحِ م ر وَإِنْ قَدَرَ أَسِيرٌ عَلَى هَرَبٍ لَزِمَهُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ إظْهَارُ دِينِهِ كَمَا صَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَاقْتَضَى كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ اعْتِمَادَهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْأَسِيرَ فِي يَدِ الْكُفَّارِ مَقْهُورٌ مُهَانٌ فَكَانَ ذَلِكَ لَهُ تَخْلِيصًا لِنَفْسِهِ(1/190)
مِنْ رِقِّ الْأَسْرِ انْتَهَتْ
---------------------
وفي فتح العلي المالك (1):
بسم الله الرحمن الرحيم مَسَائِلُ الْجِهَادِ
( مَا قَوْلُكُمْ ) فِي إقْلِيمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَجَمَ الْكَافِرُ الْعَدُوُّ عَلَى بِلَادِهِمْ وَأَخَذَهَا وَتَمَلَّكَ بِهَا وَبَقِيَتْ جِبَالٌ فِي طَرَفِ الْإِقْلِيمِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَصِلْهَا , وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا وَهِيَ مَحْرُوسَةٌ بِأَهْلِهَا وَهَاجَرَ إلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ الْإِقْلِيمِ الْمَذْكُورِ بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَبَقِيَ مَنْ بَقِيَ تَحْتَ حُكْمِ الْكَافِرِ وَفِي رَعِيَّتِهِ , وَضَرَبَ عَلَيْهِمْ خَرَاجًا يُشْبِهُ الْجِزْيَةَ الْمَعْلُومَةَ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ , وَفِيمَنْ هَاجَرَ بَعْضٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَفِيمَنْ بَقِيَ بَعْضٌ كَذَلِكَ فَصَارَ التَّشَاجُرُ بَيْنَ فَرِيقَيْ الْعُلَمَاءِ , فَمَنْ هَاجَرَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْجِبَالِ الْمَذْكُورَةِ يَقُولُ : الْهِجْرَةُ وَاجِبَةٌ وَيُفْتِي بِأَنَّ مَنْ بَقِيَ تَحْتَ الْكَافِرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْهِجْرَةِ يُبَاحُ دَمُهُ وَمَالُهُ وَسَبْيُ أَهْلِهِ وَذَرَارِيِّهِ مُسْتَدِلًّا هَذَا الْقَائِلُ بِأَنَّ مَنْ بَقِيَ مَعَهُ صَارَ مُعِينًا لَهُ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَنَهْبِ أَمْوَالِهِمْ وَسَاعِيًا فِي غَلَبَةِ الْكَافِرِ عَلَيْهِمْ وَبِأَدِلَّةٍ غَيْرِ ذَلِكَ , وَمَنْ بَقِيَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَقِيَ تَحْتَ الْكَافِرِ , وَلَمْ يُهَاجِرْ يَقُولُ : الْهِجْرَةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَيَسْتَدِلُّ بِدَلَائِلَ مِنْ جُمْلَتِهَا قوله تعالى { إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً * وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * وَغَيْرُ ذَلِكَ . فَأَفِيدُوا الْجَوَابَ الْوَافِيَ بِالدَّلِيلِ الشَّافِي الَّذِي لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَكُمْ الثَّوَابُ مِنْ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ .
فَأَجَبْت بِمَا نَصُّهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ فِي الْمِعْيَارِ إنَّ الْهِجْرَةَ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ إلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ فَرِيضَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَكَذَلِكَ الْهِجْرَةُ مِنْ أَرْضِ الْحَرَامِ وَالْبَاطِلِ بِظَنٍّ , أَوْ فِتْنَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شِعَبَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ * أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالْمُوَطَّأُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ , وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ لَا يُقِيمُ أَحَدٌ فِي مَوْضِعٍ يُعْمَلُ فِيهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قَالَ فِي الْعَارِضَةِ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بَلَدٌ إلَّا كَذَلِكَ قُلْنَا يَخْتَارُ الْمَرْءُ أَقَلَّهَا إنَّمَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَلَدٌ فِيهِ كُفْرٌ فَبَلَدٌ فِيهِ جَوْرٌ خَيْرٌ مِنْهُ , أَوْ بَلَدٌ فِيهِ عَدْلٌ وَحَرَامٌ فَبَلَدٌ فِيهِ جَوْرٌ وَحَلَالٌ خَيْرٌ مِنْهُ لِلْمُقَامِ , أَوْ بَلَدٌ فِيهِ مَعَاصٍ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَوْلَى مِنْ بَلَدٍ فِيهِ مَعَاصٍ فِي مَظَالِمِ الْعِبَادِ , وَهَذَا الْأُنْمُوذَجُ دَلِيلٌ عَلَى مَا وَرَاءَهُ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله تعالى عنه فُلَانٌ بِالْمَدِينَةِ وَفُلَانٌ بِمَكَّةَ وَفُلَانٌ بِالْعِرَاقِ وَفُلَانٌ بِالشَّامِ امْتَلَأَتْ الْأَرْضُ جَوْرًا وَظُلْمًا ا هـ .
__________
(1) - جامع الفقه الإسلامي(1/191)
وَلَا يُسْقِطُ هَذِهِ الْهِجْرَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَوْلَى الطَّاغِيَةُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَعَاقِلِهِمْ وَبِلَادِهِمْ إلَّا تَصَوُّرُ الْعَجْزِ عَنْهَا بِكُلِّ وَجْهٍ وَحَالٍ لَا الْوَطَنُ وَالْمَالُ , فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُلْغًى فِي نَظَرِ الشَّرْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * , فَهَذَا الِاسْتِضْعَافُ الْمَعْفُوُّ عَمَّنْ اتَّصَفَ بِهِ غَيْرُ الِاسْتِضْعَافِ الْمُعْتَذَرِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَصَدْرِهَا , وَهُوَ قَوْلُ الظَّالِمِي أَنْفُسِهِمْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْ الِاعْتِذَارَ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ وَجْهٍ مَا وَعَفَا عَنْ ذِي الِاسْتِضْعَافِ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ مَعَهُ حِيلَةٌ وَلَا يُهْتَدَى سَبِيلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ * وَعَسَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ فَالْمُسْتَضْعَفُ الْمُعَاقَبُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ هُوَ الْقَادِرُ مِنْ وَجْهٍ وَالْمُسْتَضْعَفُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ فِي عَجُزِهَا هُوَ الْعَاجِزُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . فَإِذَا عَجَزَ الْمُبْتَلَى بِهَذِهِ الْإِقَامَةِ عَنْ الْفِرَارِ بِدِينِهِ , وَلَمْ يَسْتَطِعْ سَبِيلًا إلَيْهِ وَلَا ظَهَرَتْ لَهُ حِيلَةٌ وَلَا قُدْرَةٌ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَا حَالٍ وَكَانَ بِمَثَابَةِ الْمُقْعَدِ وَالْمَأْسُورِ وَكَانَ مَرِيضًا جِدًّا , أَوْ ضَعِيفًا فَحِينَئِذٍ يُرْجَى لَهُ الْعَفْوُ وَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى التَّلَفُّظِ بِالْكُفْرِ وَمَعَ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ قَائِمَةٌ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ وَتَمَكَّنَ لَهَاجَرَ وَعَزَمَ مُسْتَصْعِبٌ أَنَّهُ إنْ ظَفِرَ بِحِيلَةٍ وَقْتًا مَا فَيُهَاجِرُ . وَأَمَّا الْمُسْتَطِيعُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ وَبِأَيِّ حِيلَةٍ تَمَكَّنَتْ فَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ إنْ أَقَامَ حَسْبَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ * إلَى قَوْلِهِ { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * . وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * , وَقَالَ تَعَالَى { لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَقَالَ تَعَالَى : { بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ , فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا * إلَى قوله تعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا * , وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ * وَقَالَ تَعَالَى { إنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ * ,(1/192)
وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَقَالَ تَعَالَى { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * . وَالظَّالِمِي أَنْفُسِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ إنَّمَا هُمْ التَّارِكُونَ لِلْهِجْرَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا حَسْبَمَا تَضْمَنَّهُ قوله تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * فَظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ إنَّمَا كَانَ بِتَرْكِهَا , وَهَذِهِ الْإِقَامَةُ مَعَ الْكُفَّارِ وَتَكْثِيرُ سَوَادِهِمْ وقوله تعالى { تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ * فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُوَبَّخَ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُعَاقَبُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى هَذِهِ الْإِقَامَةِ , وَأَنَّ مَنْ تَابَ عَنْ ذَلِكَ وَهَاجَرَ وَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ , وَلَوْ بِالطَّرِيقِ فَتَوَفَّاهُ الْمَلَكُ خَارِجًا عَنْهُمْ يُرْجِي قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَلَا يَمُوتُ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * فَهَذِهِ الْآيُ الْقُرْآنِيَّةُ كُلُّهَا , أَوْ أَكْثَرُهَا مَا سِوَى قوله تعالى { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ * نُصُوصٌ فِي تَحْرِيمِ الْمُوَالَاةِ الْكُفْرَانِيَّةِ . وَأَمَّا قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَمَا أَبْقَتْ مُتَعَلِّقًا إلَى التَّطَرُّقِ لِهَذَا التَّحْرِيمِ , وَكَذَا قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَتَكْرَارُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَجَرْيُهَا عَلَى نَسَقِ وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ مُؤَكِّدٌ لِلتَّحْرِيمِ وَرَافِعٌ لِاحْتِمَالِ التَّطَرُّقِ إلَيْهِ . فَإِنَّ الْمَعْنَى إذَا نُصَّ عَلَيْهِ وَأُكِّدَ بِالتَّكْرَارِ , فَقَدْ ارْتَفَعَ الِاحْتِمَالُ لَا شَكَّ فَتَعَاضَدَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى هَذَا النَّهْيِ فَلَا تَجِدُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْإِقَامَةِ , وَهَذِهِ الْمُوَالَاةِ الْكُفْرَانِيَّةِ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * فَهُوَ تَحْرِيمٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مِنْ الدِّينِ كَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الَّتِي أَطْبَقَ أَرْبَابُ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ عَلَى تَحْرِيمِهَا , وَمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَرَامَ الْخِلَافَ مِنْ الْمُقِيمِينَ مَعَهُمْ وَالرَّاكِنِينَ إلَيْهِمْ بِجَوَازِ هَذِهِ الْإِقَامَةِ وَاسْتَخَفَّ أَمْرَهَا فَهُوَ مَارِقٌ مِنْ الدِّينِ وَمُفَارِقٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَحْجُوجٌ بِمَا لَا مَدْفَعَ فِيهِ لِمُسْلِمٍ وَمَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إلَى مُخَالَفَتِهِ وَخَرْقِهِ . قَالَ زَعِيمُ الْفُقَهَاءِ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ رحمه الله تعالى فِي أَوَّلِ كِتَابِ التِّجَارَةِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ فَرْضُ الْهِجْرَةِ لَيْسَ سَاقِطًا بَلْ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ لَازِمَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ لَا يُقِيمَ بِهَا حَيْثُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُشْرِكِينَ بَلْ يَهْجُرُهُ وَيَلْحَقُ بِدَارِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ تَجْرِي عَلَيْهِ(1/193)
أَحْكَامُهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُقِيمٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ * إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُهَاجِرِ بِهَا الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ إنْ عَادَ إلَى دَارِ إيمَانٍ وَإِسْلَامٍ كَمَا حُرِّمَ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرُّجُوعُ إلَى مَكَّةَ لِلَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ الْفَضْلِ فِي ذَلِكَ . قَالَ : فَإِذَا وَجَبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ يَهْجُرَهُ وَيَلْحَقَ بِدَارِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَثْوِي بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَيُقِيمُ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ لِئَلَّا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُمْ فَكَيْفَ يُبَاحُ لِأَحَدٍ الدُّخُولُ إلَى بِلَادِهِمْ حَيْثُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُمْ فِي تِجَارَةٍ , أَوْ غَيْرِهَا , وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رحمه الله تعالى أَنْ يَسْكُنَ أَحَدٌ بِبَلَدٍ يُسَبُّ فِيهَا السَّلَفُ فَكَيْفَ بِبَلَدٍ يُكْفَرُ فِيهِ بِالرَّحْمَنِ وَتُعْبَدُ فِيهِ مِنْ دُونِهِ الْأَوْثَانُ لَا تَسْتَقِرُّ نَفْسُ أَحَدٍ عَلَى هَذَا إلَّا مُسْلِمٌ مَرِيضُ الْإِيمَانِ ا هـ . فَإِنْ قُلْت الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ صُورَةُ طُرُوِّ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَالصُّورَةُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا هِيَ طُرُوُّ الْإِقَامَةِ عَلَى أَصَالَةِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بَوْنٌ فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَال عَلَى الصُّورَةِ الْمَسْئُولِ عَنْ حُكْمِهَا . قُلْت : تَفَقُّهُ الْمُتَقَدِّمِينَ إنَّمَا هُوَ فِي تَارِكِ الْهِجْرَةِ مُطْلَقًا وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ , وَهُوَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ , وَهَذِهِ الْمَسْئُولُ عَنْهَا أَيْضًا صُورَةٌ ثَانِيَةٌ مِنْ صُوَرِهِ لَا تُخَالِفُ الْأُولَى الْمُمَثَّلَ بِهَا إلَّا فِي طُرُقِ الْإِقَامَةِ خَاصَّةً فَالصُّورَةُ الْأُولَى الْمُمَثَّلُ بِهَا عِنْدَهُمْ طَرَأَ الْإِسْلَامُ فِيهَا عَلَى الْإِقَامَةِ وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ الْمُلْحَقَةُ بِهَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا طَرَأَتْ الْإِقَامَةُ فِيهَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَاخْتِلَافُ الطُّرُوِّ فَرْقٌ صُورِيٌّ , وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي اسْتِدْعَاءِ نَصِّ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَانْتِهَائِهِ إلَيْهِ , وَإِنَّمَا خَصَّ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى الْمُقْتَدَى بِهِمْ الْكَلَامَ بِصُورَةِ مَنْ أَسْلَمَ , وَلَمْ يُهَاجِرْ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمُوَالَاةَ الشِّرْكِيَّةِ كَانَتْ مَفْقُودَةً فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّتِهِ , وَلَمْ تَحْدُثْ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مِئِينَ مِنْ السِّنِينَ وَبَعْدَ انْقِرَاضِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمُجْتَهِدِينَ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحْكَامِهَا الْفِقْهِيَّةِ أَحَدٌ مِنْهُمْ , وَإِنَّمَا نَبَغَتْ هَذِهِ الْمُوَالَاةُ النَّصْرَانِيَّةُ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ وَبَعْدَهَا مِنْ تَارِيخِ الْهِجْرَةِ وَقْتَ اسْتِيلَاءِ مَلَاعِينِ النَّصَارَى دَمَّرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جَزِيرَةِ صِقِلِّيَّةَ وَبَعْضِ كُوَرِ الْأَنْدَلُسِ . سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَاسْتَفْهَمُوهُ عَنْ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَة بِمُرْتَكِبِهَا فَأَجَابَ بِأَنَّ أَحْكَامَهُمْ جَارِيَةٌ مَعَ أَحْكَامِ مَنْ أَسْلَمَ , وَلَمْ يُهَاجِرْ وَأَلْحَقُوا هَؤُلَاءِ الْمَسْئُولَ عَنْهُمْ وَالْمَسْكُوتَ عَنْ حُكْمِهِمْ بِهِمْ وَسُوِّيَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ , وَلَمْ يَرَوْا فِيهَا فَرْقًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فِي مُوَالَاةِ الْأَعْدَاءِ وَمُسَاكَنَتِهِمْ وَمُدَاخَلَتِهِمْ وَمُلَابَسَتِهِمْ وَعَدَمِ مُبَايَنَتِهِمْ وَتَرْكِ الْهِجْرَةِ الْوَاجِبَةِ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا فِي الصُّورَةِ الْمَسْئُولِ عَنْ فَرْضِهَا بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَلْحَقُوا رضي الله عنهم الْأَحْكَامَ الْمَسْكُوتَ عَنْهَا فِي هَؤُلَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَفَقَّهِ فِيهَا فِي أُولَئِكَ فَصَارَ اجْتِهَادُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مُجَرَّدِ إلْحَاقٍ لِمَسْكُوتٍ عَلَيْهِ بِمَنْطُوقٍ بِهِ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , وَهُوَ مِنْهُمْ رضي الله عنهم عَدْلٌ مِنْ النَّظَرِ وَاحْتِيَاطٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَرُكُونٌ إلَى الْوُقُوفِ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى الْمُقْتَدَى بِهِمْ فَكَانَ غَايَةً فِي الْحُسْنِ وَالدِّينِ . وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ(1/194)
عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْإِقَامَةِ مِنْ السُّنَّةِ فَمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلَ وَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ نِصْفَ الْعَقْلِ وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَلِمَ ؟ قَالَ : لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا * وَفِي الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُجَامِعُوهُمْ فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِنْهُمْ * . وَالتَّنْصِيصُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْمَقْصُودِ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ نَظَرٌ سَلِيمٌ وَتَرْجِيحٌ مُسْتَقِيمٌ , وَقَدْ ثَبَتَا فِي الْحِسَانِ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ السِّتَّةِ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا رَحَى الْإِسْلَامِ قَالُوا : وَلَا مُعَارِضَ لَهُمَا لَا نَاسِخَ وَلَا مُخَصِّصَ وَلَا غَيْرَهُمَا وَمُقْتَضَاهُمَا لَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِيهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ كَافٍ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِمَا هَذَا مَعَ اعْتِضَادِهِمَا بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَشَهَادَتِهِمَا لَهُمَا . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا * وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ , وَإِنْ اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا * قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَنْدُوبًا إلَيْهَا غَيْرَ مَفْرُوضَةٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً * نَزَلَتْ حِينَ اشْتِدَادِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ وَجَبَتْ الْهِجْرَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ وَأُمِرُوا بِالِانْتِقَالِ إلَى حَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونُوا مَعَهُ فَيَتَعَاوَنُوا وَيَتَظَاهَرُوا ; لِأَنَّ حِزْبَهُمْ أُمِرَ وَلْيَعْلَمُوا أَمْرَ دِينِهِمْ وَيَتَفَقَّهُوا فِيهِ وَكَانَ عِظَمُ الْخَوْفِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةَ وَأُتْحِفَتْ بِالطَّاعَةِ إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ارْتَفَعَ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ وَعَادَ الْأَمْرُ فِيهَا إلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَهُمَا هِجْرَتَانِ فَالْمُنْقَطِعَةُ مِنْهُمَا هِيَ الْفَرْضُ وَالْبَاقِيَةُ هِيَ النَّدْبُ , فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا إسْنَادُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ وَإِسْنَادُ مُعَاوِيَةَ فِيهِ مَقَالٌ ا هـ . قُلْت : هَاتَانِ الْهِجْرَتَانِ اللَّتَانِ تَضَمَّنَهُمَا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُمَا الْهِجْرَتَانِ اللَّتَانِ انْقَطَعَ فَرْضُهُمَا بِفَتْحِ مَكَّةَ فَالْهِجْرَةُ الْأُولَى هِجْرَةٌ مِنْ الْخَوْفِ عَلَى الدِّينِ وَالنَّفْسِ كَهِجْرَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابِهِ الْمَكِّيِّينَ , فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَرِيضَةً لَا يُجْزَى إيمَانٌ دُونَهَا . وَالثَّانِيَةُ الْهِجْرَةُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَارِهِ الَّتِي اسْتَقَرَّ فِيهَا , فَقَدْ بَايَعَ مِنْ قَصَدَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَبَايَعَ آخَرِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ . وَأَمَّا الْهِجْرَةُ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ فَهِيَ فَرِيضَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ يَنْقَسِمُ إلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ : الْأُولَى : الْهِجْرَةُ وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ السَّلَامِ وَكَانَتْ فَرْضًا فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ مَفْرُوضَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاَلَّتِي انْقَطَعَتْ بِالْفَتْحِ هِيَ الْقَصْدُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَانَ , فَإِنْ بَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَصَى وَيُخْتَلَفُ فِي حَالِهِ وَانْظُرْ بَقِيَّةَ أَقْسَامِ الْهِجْرَةِ فِيهَا . وَقَالَ فِي الْعَارِضَةِ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِالنَّبِيِّ صلى(1/195)
الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ سَقَطَتْ الْهِجْرَةُ وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمُقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَصَمُوا بِالسُّجُودِ لَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا وَأَقَامُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا كَانَ اعْتِصَامُهُمْ فِي الْحَالِ نَعَمْ إنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ مَنْ بَادَرَ لِلْإِسْلَامِ إذَا رَأَى السَّيْفَ عَلَى رَأْسِهِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَكِنْ قُتِلُوا لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا ; لِأَنَّ السُّجُودَ لَا يَعْصِمُ , وَإِنَّمَا يَعْصِمُ الْإِيمَانُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَفْظًا . وَإِمَّا لِأَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَعْصِمُ , وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ , فَإِنَّ { بَنِي خُزَيْمَةَ لَمَّا أَسْرَعَ خَالِدٌ فِيهِمْ الْقَتْلَ قَالُوا : صَبَأْنَا صَبَأْنَا , وَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا فَقَتَلَهُمْ فَوَدَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِخَطَأِ خَالِدٍ وَخَطَأُ الْإِمَامِ وَعَامِلِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ * قَالَ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى التَّعْيِينِ , وَإِنَّمَا وَدَاهُمْ نِصْفَ الْعَقْلِ عَلَى مَعْنَى الصُّلْحِ وَالْمَصْلَحَةِ كَمَا وَدَى أَهْلَ خُزَيْمَةَ بِمِثْلَيْ ذَلِكَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي قَوْلِهِ .
==============
حكم السفر إلى ديار الكفار والسكنى بين ظهرانيهم من غير ضرورة(1)
حكم الهجرة العكسية من ديار الإسلام إلى ديار الكفر
العلة في تحريم الهجرة والسكنى في ديار الكفار أو بقاء ما طرأ عليه الإسلام فيها
المخالفات الشرعية المترتبة على الهجرة والسكنى في ديار الكفار
حكم السفر إلى ديار الكفار والسكنى بين ظهرانيهم من غير ضرورة
الحمد لله الذي لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، وحصر العزة والكرامة في ذاته العلية وفي رسوله والمؤمنين، وجعل الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه في كل وقت وحين، ورضي الله عن عمر القائل: لقد أعزنا الله بالإسلام، فمن طلب العزة في غيره أذله الله؛ ولله در الصحابي عاصم بن ثابت الذي أقسم أن لا يمسَّ مشركاً ولا يمسَّه مشرك، فأبر الله قسمه حياً وميتاً بأن منع المشركين من مسه بالنحل والسيل، وهذا مصداق لقول رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك"، أو كما قال.
وبعد..
لقد أوجب الله على المؤمنين الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام، ولم يستثن أحداً إلا المستضعفين من الرجال، والنساء، والولدان، ومن لم يجد بلداً يؤويه، كما هو الحال الآن، بدءاً بالهجرة من مكة عندما كانت دار كفر إلى المدينة، وانتهاء بأي بلد كافر حتى قيام الساعة، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والأدلة على وجوب ذلك القرآن، والسنة، والإجماع.
فمن الكتاب
قوله تعالى: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً".
كان جندب بن سمرة رضي الله عنه شيخاً كبيراً، فلما أمروا بالهجرة من مكة إلى المدينة وشدِّد عليهم فيها، مع علمهم أن الدين لا حرج فيه ولا تكليف بما لا يطاق، قال لبنيه: إني أجد حيلة فلا أعذر، احملوني على سرير؛ فحملوه، فمات بالتنعيم وهو يصفق يمينه على شماله: هذا لك وهذا لرسولك"
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع).
وقال السيوطي في تفسير "ظالمي أنفسهم": (بالمقام مع الكفار وترك الهجرة).
ومن السنة
o خرَّج البخاري في صحيحه بسنده عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود قال: "قطع عن أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيتُ عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهمعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله، أويضرب عنقه فيقتل، فأنزل الله: "إن الذين توفاهم الملائكة".
__________
(1) - http://www.islamadvice.com/fatawa/fatawa5.htm(1/196)
o وعن ابن عباس قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يَسْتخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، قال: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية: لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت الآية: "ومن الناس من يقول آمنا بالله" الآية.
o وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: "أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله".
o وعن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خَثْعَم، فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العَقَل، وقال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله: ولِمَ؟ قال: "لا تتراءى ناراهما".
الإجماع
أجمعت الأمة على وجوب الهجرة على المسلم من ديار الكفار إلى ديار الإسلام، ولم يستثنِ من ذلك إلا العاجزين عنها من الرجال والنساء والولدان، وفي هذا العصر الذي كثرت فيه البلايا وعظمت فيه الرزايا من لم يجد له بلداً من بلاد المسلمين يأويه.
وقد نقل ذلك الإجماع الإمام أحمد بن يحيى الونشريسي (المتوفى 914ه)، في رسالة له بعنوان "أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر"، المتضمنة في مؤلفه القيم: "المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقيا والأندلس والمغرب"، في إجابة عن سؤال في جماعة من أهل الأندلس هاجروا إلى المغرب بعد استيلاء الكفار عليها، ولكن بعضهم ندم على الهجرة وعزم على الرجوع إلى ديار الكفر، فقال: (الجواب عما سألتم عنه، والله سبحانه ولي التوفيق بفضله، أن الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة، وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم أوفتنة، قال رسول الله صلى: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن"، أخرجه البخاري، والموطأ، وأبو داود، والنسائي، وقد روى أشهب عن مالك: لا يقيم أحد في موضع يعمل فيه بغير الحق، قال في العارضة: فإن قيل: فإذا لم يوجد بلد إلا كذلك؟ قلنا: يختار المرء أقلها إثماً، مثل أن يكون بلد فيه كفر، وبلد فيه جور خير منه.
إلى أن قال:
ولا يسقط هذه الهجرة الواجبة على هؤلاء الذين استولى الطاغية لعنه الله على معاقلهم وبلادهم إلا تصور العجز عنها بكل وجه وحال، لا الوطن والمال، فإن ذلك كله ملغي في نظر الشرع، قال الله تعالى: "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراًً"، فهذا الاستضعاف المعفوّ عمن اتصف به غير الاستضعاف المعتذر به في أول الآية وصدرها وهو قول الظالمي أنفسهم: "كنا مستضعفين في الأرض".
إلى أن قال:
وتكرار الآيات في هذا المعنى وجريها على نسق وتيرة واحدة مؤكد للتحريم ورافع للاحتمال المتطرِّق إليه، فإن المعنى إذا نُصَّ عليه وأكد بالتكرار فقد ارتفع الاحتمال لا شك، فتتعاضد هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والإجماعات القطعية على هذا النهي، فلا نجد في تحريم هذه الإقامة وهذه الموالاة الكفرانية مخالفاً من أهل القبلة المتمسكين بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فهو تحريم مقطوع به من الدين كتحريم الميتة، والدم، والخنزير، وقتل النفس بغير حكم، وأخواته من الكليات الخمس التي أطبق أرباب الملل والأديان على تحريمها، ومن خالف الآن في ذلك أورام الخلاف من المقيمين معهم والراكنين إليهم فجوَّز هذه الإقامة واستخف أمرها، واستسهل حكمها، فهو مارق من الدين ومفارق لجماعة المسلمين، ومحجوج بما لا مدفع فيه لمسلم ومسبوق بالإجماع الذي لا سبيل إلى مخالفته وخرق سبيله.
قال زعيم الفقهاء القاضي أبو الوليد بن رشد رحمه الله في أول كتاب التجارة إلى أرض الحرب من مقدماته: فرض الهجرة غير ساقط، بل الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيمة، واجب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الحرب أن لايقيم بها حيث تجري أحكام المشركين، وأن يهجرها ويلحق بدار المسلمين، إلا أن هذه الهجرة لا يحرم على المهاجر بها الرجوع إلى وطنه إن عاد دار إيمان وإسلام كما حرم على المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى مكة، الذي ادخره الله لهم من الفضل في ذلك، قال: فإذا وجب بالكتاب وإجماع الأمة على من أسلم بدار الحرب أن يهجره ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين ويقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليهم أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم حيث تجرى عليه أحكامهم في تجارة أوغيرها؟ وقد كره مالك رحمه الله أن يسكن أحد ببلد يُسبُّ فيه السلف فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن؟ وتعبد فيه من دونه الأوثان؟ لا تستقر نفس أحد على هذا إلا مسلم مريض الإيمان).(1/197)
حكم الهجرة العكسية من ديار الإسلام إلى ديار الكفر
حديثنا السابق كان خاصاً بوجوب الهجرة على من طرأ عليه الإسلام وهو في بلاد الكفر، حيث يجب عليه وجوباً عينياً أن يهجرها إلى ديار الإسلام إلا إذا غُلب على أمره، أما الهجرة العكسية من ديار الإسلام إلى ديار الكفر فهي من البدع الحادثة، ولذلك لم يتحدث عنها فقهاء الإسلام السابقون، إذ لم تحدث في وقتهم ولم تدر بخلدهم فيفترضوها كما افترضوا كثيراً من المسائل وبينوا حكم الشرع فيها، على الرغم من استحالة وقوع وحدوث كثير منها، لذلك كما قال الونشريسي لم يشر إليها ابن رشد ولا ابن العربي رحمهما الله، فقد حصرا حديثهما عن وجوب هجرة من طرأ عليه الإسلام وهو في بلاد الكفر، وإن كانتا في الحكم سواء.
قال الونشريسي رحمه الله: (وإنما خص من تقدم من أئمة الهدى المقتدى بهم الكلام بصورة من أسلم ولم يهاجر، لأن هذه الموالاة الشركية كانت مفقودة في صدر الإسلام وغرته، ولم تحدث على ما قيل إلا بعد مضي مئات من السنين، وبعد انقراض أئمة الأمصار المجتهدين، فلذلك لا شك لم يتعرض لأحكامها الفقهية أحدٌ منهم، ثم لما نبغت هذه المرة الموالاة النصرانية في المائة الخامسة وما بعدها من تاريخ الهجرة وقت استيلاء ملاعين النصارى دمرهم الله على جزيرة صقلية وبعض كور الأندلس، سئل عنها بعض الفقهاء واستفهموا عن الأحكام الفقهية المتعلقة بمرتكبها، فأجاب: بأن أحكامهم جارية على أحكام من أسلم ولم يهاجر، وألحقوا هؤلاء المسؤول عنهم والمسكوت عن حكمهم بهم، وسوّوا في ذلك بين الطائفتين في الأحكام الفقهية المتعلقة بأموالهم وأولادهم، ولم يروا فيها فرقاً بين الفريقين، وذلك لأنهما في موالاة الأعداء، ومساكنتهم، ومداخلتهم، وملابستهم، وعدم مباينتهم، وترك الهجرة الواجبة عليهم، والفرار منهم، وسائر الأسباب الموجبة لهذه الأحكام المسكوت عنها في الصورة المسؤول عن فرضها بمثابة واحدة، فألحقوا رضي الله عنهم الأحكام المسكوت عنها في هؤلاء المسكوت عنهم بالأحكام المتفقة فيها في أولئك، فصار اجتهاد المتأخرين في مجرد إلحاق المسكوت عنه بمنطوق به مساوٍ له في المعنى من كل وجه).
قلت: كيف يدور بخلد أحد من السلف الصالح أن يهاجر المسلم عن طواعية واختيار، بل ويسابق وينافس في ذلك، من ديار الإسلام التي يشتهر فيها الإسلام، ويُعلن فيها الأذان، وتُصل فيها الأرحام، ويُؤمر فيها بالمعروف، ويُنهى فيها عن المنكر، إلى ديار الكفر حيث يُدَّعى فيها بالتثليث، وتُضرب فيها النواقيس، ويُعبد فيها الشيطان، ويُكفر فيها علناً بالرحمن، وتنتشر فيها الرذيلة، وتنعدم فيها الفضيلة؟
?
العلة في تحريم الهجرة والسكنى في ديار الكفار أو بقاء ما طرأ عليه الإسلام فيها
العلة الكبرى والحكمة العظمى في تحريم الهجرة إلى ديار الكفار ووجوب الهجرة منها المحافظة على الدين، إذ به نجاة الإنسان الأبدية وسعادته الأخروية، وضياعه من أعظم الخسران، إذ لا يساويه ضياع النفس، والمال، والأهل، والولدان.
الدين رأس المال فاستمسك به فضياعه من أعظم الخسران
والخوف من الكفر ولو على الأجيال القادمة للمهاجر، وأخشى ما أخشاه أن يشمله الوعيد الذي ورد في الحديث الصحيح: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أوينصِّرانه، أويمجِّسانه"، ألا يخشى الذي يساكن هؤلاء الكفار أويعاشرهم أن يتهوَّد، أويتنصَّر، أويشرك أحدُ أحفاده القادمين؟! أما يدري أنه سيحاسب على ذلك حساباً عسيراً؟! ولهذا لم يفرِّق الشارع في تحريم ذلك بين من هدفه الدعوة والتعليم ومن هدفه سوى ذلك من المهاجرين، إلا المضطرين.
المخالفات الشرعية المترتبة على الهجرة والسكنى في ديار الكفار
لم يحرِّم الشارع الحكيم ولم ينه الرسول الكريم عن شيء إلا إذا ظهرت أضراره، وعظمت أخطاره، وتعددت مفاسده.
والعبرة بالأخطار والأضرار الدينية التي يغفل عنها جل المهاجرين إلى ديار الكفر، حيث غرضُهم الأول والأخير المصالح الدنيوية، والراحة الجسدية، والمتع الزائلة، والأوهام المسيطرة على أفهام وعقول كثير منهم.
على الرغم من أن مخاطر الهجرة إلى بلاد الكفار والسكنى بين ظهرانيهم على المهاجر وأسرته، وأحفاده من بعده إن كانت له أسرة لا تنحصر، وأن الهجرة محرمة ولو سلمت من كل تلك المخاطر والمخالفات، مع ما يدخر له من الإثم، إلا أننا سنشير إلى طرف منها، لعلها تجد أذاناً صاغية، وقلوباً واعية، ونفوساً زاكية.
أخطر المخالفات الشرعية والأضرار الدينية في معاشرة ومساكنة الكفار ما يأتي:
1. مشاهدة المنكرات ومؤالفتها.
2. عدم إشهار الشعائر التعبدية.
3. الفتنة في الدين على النفس، والأولاد، والنساء، والأحفاد.
4. هجر الأمر، والنهي، والنصيحة، إذ لا مجال للقيام بذلك هناك.
5. الخوف من الوقوع في الزنا والفاحشة.
6. المعايشة تدعو إلى التشبه بالكفار والتخلق بأخلاقهم.
7. ترك اللسان العربي.
8. الخوف على النفس، والمال، والولد، والأهل.
9. مولاتهم.
10. الأفال في تلك البلاد ملك للدولة بحكم القانون.
11. ليس للمسلم على زوجه وولده أي ولاية.(1/198)
12. فيحال الفراق يحال بين الأب وأبنائه، خاصة لو كانت زوجته كافرة.
13. الخف من تزويج البنات المسلمات بالكفار.
14. تعلق النساء والأولاد بالدنيا يجعل من العسير على الأب إذا عزم على الرجوع أن يطاوعه هؤلاء على ذلك، فإما أن يطاوعهم ويجلس معهم وإما أن يتركهم.
15. درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، فما يستفيده المسلم من هجرته إلى تلك البلاد من الحرية الشخصية والمصالح الدنيوية من تعليمية وعلاجية ونحوها، لا يساوي الأضرار المشاهدة من المآسي، وما يعرفه المقيمون هناك أضعاف أضعاف ما نعرفه نحن.
16. المضايقات وردود الأفعال التي تصيب المهاجرين، كما حدث إثر حوادث الحادي عشر من سبتمبر.
وأخيراً أقول: لله در عمر بن عبد العزيز خليفة وقته عندما نهى المسلمين عن الإقامة بجزيرة الأندلس، مع أنها كانت في وقته رباطاً لا يُجهل فضله، ومع ما كان المسلمون عليه من القوة والظهور، فكيف بمن يلقي اليوم بنفسه وأسرته طائعاً مختاراً في ديار الكفار مع شدة سطوتهم، وكمال قوتهم، ونهاية جبروتهم وطغيانهم؟!!
اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
واللهَ أسألُ أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ونسألك نفوساً مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، وصلى الله وسلم وبارك على الناصح الأمين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته الميامين.
=================
وفي الموسوعة الفقهية :إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ (1):
3 - إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقْدَحُ فِي إسْلَامِهِ , إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ يُخْشَى عَلَى دِينِهِ , بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُهُ , تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ , قَالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ ؟ قَالُوا : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ . قَالُوا : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * , وَهَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ , لِمَرَضٍ أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ . أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ مَعَ إقَامَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعُونَتِهِمْ , وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ . وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ : ( ر : جِهَادٌ - دَارُ الْحَرْبِ - دَارُ الْإِسْلَامِ - هِجْرَةٌ ) .
