المعرفة والتربية والتعليم
عند
إخوان الصفاء
رسالة تقدم بها
علي هادي طاهر
الى كلية الآداب / جامعة بغداد
وهي جزء من متطلبات نيل درجة ماجستير آداب في الفلسفة
بإشراف
الأستاذ المساعد الدكتور مجيد مخلف طراد الدليمي
1423 هـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... 2002 م
(التوبة:105)
الإهداء
الى الأرواح الطاهرة ....
التي تغمدها الرحمن بواسع رحمته
روح والدي ... .
وروح والدتي ... .
وروح أخي الأعز ... .
وحبيبي الأوحد ... .باقر
الباحث ... ...
... ...
شكر وتقدير
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل والإمتنان للدكتور الفاضل مجيد مخلف الدليمي الذي تفضل مشكورا بالإشراف على هذه الرسالة ، وكان لتوجيهاته العلمية والمنهجية الدور الكبير في قبول هذه الرسالة الصورة التي هي عليها الآن 0
وأشكر الأساتذة الأكارم في قسم الفلسفة لجهودهم التي بذلوها من أجلنا في السنة التحضيرية ، إذ أستفدت منهم لكثير وأنا مدين لهم بذلك ، فمن علمني حرفاً صيرني حراً 0
وأشكر الأساتذة الاكارم في لجنة المناقشة سائلاً الله تعالى أن تنال استحسانهم 0
وأشكر العاملين في مكتبات جامعة بغداد والبصرة وأخص بالذكر أمينة مكتبة قسم الفلسفة مهدية طاهر التي لم تبخل علينا بمساعدتها 0
وأشكر الأستاذ الفاضل الدكتور محمد جواد حسن الموسوي رئيس قسم الفلسفة في جامعة البصرة ، لجهوده التي بذلها من أجلنا في دراستنا الأولية ، وأشكر كل من درسني في جامعة البصرة .
ولا يسعني إلا أن أشكر نسيبيّ الروح وصديقيّ العمر الأخ الفاضل عبدالله كريم خضير والأخ الفاضل حسن محمد رمضان ، لتشجيعهم المتواصل لي ولمواقفهم الأخوية معي ، فرب أخ لم تلده لك أمٌ ، سائلاً المولى أن يوفقني لرد الجميل بالجميل .
وأخيراً لا يسعني إلا أن أشكر الأخوة العاملين في مكتب سعد للطباعة ولجهودهم التي بذلوها معي .
علي
المحتويات
الموضوع رقم الصفحة
الإهداء
شكر وتقدير(1/1)
المقدمة ... ... ... ... ... ... . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 1 – 2
الفصل الأول ( نظرية المعرفة )
تمهيد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 3 – 5
المبحث الأول – طرق المعرفة -
مدخل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... ... 6 – 8
طرق المعرفة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... .. 9
كيفية إدراك القوى الحساسة لمحسوساتها ( الحواس الظاهرة ) .. ... ... . 10 – 13
الشروط التي تحتاجها الحواس في إدراك محسوساتها ... ... ... ... ... ... ... . 14
الخطأ في إدراك المحسوسات ... ... ... ... ... ... ... .. ... ... ... ... ... ... ... .. 15
النفس والقوى الحساسة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. 16
مناسبة الحواس الظاهرة للطباع الخمسة في جسم العالم ... ... ... ... ... . 16 – 17
دور الحواس في إدراك اللذة والألم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...7 – 18
قوى النفس التي تدرك محسوساتها إدراكاً روحياً ( الحواس الباطنة) . ... ... ... 19
خصائص القوى الروحانية الخمس ... ... ... ... ... .. ... ... ... ... ... ... 20 – 25
المعرفة العقلية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... ... ... . 26 – 30
المعرفة البرهانية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .... 31 – 32
المبحث الثاني – حدود وإمكانيات الإنسان المعرفية –
مدخل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... . ... ... 33
حدود وإمكانيات الإنسان المعرفية ... ... ... ... ... ... ... ... . ... . ... ... . 34 – 36
المعارف التي تخص الإنسان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... .. 37 – 39
أسباب تفاوت الناس بالمعرفة ... ... ... ... ... ... .. ... ... ... ... ... ... .. 39 – 41
فوائد الاختلاف والتنوع المعرفي . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . 41 – 42
الجانب العقائدي في المعرفة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 42 – 49
الموضوع رقم الصفحة
الفصل الثاني ( مصادر المعرفة )
المبحث الأول – أجناس العلوم –
مدخل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... ... ... 50 – 52
مصادر العلوم ... ... ... .. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . 52 – 53
أجناس العلوم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... ... ... ... . 54 – 56
موقف الإخوان من الديانات والمذاهب ... ... ... ... ... ... .. ... ... ... ... 56 – 72
المبحث الثاني – العلوم الفلسفية أنموذجاً –
العلوم الرياضية ... ... ... ... ... ... ... .. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 73 – 83
العلوم المنطقية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... ... ... ... ... ... ... . 84 – 86
العلوم الطبيعية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 86 – 93
العلوم الإلهية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... ... . 93 – 103(1/2)
الفصل الثالث ( التربية والتعليم وصلتهما بالمعرفة )
المبحث الأول – التربية والأخلاق –
مدخل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... ... ... ... ... 104 – 105
التربية عند إخوان الصفاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ... ... 106 – 107
القيم التربوية في صداقة الإخوان ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... . ... 108 – 109
مراحل التربية الإخوانية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ... ... .. 110 – 115
الأخلاق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 116 – 123
المبحث الثاني – التعليم –
مدخل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ... .124
ما يجب على طالبي العلم معرفته ... ... ... .. ... ... ... ... ... .. ... ... 125 – 127
المتعلم والشروط اللازم توافرها فيه ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... 127 – 129
المعلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ... ... ... ... . 130 – 132
الجانب الديني في التعليم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... .. 133 – 138
الخاتمة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .... 139 – 140
المصادر والمراجع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... .. ... ... 141 – 148
الملخص بالإنجليزية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... ... ... .. 1- 2(1/3)
المقدمة
أهتم إخوان الصفاء شأنهم شأن فلاسفة المسلمين الآخرين بموضوع المعرفة والتربية والتعليم 0 فلهذا الموضوع المكانة الرفيعة في الفكر الفلسفي الإسلامي 0 ولكن إذا نظرنا لإخوان الصفاء من منظور آخر لا يحق لنا القول عنهم في مسائلٍ عديدةٍ إن شأنهم شأن الفلاسفة المسلمين 0 فمن هذه المسائل أختلاف الباحثين والمهتمين بدراسة إخوان الصفاء فيما بينهم بشأن زمان ظهورهم ومكانهم وأبرز شخصياتهم وحتى في عدد رسائلهم ومن ألفاها فضلاً عن الأختلاف في الغاية من تأليفها 0 ومن المسائل الأُخرى التي تجعل من الإخوان يختلفون عن فلاسفة المسلمين الآخرين أسلوب عرضهم للرسائل فهي تتفاوت من حيث الطول والقصر وفي عدد الفصول فضلاً عن تكرار الموضوع نفسه برسائل عديدة فمن الصعوبة أن نجد موضوعاً معيناً يضمه فصل معين وإنما يوزعون هذا الموضوع بين فصول عدة في رسائل عدة أيضاً فيضطر الباحث الى قراءة رسائل عديدة كي يُلم بجوانب موضوع معين 0 ومن المسائل الأُخرى التي يختلف بها الإخوان عن باقي فلاسفة الإسلام هي عدم توافر المصادر ، فعلى الرغم من أن كثيراً من المؤلفين كتبوا عن إخوان الصفاء إلا أن أغلب مؤلفاتهم مجرد عنوانات لمؤلفات غير متوافرة 0 فهذه المسائل لا يُخفى على المختصين معرفتها وتُعد بدورها صعوبات تعترض طريق الباحث 0 فمنن بين هذه الصعوبات اعتمدت على ما استطعت جمعه من المصادر وعلى رسائل إخوان الصفاء طبعة بيروت بالأساس لأقدم رسالة عن المعرفة والتربية والتعليم عندهم 0 وتتكون هذه الرسالة من ثلاثة فصول تناولت في الفصل الأول نظرية المعرفة عند إخوان الصفاء فتكلمت في المبحث الأول عن طرق المعرفة ، مبتدأ بالمعرفة الحسية التي قسمها الإخوان الى قسمين الحواس الخمس الظاهرة التي تُعد أول طريق لمعرفة الإنسان بالعالم الخارجي وهي ( حاسة اللمس ، حاسة الذوق ، حاسة الشم ، حاسة السمع ، حاسة البصر ) فبينا في هذا الموضوع عملية الإدراك الحسي(1/1)