شُرُوطُ جَوَازِ التَّقِيَّةِ :
17 - أ - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَوْفٌ مِنْ مَكْرُوهٍ , عَلَى مَا يُذْكَرُ تَفْصِيلُهُ بَعْدُ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَوْفٌ وَلَا خَطَرٌ لَمْ يَجُزْ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ تَقِيَّةً , وَذَلِكَ كَمَنْ يَفْعَلُ الْمُحَرَّمَ تَوَدُّدًا إلَى الْفُسَّاقِ أَوْ حَيَاءً مِنْهُمْ . وَإِنْ قَالَ خِلَافَ الْحَقِيقَةِ كَانَ كَاذِبًا آثِمًا , وَكَذَا مَنْ أَثْنَى عَلَى الظَّالِمِينَ أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصِدْقِهِمْ بِكَذِبِهِمْ وَحُسْنِ طَرِيقَتِهِمْ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ مِنْهُمْ دُونَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَطَرٌ مِنْهُمْ لَوْ سَكَتَ , فَإِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا آثِمًا مُشَارِكًا لَهُمْ فِي ظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ . وَإِنْ كَانَ فِيمَا صَدَّقَهُمْ بِهِ عُدْوَانٌ عَلَى مُسْلِمٍ فَذَلِكَ أَعْظَمُ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ فَهُوَ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ *
. 18 - ب - قِيلَ : يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مَعَ الْكُفَّارِ الْغَالِبِينَ وَسَبَقَ قَوْلُ الرَّازِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا شَاكَلَتْ الْحَالَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ حَلَّتْ التَّقِيَّةُ مُحَامَاةً عَنْ النَّفْسِ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1879)(1/199)
19 - ج - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ تَقِيَّةً يُتْرَكُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَهَذَا الِاشْتِرَاطُ مَنْقُولٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , فَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُؤْسَرُ فَيُعْرَضُ عَلَى الْكُفْرِ وَيُكْرَهُ عَلَيْهِ , هَلْ لَهُ أَنْ يَرْتَدَّ - أَيْ ظَاهِرًا - فَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَقَالَ : مَا يُشْبِهُ هَذَا عِنْدِي الَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُولَئِكَ كَانُوا يُرَادُونَ عَلَى الْكَلِمَةِ ثُمَّ يُتْرَكُونَ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا , وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَتَرْكِ دِينِهِمْ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ عَلَى كَلِمَةٍ يَقُولُهَا ثُمَّ يُخَلَّى لَا ضَرَرَ فِيهَا , وَهَذَا الْمُقِيمُ بَيْنَهُمْ يَلْتَزِمُ بِإِجَابَتِهِمْ إلَى الْكُفْرِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ وَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً تَزَوَّجُوهَا وَاسْتَوْلَدُوهَا أَوْلَادًا كُفَّارًا . وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ . وَظَاهِرُ حَالِهِمْ الْمَصِيرُ إلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ وَالِانْسِلَاخِ مِنْ الْإِسْلَامِ . وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إظْهَارُ الْكُفْرِ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُتْرَكُ بَعْدَ ذَلِكَ , أَمَّا إنْ كَانَ مَآلُهُ الِالْتِزَامُ بِالْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْكُفَّارِ يُجْرُونَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْكُفْرِ وَيَمْنَعُونَهُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى إظْهَارِ الْكُفْرِ . وَحِينَئِذٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَرْضِ إلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ الْإِقَامَةُ الْمَذْكُورَةُ بِعُذْرِ التَّقِيَّةِ .(1/200)
20 - د - وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّقِيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُكَلَّفِ مُخَلِّصٌ مِنْ الْأَذَى إلَّا بِالتَّقِيَّةِ , وَهَذَا الْمُخَلِّصُ قَدْ يَكُونُ الْهَرَبُ مِنْ الْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ أَوْ الضَّرْبِ , وَقَدْ يَكُونُ التَّوْرِيَةُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الطَّلَاقِ , وَعَدَمِ الدَّهْشَةِ وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ , وَقَدْ تَكُونُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ إلَى بَلَدِ الْإِسْلَامِ . فَإِنْ أَمْكَنَتْهُ الْهِجْرَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوَالَاةُ الْكُفَّارِ وَتَرْكُ إظْهَارِ دِينِهِ لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * قَالَ الْأَلُوسِيُّ : اعْتَذَرُوا عَنْ تَقْصِيرِهِمْ فِي إظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ إدْخَالِهِمْ الْخَلَلَ فِيهِ وَعَنْ الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الدِّينِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مَقْهُورِينَ تَحْتَ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ , وَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَارِهِينَ . فَلَمْ تَقْبَلْ الْمَلَائِكَةُ عُذْرَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ , فَاسْتَحَقُّوا عَذَابَ جَهَنَّمَ لِتَرْكِهِمْ الْفَرِيضَةَ الْمَحْتُومَةَ . وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَقْهُورًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ حَقِيقَةً لِضَعْفِهِ أَوْ لِصِغَرِ سِنِّهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلًا أَمْ امْرَأَةً بِحَيْثُ يَخْشَى التَّلَفَ لَوْ خَرَجَ مُهَاجِرًا فَذَلِكَ عُذْرٌ فِي الْإِقَامَةِ وَتَرْكِ الْهِجْرَةِ . وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى الْآيَتَانِ التَّالِيَتَانِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُمَا { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَقَالَ الْأَلُوسِيُّ أَيْضًا " كُلُّ مُؤْمِنٍ وَقَعَ فِي مَحَلٍّ لَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ لِتَعَرُّضِ الْمُخَالِفِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى مَحَلٍّ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ , وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَصْلًا أَنْ يَبْقَى هُنَاكَ وَيُخْفِيَ دِينَهُ وَيَتَشَبَّثَ بِعُذْرِ الِاسْتِضْعَافِ , فَإِنَّ أَرْضَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ . نَعَمْ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعُمْيَانِ وَالْمَحْبُوسِينَ وَاَلَّذِينَ يُخَوِّفُهُمْ الْمُخَالِفُونَ بِالْقَتْلِ أَوْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ أَوْ الْآبَاءِ أَوْ الْأُمَّهَاتِ تَخْوِيفًا يُظَنُّ مَعَهُ إيقَاعُ مَا خُوِّفُوا بِهِ غَالِبًا , سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْقَتْلُ بِضَرْبِ الْعُنُقِ أَوْ حَبْسِ الْقُوتِ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْمُكْثُ مَعَ الْمُخَالِفِ , وَالْمُوَافَقَةُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْحِيلَةِ لِلْخُرُوجِ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِ . وَإِنْ كَانَ التَّخْوِيفُ بِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ تَحَمُّلُهَا كَالْحَبْسِ مَعَ الْقُوتِ , وَالضَّرْبِ الْقَلِيلِ غَيْرِ الْمُهْلِكِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مُوَافَقَتُهُمْ .(1/201)
21 - هـ - وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْأَذَى الْمَخُوفُ وُقُوعُهُ مِمَّا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ . وَالْأَذَى إمَّا أَنْ يَكُونَ بِضَرَرٍ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ أَوْ مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ . أَوْ فِي الْغَيْرِ , أَوْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ . فَالْأَوَّلُ كَخَوْفِ الْقَتْلِ أَوْ الْجُرْحِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوْ الْحَرْقِ الْمُؤْلِمِ أَوْ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ الْحَبْسِ مَعَ التَّجْوِيعِ وَمَنْعِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : أَوْ خَوْفِ صَفْعٍ وَلَوْ قَلِيلًا لِذِي مُرُوءَةٍ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ . أَمَّا التَّجْوِيعُ الْيَسِيرُ وَالْحَبْسُ الْيَسِيرُ وَالضَّرْبُ الْيَسِيرُ فَلَا تَحِلُّ بِهِ التَّقِيَّةُ وَلَا يُجِيزُ إظْهَارَ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ أَوْ ارْتِكَابَ الْمُحَرَّمِ . وَرَخَّصَ الْبَعْضُ فِي التَّقِيَّةِ لِأَجْلِهِ . رَوَى شُرَيْحٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : لَيْسَ الرَّجُلُ بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إذَا سُجِنَ أَوْ أُوثِقَ أَوْ عُذِّبَ . وَفِي لَفْظٍ : أَرْبَعٌ كُلُّهُنَّ كُرْهٌ : السِّجْنُ وَالضَّرْبُ وَالْوَعِيدُ وَالْقَيْدُ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا كَلَامٌ يَدْرَأُ عَنِّي سَوْطَيْنِ إلَّا كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ . وَأَمَّا الْعِرْضُ فَكَأَنْ يَخْشَى عَلَى حَرَمِهِ مِنْ الِاعْتِدَاءِ . وَأَمَّا الْخَوْفُ عَلَى الْمَالِ فَقَدْ قَالَ الرَّازِيُّ : فِيمَا سَبَقَ بَيَانُهُ : التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ وَهَلْ هِيَ جَائِزَةٌ لِصَوْنِ الْمَالِ ؟ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْجَوَازِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ * . وَقَوْلُهُ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ * وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَالِ شَدِيدَةٌ , وَالْمَاءُ إذَا بِيعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ سَقَطَ فَرْضُ الْوُضُوءِ وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِ , فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ هَاهُنَا ؟ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّ التَّخْوِيفَ بِأَخْذِ الْمَالِ إكْرَاهٌ وَلَوْ قَلِيلًا وَفِي مَذْهَبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : الْإِكْرَاهُ يَخْتَلِفُ . وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَقِيلٍ . أَيْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَاخْتِلَافِ الْأَمْرِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ وَالْأَمْرِ الْمَخُوفِ فَرُبَّ أَمْرٍ يَرْهَبُ مِنْهُ شَخْصٌ ضَعِيفٌ وَلَا يَرْهَبُهُ شَخْصٌ قَوِيٌّ شُجَاعٌ . وَرُبَّ شَخْصٍ ذِي وَجَاهَةٍ يَضَعُ الْحَبْسَ وَلَوْ يَوْمًا مِنْ قَدْرِهِ وَجَاهِهِ فَوْقَ مَا يَضَعُ الْحَبْسُ شَهْرًا مِنْ قَدْرِ غَيْرِهِ وَرُبَّ تَهْدِيدٍ أَوْ ضَرْبٍ يَسِيرٍ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْكَذِبُ الْيَسِيرُ وَيُلْغَى بِسَبَبِهِ الْإِقْرَارُ بِالْمَالِ الْيَسِيرِ , وَلَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْإِقْرَارُ بِالْكُفْرِ أَوْ الْمَالِ الْعَظِيمِ . وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مُصْطَلَحُ ( إكْرَاهٌ ) . وَأَمَّا خَوْفُ فَوْتِ الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ قَالَ فِيهِ الْأَلُوسِيُّ فِي مُخْتَصَرِ التُّحْفَةِ إنَّهُ لَا يُجِيزُ التَّقِيَّةَ . وَذَلِكَ كَمَنْ يَخْشَى إنْ لَمْ يُظْهِرْ الْمُحَرَّمَ أَنْ يَفُوتَهُ تَحْصِيلُ مَنْصِبٍ أَوْ مَالٍ يَرْجُو حُصُولَهُ وَلَيْسَ بِهِ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * ذَمَّهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ فِي مُقَابَلَةِ مَصَالِحَ عَاجِلَةٍ . أَيْ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ . لِأَنَّ قَوْلَ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِهَا وَقَوْلُ الْإِنْسَانِ بِلِسَانِهِ خِلَافُ مَا فِي قَلْبِهِ كُلُّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَالْكَاذِبُ مَثَلًا لَا يَكْذِبُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ يَرْجُوهَا مِنْ وَرَاءِ كَذِبِهِ , وَلَوْ سُئِلَ لَقَالَ إنَّمَا كَذَبْت لِغَرَضِ كَذَا وَكَذَا أُرِيدُ تَحْصِيلَهُ , فَلَوْ جَازَ الْكَذِبُ لِتَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لَعَادَ كُلُّ كَذِبٍ مُبَاحًا وَيَكُونُ هَذَا قَلْبًا لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَإِخْرَاجًا لَهَا عَنْ وَضْعِهَا الَّذِي وُضِعَتْ عَلَيْهِ .
--------------------
دَارُ الْحَرْبِ (1)
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1100) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 6791) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7104)(1/202)
1 - دَارُ الْحَرْبِ : هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ : الْهِجْرَةُ : 2 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أ - مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ , وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا , وَلَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لَا تَجِدُ مَحْرَمًا , إنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ , أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَلَّ مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ . لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * . وَفِي الْآيَةِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ , وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ . وَلِحَدِيثِ : { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا * وَحَدِيثِ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ * أَمَّا حَدِيثُ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * فَمَعْنَاهُ لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا , لِصَيْرُورَةِ مَكَّةَ دَارَ إسْلَامٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ . ب - مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ : وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا , إمَّا لِمَرَضٍ , أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ , أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ , وَالْوِلْدَانِ . لقوله تعالى : { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * . ج - مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ , وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ , وَهُوَ : مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْجِهَادِ , وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ . د - وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا : وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَيَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِزَالِ فِي مَكَان خَاصٍّ , وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْكُفَّارِ , فَهَذَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ , لِأَنَّ مَكَانَ اعْتِزَالِهِ صَارَ دَارَ إسْلَامٍ بِامْتِنَاعِهِ , فَيَعُودُ بِهِجْرَتِهِ إلَى حَوْزَةِ الْكُفَّارِ , وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ , لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْكُفَّارِ صَارَ دَارَ إسْلَامٍ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِخَبَرِ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ * . أَمَّا حَدِيثُ : { اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ * . فَمَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ * .
================
حكم الغدر (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11233)(1/203)
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ لِأَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ , وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْغَادِرُ مِنْ أَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّ ضَرَرَ غَدْرِهِ يَتَعَدَّى إلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى الْغَدْرِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * , وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ , إذَا حَدَّثَ كَذَبَ . وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ * . وَالْغَدْرُ مُحَرَّمٌ بِشَتَّى صُوَرِهِ , سَوَاءٌ كَانَ مَعَ فَرْدِ الْجَمَاعَةِ , وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ مُسْلِمٍ أَمْ ذِمِّيٍّ أَمْ مُعَاهِدٍ . 6 - وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ بِشُرُوطِ الْعَهْدِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهِدِينَ , مَا لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ * وَلِأَنَّ أَبَا بَصِيرٍ رضي الله عنه لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ - حَسَبَ الْعَهْدِ - قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { يَا أَبَا بَصِيرٍ إنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ صَالَحُونَا عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ وَإِنَّا لَا نَغْدِرُ , فَالْحَقْ بِقَوْمِك . . . فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا * , وَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ , وَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلَادِهِمْ , حَتَّى إذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ , فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ , اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ , فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رضي الله عنه . فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ , فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلَا يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ , أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ * قَالَ : فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ . وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا غَدَرُوا وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ , وَلَمْ يَنْبِذُوا بِالْعَهْدِ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ يَأْمَنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى عَهْدٍ وَلَا صُلْحٍ , وَيَكُونُ ذَلِكَ مُنَفِّرًا عَنْ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ , وَمُوجِبًا لِذَمِّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . 7 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ لَهُ وَالْكَفُّ عَنْهُ , حَتَّى تَنْتَهِيَ مُدَّةُ الْأَمَانِ وَيَبْلُغَ مَأْمَنَهُ , لقوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ * , وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ , فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ , لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ * . 8 - كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ دَخَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَغْدِرَهُمْ وَلَا يَخُونَهُمْ , لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى , فَإِنْ خَانَهُمْ أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ أَوْ اقْتَرَضَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إلَى أَرْبَابِهِ ; لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرَامٍ , فَلَزِمَهُ رَدُّهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَقَالُوا : لَوْ أَطْلَقَ الْكُفَّارُ الْأَسِيرَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ , أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانِهِمْ , حَرَامٌ عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لِأَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ , وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُمْ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إلَيْهِمْ ثَمَنَهُ , أَوْ الْتَزَمَ لَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِ مَالًا فِدَاءً - وَهُوَ مُخْتَارٌ - فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ لِلْأَدِلَّةِ(1/204)
السَّابِقَةِ , وَلِيَعْتَمِدُوا الشَّرْطَ فِي إطْلَاقِ أَسْرَانَا بَعْدَ ذَلِكَ . إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَرَطُوا عَلَيْهِ : أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ أَوْ لَا يَهْرُبَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ مُخْتَارًا , فَالْجُمْهُورُ يَرَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ وَإِقَامَةُ شَعَائِرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ وَالْهَرَبُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ , لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسَهُمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * . وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكَ إقَامَةِ الدِّينِ وَالْتِزَامَ مَا لَا يَجُوزُ . أَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ إقَامَةُ شَعَائِرِ دِينِهِ وَإِظْهَارُهُ فِي دِيَارِ الْكُفْرِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ , لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ . لِئَلَّا يُكْثِرَ سَوَادَ الْكُفَّارِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْهَرَبُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَدْرِ وَهُوَ حَرَامٌ . ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ : أَنَّ الْأَسِيرَ إذَا أَطْلَقَهُ الْعَدُوُّ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِفِدَائِهِ - مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ - فَلَهُ بَعْثُ الْمَالِ دُونَ رُجُوعِهِ , وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِدَاءً فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ , أَمَّا لَوْ عُوهِدَ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ بِالْمَالِ فَعَجَزَ عَنْهُ فَلْيَجْتَهِدْ فِيهِ أَبَدًا وَلَا يَرْجِعْ . وَأَمَّا إذَا وَافَقَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ مُكْرَهًا فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ , سَوَاءٌ حَلَفَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ , حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِهِ لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( أَسْرَى ف 82 )
==============
الإعلام بوجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
أما بعد :
لقد ضاق المؤمنون ذرعاً برائحة دعوى أولئك النابتة في مجتمعنا ، الغادرين بدينهم وأمتهم الإسلامية الرامية إلى تجميع المسلمين تحت الحد الأدنى من الإسلام ، وعلى ضرورة التعايش معهم ، وأن الواجب أن نخشى على أنفسنا من أنفسنا لا من الغرب ولا من الحكومات المرتدة الكافرة ، وليس لدينا أدنى مشكلة في التعايش مع اليهود والنصارى ، ولا مع الأنظمة العميلة لهؤلاء ، ولكن المشكلة عند الغرب ، وعند الأنظمة المرتدة في التعايش معنا
وخلط هؤلاء الغادرين ، بين سماحة الإسلام مع أهل الكتاب سماحة ضيقة جداً وبين اتخاذهم أولياء ، و تأجيل تطبيق أحكام الردة على المرتدين لعدم القدرة وبين محبتهم والتعايش معهم ، حيث لم تتضح لهم الرؤية الحقيقة لهذا الدين ، ولم يدركوا غوره بل ينقصهم الإيمان العميق بهذه العقيدة ، ولا يعون طبيعة المعركة التي بيننا وبين أعداء الله من شتى الملل ، والنحل حتى من بعض من ينسب نفسه للإسلام .
لقد جنى هؤلاء المرتزقة على المسلمين ، عندما زعموا أن العداوة بين المسلمين واليهود و الأنظمة المرتدة الكافرة من أجل المصالح المادية والاجتماعية ، وأنه يجب علينا أن نحترم أديانهم المحرفة ، أو حرية الرأي للمرتدين ، وقرروا أن بيننا وبينهم أرضيات مشتركة والإسلام ركز على نقاط الاشتراك بيننا وبينهم ، لا على نقاط الاختلاف حيث لابد أن يقف المسلمون ، والنصارى ، والمرتدون في صف ، واحد ضد الإلحاد والظلم والاستبداد لأنهم أهل كتاب ، والمرتدون الأصل فيهم الإسلام ، وراحوا يفتشون عن النصوص التي تخدمهم ، وتخدم نحلتهم على حسب تصوراتهم الباهتة قائلين إن الله تعالى يقول :{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ويقول: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} ويقول : {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} و......و......و......و(1/205)
ونسوا أو تناسوا في المقابل أن الله تعالى يقول{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}وقوله{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} وقوله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}وقوله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } وقوله{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} و......و....... إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب منابذة هؤلاء ، وقتالهم حتى يؤمنوا ، وإن لم نستطع قتالهم ، فلا أقل من مفارقتهم و الهجرة عن ديارهم ديار الكفر والإلحاد .
و سذاجة أي سذاجة ، وغفلة أي غفلة ،أن نظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين أمام الكفار والملحدين ، والمرتدين فهم جنس واحد إذا كانت المعركة مع المسلمين.
إن هذه الحقائق الواعية يغفل عنها السذج ، أمثال المميعين لقضايا دينهم في هذا الزمان ، حين يفهمون أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي هؤلاء ، للوقوف في وجه الإلحاد ، والمادية ،بوصفنا جميعاً أهل دين ، وتحت سماء واحدة ، ناسين تعاليم قراننا وديننا ، ومتجاهلين التاريخ ، فهؤلاء الجنس هم الذين ألبوا المشركين على المؤمنين في مكة و المدينة ، منذ بزوغ شمس الدعوة وإشراقها على المعمورة في ذلك الوقت وهذا الوقت وفي كل وقت ، وهم الذين شنوا الحروب الصليبية على المسلمين أكثر من مائتي عام ، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس ، وهم الذين شردوا المسلمين من فلسطين ، وأحلوا اليهود محلهم ، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية ، وهم الذين يشردون المسلمين الآن من الحبشة والصومال والجزائر وأرتيريا ، و يوغسلافيا ، والصين و تركستان ، والهند وكشمير والفليبين ، وفي كل مكان ، وهم الذين ينزلون الآن بكل ثقلهم العسكري على الشيشان والآن يفتلون خيوط المؤامرة على حركة طالبان ، ليس لهم سواعد في هذا سوي الأنظمة العميلة ، ثم يظهر من يقول لنا بأنه يمكن التعايش معهم والاعتراف بهم ، وبردتهم وأديانهم المحرفة .
إن الذين يزعمون ذلك لا يقرؤون القرآن ، وإذا قرءوه لا يفهمونه ، وإذا فهموه اختلط عليهم ، لأن الإسلام لا يعيش في أعماقهم ، ولا في حسهم ، لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها ، ولا بوصفه ديناً يجب أن يلغي أي دينٍ سواه.
إن المعركة مع هؤلاء الكفرة ، والملاحدة ، وغيرهم ، معركة سببها الدين والاعتقاد ، لا بسبب الأرض وضيقها ، ولا اللغة و تأثيرها ، ولا التسلح العسكري وكثرته ، ولا الاقتصاد وانفتاحه ، ولا التكنولوجيا الصناعية وحداثتها ، ولا التقدم التقني ومهارته ، ولا غير ذلك من الرايات المزيفة التي ترفع في كل حين ثم تُخفض ولا حتى من أجل عداوتهم لنا ، إنما هي حرب العقيدة ، والدين ، كما هم يحاربوننا من هذا المنطلق ، لذا فلا يمكن أن نلتقي معهم ما بل بحر صوفة ، وما أشرقت شمس على ثبير ، وما حن بفلاة بعير ، بل الواجب جهادهم وقتالهم بكل ما أوتينا من قوة ، وإن لم نستطع فهجرهم والهجرة عنهم ، وعن بلادهم ، ونشر الوعي بين المؤمنين ، وهذا من أهم ما يمكن أن يقوم به المسلم تجاه دينه ، و ما هذه السطور المختصرة إلا دندنة حول هذه المسألة ، ونشرٌ للوعي فيها ، فإن حكم الهجرة من دار الكفر ، و دار الحرب إلى دار الإسلام ، هي من أوائل الخطى على هذا الطريق ، طريق المفاصلة بين المؤمنين وطواغيت الأرض ، طريق الدعوة إلى الله ، طريق الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، ولعل هذه السطور وما تحمله كلماتها تكون مشعلاً على طريق الوعي المنشود ، للنهوض بأمتنا من هذا الواقع الأغبر النكد .حيث هي الآن في موقف لا تحسد عليه ، تماماً مثل الأشقر إن تقدم نحر وإن تأخر عقر .
فللهجرة لها مقصودان ؛ الفرار من الفتنة ، وخوف المفسدة الشركية ، لأن كثرة المساس تميت الإحساس ، بل قد يألف المسلم منظر الكفر نسأل الله السلامة منه وشره ، و يتلاشى كرهه لأهله ، ويصبح ذا غيرة نخرة على الإسلام وأهله ؛ والثاني : مجاهدة أعداء الله ، والتحيز إلى أهل الإسلام ، ونصرتهم ، والعمل على وحدة الصف والتفرغ للدعوة ونشر الدين ، الذي أمرنا الله بنشره ، وتبليغه للناس . وقد أشار الشيخ عبد اللطيف بن عبدالرحمن إلى ذلك في رسالته على الإخوان .
وقبل بيان ذلك لابد من بيان ما المقصود بدار الحرب ، ودار الإسلام وأنواع الدور.
أولاً : المقصود بالدار
تطلق الدار علي معنيين اثنين عام وخاص :(1/206)
فالخاص : هي ما يعبر عنه الفقهاء بقولهم : هي اسم لساحة أدير عليها الحدود تشتمل على بيوت وإصطبل وصحن غير مسقف وعلو , فيجمع فيها بين الصحن للاسترواح ومنافع الأبنية للإسكان . كما في رد المحتار على الدر المختار .
والمعنى العام للدار : المحل . ويجمع العرصة والبناء , وتطلق أيضا على البلدة . وقال صاحب معجم اللغة : الدار المسكن يجمع البناء وما حوله قال تعالى :{ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً } (الاسراء:5) وقال تعالى{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } (البقرة:243) من هنا نستطيع أن نقول : المقصود بالدار المدينة ، أو البلد ، أو الدولة ، أو حتى القرية ، المهم أنه تجمع بشرى يسكن أي جهة من الأرض قام على نظام يحتكم إليه في جميع شئونه ، وهذا النظام شرعي كان أو وضعي . ويمكن أن نقول الدار : هي البلاد ، وما تشمله من أقاليم داخلة تحت حكمها .
وفي الوقت الحاضر ، والعرف السائد ، الدار هي الدولة :
وهي مجموعة الإيالات ( السياسات ) تجتمع ; لتحقيق السيادة على أقاليم معينة لها حدودها , ومستوطنوها , فيكون الحاكم ، أو الخليفة , أو أمير المؤمنين , على رأس هذه السلطات . وهذا هو المقصود باستعمال مصطلح " دولة " عند من استعمله من فقهاء السياسة الشرعية ، أو الأحكام السلطانية . ونتيجة لذلك يمكن القول أن الدولة تقوم على ثلاثة أركان : الدار , والرعية , والمنعة.
وتتألف الدولة من مجموعة من النظم والولايات بحيث تؤدي كل ولاية منها وظيفة خاصة من وظائف الدولة , وتعمل مجتمعة لتحقيق مقصد عام , وهو رعاية مصالح المسلمين الدينية والدنيوية . يقول الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية : الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ، والإمام هو من تصدر عنه جميع الولايات في الدولة أ. هـ ويقول ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية: فالمقصود الواجب بالولايات ، إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا , وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم أ. هـ ويقول ابن الأزرق في كتابه بدائع السلك : إن حقيقة هذا الوجوب الشرعي - يعني وجوب نصب الإمام - راجعة إلى النيابة عن الشارع في حفظ الدين وسياسة الدنيا به وسمي باعتبار هذه النيابة خلافة وإمامة , وذلك لأن الدين هو المقصود في إيجاد الخلق لا الدنيا فقط أ. هـ من أراد المزيد فليرجع إلى الموسوعة الفقهية ج21ص36
ثانياً : أنواع الدور :
1- دار الإسلام هي : كل بقعة تكون فيها أحكام الإسلام ظاهرة . وقال الشافعي : هي كل أرض تظهر فيها أحكام الإسلام وقال غيره : ولم تظهر فيها خصلة كفرية من تكذيب نبي أو كتاب من أي كتب الله أو استخفاف أو إلحاد . وقيل : كل دار ظهرت فيها دعوة الإسلام من أهله بلا خفير , ولا مجير , ولا بذل جزية , وقد نفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن كان فيهم ذمي , ولم يقهر أهل البدعة فيها أهل السنة وقيل : كل أرض سكنها مسلمون وإن كان معهم فيها غيرهم , أو تظهر فيها أحكام الإسلام.
فالدار المسلمة : هي البلاد الإسلامية وما تشمله من أقاليم داخلة تحت حكم المسلمين . والرعية هم المقيمون في حدود الدولة من المسلمين وأهل الذمة . والسيادة هي ظهور حكم الإسلام ونفاذه .
2- دار الكفر هي : كل بقعة تكون فيها أحكام الكفر ظاهرة وليس بينها وبين المسلمين حرب ، وفي حكمها دار المحاربين وقت الهدنة فكل دار حرب دار كفر لا العكس .
3- دار مركبة هي : التي فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار السلم التي يجري عليها أحكام الإسلام , لكون جندها مسلمين , ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار , بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه . كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى ج4ص331والفتاوىج28ص142
4- دار الحرب هي : كل بقعة تكون فيها الحرب بين المؤمنين والكافرين ، فدار الحرب هي دار الكفار الذين بينهم والمسلمين الحرب.
5- دار العهد وتسمى دار الموادعة ودار الصلح وهي : كل ناحية صالح المسلمون أهلها بترك القتال على أن تكون الأرض لأهلها .
6- دار البغي هي: ناحية من دار الإسلام تحيز إليها مجموعة من المسلمين لهم شوكة خرجت على طاعة الإمام بتأويل .
والمرجع في تعاريف الدور السابقة ، جميع كتب الفقه ، حيث هي مبثوثة فيها ، فبعض المذاهب تذكر ثلاثة أنواع ، وبعضها تذكر أربعة أنواع وهكذا ، فمن أراد المزيد فليرجع إلى عموم كتب الفقه ، دون تحديد لأي كتاب ، وذلك لشهرة هذه التعاريف .(1/207)
إذاً المقصود بدار الإسلام هي البلد التي تظهر و تجري فيها أحكام المسلمين أو كل أرض سكنها مسلمون وإن كان معهم فيها غيرهم , أو تظهر فيها أحكام الإسلام أو هي البلاد الإسلامية وما تشمله من أقاليم داخلة تحت حكم المسلمين . والرعية هم المقيمون في حدود الدولة من المسلمين وأهل الذمة . والسيادة هي ظهور حكم الإسلام ونفاذه . وخلافها دار الكفر التي تظهر فيها أحكام الكافرين . وفي حكمها دار المحاربين وقت الهدنة فكل دار حرب دار كفر لا العكس .
ثالثاً : تعريف الهجرة في اللغة والشرع أو الاصطلاح
جاء في لسان العرب لابن منظور ، وتاج العروس للزبيدي مادة (هجر) الهجرضد الوصل هجره يهجره هجرا ، وهجرانا صرمه ، وهما يهتجران ، و يتهاجران والاسم الهجرة وفي الحديث (لا هجرة بعد ثلاث )
وأما تعريفها في الشرع ، أو الاصطلاح ، فباختصار شديد : هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام . كما قال ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن وقال ابن قدامة في المغني : هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام . وقال الشيخ سعد بن عتيق رحمه الله - في الدرر السنية - هي : الانتقال من مواضع الشرك والمعاصي إلى بلد الإسلام والطاعة .
رابعاً : حكم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام
لقد اختلف أهل العلم عليهم رحمة الله تعالى ،في مسألة أصل الهجرة ، هل هي باقية ؟ أم أنها نسخت ؟ على قولين اثنين لا ثالث لهما ، وهذا الخلاف ناتج عن تباين العلماء في فهم الأدلة وإدراك معانيها .
فالقول الأول : من يرى النسخ ، وأن أصل الهجرة و حكمها قد انقطع وهم جل علماء الحنفية ، فهذا الجصاص يقرر ذلك في كتابه أحكام القرآن ويقول عند قوله تعالى : { فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يعني والله أعلم : حتى يسلموا ويهاجروا ; لأن الهجرة بعد الإسلام , وأنهم وإن أسلموا لم تكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة , وهو كقوله تعالى : { مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } وهذا في حال ما كانت الهجرة فرضا ; وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين , وأنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك قيل : ولم يا رسول الله ؟ قال : لا تراءى ناراهما} . فكانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة فنسخ فرض الهجرة . حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : { لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا} . حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مؤمل بن الفضل قال : حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري ?: {أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة , فقال : ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل ؟ قال : نعم قال : فهل تؤدي صدقتها ؟ قال : نعم , قال : فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا } فأباح النبي صلى الله عليه وسلم ترك الهجرة . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد قال : حدثنا عامر قال : أتى رجل عبد الله بن عمرو فقال : أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده , والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه } .
وهذا أيضاً ابن عابدين ،صاحب رد المحتار على الدر المختار يقول : وأما قول العتابي : أن من أسلم ولم يهاجر إلينا ، لا يرث من المسلم الأصلي في دارنا ، ولا المسلم الأصلي ممن أسلم ، ولم يهاجر إلينا ، سواء كان في دار الحرب مستأمنا أو لم يكن فمدفوع بقول بعض علمائنا : يخايل لي أن هذا كان في ابتداء الإسلام , حين كانت الهجرة فريضة ألا ترى أن الله تعالى نفى الولاية بين من هاجر , ومن لم يهاجر فقال :
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا }فلما كانت الولاية بينهما منتفية كان الميراث منتفيا , لأن الميراث على الولاية ، فأما اليوم فينبغي أن يرث أحدهما من الآخر ، لأن حكم الهجرة قد نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم { لا هجرة بعد الفتح } ا هـ
وقالوا في مواضع كثيرة غير المصدرين السابقين قد انقطعت الهجرة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا هجرة بعد الفتح } . وقال : { قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية } . وروي { أن صفوان بن أمية لما أسلم , قيل له : لا دين لمن لم يهاجر . فأتى المدينة , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما جاء بك أبا وهب ؟ قال : قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر . قال : ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة , أقروا على مساكنكم , فقد انقطعت الهجرة , ولكن جهاد ونية }(1/208)
والقول الثاني : للجمهور وبعض من ند عن رأي الحنفية مثل الحسن حيث يرى أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب ، فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما،ونقل عنه ذلك الجصاص ، وخالفه الرأي.
وممن يرى هذا الرأي على سبيل المثال لا الحصر ، الخطابي ، و الطيبي والنووي،و الحافظ بن حجر ، وابن قدامة ، و ابن العربي ، وابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم والشوكاني من بعدهم ، ينقل عنهم ويرجح ذلك ، وأئمة الدعوة السلفية بدءاً بالمجدد محمد بن عبد الوهاب ، ونهاية بالعلامة محمد بن ابراهيم .
وفي ذلك يقول ابن العربي في أحكام القرآن : الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستمرت بعده لمن خاف على نفسه ، والتي انقطعت بالأصالة هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان وقوله ( ولكن جهاد ونية ) قال الطيبي وغيره : هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده ، لما قبله ، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة قد انقطعت ، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة ،كالفرار من دار الكفر ، والخروج في طلب العلم والفرار من الفتن والنية في جميع ذلك معتبرة .
وقال النووي : المعنى أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة .
وقال ابن قدامة في المغني رداً على من يرى النسخ : ولنا ما روى معاوية رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها } . رواه أبو داود . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه , قال : { لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد } . رواه سعيد , وغيره , مع إطلاق الآيات ، والأخبار الدالة عليها , وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان . وأما الأحاديث الأول , فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح . وقوله لصفوان : " إن الهجرة قد انقطعت " . يعني من مكة ; لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار , فإذا فتح لم يبق بلد الكفار , فلا تبقى منه هجرة . وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة , وإنما الهجرة إليه .
هذا باختصار شديد للمسألة ، والناظر بعين الاعتبار ، والبصيرة يجد أن قول الجمهور بعدم النسخ ، وأن الحكم ثابت هو الراجح لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ، والنسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأدلة والجمع حاصل ولله الحمد حيث أجاب الجمهور على اعتراضات من يرى النسخ . والله أعلم
ويبقى أن نعلم أن الذين قالوا ببقاء حكم الهجرة ، وأنه ثابت،قد اختلفوا هل هو على الوجوب ، أم على الاستحباب والندب ، ولو أردت استقصاء أقوال أهل العلم في ذلك لطال البحث ، وتشتت القارئ ولكن باجتهاد مني أوجز الأمر ، بأن مسألة الهجرة لا نستطيع أن نقول بإيجابها على الإطلاق ، ولا بندبها أو إباحتها على الإطلاق كذلك ، ولكن التفصيل بحسب حال وواقع المهاجر ، وحال وواقع البلد المهَاجِرِ منها والمهَاجَرِ إليها وعلى فرض أنه سيهاجر من بلد كفر إلى بلد إسلام ، أو من بلد فساد إلى بلد صلاح،فلا يخلوا حال هذا المقيم بدار الكفر، ويريد الهجرة إلى دار الإسلام من حالات أربع ، أذكرها في خامساً .
خامساً : حالات المهاجر الأربع وأحكامها
1-…أن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ويمكنه الهجرة.
2-…أن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ولا يمكنه الهجرة.
3-…أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ولا يمكنه الهجرة إن أراد.
4-…أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، و يمكنه الهجرة إن أراد.
فالبنسبة للحالة الأولى : أن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ويمكنه الهجرة فقد اتفق أهل العلم اتفاقاً أشبه بالإجماع على أن الهجرة في هذه الحالة واجبة ومن لم يهاجر فإن الوعيد ينتظره ولذا كانت براءة الرسول صلى الله عليه وسلم منه ، بل إن كانت أنثى لا تجد محرما وكانت تأمن على نفسها في الطريق أو كان خوف الطريق أقل من خوف المقام في دار الحرب . وجبة عليها الهجرة ، لقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:97) وفي الآية وعيد شديد , والوعيد الشديد لا يكون إلا في ارتكاب المحرم وترك الواجب . ولحديث : { أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى ناراهما } وحديث : { لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل } أما حديث : { لا هجرة بعد الفتح } فمعناه لا هجرة من مكة بعد فتحها , لصيرورة مكة دار إسلام إلى يوم القيامة ، وهذا هو رأي الجمهور من أهل العلم في معنى الحديث ،إلا ما ندر منهم ولذا قال الصنعاني في سبل السلام :(1/209)
[ والحديث دليل على وجوب الهجرة من ديار المشركين من غير مكة وهو مذهب الجمهور لحديث جرير ولما أخرجه النسائي من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا { لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين } ولعموم قوله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:97) الآية وذهب الأقل إلى أنها لا تجب الهجرة وأن الأحاديث منسوخة للحديث الآتي وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية } متفق عليه ، قالوا فإنه عام ناسخ لوجود الهجرة الدال عليه ما سبق وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر من أسلم من العرب بالمهاجرة إليه , ولم ينكر عليهم مقامهم ببلدهم ولأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال لأميرهم : {إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال , فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم , ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم إلى دار المهاجرين , وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين , فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين } الحديث سيأتي بطوله فلم يوجب عليهم الهجرة والأحاديث غير حديث ابن عباس محمولة على من لا يأمن على دينه قالوا : وفي هذا جمع بين الأحاديث .
وأجاب من أوجب الهجرة بأن حديث لا هجرة يراد به نفيها عن مكة كما يدل له قوله بعد الفتح فإن الهجرة كانت واجبة من مكة قبله .......... ] وقال الشافعي في أحكام القرآن :
[ وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على من قدر على الهجرة , الخروج إذا كان ممن يفتتن عن دينه ولا يمنع . فقال في رجل منهم توفي : تخلف عن الهجرة , فلم يهاجر {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:97) وأبان الله ( عز وجل ) عذر المستضعفين فقال : {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} ويقال : ( عسى ) من الله : واجبة . ودلت سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أن فرض الهجرة على من أطاقها , إنما هو على من فتن عن دينه بالبلدة التي يسلم بها . لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها , بعد إسلامهم منهم : العباس بن عبد المطلب , وغيره إذ لم يخافوا الفتنة . وكان يأمر جيوشه أن يقولوا لمن أسلم إن هاجرتم فلكم ما للمهاجرين وإن أقمتم فأنتم كأعراب المسلمين وليس يخيرهم ].