لكل حاسة وما هي الشروط التي تحتاجها الحواس في إدراك محسوساتها فضلاً عن خطأ الإدراك الحسي ومواضيع أخرى 0 وبعد ذلك تناولنا الحواس الباطنة ودورها بالمعرفة التي حددها إخوان الصفاء بخمس حواس أيضاً وهي ( المتخيلة ، الحافظة ، المفكرة ، الصانعة ، الناطقة ) وتناولنا بعد ذلك المعرفة العقلية والمعرفة البرهانية 0 أما في المبحث الثاني فقد تناولنا موضوع حدود وإمكانيات الإنسان على المعرفة ، فبينا حدود حواس الإنسان الظاهرة والباطنة وحدود العقل في المعرفة وبعد ذلك تكلمنا عن موضوع الجانب العقائدي في المعرفة 0
أما في الفصل الثاني فقد تناولنا موضوع العلوم بوصفها من مصادر المعرفة المهمة التي تعد بمثابة معين لا ينضب لرفد الإنسان بضروب المعرفة شتى فتناولنا في المبحث الأول أجناس العلوم وأنواع تلك الأجناس ، مبتدئين بتعريف العلم وفضيلة طلبه عندهم وتناولنا مصادر علومهم وبعد ذلك تكلمنا عن أجناس العلوم ، وتناولنا أيضاً في هذا المبحث موقف إخوان الصفاء من الأديان والمذاهب والعلوم 0
أما في المبحث الثاني فتناولنا موضوع العلوم الفلسفية التي قسمها الإخوان إلى أربعة أقسام ، العلوم الرياضية ، والعلوم المنطقية ، والعلوم الطبيعية ، والعلوم الإلهية والتي تُعد هي الغرض الأقصى من وراء دراسة هذه العلوم 0
أما في الفصل الثالث ، فقد تكلمنا عن موضوع دور التربية والتعليم في المعرفة ، فخصصنا المبحث الأول لموضوع التربية والأخلاق فتكلمنا عن أهمية التربية عند فلاسفة اليونان وبعدهم عند فلاسفة المسلمين 0 وتناولنا أغلب المواضيع التي تكلم عنها إخوان الصفاء في حديثهم عن التربية ، ومنها الجوانب التربوية في صداقتهم التي تُعد خير شاهد على أهمية التربية عندهم وبعد ذلك تكلمنا عن الأخلاق وكيف نظر الإخوان لهذا الموضوع ، وما هي أبرز المسائل التي تكلموا فيها مثل اختلاف الناس في الأخلاق وأقسام الأخلاق ومواضيع أُخرى 0(1/2)
أما المبحث الثاني من هذا الفصل فقد تناولنا فيه موضوع التعليم وكان حجر الزاوية في هذا المبحث ، المتعلم وما ينبغي عليه معرفته والشروط اللازم توافرها به ، والمعلم وما هي الشروط اللازم توافرها به ، وما هي المهام التي يقوم بها 0 كتقسيم المنهج وفقاً لمستوى الطلاب ، ومواضيع أُخرى 0 وبعد ذلك تكلمنا عن الجانب الديني في التعليم ، فتناولنا واضع الناموس بوصفه معلماً للإنسانية ، وما هي الشروط اللازم توافرها به ، وبعد ذلك تناولنا أصحاب واضع الشريعة بوصفهم معلمين للبشر من بعد صاحب الشريعة ، وتكلمنا عن أصنافهم والخصال اللازم توافرها بهم 0 وختمنا موضوع هذا الفصل بما استطعنا استنتاجه والله الموفق0
الفصل الأول
نظرية المعرفة
تمهيد
قبل أن نتكلم عن المعرفة عند إخوان الصفاء لابد من تحديد مفهوم المعرفة Knowledge إذ يمكن أن ينظر إليها بأنها العملية التي يدرك بمقتضاها الفرد ويُفسر ما يُحيط به وهذا الإدراك يتضمن جميع العمليات التي يحصل بمقتضاها الفرد على المعرفة بما في ذلك التفكير والتذكر والتخيل والتعميم والحكم ، وتأتي أيضاً بمعنى مجموعة المعاني والمعتقدات والأحكام والمفاهيم والتصورات الفكرية التي تتكون لدى الإنسان نتيجة لمحاولات متكررة لفهم الظواهر والأشياء المحيطة به (1) ويمكن النظر للمعرفة بأنها عملية إنعكاس معقدة في وعي الإنسان تكون على مراحل عدة تبدأ من الإحساس ثم التفكير المجرد وتكوين المفاهيم والقوانين ثم مرحلة تطبيق المعرفة التي تُعد الأساس والمقياس الذي تحدد بواسطته صحة المعارف (2) 0
أما نظرية المعرفة :- Theory of knowledge – or - Epistemology 0
__________
(1)
(1) أحمد خورشيد النورة جي ، مفاهيم في الفلسفة والاجتماع ، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط 1 ، 1990 ، ص 229 0
(2) د0 عبدالرزاق مسلم الماجد ، مذاهب ومفاهيم في الفلسفة والاجتماع ، منشورات دار الكتب العصرية صيدا بيروت ، ص119 – 120 0(1/3)
فتعني البحث في طبيعة المعرفة وأصلها وقيمتها ووسائلها ، وحدودها (1) فنظرية المعرفة من الناحية الفلسفية تُعد من حقول الفلسفة المهمة التي تتلخص بماذا نعرف ؟ وكيف نعرف ؟ وما هي حدود إمكانياتنا على المعرفة وهل معرفتنا بالأشياء معرفة نسبية Relativity of knowledge أو بإمكاننا معرفة كل شيء ؟ وهل الحقائق التي نعتقدها على درجةٍ كبيرةٍ من اليقين ؟ و أي طريق نسلك بمعرفتنا ؟ هل نعتمد على الإدراك الحسي Perception ؟ أو نعتمد على العقل Mind دون الحواس ؟ أو نعتمد على العقل والحواس معاً في معرفتنا ؟ وهل بإمكان الحواس أن توصلنا الى معرفةِ حقائقٍ يقينية ؟ أو أن العقل هو الذي يجعلنا نصل الى هكذا حقائق ؟ وماذا بشأن الحقائق التي لا تدرك بالحواس ولا يستطيع العقل الإحاطة بها هل هذه لا تُعدّ حقائق؟ أم إن هناك طريقة أُخرى لمعرفتها ؟ فهكذا أسئلة تطرحها نظرية المعرفة 0 وقد اختلفت الإجابات عن هذه الأسئلة ، فمنهم من ذهب إلى امتناع المعرفة والعلم بالأشياء بناء على مذهبهم في أن الموجودات في تدفق مستمر وسيلان دائم ومن ثم فلا توجد حقيقة موضوعية ثابتة تصلح أن تكون موضوعاً للمعرفة فلا معرفة مطلقاً ، وحتى وأن وجدت فلا يمكن نقلها للآخرين وهذا قول مذهب الشكاك Sceptcism من أتباع بيرون وغورغياس وبروتوغوراس (2) ومن ثم فعلى مذهبهم تكون المعارف نسبية وإن الإنسان مقياس الأشياء بمعنى أن المعرفة تختلف بأختلاف حال المدرك ووضع الشيء المدرك واختلاف آلة الإدراك ، فكل يحكم بحسب إدراكه وهو الحق لديه (3)
__________
(1) د0 جميل صليبا ، المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاّتينية ، ج2 دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، ص478 0
(2) حول نظرية المعرفة عند السوفسطائيين ، ينظر عبدالرحمن بدوي ، ربيع الفكر اليوناني ط 5 ، وكالة المطبوعات الكويت 0دار القلم بيروت 1979 ، ص 172 ، 175
(3) د0 عرفان عبدالحميد فتاح ، المدخل الى معاني الفلسفة ، دار الجيل ، دار عمار ، عمان ط 1 ، 1989 ، ص 30 0(1/4)
ومنهم من ذهب الى أن المعرفة ممكنة وواقعة فعلاً : لأن حقائق الأشياء ثابتة ومعرفتها جائزة وممكنة ، ويسمون هؤلاء بأصحاب مذهب اليقين أو المذهب الوثوقي أو القطعي Dogmatism وهؤلاء انقسموا الى قسمين ، قسم أكد المعرفة الحسية فجعلوا كل معرفة أُخرى غير المعرفة الحسية وهماً وباطلاً ، وأبرز من مثل هذا الجانب الأبيقوريين (1) كما أكد المعرفة الحسية أيضاً التجريبيون الذين وثقوا بالتجربة القائمة على المعطيات الحسية سواء كانت التجربة ظاهرة أم باطنة ، ومثل هذا الاتجاه بيكون وهوبز وجون لوك (2) وكوندياك القسيس والفيلسوف الفرنسي الذي تأثر بجون لوك وكان زعيم الحسية في وطنه (3) وهناك من وثق بالعقل وإن المعارف التي تأتي عن طريق الفهم والتعقل هي المنبع الوحيد للمعرفة ومن العقليين ، ديكارت ، سبينوزا ، ليبنتز ، ولف وغيرهم (4) وبين المذهب الوثوقي والمذهب الشكي ظهر مذهب يتخذ موقفاً وسطاً بين الشك واليقين وهو مذهب الاحتمال Probabalism ، فيرى أنصار هذا المذهب أنه إذا لم يكن بوسع الإنسان أن يدرك حقائق يقينية فيمكنه أن يدرك هكذا حقائق بشيء من الاحتمال ، وهذا الاحتمال ممكن ويكفي في معظم الأحيان للحياة العملية ، وقد مثل هذا الاتجاه في الفلسفة القديمة شيشرون ، وتجدد في الربع الأول من القرن التاسع عشر على يد الفيلسوف الفرنسي كورنو 0 فضلاً عن ذلك فأن هنالك منهجاً في معرفة الحقائق التي لا تدرك بالحس ولا بالعقل وهي على الرغم من ذلك حقائق يقينية غير مكتسبة وتتعلق هذه
__________
(1) عبدالرحمن بدوي ، خريف الفكر اليوناني ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، دار القلم بيروت لبنان ، ط 5 ، 1979 ، ص52-53 0
(2) أ0 س – رابوبرت ، مبادئ الفلسفة ، ترجمة أحمد أمين ، ط 5 ، مطبعة لجنة التأليف والنشر ، القاهرة ، 1949 ، ص 234
(3) يوسف كرم ، تأريخ الفلسفة الحديثة ، ط 5 ، دار المعارف بمصر ، ص 184 0
(4) رابوبرت ، مبادئ الفلسفة ، ص 238 0(1/5)
المعرفة بالحقائق الميتافيزيقية ، وقد مثل هذا الاتجاه الصوفية إذ تنكشف للصوفي السالك طريق التطهر الروحي والسمو الباطني في ذرى مقامات الوصول والاتصال بالله تعالى Mystical- Illumination (1) 0
أما عن موضوع المعرفة في الفلسفة الإسلامية ، فهذا الموضوع أخذ ينكسر عنه طوق الحصار داخل الفكر اللاهوتي منذ أن وسع الكندي مجاله الى ما وراء الحصار ذاك 0 ففي الوقت الذي كان موضوع المعرفة محصوراً حتى القرن الثالث الهجري ( التاسع الميلادي ) في معرفة الله ، وفي معرفة العلاقة بين الله والعالم ، أصبح يشمل في فلسفة الكندي معرفة العالم لذاته ، أي مستقلة عن المعرفة اللاهوتية 0