وقال صاحب نيل الأوطار تحت مسألة ( مساكنة الكفار ) :
[ وقال ابن العربي : الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام , وكانت فرضا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه والتي انقطعت أصلا هي القصد إلى حيث كان . وقد حكى في البحر أن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعا حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الإمام بقوته لسلطانه . وقد ذهب جعفر بن مبشر وبعض الهادوية إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق قياسا على دار الكفر , وهو قياس مع الفارق . والحق عدم وجوبها من دار الفسق لأنها دار إسلام وإلحاق دار الإسلام بدار الكفر بمجرد وقوع المعاصي فيها على وجه الظهور ليس بمناسب لعلم الرواية ولا لعلم الدراية , وللفقهاء في تفاصيل الدور والأعذار المسوغة لترك الهجرة مباحث ليس هذا محل بسطها ].
من هذه الأقوال المستندة للأدلة الشرعية يتضح لنا وجوب الهجرة في مثل هذه الحالة وجوباً عينياً لا مرية فيه ألبتة .
الحالة الثانية : أن لا يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ولا يمكنه الهجرة .
فقد اتفق أهل العلم أيضاً في مثل هذه الحالة على عدم الهجرة ولا يعلم في ذلك مخالف لقوله تعالى{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} وعدم الاستطاعة هنا إما أن تكون لمرض , أو إكراه على الإقامة في دار الكفر أو ضعف كالنساء , والولدان . أو غير ذلك من أنواع العجز المسقط لحكم وجوب الهجرة .(1/210)
قال ابن قدامة في المغني : [ الثاني ; من لا هجرة عليه . وهو من يعجز عنها إما لمرض , أو إكراه على الإقامة , أو ضعف ; من النساء والولدان وشبههم , فهذا لا هجرة عليه ; لقول الله تعالى : {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} ] لذا قال الشافعي في الأم ، وأحكام القرآن : [ فعذر الله ( عز وجل ) من لم يقدر على الهجرة من المفتونين . فقال : {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل:106) وبعث إليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله ( عز وجل ) جعل لكم مخرجا...........وأبان الله ( عز وجل ) عذر المستضعفين , فقال :{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}الآية قال : ويقال : ( عسى ) من الله : واجبة . ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها , إنما هو على من فتن عن دينه , بالبلدة التي يسلم بها . لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها , بعد إسلامهم منهم : العباس بن عبد المطلب , وغيره إذ لم يخافوا الفتنة . وكان يأمر جيوشه أن يقولوا لمن أسلم إن هاجرتم فلكم ما للمهاجرين وإن أقمتم فأنتم كأعراب المسلمين وليس يخيرهم ]
وقال ابن تيمية في الفتاوىج18 :
[فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب وكان الإيمان بالمدينة فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبه لمن قدر عليها ] ونصوص العلماء في هذا كثيرة جداً ومشهورة شهرة تغني عن ذكرها .
نخلص من هذه الحالة ، أن الهجرة لا تجب فيها ، ولكن يجب أن يبقى المؤمن في حالة تأهب ، وتحفز ، واستعداد للتخلص من البقاء في هذه الدار ، ويتحين فرصة للهرب ، والنجاة بدينه ، ولا يغفل عن ذلك طرفة عين .
الحالة الثالثة : أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، ولا يمكنه الهجرة إن أراد .
وهذه لا تختلف عن الحالة الثانية إلا في مسالة إظهار الدين فهنا يمكنه إظهار دينه وهناك لا يمكنه فإن قلنا في الحال الثانية لا تجب عليه الهجرة ويجوز له البقاء إلى أن يجعل الله له مخرجا ، فمن باب أولى في هذه الحالة . ولكن ينبغي في كلى الحالين أن يتحين وينتهز الفرصة ويحاول ويبذل جهده ويستفرغ وسعه في الهروب والهجرة من هذه الدار.
الحالة الربعة : أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر ، و يمكنه الهجرة إن أراد .
وهنا مربط الفرس ، بل الصيد كل الصيد في جوف الفرى ، حيث اختلف أهل العلم في ذلك فمنهم من لا يرى الهجرة ن بل حرمها بعض الشافعية ن كما سيأتي معنا خصوصاً إن كان يستطيع أن يعبد الله ويدع الناس إلى الإسلام . ومن أهل العلم من رأى وجوب الهجرة ومن لم يفعل فهو آثم .وقبل الدخول في أدلة الفريقين وقبل الترجيح ينبغي أن يعرف أن الهجرة تكون على عدة أحوال ، فمن دار الكفر إلى دار الإسلام ومن بلد البدعة إلى بلد السنة ومن بلد الفسق إلى بلد الصلاح ومن بلد غالبها أحكامها الإسلام إلى بلد كل أحكامها الإسلام ويختلف حكم الهجرة باختلاف الأحوال السالفة .
والحال التي أريد الحديث عنها ، وذكر الخلاف فيها والأدلة ثم الترجيح ، ليست الهجرة المستحبة ، أو المندوبة ، التي تكون من بلد بدعة إلى ما ليس فيه بدعة ، أو من بلد فسق وعصيان إلى بلد ليست كذلك ، وإنما من دار كفر إلى دار إسلام وبمعنى أوضح من بلد أهلها مسلمون والحكم فيها مرتد ، ولي أن أقول :بلد أهلها مسلمون وغالب الأحكام الظاهرة التي يحكمون فيها الإسلام ، والكفر بواح عند طلبة العلم ومن في حكمهم، لكن يجهله الناس من تلبيس العلماء وغيرهم ومن الجهل في دين الله تعالى ، وبيان ذلك بالمثال التالي :
فمثلاً لو أخذنا أحد البلدان العربية ، الشعب كله مسلم ، بل المساجد تغص بهم ويشهدون الجمع والجماعات ، وصوت الأذان في كل وقت يملا الأجواء ، ولكن الحكام يحكمون هذا الشعب بالقوانين الوضعية ، المسماة زوراً وبهتاناً إسلامية ، أو مستمدة من الإسلام كما يزعمون ، المحاكم كذلك وضعية ، و مناهج التعليم معلمنة وإعلان كره الكافرين والتبري منهم ، ومن دينهم جريمة يمنع النظام منها ، والجهاد معطل ، ويعاقب من يضبط أنه جاهد يوماً من الأيام ، ومولاة للكافرين ونصرتهم على المسلمين و…. و…. و…. مما يعجز اللسان عن وصفه ، ومما يزيد الطين بلة وضغثاً على إبالة ، أن ويقوم ثلة وحثالة من علماء السلطة ينعقون صباح مساء ، قائلين : إن هؤلاء ولاة أمر يجب طاعتهم والسير خلف ركابهم ومن لم يسر فسوف يموت ميتة جاهلية !!!! هنا يأتي السؤال الكبير القائل ما حكم هذه الديار التي هذا وصفها ؟ وما حكم الهجرة من هذه الديار والحالة كذلك ، إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه في هذه الديار ؟ .(1/211)
والجواب : لا شك أن حكم هذه الدار ليست مسلمة ، وإنما ديار كفر ، أو دار مركبة كما ، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ،عن بلد ماردين ،كما مر معنا قبل قليل وإن كنت أميل إلى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث ، إن هذه الدار حصلت في عهده فكان وضهعا وضع النوازل ، فاجتهد رحمه الله في استحداث هذا الوصف لمثل هذه الدار ، وعلى كلٍ فإن الخلاف لفظي لو ما نظرنا إلى حكم الهجرة من هذه الدار إذ إن من يقول أنها دار كفر أو يقول إنها دار مركبة يتفقون على القول بوجوب الهجرة على من لم يستطع إظهار دينه ، وما خالف في ذلك إلا نزر يسير من الحنفية كم سيأتي الآن :في سادساً .
سادساً : القول الأول في الحالة الرابعة والأدلة
القول الأول : القائلين بعدم وجوب الهجرة في مثل هذه الحالة حيث عذرنا الله تعالى في ذلك فيبقى الأمر على الاستحباب . وهذا المشهور من مذهب الحنفية ، ما عدا الحسن
الأدلة
الدليل الأول : قال الحنفية : لا تجب الهجرة من دار الحرب لخبر : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) وفي رواية ( قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية ) أما حديث : ( ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ) فمنسوخ بحديث :
( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) متفق عليه ، قالوا فإنه عام ناسخ لوجود الهجرة الدال عليه ما سبق وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر من أسلم من العرب بالمهاجرة إليه , ولم ينكر عليهم مقامهم ببلدهم ( ولأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال لأميرهم : إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم , ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم إلى دار المهاجرين , وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين ......... الحديث ) فلم يوجب عليهم الهجرة .
الدليل الثاني : ما روا ه لنا سعيد بن منصور في سننه وأصله في الصحيحين ، عن صفوان بن أمية رضي الله عنه لما أسلم ، قيل له لا دين لمن لم يهاجر . فأتى المدينة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( وما جاء بك أبا وهب ؟ ) قال : قيل : إنه لا دين لمن لم يهاجر . قال : ( ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة ، أقِرُّوا على مساكنكم ، فقد انقطعت الهجر ولكن جهاد ونية )
الدليل الثالث : قالوا أيضاً حديث أبي داود حدثنا أبو داود ، عن أبي سعيد الخدري : { أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة , فقال : ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل ؟ قال : نعم , قال : فهل تؤدي صدقتها ؟ قال : نعم , قال : فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا } و وجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أباح ترك الهجرة .
الدليل الرابع : عند أبي داود أيضاً قال : أتى رجل عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما فقال : أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه } فالهجرة ترك المعاصي والذنوب
الدليل الخامس : قالوا : الأحاديث غير حديث ابن عباس لا هجرة بعد الفتح والآمرة بالهجرة محمولة على من لا يأمن على دينه ، قالوا : وفي هذا جمع بين الأحاديث .
ويرى بعض الشافعية من يقدر على إظهار دينه في دار الحرب , ويقدر على الاعتزال في مكان خاص , والامتناع من الكفار , فهذا تحرم عليه الهجرة , لأن مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه , فيعود بهجرته إلى حوزة الكفار , وهو أمر لا يجوز لأن كل محل قدر أهله على الامتناع من الكفار صار دار إسلام .
ومما يمكن أن يستشهد به لهم ما ورد في فتاوى شهاب الدين الرملي الشافعي ( سئل ) عن المسلمين الساكنين في وطن من الأوطان الأندلسية يسمى أرغون وهم تحت ذمة السلطان النصراني يأخذ منهم خراج الأرض بقدر ما يصيبونه فيها ولم يتعد عليهم بظلم غير ذلك لا في الأموال ولا في الأنفس ولهم جوامع يصلون فيها ويصومون رمضان ويتصدقون ويفكون الأسارى من أيدي النصارى إذا حلوا بأيديهم ويقيمون حدود الإسلام جهرا كما ينبغي ويظهرون قواعد الشريعة عيانا كما يجب ولا يتعرض لهم النصراني في شيء من أفعالهم الدينية ويدعون في خطبهم لسلاطين المسلمين من غير تعيين شخص ويطلبون من الله نصرهم وهلاك أعدائهم الكفار وهم مع ذلك يخافون أن يكونوا عاصين بإقامتهم ببلاد الكفر فهل تجب عليهم الهجرة . وهم على هذه الحالة من إظهار الدين نظرا إلى أنهم ليسوا على أمان أن يكلفوهم الارتداد والعياذ بالله تعالى أو على إجراء أحكامهم عليهم أو لا تجب نظرا إلى ما هم فيه من الحال المذكور , ثم إن رجلا من الوطن المذكور جاء إلى أداء فريضة الحج من غير إذن أبويه مخافة أن يمنعاه منه فأداها فهل حجه صحيح أو لا لإيقاعه بغير إذن أبويه وهل يجوز رجوعه إلى أبويه في الوطن المذكور ؟
( فأجاب )(1/212)
بأنه لا تجب الهجرة على هؤلاء المسلمين من وطنهم لقدرتهم على إظهار دينهم به ولأنه صلى الله عليه وسلم بعث عثمان يوم الحديبية إلى مكة لقدرته على إظهار دينه بها بل لا تجوز لهم الهجرة منه ; لأنه يرجى بإقامتهم به إسلام غيرهم ولأنه دار إسلام فلو هاجروا منه صار دار حرب وفيما ذكر في السؤال من إظهارهم أحكام الشريعة المطهرة وعدم تعرض الكفار لهم بسببها على تطاول السنين الكثيرة ما يفيد الظن الغالب بأنهم آمنون منهم من إكراههم على الارتداد عن الإسلام أو على إجراء أحكام الكفر عليهم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } وأما خروج الرجل لحج الفرض بغير إذن أبويه فلا حرج عليه فيه إذ ليس لأبويه منعه من الحج الفرض لا ابتداء ولا إتماما كالصلاة والصوم ويجوز له بعد أداء نسكه رجوعه إلى أبويه بالوطن المذكور , وحجه صحيح معتد به في إسقاط الفرض .
وقد يستشهد لهم أيضاً بما ورد في المغني لابن قدامة :
قال : [ والثالث , من تستحب له , ولا تجب عليه . وهو من يقدر عليها , لكنه يتمكن من إظهار دينه , وإقامته في دار الكفر , فتستحب له , ليتمكن من جهادهم , وتكثير المسلمين , ومعونتهم , ويتخلص من تكثير الكفار , ومخالطتهم , ورؤية المنكر بينهم . ولا تجب عليه ; لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة . وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه . وروينا { أن نعيم النحام , حين أراد أن يهاجر , جاءه قومه بنو عدي , فقالوا له : أقم عندنا , وأنت على دينك , ونحن نمنعك ممن يريد أذاك , واكفنا ما كنت تكفينا . وكان يقوم بيتامى بني عدي ، وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة , ثم هاجر بعد , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قومك كانوا خيرا لك من قومي لي , قومي أخرجوني , وأرادوا قتلي , وقومك حفظوك ومنعوك . فقال : يا رسول الله : بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله , وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله أو نحو هذا القول }] . الإصابة في تمييز الصحابة
وهناك علة تكمن وراء هذا الرأي وهي ما سطره ابن العربي في أحكام القرآن قال وقد كنت قلت لشيخنا الإمام الزاهد أبي بكر الفهري : ارحل عن أرض مصر إلى بلادك فيقول : لا أحب أن أدخل بلاداً غلب عليها كثرة الجهل , وقلة العقل , فأقول له : فارتحل إلى مكة أقم في جوار الله وجوار رسوله ; فقد علمت أن الخروج عن هذه الأرض فرض لما فيها من البدعة والحرام , فيقول : وعلى يدي فيها هدى كثير وإرشاد للخلق وتوحيد , وصد عن العقائد السيئة , ودعاء إلى الله عز وجل ....... وقال الماوردي : إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام فالإقامة فيها أفضل من الرحلة عنها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام ......... وغير ذلك من الأدلة ، هذه أشهرها وأصحها وأبينها .
سابعاً : القول الثاني في الحالة الرابعة والأدلة
القائلين بوجوب الهجرة ويأثم القادر عليها ولم يهاجر لأن الله لم يعذره. وهذا مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة .
الأدلة
هي جميع أدلة الحال الأولى التي مرت معنا قبل قليل ص 15 إلى 17 مما يغني عن إعادتها من جديد فلتراجع هناك ، ولكن من باب التذكير اذكر أهمها : قوله تعالي : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:97)
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
{ أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى ناراهما }
وقوله عليه الصلاة والسلام :{لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل }
وقوله صلى الله عليه وسلم :في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا { لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين }
وأجابوا عن أي حديث ينفي الهجرة مثل : { لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية } وحديث { إن الهجرة قد انقطعت } وغيره مما تقدم ذكره ، بقولهم : إن معناه لا هجرة من مكة بعد فتحها , لصيرورة مكة دار إسلام إلى يوم القيامة وقوله لصفوان رضي الله عنه {إن الهجرة قد انقطعت } . يعني من مكة ; لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار , فإذا فتح لم يبقى بلد الكفار , فلا تبقى منه هجرة . وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة , وإنما الهجرة إليه.
ثامناً :الراجح(1/213)
إن المتأمل للقولين يجد أن أدلة القول الثاني صحيحة صريحة ، ولا تحتاج إلى تأويل في دلالتها لذا فإني أقول : الراجح هو القول الثاني ، حيث إن أقوى ما استدل به المخالف هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا هجرة بعد الفتح ) وأن هذا الحديث ناسخ لحكم الهجرة وكذا قوله لصفوان : " إن الهجرة قد انقطعت " وهذا لا يعني نسخ حكم الهجرة إذ معناه كما قال ابن العربي و : لا هجرة من مكة بعد فتحها , لصيرورة مكة دار إسلام إلى يوم القيامة فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح . وقوله لصفوان : " إن الهجرة قد انقطعت " . يعني من مكة ; لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار , فإذا فتح لم يبق بلد الكفار , فلا تبقى منه هجرة . وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة وإنما الهجرة إليه أ.هـ .
وأم قول الرسول صلى الله عليه وسلم { المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه } فالهجرة ترك المعاصي والذنوب ، مثل ما قالوا ، وهذا المعنى لا ينفي هجرة البدن ، ولا تعارض بينهما ، بل من لوازم هجرة البدن ، هجرة المعاصي ومن لوازم ترك الهجرة ، والجلوس في بلد الكفر ، البقاء مع المعاصي جنباً إلى جنب وإن لم يفعلها ، فالحق أن يقال : الهجرة هجرتان ، هجرة معنوية ، وهجرة حسية وكلاهما مطلوب . والثانية متضمنة للأولى ولاشك .
والقاعدة تقول : [ إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ] ولا يصار إلى النسخ أبداً ، إلا إذا تعذر الجمع بين الدليلين ، لأن النسخ إبطال حكم وإلغائه وإهمال دلالته وهنا يقع الحرج حيث يرد حكم شرعي بلا مبرر ، وتخلى ذمة قد شغلت بحكمه إن لم يكن النسخ ثابت . وهذا الذي رجحته هو اختيار أئمة الدعوة السلفية قاطبة والمطالع للدر السنية ، والرسائل والمسائل النجدية ، ومجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب علم ذلك علم اليقين ، حتى شدد الشيخ عبدالرحمن بن حسن وقال : ذكر ابن حجر عن صاحب المعتمد : أن الهجرة كما تجب من بلاد الكفر ، تجب من بلاد الإسلام إذا أظهر المسلم بها واجباً ، ولم يقبل منه ، ولا قدر على إظهاره .
ثم أضاف الشيخ عبد الرحمن بن حسن وقال : وكذلك يجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي ، ولا يمكنه تغييرها ، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة لقوله تعالى : { فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ......... إلى آخر ما قال في الدرر السنية ج8ص291ط5 . ومع هذا الرجحان للقول الثاني ، إلا أنه يجب على المسلم أن يعلم ما المقصود بإظهار الدين ، لذا أفردت له مبحثا مستقلاً مختصرا :
تاسعاً : المقصود بإظهار الدين(1/214)
يعتقد كثير من الناس أن المقصود من إظهار الدين هو أن تصلي ، وتصوم وتقرأ القرآن في الديار الكافرة ، أو الحربية ، ولا أحد يعترضك ، أو يؤذيك ، فإذا فعلت هذا فقد أظهرت دينك بينهم ، وهذا غلط فاحش وهوة سحيقة لا بد من ردمها حيث يقول جل ذكره :{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إذاً إظهار الدين يكون بإعلان الكفر بهذه الأنظمة ، والتصريح لهم بالعداوة ، وأن يعرف هؤلاء الكفرة ، والمرتدون كفرنا بهم ، وعداوتنا لهم ، وأن لو ظفرنا بهم ما تركناهم على ظهرها ، كما قال عمر رضي الله عنه عندما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب - يقصد رأيك في أسرى بدر - قال : قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر ?، ولكني أرى أن تمكني من فلان قريب لعمر رضي الله عنه فأضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم ، وأئمتهم ، وقادتهم ، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر رضي الله عنه ولم يهوى ما قلت ، وأخذ منهم الفداء ، فلما كان من الغد قال عمر رضي الله عنه فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وهما يبكيان ، فقلت : ما يبكيك أنت ، وصاحبك ،فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة ........ )وأنزل الله عز وجل { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض }إلى قوله { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } فأحل لهم الغنائم فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صدوا يوم بدر من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بأخذكم الفداء ورواه مسلم 1763 وأبو داود 2690 والترمذي
وما أجمل ما سطره الطبري في تفسيره في هذا المعنى المذكور سلفاً حيث يقول :(1/215)
في هذه الآية:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان لكم أيها المؤمنون أسوة حسنة ، يقول : قدوة حسنة في إبراهيم خليل الرحمن تقتدون به ، والذين معه من أنبياء الله ، كما حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله عز وجل قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه قال الذين معه الأنبياء ، وقوله إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله يقول حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله وعبدوا الطاغوت أيها القوم إنا برآء منكم ومن الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد ، وقوله : كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ، يقول جل ثناؤه مخبرا عن قيل أنبيائه لقومهم الكفرة كفرنا بكم ، أنكرنا ما كنتم عليه من الكفر بالله وجحدنا عبادتكم وما تعبدون من دون الله ، أن تكون حقا ، وظهر بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا على كفركم بالله وعبادتكم ما سواه ، ولا صلح بيننا ولا هوادة حتى تؤمنوا بالله وحده يقول حتى تصدقوا بالله وحده فتوحدوه وتفردوه بالعبادة ، وقوله إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء يقول تعالى ذكره قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه في هذه الأمور التي ذكرناها ، من مباينة الكفار ومعاداتهم وترك موالاتهم إلا في قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك فإنه لا أسوة لكم فيه . أ.هـ وقال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه أي وأتباعه الذين آمنوا معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم أي تبرأنا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم أي بدينكم وطريقكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا يعني وقد شُرعت العداوة ، والبغضاء من الآن بيننا ، ما دمتم على كفركم فنحن أبدا نتبرأ منكم ونبغضكم حتى تؤمنوا بالله وحده أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد . أ.هـ
وفي الدرر السنية قال أبنا الشخ محمد بن عبد الوهاب : وإظهار الدين تكفيرهم وعيب دينهم ، والطعن عليهم ، والبراءة منهم ، والتحفظ من مودتهم والركون إليهم واعتزالهم ، وليس فعل الصلوات فقط إظهاراً للدين ، وقول القائل إنا نعتزلهم في الصلاة ولا نأكل ذبيحتهم حسن ، لكن لا يكفي في إظهار الدين وحده بل لا بد مما ذكر
وقال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى: والمراد التصريح باستمرار العداوة والبغضاء لمن لم يوحد ربه ، فمن حقق ذلك علماً وعملاً ، وصرح به حتى يعلمه منه أهل بلده ، لم تجب عليه الهجرة من أي بلد كان . وأما من لم يكن كذلك ، بل ظن أنه إذا ترك يصلي ويصوم ويحج ، سقطت عنه الهجرة ، فهذا جهل بالدين ، وغفول عن زبدة رسالة المرسلين ، فإن البلاد إذا كان الحكم فيها لأهل الباطل ، عباد القبور ، وشربة الخمور وأهل القمار ، فهم لا يرضون إلا بشعائر الشرك ، وأحكام الطواغيت ، وكل موطن يكون كذلك لا يشك من له أدنى ممارسة للكتاب والسنة ، أن أهله على غير ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . الدرر ج السنية1ص413و418ط5
ويبقى هنا أمر لم يتضح لي حتى الآن ألا وهو : هل يكفي في مسألة إعلان العداوة أن يعرف منك ذلك فقط ، لقوله تعالى {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} حتى ولو لم تتكلم بحضرتهم ، أو حضرة الذين يوصلون لهم الحديث ؟ أو لا بد من إعلان ذلك بصوت مرتفع ومسموع في كل مكان ؟ حيث المتأمل للنصوص السنة يجد الأمرين ، مع الاتفاق في أن الذي لا يُعرفُ عنه من قبل أعدائه ،و من قبل المؤمنين ، تبريه من الكافرين ، والمرتدين ودينهم ، أنه يجب عليه وجوباً حتمياً ، إظهار ذلك بأي طرق الإظهار التي تؤدي الغرض بأوضح صورة وأبينها وإلا فالهجرة فرض عليه مع القدرة ويأثم بتركها .
عاشراً : أسس على طريق الهجرة(1/216)
أولاً : ينبغي للمهاجر احتساب الأجر في الهجر وإخلاص النية لله تعالى ، وأنه هاجر نصرة لدينه وفراراً به من الفتن لا أنه سيجد مراغماً في الأرض وسعة لأن المقصود ليس الرزق فحسب حيث ينقل لنا ابن كثير في تفسير لسورة النساء عند قوله تعالى{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} يقول : قال قتادة رحمه الله في تفسير الآية:0إي والله ، من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى أ.هـ إذاً الآية تعالج مخاوف النفس المتنوعة والمتوقعة وهي تواجه خطر الهجرة فلا يمنيها الأماني العذبة دون أن تنال المتاعب في سبيل الدعوة ، لهذا كانت تتمة الآية { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}إذاً هناك موت متوقع أيضاً ، قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن في الدرر السنية : وإن كان الغالب على أهل الهجرة السلامة والعز ، والتمكين ، و النصر كما جرى لرسول الله رضي الله عنه وأتباعه سلفاً وخلفاً ، وبها يحصل الجهاد ولا شك ، وتعلو كلمة الله ويعمل في الأرض بطاعة الله ومصالح الهجرة في الدنيا أكثر من أن تحصر ، كما قال تعالى {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أ.هـ بتصرف يسير لذا وجب التنبيه لكي لا يحصل مثلما حصل لكثير من المسلمين عندما دعوا في الجزائر أو المغرب من قبل إخوانهم على درب الجهاد للهجرة ، ووعدوا بالمراغم وسعة الرزق والعيش ، فلما لم يجدوا ذلك ، بل وجدوا ضيقاً أشد من الضيق الذي كانوا قد فروا منه لاكت ألسنتهم ألفاظاً يخشى عليهم من مغبتها ، حيث تشعر بسوء ظنهم بالله تعالى الله عن سوء الظن وغيره من النقائص علواً كبيراً .
ثانياً : أن يتحقق من مسألة دار الكفر ، ودار الحرب ، وهنا لا ينبغي أن نوجب الهجرة على المسلمين في الدار التي لم يتبين حالها ( المركبة ) كبلد ماردين - إلا إذا لم يستطع المرء إظهار دينه فيها - حيث سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عنها فقال : عندما سئل عن بلد ماردين هل هي بلد حرب أم بلد سلم ؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا ؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله , هل يأثم في ذلك ؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا ؟
الجواب : الحمد لله دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة , سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم والمقيم بها إن كان عاجزا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه , وإلا استحبت ولم تجب ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال , محرمة عليهم , ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم من تغيب , أو تعريض , أو مصانعة , فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت , ولا يحل سبهم عموما ورميهم بالنفاق , بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة , فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم . وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ليست بمنزلة دار السلم التي يجري عليها أحكام الإسلام , لكون جندها مسلمين , ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار , بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه أ.هـ
وفي هذه الحالة المذكورة آنفا ًيستطيع المرء أن يقول باستحباب الهجرة دون الوجوب ، إن كان مستطيعاً إظهار دينه ، كي لا يؤثم الآخرين بلا دليل صحيح صريح وإن لم يستطع إظهار دينه فالهجرة واجبة ولا شك .
ثالثاً : يجب على العالم ما لا يجب على العامي ويجب على من تقوم به مصلحة الدعوة ما لا يجب على من ليس كذلك ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، لذا إيجاب الهجرة على الجماعات ليس كإيجابها على الأفراد ، وإيجابها على الأفراد الذين تكمن من وراء مجيئهم مصلحة الإسلام والمسلمين ليس كايجابها على الأفراد الذين ليس من وراء مجيئهم إلا التعب والعناء ، وإرهاق الآخرين بهم . والعبرة بالدليل الشرعي لا العواطف الإيمانية فالمسألة دين وشرع .
رابعاً : لا نغفل عن النوع الذي قرره ابن قدامة في المغني قائلاً : من تستحب له ولا تجب عليه . وهو من يقدر عليها , لكنه يتمكن من إظهار دينه , وإقامته في دار الكفر فتستحب له , ليتمكن من جهادهم , وتكثير المسلمين , ومعونتهم , ويتخلص من تكثير الكفار , ومخالطتهم , ورؤية المنكر بينهم . ولا تجب عليه ; لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة . وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه أ.هـ لكي لا يشدد على من رأى عدم وجوب الهجرة وإنما الندب المؤكد .(1/217)
خامساً : ينبغي أن يهاجر المؤمن من المكان الذي هو فيه إلى ما هو أفضل منه وإلا لم تجب الهجرة عليه ، إلا إلى موضع خلى عما هاجر لأجله من المعاصي فيهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام ، ومن دار ظلم وعصيان إلى دار إنصاف وإحسان أما الانتقال من شر إلى شر ، ومن دار عصاة إلى دار عصاة فليس فيه إلا إتعاب النفس بقطع المفاوز وشتات الحال وضياع المال وإذا لم يجد دار إحسان ، بل كان العصيان منتشرا في البلدان وجب عليه أن يهاجر من موضعه الذي فيه المعاصي ظاهرة ، إلى ما فيه دونه من المعاصي ، أو ما فيه المنكر ، إلى ما فيه ترك الواجب ، نحو أن يكون الموضع الذي هو فيه يظهر فيه الزنى ، والظلم ، ولا ينكر ، وفي غيره يظهر الظلم دون الزنى ، فإنه يجب عليه أن ينتقل إلى الموضع الذي فيه إحدى المعصيتين دون الأخرى ; لأن في الشر خيارا .(التاج المهذب بتصرف)
وأقول : هل يستقيم الآن ، أن نوجب الهجرة على المؤمن من بلد مختلف في حالها لكن الشرك فيها أخفى من البلد التي يريد الهجرة إليها ولم يتبين حال هذه البلد حق البيان سوى أن يرى أو يسمع جدية أصحابها في تطبيق الإسلام ، إلا أن الرؤية الحقيقة للإسلام لم تظهر بعد إنما خير فيه دخن ، وخصوصاً مسألة الشرك سواءً شرك القباب الذي نحن في قلق من مسألة الجدية في أطره ، وقولي شرك القباب لا يعني إغفال شرك التشريع مع الله تعالى أو شرك تعظيم وعبادة الدول الكافرة أو شرك تعطيل الجهاد تلبية لرغبة الدول العظمى الكافرة أو ....أو...... المتمثل في كثير من الدول المدعية للإسلام ، وأرجو أن لا يفهم من قولي [شرك القباب ] أنني المز أولئك الجادون في تطبيق شرع الله ، والعمل به ، إنما مجرد بيان للصورة التي يجب أن تظهر للمهاجر قبل هجرته لكي لا يعود على أدراجه مشكلاً عقبة كأداء لمن يريد الهجرة .
سادساً : لا يجوز لمن هاجر أن يرجع من مهاجره لغير عذر شرعي وإلا فهو مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب و لقد قال الشيخ عبدالله بن عبداللطيف في معرض نصيحته لأهل الأرطاوية ما نصه : وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن رجل هاجر ، ثم خرج من هجرته إلى البادية فقال : ( ردة صغرى ، ملعون من فعل ذلك ، والذي يبقى على باديته ويحسن إسلامه ، أحسن عند الله ممن هاجر ثم خرج من هجرته ) وبلغني : أن من أهل الأرطاوية أناساً هاجروا وبنوا يريدون الخروج عن الهجرة إلى البادية ، وهذه مصيبة عظيمة لا يأمن من فعلها أن يقع في الردة الكبرى ، ويكون ممن ارتد على عقبيه من بعد ما تبين له الهدى فاحذروا ذلك ، واصبروا ، و صابروا ، ورابطوا ، واستقيموا على أمر ربكم ، ولا تكونوا ممن بدل نعمة الله كفراً ؛ وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أ.هـ
لهذا قال ابن حجر في الفتح : قوله باب التعرب في الفتنة بالعين المهملة والراء الثقيلة أي السكنى مع الأعراب بفتح الألف وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر منها فيسكن البدو فيرجع بعد هجرته أعرابيا ، وكان إذ ذاك محرما ، إلا إن أذن له الشارع في ذلك ، وقيده بالفتنة ، إشارة الى ما ورد من الإذن في ذلك ، ثم حلول الفتن كما في ثاني حديثي الباب ، وقيل بمنعه في زمن الفتنة ، لما يترتب عليه من خذلان أهل الحق ، ولكن نظر السلف اختلف في ذلك ، فمنهم من آثر السلامة واعتزل الفتن كسعد ومحمد بن مسلمة ، وابن عمر في طائفة ، ومنهم من باشر القتال وهم الجمهور .......... إلى أن قال : وأخرج النسائي من حديث بن مسعود رفعه ( لعن الله آكل الربا وموكله الحديث وفيه والمرتد بعد هجرته أعرابيا ) قال ابن الأثير في النهاية كان من رجع بعد هجرته إلى موضعه بلا عذر يعدونه كالمرتد .
وفي سننن البيهقي الكبرى :( باب ما جاء في التعرب ) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو بكر بن إسحاق الفقيه أنبأ عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عمرو بن محمد الناقد ثنا يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال : قال عبد الله رضي الله عنه ( لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهداه إذا علماه والواشمة والمؤتشمة ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ) تفرد به يحيى بن عيسى هكذا ورواه الثوري وغيره عن الأعمش عن عبد الله بن مرة بن الحارث .(1/218)
ثم قال :(باب ما جاء في الرخصة فيه في الفتنة أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ أنبأ أبو الفضل بن إبراهيم ثنا أحمد بن سلمة ثنا قتيبة بن سعيد الثقفي وداد بن مخراق الفاريابي قالا ثنا إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع ، أنه دخل على الحجاج فقال يا بن الأكوع ، ارتددت على عقبيك ، تعربت بعد الهجرة ، قال : لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح عن قتيبة بن سعيد وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب أنبأ أبو العباس محمد بن إسحاق ثنا قتيبة بن سعيد ثنا حاتم عن يزيد بن أبي عبيد قال ثم لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه خرج سلمة إلى الربذة وتزوج هناك امرأة وولد له أولاد فلم يزل هناك حتى قبل أن يموت فنزل يعني المدينة رواه البخاري عن قتيبة .
ولقد جمع الطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار بين أحاديث النهي وأحاديث الرخصة بقوله بعد ذكره لحديث سلمة?وفيه{ أن سلمة بن الأكوع قدم المدينة فلقيه بريدة بن حصيب فقال ارتددت عن هجرتك يا سلمة فقال : معاذ الله إني في إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ابدوا يا أسلم انتسموا الرياح واسكنوا الشعاب فقالوا إنا نخاف أن يضرنا ذلك في هجرتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم مهاجرون حيث كنتم } قال الطحاوي : فقال قائل ففيما رويت خروج أسلم من الإقامة بدار الهجرة إلى الدار الأعرابية وهذا خلاف ما رويته مما يوجبه ما رويته في الباب الذي قبل هذا الباب . فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن الذي رويناه في الباب الذي قبل هذا الباب من لعنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم المرتد أعرابيا بعد هجرته هو عندنا - والله أعلم - على المرتد كذلك ارتدادا يخرج به من الهجرة التي توجب عليه الطاعة إلى الأعرابية التي لا طاعة معها , وأسلم لم يكونوا كذلك بل كانوا على خلافه مما قد بينه عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه عائشة رضي الله عنها ...... إلى أن قال : وكان في ذلك ما قد دل أن التبدي المذموم هو التبدي الذي لا يجيب أهله إذا دعوا فأما التبدي الذي هو بخلاف ذلك فهو كالمقام بالحضرة وقد ذكر الله عز وجل الأعراب في كتابه في موضع فذمهم وأخبر أنهم أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله وذكرهم في موضع آخر من كتابه فوصفهم بالإيمان فقال { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فكان الأعراب المذمومون فيما تلونا هم الذين يغيبون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يعلموا أحكام الله عز وجل الذي ينزلها عليه ولا فرائضه التي يجريها على لسانه وكان من هو خلافهم منهم ما ذكرهم عز وجل به من الأمور التي حمدهم عليها وأثنى عليهم بها , فكان الأسلميون رضوان الله عليهم ممن دخلوا في ذلك فكانوا كمن لا يفارقه والله نسأله التوفيق .
لذا كان الخلاف في مسألة : جواز إقامة أكثر من ثلاثة أيام للمهاجرين في مكة بعد إنقضاء النسك وذلك في حق المهاجر الذي جاء للمدينة ، وهاجر إليها نصرة لدين الله حيث جاء في حديث البخاري ومسلم عن العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( للمهاجر إقامة ثلاث ، بعد الصدر من مكة ) كأنه يقول لا يزيد عليها .
إذاً : لا يجوزله الرجوع إلى وطنه ، وهذا قبل الفتح فلما فتحفت مكة وصارت دار إسلام اختلف الحكم على رأي بعض أهل العلم . ومن أراد المزيد في ذلك فليرجع إلى صحيح البخاري وشرحه لابن حجر ( مناقب الأنصار ) باب إقامة المهاجر بمكة بعد انقضاء نسكه ، وكذا صحيح مسلم شرح النووي باب جواز الإقامة بمكة للمهاجر .......
ويقول ابن حزم في ذلك ما نصه : احتج لمالك , والشافعي ومقلدوهما بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق العلاء بن الحضرمي أنه عليه السلام قال { يمكث المهاجر بعد انقضاء نسكه ثلاثا } . قالوا : فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها في الله تعالى حتى يلقوا ربهم عز وجل غرباء عن أوطانهم لوجهه عز وجل , ثم أباح لهم المقام بها ثلاثا بعد تمام النسك . أ.هـ
يتضح لنا بعد ذلك خطورة الهوة التي قد يقع فيها من هاجر من دار الكفر أو الحرب ثم رجع إليها بدون عذر شرعي وهي على ماهي عليه من الكفر أو الحرب .
سابعاً : من لوازم عدم الهجرة غالباً ، مشاهدت المنكرات ، ومداهنة أرباب المعاصي والسيئات ، وموادتهم ، وانشراح الصدر لهم ، فإن الشر يتداعى ، ويجر بعضه بعضاً ، فلا يرضون عمن هو بين أظهرهم بدون هذه الأمور ، ولا بد من رضاهم والمبادرة في هواهم إلى غير ذلك مما ذكره العلامة عبدالرحمن بن حسن(1/219)
ولو هاجر فإن من لوازم هجرته أن يفارق هذه الأمور المذكورة آنفاً وإلا ما فائدة هجرته.