فإذا انتقلنا الى ما بعد منتصف القرن الرابع الهجري أخذ هذا المجال يتسع الى أبعادٍ جديدةٍ في فلسفة الفارابي وفلسفة أخوان الصفاء وسائر الفلاسفة العلماء في هذا العصر ، وليس الشكل الموسوعي في رسائل أخوان الصفاء سوى تعبير عن هذه الظاهرة في عصرها 0 قد تكون رسائل الإخوان قاصرة عن تمثيل كل أبعاد هذه الظاهرة لا سيما العميقة منها ولكن إذا نظرنا الى هذه الرسائل بوصفها فهرساً لإبواب المعرفة في عصرها ، كان ذلك كافياً لرؤية الملامح البارزة لظاهرة التوسع الجديد في موضوع المعرفة ، أي شموله قطاعات أوسع فأوسع من العالم المادي لدراستها بطريقة أكثر إستقلالية عن الدراسات اللاهوتية (2) ولهذه الرسائل أهمية لكونها
المبحث الأول
طرق المعرفة
__________
(1) د0 عرفان عبدالحميد ، المدخل الى معاني الفلسفة ، ص 32
(2) حسين مروه ، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، ج 2 ، دار الفارابي ، بيروت ، 1978 ، ص 390 –391(1/6)
تمثل صورة الحياة العقلية في القرن الرابع الهجري من الناحية الفكرية ، فهي تمثل مجموعاً يضم الآراء الفلسفية منذ أيام طاليس الملطي ، وتكمن قيمتها أيضاً في كونها أول كتاب مجلدّ ، ضم بين دفتيه جميع أقسام الفلسفة فضلاً عن أنها تُعد المحاولة الأُولى لتثقيف العامة بفنون العلم والفلسفة (1)
__________
(1)
(1) عمر فروخ ، تأريخ الفكر العربي الى أيام ابن خلدون ، دار العلم للملايين ، بيروت ، لبنان ، ص384 0(1/7)
ومحاولة التثقيف هذه هي التي جعلت من الإخوان يكتبون رسائلهم بلغة بسيطة سهلة بعيدة عن الأعتياص والغموض اللذين يرافقان عادة الكتابات الفلسفية ومما توسلوا به لتقريب مذهبهم بساطة التعبير ، وجلاء العبارة داعياً الى تهافت العامة الى دراستها (1) ولكن هذه البساطة لا تشمل كل رسائلهم وإنما بعضها كُتب للإخوان أنفسهم فهناك رسائل لا يستطيع العامة معرفتها وذلك أن لهم ميولاً خاصة باطنة لا يصرحون بها في رسائلهم إلا مموهة وبأسلوب رمزي يحتمل التأويلات المختلفة أسلوب لا يفهمه ولا يخلص الى مغزاه المقصود إلا الأخ المدرب الذي مارس ذلك الأسلوب ، ففي الرسالة الخمسين من المجموعة العامة ، نصوص وضعوها لتقرأ على الجماعة وأدق من ذلك ليس كل الجماعة ، بل الجماعة الذين خلصت أنفسهم ووثقوا بعقيدتهم وهذا واضح بقولهم في أول كل رسالة ( أعلم يا أخي ، أو أيها الأخ ) خلافاً لما هو مألوف في سائر الرسائل التي يفتتحونها بعبارة أعلم أو أما بعد 0 فإخوان الصفاء وإن كانوا قد أرضوا كل الناس بأسلوبهم من حكايات خرافية الى أساطير الى عبارات منطقية فلسفية إلا أنهم اعتمدوا على الغايات الظاهرة لتحقيق الغايات الباطنة في بث معتقداتهم (2) 0 ولكنهم على كل حال اهتموا بالمعرفة اهتماماً خاصاً 0
المبحث الأول
طرق المعرفة
مدخل
أن الذي ينطبق عليه مفهوم المعرفة ، وطرق المعرفة هو الإنسان بوصفهِ ذاتاً عارفة ، فلابد من الإشارة الى الذات العارفة قبل الحديث عن طرق المعرفة 0
__________
(1) أديب عباسي ، من هم إخوان الصفاء ، مجلة الرسالة ، السنة الثانية العدد 34 فبراير 1934 ، ص 331 0
(2) محمد علي هدو ، أسلوب رسائل إخوان الصفا ، مجلة البلاغ ، العدد الثاني ، 1974 ، ص 36- 37 0(1/8)
الإنسان في فكر إخوان الصفاء ، مركب من جسدٍ ونفسٍ ، والجسد والنفس جوهران متباينان متضادان ، فالجسد هو المحسوس الغليظ المؤلف من لحمٍ ودمٍ وعظمٍ وعروق وجلد وعصب 00 الخ ، والجسد أرضي مظلم مصيره الموت والفساد أما الجوهر الآخر ( النفس ) أو الروح فهي جوهرة سماوية روحانية نورانية علامة دراكة صور الأشياء ، وهذا الجسد لهذه النفس كما يرى الإخوان بمثابة دار تُسكن ، أو دابة تُركب ، أو آلة تُستعمل وما دامت النفس مربوطة بهذا الجسد الى الوقت المعلوم فأنها تعمل على ما يُصلح معيشة الحياة الدنيا وما تنال به من النجاة والفوز بالآخرة (1) وبما أن الإنسان مُركب من جسدٍ وروح فإن هناك صفات تخص الجسد وأُخرى تخص النفس 0 فأما التي تخص الجسد فهي ، أنه جوهر جسماني طبيعي ذو طعمٍ ولون ورائحة وثقل وخفه وسكونٍ ولينٍ وخشونةٍ وصلابةٍ ورخاوةٍ ، وهو متكون من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان المتولدة من الغذاء الكائن من الأركان الأربعة التي هي النار ، والهواء والماء ، والأرض ذوات الطبائع الأربعة التي هي الحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة 0 وهذا الجسد مصيره الفساد وسوف يستحيل ويرجع الى هذه الأركان الأربعة بعد الموت الذي هو مفارقة النفس الجسد وتركها استخدامه 0 أما الصفات التي تخص النفس فأنها جوهرة روحانية نورانية حيه بذاتها علامة بالقوة ، فعاله بالطبع ، قابلة للتعليم ، في الأجسام ومستعملة لها ، ومتممة للأجسام الحيوانية والنباتية الى وقتٍ معلوم ، ثم تاركه آياه ومفارقة له راجعة الى عناصرها ومعدنها ومبدئها كما كانت ، أما بربحٍ وغبطةٍ أو بندامةٍ وحُزن (2) فالنفس إذن هي التي تدرك صور الأشياء وهي
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، ج4 ، دار صادر ، دار بيروت لبنان ، 1957 ، ص 169
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، ج1 ، دار صادر ، دار بيروت لبنان ، 1957 ، ص 260(1/9)
المدبرة لشؤون الجسد وبها يستطيع الإنسان المعرفة 0 فعلى الرغم من دور الحواس الظاهرة والباطنة والعقل في المعرفة فإن هذه الأدوات تصبح لا فائدة لها في المعرفة متى ما فارقت النفس هذا الجسد الفاني 0
أما عن هبوط النفس فقد بين الإخوان إنها هبطت من عالمها الروحاني وأُسقطت من مرتبتها العالية لجناية ، فغرقت هذه النفس في بحر الهيولى وغاصت في قعر الأجسام المظلمة وعرض للنفس مصائب وأهوال لكونها مع الجسد وما اُبتليت به من ظُلمات هذه الأجساد من هموم المعاش ، وخوف الجوع ، وألم العطش وأوجاع الأمراض 000 الخ من الشدائد والمصائب فصارت النفس بسبب هذه المحن لا تذكر شيئاً مما كانت فيه ، من أمر عالمها ومبدئها ومعادها (1) وهذه النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة واستيقظت من رقدة الجهالة وأبصرت ذاتها ، وعرفت جوهرها ، وأحست بغربتها في عالم الأجسام ، ومحنتها وغرقها في بحر الهيَوُلى وأسرها بالشهوات الطبيعية ، وعاينت عالمها وريحانها ، فهي عند ذلك تشتاق الى هناك ، وتميل الى الكون في ذلك العالم فتزهد في نعيم الدنيا وتمقت الكون مع الجسم المظلم الكثيف وتتمنى الموت بمفارقة هذه الأجساد المظلمة0 ووصف إخوان الصفاء النفس بأن ( مثلها عند ذلك كمثل قوم خرجوا من الحبس والمطانير مع ضوء الصبح ، فشاهدوا هذا العالم بما فيه دفعه واحدة ، وأما النفوس غير المستبصرة فمثلها كمثل العميان سواء عندهم ضوء النهار وظلمة الليل ) (2) وقالوا أيضاً ( وأعلم أن النفس إذا لم تستبصر ذاتها ولم تعرف جوهرها ومبدأوها ومعادها ، ولم تحسّ بغربتها وما هي عليه في هذه الدنيا من المحنة والبلوى ، ما دام يمكنها البحث والاجتهاد في التعلم ولها تمييز وعقل وحواس صحيحة ويمكن الأعتبار والفحص والبيان ، فلم تجتهد حتى بقيت عمياء الى الممات ، فهي بعد الممات أعمى
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 185
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 185 0(1/10)
وأظلّ سبيلا ) (1) كما ذكر الله تعالى (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (2) فإخوان الصفاء أكدوا على معرفة النفس كثيراً واتبعوا الحكمة الفلسفية القديمة التي وجدها سقراط مكتوبة ، فيما تروى الأسطورة ، بأحرف من ذهب على عتبة ديلف معبد ابولون إله الوحي والإلهام والشعر عند الأغريق وهي ( أعرف نفسك بنفسك ) فقد قرر إخوان الصفاء أن المتفلسف لا يستيطع أن يخطو في الفلسفة خطوة واحدة قبل أن يعرف نفسه بنفسه معرفة عميقة قاطعة ، وإلا كان مثله كمثل من يزعم أنه يعالج المرضى وهو سقيم ، أو يدعي أنه يساعد الفقراء وهو مدقع ، أو أنه يحاول أن يرشد الناس في الطرقات وهو لا يعرف طريق بيته (3) وهذا التأكيد نجده بقول الإخوان ( وأعلم أيها الأخ البار الرحيم ، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه ، أنه لا يحسن بنا أن ندعي معرفة حقائق الأشياء ولا تعرف أنفسنا ، كمثل من يُطعم الناس وهو جائع ، وكمن يكسو غيره وهو عريان ، وكمن يداوي الناس وهو عليل وكمن يهدي الناس الى الطريق ولا يعرف طريق بيته ، فقد علم أن الإنسان في مثل هذه الأشياء ينبغي له أن يبتدئ أولاً بنفسه ثم بغيره ) (4) إذن فللنفس الدور البارز في المعرفة ، في معرفة صور الموجودات الجسمانية والمعقولات كما لها الدور المهم في معرفة الأُمور الروحانية فمتى ما كانت النفس لم تُدنس بالجهالات والأخلاق الرديئة ولم تعوج بالآراء الفاسدة فسوف تتراءى في ذاتها صور الأشياء الروحانية التي في عالمها فتدركها النفس بحقائقها ، وتشاهد الأُمور الغائبة عن حواسّها بعقلها وصفاء جوهرها مثلما تشاهد الأشياء الجسمانية بحواسها إذا كانت حواسها