ثامناً : كون الأرض دار كفر ، أو دار إيمان ، أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها بل هي صفة عارضة بحسب سكانها ، والحكم الذي تحكم به ، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون ، وحكمت بشرع الله تعالى فهي دار أولياء الله في ذلك الوقت وكل أرض سكانها الكفار ، أو حكمت بغير الإسلام فهي دار كفر في ذلك الوقت وكل أرض سكانها الفساق فهي دار فسق في ذلك الوقت فإن سكنها غير ما ذكرنا وتبدلت بغيرهم فهي دارهم ، تمتماً كما يقال في المسجد إذا تبدل بخمارة أو صار دار فسق ، أو دار ظلم ، أو كنيسة يشرك فيها بالله ، كان بحسب سكانه ، وكذلك دار الخمر والفسوق ، ونحوها إذا جعلت مسجدا يعبد الله فيه جل وعز ، كان بحسب ما يكون ، وكذلك الرجل الصالح يصير فاسقا ، والكافر يصير مؤمنا ، أو المؤمن يصير كافرا أو نحو ذلك ، كل بحسب انتقال الأحوال ، من حال إلى حال وقد قال تعالى{ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة } الآية نزلت في مكة لما كانت دار كفر وهى ما زالت في نفسها خير ارض الله ، وأحب أرض الله إليه ، وإنما أراد سكانها ، والشرعة التي تحكم بها فقد روى الترمذي مرفوعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة ( والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أن قومي أخرجوني منك لما خرجت )وفى رواية ( خير أرض الله وأحب أرض الله إلى ) فبين أنها أحب أرض الله إلى الله ورسوله وكان مقامه بالمدينة .
لذا لا ينبغي أن يتساءل المسلم المهاجر ، ويقول كيف أهاجر من بلد فاضل إلى مفضول ؟!
والجواب أن العبرة ليست بمسألة الفاضل والمفضول ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالهجرة من خير بلاد الله ، وأحبها إليه إلى ما هو دونها ، إذ العبرة والحكم معلق بالوصف العارض ، الذي يعرض للبلاد بغض النظر عن فضلها ، ومنزلتها ، ومكانها ولم يعلق الحكم بذلك ، فهذا الوصف العارض سوف يزول بأمر الله تعالى ، ليعود الوصف اللازم لتلك البلاد ، ولا عبرة بكلام وقول ابن العربي في أحكام القرآن ، أن مكة دار إسلام إلى يوم القيامة . فهذا ليس عليه دليل إطلاقاً ، ولا أثر عن الصحابة ، ولا عرف عنهم ، ولا عن السلف الصالح ومن بعدهم رضى الله عن الجميع . فمكة شرفها الله مثلها مثل غيرها في أن يطرأ عليها وصف الكفر ، وأنها دار كفر ، أو أن توصف ويقال عنها أنها دار إسلام ، وهذا حالها على مدى تاريخها الطويل شرفها الله ، وإلا بأي حق كانت تجيش لها الجيوش لكي تفتح للإسلام وأهله ، فيما غبر من الزمن وما جد ؟!!!
الختام
لا شك أن دار الإسلام التي تظهر فيها أحكام الإسلام مطبقة من غير مرية ولا تدليس ، ودار الكفر هي التي تظهر فيها أحكام الكفر على أحكام الإسلام ، و دار الحرب هي كل بقعة تكون فيها الحرب بين المؤمنين والكافرين ، وأن الدار المركبة هي ما كان أهلها مسلمون ، وحكامها يطبقون فيهم الإسلام فيما لا يتعارض مع سياستهم وبقائهم على عروشهم ، عروش الظلم ، والقهر ، والاستبداد
ولا شك أيضاً في أن أصل الهجرة وحكمها باقي ، كلما حصل موجبها ودعوى النسخ باطلة ، ولا تصح ، حيث أمكن الجمع بين الأدلة ،بل لا تعارض بينها ومدعي التعارض متكلف ما ليس له به حق .
ولاشك في وجوب الهجرة على ما مضى ذكره،لمن له القدرة عليها ، ولم يمكنه إظهار دينه،وكانت داره دار كفر،أو حرب،وأما إن كانت الدار مختلف فيها [ مركبة ] وكان في هجرته واجب لا يتم إلا به،في الدار المهاجر إليها ، وكان في هجرته تكثير سواد المسلمين وقوتهم به ولم يستطع إظهار دينه ، ووثق في البلد المهاجر إليها في تطبيق شرع الله ، وأن أحكام الإسلام هي الظاهرة ، فإن الهجرة واجبة عليه بعينه كذلك، لما مضى ذكره من الأدلة ، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وإن لم يكن الأمر كذلك فيبقى الأمر علي السنية والاستحباب والندب لا غير شرط ، إظهار الدين .
كما أن المقصود بإظهار الدين قولاً واحداً هو : التبري من الكافرين وتكفيرهم ،وإظهار عداوتهم ، وتسفيههم ودينهم ، والتبري ممن يقف معهم و يواليهم وإعلان هذا كله ، وما لم يكن كذلك فليس إظهارٌ للدين بل طمس للدين ومعالمه.
ومما ينبغي بحثه، و معرفته،مسألة الدار المركبة،إذا كان في الهجرة منها يحصل ما لا تحمد عقباه مثل،إحداث ثلمة في أهل الخير وترك المكان للطواغيت يعيثون في الأرض فساداً : خلى لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
لاسيما وبعض الشافعية يرى حرمة الهجرة من أرض تمكن المسلم من التحيز فيها وقدر على إظهار دينه في دار الحرب , ويقدر على الاعتزال في مكان خاص , والامتناع من الكفار , فهذا تحرم عليه الهجرة , لأن مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه , فيعود بهجرته إلى حوزة الكفار , وهو أمر لا يجوز لأن كل محل قدر أهله على الامتناع من الكفار صار دار إسلام . وقد مر معنا فتوى شهاب الدين الملي في أهل ( أرغون ) فيجب على المسلم التوخي قدر المستطاع ، وأن يتحرى الصواب في ذلك ثم يبني عليه .(1/220)
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمدلله رب العالمين .
كتبه / عبد العزيز بن صالح الجربوع
وكان الفراغ منه 24ربيع الآخر لعام 1422هـ
=================
الهجرة إلى الله:
قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* (26) سورة العنكبوت
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1):
قوله تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } لُوطٌ أوّل من صدّق إبراهيم حين رأى النار عليه برداً وسلاماً . قال ابن إسحاق آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخته ، وآمنت به سارّة وكانت بنت عمه . { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي } قال النّخعيّ وقتادة : الذي قال : { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } هو إبراهيم عليه السلام . قال قتادة : هاجر من كوثا وهي قرية من سواد الكوفة إلى حرّان ثم إلى الشام ، ومعه ابن أخيه لوط بن هاران ابن تارخ ، وامرأته سارة . قال الكلبي : هاجر من أرض حرّان إلى فلسطين . وهو أوّل من هاجر من أرض الكفر . قال مقاتل : هاجر إبراهيم وهو ابن خمس وسبعين سنة . وقيل : الذي قال : { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } لوط عليه السلام . ذكر البيهقي عن قتادة قال : أوّل من هاجر إلى الله عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه . قال قتادة : سمعت النضر بن أنس يقول : سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك يقول : " خرج عثمان بن عفان ومعه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة ، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم ، فقدمت امرأة من قريش فقالت : يا محمد رأيت خَتَنك ومعه امرأته . قال : «على أي حال رأيتهما» قالت : رأيته وقد حمل امرأته على حمار من هذه الدَّبَّابة وهو يسوقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «صحبهما الله إن عثمان لأوّل من هاجر بأهله بعد لوط» " قال البيهقي : هذا في الهجرة الأولى ، وأما الهجرة الثانية إلى الحبشة فهي فيما زعم الواقدي سنة خمس من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم . { إلى ربي } أي إلى رضا ربي وإلى حيث أمرني . { إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم } تقدم . وتقدم الكلام في الهجرة في «النساء» وغيرها .
-----------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله(2) :
قول تعالى مخبرًا عن إبراهيم: أنه آمن له لوط، يقال: إنه ابن أخي إبراهيم، يقولون هو: لوط بن هاران بن آزر، يعني: ولم يؤمن به من قومه سواه، وسارة امرأة [إبراهيم] (8) الخليل. لكن يقال: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين الحديث الوارد في الصحيح (9) : أن إبراهيم حين مَرّ على ذلك الجبار، فسأل إبراهيم عن سارة: ما هي منه؟ فقال: [هي] (10) أختي، ثم جاء إليها فقال لها: إني قد قلت له: "إنك: أختي"، فلا تكذبيني، فإنه ليس على وجه الأرض [أحد] (11) مؤمن غيرك وغيري (12) ، فأنت أختي في الدين. وكأن المراد من هذا -والله أعلم -أنه ليس على وجه
__________
(8) زيادة من ف، أ.
(9) صحيح مسلم برقم (2371).
(10) زيادة من ت.
(11) زيادة من ت، أ.
(12) في ت: "غيري وغيرك".
الأرض زوجان على الإسلام غيري وغيرك، فإن لوطا عليه السلام، آمن به من قومه، وهاجر معه إلى بلاد الشام، ثم أرسِل في حياة الخليل إلى أهل "سَدوم" وإقليمها، وكان من أمرهم (1) ما تقدم وما سيأتي.
وقوله: { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } يحتمل عود الضمير في قوله: { وَقَالَ } ، على لوط، لأنه (2) أقرب المذكورين، ويحتمل عوده إلى إبراهيم -قال (3) ابن عباس، والضحاك: وهو المكنى عنه بقوله: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } أي: من قومه.
ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم، ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك؛ ولهذا قال: { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } أي: له العزة ولرسوله وللمؤمنين به، { الْحَكِيمُ } في أقواله وأفعاله وأحكامه القدرية والشرعية.
وقال قتادة: هاجرا جميعا من "كوثى"، وهي من سواد (4) الكوفة إلى الشام. قال: وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون هجرة بعد هجرة، ينحاز أهل الأرض إلى مُهَاجَر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، حتى تلفظهم أرضهم وتقذرُهم روح الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم إذا باتوا، وتَقِيل معهم إذا قالوا، وتأكل ما سقط منهم".
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 4273)
(2) - تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 272)(1/221)
وقد أسند الإمام أحمد هذا الحديث، فرواه مطولا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال (5) : حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة، عن شَهْر بن حَوْشَب قال: لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية، قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف البِكَالي، فجئته؛ إذ جاء رجل، فانتبذَ الناس وعليه خَمِيصة، وإذا (6) هو عبد الله بن عمرو بن العاص. فلما رآه نوف أمسك عن الحديث، فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون هجرة بعد هجرة، فينحاز الناس إلى مُهَاجرَ إبراهيم، لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها، فتلفظهم (7) أرضوهم، تقْذَرهم نفسُ الرحمن، تحشرهم النار مع القردة والخنازير فتبيت معهم إذا باتوا، وتَقِيل معهم إذا قالوا، وتأكل منهم من تَخَلَّف". قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج أناس (8) من أمتي من قبل المشرق، يقرؤون القرآن لا يجاوز تَرَاقِيهم، كلما خرج منهم قرن قُطع، كلما خرج منهم قرن قطع" حتى عَدّها زيادة على عشرين مرة "كلما خرج منهم قرن قطع، حتى يخرج الدجال في بقيتهم" (9) .
ورواه أحمد عن أبي داود، وعبد الصمد، كلاهما عن هشام الدَّسْتُوائي، عن قتادة، به (10)
وقد رواه أبو داود في سننه، فقال في كتاب الجهاد، باب ما جاء في سكنى الشام:
حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني [أبي] (11) ، عن قتادة، عن شهر بن
__________
(1) في ت: "إبراهيم".
(2) في ت، ف: "الذي هو".
(3) في أ: "قاله".
(4) في ف، أ: "من أرض سواد".
(5) في أ: "فقال".
(6) في ف: "فإذا".
(7) في ف: "تلفظهم".
(8) في ت: "ناس".
(9) المسند (2/198).
(10) المسند (2/209).
(11) زيادة من سنن أبي داود.
حوشب، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مُهاجَر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضهم وتَقْذرهم نفس الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير" (1) .
وقال (2) الإمام أحمد أيضا: حدثنا يزيد، أخبرنا أبو جَنَاب يحيى بن أبي حيَّة، عن شهر بن حوشب قال: سمعت (3) عبد الله بن عُمَر يقول (4) لقد رأيتُنا وما صاحب الدينار والدرهم بأحق من أخيه المسلم، ثم لقد رأيتنا بآخِرَة الآن، والدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لئن أنتم اتبعتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد في سبيل الله، ليلزمنكم الله مذلَّة في أعناقكم، ثم لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه، وتتوبوا إلى الله عز وجل" . وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مُهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في الأرضين (5) إلا شرار أهلها وتلفظهم أرضوهم، وتقذرهم روح الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تقيل حيث يقيلون (6) ، وتبيت حيث يبيتون، وما سقط منهم فلها". ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم -قال يزيد: لا أعلمه إلا قال -يحقر أحدكم علمه مع علمهم، يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، فطوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه. كلما طلع منهم قرن قَطعَه الله". فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة، أو أكثر، وأنا أسمع (7) .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو الحُسَيْن بن الفضل، أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا أبو النضر إسحاق بن يزيد وهشام بن عمار الدمشقيان قالا حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا الأوزاعي، عن نافع -وقال أبو النضر، عمن حدَّثه، عن نافع -عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد هجرة، إلى مهاجَر إبراهيم، حتى لا يبقى إلا شرار أهلها، تلفظهم الأرضون (8) وتقذرهم روح الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، لها ما سقط منهم".
غريب من حديث نافع. والظاهر أن الأوزاعي قد رواه عن شيخ له من الضعفاء، والله أعلم. وروايته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أقرب إلى الحفظ.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2482).
(2) في ت: "وروى".
(3) في ت: "عن".
(4) في أ: "سمعت عبد الله بن عمرو قال".
(5) في ت، ف: "الأرض".
(6) في، هـ، ت، ف، أ: "تقيل معهم حيث قالوا" والمثبت من المسند.
(7) المسند (2/84) وقال الهيثمي في المجمع (5/251) "فيه أبو جناب الكلبي وهو ضعيف" وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (11/380) "سنده لا بأس به".
(8) في ف: "الأرض.
------------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله(1) :
وانتهت دعوة إبراهيم لقومه , والمعجزة التي لا شك فيها . انتهت هذه وتلك بإيمان فرد واحد غير امرأته هو لوط . ابن أخيه فيما تذكر بعض الروايات . وهاجر معه من أور الكلدانيين في العراق , إلى ما وراء الأردن حيث استقر بهما المقام:
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 368)(1/222)
(فآمن له لوط , وقال:إني مهاجر إلى ربي , إنه هو العزيز الحكيم) . .
ونقف أمام قولة لوط: (إني مهاجر إلى ربي) . . لنرى فيم هاجر . إنه لم يهاجر للنجاة . ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة . إنما هاجر إلى ربه . هاجر متقربا له ملتجئا إلى حماه . هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه . هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره , بعيدا عن موطن الكفر والضلال . بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال .
وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله - عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته . وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة:
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب . وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب . وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين)
وهو فيض من العطاء جزيل , يتجلى فيه رضوان الله سبحانه على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته , والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار , فكان كل شيء من حوله بردا وسلاما , وعطفا وإنعاما . جزاء وفاقا .
-------------------
وقال السعدي (1):
أي: لم يزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يدعو قومه، وهم مستمرون على عنادهم، إلا أنه آمن له بدعوته لوط، الذي نبأه اللّه، وأرسله إلى قومه كما سيأتي ذكره.
{ وَقَالَ } إبراهيم حين رأى أن دعوة قومه لا تفيدهم شيئا: { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } أي: هاجر أرض السوء، ومهاجر إلى الأرض المباركة، وهي الشام، { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } أي: الذي له القوة، وهو يقدر على هدايتكم، ولكنه حَكِيمٌ ما اقتضت حكمته ذلك، ولما اعتزلهم وفارقهم، وهم بحالهم، لم [ ص 630 ] يذكر اللّه عنهم أنه أهلكهم بعذاب، بل ذكر اعتزاله إياهم، وهجرته من بين أظهرهم.
فأما ما يذكر في الإسرائيليات، أن اللّه تعالى فتح على قومه باب البعوض، فشرب دماءهم، وأكل لحومهم، وأتلفهم عن آخرهم، فهذا يتوقف الجزم به على الدليل الشرعي، ولم يوجد، فلو كان اللّه استأصلهم بالعذاب لذكره كما ذكر إهلاك الأمم المكذبة، ولكن لعل من أسرار ذلك، أن الخليل عليه السلام من أرحم الخلق وأفضلهم [وأحلمهم] وأجلهم، فلم يدع على قومه كما دعا غيره، ولم يكن اللّه ليجري بسببه عذابا عاما.
ومما يدل على ذلك، أنه راجع الملائكة في إهلاك قوم لوط، وجادلهم، ودافع عنهم، وهم ليسوا قومه، واللّه أعلم بالحال.
{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي: بعد ما هاجر إلى الشام { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } فلم يأت بعده نبي إلا من ذريته، ولا نزل كتاب إلا على ذريته، حتى ختموا بالنبي (1) محمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين.
وهذا [من] أعظم المناقب والمفاخر، أن تكون مواد الهداية والرحمة والسعادة والفلاح في ذريَّته، وعلى أيديهم اهتدى المهتدون، وآمن المؤمنون، وصلح الصالحون. { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا } من الزوجة الجميلة فائقة الجمال، والرزق الواسع، والأولاد، الذين بهم قرت عينه، ومعرفة اللّه ومحبته، والإنابة إليه.
{ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } بل هو ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم أفضل الصالحين على الإطلاق، وأعلاهم منزلة، فجمع اللّه له بين سعادة الدنيا والآخرة.
------------------
وقال الطاهر بن عاشور (2):
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}جملة معترضة بين الإخبار عن إبراهيم اعتراض التفريع، وأفادت الفاء مبادرة لوط بتصديق إبراهيم. والاقتصار على ذكر لوط يدل على أنه لم يؤمن به إلا لوط لأنه الرجل الفرد الذي آمن به وأما امرأة إبراهيم وامرأة لوط فلا يشملهما اسم القوم في قوله تعالى {وإبراهيم إذ قال لقومه} الآية لأن القوم خاص برجال القبيلة قال زهير:
أقوم آل حصن أم نساء
وفي التوراة أنه كانت معه زوجه (سارة) وزوج لوط واسمها (ملكة). ولوط هو ابن (هارون) أخي إبراهيم، فلوط يومئذ من أمة إبراهيم عليهما السلام.
[26] {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
عطف على جملة {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: 24].
فضمير {قَالَ} عائد إلى إبراهيم، أي أعلن أنه مهاجر ديار قومه وذلك لأن الله أمره بمفارقة أهل الكفر.
وهذه أول هجرة لأجل الدين ولذلك جعلها هجرة إلى ربه. والمهاجرة مفاعلة من الهجر: وهو ترك شيء كان ملازما له، والمفاعلة للمبالغة أو لأن الذي يهجر قومه يكونون هم قد هجروه أيضا.
وحرف {إِلَى} في قوله {إِلَى رَبِّي} للانتهاء المجازي إذ جعل هجرته إلى الأرض التي أمره الله بأن يهاجر إليها كأنها هجرة إلى ذات الله تعالى فتكون {إِلَى} تخييلا لاستعارة مكنية؛ أو جعل هجرته من المكان الذي لا يعبد أهله الله لطلب مكان ليس فيه مشركون بالله كأنه هجرة إلى الله، فتكون {إِلَى} على هذا الوجه مستعارة لمعنى لام التعليل استعارة تبعية.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 629)
(2) - التحرير والتنوير - (ج 20 / ص 159)(1/223)
ورشحت هذه الاستعارة على كلا الوجهين بقوله {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وهي جملة واقعة موقع التعليل لمضمون {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}، لأن من كان عزيزا يعتز به جاره ونزيله.
وإتباع وصف {الْعَزِيزُ} بـ {الْحَكِيمُ} لإفادة أن عزته محكمة واقعة موقعها المحمود عند العقلاء مثل نصر المظلوم، ونصر الداعي إلى الحق، ويجوز أن يكون {الْحَكِيمُ} بمعنى الحاكم فيكون زيادة تأكيد معنى {الْعَزِيزُ} .
----------------------
وفي أضواء البيان (1):
الضمير في قوله : { وَنَجَّيْنَاهُ } عائد إلى إبراهيم . قال أبو حيان في البحر المحيط : وضمن قوله { وَنَجَّيْنَاهُ } معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض . ولذلك تعدى « نجَّيناه » بإلى . ويحتمل أن يكون « إلى » متعلقاً بمحذوف . أي منتهياً إلى الأرض ، فيكون في موضع الحال . ولا تضمين في « ونجَّيناه » على هذا . والأرض التي خرجا منها : هي كوثى من أرض العراق ، والأرض التي خرجا إليها : هي أرض الشام ه ه منه . وهذه الآية الكريمة تشير إلى هجرة إبراهيم ومعه لوط من أرض العراق إلى الشام فراراً بدينهما .
وقد أشار تعالى إلى ذلك في غير هذا الموضع . كقوله في « العنكبوت » { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي } [ العنكبوت : 26 ] الآية ، وقوله في « الصافات » : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] على أظهر القولين . لأنه فار إلى ربه بدينه من الكفار . وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ } : هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة ، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام ، وذلك حين خلصه الله من النار قال : { إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي } أي مهاجر من بلد قومي ومولدي ، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ الزخرف : 27 ] فيما نويت إلى الصواب . وما أشار إليه جل وعلا من أنه بارك العالمين في الأرض المذكورة ، التي هي الشام على قول الجمهور في هذه الآية بقوله : { إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } بينه في غير الموضع . كقوله : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأنبياء : 81 ] الآية ، وقوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] الآية . ومعنى كونه ( بارك فيها ) . هو ما جعل فيها من الخصب والأشجار والأنهار والثمار . كما قال تعالى : { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] ومن ذلك أنه بعث أكثر الأنبياء منها .
وقال بعض أهل العلم : ومن ذلك أن كل ماء عذب أصل منبعه من تحت الصخرة التي عند بيت المقدس . وجاء في ذلك حديث مرفوع ، والظاهر أنه لا يصح . وفي قوله تعالى : { إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأنبياء : 71 ] أقوال أخر تركناها لضعفها في نظرنا .
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الفرار بالدين من دار الكفر إلى بلد يتمكن فيه الفار بدينه من إقامته دينه واجب . وهذا النوع من الهجرة وجوبه باق بلا خلاف بين العلماء في ذلك .
--------------------
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2):
__________
(1) - أضواء البيان - (ج 4 / ص 239)
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 269) ومجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 371) والفتاوى الكبرى - (ج 7 / ص 364)(1/224)
" وَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ " يَدْخُلُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ { قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ : آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ , وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ , وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ * وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ , وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا . وَأَمَّا إذَا قَرَنَ لَفْظَ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي قوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ * وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ , وَكَمَا فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ , فَقَالَ : الْإِسْلَامُ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ , وَتَصُومَ رَمَضَانَ , وَتَحُجَّ الْبَيْتَ قَالَ : فَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ , وَمَلَائِكَتِهِ , وَكُتُبِهِ , وَرُسُلِهِ , وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ . قَالَ : فَمَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك * . فَفَرَّقَ فِي هَذَا النَّصِّ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ لَمَّا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْعَمَلِ " فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْمَذْكُورَ هُوَ مِنْ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ الظَّاهِرُ هُوَ مُوجِبُ إيمَانِ الْقَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ , فَإِذَا حَصَلَ إيمَانُ الْقَلْبِ حَصَلَ إيمَانُ الْجَوَارِحِ ضَرُورَةً , وَإِيمَانُ الْقَلْبِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَانْقِيَادِهِ , وَإِلَّا فَلَوْ صَدَّقَ قَلْبُهُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ يَبْغُضُهُ وَيَحْسُدُهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ آمَنَ قَلْبُهُ . " وَالْإِيمَانُ " وَإِنْ تَضَمَّنَ التَّصْدِيقَ فَلَيْسَ هُوَ مُرَادِفًا لَهُ ; فَلَا يُقَالُ لِكُلِّ مُصَدِّقٍ بِشَيْءٍ : إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ . فَلَوْ قَالَ : أَنَا أُصَدِّقُ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ , وَأَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا وَالْأَرْضَ تَحْتَنَا , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ وَيَعْلَمُونَهُ لَمْ يُقَلْ لِهَذَا : إنَّهُ مُؤْمِنٌ بِذَلِكَ ; بَلْ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَنْ أُخْبِرَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ كَقَوْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا * فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ آمَنَ لَهُ وَآمَنَ بِهِ فَالْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُخْبِرِ , وَالثَّانِي يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا * وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ * . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ * فَفَرَّقَ بَيْنَ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَإِيمَانِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ إذَا أَخْبَرُوهُ وَأَمَّا إيمَانُهُ بِاَللَّهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ بِهِ . وَمِنْهُ قوله تعالى عَنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا * أَيْ نُقِرُّ لَهُمَا وَنُصَدِّقُهُمَا . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَمِنْهُ قوله تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي * وَمِنْ الْمَعْنَى الْآخَرِ قوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ * وَقَوْلُهُ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ * وَقَوْلُهُ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ * أَيْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ لَفْظَ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ , وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَمْنِ , كَمَا(1/225)
أَنَّ الْإِقْرَارَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَّ , فَالْمُؤْمِنُ صَاحِبُ أَمْنٍ , كَمَا أَنَّ الْمُقِرَّ صَاحِبُ إقْرَارٍ , فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ بِمُوجِبِ تَصْدِيقِهِ , فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِذَلِكَ حُبُّهُ وَتَعْظِيمُهُ بَلْ كَانَ يَبْغُضُهُ وَيَحْسُدُهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ اتِّبَاعِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ بِهِ بَلْ كَافِرٌ بِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كُفْرُ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ . فَإِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يُكَذِّبْ خَبَرًا وَلَا مُخْبِرًا بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا * وَقَالَ لَهُ مُوسَى : { لَقَدْ عَلِمْت مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ * وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ * . فَمُجَرَّدُ عِلْمِ الْقَلْبِ بِالْحَقِّ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلُ الْقَلْبِ بِمُوجِبِ عِلْمِهِ مِثْلُ مَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَهُ وَاتِّبَاعُ الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَنْفَعْ صَاحِبَهُ , بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ , وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ , وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ , وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ , وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ * . وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّةَ ظَنُّوا أَنَّ مُجَرَّدَ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ هُوَ الْإِيمَانُ , وَأَنَّ مَنْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ عِلْمِ قَلْبِهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَحَقِيقَتُهُ تُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ; وَلِهَذَا أَطْلَقَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ كُفْرَهُمْ بِذَلِكَ , فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ عَالِمًا بِالْحَقِّ وَيَبْغُضُهُ لِغَرَضٍ آخَرَ , فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ الْحَقِّ يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ , وَحِينَئِذٍ فَالْإِيمَانُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ , وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . ثُمَّ إنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ الْقَلْبُ بِالتَّصْدِيقِ وَالْمَحَبَّةِ التَّامَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِرَادَةِ لَزِمَ وُجُودُ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ , فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ إذْ اقْتَرَنَتْ بِهَا الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ لَزِمَ وُجُودُ الْمُرَادِ قَطْعًا , وَإِنَّمَا يَنْتَفِي وُجُودُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ , أَوْ لِعَدَمِ كَمَالِ الْإِرَادَةِ , وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِهَا يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ , فَإِذَا أَقَرَّ الْقَلْبُ إقْرَارًا تَامًّا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَحَبَّهُ مَحَبَّةً تَامَّةً امْتَنَعَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ , لَكِنْ إنْ كَانَ عَاجِزًا لِخَرَسٍ وَنَحْوِهِ أَوْ لِخَوْفٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ بِهِمَا . " وَأَبُو طَالِبٍ " وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ مُحِبٌّ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهُ لَهُ لِمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ . بَلْ كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ فَيُحِبُّهُ لِلْقَرَابَةِ , وَإِذَا أَحَبَّ ظُهُورَهُ فَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ الشَّرَفِ وَالرِّئَاسَةِ , فَأَصْلُ مَحْبُوبِهِ هُوَ الرِّئَاسَةُ ; فَلِهَذَا لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ رَأَى أَنَّ بِالْإِقْرَارِ بِهِمَا زَوَالُ دِينِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ , فَكَانَ دِينُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِمَا - فَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُ لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا كَانَ يُحِبُّهُ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى , الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى , وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى , إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى , وَلَسَوْفَ يَرْضَى * وَكَمَا كَانَ يُحِبُّهُ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ , كَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ لَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَطْعًا - فَكَانَ حُبُّهُ حُبًّا مَعَ اللَّهِ لَا حُبًّا لِلَّهِ , وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مَا فَعَلَهُ(1/226)
مِنْ نَصْرِ الرَّسُولِ وَمُؤَازَرَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ لِلَّهِ , وَاَللَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ , بِخِلَافِ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . وَهَذَا مِمَّا يُحَقِّقُ أَنَّ " الْإِيمَانَ , وَالتَّوْحِيدَ " لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ , كَحُبِّ الْقَلْبِ , فَلَا بُدَّ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ , وَالدِّينُ لَا يَكُونُ دِينًا إلَّا بِعَمَلٍ ; فَإِنَّ الدِّينَ يَتَضَمَّنُ الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ ; وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * . إحْدَاهُمَا فِي تَوْحِيدِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ . وَالثَّانِيَةُ فِي تَوْحِيدِ الْعَمَلِ وَالْإِرَادَةِ ; فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ , اللَّهُ الصَّمَدُ , لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ , وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ * فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّوْحِيدَ وَقَالَ فِي الثَّانِي { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ , لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ , وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ , وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ , لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ * فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ مَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ . " وَالْعِبَادَةُ " أَصْلُهَا الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ . وَالْعِبَادَةُ إذَا أُفْرِدَتْ دَخَلَ فِيهَا التَّوَكُّلُ وَنَحْوُهُ , وَإِذَا قُرِنَتْ بِالتَّوَكُّلِ صَارَ التَّوَكُّلُ قَسِيمًا لَهَا , كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي لَفْظِ الْإِيمَانِ , قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ * وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ * فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ ; وَالتَّوَكُّلُ مِنْ ذَلِكَ , وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * وَقَالَ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ * . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ : تَتَنَوَّعُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ بِحَسَبِ الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ ; كَلَفْظِ " الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ " فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ * وَقَالَ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ * وَقَالَ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ * فَالْمُنْكَرُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ ; كَمَا يَدْخُلُ فِي الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ . وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ * فَعَطَفَ الْمُنْكَرَ عَلَى الْفَحْشَاءِ , وَدَخَلَ فِي الْمُنْكَرِ هُنَا الْبَغْيُ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ * فَقَرَنَ بِالْمُنْكَرِ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ " الْفُقَرَاءِ , وَالْمَسَاكِينِ " إذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ , وَإِذَا قَرَنَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ صَارَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ; لَكِنْ هُنَاكَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ , وَهُنَا بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ , فَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَنَحْوُ هَذَا كُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى , قَالَ تَعَالَى فِي الْمَحَبَّةِ : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ * وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ * وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ * فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ(1/227)
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ * وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْت فَانْصَبْ , وَإِلَى رَبِّك فَارْغَبْ * فَجَعَلَ التَّحَسُّبَ وَالرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : ( لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ) فِيهِ إفْرَادُ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ لِلَّهِ قَوْلًا وَعَمَلًا , فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ; لَكِنْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى , فَلَا يَخُصُّونَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ . وَتَخْصِيصُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ يُوجِبُ أَنْ لَا يُعْبَدُ إلَّا إيَّاهُ , وَأَنْ لَا يُسْأَلُ غَيْرُهُ , كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْصِدُ سُؤَالَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ , لَكِنْ فِي أُمُورٍ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ ; بَلْ يَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا , فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُخْلِصًا لَهُ فِي سُؤَالِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ , لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مُخْلِصًا فِي عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ , وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّوَجُّهَاتِ الْفَاسِدَةِ أَصْحَابِ الْكُشُوفَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَإِنَّهُمْ يُعَانُونَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهَا لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَصَلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْعَاجِلَةِ , وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ عَاقِبَةً سَيِّئَةً , قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا * وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلَى ضُرٍّ مَسَّهُ * . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَدْ يَقْصِدُونَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , لَكِنْ لَا يُحَقِّقُونَ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ . فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِمْ , وَعَلَى طَاعَتِهِمْ , لَكِنَّهُمْ مَخْذُولُونَ فِيمَا يَقْصِدُونَهُ , إذْ لَمْ يُحَقِّقُوا الِاسْتِعَانَةَ بِاَللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ; وَلِهَذَا يُبْتَلَى الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالضَّعْفِ وَالْجَزَعِ تَارَةً , وَبِالْإِعْجَابِ أُخْرَى , فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ مِنْ الْخَيْرِ كَانَ لِضَعْفِهِ , وَرُبَّمَا حَصَلَ لَهُ جَزَعٌ , فَإِنْ حَصَلَ مُرَادُهُ نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ وَقُوَّتِهِ فَحَصَلَ لَهُ إعْجَابٌ , وَقَدْ يَعْجَبُ بِحَالِهِ فَيَظُنُّ حُصُولَ مُرَادِهِ فَيَخْذُلُ . قَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * إلَى قَوْلِهِ : { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * . وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ النَّاسَ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ , فَالرِّيَاءُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالْخَلْقِ , وَالْعُجْبُ مِنْ بَابِ الْإِشْرَاكِ بِالنَّفْسِ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ , فَالْمُرَائِي لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ * وَالْمُعْجَبُ لَا يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَسْتَعِينُ * فَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ * خَرَجَ عَنْ الرِّيَاءِ وَمَنْ حَقَّقَ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَسْتَعِينُ * خَرَجَ عَنْ الْإِعْجَابِ , وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : { ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ : شُحٌّ مُطَاعٌ , وَهَوًى مُتَّبَعٌ , وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ * . وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ لَا تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ وَلَا اسْتِعَانَتُهُ بِاَللَّهِ بَلْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَسْتَعِينُ غَيْرَهُ وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ شِرْكُهُ بِالشَّيَاطِينِ كَأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَفْعَلُونَ مَا تُحِبُّهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَيَدْعُونَهُ بِأَدْعِيَةٍ تُحِبُّهَا الشَّيَاطِينُ وَيَعْزِمُونَ بِالْعَزَائِمِ الَّتِي تُطِيعُهَا الشَّيَاطِينُ مِمَّا فِيهَا إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ . كَمَا قَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْخَوَارِقِ مَا يُظَنُّ(1/228)
أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ . وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ ; وَلِهَذَا يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : فَهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَلَمْ يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَلَمْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَيْهِ . وَقَوْلُ الْمَكْرُوبِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ * قَدْ يَسْتَحْضِرُ فِي ذَلِكَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَمَنْ أَتَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ اسْتَحْضَرَ التَّوْحِيدَ فِي النَّوْعَيْنِ . فَإِنَّ الْمَكْرُوبَ هِمَّتُهُ مُنْصَرِفَةٌ إلَى دَفْعِ ضُرِّهِ وَجَلْبِ نَفْعِهِ , فَقَدْ يَقُولُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مُسْتَشْعِرًا أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الضُّرَّ غَيْرُك , وَلَا يَأْتِي بِالنِّعْمَةِ إلَّا أَنْتَ فَهَذَا مُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ , وَمُسْتَحْضِرٌ تَوْحِيدَ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ , وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ , مُعْرِضٌ عَنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَعْبُدَهُ إلَّا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَمَنْ اسْتَشْعَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ * كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَكَانَ مُمْتَثِلًا قَوْلَهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ * وَقَوْلَهُ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَقَوْلَهُ : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبّك وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا , رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * . ثُمَّ إنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مُحَرَّمًا أَثِمَ وَإِنْ قَضَيْت حَاجَتَهُ . وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مُبَاحًا لِغَيْرِ قَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا وَلَا مُثَابًا . وَإِنْ كَانَ طَالِبًا مَا يُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لِقَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُثَابًا مَأْجُورًا . وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْعَبْدِ الرَّسُولِ وَخُلَفَائِهِ , وَبَيْنَ النَّبِيِّ الْمَلَكِ , فَإِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا أَوْ عَبْدًا رَسُولًا , فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا ; فَإِنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ , فَفِعْلُهُ كُلُّهُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ , فَهُوَ عَبْدٌ مَحْضٌ مُنَفِّذٌ أَمْرَ مُرْسِلِهِ , كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت * وَهُوَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ { لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ * إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ قَدَرًا وَكَوْنًا , فَإِنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ يُشَارِكُونَهُ فِي هَذَا فَلَا يُعْطِي أَحَدًا وَلَا يَمْنَعُ إلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ; وَإِنَّمَا أَرَادَ إفْرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ شَرْعًا وَدِينًا . أَيْ لَا أُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرْتُ بِإِعْطَائِهِ . وَلَا أَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرْتُ بِمَنْعِهِ , فَأَنَا مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي إعْطَائِي وَمَنْعِي فَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ وَالْفَيْءَ وَالْغَنَائِمَ كَمَا يَقْسِمُ الْمَوَارِيثَ بَيْنَ أَهْلِهَا ; لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ حَيْثُ أُضِيفَ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّسُولِ , كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ , وَلَا الْمُرَادُ بِهِ كَوْنَهُ مَمْلُوكًا لِلَّهِ خَلْقًا وَقَدْرًا فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ * وَقَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ * الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ * إلَى قَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى * . فَذَكَرَ فِي الْفَيْءِ مَا ذَكَرَ فِي الْخُمُسِ . فَظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الرَّسُولِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ . كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْلَاكَهُمْ . ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ غَنَائِمَ(1/229)
بَدْرٍ كَانَتْ مِلْكًا لِلرَّسُولِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْفَيْءَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ كَانَ مِلْكًا لِلرَّسُولِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْخُمُسِ خُمُسَهُ . وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَحِقُّ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ خُمُسَهُ , وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُوجَدُ فِي كَلَامِ طَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ , وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا : أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ هَذِهِ الْأَمْوَالَ كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ , وَلَا كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمُلُوكُ فِي مِلْكِهِمْ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوا أَمْوَالَهُمْ فِي الْمُبَاحَاتِ , فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُ فَيَصْرِفُهُ فِي أَغْرَاضِهِ الْخَاصَّةِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ فَيَصْرِفُهُ فِي مَصْلَحَةِ مِلْكِهِ , وَهَذِهِ حَالُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ . قَالَ تَعَالَى : { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْت وَاحْرِمْ مَنْ شِئْت لَا حِسَابَ عَلَيْك , وَنَبِيُّنَا كَانَ عَبْدًا رَسُولًا لَا يُعْطِي إلَّا مَنْ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ , وَلَا يَمْنَعُ إلَّا مَنْ أُمِرَ بِمَنْعِهِ , فَلَمْ يَكُنْ يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ إلَّا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَةٍ لَهُ . وَمِنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ وَلَوْ كَانَ مَلِكًا , فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ فَإِذَا كَانَ مُلُوكُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُلَّاكًا كَمَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ , فَكَيْفَ يَكُونُ صَفْوَةُ الرُّسُلِ الَّذِي هُوَ عَبْدٌ رَسُولٌ مَالِكًا . وَمِنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ , وَيَصْرِفُ سَائِرَ الْمَالِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَا يَسْتَفْضِلُهُ , وَلَيْسَتْ هَذِهِ حَالُ الْمُلَّاكِ , بَلْ الْمَالُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ كُلَّهُ هُوَ مَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ الْمَالَ فِي طَاعَتِهِ , فَتَجِبُ طَاعَتُهُ فِي قَسْمِهِ , كَمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي سَائِرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ ; فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ , وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُبَلِّغٌ عَنْ اللَّهِ .(1/230)
مَا يُذْكَرُ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات : " أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِدَاوُدَ : أَمَّا الذَّنْبُ فَقَدْ غَفَرْنَاهُ ; وَأَمَّا الْوُدُّ فَلَا يَعُودُ " فَهَذَا لَوْ عُرِفَتْ صِحَّتُهُ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا لَنَا وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْنِيَ دِينَنَا عَلَى هَذَا ; فَإِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْبَةِ جَاءَ بِمَا لَمْ يَجِئْ بِهِ شَرْعُ مَنْ قَبْلَهُ ; وَلِهَذَا قَالَ : { أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ; وَأَنَا نَبِيُّ التَّوْبَةِ * وَقَدْ رَفَعَ بِهِ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ مَا كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ التَّائِبِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ الْفَاقِدِ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَوْكِبِ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْيَأْسِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فَرَحَ الرَّبِّ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ وَتِلْكَ مَحَبَّتَهُ ; كَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يَعُودُ لِمَوَدَّتِهِ : { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ , ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ , فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * . وَلَكِنَّ وُدَّهُ وَحُبَّهُ بِحَسَبِ مَا يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ الْعَبْدُ بَعْدَ التَّوْبَةِ ; فَإِنْ كَانَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَتْ مَوَدَّتُهُ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ ; وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ كَانَ الْأَمْرُ أَنْقَصَ ; فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ; وَمَا رَبُّك بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ ; وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ , وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ , وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ , وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا , وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا : فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ; وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ; وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ * . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ; وَكَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ وَمَوَدَّتُهُ لَهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ أَعْظَمَ مَحَبَّةً وَمَوَدَّةً , وَكُلَّمَا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاَللَّهُ قَدِيرٌ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * . نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِثْلَ أَهْلِ الْأَحْزَابِ " كَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ , وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ , وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ , وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو , وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ . وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ , وَغَيْرِهِمْ , فَإِنَّهُمْ بَعْدَ مُعَادَاتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَوَدَّةً , وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُتَفَاضِلِينَ وَكَانَ عِكْرِمَةُ وَسُهَيْلٌ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ أَعْظَمَ مَوَدَّةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ مُعَاوِيَةَ قَالَتْ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُذَلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك , وَقَدْ أَصْبَحْتُ وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعَزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِك فَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهَا نَحْوَ ذَلِكَ * . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْمَوَدَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا تَكُونُ تَابِعَةً لِحُبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى , فَإِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ , وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ . فَالْحُبُّ لِلَّهِ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ ; وَالْحُبُّ مَعَ اللَّهِ شِرْكٌ . قَالَ تَعَالَى(1/231)
: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ * فَتِلْكَ الْمَوَدَّةُ الَّتِي صَارَتْ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادُوهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّمَا كَانَتْ مَوَدَّةً لِلَّهِ وَمَحَبَّةً لِلَّهِ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ اللَّهُ , وَمَنْ وَدَّ اللَّهَ وَدَّهُ اللَّهُ , فَعُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَحَبَّهُمْ وَوَدَّهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ , كَمَا أَحَبُّوهُ وَوَدُّوهُ , فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ التَّائِبَ إنَّمَا تَحْصُلُ لَهُ الْمَغْفِرَةُ دُونَ الْمَوَدَّةِ ؟ , . وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أُولَئِكَ كَانُوا كُفَّارًا , لَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مُحَرَّمٌ ; بَلْ كَانُوا جُهَّالًا بِخِلَافِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ مُحَرَّمٌ وَأَتَاهُ . قِيلَ : الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ , بَلْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْكُفَّارِ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَيُعَادُونَهُ حَسَدَا وَكِبْرًا وَأَبُو سُفْيَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَخْبَارِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُ , كَمَا سَمِعَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ , وَمَا سَمِعَهُ مِنْ هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ , وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُوقِنًا أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَيَظْهَرُ حَتَّى أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ , وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ , وَقَدْ سُمِعَ مِنْهُ عَامَ الْيَرْمُوكِ وَغَيْرِهِ مَا دَلَّ عَلَى حُسْنِ إسْلَامِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ الْعَظِيمَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ * فَإِذَا كَانَ اللَّهُ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ فَالْحَسَنَاتُ تُوجِبُ مَوَدَّةَ اللَّهِ لَهُمْ , وَتَبْدِيلُ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ كَافِرًا , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا لِي : كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ , وَكُلٌّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ . الْوَجْهُ الثَّانِي : إنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ تَائِبٍ وَتَائِبٍ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّائِبَيْنِ فَرْقٌ لَا أَصْلَ لَهُ ; بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ , وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ , سَوَاءٌ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ مَا أَتَوْهُ ذَنْبًا أَوْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَتَاهُ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَدِّلَ وَصْفَهُ الْمَذْمُومَ بِالْمَحْمُودِ ; فَإِذَا كَانَ يَبْغُضُ الْحَقَّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّهُ , وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الْبَاطِلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْغُضَهُ . فَمَا يَأْتِي بِهِ التَّائِبُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَحَبَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ , وَمِنْ بُغْضِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهَا , وَمَحَبَّةُ اللَّهِ كَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ مَحَابِّهِ , فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ فِعْلًا لِمَحْبُوبِ الْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ أَعْظَمَ مَحَبَّةً لَهُ , وَانْتِقَالُهُ مِنْ مَكْرُوهِ الْحَقِّ إلَى مَحْبُوبِهِ مَعَ قُوَّةِ بُغْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَاطِلِ , وَقُوَّةِ حُبِّ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حُبِّ الْحَقِّ , فَوَجَبَ زِيَادَةُ مَحَبَّةِ الْحَقِّ لَهُ وَمَوَدَّتُهُ إيَّاهُ ; بَلْ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ لِأَنَّهُ بَدَّلَ صِفَاتِهِ الْمَذْمُومَةَ بِالْمَحْمُودَةِ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ , فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ إتْيَانُ التَّائِبِ بِمَا يُحِبُّهُ الْحَقَّ أَعْظَمَ مِنْ إتْيَانِ غَيْرِهِ كَانَتْ مَحَبَّةُ الْحَقِّ لَهُ أَعْظَمَ وَإِذَا كَانَ(1/232)
فِعْلُهُ لِمَا يَوَدُّهُ اللَّهُ مِنْهُ أَعْظَمَ مِنْ فِعْلِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ كَانَتْ مَوَدَّةُ اللَّهِ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْظَمَ مِنْ مَوَدَّتِهِ لَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ , فَكَيْفَ يُقَالُ الْوُدُّ لَا يَعُودُ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ جَوَابُ شُبْهَةِ مَنْ يَقُولُ : " إنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مَعْصُومًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ , كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ , وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَوَهَّمُوا أَنَّ الذُّنُوبَ تَكُونُ نَقْصًا وَإِنْ تَابَ التَّائِبُ مِنْهَا , وَهَذَا مَنْشَأُ غَلَطِهِمْ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ صَاحِبَ الذُّنُوبِ مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ يَكُونُ نَاقِصًا فَهُوَ غَالِطٌ غَلَطًا عَظِيمًا , فَإِنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ الَّذِي يَلْحَقُ أَهْلَ الذُّنُوبِ لَا يَلْحَقُ التَّائِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا ; لَكِنْ إنْ قَدَّمَ التَّوْبَةَ لَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ , وَإِنْ أَخَّرَ التَّوْبَةَ فَقَدْ يَلْحَقُهُ مَا بَيْنَ الذُّنُوبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ مَا يُنَاسِبُ . وَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ كَانُوا لَا يُؤَخِّرُونَ التَّوْبَةَ ; بَلْ يُسَارِعُونَ إلَيْهَا , وَيُسَابِقُونَ إلَيْهَا , لَا يُؤَخِّرُونَ وَلَا يُصِرُّونَ عَلَى الذَّنْبِ بَلْ هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ , وَمَنْ أَخَّرَ ذَلِكَ زَمَنًا قَلِيلًا كَفَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ بِمَا يَبْتَلِيهِ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِذِي النُّونِ صلى الله عليه وسلم هَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ إلْقَاءَهُ كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ; وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ إلْقَاءَهُ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا . وَالتَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ فِي الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ ; ` وَإِذَا كَانَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ . فَالْأَفْضَلُ أَحَقُّ بِالنُّبُوَّةِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْفَضِيلَةِ , وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ أُخُوَّةِ يُوسُفَ بِمَا أَخْبَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَهُمْ الْأَسْبَاطُ الَّذِينَ نَبَّأَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إنِّي مُهَاجِرٌ إلَى رَبِّي * فَآمَنَ لُوطٌ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام ثُمَّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْمِ لُوطٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّة شُعَيْبٍ : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ * وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ , وَلَنُسْكِنَنَّكُم الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ , وَهَذَا الْكَمَالُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ , وَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ التَّوْبَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَوْبَةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمَا إلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَآخِرُ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ - أَوْ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ - قوله تعالى : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ , وَرَأَيْت النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا , فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا * . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي * يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ . وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ : { لَقَدْ(1/233)
تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُول : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً * . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : عَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ * . وَفِي السُّنَنِ : عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ يَقُولُ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ * . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ [ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ] أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ أَنَّهُ مِنِّي ; اللَّهُمَّ : اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت , وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت , وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي , أَنْتَ الْمُقَدِّمُ , وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ , وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ : بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ , اللَّهُمَّ , نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ , اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ * . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : نَحْوَ هَذَا إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ * . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ : { اللَّهُمَّ , أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك , ظَلَمْتُ نَفْسِي وَعَمِلْتُ سُوءًا فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ * . فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ : { اللَّهُمَّ , اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ , عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ , أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ * . وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَلِيٍّ { أَنَّ النَّبِيَّ أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا وَأَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ * ثُمَّ كَبَّرَهُ وَحَمِدَهُ ثُمَّ قَالَ : سُبْحَانَك ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ , ثُمَّ ضَحِكَ , وَقَالَ إنَّ الرَّبَّ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ اغْفِرْ لِي . فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ , يَقُولُ عَلِمَ عَبْدِي أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنَا * . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ * وَقَالَ : { إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا , لِيَغْفِرَ لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ * وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ { أَنَّ الْمَسِيحَ يَقُولُ : اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ * . وَفِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ , فَيُقَالُ لَهُ : تَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا * . وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرَةٌ . لَكِنْ الْمُنَازِعُونَ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ النُّصُوصَ مِنْ جِنْسِ(1/234)
تَأْوِيلَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ . وَتَأْوِيلَاتُهُمْ تُبَيِّنُ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا أَنَّهَا فَاسِدَةٌ مِنْ بَابِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ . كَتَأْوِيلِهِمْ قَوْلَهُ { لِيَغْفِرَ لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ * الْمُتَقَدِّمُ ذَنْبُ آدَمَ وَالْمُتَأَخِّرُ ذَنْبُ أُمَّتِهِ وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ فَضْلًا عَنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذِهِ السُّورَةَ قَالَ تَعَالَى : { وَعَصَى آدَم رَبَّهُ فَغَوَى , ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * وَقَالَ : { فَتَلَقَّى آدَم مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ * . وَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : فَآدَمُ عِنْدَكُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ذَنْبُهُ عِنْدَ الْمُنَازِعِ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ أَيْضًا , وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبٌ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ آدَمَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ الذَّنْبَ ذَنْبًا لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * . فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُضَافَ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ذَنْبُ آدَمَ صلى الله عليه وسلم أَوْ أُمَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ * وَقَالَ تَعَالَى : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَك * وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يُضَافَ إلَى مُحَمَّدٍ ذُنُوبُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ . وَيُقَالُ : إنَّ قَوْلَهُ : { لِيَغْفِرَ لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ * الْمُرَادُ ذُنُوبُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ قَبْلَك , فَإِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَشْفَعُ لِلْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ , وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ , وَقَالَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ . أَنَا خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا وَفَدُوا , وَإِمَامُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا * وَحِينَئِذٍ فَلَا يَخْتَصُّ آدَمَ بِإِضَافَةِ ذَنْبِهِ إلَى مُحَمَّدٍ , بَلْ تُجْعَلُ ذُنُوبُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ ذُنُوبًا لَهُ . فَإِنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ الْأُمَمِ , قِيلَ : وَهُوَ أَيْضًا لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ بَيْنَ ذَنْبِهِ وَذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ * فَكَيْفَ يَكُونُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِينَ ذَنْبًا لَهُ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الصَّحَابَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَذَا لَك فَمَا لَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ * فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ : { لِيَغْفِرَ لَك اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ * مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ يُعَاقَبُ بِذُنُوبِهِ إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ , وَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ وَأَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا , وَشُوهِدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ * وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ قَدْ يَكُونَانِ مِنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ . فَمَنْ نُقِلَ إلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَدْ يَتُوبُ مِنْ الْحَالِ الْأَوَّلِ ; لَكِنَّ الذَّمَّ وَالْوَعِيدَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ .
------------------
الهجرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم(1)
فصل: [في الهجرة إلى الله ورسوله]
__________
(1) - موسوعة كتب ابن القيم - (ج 78 / ص 2)(1/235)
لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظراً فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، ويُنفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شئ يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد.
نوعا الهجرة
إذ الهجرة هجرتان:
الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها.
مبدأ الهجرة ومنتهاها
وهي هجرة تتضمن ( من ) و ( إلى ) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
الفرار من الله
ما الفرار منه إليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فإنما أوجبته مشيئة الله وحده، فانه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته. فادا فر العبد إلى الله فإنما يفر من شئ إلى شئ وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله إليه.
ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " وأعوذ بك منك " وقوله: " لا ملجأ ولا منجى منك ألا إليك "، فانه ليس في الوجود شئ يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه إلا هو من الله خلقاً وإبداعا. فالفار والمستعيذ: فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه.
وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفاً ورجاء ومحبة فإنه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله وقدرته لكان ذلك موجباً لخوفه منه، مثل من يفر من مخلوق آخر أقدر منه فانه في حال فراره من الأول خائف منه حذرا أن لا يكون الثاني يفيده منه بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضي وقدر وشاء ما يفر منه، فانه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره.
فتفطن إلى هذا السر العجيب في قوله: " أعوذ بك منك " و " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك " فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالاً وقل من تعرض منهم لهذه النكته التي هي لبّ الكلام ومقصوده وبالله التوفيق
فتأمل كيف عاد الأمر كله إلى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ". ولهذا يقرن الله سبحانه بين الإيمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.
والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحب والبغض، فان المهاجر من شئ إلى شئ لابد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر احب الأمرين إليه على الآخر. وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بلي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات.
فصل: [الهجرة بين القوة والضعف]
وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد، فإن كان الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل. وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علماً، ولا يتحرك لها إرادة.
الهجرة العارضة:
والذي يقضي منه العجب: أن المرء يوسع الكلام ويفرغ المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة، ربما لا تتعلق به في العمر أصلاً.
الهجرة الدائمة:
وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس فإنه لا يحصل فيها علما ولا إرادة وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره. وهذا حال من عشت بصيرته وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال. والله المستعان، وبالله التوفيق، لا اله غيره ولا رب سواه.
ص -22- فصل: في الهجرة الى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم(1/236)
وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بنيَّات الطريق سوى رسمه، ومحجة سفَت عليها السوافي فطمست رسومها، وغارت عليها الأعادي فغّورت مناهلها وعيونها، فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حي وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبة، لا يقر قراره حتى يظفر بأربه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم، وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية، وهو في طلبها مشمر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم وأهوائهم، قد رجموا فيه الظنون، وأحدقوا فيه العيون، وتربصوا به ريب المنون {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}، {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
نحن وإياكم نموت، فما افلح عند الحساب من ندما
والمقصود: أن هذه الهجرة النبوية شانها شديد. وطريقها على غير المشتاق بعيد.
بعيد على كسلان أو ذي ملالة أما على المشتاق فهو قريب
ولعمر الله ما هي إلا نور يتلألأ، ولكن أنت ظلامه، وبدر أضاء مشارق الأرض ومغاربها، ولكن أنت غيمه وقتامه ومنهل عذب صاف وأنت كدره، ومبتدأ لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره.
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسب ما بينك وبين الله، هل أنت من الهاجرين لها أو المهاجرين إليها ؟
تعريف الهجرة الى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:
فجد هذه الهجرة: سفر النفس في كل مسالة من مسائل إلايمان، ومنزل من منازل القلوب، وحادثة من حوادث إلاحكام إلى معدن الهدى، ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعُده من أهل الريب والتهمات. فهذا حد هذه الهجرة.
فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده، القاطن في دار مرباه ومولده، القائل:
إنا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا بحبلهم متمسكون، وأنا على آثارهم مقتدون، وما لهذه الهجرة التي كلت عليهم، واستند في طريقة نجاحه وفلاحه إليهم، معتذراً بأن رأيهم خير من رأيه لنفسه، وأن ظنونهم وآراءهم أوثق من ظنه وحدسه، ولو فتشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الإخلاد إلى ارض البطالة متولدة بين الكسل وزوجه الملالة.
هجرتان
والمقصود: أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى " شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم " كما أن الهجرة الأولى مقتضى " شهادة أن لا إله إلا الله " وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.
قال قتادة: " كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون ومإذا اجبتم المرسلين ؟ ".
وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين وقد قال تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فأقسم سبحانه بأجل مقسم به - وهو نفسه عز وجل - على أنه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النزاع في جميع ابواب الدين. فإن لفظة " ما " من صيغ العموم فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان أو يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم. ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً - وهو الضيق والحصر - من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالإنشراح، ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخدونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لابد أن يكون أخذه بقبول ورضا وانشراح صدر.
ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حاله، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}.
فسبحان الله ! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد ؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها ؟
ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر.(1/237)
ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فذكر الفعل مؤكداً بمصدره القائم مقام ذكره مرتين. وهو التسليم والخضوع له والإنقياد لما حكم به طوعا ورضاً، وتسليما لا قهراً ومصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهاً، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شئ إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه ويعلم بإنه أولى به من نفسه وابر به منها واقدر على تخليصها. فمتى علم العبد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم واستسلم له، وسلم إليه، انقادت له كل علة في قلبه ورأى أن لا سعادة له إلا بهذا التسليم والإنقياد.
وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة بل هو أمر انشق القلب واستقر في سويدائه لا تفي العبارة بمعناه، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني.
وكل يدعى وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاك
الحب بين العلم والحال
وفرق بين علم الحب وحال الحب. فكثيراً ما بشتبه على العبد علم الشيء بحاله ووجوده، وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال وهو مثخن بالمرض، وبين الصحيح السليم، وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها. وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به وبين حاله ووجوده.
ما في الآية من تأكيد اتباع الرسول
وتأمل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد:
أولها: تصديرها بتضمن المقسم عليه للنفي وهو قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} وهذا منهج معروف في كلام العرب إذا أقسموا على شئ منفى صدروا جملة القسم بأداة نفي مثل هذه الآية. ومثل ما في قول الصديق رضي الله عنه: " لاها الله، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه "، وقول الشاعر:
فلا وأبيك ابنه العامري لايدعى القوم إني افر
وقال الآخر:
فلا والله لا يلقى لما بي ولا لما بهم أبداً دواء
هذا في كلامهم اكثر من أن يذكر.
وتأمل جمل القسم التي في القرآن المصدرة بحرف النفي كيف تجد المقسم عليه منفياً ومتضمناً للنفي، ولا يحزم هذا قوله تعالى {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}.
فإنه لما كان المقصود بهذا القسم نفي ما قاله الكفار في القرآن: من أنه شعر أو كهانه أو أساطير الأولين، صدر القول بأداة النفي ثم اثبت له ما قالوه. فتضمنت الآية أن ليس الأمر كما يزعمون ولكنه قرآن كريم.
ولهذا صرح بالأمرين: النفي والإثبات مثل قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}، وكذلك قوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}.
والمقصود: أن افتتاح هذا القسم بأداة النفي يقتضي تقوية المقسم عليه وتأكيده وشدة انتفائه.
وثانيها: تأكيده بنفس القسم.
وثالثها: تأكيده بالمقسم به، وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة.
ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم.
وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر، وما هذا التأكيد إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وإنه مما يعتني به ويقرر في نفوس العباد بما هو من ابلغ أنواع التقرير.
-----------------
تأملات في معاني الهجرة
مسعود صبري
الحديث عن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة ليس بالذي يُكتفى فيه بمقالة سريعة، وما أحسب أن واحدا من المفكرين -مهما أوتي من الحكمة وفصل الخطاب- قادر على أن يحيط بأحداث السيرة حكما تستفاد، وعبرا تؤخذ؛ فسيرته -صلى الله عليه وسلم- لا تَخْلَق من كثرة الرد؛ فهي كجزء من السنة النبوية، قسيم القرآن في وحيه، وهذا ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه". أو ما عبر عنه الشافعي رحمه الله: السنة وحي.
الهجرة سنة الأنبياء
ولا شك أن الهجرة هي إحدى وسائل الوقاية من اضطهاد الكفر للإيمان في بداية دعوته، فلم تكن الهجرة النبوية خاصة بسيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم؛ فقد هاجر قبله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين وقف قومه ضده وعادوه، بل كان أقرب الناس إليه من يعاديه، وهو أبوه، أو عمه كما يذكر بعض المفسرين. وهذا ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد عاداه أقرب الناس إليه عمه أبو لهب، يدور معه في الأسواق، فيبشر الرسول بدعوته، ويقول للناس: "قولوا: لا إله إلا الله"، فيقول أبو لهب معقبا على كلامه: "لا تصدقوه إنه كذاب"، فيسأل من لا يعرف: من هذا؟ فيقول أهل مكة: هذا محمد يدعو إلى دين جديد، وهذا عمه أبو لهب يكذبه.
إبراهيم قد هاجر(1/238)
هذا الموقف كان شبيها بما حدث لإبراهيم عليه السلام من أبيه -أو عمه-، وقد حكى القرآن الكريم ذلك حين قال: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيًّا * إِذْ قَال لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ العِلمِ مَا لمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ للرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ للشَّيْطَانِ وَليًّا * قَال أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لئِن لمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَليًّا * قَال سَلامٌ عَليْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا}.
الهجرة إلى الله وليست إلى مكان
بل صرح القرآن الكريم بهجرة إبراهيم حين حكى عنه قوله: {وَقال إني مُهَاجِرٌ إلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}.
ويعطينا إبراهيم عليه السلام في هذا معنى غاية في الأهمية؛ أن الهجرة لم تكن إلى مكان؛ فليس المكان مقصودا في ذاته، وإنما الهجرة تكون إلى الله تعالى؛ فتكون الهجرة إلى المدينة لنبينا هي تعريف بالمكان، ولكنها كانت هجرة الرسول إلى ربه في المدينة المنورة.
وقد هاجر مع إبراهيم عليه السلام ابن أخيه نبي الله لوط، وبعض المفسرين يرى أن قوله تعالى: {وَقال إني مُهَاجِرٌ إلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} هو من قول لوط، وليس من قول إبراهيم، ويستندون في ذلك إلى ما قبلها {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}، وإن كان الكل قد هاجر، والهجرة تحققت لإبراهيم عليه السلام، كما تحققت للوط عليه السلام.
وموسى قد هاجر
وقد هاجر سيدنا موسى -عليه السلام- من بين أهله إلى مدين، بعد اضطهاد آل فرعون له، وخشية قتله، وهذا ما حدث في الهجرة أيضا حين تآمر المشركون على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناقشوا في دار الندوة، واتفقوا على قتله، وفي هذا يحكي القرآن الكريم: {وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ}.
والهجرة خشية الاضطهاد مع موسى عليه السلام، حكاها القرآن حين قال: {وجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إنَّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وإن كان موسى عليه السلام قد خرج مهاجرا خائفا، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم هاجر دون خوف، وإن أخذ الاحتياط بعد علمه بمحاولة اغتياله وقتله، بل إنه لم يهاجر حتى هاجر جُل أصحابه، ثم رتب هجرته، وخطط لها حسب ما ذكرت كتب السيرة.
الهجرة ومعانيها المتجددة
وهذه الهجرة التي يفر بها المسلم بدينه خوفا عليه، والتي من أجلها يترك ماله ووطنه وتجارته معنى متجدد على مر العصور والدهور، ويمكن الاستئناس في ذلك بقوله عز وجل: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}.
ولعل هذا المعنى هو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، ولو في ذلك هجرة المكان.
ومن القديم حكى النبي صلى الله عليه وسلم لنا قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، واستفتى أعبد أهل الأرض، فجهل، وأضله بإفتائه ألا توبة له، فقتله، وأكمل به المائة، ثم استفتى أعلم أهل الأرض، فدله على الهجرة سبيلا للتوبة، والحفاظ على الدين فهاجر، ثم مات في الطريق؛ فكان ما كان من خصام الملائكة حوله، وأخذ ملائكة الرحمة له؛ ليكون من عباد الله المرحومين، بعد أن سلك طريق الهجرة.
وحين تكون الهجرة لله فرارا بالدين، تتصاغر أمامها شهوات النفس كلها، من المال والجاه والأرض وغير ذلك، وهذا ما حدث مع صهيب الرومي -رضي الله عنه-، فقد أراد الهجرة للنبي -صلى الله عليه وسلم- فاعترضه أهل مكة، وقد كان صهيب عبدا، فكاتب سيده، وأصبح حرًّا، ثم أصبح تاجرا، فساومه أهل مكة على غناه وتجارته، فترك لهم دنياه، لينال رضا الله تعالى، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فرح به قائلا: "ربح البيع أبا يحيى".
بئست الهجرة!(1/239)
ولكن يلاحظ أن عددًا غير قليل من شبابنا يهاجرون من أوطانهم، ولو كان في هذا بيع لدينهم فتتلاشى عقولهم وقلوبهم وحياتهم، ويذوبون في المجتمعات التي هاجروا إليها، ولم يأخذوا منها إلا الانسلاخ عن العقيدة والدين، مع ما قد يكون فيها من فوائد كثيرة، ومصالح عديدة.
وأقصد من هذا أنه يجب ألا تكون الهجرة مقصودة في ذاتها، بل تكون سبيلا لشيء نافع، ولعل الضابط الذي وضعه الفقهاء في هذا هو الحفاظ على الدين؛ فمن رأى من نفسه القدرة على الحفاظ على دينه، والنيل من متاع الدنيا فلا بأس بهذا، وإن كان قادرا على عرض الإسلام بصورة جيدة، فقد جمع الله تعالى له الحسنيين، أو كما قال القائل فيمن يجمع الله تعالى له ثواب الدنيا والآخرة: نصنع كأم موسى؛ ترضع ولدها، وتأخذ أجرها.
وإن كانت الهجرة ترتبط بالانتقال من مكان إلى مكان، فهناك هجرة الحال، وهي أن ينتقل الإنسان من حال إلى حال، ومن باب أولى أن يكون المقصود بها الانتقال من حالة إلى الأحسن، أو ما يعبر عنه في الدعاء: "اللهم غيّر حالنا إلى أحسن حال".
وفي الهجرة تجديد
وهذه الهجرة باقية إلى يوم القيامة، وكلنا في حاجة إليها، وإن كانت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ينعق بها الآن كل ناعق، ممن صحت نيته وسريرته، أو كانت ستارا لمغنم شخصي، سواء أكانت من قِبل أفراد، أو من قبل دول، فإنه يجب تجديد الحالة الدينية، وهي في طياتها تحمل معنى الهجرة؛ ذلك لأن الإنسان بطبعه متغير، يزيد إيمانه وينقص، يسيء ويحسن، يصيب ويخطئ، وهذه طبيعة البشر "لو لم تذنبوا لأتى الله بأقوام غيركم، يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم"، وليس الحديث دعوة للذنب، فما أكثر ذنوب العباد، ولكن هي دعوة للاستغفار، ولعل هجرة الحال، وتجديد الحالة الدينية مطلوب على دوام اليوم، فقد أخبر المعصوم -صلى الله عليه وسلم- عن ربه أنه سبحانه يتنزل كل يوم إلى السماء الدنيا، فينادي: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر الله؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من كذا، هل من كذا... حتى يطلع الفجر.
وكذلك في الحديث: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها".
هجرات مطلوبة
ولعلنا -ونحن في ذكرى الهجرة- نريد أن ننظر إلى أنفسنا، وأن نسطر مساوئنا وما علق في نفوسنا من شوائب؛ فنسعى إلى تصحيحها، وننشد الأصلح لها، وهذا الملمح أحسبه واحدا من أوجه التجديد الديني الذي يجب الانتباه له.
وإن كنا ندعو إلى هجرة الرذائل في الأخلاق والسلوك، فإننا أيضا في حاجة إلى هجرة الرذائل فيما يخص شئون حياتنا عامة، وأن نأخذ من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينفعنا في مسيرتنا؛ فنهجر العشوائية في تسيير أمورنا، ونهجر الجدال الذي لا يراد به حق، ونهجر تضييع الوقت بغير شيء نافع، ونهجر عدم إتقان العمل، وغير ذلك مما يعرفه كل إنسان عن نفسه، وإن اشترك البعض في مساحات معينة، ولكن يبقى التمايز بين بني البشر سمة أساسية.
(*) محرر بالقسم الشرعي بالموقع.
------------------
الهجرة إلى الله في عصر الإنترنت
ذكرى الهجرة تحتاج منَّا إلى إعادة قراءة.. فدروسها تتجاوز الزمان والمكان، فهي تحتمل أكثر من قراءة وفهم حتى يمكننا تنزيلها في كل زمان ومكان.. "بلسان قومه ليُبيِّن لهم".
هل نهاجر الآن من دار كفر لدار إيمان؟ وأين هي دار الإيمان الخالصة وقد طغت الدور على بعضها البعض وامتزجت، ثم نشأت دور متخيلة هي ساحة الإنترنت التي هاجرت إليها اتجاهات إسلامية بعد التضييق عليها لتؤسس دولتها "المتخيلة" على موقع إلكتروني، ولم ينسَ البعض أن يأخذ معه كل مفاهيمه دون أدنى تغيير أو تطوير أو تنزيل على هذا الواقع الجديد، كما ظهرت الفتاوى الإلكترونية التي تحرم هذا وتبيح ذاك، يقدم الفتوى فيها أهل التخصص تارة، وأبناء هذا العصر المتسلحون بالهَمِّ الإسلامي والجرأة لعلاج المشكلات تارة أخرى، وكالعادة هناك من يطلقون فتاوى التكفير على الإنترنت في مواقع عدة، وفي المقابل يغرقنا مجتمع الجاهلية المعاصرة بالمفاهيم والصور والبرامج والمناهج التي تُدخل "دارهم" في عقر دارنا.
إلى أين يفر المؤمن بدينه؟ الحبشة ما عاد فيها ملك عادل، والذين ظننا بهم العدل يريدوننا مواطنين مستأنسين بلا هوية ولا ماض… فإلى أين نفر؟
إلى ساحة المتخيل ننشئ لنا على الإنترنت دورًا نأوي إليها؟ بلا مهاجرين ولا أنصار، بل ساحات مبارزة بالكلمة، وجهاد "بالفأرة" نمسكها في أيدينا بعد أن سقطت السيوف وصار توازن الرعب النووي يخيم فوق رؤوسنا؟
جلست أتأمل في الهجرة ودلالاتها ووجدت أن "آخر الزمان" لم يعد يتيح خيارات في الهجرة سوى الهجرة إلى الله –سبحانه وتعالى- استمساكًا بالدين نَعَضُّ عليه بالنَّواجِذ، ونسعى لاتقاء الفتن ما ظهر منها وما بطن ونتواصى بالحق والصبر – وأحد مجالاته التواصل عبر الإنترنت – ونسير في هذا العالم الذي يموج بالأفكار والمذاهب مستعصمين بالكتاب والسنة غير مبدِّلين ولا ناكصين.(1/240)
ليست الهجرة هجرة مرة في العمر أو هجرة أمكنة، بل هي هجرة كل لحظة إلى الله.. إنكارًا للمنكر وإحقاقًا للمعروف ونصرة لله ورسوله أينما كنا.. في أي زمان عشنا.. وقد تداخلت الأزمنة باقتراب الوعد بالحق.
"إنِّي مهاجرٌ إلى رَبِّي".. هذا هو شعار المرحلة.. لا هروب ولا انعزال، ولا إلقاء بالنفس في بحر لُجِّيّ من ظلمات ما بعد الحداثة في استسلام، بل هجرة إلى الله دائمة نجدد نيَّتنا ونشْحَذ همتنا ونوظف المتاح من أدوات عصرنا، ونعيد قراءة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونرنو إلى لقائه على الحوض، لم نُحْدِث بعده ما يحرمنا شفاعته حتى نكون يومها من أصحابه صلى الله عليه وسلم.
===============
حول مدلولات الهجرة التحرير
الهجرة في اللغة اسمٌ من هجر يهجُر هَجْرا وهِجرانا بمعنى الفطع والترك؛ قال ابن فارس: "الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة".
أما الهجرة شرعاً فالمشهور في تعريفها أنها ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام، غير أن الحافظ ابن حجر عرفها تعريفاً أشمل وأعم فقال : "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه،وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) وهي تشمل الهجرة الباطنة والهجرة الظاهرة، فأما الهجرة الباطنة فهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزيّنه الشيطان، وأما الظاهرة فهي الفرار بالدين من الفتن، والأولى أصل للثانية.
ولما كانت الثانية أعظم أمارات الأولى وأكمل نتائجها، و لما كانت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة أشرف الهجرات وأشهرها انصرف اللفظ عند الإطلاق إليها.
أما لفظ الهجرتين فهو عند الإطلاق يراد به الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة ، وقد يراد به معنى آخر كما بين الإمام ابن القيم في مقدمة كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين حيث بين مقصده بالهجرتين بقوله:" فله _أي المؤمن _ في كل وقت هجرتان:
هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية، والتوكل والإنابة والتسليم، والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجإ والافتقار في كل نفس إليه.
وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد، وقد قال شيخ الطريقة وإمام الطائفة الجنيد بن محمد قدس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق واستفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا من خلفك، وقال بعض العارفين: كل عمل بلا متابعة فهو عيش النفس."
على ضوء التعريفات السابقة يمكن تقسيم الهجرة إلى نوعين اثنين:
1- الهجرة المعنوية: وهي الهجرة التي قصدها الإمام ابن القيم: الهجرة من المعصية إلى الطاعة ومن البدعة إلى السنة ومن الكفر إلى الإسلام .
الهجرة الحسية: وهي التي تتطلب انتقالاً من مكان إلى أخر ، ومن أمثلتها :
أ الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق.
ب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وهذه يختلف حكمها باختلاف الظروف والأوضاع.
ج هجرة أهل الذنوب والمعاصي وهجرة أهل الأهواء والبدع بمفارقتهم ومقاطعتهم ومباعدتهم زجراً لهم أو حذراً منهم.
د- الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير)) .(1/241)
وقد ندب الله المؤمنين للهجرة في أيات كثيرة يقول تعالى: "{إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة:218].وقوله: : {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [النحل:41]. وقوله : {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل:110]. وقوله {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:100]، وغير ذلك من الآيات، كما وردت أحاديث عديدة تنوه بفضل الهجرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((أما عملت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟! وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟! وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!)) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي فاطمة الضمري: ((عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها))
نسأل الله أن يجعلنا من المهاجرين إليه وإلى رسوله ..أمين.
-----------------
من أحكام الهجرة
موقع المنبر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فقد قال الشيخ أبو يعلى الزواوي -رحمه الله-: «قد علمت وفقنا الله وإياكم أنَّ السلف يحفلون للهجرة ولا يحتفلون بها... وأما الاحتفال بالهجرة لم يجر إلا في عهدنا هذا وهو حسن ما لم يعتريه ما اعترى الموالد في مصر كما علمتم، وليقتصر على التنويه بالهجرة إجمالاً وتفصيلاً» [1].
أولاً: تعريف الهجرة:
الهجرة لغة: اسمٌ من هجر يهجُر هَجْرا وهِجرانا[2].
قال ابن فارس: «الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة»[3].
وضبط ابن منظور أيضاً التي بمعنى الخروج من أرض إلى أرض بضم الهاء: الهُجْرة[4].
ويكون الهجر بالقلب واللسان والبدن[5]:
فمن الهجر بالبدن قوله تعالى: ?وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ? [النساء:34].
ومن الهجر باللسان قول عائشة -رضي الله عنها- لما قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم) قالت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك[6].
ومن الهجر بالقلب ما جاء في حديث: (من الناس من لا يذكر الله إلا مهاجراً)[7]، قال ابن الأثير نقلاً عن الهروي: «يريد هِجران القلب وترك الإخلاص في الذكر، فكأنّ قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له»[8].
وقد تجتمع هذه الوجوه كلها أو بعضها في بعض أنواع الهجر.
الهجرة شرعاً:
عرّفها غير واحد بأنها ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام[9].
وأعم منه ما قاله الحافظ ابن حجر: «الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه»[10]، وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) [11]، وهي تشمل الهجرة الباطنة والهجرة الظاهرة، فأما الهجرة الباطنة فهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزيّنه الشيطان، وأما الظاهرة فهي الفرار بالدين من الفتن[12]، والأولى أصل للثانية.