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 185 – 186 0
(2) الإسراء ، أية 72
(3) د0 محمد غلاب ، إخوان الصفا ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، مصر ، 1968 ، ص 55 – 56 0
(4) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 169 0(1/11)
صحيحة سليمة 0 أما إذا كانت النفس جاهلة غير صافية الجوهر وتدنست بالأعمال السيئة والأخلاق الرديئة وأعوجت بالآراء الفاسدة واستمرت على تلك الحال فأنها تبقى محجوبة عن إدراك حقائق الأشياء الروحانية وتعجز عن الوصول الى معرفة الله تعالى ويفوتها نعيم الآخرة (1) 0
أما عن قوى النفس الإنسانية فقد تكلم عنها الإخوان بشكلٍ موسع ، إذ بدأوا حديثهم بعدّها جوهرة روحانية فاضت من النفس الكلية (2) ولها قوى عديدة منها القوى الحساسة وهي قسمان ، (نوعان) ، قوى حاسة ظاهرة وهي الحواس الخمس ( البصر ، السمع ، الذوق ، الشم ، اللمس ) وقوى روحانية باطنة تدرك محسوساتها إدراكاً روحانياً وهي ( المتخيلة ، الذاكرة ، الحافظة ، الناطقة ) فضلاً عن ذلك فأن للنفس قوىٍ أُخرى وهي النفس النباتية ( الشهوانية ) والنفس الحيوانية ( الغضبية ) والنفس الإنسانية ( الناطقة ) والنفس الحكميّة والنفس الناموسية ( الملَكية ) (3) وهذه القوى هي ليست من أجزاء النفس وإنما هي النفس عينها ولكن اختلاف هذه الأسماء يعود الى اختلاف أفعال هذه القوى فهي إذا فعلت الإبصار سُميت الباصرة 000الخ من أفعال الحواس الخمس وإنها إذا فعلت في الجسم النمو سُميت نامية ، وإذا فعلت في الجسم الحس والحركة سُميت حيوانية ، وإذا فعلت الفكر والتمييز سُميت الناطقة (4) 000 الخ من الأفعال 0 هذه أبرز المسائل التي تتعلق بالإنسان بوصفه ذاتاً عارفة كما نظر له إخوان الصفاء وبعد أن بينّا هذه المسائل سننتقل الى موضوع طرق المعرفة 0
طرق المعرفة
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 6 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء وإخوان الوفاء ، ج3 ، دار صادر ، دار بيروت ، لبنان 1957 ، ص 241 0
(3) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 313 0
(4) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 410 0(1/12)
حدد إخوان الصفاء طرق المعرفة بثلاثة طرق أحدها طريق الحواس الخمس الثاني طريق العقل والثالث طريق البرهان وهذا نجده بقولهم ( إن علم الإنسان بالمعلومات يكون من ثلاثةِ طرق أحدها طريق الحواس الخمس الذي هو أول الطرق ، ويكون جمهور علم الإنسان ، ويكون معرفته بها من أول الصبا ويشترك الناس كلهم فيها وتشاركهم الحيوانات 0 والثاني طريق العقل الذي ينفصل به الإنسان دون سائر الحيوانات ، ومعرفته به تكون بعد الصبا عند البلوغ ، والثالث طريق البرهان الذي يتفرد به قوم من العلماء دون غيرهم من الناس ، وتكون معرفتهم به بعد النظر في الرياضيات الهندسية والمنطقية) (1) 0 إذن فالمعرفة منها معرفة حسية وأُخرى عقلية وثالثة برهانية0
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 396 – 397 0(1/13)
فأما عن المعرفة الحسية فقد أكدها الإخوان بصورة كبيرة ولكنهم قبل خوضهم بهذه المعرفة وأهميتها فقد حددوا مفاهيم عدة تتعلق بالمعرفة الحسية وأكدوا ضرورة معرفتها وهي ( الحواس الخمس ، القوى الحساسة ، الحس ، الإحساس ، المحسوسات ) أما الحواس فعرفوها :- بإنها آلات جسدانية وهي خمس ( العين ، الأُذن ، اللسان ، الأنف ، اليد ) وذلك أن كل واحد منها عضو من الجسد 0 أما القوى الحساسة :- فهي قوى روحانية نفسانية يختص كلّ منها بعضو من أعضاءِ الجسد 0 أما المحسوسات :- فهي الأشياء المُدركة بالحواس ، والمدركة بالحواس هي أعراض حالة في الأجسام الطبيعية ، مؤثرة في الحواس مُغَّيرة لكيفية مزاجها 0 أما الحس :- فهو تغيير مزاج الحواس عن مباشرة المحسوس لها 0 أما