ولما كانت الثانية أعظم أمارات الأولى وأكمل نتائجها خص بعض العلماء التعريف بها كما تقدم. ثم لما كانت هجرته -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة أشرف الهجرات وأشهرها انصرف اللفظ عند الإطلاق إليها.
وأما لفظ الهجرتين فهو عند الإطلاق يراد به الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة[13].
ثانيًا: فضل الهجرة:
لقد جاء في فضل الهجرة وبيان ثواب المهاجرين آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة.
فمن الآيات الكريمة:
1- قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [البقرة:218].
قال ابن جرير -رحمه الله-: «يعني بذلك جل ذكره: إن الذين صدّقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به، وبقوله: ?وَالَّذِينَ هَاجَرُو? الذين هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم، ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها، هجرة لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه...، وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهاجرين لما وصفنا من هجرتهم دورهم ومنازلهم، كراهة منهم النزول بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم إلى الموضع الذي يأمنون ذلك...(1/242)
فمعنى قوله إذًا: ?وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ? والذين تحوّلوا من سلطان أهل الشرك هجرة لهم، وخوف فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه، وفيما يرضى الله، ?أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ? أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم» [1].
وقال ابن سعدي -رحمه الله-: «هذه الأعمال الثلاثة، هي عنوان السعادة، وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح والخسران، فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته...، وأما الهجرة فهي مفارقة المحبوب والمألوف لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقربًا إلى الله ونصرة لدينة، وأما الجهاد فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله وقمع دين الشيطان. وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه أفضل الجزاء. فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجين رحمة الله؛ لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة» [2].
2- وقوله تعالى: ?فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ? [آل عمران:195].
قال ابن جرير -رحمه الله-: «"يعني بقوله جل ثناؤه: فالذين هاجروا قومهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله والتصديق برسوله، وأخرجوا من ديارهم، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة...، ?وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ? يعني: أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه، وذلك ما لا يبلغه وصف واصف؛ لأنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» [3].
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «أي: تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران... وقوله: ?ثَوَاباً مّن عِندِ اللَّهِ? إضافة إليه ونسبة إليه ليدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيرًا» [4] .
وقال ابن سعدي: «فجمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال طلبًا لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله» [5] .
3- وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مّن وَلايَتِهِم مّن شَىْء حَتَّى يُهَاجِرُو? [الأنفال:72].
قال ابن جرير -رحمه الله-: «يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله ?وَهَاجَرُو? يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم، يعني: تركوهم وخرجوا عنهم، وهجرهم قومهم وعشيرتهم...?أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ? يقول: هاتان الفرقتان يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار» [6] .
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض» [7] .
وقال ابن سعدي -رحمه الله-: «هذا عقد موالاة ومحبة عقدها الله بين المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله، وتركوا أوطانهم لله، لأجل الجهاد في سبيل الله، وبين الأنصار الذين آووا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وأعانوهم في ديارهم، وأموالهم وأنفسهم. فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض» [8] .
4- وقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ? [الأنفال:74-75].
قال ابن جرير -رحمه الله-: "يقول تعالى ذكره: ?وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُو? أووا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين معه، ونصروهم ونصروا دين الله، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقًا، لا من آمن ولم يهاجر دار الشرك، وأقام بين أظهر أهل الشرك، ولم يغز مع المسلمين عدوّهم، ?لَّهُم مَّغْفِرَةٌ? يقول: لهم ستر من الله على ذنوبهم بعفوه لهم عنهما، ?وَرِزْقٌ كَرِيمٌ? يقول: لهم في الجنة مطعم ومشرب هنيّ كريم، لا يتغير في أجوافهم فيصير نجوا، ولكنه يصير رشحًا كرشح المسك" [9] .(1/243)
وقال ابن سعدي -رحمه الله-: "الآيات السابقات في ذكر عقد الموالاة بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وهذه الآيات في بيان مدحهم وثوابهم، فقال: ?وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ? من المهاجرين والأنصار، أي: المؤمنون ?حَقّ? لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالاة بعضهم لبعض وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين، ?لَّهُم مَّغْفِرَةٌ? من الله، تُمحى بها سيئاتهم وتضمحل بها زلاتهم ?وَ? لهم ?رِزْقٌ كَرِيمٌ? أي: خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم" [10] .
5- وقوله تعالى: ?الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ % يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ % خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ? [التوبة:20-22].
قال ابن جرير -رحمه الله-: «يقول تعالى ذكره: ?الَّذِينَ ءامَنُو? بالله: صدقوا بتوحيده من المشركين، وهاجروا دور قومهم، وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم مشركون» [11].
وقال ابن سعدي -رحمه الله-: «ثم صرح بالفضل فقال: ?الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ? بالنفقة في الجهاد وتجهيز الغزاة ?وَأَنفُسِهِمْ? بالخروج بالنفس ?أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ? أي: لا يفوز بالمطلوب، ولا ينجو من المرهوب إلا من اتصف بصفاتهم وتخلق بأخلاقهم» [12] .
6- وقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ? [النحل:41].
قال ابن جرير -رحمه الله-: «يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم ?مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُو? يقول: من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله ?لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة? يقول: لنسكننهم في الدنيا مسكنًا يرضونه صالحًا...
وقوله: ?وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ? يقول: ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الآخرة أكبر؛ لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد» [13] .
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان، رجاء ثواب الله وجزائه» [14] .
وقال ابن سعدي -رحمه الله-: «يخبر تعالى بفضل المؤمنين الممتحنين ?وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ? أي: في سبيله، وابتغاء مرضاته ?مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُو? بالأذية والمحنة من قومهم، الذين يفتنونهم ليردوهم إلى الكفر والشرك، فتركوا الأوطان والخلان، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن فذكر لهم ثوابين، ثوابًا عاجلاً في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهنيئ الذي رأوه عيانا بعدما هاجروا وانتصروا على أعدائهم، وافتتحوا البلدان، وغنموا منها الغنائم العظيمة فتمولوا، وآتاهم الله في الدنيا حسنة، ?وَلأَجْرُ الآخِرَةِ? الذي وعدهم الله على لسان رسوله خير، و?أَكْبَرُ? من أجر الدنيا... ?لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ? أي: لو كان لهم علم ويقين بما عند الله من الأجر والثواب لمن آمن به وجاهد في سبيله، لم يتخلف عن ذلك أحد» [15] .
7- وقوله تعالى: ?ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ? [النحل:110].
قال ابن جرير -رحمه الله-: «يقول تعالى ذكره: ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، وصبروا على جهادهم، ?إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ? يقول: إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور... رحيم بهم..» [16] .
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا، فأخبر الله تعالى أنه ?مِن بَعْدِهَ? أي: تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم، رحيم بهم يوم معادهم» [17] .(1/244)
وقال ابن سعدي -رحمه الله-: «أي: ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم لمن هاجر في سبيله وخلى دياره وأمواله، طالبًا لمرضاة الله، وفُتِنَ على دينه ليرجع إلى الكفر، فثبت على الإيمان وتخلص ما معه من اليقين، ثم جاهد أعداء الله ليدخلهم في دين الله، بلسانه ويده، وصبر على هذه العبادات الشاقة على أكثر الناس، فهذه أكبر الأسباب التي ينال بها أعظم العطايا، وأفضل المواهب، وهي مغفرة الله للذنوب» [18] .
8- وقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرازِقِينَ? [الحج:58].
قال ابن جرير -رحمه الله-: «والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم، فتركوا ذلك في رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه، ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك، ليرزقنهم الله يوم القيامة في جناته رزقًا حسنًا، يعني بالحسن: الكريم، وإنما يعني بالرزق الحسن: الثواب الجزيل» [19] .
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وطلبًا لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله ونصرة لدين الله ?ثُمَّ قُتِلُو? أي: في الجهاد، ?أَوْ مَاتُو? أي: حتف أنفسهم، أي: من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل» [20] .
وقال ابن سعدي -رحمه الله-: «هذه بشارة كبرى، لمن هاجر في سبيل الله، فخرج من داره ووطنه وأولاده وماله ابتغاء وجه الله، ونصرة لدين الله، فهذا قد وجب أجره على الله، سواء مات على فراشه، أو قتل مجاهدًا في سبيل الله» [21] .
9- وقوله تعالى: ?وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيم? [النساء:100].
قال ابن جرير -رحمه الله-: «ومن يفارق أرض الشرك وأهلها هربًا بدينه منها ومنهم إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين، في سبيل الله، يعني في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه، وذلك الدين القيم ? يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِير?، يقول: يجد هذا المهاجر في سبيل الله مراغمًا كثيرًا، وهو المضطرب في البلاد والمذهب... وقوله: ?وَسَعَةً? فإنه يحتمل السعة في أمر دينهم بمكة، وذلك منعهم إياهم –كان- من إظهار دينهم، وعبادة ربهم علانية، ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرًا من أرض الشرك فارّا بدينه إلى الله وإلى رسوله، إن أدركته منيته قبل بلوغه أرض الإسلام ودار الهجرة، فقال: من كان كذلك ?فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ?، وذلك ثواب عمله وجزاء هجرته، وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه» [22] .
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه» [23] .
وقال ابن سعدي -رحمه الله-: «هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغمًا في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا» [24] .
10- وقوله تعالى: ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ? [التوبة:100].
قال ابن جرير: «والذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله ?وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ? يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام طلبًا رضا الله ?رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ?» [25] .
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعدّ لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم» [26] .
ومن الأحاديث النبوية:
1- قوله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن العاص: (أما عملت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟! وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟! وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!) [27].
قال النووي -رحمه الله-: «فيه عظيم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي» [28].
2- قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي فاطمة الضمري: (عليك بالهجرة فإنه لا مثل له) [29].(1/245)
3- قوله -صلى الله عليه وسلم-: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سن) [30].
4- قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فمن فعل ذلك منهم – أي من أسلم وهاجر وجاهد – فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) [31].
5- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أنا زعيم –والزعيم الحميل– لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة) [32].
6- وقوله -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن أفضل الإيمان قال: (الهجرة) [33].
7- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن: بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله...) الحديث [34].
8- وقوله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو: (أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟) قال: الله ورسوله أعلم، فقال: (المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب؟! وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك. قال: فيفتح لهم فيقيلون فيه أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس) [35].
9- وعن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ قال: حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيًا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- [36] .
__________
[1] الثمرة الأولى لجميعة الطلبة الجزائريين الزيتونيين ص 40، نشرة السنة الرابعة 1355- 1356هـ، 1936-1937م.
[2] انظر: لسان العرب (8/4616).
[3] معجم مقاييس اللغة (6/34) . ولم يذكر للأصل الثاني مثالاً.
[4] انظر: لسان العرب (8/4617).
[5] انظر: التوقيف على مهمات التعاريف (738).
[6] أخرجه البخاري (9/325-الفتح) [5228]. وفي هذا الحديث فضل عائشة رضي الله عنها حيث إنها أخبرت مقسمة أنها في حالة الغضب الذي يسلب العاقل اختياره لا تتغير عن المحبة المستقرة في قلبها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يترك قلبها التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مودة ومحبة، ثم من فطنتها رضي الله عنها أنها لما لم يكن لها بد من هجر اسمه الشريف أبدلته بمن هو صلى الله عليه وسلم أولى الناس به وهو إبراهيم عليه السلام حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة. انظر : فتح الباري (9/326).
[7] لم أقف عليه.
[8] النهاية (5/245).
[9] انظر : التعريفات للجرجاني (256) والمفردات للراغب (537) وجامع العلوم والحكم لابن رجب (1/72-73).
[10] فتح الباري (1/16).
[11] جزء من حديث أخرجه البخاري (1/53-الفتح) [10] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[12] انظر: فتح الباري (1/54).
[13] انظر: لسان العرب (8/4617).
[14] جامع البيان (2/355).
[15] تيسير الكريم الرحمن (1/173 ـ 174).
[16] جامع البيان (3/ 216).
[17] تفسير القرآن العظيم (2/ 166).
[18] تيسير الكريم الرحمن (1/ 306).
[19] جامع البيان (6/ 51).
[20] تفسير القرآن العظيم (4/ 38).
[21] تيسير الكريم الرحمن (2/ 219).
[22] جامع البيان (6/ 56 ـ 57).
[23] تيسير الكريم الرحمن (2/ 220).
[24] جامع البيان (6/ 97).
[25] تيسير الكريم الرحمن (2/ 232).
[26] جامع البيان (8/ 106 ـ 107).
[27] تفسير القرآن العظيم (4/ 491).
[28] تيسير الكريم الرحمن (3/ 61).
[29] جامع البيان (8/ 183).
[30] تفسير القرآن العظيم (4/ 527).
[31] تيسير الكريم الرحمن (3/ 87 ـ 88).
[32] جامع البيان (10/ 194).
[33] تفسير القرآن العظيم (5/ 443).
[34] تيسير الكريم الرحمن (3/ 332).
[35] جامع البيان (4/ 238).
[36] تفسير القرآن العظيم (2/ 344).
[37] تيسير الكريم الرحمن (1/ 393).
[38] جامع البيان (7/ 6).
[39] تفسير القرآن العظيم (4/ 141).
[40] أخرجه مسلم (1/112) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[41] شرح مسلم (2/ 497).
[42] أخرجه النسائي (7/465) من حديث أبي فاطمة الضمري، وحسن إسناده الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول (11/605) والدكتور سليمان السعود في أحاديث الهجرة (ص244) وصححه الألباني، صحيح الجامع [4045].
[43] أخرجه مسلم [673] من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
[44] أخرجه أحمد (3/483) والنسائي (6/21) من حديث سبرة بن أبي فاكه وهو في صحيح السنن [2937].
[45] أخرجه النسائي (6/21) من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وهو في صحيح سنن النسائي [2936].(1/246)
[46] أخرجه أحمد (4/114) من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه. وقال الهيثمي في المجمع (1/59): "رجاله ثقات".
[47] أخرجه أحمد (4/130، 202) (5/344) والترمذي (5/148) من حديث الحارث الأشعري وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (2/64) وقال الألباني: "إسناده صحيح".
[48] أخرجه الحاكم (2/70) من حديث عبد الله عمرو رضي الله عنهما وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
[49] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر (116).
----------------
ثالثًا: أنواع الهجرة:
يمكن تقسيم الهجرة إلى نوعين اثنين:
1- الهجرة المعنوية: وهي الهجرة من الكفر إلى الإسلام ومن البدعة إلى السنة ومن المعصية إلى الطاعة، وهذا هو مقتضى الهجرة إلى الله ورسوله، لأن الهجرة إلى الله تعالى تكون بالإيمان به وتوحيده وإفراده بالعبادة خوفاً ورجاءً وحباً، وأن يجتنب الشرك صغيره وكبيره، وأن يجتنب المعاصي والكبائر، وأن يكثر من الاستغفار والتوبة لتجديد الهجرة كلما وقع فيما يضعف مسيرتها، ولذلك كان مفتاح النجاة هو التوحيد والاستغفار.
والهجرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكون باتباع سنته وتحكيمها والتحاكم إليها وتقديمها على جميع الأهواء والآراء والأذواق، ونبذ البدع والمحدثات التي ليس عليها أمر الإسلام.
2- الهجرة الحسية: ومن ذلك:
أ الهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق.
ب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وهذه يختلف حكمها باختلاف الظروف والأوضاع وسيأتي بيان ذلك.
ج هجرة أهل الذنوب والمعاصي وهجرة أهل الأهواء والبدع بمفارقتهم ومقاطعتهم ومباعدتهم زجراً لهم أو حِمية منهم أو لهما معاً.
د- الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير) [1].
رابعًا: حكم الهجرة:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام يختلف حكمها باختلاف حالات المقيمين بديار الكفر:
أ. فتكون واجبة، وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو إقامة واجبات دينه في ديار الكفر، لقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِير? [النساء:97].
ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءى ناراهم) [2]، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجبات دينه واجب، والهجرة من ضرورة الواجبات وتتمتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب. وتسقط عمن يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف كالنساء والولدان وشبههم، فالعاجز لا هجرة عليه لقوله تعالى: ?إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُور? [النساء:98-99].
ج. وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته ي دار الكفر، فهذا تستحب في حقه ليتمكن من جهادهم، ولتكثير المسلمين ومعونتهم، والتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ومشاهدة المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكانه إقامة واجبات دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي -صلى الله عليه وسلم- مقيما بمكة قبل فتحها مع إسلامه [3].
فإن قيل: ما ضابط إظهار الدين؟
فالجواب: ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ : "إظهاره دينَه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال" [4].
ويرى بعض العلماء أنه قد يستحب للمسلم أن يقيم في دار الكفر وذلك إذا كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته أو إذا ترتب على بقائه بدار الكفر مصلحة للمسلمين، فقد نقل صاحب مغني المحتاج أن إسلام العباس رضي الله عنه كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأخبار المشركين وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب القدوم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكتب إليه -صلى الله عليه وسلم-: (إن مقامك بمكة خير)، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة [5].(1/247)
ولا شك أن هذا ليس لكل أحد، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في هذا الزمان الذي غلب فيه أهل الكفر، ونحن نرى ولوع كثير من المسلمين بتقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو مقيم بين أظهرهم، لا شك أن الفتنة أعظم والخطر أكبر، وأحكام الشريعة مبنية على الغالب الكثير لا على ما شذّ وندر.
___________
[1] أخرجه أبو داود [2482] وحسنه الألباني في تخريج مناقب الشام وأهله (ص79).
[2] أخرجه أبو داود [2645] والترمذي [1604] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع [1461].
[3] انظر: المغني لابن قدامة (13/151).
[4] فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91-92)
[5] مغني المحتاج (4/239) وانظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل (1/687-692).
------------
قراءة في الواقع الإسلامي المعاصر
بقلم: محيي الدين صالح
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) ومن هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه "الفاروق عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه- فعندما استعرض أهم الأحداث التي مرت على الأمة الإسلامية بهدف التأريخ للحضارة الإسلامية بها، اختار هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، لتكون بداية التاريخ الهجري محسوباً على الشهور القمرية، ذلك لما لهذا الحدث من آثار اعتبرها الفاروق عمر أكثر دلالة على خصوصية الأمة الإسلامية وتميزها، ومن ثم على حضارتها وتاريخها، بالإضافة الى المقدمات العظيمة التي مهدت لها والتوابع التي لحقت بها في نفس المجال، ولم يتوقف الفاروق عند يوم مولد المصطفى ولا يوم بعثته ولا يوم انتقاله الى الرفيق الأعلى.
وبذلك وضع سيدنا عمر -رضي الله عنه- حدث الهجرة وأهميتها ودلالاتها في إطارها الصحيح، بحيث لا تغيب مقدماتها ولا توابعها عن أذهان المسلمين مع مرور السنين، خاصة بعد حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"، وهذا الحديث لو قرأناه بجوار قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)، لو قرأنا الآية والحديث معاً نجد تلك العلاقة الوثيقة بين الهجرة ومقدماتها وتوابعها، وأقصد بمقدمات الهجرة قوله تعالى (تؤمنون بالله ورسوله) وأقصد بالتوابع قوله تعالى (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم)، لأن الإيمان والجهاد سيكون لهما استمرارية بعد الفتح الذي أنعم الله به على المسلمين حين أوقفت الهجرة البدنية بنص الحديث الشريف.
وفي نفس الوقت لو قمنا بقراءة للواقع الإسلامي المعاصر سنجد الآثار، التي ترتبت على انصراف المسلمين عن حقيقة الإيمان وعن الجهاد، واضحة للعيان، لأن ما وصل إليه حال الأمة الإسلامية في هذه الفترة الأخيرة لا يعدّ مفاجأة غير متوقعة، بل هي توابع حتمية لمجموعة من العوامل تراكمت مع مرور السنين، وخلفت وراءها رواسب كثيفة على وجدان وفكر كثير من الناس، وكست قلوبهم بما كان يحذرنا منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو "حب الدنيا".
وهذه الزلزلة التي يعاني منها المسلمون الآن -ولا أقول الإسلام- نتيجة طبيعية لزلزلة فكرية نزلت بساحتهم من قبل، فاستكانوا لها وكأنهم تقبلوها، ولقد كانت هذه الزلزلة الفكرية بمثابة الردة عن ثوابت إيمانية ما كان ينبغي أن نتركها للمد والجزر، أو المزايدات الرخيصة، فالواقع الإسلامي المعاصر فيه من الألم بقدر ما فيه من الحسرة، وفيه من الحيرة ما يماثل تلك التي واجهت الذين خلوا من قبلنا (مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) من الآية 214 من سورة البقرة.
وما دام ختام الآية السابقة هو قوله تعالى (ألا إن نصر الله قريب) فوجب استدعاء آية أخرى في سورة الحج هي قوله تعالى (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)، ويبقى من أطراف هذه المعادلة أن نحدد المعنيِّين بقوله تعالى (من ينصره)، وهم كما بينتها الآية التالية لها (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)، معنى ذلك أن النصر الذي وعد الله به له أسباب يجب استيفاؤها، وتكاليف وأعباء يجب القيام بها مسبقاً، وكما يقول سيد قطب في كتابه القيم "في ظلال القرآن" فقد يبطئ النصر لأسباب تتعلق بالمجتمع الإسلامي واستعداداته لاستقبال الحق والخير.(1/248)
ومن أهم الأسباب التي يستحق بها أهل الإيمان نصر الله ويدخلون بها في حمايته سبحانه وتعالى "الهجرة إلى الله"، فالبناء الصحيح لا يقوم إلا على أساس متين، ولو استعرضنا بدايات المجتمع الإسلامي ثم الدولة الإسلامية ثم الحضارة الإسلامية بهذا التتابع، نجد أنها كلها بنيت على الهجرة إلى الله. وإذا كان كثير من الناس ينظرون إلى هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من مكة إلى المدينة على أنها هي الهجرة الأولى للرسول وصحبه، فإن هذه النظرة غير دقيقة بصرف النظر عن هجرة فئة من المسلمين إلى إفريقيا في بداية الدعوة، لأن تلك الهجرة فعلاً هى الأولى بدنيّاً، ولكن سبقتها هجرة من نوع آخر لهؤلاء المسلمين الأوائل حين هاجروا عن معتقدات قديمة وسلوكيات متوارثة وتوجهات بالية، واتجهوا بقلوبهم إلى الله تاركين خلفهم مباهج الدنيا وزينتها، متوجهين الى تجارة مع الله تنجي من عذاب أليم، وهذه الهجرة الفكرية هي التي أسست بناء المجتمع الإسلامي بقناعاته وتوجهاته المقنعة، وكان هذا الأساس متيناً لم تعصف به ويلات التعذيب التي سقاها الكفار للمسلمين في مكة قبل أن يغادروها.
وبعد ذلك بسنوات كانت الهجرة الثانية بالأبدان، وكما سبق أن فارق المسلمون عادات وتقاليد كانت لها مكانة في نفوسهم، هاجروا أيضاً إلى موطن جديد تاركين خلفهم أحب أرض الله إليهم، وكانت هذه الهجرة من مكة إلى المدينة هي اللبنة الأولى التي وضعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بناء الدولة الإسلامية على أساس متين، وإذا كانت الهجرة الأولى عن المعتقدات والثانية عن الأوطان فإن الهجرة الثالثة كانت عن الأنفس، فقد تجرد المسلمون عن أنفسهم وباعوها لله سبحانه وتعالى بالجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، كما يقول الله سبحانه وتعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) 111 التوبة، وهذه الهجرة هي التي أسست لبناء الحضارة الإسلامية.
خلاصة القول أن الهجرة الأولى بالقلوب والعقول عن المعتقدات بُني عليها المجتمع الإسلامي، والهجرة الثانية بالأبدان عن الأوطان ُبنيت عليها الدولة الإسلامية، والهجرة الثالثة بالجهاد في سبيل الله عن الأنفس بُنيت عليها الحضارة الإسلامية وتأصيل عالمية الإسلام وتثبيت أركانه ودعائمه.
ولقراءة الواقع الإسلامي المعاصر قراءة صحيحة، كان لابد من هذه الرؤية المتأنية للواقع الإسلامي في مولده "مجتمعاً ثم دولةً ثم حضارة"، مع مقارنة ضرورية بين العصر الأول في عهد رسول الإسلام وبين العصر الأخير في القرن الخامس عشر الهجري، وقد حدث ارتداد شبه جماعي عن الهجرات الثلاث، فأصبحت عبادة العقل والهوى من سمات بعض المثقفين التي يتفاخرون بها تحت أسماء كثيرة، إلا أن هذه الفئة تسيطر على كثير من مقدرات ومقومات ومعطيات الحركة الثقافية الإسلامية وتوجهها نحو هاوية التفريق بين الالتزام الديني والخلقي وبين الإرث الثقافي، كما سبق أن قام بعض ضعاف النفوس بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى بالتفريق بين الصلاة والزكاة.
كما أننا في حاجة ماسة إلى توحيد الأوطان وتجاوز الصراعات المكثفة البادية بين البلاد الإسلامية في أشكال متعددة من حدود سياسية مقدسة وجوازات وجمارك وأنواع متعددة من الإجراءات الأمنية، أما الجهاد الذي صار فريضة غائبة كما يسميها بعض المفكرين، أو ذروة السنام كما سماها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد أصبح في دائرة الممنوعات في هذا العصر الذي يسميه بالإرهاب.
ولن نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن المجتمع الإسلامي في حاجة إلى هجرة جماعية جديدة في بعديها "الأول والثالث" أما البعد الثاني وهوالهجرة بالأبدان فهي موقوفة بنص الحديث (لا هجرة بعد الفتح) وإن كانت أرض الله واسعة أمام المستضعفين في الأرض، وأهمية هذه الهجرة بمفهومها الشامل تتضح أكثر إذا فكرت الأمة الإسلامية في مخرج لها،(وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
ولا شك أن للهجرة فضلاً كبيراً على الإنسانية كلها، وليس على الأمة الإسلامية فقط فلولا الهجرات الثلاث (عن العقيدة الخاطئة ثم عن الوطن ثم عن النفس)، ولولا الحضارة الإسلامية لما خرجت الإنسانية من عصور الظلام والانحطاط إلى نور الهداية والعلم والمعرفة والنظم والحقوق والأمن، وستظل الهجرة، حدثاً ومعنى، تمد الأمة الإسلامية بالكثير من العظات والعبر، وينهل منها أولو العلم، ويسير على دربها السالكون لسبل الهداية، ويقتفي آثارها خير خلف لخير سلف.
بقي أن نعي قراءة نشأة الحضارة الإسلامية بكل مفرداتها، لنتمكن من قراءة الواقع الإسلامي المعاصر بكل ملابساته قراءة صحيحة، وذلك للخروج من هذا التيه المفروض علينا بشكل أو بآخر، وإلا كان البديل الصعب (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).
================(1/249)
الهجرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
قال تعالى : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا* (100) سورة النساء
وقد مر تفسيرها سابقا وهنا نضيف
وفي الأم (1):
الْإِذْنُ بِالْهِجْرَةِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى , وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ مُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ زَمَانًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ مِنْهَا ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَجَعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا فَيُقَالُ نَزَلَتْ { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * فَأَعْلَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ مَخْرَجًا وَقَالَ { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً * الْآيَةَ . وَأَمَرَهُمْ بِبِلَادِ الْحَبَشَةِ فَهَاجَرَتْ إلَيْهَا مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ثُمَّ دَخَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَائِفَةً فَهَاجَرَتْ إلَيْهِمْ غَيْرَ مُحَرِّمٍ عَلَى مَنْ بَقِيَ تَرْكَ الْهِجْرَةِ إلَيْهِمْ وَذَكَرَ اللَّه جَلَّ ذِكْرُهُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَقَالَ { , وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ * قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى { فِي سَبِيلِ اللَّهِ * . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ , وَلَمْ يُحَرِّمْ فِي هَذَا عَلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ الْمُقَامَ بِهَا وَهِيَ دَارُ شِرْكٍ , وَإِنْ قَلُّوا بِأَنْ يُفْتَنُوا , وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ بِجِهَادٍ . ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ بِالْجِهَادِ , ثُمَّ فُرِضَ بَعْدَ هَذَا عَلَيْهِمْ أَنْ يُهَاجِرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ , وَهَذَا مَوْضُوعٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وفي أحكام القرآن للشافعي :
الْإِذْنُ بِالْهِجْرَةِ ( أَنَا ) أَبُو سَعِيدٍ نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ , قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ مُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ , زَمَانًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِيهِ بِالْهِجْرَةِ مِنْهَا ; ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ , وَجَعَلَ لَهُمْ مَخْرَجًا . فَيُقَالُ : نَزَلَتْ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * . فَأَعْلَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَنْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ [ بِالْهِجْرَةِ ] مَخْرَجًا ; قَالَ : { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً * الْآيَةَ وَأَمَرَهُمْ بِبِلَادِ الْحَبَشَةِ فَهَاجَرَتْ إلَيْهَا [ مِنْهُمْ ] طَائِفَةٌ . ثُمَّ دَخَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ [ فِي ] الْإِسْلَامِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم طَائِفَةً فَهَاجَرَتْ إلَيْهِمْ : غَيْرَ مُحَرِّمٍ عَلَى مَنْ بَقِيَ , تَرْكُ الْهِجْرَةِ . وَذَكَرَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) أَهْلَ الْهِجْرَةِ , فَقَالَ : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ * , وَقَالَ { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ * , وَقَالَ { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * . قَالَ : ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : بِالْهِجْرَةِ مِنْهَا ; فَهَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) إلَى الْمَدِينَةِ . وَلَمْ يُحَرِّمْ فِي هَذَا , عَلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ , الْمُقَامَ بِهَا : وَهِيَ دَارُ شِرْكٍ . وَإِنْ قَلُّوا بِأَنْ يُفْتَنُوا . [ وَ ] لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ بِجِهَادٍ . ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) لَهُمْ بِالْجِهَادِ ; ثُمَّ فَرَضَ بَعْدَ هَذَا عَلَيْهِمْ أَنْ يُهَاجِرُوا مِنْ دَارِ الشِّرْكِ , وَهَذَا مَوْضُوعٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ .
------------------
وقال الجصاص (2):
__________
(1) - الأم - (ج 4 / ص 219)
(2) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 5 / ص 58)(1/250)
قوله تعالى : { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً * ; قِيلَ فِي الْمُرَاغَمِ إنَّهُ أَرَادَ مُتَّسَعًا لِهِجْرَتِهِ ; لِأَنَّ الرَّغْمَ أَصْلُهُ الذُّلُّ , تَقُولُ : فَعَلْت ذَلِكَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ فُلَانٍ , أَيْ فَعَلْته عَلَى الذُّلِّ وَالْكُرْهِ . وَالرَّغَامُ التُّرَابُ ; لِأَنَّهُ يَتَيَسَّرُ لِمَنْ رَامَهُ مَعَ احْتِقَارِهِ وَأَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَهُ أَيْ أَلْصَقْهُ بِالتُّرَابِ إذْلَالًا لَهُ ; فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً * أَيْ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُتَّسَعًا سَهْلًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ * . فَمُرَاغَمٌ وَذَلُولٌ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى .
وَقِيلَ فِي الْمُرَاغَمِ إنَّهُ مَا يُرْغَمُ بِهِ مَنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْهِجْرَةِ .
وَأَمَّا قوله تعالى : { وَسَعَةً * , فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكِ : أَنَّهُ السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ . وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ : أَنَّهُ السَّعَةُ فِي إظْهَارِ الدِّينِ لِمَا كَانَ يَلْحَقُهُمْ مِنْ تَضْيِيقِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى يَمْنَعُوهُمْ مِنْ إظْهَارِهِ .
----------------
وفي البحر الزخار (1):
كِتَابُ السِّيَرِ السِّيرَةُ : الطَّرِيقَةُ , وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مِنْ سَارَ إلَى كَذَا , أَيْ ذَهَبَ إلَيْهِ , " . " مَسْأَلَةٌ " الْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ , وَهُوَ أَصْلٌ فِي النُّبُوَّةِ وَالْإِمَامَةِ , وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم , أَظْهَرَ كَرَامَاتِهِ حَالَ الْحَمْلِ بِهِ وَرَضَاعِهِ وَفِطَامِهِ بِمَا هُوَ مَأْثُورٌ فِي سِيرَتِهِ صلى الله عليه وآله وسلم , وَبَغَّضَ إلَيْهِ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ . وَمِنْ ثَمَّ قَالَ { : مَا كَفَرَ بِاَللَّهِ نَبِيٌّ قَطُّ * وَأَوَّلُ مَا فُتِحَ بِهِ الْمَنَامُ الصَّادِقُ وَمَحَبَّةُ الْخَلْوَةِ فَكَانَ يَتَحَنَّثُ فِي حِرَاءَ , وَتَسْلِيمُ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ عَلَيْهِ , وَحِينَ بَلَغَ أَشُدَّهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فِي حِرَاءَ بِأَوَّلِ سُورَةِ الْقَلَمِ فَفَزِعَ وَخَشِيَ أَنَّ بِهِ جُنَّةً , وَكَانَ مِنْ خَدِيجَةَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ , ثُمَّ دَعَا الْخَلْقَ إلَى التَّوْحِيدِ ( ى ) وَلَمَّا تَخَوَّفَ مِنْ دِمَاءِ قُرَيْشٍ أَمَّنَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ * إلَى قوله تعالى { وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ * فَأَحْضَرَ عَشِيرَتَهُ فِيهِمْ أَبُو لَهَبٍ فَدَعَاهُمْ , وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ . قُلْتُ : وَالْأَقْرَبُ أَنَّ قوله تعالى { وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ * نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ , وَإِنَّمَا سَبَبُ جَمْعِهِ إيَّاهُمْ قوله تعالى { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * فَلَمَّا تَوَلَّوْا وَآذَوْهُ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ , بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ * وَنَحْوِهَا ثُمَّ أُذِنَ بِالْهِجْرَةِ لَمَّا كَثُرَ تَأَذِّي أَصْحَابِهِ , فَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً * وَلَمْ يُوجِبْهَا , فَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْحَبَشَةِ وَالشَّامِ , وَكَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوْسِمِ عَلَى الْقَبَائِلِ فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ إلَّا الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ , وَابْتِدَاءُ قِصَّتِهِمْ مَشْهُورَةٌ , فَلَمَّا هَاجَرَ وَكَثُرَ أَعْوَانُهُ أُمِرَ بِالْجِهَادِ , فَقَالَ تَعَالَى { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * وَنَحْوَهَا , وَكَذَا حَالُ الْأَئِمَّةِ يُعْذَرُونَ عِنْدَ الضَّعْفِ لَا عِنْدَ الْقُوَّةِ , "
__________
(1) - البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار - زيدية - (ج 16 / ص 83)(1/251)
كِتَابُ السِّيَرِ ( قَوْلُهُ ) " أَوَّلُ مَا فُتِحَ بِهِ الْمَنَامُ " إلَخْ . عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ الْوَحْيِ : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ , فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ , وَحُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ , فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ , فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إلَى أَهْلِهِ , وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ * وَفِي رِوَايَةٍ { حَتَّى فَجَأَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ , فَقَالَ : اقْرَأْ , قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ , قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ , ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ , قُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ , فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ , ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ , قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ , فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ , ثُمَّ أَرْسَلَنِي , فَقَالَ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ حَتَّى بَلَغَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ وَفِي نُسْخَةٍ بَوَادِرُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدَ فَقَالَ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي , فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ , وَقَالَ لَقَدْ : خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي , فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : كَلًّا أَبْشِرْ , فَوَاَللَّهِ مَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا , إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ , وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ , فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ عَلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ ; وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا , وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ , وَكَتَبَ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ , وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ , فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ , فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَبَرَ مَا رَأَى , فَقَالَ لَهُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى , يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعٌ , لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَوْمُكَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَوْ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ , لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إلَّا عُودِي , وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرُك نَصْرًا مُؤَزَّرًا , ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ * أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا حَتَّى يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ , فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا , فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقَرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ , فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ فَإِذَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام , فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ * وَعَنْ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ { كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِمَكَّةَ فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ وَلَا جَبَلٌ إلَّا وَهُوَ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ * أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ; وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ { إنَّ بِمَكَّةَ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ لَيَالِيَ بُعِثْتُ إنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ * أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ . ( قَوْلُهُ ) " قُلْتُ : وَالْأَقْرَبُ " إلَخْ . الصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ عليه السلام , يُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُحْرَسُ(1/252)
لَيْلًا حَتَّى نَزَلَتْ { وَاَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ * فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَأْسَهُ مِنْ الْقُبَّةِ فَقَالَ لَهُمْ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ * ( قَوْلُهُ ) " وَإِنَّمَا سَبَبُ جَمْعِهِ صلى الله عليه وآله وسلم إيَّاهُمْ " إلَخْ . عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى الصَّفَا , فَجَعَلَ يُنَادِي : يَا بَنِي فِهْرٍ , يَا بَنِي عَدِيٍّ , لِبُطُونِ قُرَيْشٍ , حَتَّى اجْتَمَعُوا " إلَخْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَفِيهِ رِوَايَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ . ( قَوْلُهُ ) " وَكَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ بِالْمَوَاسِمِ " إلَخْ . عَنْ جَابِرٍ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ بِالْمَوْقِفِ فَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ , فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي * أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ; وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ أُخَرُ : . ( قَوْلُهُ ) " وَابْتِدَاءُ قِصَّتِهِمْ مَشْهُورَةٌ " قُلْتُ : هُوَ فِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ مُسْتَوْفًى , لَكِنْ فِيهِ بَسْطٌ وَأَوْجَزُ مِنْهُ مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْإِمْتَاعِ حَيْثُ قَالَ " وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ , أَنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ , وَيَتَوَعَّدُونَ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ بِهِ إذْ حَارَبُوهُمْ , فَيَقُولُونَ : سَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ , وَكَانَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ تَحُجُّ الْبَيْتَ فِيمَنْ يَحُجُّهُ مِنْ الْعَرَبِ , فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَدْعُو النَّاسَ إلَى اللَّهِ رَأَوْا أَمَارَاتِ الصِّدْقِ عَلَيْهِ لَائِحَةً , فَقَالُوا : هَذَا وَاَللَّهِ الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ يَهُودُ بِهِ فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إلَيْهِ , قَالَ : ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَقِيَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ مِنْ مِنًى فِي الْمَوْسِمِ سِتَّةً مِنْ الْخَزْرَجِ وَهُمْ يَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ فَجَلَسَ إلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : إنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إلَيْهِ , فَاسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ , وَآمَنُوا وَصَدَّقُوا , فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَافَى الْمَوْسِمَ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ , فَبَايَعُوهُ عِنْدَ الْعَقَبَةِ كَبَيْعَةِ النِّسَاءِ , وَذَلِكَ قُبَيْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ فَبَعَثَ مَعَهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ مَكْتُومٍ لِيُعَلِّمَا الْقُرْآنَ مَنْ أَسْلَمَ وَيَدْعُوَا إلَى اللَّهِ . فَفَشَا الْإِسْلَامُ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ كَانَتْ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةُ , فَاجْتَمَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا , وَامْرَأَتَانِ , عِنْدَ الْعَقَبَةِ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَيْلًا , لَا يَشْعُرُ بِهِمْ أَحَدٌ . فَتَلَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْقُرْآنَ , وَرَغَّبَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ , وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَهُمْ , فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَك مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَزْرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَنَحْنُ وَاَللَّهِ أَهْلُ الْحَرْبِ . فَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم , وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ , وَحَضَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم حِينَئِذٍ عَلِيٌّ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْعَبَّاسُ قَبْلَ إسْلَامِهِ , فَتَوَثَّقَ لَهُ , ثُمَّ لَمْ يَزَلْ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُهَاجِرُونَ أَرْسَالًا إلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى هَاجَرَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم , وَصَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ , وَأَظْهَرَ دِينَهُ " انْتَهَى
===============
الهجرة لله
قال تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ* (41) سورة النحل(1/253)
قال الإمام القرطبي رحمه الله (1)
قوله تعالى : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قد تقدّم في «النِّساء» معنى الهجرة ، وهي ترك الأوطان والأهل والقرابة في الله أو في دين الله ، وترك السيئات . وقيل : «في» بمعنى اللام ، أي لله . { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي عُذّبوا في الله . نزلت في صُهَيب وبلال وخبّاب وعمّار ، عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا ، فلما خلّوهم هاجروا إلى المدينة؛ قاله الكَلْبِيّ . وقيل : نزلت في أبي جَنْدل بن سهيل . وقال قتادة : المراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة؛ ثم بوّأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين . والآية تعم الجميع . { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً } في الحسنة ستة أقوال : الأوّل نزول المدينة؛ قاله ابن عباس والحسن والشَّعْبِيّ وقَتادة . الثاني الرزق الحسن؛ قاله مجاهد . الثالث النصر على عدوّهم؛ قاله الضحاك . الرابع إنه لسان صدق؛ حكاه ابن جُريج . الخامس ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات . السادس ما بقي لهم في الدنيا من الثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف . وكل ذلك اجتمع لهم بفضل الله ، والحمد لله . { وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ } أي ولأجر دار الآخرة أكبر ، أي أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده؛ { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } [ الإنسان : 20 ] { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لو كان هؤلاء الظالمون يعلمون ذلك . وقيل : هو راجع إلى المؤمنين . أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال : هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما ادّخر لكم في الآخرة أكثر؛ ثم تلا عليهم هذه الآية .
-----------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله (2):
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان، رجاء ثواب الله وجزائه.
ويحتمل أن يكون سبب نزول هذه الآية الكريمة في مُهاجرة الحبشة الذي اشتد أذى قومهم لهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة، ليتمكنوا من عبادة ربهم، ومن أشرافهم: عثمان بن عفان، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعفر بن أبي طالب، ابن عم الرسول (7) وأبو سلمة بن عبد الأسد (8) في جماعة قريب من ثمانين، ما بين رجل وامرأة، صديق وصديقة، رضي الله عنهم وأرضاهم. وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال: { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } قال ابن عباس والشعبي، وقتادة: المدينة. وقيل: الرزق الطيب، قاله مجاهد.
ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرًا منها (9) في الدنيا، فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله بما هو خير له منه (10) وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد
__________
(1) مضى البيت عند تفسير الآية: 117 من سورة البقرة.
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) في ت: "ذكره".
(4) ورواه الطبري في تفسيره (14/73) من طريق حجاج به موقوفا.
(5) في ت: "هذا".
(6) صحيح البخاري برقم (4974) ولفظه: "قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد".
(7) في ف، أ: "ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(8) في ف، أ: "عبد الأسود".
(9) في ت، ف، أ: "منه".
(10) في ت، ف، أ: "منه في الدنيا".
وحكمهم على رقاب العباد، فصاروا أمراء حكاما، وكل منهم للمتقين إماما، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا، فقال: { وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ } أي: مما أعطيناهم في الدنيا { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي: لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله؛ ولهذا قال هُشَيْم، عن العوام، عمن حدثه؛ أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه (1) يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر (2) لك في الآخرة أفضل، ثم قرأ (3) هذه الآية: { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (4) .
ثم وصفهم تعالى فقال: { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي: صبروا على أقل (5) من آذاهم من قومهم، متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
__________
(1) في أ: "عطاء".
(2) في ف: "وما دخره".
(3) في أ: "يقرأ".
(4) رواه الطبري في تفسيره (14/74).
(5) في ت، ف، أ: "أذى".
-------------------
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 3118)
(2) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 572)(1/254)
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
وهنا يعرض في الجانب المقابل للمنكرين الجاحدين , لمحة عن المؤمنين المصدقين , الذين يحملهم يقينهم في الله والآخرة على هجر الديار والأموال , في الله , وفي سبيل الله:
(والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة , ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) . .
فهؤلاء الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم , وتعروا عما يملكون وعما يحبون , وضحوا بدارهم وقرب عشيرتهم والحبيب من ذكرياتهم . .
هؤلاء يرجون في الآخرة عوضا عن كل ما خلفوا وكل ما تركوا . وقد عانوا الظلم وفارقوه . فإذا كانوا قد خسروا الديار ف (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) و لنسكننهم خيرا مما فقدوا (ولأجر الآخرة أكبر) لو كان الناس يعلمون . هؤلاء (الذين صبروا) واحتملوا ما احتملوا (وعلى ربهم يتوكلون) لا يشركون به أحدا في الاعتماد والتوجه والتكلان
---------------------
وفي التفسير الوسيط (2):
أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قوله - تعالى - : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ . . } هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله - تعالى - المدينة فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين . وعن ابن عباس : هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ، بعد أن ظلمهم المشركون ، .
والذى نراه أن الآية الكريمة تشمل هؤلاء ، وتشمل غيرهم ممن هاجر من بلده إلىغيرها ، رجاء ثواب الله ، وخدمة لدينه .
والمهاجرة فى الأصل تطلق على المفارقة والمتاركة للديار وغيرها ، واستعملت شرعا فى المهاجرة من دار الكفر إلى دار الإِيمان ، أو من دار الكفر إلى غيرها لنشر دعوة الإِسلام .
وقوله { لنبوئنهم } من التبوؤ بمعنى الإِحلال والإِسكان والإِنزال يقال بوأ فلان فلانا منزلا ، إذا أسكنه فيه ، وهيأه له .
{ وحسنة } صفة لموصوف محذوف أى : لنبوئنهم تبوئة حسنة ، أو دارا حسنة .
والمراد بهذه الحسنة ما يشمل نزولهم فى المدينة ، ونصرهم على أعدائهم ، وإبدال خوفهم أمنا .
قال القرطبى فى المراد بالحسنة هنا ستة أقوال : " نزول المدينة؛ قاله ابن عباس والحسن . . الثانى : الرزق الحسن . قاله مجاهد . الثالث : النصر على عدوهم ، قاله الضحاك ، الرابع : لسان صدق ، حكاه ابن جريج . الخامس : ما استولوا عليه من البلاد . . السادس : ما بقى لهم فى الدنيا من ثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف .
ثم قال : وكل ذلك قد اجتمع لهم بفضل الله - تعالى - " .
والمعنى : والذين هاجروا فى سبيل الله ، وفارقوا قومهم وأوطانهم وأموالهم وأولادهم . . من أجل إعلاء كلمته ، بعد أن تحملوا الكثير من أذى المشركين وظلمهم وطغيانهم .
هؤلاء الذين فعلوا ذلك من أجل نصرة ديننا ، لنسكننهم فى الدنيا مساكن حسنة يرضونها ، ولنعطينهم عطاء حسنا يسعدهم ، ولننصرنهم على أعدائهم نصرا مؤزرا .
وقوله { فى الله } أى : فى سبيله ، ومن أجل نصرة دينه . فحرف " فى " مستعمل للتعليل ، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم : " دخلت امرأة النار فى هرة حبستها . . . " .
والمقصود أن هذا الأجر الجزيل إنما هو للمهاجرين من أجل إعلاء كلمة الله ، ومن أجل نصرة الحق ، وليس لمن هاجر لنشر الظلم أو الفساد فى الأرض .
وأسند فعل { ظلموا } إلى المجهول ، لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون .
وفى ذلك إشارة إلى أن هؤلاء المهاجرين لم يفارقوا ديارهم ، إلا بعد أن أصابهم ظلم أعدائهم لهم ، كتعذيبهم إياهم ، وتضييقهم عليهم ، إلى غير ذلك من صنوف الأذى .
وأكد - سبحانه - الجزاء الحسن اذى وعدهم به باللام وبنون التوكيد { لنبوئنهم .
-------------------
وقال السعدي (3):
يخبر تعالى بفضل المؤمنين الممتحنين { الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ } أي: في سبيله وابتغاء مرضاته { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } بالأذية والمحنة من قومهم، الذين يفتنونهم ليردوهم إلى الكفر والشرك، فتركوا الأوطان والخلان، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن، فذكر لهم ثوابين: ثوابا عاجلا في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهنيء، الذي رأوه عيانا بعد ما هاجروا، وانتصروا على أعدائهم، وافتتحوا البلدان وغنموا منها الغنائم العظيمة، فتمولوا وآتاهم الله في الدنيا حسنة.
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 298)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2524)
(3) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 440)(1/255)
{ وَلأجْرُ الآخِرَةِ } الذي وعدهم الله على لسان رسوله { أَكْبَرُ } من أجر الدنيا، كما قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وقوله: { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي: لو كان لهم علم ويقين بما عند الله من الأجر والثواب لمن آمن به وهاجر في سبيله لم يتخلف عن ذلك أحد.
ثم ذكر وصف أوليائه فقال: { الَّذِينَ صَبَرُوا } على أوامر الله وعن نواهيه، وعلى أقدار الله المؤلمة، وعلى الأذية فيه والمحن { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي: يعتمدون عليه في تنفيذ محابّه، لا على أنفسهم. وبذلك تنجح أمورهم وتستقيم أحوالهم، فإن الصبر والتوكل ملاك الأمور كلها، فما فات أحدا شيء من الخير إلا لعدم صبره وبذل جهده فيما أريد منه، أو لعدم توكله واعتماده على الله.
--------------------
وقال الطاهر بن عاشور(1) :
لما ثبتت حكمة البعث بأنها تبيين الذي اختلف فيه الناس من هدى وضلالة، ومن ذلك أن يتبين أن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين يعلم منه أنه بتبيين بالبعث أن الذين آمنوا كانوا صادقين بدلالة المضادة وأنهم مثابون ومكرمون. فلما علم ذلك من السياق وقع التصريح به في هذه الآية.
وأدمج مع ذلك وعدهم بحسن العاقبة في الدنيا مقابلة وعيد الكافرين بسوء العاقبة فيها الواقع بالتعريض في قوله تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل:36].
فالجملة معطوفة على جملة {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39].
والمهاجرة: متاركة الديار لغرض ما.
و {فِي} مستعملة في التعليل، أي لأجل الله. والكلام على تقدير مضاف يظهر من السياق. تقديره: هاجروا لأجل مرضاة الله.
وإسناد فعل {ظُلِمُوا} إلى المجهول لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون. والظلم يشمل أصناف الاعتداء من الأذى والتعذيب.
والتبوئة: الإسكان. وأطلقت هنا على الجزاء بالحسنى على المهاجرة بطريق المضادة للمهاجرة، لأن المهاجرة الخروج من الديار فيضادها الإسكان.
وفي الجمع بين {هَاجَرُو} و {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} محسن الطباق. والمعنى: لنجازينهم جزاء حسنا. فعبر عن الجزاء بالتبوئة لأنه جزاء على ترك المباءة.
و {حسنة} صفة لمصدر محذوف جار على"نبوئنهم"، أي تبوئة حسنة.
وهذا الجزاء يجبر كل ما اشتملت عليه المهاجرة من الأضرار التي لقيها المهاجرون من مفارقة ديارهم وأموالهم، وما لاقوه من الأذى الذي ألجأهم إلى المهاجرة من تعذيب واستهزاء ومذلة وفتنة، فالحسنة تشتمل على تعويضهم ديارا خيرا من ديارهم، ووطنا خيرا من وطنهم، وهو المدينة، وأموالا خيرا من أموالهم، وهي ما نلوه من المغانم ومن الخراج. روي أن عمر رضي الله عنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له: "هذا ما وعدك ربك في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكبر"؛ وغلبة لأعدائهم في الفتوح وأهمها فتح مكة، وأمنا في حياتهم بما نالوه من السلطان، قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور:55]. وسبب النزول الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين لا محالة، أو الذين هاجروا إلى المدينة الهجرة الأولى قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبقية أصحابه رضي الله عنهم مثل مصعب بن عمير وأصحابه إن كانت هذه الآية نازلة بعد الهجرة الأولى إلى المدينة. وكلا الاحتمالين لا ينافي كون السورة مكية. ولا يقتضي تخصيص أولئك بهذا الوعد.
ثم أعقب هذا الوعد بالوعد العظيم المقصود وهو قوله: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ}. ومعنى {أَكْبَرُ} أنه أهم وأنفع. وإضافة إلى {الْآخِرَةِ} على معنى "في"، أي الأمر الذي في الآخرة.
وجملة {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} معترضة، وهي استئناف بياني ناشئ عن جملة الوعد كلها، لأن ذلك الوعد العظيم بخير الدنيا والآخرة يثير في نفوس السامعين أن يسألوا كيف لم يقتد بهم من بقوا على الكفر فتقع جملة {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بيانا لما استبهم على السائل. والتقدير: لو كانوا يعلمون ذلك لاقتدوا بهم ولكنهم لا يعلمون. فضمير {يَعْلَمُونَ} عائد إلى {الذين كفروا} [النحل:39].
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 13 / ص 126)(1/256)
ويجوز أن يكون السؤال المثار هو: كيف يحزن المهاجرون على ما تركوه من ديارهم وأموالهم وأهليهم، فيكون: المعنى لو كان المهاجرون يعلمون ما أعد لهم علم مشاهدة لما حزنوا على مفارقة ديارهم ولكانت هجرتهم عن شوق إلى ما يلاقونه بعد هجرتهم، لأن تأثير العلم الحسي على المزاج الإنساني أقوى من العلم العقلي لعدماحتياج العلم الحسي إلى استعمال نظر واستدلال، ولعدم اشتمال العلم العقلي على تفاصيل الكيفيات التي تحبها النفوس وترتمي إليها الشهوات، كما أشار إليه قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] فليس المراد من قوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لو كانوا يعتقدون ويؤمنون، لأن ذلك حاصل لا يناسب موقع {لَوْ} الامتناعية.
فضمير {يَعْلَمُونَ} على هذا"للذين هاجروا". وفي هذا الوجه تتناسق الضمائر.
و {الَّذِينَ صَبَرُوا} صفة"للذين هاجروا".والصبر: تحمل المشاق. والتوكل: الاعتماد.
وتقدم الصبر عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أوائل البقرة [45]. والتوكل عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في آل عمران [159].
والتعبير في جانب الصبر بالمضي وفي جانب التوكل بالمضارع إيماء إلى أن صبرهم قد آذن بالانقضاء لانقضاء أسبابه، وأن الله قد جعل لهم فرجا بالهجرة الواقعة والهجرة المترقبة. فهذا بشارة لهم.
وأن التوكل ديدنهم لأنهم يستقبلون أعمالا جليلة تتم لهم بالتوكل على الله في أمورهم فهم يكررونه. وفي هذا بشارة بضمان النجاح.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
وتقديم المجرور في قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} للقصر، أي لا يتوكلون إلا على ربهم دون التوكل على سادة المشركين وولائهم.
-----------------
وفي إعلام الموقعين(1) :
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 282)(1/257)
فَصْلٌ : [ جَزَاءُ الْمُخْلِصِ ] وَقَوْلُهُ : " فَمَا ظَنُّك بِثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ " يُرِيدُ بِهِ تَعْظِيمَ جَزَاءِ الْمُخْلِصِ وَأَنَّهُ رِزْقٌ عَاجِلٌ إمَّا لِلْقَلْبِ أَوْ لِلْبَدَنِ أَوْ لَهُمَا . وَرَحْمَتُهُ مُدَّخَرَةٌ فِي خَزَائِنِهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا بُدَّ , ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يُوفِيهِ أَجْرَهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ * فَمَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لَيْسَ جَزَاءُ تَوْفِيَةٍ , وَإِنْ كَانَ نَوْعًا آخَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ * وَهَذَا نَظِيرُ قوله تعالى : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ * فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ آتَى خَلِيلَهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ وَحَيَاتِهِ الطَّيِّبَةِ , وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ أَجْرُ تَوْفِيَةٍ , وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا أَجْرَيْنِ : عَمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَيُكَمَّلُ لَهُ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * , وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالَ فِيهَا عَنْ خَلِيلِهِ : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً , وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ * فَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ دُونَ غَيْرِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ لِسِرٍّ بَدِيعٍ , فَإِنَّهَا سُورَةُ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا أُصُولَ النِّعَمِ وَفُرُوعَهَا , فَعَرَّفَ عِبَادَهُ أَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ النِّعَمِ أَضْعَافَ هَذِهِ بِمَا لَا يُدْرَكُ تَفَاوُتُهُ , وَأَنَّ هَذِهِ مِنْ بَعْضِ نِعَمِهِ الْعَاجِلَةِ عَلَيْهِمْ , وَأَنَّهُمْ إنْ أَطَاعُوهُ زَادَهُمْ إلَى هَذِهِ النِّعَمِ نِعَمًا أُخْرَى , ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يُوَفِّيهِمْ أُجُورَ أَعْمَالِهِمْ تَمَامَ التَّوْفِيَةِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ * فَلِهَذَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ : " فَمَا ظَنُّك بِثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ , وَالسَّلَامُ " . فَهَذَا بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنه مِنْ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
=====================
المهاجرون أولياء بعضهم البعض
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* (72) سورة الأنفال
قال الإمام القرطبي رحمه الله(1) :
فيه ثلاث مسائل :
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 2357)(1/258)
الأولى قوله تعالى : { ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى } قيل : الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وقيل : له وحده . وقال ابن عباس رضي الله عنه : الأسرى في هذه الآية عباس وأصحابه . قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسولُ الله ، لننصحنّ لك على قومك؛ فنزلت هذه الاْية . وقد تقدّم بطلان هذا من قول مالك . وفي مصنَّف أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة . وعن ابن إسحاق : " بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم؛ ففدى كلّ قوم أسيرهم بما رضوا . وقال العباس : يا رسول الله ، إني قد كنت مسلماً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك بذلك فأمّا ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر» . وقال : ما ذاك عندي يا رسول الله . قال : «فأين المال الذي دفنته أنت وأمّ الفضل فقلتَ لها إن أصبتُ في سفري هذا فهذا المال لبني الفضل وعبد الله وقُثم»؟ فقال : يا رسول الله ، إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا لشيء ما علمه غيري وغير أمِّ الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا . ذاك شيء أعطانا الله منك» . ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ، وأنزل الله فيه : { ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى } الآية " قال ابن إسحاق : وكان أكثر الأسارى فداءً العباس بن عبد المطلب؛ لأنه كان رجلاً موسراً ، فافتدى نفسه بمائة أوقيّة من ذهب وفي البخاري : وقال موسى بن عقبة قال ابن شهاب : " حدّثني أنس بن مالك : أن رجالاً من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله؛ ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه . فقال : «لا والله لا تذرون درهماً» " وذكر النقاش وغيره : أن فداء كل واحد من الأسارى كان أربعين أوقية ، إلا العباس فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " «أضعفوا الفداء على العباس» وكلّفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فأدى عنهما ثمانين أوقية ، وعن نفسه ثمانين أوقية وأخذ منه عشرون أوقية وقت الحرب . وذلك أنه كان أحد العشرة الذين ضَمِنوا الإطعام لأهل بدر ، فبلغت النَّوبة إليه يوم بَدْر فاقتتلوا قبل أن يُطعم ، وبقيت العشرون معه فأخذت منه وقت الحرب؛ فأخذ منه يومئذ مائة أوقيّة وثمانون أوقية . فقال العباس للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لقد تركتني ما حييتُ أسأل قريشاً بكَفِّي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أين الذهب الذي تركته عند امرأتك أمّ الفضل»؟ فقال العباس أيّ ذهب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنك قلتُ لها لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولولدك» فقال : يا ابن أخي ، من أخبرك بهذا؟ قال : «الله أخبرني» "
-------------------
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله(1) :
ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين، خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاؤوا لنصر الله ورسوله، وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك. وإلى أنصار، وهم: المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولى ببعض (1) أي: كل منهم أحق بالآخر من كل أحد؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخَوَان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثًا مقدمًا على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث، ثبت ذلك في صحيح البخاري، عن ابن عباس (2) ورواه العَوْفي، وعلي بن أبي طلحة، عنه (3) وقال (4) مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وغيرهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن شريك، عن عاصم، عن أبي وائل، عن جَرير -هو ابن عبد الله البجلي -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة" تفرد به أحمد (5)
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا شيبان (6) حدثنا عِكْرِمة -يعني ابن إبراهيم الأزدي -حدثنا عاصم، عن شَقِيق، عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المهاجرون والأنصار، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة". هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود (7)
__________
(1) في د، ك، م، أ: "بعضهم أولياء بعض".
(2) صحيح البخاري برقم (6747).
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/78).
(4) في أ: "وقاله".
(5) المسند (4/363).
(6) في د: "سفيان".
(7) مسند أبي يعلى (8/446) وفيه عكرمة بن إبراهيم، ضعيف.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 95)(1/259)
وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في (1) كتابه، فقال: { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الآية [التوبة: 100]، وقال: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } الآية. [التوبة: 117]، وقال تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الآية [الحشر: 8 ، 9].
وأحسن ما قيل في قوله: { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي: لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم، فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، لا يختلفون في ذلك، ولهذا قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن حذيفة قال: خَيَّرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة، فاخترت الهجرة (2)
ثم قال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ } [قرأ حمزة: "ولايتهم" بالكسر، والباقون بالفتح، وهما واحد كالدِّلالة والدَّلالة] (3) { مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بَوَاديهم، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب، ولا في خُمسها إلا ما حضروا فيه القتال، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وَكيع، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مَرْثَد، عن سليمان بن بُرَيْدة، عن أبيه: بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، وقال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال -أو: خلال -فأيتهن ما أجابوك (4) إليها فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب
__________
(1) في د، أ: "من".
(2) مسند البزار برقم (2718) "كشف الأستار" وفيه علي بن زيد، ضعيف.
(3) زيادة من د، م، أ.
(4) في أ: "ما أجابوا".
المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم" .
انفرد به (1) مسلم، وعنده زيادات أخر (2)
وقوله: { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يقول تعالى: وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب، الذين لم يهاجروا في قتال ديني، على عدو لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم؛ لأنهم إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أي: مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم. وهذا مروي عن ابن عباس، رضي الله عنه.
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) }
لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضُهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، كما قال الحاكم في مستدركه:
حدثنا محمد بن صالح بن هانئ، حدثنا أبو سعد (3) يحيى بن منصور الهروي، حدثنا محمد بن أبان، حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن حسين، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلما" ، ثم قرأ: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (4)(1/260)
قلت: الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (5) وفي المسند والسنن، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" (6) وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد، [عن محمد بن ثور] (7) عن معمر، عن الزهري: أن
__________
(1) في أ: "انفرد بإخراجه".
(2) المسند (5/352) وصحيح مسلم برقم (1731).
(3) في جميع النسخ: "أبو سعيد" والتصويب من كتب الرجال.
(4) المستدرك (2/240).
(5) صحيح البخاري برقم (6764) وصحيح مسلم برقم (1614).
(6) المسند (2/195) وسنن أبي داود برقم (2911) ولم أقع عليه في سنن الترمذي، وإنما أشار إليه عند حديث أسامة بن زيد، والله أعلم.
(7) زيادة من م، أ، والطبري.
رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال: "تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب" (1)
وهذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلا من وجه آخر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين" ، ثم قال: "لا يتراءى ناراهما" (2)
وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، أخبرني يحيى بن حسان، أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سَمُرَة بن جُنْدُب [حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة] (3) عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" (4)
وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن هرمز، عن محمد وسعيد ابنى عبيد، عن أبي حاتم (5) المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من تَرْضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا (6) تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". قالوا: يا رسول الله، وإن كان؟ قال: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه" ثلاث مرات.
وأخرجه أبو داود والترمذي، من حديث حاتم بن إسماعيل، به بنحوه (7)
ثم رُويَ من حديث عبد الحميد بن سليمان، عن ابن (8) عَجْلان، عن ابن وَثيمةَ النَّصْري (9) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا (10) تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" (11)
ومعنى قوله تعالى: { إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض.
__________
(1) تفسير الطبري (14/82).
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (2645) والترمذي في السنن برقم (1604) والنسائي في السنن (8/36) من حديث جرير بن عبد الله، رضي الله عنه.
(3) زيادة من د، ك، م، وأبي داود.
(4) سنن أبي داود برقم (2787).
(5) في أ: "حازم".
(6) في ك: "تفعلوه".
(7) رواه أبو داود في المراسيل برقم (224) والترمذي في السنن برقم (1085).
(8) في أ: "أبي".
(9) في أ: "ابن أبي وثيمة النصري".
(10) في ك: "تفعلوه".
(11) ورواه الترمذي في السنن برقم (1084) من طريق عبد الحميد بن سليمان به، وقال: "حديث أبي هريرة قد خولف عبد الحميد ابن سليمان في هذا الحديث، ورواه الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ثم قال: وحديث الليث أشبه، ولم يعد حديث عبد الحميد محفوظا".
المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم" .
انفرد به (1) مسلم، وعنده زيادات أخر (2)
وقوله: { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يقول تعالى: وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب، الذين لم يهاجروا في قتال ديني، على عدو لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم؛ لأنهم إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أي: مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم. وهذا مروي عن ابن عباس، رضي الله عنه.
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) }
لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضُهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، كما قال الحاكم في مستدركه:(1/261)
حدثنا محمد بن صالح بن هانئ، حدثنا أبو سعد (3) يحيى بن منصور الهروي، حدثنا محمد بن أبان، حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن حسين، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلما" ، ثم قرأ: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (4)
قلت: الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (5) وفي المسند والسنن، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" (6) وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد، [عن محمد بن ثور] (7) عن معمر، عن الزهري: أن
__________
(1) في أ: "انفرد بإخراجه".
(2) المسند (5/352) وصحيح مسلم برقم (1731).
(3) في جميع النسخ: "أبو سعيد" والتصويب من كتب الرجال.
(4) المستدرك (2/240).
(5) صحيح البخاري برقم (6764) وصحيح مسلم برقم (1614).
(6) المسند (2/195) وسنن أبي داود برقم (2911) ولم أقع عليه في سنن الترمذي، وإنما أشار إليه عند حديث أسامة بن زيد، والله أعلم.
(7) زيادة من م، أ، والطبري.
رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال: "تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب" (1)
وهذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلا من وجه آخر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين" ، ثم قال: "لا يتراءى ناراهما" (2)
وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، أخبرني يحيى بن حسان، أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سَمُرَة بن جُنْدُب [حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة] (3) عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" (4)
وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من حديث حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن هرمز، عن محمد وسعيد ابنى عبيد، عن أبي حاتم (5) المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من تَرْضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا (6) تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". قالوا: يا رسول الله، وإن كان؟ قال: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه" ثلاث مرات.
وأخرجه أبو داود والترمذي، من حديث حاتم بن إسماعيل، به بنحوه (7)
ثم رُويَ من حديث عبد الحميد بن سليمان، عن ابن (8) عَجْلان، عن ابن وَثيمةَ النَّصْري (9) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا (10) تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" (11)
ومعنى قوله تعالى: { إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض.
__________
(1) تفسير الطبري (14/82).
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (2645) والترمذي في السنن برقم (1604) والنسائي في السنن (8/36) من حديث جرير بن عبد الله، رضي الله عنه.
(3) زيادة من د، ك، م، وأبي داود.
(4) سنن أبي داود برقم (2787).
(5) في أ: "حازم".
(6) في ك: "تفعلوه".
(7) رواه أبو داود في المراسيل برقم (224) والترمذي في السنن برقم (1085).
(8) في أ: "أبي".
(9) في أ: "ابن أبي وثيمة النصري".
(10) في ك: "تفعلوه".
(11) ورواه الترمذي في السنن برقم (1084) من طريق عبد الحميد بن سليمان به، وقال: "حديث أبي هريرة قد خولف عبد الحميد ابن سليمان في هذا الحديث، ورواه الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ثم قال: وحديث الليث أشبه، ولم يعد حديث عبد الحميد محفوظا".
-----------------
وقال الشهيد سيد قطب رحمه الله (1):
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 221)(1/262)
والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر , كانت ولاية توارث وتكافل في الدياتوولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة . . حتى إذا وجدت الدولة ومكن الله لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة , ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم , داخل المجتمع المسلم . . فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطاً لتلك الولاية - العامة والخاصة - فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام - لمن استطاع - فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا , استمساكاً بمصالح أو قرابات مع المشركين , فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية , كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات , وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة . . وهؤلاء وأولئك أوجب الله على المسلمين نصرهم - إن استنصروهم في الدين خاصة - على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد , لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية !
ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبارات الأساسية في تركيبه العضوي , وقيمه الأساسية . ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية ; والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها ; ومنهجه الحركي والتزاماته:
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام . . وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً:هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق ; وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق . . ولم يكن الناس - فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة ; إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق , أو يشركون مع الله آلهة أخرى:إما في صورة الاعتقاد والعبادة ; وإما في صورة الحاكمية والاتباع ; وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله , الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول , ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد , ويرتدون إلى الجاهلية , التي أخرجهم منها , ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى . . إما في الاعتقاد والعبادة , وإما في الاتباع والحاكمية , وإما فيها جميعا . .
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري . . إنها تستهدف(الإسلام) . . إسلام العباد لرب العباد ; وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم , إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة . . وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد صلى الله عليه وسلم , كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله . . جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس ; فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده ; فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله . بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم . فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم , وحياتهم وموتهم ; كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها ; وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله ; كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه . . ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم ; فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن منشؤون هذه الحياة , تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري , وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني . .(1/263)
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر , والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني ; والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري . . هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده . والتي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته . . هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في "نظرية " مجردة . بل ربما أحياناً لم تكن لها "نظرية " على الإطلاق ! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي . متمثلة في مجتمع , خاضع لقيادة هذا المجتمع , وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته , وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي , الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده ; والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد . ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في "نظرية " مجردة , ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو ; فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية , ورد الناس إلى الله مرة أخرى , لا يجوز - ولا يجدي شيئاً - أن تتمثل في "نظرية " مجردة . فإنها حينئذ لاتكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاًوالمتمثلة في تجمع حركي عضوي , فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل , لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته . بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية , وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلاً .
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة:"شهادة أن لا إله إلا الله" . أي إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية . . إفراده بها اعتقاداً في الضمير , وعبادة في الشعائر , وشريعة في واقع الحياة . فشهادة أن لا إله إلا الله , لا توجد فعلا ; ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم . .
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية . . أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله , لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها , ولا في أي جانب من جوانبها , من عند أنفسهم ; بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه . . وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه ; وهو رسول الله . . وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول:"شهادة أن محمداً رسول الله" .
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها - وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها ; يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية , في داخل دار الإسلام وخارجها ; في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الاخرى . .
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في "نظرية " مجردة ; ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ; ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً . فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى "وجود فعلي" للإسلام . لأن الأفراد "المسلمين نظرياً" الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية . سيتحركون طوعاً أو كرهاً , بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه ; وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ; لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا . . أي أن الأفراد "المسلمين نظرياً" سيظلون يقومون "فعلا" بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون "نظريا" لإزالته ; وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى , وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي , لإقامة المجتمع الإسلامي !(1/264)
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام [ أي العقيدة ] في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى . . لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي , منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه . وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته - وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه - ومن قيادة ذلك التجمع - في أية صورة كانت , سواء كانت في صورة قيادة دينية , من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم , أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش , وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة .
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام , ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا . لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم ; لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون ; له وجود ذاتي مستقل , يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه ; وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه . ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه , وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي . ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي .
وهكذا وجد الإسلام . .
هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع . .
ولم يوجد قط في صورة "نظرية " مجردة عن هذا الوجود الفعلي . . وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى . . ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان , بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية .
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية ; وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي- على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة , في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين - بطبقاتهم - والذين آووا ونصروا ; وعلاقاته مع الذين آمنوا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله وتدبر أمرها القيادة المسلمة ; ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك داراً يقيم فيها شريعة الله ; ويحقق فيها وجوده الكامل ; بعدما تحقق له وجوده في مكة نسبيا , بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي , مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز .
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة , أو في الأعراب حول المدينة . يعتنقون العقيدة , ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ; ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه . .
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ; ولم يجعل الله لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع , لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي . وفي هؤلاء نزل هذا الحكم: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر , إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) . .
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي . فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ; ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية . . ولكن هناك رابطة العقيدة ; وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد ; اللهم إلا أن يعتدي عليهم في دينهم ; فيفتنوا مثلاً عن عقيدتهم . فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا , كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها . على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر . ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم !
ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود . فهذه لها الرعاية أولاً , حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا , ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي . .
. . وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي . .
والتعقيب على هذا الحكم: (والله بما تعملون بصير) . .
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه , ومقدماته ونتائجه , وبواعثه وآثاره
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد
------------------(1/265)
وفي التفسير الوسيط (1):
هذه الآيات الكريمة التى ختم الله - تعالى - بها سورة الأنفال ، وضحت أن المؤمنين فى العهد النبوى أقسام ، وذكرت حكم كل قسم منهم .
أما القسم الأول : فهم المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى .
وأما القسم الثانى : فهم الأنصار من أهل المدينة .
والقسم الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا .
والقسم الرابع : المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية .
وقد عبر - سبحانه - عن القسمين : الأول والثانى بقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا } .
أى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } بالله - تعالى - حق الإِيمان { وَهَاجَرُواْ } أى تركوا ديارهم وأوطانهم وكل نفيس من زينة الحياة الدنيا . من أجل الفرار بدينهم من فتنة المشركين ، ومن أجل نشر دبن الله فى الأرض { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } أى : أنهم مع إيمانهم الصادق ، وسبقهم بالهجرة إرضاء الله - تعالى - ، قد بالغوا فى إتعاب أنفسهم من أجل نصرة الحق ، فقدموا ما يملكون من أموال ، وقدموا نفوسهم رخيصة لا فى سبيل عرض من أعراض الدنيا ، وإنما فى سبيل مرضاة الله ونصرة دينه .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هذا القسم الأول من ال مؤمنين وهم الذين سبقوا إلى الهجرة . بأعظم الصفات وأكرمها .
فقد وصفهم بالإِيمان الصادق ، وبالمهاجرة فرار بدينهم من الفتن ، وبالمجاهد بالمال والنفس فى سبيل إعلاء كلمة الله .
وقد جاءت هذه الأوصاف الجليلة مرتبة حسب الوقوع ، فإن أول ما حصل منهم هو الإِيمان ، ثم جاءت من بعده الهجرة ، ثم الجهاد .
ولعل تقديم المجاهدة بالأموال هنا على المجاهدة بالأنفس ، لأن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا ، وأتم دفعا للحاجة ، حيث لا تتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالأموال .
وقوله { فِي سَبِيلِ الله } متعلق بقوله { وَجَاهَدُواْ } لإِبراز أن جهادهم لم يكن لأى غرض دنيوى ، وإنما كان من أجل نصرة الحق وإعلاء كلمته - سبحانه - .
وقوله : { والذين آوَواْ ونصروا } بيان للقسم الثانى من أقسام المؤمنين فى العهد النبوى ، وهم الأنصار من أهل المدينة الذين فتحوا للمهاجرين قلوبهم ، واستقبلوهم أحسن استقبال ، حيث أسكنوهم منازلهم ، وبذلوا لهم أموالهم ، وآثروهم على أانفسهم ، ونصروهم على أعدائهم .
فالآية الكريمة قد وصفت الأنصار بوصفين كريمين .
أولهما : الإِيواء الذى يتضمن التأمين من الخوف ، إذا المأوى هو المجلأ والمأمن مما يخشى منه ، ومن ذلك قوله - تعالى - { إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف . . . } وقوله - تعالى - { وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ . . . } ولقد كانت المدينة مأوى وملجأ للمهاجرين ، وكان اهلها مثالا للكرم والإِيثار . .
ثانيهما : النصرة ، لأن أهل المدينة قد نصروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين بكل ما يملكون من وسائل التأييد والمؤازرة ، فقد قاتلوا من قاتلهم ، وعادوا من عاداهم ، ولذا جعل الله - تعالى - حكمهم المهاجرين واحدا فقال : { أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
فاسم الإِشارة يعود إلى المهاجرين السابقين ، وإلى الانصار .
وقوله : { أَوْلِيَآءُ } جمع ولى ويطلق على الناصر والمعين والصديق والقريب . .
والمراد بالولاية هنا : الولاية العامة التى تتناول التناصر والتعاون والتوارث . .
أى : أولئك المذكورون الموصوفون بهذه الصفات الفاضلة يتولى بعضهم بعضا فى النصرة والمعاونة والتوارث . . . وغير ذلك ، لأن حقوقهم ومصالحهم مشتركة .
قال الالوسى ما ملخصه : " روى عن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين والأنصار ، فكان المهاجر يرثه أخوه الأنصارى ، إذا لم يكن له بالمدينة ولى مهاجرى وبالعكس ، واستمر أمهرهم على ذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة . . وعليه فالآية منسوخة بقوله - تعالى - بعد ذلك { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله . . . } " .
وقال الأصم : الآية محكمة ، والمرد الولاية بالنصرة والمظاهرة .
والذى نراه أن الولاية هنا عامة فهى تشمل كل ما يحتاج إليه المسلمون فيما بينهم من تعاون وتناصر وتكافل وتوارث وغير ذلك . .
وقوله - تعالى - : { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ . . . } بيان لحكم القسم الثالث من أقسام المؤمنين فى العهد النبوى . .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1877)(1/266)
أى : هذا الذى ذكرته لكم قبل ذلك فى الآية هو حكم المهاجرين السابقين والأنصار الذى آووهم ونصروهم أما حكم الذين آمنوا ولم يهاجروا ، وهم المقيمون فى أرض الشرك تحت سلطان المشركين وحكمهم . فإنهم ليس بينهم وبين المهاجرين والأنصار ولاية إرث { حتى يُهَاجِرُواْ } إلى المدينة ، كما أنكم - أيها المؤمنون - لا تنتظروا منهم تعاونا أو مناصرة ، لأنهم بسبب إقامتهم فى أرض الشرك وتحت سلطانه - أصبحوا لا يملكون وسائل المناصرة لكم .
ثم قال - تعالى - : { وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } .
أى : وان طلب منكم هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا النصرة على أعدائكم فى الدين ، فيجب عليكم أن تنصروهم ، لأنهم إخوانكم فى العقدية ، بشرط ألا يكون بينكم وبين هؤلاء الأعداء عهد ومهادنة ، فإنكم فى هذه الحالة يحظر عليكم نصرة هؤلاء المؤمنين الذين لم يهاجروا ، لأن فى نصرتهم - على من بينكم وبينهم عند - نقضا لهذا العهد .
أى : إن نصرتكم لهم إنما تكون على الكفار الحربين لا على الكفار المعاهدين وهذا يدل على رعاية الإِسلام للعهود ، واحترامه للشروط والعقود .
قال الجمل : أثبت الله - تعالى - للقسمين الأولين النصرة والإِرث ، ونفى عن هذا القسم الإِرث وأثبت لها النصرة .
وقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تذييل قصد به الترغيب فى طاعة الله ، والتحذير عن مصعيته .
أى : والله - تعالى - مطلع على كل أعمالكم فأطيعوه ، ولا تخالفوا أمره .
قبل أن تذكر السورة القسم القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، تتحدث عن ولاية الكفار بعضهم لبعض فتقول : { والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } .
أى : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض فى النصرة والتعاون على قتالاكم وإيذائكم - أيها المؤمنون - فهم وإن اختلفوا فيما بينهم إلا أنهم يتفقون على عداوتكم وإنزال الأضرار بكم .
وقوله : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } تحذير شديد للمؤمنين عن مخالفة أمره - سبحانه - .
أى : إلا تفعلوا - أيها المؤمنون - ما أمرتكم به من التناصر والتواصل وتولى بعضكم بعضا ، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار ، تحصل فتنة كبيرة فى الأرض ، ومفسدة شديدة فيها ، لأنكم إذا لم تصيروا يداً واحدة على الشرك ، يضعف شأنكم ، وتذهب ريحكم ، وتسفك دماؤكم ويتطاول أعداؤكم عليكم ، وتصيرون عاجزين عن الدفاع عن دينكم وعرضكم . . . وبذلك تعم الفتنة ، وينتشر الفساد .
وقوله - تعالى - { والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار .
إذ أن الآية الأولى من هذه الآيات الكريمة قد ساقها الله - تعالى - لإيجاب التواصل بينهم ، أما هذه الآية فقد ساقها سبحانه - للثناء عليهم والشهادة لهم بأنهم هم المؤمنون حق الايمان وأكمله ، بخلاف من أقام من المؤمنين بدار الشرك ، مع الحاجة إلى هجرته وجهاده .
قال الفخر الرازى : أثنى الله - تعالى - على المهاجرين والأنصار من ثلاثة أوجه :
أولها - قوله : { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } فإن هذه الجملة تفيد المبالغة فى مدحهم ، حيث وصفهم بكونهم حقين فى طريق الدين .
وقد كانوا كذلك ، لأن من لم يكن محقا فى دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة ، ولم يفارق الأهل والوطن ، ولم يبذل النفس والمال .
وثانيها - قوله : { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ } والتنكير يدل على الكمال ، أى : مغفرة تامة كاملة .
وثالثها - قوله : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } والمراد منه الثواب الرفيع .
والحاصل : أنه - سبحانه - شرح أحوالهم فى الدنيا والآخرة . أما فى الدنيا فقد وصفهم بقوله : { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } .
وأما فى الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب ، وإما جلب الثواب .
أما دفع العقاب فهو المراد بقوله { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ . . . } وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
--------------------
وقال السعدي(1) :
هذا عقد موالاة ومحبة، عقدها اللّه بين المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل اللّه، وتركوا أوطانهم للّه لأجل الجهاد في سبيل اللّه،وبين الأنصار الذين آووا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأعانوهم في ديارهم وأموالهم وأنفسهم،فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 327)(1/267)
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } فإنهم قطعوا ولايتكم بانفصالهم عنكم في وقت شدة الحاجة إلى الرجال،فلما لم يهاجروا لم يكن لهم من ولاية المؤمنين شيء.لكنهم { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ } أي: لأجل قتال من قاتلهم لأجل دينهم { فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } والقتال معهم،وأما من قاتلوهم لغير ذلك من المقاصد فليس عليكم نصرهم.
وقوله تعالى: { إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أي: عهد بترك القتال، فإنهم إذا أراد المؤمنون المتميزون الذين لم يهاجروا قتالهم، فلا تعينوهم عليهم، لأجل ما بينكم وبينهم من الميثاق.
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يعلم ما أنتم عليه من الأحوال، فيشرع لكم من الأحكام ما يليق بكم.
{ 73 } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } .
لما عقد الولاية بين المؤمنين، أخبر أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض (1) فلا يواليهم إلا كافر مثلهم.
وقوله: { إِلا تَفْعَلُوهُ } أي: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم، أو واليتم الكافرين وعاديتم المؤمنين.
--------------------
وقال الطاهر بن عاشور (1):
هذه الآيات استئناف ابتدائي للإعلام بأحكام موالاة المسلمين للمسلمين الذين هاجروا والذين لم يهاجروا وعدم موالاتهم للذين كفروا، نشأ عن قول العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر أنه مسلم وأن المشركين أكرهوه على الخروج إلى بدر، ولعل بعض الأسرى غيره قد قال ذلك وكانوا صادقين، فلعل بعض المسلمين عطفوا عليهم وظنوهم أولياء لهم، فأخبر الله المسلمين وغيرهم بحكم من آمن واستمر على البقاء بدار الشرك. قال ابن عطية: "مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا والكفار، والمهاجرين بعد الحديبية وذكر نسب بعضهم عن بعض".
وتعرضت الآية إلى مراتب الذين أسلموا فابتدأت ببيان فريقين اتحدت أحكامهم في الولاية والمؤاساة حتى صاروا بمنزلة فريق واحد وهؤلاء هم فريقا المهاجرين والأنصار الذين امتازوا بتأييد الدين. فالمهاجرون امتازوا بالسبق إلى الإسلام وتكبدوا مفارقة الوطن. والأنصار امتازوا بإيوائهم، وبمجموع العملين حصل إظهار البراءة من الشرك وأهله وقد اشترك الفريقان في أنهم آمنوا وأنهم جاهدوا، واختص المهاجرون بأنهم هاجروا واختص الأنصار بأنهم آووا ونصروا، وكان فضل المهاجرين أقوى لأنهم فضلوا الإسلام على وطنهم وأهليهم، وبادر إليه أكثرهم، فكانوا قدوة ومثالا صالحا للناس.
والمهاجرة هجر البلاد، أي الخروج منها وتركها قال عبدة بن الطبيب:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
وأصل الهجرة الترك واشتق منه صيغة المفاعلة لخصوص ترك الدار والقوم، لأن الغالب عندهم كان أنهم يتركون قومهم ويتركهم قومهم إذ لا يفارق أحد قومه إلا لسوء معاشرة تنشأ بينه وبينهم.
وقد كانت الهجرة من أشهر أحوال المخالفين لقومهم في الدين فقد هاجر إبراهيم عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]. وهاجر لوط عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26]، وهاجر موسى عليه السلام بقومه، وهاجر محمد صلى الله عليه وسلم وهاجر المسلمون بإذنه إلى الحبشة، ثم إلى المدينة يثرب، ولما استقر المسلمون من أهل مكة بالمدينة غلب عليهم وصف المهاجرين وأصبحت الهجرة صفة مدح في الدين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التفضيل: "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" وقال للأعرابي: "ويحك إن شأنها شديد" - وقال - "لا هجرة بعد الفتح". والإيواء تقدم عند قوله تعالى: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} في هذه السورة[26].
والنصر تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} إلى قوله: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} في سورة البقرة[123].
والمراد بالنصر في قوله: {وَنَصَرُوا} النصر الحاصل قبل الجهاد وهو نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنهم يحمونهم بما يحمون به أهلهم، ولذلك غلب على الأوس والخزرج وصف الأنصار.
واسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} لإفادة الاهتمام بتمييزهم للأخبار عنهم، وللتعريض بالتعظيم لشأنهم، ولذلك لم يؤت بمثله في الأخبار عن أحوال الفرق الأخرى.
__________
(1) - التحرير والتنوير - (ج 9 / ص 168)(1/268)
ولما أطلق الله الولاية بينهم احتمل حملها على أقصى معانيها، وإن كان موردها في خصوص ولاية النصر فإن ذلك كورود العام على سبب خاص قال ابن عباس: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 75] يعني في الميراث جعل بين المهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، حتى أنزل الله قوله: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] أي في الميراث فنسختها وسيأتي الكلام على ذلك. فحملها ابن عباس على ما يشمل الميراث، فقال: كانوا يتوارثون بالهجرة وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر الذي آمن وهاجر فنسخ الله ذلك بقوله: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]. وهذا قول مجاهد وعكرمة وقتادة والحسن. وروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وقال كثير من المفسرين هذه الولاية هي في الموالاة والمؤازرة والمعاونة دون الميراث اعتدادا بأنها خاصة بهذا الغرض وهو قول مالك بن أنس والشافعي.
وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر وأهل المدينة. ولا تشمل هذه الآية المؤمنين غير المهاجرين والأنصار. قال ابن عباس: كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه "وهو مؤمن" ولا يرث الأعرابي المهاجر - أي ولو كان عاصبا.
-------------------
وقال الجصاص (1):
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 6 / ص 433)(1/269)
بَابُ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * الْآيَةَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ , وَعُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * الْآيَةَ قَالَ كَانَ الْمُهَاجِرُ لَا يَتَوَلَّى الْأَعْرَابِيَّ , وَلَا يَرِثُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ , وَلَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ فَنَسَخَتْهَا { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ * . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ { آخَى رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ , وَآخَى بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ أُخُوَّةً يَتَوَارَثُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ هَاجَرُوا وَتَرَكُوا أَقْرِبَاءَهُمْ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْمَوَارِيثِ * قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَنَّ التَّوَارُثَ كَانَ ثَابِتًا بَيْنَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَهُمْ دُونَ الْأَرْحَامِ , وَأَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ هَذِهِ الْآيَةِ , وَأَنَّ قوله تعالى { أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * قَدْ أُرِيدَ بِهِ إيجَابُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ , وَأَنَّ قَوْلَهُ { مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * قَدْ نَفَى إثْبَاتَ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ بِنَفْيِهِ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ . وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْمُوَالَاةِ يُوجِبُ التَّوَارُثَ , وَإِنْ كَانَ قَدْ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ عَلَى حَسَبِ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَكِّدَة لَهُ كَمَا أَنَّ النَّسَبَ سَبَبٌ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْمِيرَاثُ , وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَوِي الْأَنْسَابِ أَوْلَى بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِتَأَكُّدِ سَبَبِهِ , وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قوله تعالى { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا * مُوجِبٌ لِإِثْبَاتِ الْقَوَدِ لِسَائِرِ وَرَثَتِهِ , وَأَنَّ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِتَسَاوِيهِمْ فِي كَوْنِهِمْ مِنْ مُسْتَحِقِّي مِيرَاثِهِ , وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ فِي النِّكَاحِ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِيرَاثِ , وَأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ * مُثْبِتٌ لِلْوِلَايَةِ لِجَمِيعِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ عَلَى حَسَبِ الْقُرْبِ , وَتَأْكِيدِ السَّبَبِ , وَأَنَّهُ جَائِزٌ لِلْأُمِّ تَزْوِيجُ أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَبٌ عَلَى مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ ; إذْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فِي الْمِيرَاثِ , وَقَدْ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا حِينَ هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ فَتَحَ النَّبِيُّ مَكَّةَ فَقَالَ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ * فَنُسِخَ التَّوَارُثُ بِالْهِجْرَةِ بِسُقُوطِ فَرْضِ الْهِجْرَةِ , وَأُثْبِتَ التَّوَارُثُ بِالْأَنْسَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ * قَالَ الْحَسَنُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ حَتَّى كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ * فَتَوَارَثُوا بِالْأَرْحَامِ , وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَبْدَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ بَعْدَ الْفَتْحِ . وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ , وَزَادَ فِيهِ : وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ , وَإِنَّمَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَالْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ مِنْ أَنْ يُفْتَنُوا عَنْهُ , وَقَدْ أَذَاعَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَفْشَاهُ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إيجَابَ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ , وَالْمُؤَاخَاةَ دُونَ الْأَنْسَابِ , وَقَطْعَ الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ , وَاقْتَضَى أَيْضًا إيجَابَ(1/270)
نُصْرَةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إذَا اسْتَنْصَرَ الْمُهَاجِرَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ * وَقَدْ رُوِيَ فِي قوله تعالى { مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * مَا قَدْ بَيَّنَّا ذِكْرُهُ فِي نَفْيِ الْمِيرَاثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ فِي آخَرِينَ . وَقِيلَ : إنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ إيجَابِ النُّصْرَةِ فَلَمْ تَكُنْ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُهَاجِرِ نُصْرَةُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ إلَّا أَنْ يَسْتَنْصِرَ فَتَكُونَ عَلَيْهِ نُصْرَتُهُ إلَّا عَلَى مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ فَلَا يَنْقُضْ عَهْدَهُ , وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْوِلَايَةِ مُقْتَضِيًا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ نَفْيِ التَّوَارُثِ وَالنُّصْرَةِ ثُمَّ نُسِخَ نَفْيُ الْمِيرَاثِ بِإِيجَابِ التَّوَارُثِ بِالْأَرْحَامِ مُهَاجِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُهَاجِرٍ , وَإِسْقَاطِهِ بِالْهِجْرَةِ فَحَسْبُ , وَنُسِخَ نَفْيُ إيجَابِ النُّصْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * قوله تعالى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ , وَقَالَ قَتَادَةُ فِي النُّصْرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ , وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا كَانَ قوله تعالى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا * إلَى قَوْلِهِ { أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ التَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ , وَكَانَ قَوْلُهُ { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * نَافِيًا لِلْمِيرَاثِ , وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّ الْوَلَايَةَ قَدْ صَارَتْ عِبَارَةً عَنْ إثْبَاتِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمْ فَاقْتَضَى عُمُومُهُ إثْبَاتَ التَّوَارُثِ بَيْنَ سَائِرِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ ; لِأَنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُهُمْ وَيَقَعُ عَلَيْهِمْ . وَلَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا , وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى إثْبَاتِ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ عَلَى أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لَهُ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ . وقوله تعالى : { إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : إنْ لَا تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ إيجَابِ الْمُوَالَاةِ وَالتَّنَاصُرِ وَالتَّوَارُثِ بِالْأُخُوَّةِ وَالْهِجْرَةِ وَمِنْ قَطْعِهَا بِتَرْكِ الْهِجْرَةِ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ , وَهَذَا مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الْخَبَرِ , وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَوَلَّ الْمُؤْمِنَ الْفَاضِلَ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْفَضْلِ بِمَا يَدْعُو إلَى مِثْلِ حَالِهِ , وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْفَاجِرِ وَالضَّالِّ بِمَا يَصْرِفُهُ عَنْ ضَلَالِهِ وَفُجُورِهِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْفَسَادِ وَالْفِتْنَةِ .
وقال ابن العربي (1):
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 4 / ص 181)(1/271)
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { الَّذِينَ آمَنُوا * : هُمْ الَّذِينَ عَلِمُوا التَّوْحِيدَ , وَصَدَّقُوا بِهِ , وَأَمَّنُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ الْوَعِيدِ فِيهِ . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَهَاجَرُوا * : هُمْ الَّذِينَ تَرَكُوا أَوْطَانَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ إيثَارًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي إعْلَاءِ دِينِهِ , وَإِظْهَارِ كَلِمَتِهِ , وَلُزُومِ طَاعَتِهِ , وَعُمُومِ دَعَوْتِهِ . الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَجَاهَدُوا * : أَيْ الْتَزَمُوا الْجَهْدَ ; وَهِيَ الْمَشَقَّةُ فِي أَنْفُسِهِمْ , بِتَعْرِيضِهَا لِلْإِذَايَةِ وَالنِّكَايَةِ وَالْقَتْلِ , وَبِأَمْوَالِهِمْ بِإِهْلَاكِهَا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ . الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا * : هُمْ الْأَنْصَارُ الَّذِي تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ , وَانْضَوَى إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرُونَ . الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي النُّصْرَةِ . الثَّانِي : فِي الْمِيرَاثِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : جَعَلَ اللَّهَ الْمِيرَاثَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ . الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا * قِيلَ : مِنْ النُّصْرَةِ لِبُعْدِ دَارِهِمْ . وَقِيلَ : مِنْ الْمِيرَاثِ لِانْقِطَاعِ وَلَايَتِهِمْ .
----------------
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1) :
461 - 63 - مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ هَلْ تَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى أَوْلَادِهِ الْكِتَابِيِّينَ ؟
الْجَوَابُ :
__________
(1) - الفتاوى الكبرى - (ج 4 / ص 30)(1/272)
لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي النِّكَاحِ , كَمَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيرَاثِ , فَلَا يُزَوِّجُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ , سَوَاءٌ كَانَتْ بِنْتَه أَوْ غَيْرَهَا , وَلَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسْلِمًا , وَلَا مُسْلِمٌ كَافِرًا , وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَصْحَابِهِمْ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ , لَكِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلْأَمَةِ زَوَّجَهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ , وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَلِيُّ أَمْرِ زَوْجِهَا بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ , وَإِمَّا بِالْقَرَابَةِ وَالْعَتَاقَةِ فَلَا يُزَوِّجُهَا , إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي النَّصْرَانِيِّ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ , كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَرِثُهَا , وَهُمَا قَوْلَانِ شَاذَّانِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ , وَلَا يَتَزَوَّجُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ قَطَعَ الْوِلَايَةَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ , وَأَوْجَبَ الْبَرَاءَةَ بَيْنَهُمْ مِنْ الطَّرَفَيْنِ , وَأَثْبَتَ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ , فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآء مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ * . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ * . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا * إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ * . وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَثْبَتَ الْوِلَايَةَ بَيْنَ أُولِي الْأَرْحَامِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ * . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * إلَى قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * إلَى قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ * .
-------------------
وفي تحفة الحبيب (1):
__________
(1) - حاشية البجيرمي على الخطيب - (ج 9 / ص 335)(1/273)
كِتَابُ بَيَانِ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ وَالْوَصَايَا الْفَرَائِضُ جَمْعُ فَرِيضَةٍ بِمَعْنَى مَفْرُوضَةٍ أَيْ مُقَدَّرَةٍ لِمَا فِيهَا مِنْ السِّهَامِ الْمُقَدَّرَةِ فَغَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا . وَالْفَرْضُ لُغَةً التَّقْدِيرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ * أَيْ قَدَّرْتُمْ وَشَرْعًا نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا لِلْوَارِثِ , وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ آيَاتُ الْمَوَارِيثِ وَالْأَخْبَارُ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ . { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ * فَإِنْ قِيلَ مَا فَائِدَةُ ذِكْرِ ( ذَكَرٍ ) بَعْدَ ( رَجُلٍ ) ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مُقَابِلُ الصَّبِيِّ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُقَابِلُ الْأُنْثَى . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ ذَكَرٍ كَفَى , فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ رَجُلٍ مَعَهُ ؟ أُجِيبَ بِأَنْ لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوَارِيثُ يُوَرِّثُونَ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ وَالْكِبَارَ دُونَ الصِّغَارِ , وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ بِالْحَلِفِ وَالنُّصْرَةِ ثُمَّ نُسِخَ فَتَوَارَثُوا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ ثُمَّ نُسِخَ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ , ثُمَّ نُسِخَ بِآيَتَيْ الْمَوَارِيثِ , فَلَمَّا نَزَلَتَا قَالَ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ * وَاشْتُهِرَتْ الْأَخْبَارُ بِالْحَثِّ عَلَى تَعْلِيمِهَا وَتَعَلُّمِهَا مِنْهَا : { تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ أَيْ عِلْمَ الْفَرَائِضِ : النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ , وَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَقْضِي فِيهَا * . وَمِنْهَا : { تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ فَإِنَّهُ مِنْ دِينِكُمْ وَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَإِنَّهُ أَوَّلُ عِلْمٍ يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي * . وَإِنَّمَا سُمِّيَ نِصْفَ الْعِلْمِ لِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ حَالَتَيْنِ حَالَةُ حَيَاةٍ وَحَالَةُ مَوْتٍ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهُ . وَقِيلَ النِّصْفُ بِمَعْنَى الصِّنْفِ قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَانِ شَامِتٌ وَآخَرُ مُثْنٍ بِاَلَّذِي كُنْت أَصْنَعُ .(1/274)
كِتَابُ بَيَانِ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ وَالْوَصَايَا أَخَّرَهُ عَنْ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ لِاضْطِرَارِ الْإِنْسَانِ إلَيْهِمَا أَوْ إلَى أَحَدِهِمَا مِنْ حِينِ وِلَادَتِهِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا إلَى مَوْتِهِ , وَلِأَنَّهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِإِدَامَةِ الْحَيَاةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْمَوْتِ , وَلِأَنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ , فَنَاسَبَ ذِكْرَهُ فِي نِصْفِ الْكِتَابِ . قَوْلُهُ : ( أَحْكَامُ الْفَرَائِضِ ) قَالَ ق ل : الْأَوْلَى حَذْفُ " أَحْكَامُ " . وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَتْنَ تَكَلَّمَ عَلَى ذَوَاتِ الْفُرُوضِ بِقَوْلِهِ الْفُرُوضُ سِتَّةٌ وَذَكَرَ أَحْكَامَهَا بِقَوْلِهِ فَالنِّصْفُ فَرْضُ خَمْسَةٍ إلَخْ . وَيُجَابُ بِأَنَّهُ إنَّمَا قَدَّرَ الْأَحْكَامَ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةَ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِهَا بَيَانُ ذَوَاتِهَا . وَقِيلَ : وَجْهُ كَوْنِ الْأَوْلَى حَذْفُ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرَائِضِ مَسَائِلُ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ كَكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اثْنَيْنِ مَثَلًا وَهَذَا الْعَدَدُ لَا حُكْمَ لَهُ . وَيُجَابُ بِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ اثْنَيْنِ كَزَوْجٍ وَعَمٍّ كَانَ فِيهَا قَضَايَا بِعَدَدِ الْوَرَثَةِ وَكُلُّ قَضِيَّةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى حُكْمٍ وَهُوَ النِّسْبَةُ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْكَامِ اللُّغَوِيَّةِ وَهِيَ النِّسَبُ التَّامَّةُ , وَبَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ تَرْجَمَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُتَرْجَمَ لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " وَالْوَارِثُونَ إلَخْ " لَيْسَ فِيهِ مَسَائِلُ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ كَوْنُ عَدَدِ الْمَسْأَلَةِ اثْنَيْنِ , إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ قَوْلَهُ فِيمَا يَأْتِي لِلزَّوْجِ النِّصْفُ مَثَلًا مُتَضَمِّنٌ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اثْنَيْنِ , فَيَكُونُ هُوَ الْمُتَرْجَمُ لَهُ وَمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْوَارِثُونَ مِنْ الرِّجَالِ إلَخْ " تَوْطِئَةٌ لَهُ . وَقَرَّرَ شَيْخُنَا الْعَشْمَاوِيُّ أَنَّ الْكِتَابَ اسْمٌ لِلْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي , وَالْأَحْكَامُ هِيَ النِّسَبُ التَّامَّةُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْمَسَائِلُ , وَالْفَرَائِضُ هِيَ الْمَسَائِلُ الْمُدَوَّنَةُ كَقَوْلِهِمْ : لِلزَّوْجِ النِّصْفُ , وَكَقَوْلِهِمْ : فِي الْمَسْأَلَةِ سُدُسٌ وَرُبْعُ ; وَهَذِهِ هِيَ الْمُعَبِّرُ عَنْهَا فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ بِمَسَائِلِ قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ , يَعْنِي الْمَسَائِلَ الَّتِي ثَمَرَتُهَا وَفَائِدَتُهَا مَعْرِفَةُ قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ , فَكَأَنَّ الشَّارِحَ قَالَ هَذِهِ أَلْفَاظٌ . دَالَّةٌ عَلَى نِسَبٍ تَامَّةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْمَسَائِلُ اشْتِمَالَ الْكُلِّ عَلَى أَجْزَائِهِ , فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ أَنَّ الْكِتَابَ لِبَيَانِ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ , وَيَكُونُ قَوْلُهُ الْآتِي : وَالْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ سِتَّةٌ ذَكَرَ تَوْطِئَةً لِبَيَانِ الْفَرَائِضِ , فَسَقَطَ بِذَلِكَ اعْتِرَاضُ ق ل . ا هـ . قَوْلُهُ : ( الْفَرَائِضُ ) أَيْ مَسَائِلُ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ , فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ لِمَا فِيهَا رَاجِعٌ لِمَسَائِلِ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ , فَكَانَ الْأَوْلَى لِلشَّارِحِ أَنْ يُفَسِّرَ الْفَرَائِضَ بِمَا ذَكَرَ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ وَلِيُنَاسِبَ قَوْلَهُ : فَغَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا أَيْ سُمِّيَتْ مَسَائِلُ قِسْمَةٍ الْمَوَارِيثِ الشَّامِلَةِ لِمَسَائِلِ الْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ بِالْفَرَائِضِ تَغْلِيبًا وَقَوْلُهُ لِمَا فِيهَا عِلَّةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ وَسُمِّيَتْ بِالْفَرَائِضِ لِمَا فِيهَا إلَخْ . قَوْلُهُ : ( وَالْوَصَايَا ) سَيَأْتِي بَيَانُهَا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْكَلَامِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَهِيَ جَمْعُ وَصِيَّةٍ بِمَعْنَى تَبَرُّعٍ بِحَقٍّ مُضَافٍ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ . قَوْلُهُ : ( لِمَا فِيهَا ) الظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ إذْ لَيْسَ فِي الْفُرُوضِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ق ل . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرَائِضِ مَا يُوَرَّثُ بِالْفَرْضِ فَقَطْ , فَإِنْ أُرِيدَ بِالْفَرَائِضِ مَسَائِلُ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ كَانَ مِنْ ظَرْفِيَّةِ الْجُزْءِ فِي الْكُلِّ . قَوْلُهُ : ( فَغَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا ) أَيْ لِشَرَفِهَا لِثُبُوتِهَا بِالْقُرْآنِ . وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ , فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُفَسِّرَ الْفَرَائِضَ بِمَسَائِلِ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ الشَّامِلَةِ لِمَسَائِلِ الْفَرْضِ وَمَسَائِلِ التَّعْصِيبِ ثُمَّ يَقُولُ : فَغَلَبَتْ أَيْ الْفَرَائِضُ فِي التَّسْمِيَةِ بِهَا وَلَمْ يَغْلِبْ التَّعْصِيبُ , وَيُقَالُ كِتَابُ التَّعْصِيبُ , وَقِيلَ التَّعْصِيبُ(1/275)
أَشْرَفُ لِأَنَّ بِهِ قَدْ يُسْتَغْرَقُ الْمَالُ , وَعِبَارَةُ ق ل . عَلَى الْجَلَالِ : قَوْلُهُ : " فَغَلَبَتْ " أَيْ السِّهَامُ الْمُقَدَّرَةُ أَوْ الْفَرَائِضُ , وَهُوَ أَوْلَى وَأَنْسَبُ ; وَإِنَّمَا غَلَبَتْ عَلَى الْأَصَحِّ لِفَضْلِهَا بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ لَهَا وَلِكَثْرَتِهَا وَلِشَرَفِهَا بِتَقْدِيمِهَا عَلَى التَّعْصِيبِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ بِهَا , فَانْدَفَعَ مَا يُقَالُ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ كِتَابُ الْفَرَائِضِ وَالتَّعْصِيبِ , وَقِيلَ التَّعْصِيبُ أَشْرَفُ لِأَنَّ بِهِ قَدْ يُسْتَغْرَقُ الْمَالُ . قَوْلُهُ : ( نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ ) خَرَجَ بِهِ التَّعْصِيبُ , وَقَوْلُهُ : " شَرْعًا " خَرَجَ بِهِ الْوَصِيَّةُ , فَإِنَّهَا بِتَقْدِيرِ الْمَالِكِ لَا بِالشَّرْعِ . وَقَوْلُهُ : " لِلْوَارِثِ " خَرَجَ بِهِ رُبُعُ الْعُشْرِ مَثَلًا فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْوَارِثِ بَلْ لِلْمَذْكُورِينَ فِي آيَةِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ * إلَخْ . ا هـ . شَيْخُنَا . قَوْلُهُ : ( لِلْوَارِثِ ) وَلَا حَاجَةَ لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ يُزَادُ بِالرَّدِّ وَيَنْقُصُ بِالْعَوْلِ , بَلْ وَلَا يَصِحُّ وَإِنْ جُعِلَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَقِيقَتِهِ . فَائِدَةٌ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُوَرِّثُونَ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ وَالْكِبَارَ دُونَ الصِّغَارِ , وَيَقُولُونَ : أَنُوَرِّثُ أَمْوَالَنَا مَنْ لَا يَرْكَبُ الْخُيُولَ وَلَا يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ ؟ وَيَجْعَلُونَ حَظَّ الْمَرْأَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا سَنَةً وَهِيَ كَانَتْ عِدَّتَهَا عِنْدَهُمْ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ , وَكَانُوا يُوَرِّثُونَ الْأَخَ وَابْنَ الْعَمِّ , وَزَوْجَةَ الْأَخِ وَالْعَمِّ كَرْهًا ثُمَّ نُسِخَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ بِقَوْلِهِ : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا * وَجَعَلَ لَهَا حَظَّهَا مِنْ الْإِرْثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ * وَنُسِخَ الْإِرْثُ كَرْهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا * وَكَانُوا يَرِثُونَ بِالْحَلِفِ وَالنُّصْرَةِ , وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : دَمِي دَمُك وَسِلْمِي سِلْمُك وَحَرَمِي حَرَمُك تَرِثُنِي وَأَرِثُك وَتَنْصُرُنِي وَأَنْصُرُك وَتَعْقِلُ عَنِّي وَأَعْقِلُ عَنْك وَكَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ التَّوَارُثُ بِالتَّبَنِّي وَالْإِخَاءِ وَكَذَا بِالْحَلِفِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ * ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُقِرَّ التَّوَارُثُ بِالْهِجْرَةِ بِقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يُهَاجِرُوا * فَكَانَ إذَا تَرَكَ الْمُجَاهِدُ أَخَوَيْنِ مُهَاجِرًا وَغَيْرَ مُهَاجِرٍ وَعَمًّا مُهَاجِرًا وَعَمًّا غَيْرَ مُهَاجِرٍ كَانَ إرْثُهُ لِلْمُهَاجِرِ فَقَطْ ; كَذَا صَوَّرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ , وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ قَرَابَةٌ , وَهُوَ ظَاهِرُ تَصْوِيرِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَالرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا , لَكِنْ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَابْنِ الرِّفْعَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ . وَقَدْ يُحْمَلُ الِاخْتِلَافُ عَلَى كَلَامِ أُولَئِكَ عَلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَصْوِيرٍ , وَلِهَذَا قَالَ الْقَمُولِيُّ : وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْإِرْثَ كَانَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مُطْلَقًا كَمَا دَلَّتْ الْآيَةُ , يَعْنِي قَوْلَهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا * ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُقِرَّ التَّوَارُثُ بِالْقَرَابَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ * الْآيَةَ . وَيُقَالُ إنَّهُ نُسِخَ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا * فَعَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ عَلَى الْمُحْتَضَرِ أَنْ يُوصِيَ لِكُلِّ وَارِثٍ بِنَصِيبِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَمَنْ وَافَقَهُ مُصِيبٌ وَإِلَّا فَمُخْطِئٌ , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ ا هـ . قَوْلُهُ : ( فَلِأَوْلَى ) أَيْ فَلِأَحَقِّ ذَكَرٍ وَهُوَ الْأَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَصَبَاتِ , كَالِابْنِ مَعَ ابْنِهِ أَوْ الْأَقْرَبِ كَالشَّقِيقِ مَعَ الَّذِي لِلْأَبِ . ا هـ . م د . قَوْلُهُ : ( لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ ) الْأَوْلَى أَوْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ فَيَكُونُ جَوَابًا ثَانِيًا . قَوْلُهُ : ( أَنَّهُ ) أَيْ رَجُلٌ . وَكَانَ الْأَوْلَى الْإِظْهَارُ لِمَا فِيهِ مِنْ(1/276)
تَشْتِيتِ الضَّمَائِرِ . قَوْلُهُ : ( أَنَّهُ ) أَيْ ذَكَرٌ . وَقَوْلُهُ : " عَامٌّ " فِيهِ أَنَّ ذَكَرًا لَيْسَ عَامًّا لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ وَقَوْلُهُ مَخْصُوصٌ أَيْ بِالْبَالِغِ . وَفِيهِ أَنَّ ( رَجُلًا ) لَا يُدْفَعُ هَذَا التَّوَهُّمُ بَلْ يُقَوِّيهِ . وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا قَابَلَ الْأُنْثَى دَفَعَهُ أَيْ دَفَعَ خُصُوصَهُ بِالْبَالِغِ . وَقَالَ م د : فَإِنْ قِيلَ لَوْ اقْتَصَرَ إلَخْ , تَعَقُّبٌ بِأَنَّ مَا جَاءَ فِي مَرْكَزِهِ لَا يُسْأَلُ عَنْهُ فَرَجُلٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا بَعْدَهُ فَصَارَ الْمُحْتَاجُ لِلْجَوَابِ عَنْهُ هُوَ الثَّانِي . وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ كَلَامِ الشَّارِحِ بِأَنَّ هَذَا سُؤَالٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ مَعَ الِاكْتِفَاءِ بِالثَّانِي فِي وَفَاءِ الْمُرَادِ إطْنَابٌ . فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ إرَادَةِ بَعْضِ أَفْرَادِ الذَّكَرِ وَهُوَ الرَّجُلُ الْبَالِغُ . قَوْلُهُ : ( وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ) أَيْ الْحَالَةُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَسَمَّاهَا مَوَارِيثَ لِلْمُشَاكَلَةِ وَهِيَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا نَحْوُ : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ * أَيْ جَازَاهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ , فَذَكَرَ الْمُجَازَاةَ بِلَفْظِ الْمَكْرِ لِوُقُوعِهَا تَحْقِيقًا مُصَاحِبَةً لِمَكْرِهِمْ أَوْ اعْتِبَارِ اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ , وَإِلَّا فَهِيَ إعْطَاءَاتٌ لَا مَوَارِيثُ . وَقَالَ فِيمَا بَعْدَ الْأُولَى ثُمَّ نُسِخَ دُونَ الْأُولَى لِأَنَّ الْأُولَى بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فَكَانَ إبْطَالُهَا لَا يُسَمَّى نَسْخًا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْمَرَاتِبِ فَإِنَّهَا بِالشَّرْعِ فَكَانَ إبْطَالُهَا نَسْخًا . قَوْلُهُ : ( وَكَانَ ) أَيْ التَّوَارُثُ وَالْمُرَادُ تَوَارُثٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ تَوَارُثُ السُّدُسِ كَمَا فِي الْجَلَالَيْنِ وَقَوْلُهُ بِالْحَلِفِ إلَخْ , أَيْ الْمُشَارِ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ * الْآيَةَ وَعِبَارَةُ الْجَلَالِ : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ * جَمْعُ يَمِينٍ بِمَعْنَى الْقَسَمِ أَوْ الْيَدِ أَوْ الْحُلَفَاءِ الَّذِينَ عَاهَدْتُمُوهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى النُّصْرَةِ وَالْإِرْثِ : { فَآتُوهُمْ * أَعْطُوهُمْ { نَصِيبَهُمْ * حَظَّهُمْ مِنْ الْمِيرَاثِ وَهُوَ السُّدُسُ . وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ * ا هـ . وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الشَّارِحِ وَالنُّصْرَةِ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ بِالْحَلِفِ عَلَى الْإِرْثِ وَالنُّصْرَةِ , أَيْ يَتَحَالَفَانِ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ فِي حَيَاتِهِ وَيَرِثُهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ . ا هـ . شَيْخُنَا . وَيَصِحُّ ضَبْطُ الْحَلِفِ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَبِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ الْعَهْدُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَفْسِيرِ الْجَلَالِ ا هـ . قَوْلُهُ : ( بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ ) أَيْ مَعًا أَيْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا هَاجَرَا وَتَآخَيَا , أَيْ جُعِلَا أَخَوَيْنِ , فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرِثُ الْآخَرَ . وَهَذَا مُشَارٌ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * وَهُمْ الْمُهَاجِرُونَ { وَاَلَّذِينَ آوَوْا * النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { وَنَصَرُوا * وَهُمْ الْأَنْصَارُ { أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ * أَيْ فِي النُّصْرَةِ وَالْإِرْثِ { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَالَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ * فَلَا إرْثَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ : { حَتَّى يُهَاجِرُوا * . وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآخِرِ السُّورَةِ جَلَالَيْنِ , أَيْ قوله تعالى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ * . قَوْلُهُ : ( فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ ) أَيْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ * الْآيَةَ . قَوْلُهُ : ( بِآيَتَيْ الْمَوَارِيثِ ) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ بِآيَاتِ . قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ : فِيهِ نَظَرٌ , لِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ لَا تُعَارِضُهُ بَلْ تُؤَكِّدُهُ مِنْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا وَالْحَدِيثُ مِنْ الْآحَادِ وَتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ لَا يُلْحِقُهُ بِالْمُتَوَاتِرِ .(1/277)