الإحساس فهو شعور القوى الحسّاسة بتغيرات كيفية أمزجة الحواس (1) فهذه الحواس الخمس أربعة منها في الرأس والخامسة مجراها في عامة سطح بدن الحيوان الرقيق الجلد ، ولكنها في الإنسان أظهر ولا سيما في الأُنملة ، ولكل حاسة نوعٌ من المحسوسات ، فقد حددوا أجناس المحسوسات بإنها كلها خمسة أجناس منها المدركات بطريق اللمس وهي عشرة أنواع ( الحرارة ، البرودة ، الرطوبة ، اليبوسة ، الخشونة ، اللين ، الصلابة ، الرخاوة ، الخفة ، الثقل ) أما الجنس الثاني فيشمل المدركات بطريق الذوق التي هي الطعوم ، وهي تسعة أنواع ( الحلاوة ، المرارة ، الملوحة ، الدسومة ، الحموضة ، الحرافة (2) ، العفوصة (3) ، العذوبة ، القبوضة ) 0 أما الجنس الثالث فيشمل الروائح وهي نوعان الطيب ، والنتن 0 أما الجنس الرابع فيشمل الأصوات المدركة بطريق السمع ، وتقسم الى نوعين حيوانية وغير حيوانية ، وغير الحيوانية نوعان طبيعية ، وآليه ، والحيوانية أيضاً تقسم نوعان منطقية ، وغير منطقية 0 أما المنطقية فهي نوعان ،
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 401 0
(2) الحرافة :- طعم يلذع اللسان بحرارته 0
(3) العفوصة :- المرارة والقبض 0(1/14)
دالة ، وغير دالة 0 أما الجنس الخامس من المحسوسات فيشمل المبصرات المدركات بطريق البصر وهي عشرة أنواع ( الأنوار و الظُّلم ، الألوان ، السطوح ، الأجسام وأشكالها وأوضاعها وأبعادها وحركاتها وسكوناتها (1) 0 وبعد هذا العرض سوف نبدأ بكيفية إدراك الحواس لمحسوساتها أو بتعبير الإخوان القوى الحسّاسة 0
أولاً- كيفية إدراك القوى الحسّاسة لمحسوساتها ( الحواس الظاهرة )
ابتدأ إخوان الصفاء حديثهم عن دور القوى الحساسة بإدراك المحسوسات بالقوة اللامسة وختموا حديثهم بالقوة الباصرة 0 فهل جاء ذلك العمل صدفة أو إن هناك علة من وراء ذلك ؟ في الحقيقةِ أن إخوان الصفاء فعلوا ذلك عن قصدٍ وهذا نلمسه بقولهم ( ونبتدئ أولاً بالقوى اللامسة ووضعها ، لأن إدراكها للمحسوسات كان إدراكاً جسمانياً ثم نختم بوصف القوة الباصرة ، لأن إدراكها لمحسوساتها كان إدراكاً روحانياً ) (2) ولنبدأ بالحواس التي تدرك محسوساتها إدراكاً جسمانياً 0
1- دور القوة اللامسة بالإدراك :- تتميز هذه القوة بأن لها القدرة على إدراك الحرارة والبرودة ، الصلابة والرخاوة ، الخشونة والملاسة ، الرطوبة واليبوسة ، كذلك لها القدرة على إدراك الثقل والخفة ، أما تفصيل ذلك 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 402 0
(2) المصدر نفسه ، ص 403 0(1/15)
أ. إدراك القوة اللامسة للحرارة والبرودة :- يكون البدن على قدر من الحرارات والبرودات ، فإذا لاقاه جسم آخر وكانت درجة حرارته أشد من حرارة البدن فأنه سوف يُزيد من سخونة البدن أما إذا كان أشد برودة من برودة البدن فأنه سوف يُزيد في برودة البدن فتحس القوة اللامسة عند ذلك أما بالحرارة إذا كان الجسم الذي لاقته أشد حرارة أو تحس بالبرودة إذا كانت برودة الجسم الذي لامسته أشد من برودة البدن وعند ذلك تشعر بالتغير وتنقل خبرها الى القوة المتخيلة التي مسكنها في مقدمة الدماغ 0 أما إذا كان الجسم مساوياً لمزاج البدن في الحرارة والبرودة فلا بد أن يكون هذا الجسم أخشن من البدن أو ألين منه فعلى الرغم من مساواته للبدن في الحرارة أو البرودة فإن القوة اللامسة تحس بذلك التغيير والاستحالة ، أما إذا كان الجسم مساوياً للبدن في هاتين الصفتين فضلاً عن مساواته بالحرارة أو البرودة فعند ذلك لا يؤثر الجسم في القوة اللامسة ، وقل ما يوجد جسمان متساويين بهذه الصفات الست من ( الحرارة والبرودة واللين والخشونة والصلابة والرخاوة ) 0
ب. إدراك القوة اللامسة للصلابة والرخاوة :- يقوم الإدراك هنا على أساس تقعر اللامسة أو تقعر الجسم الذي لاقته اللامسة ، فإذا وقع التقعير في ذلك الجسم مثلاً انغمار الإصبع في العجين فتحس القوة بذلك اللين فتؤدي خبرها الى القوة المتخيلة وتعرف بذلك أن ما لمسه جسم يتسم بالرخاوة واللين ، أما إذا وقع التقعير في البدن كملامسة الإصبع للحديد فتحس القوة اللامسة بالصلابة عند ذلك فتؤدي خبرها الى المتخيلة (1) 0
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 403 – 404 0(1/16)
ج. إدراك اللامسة للخشونة والملاسة :- إذا لاقى بدن الحيوان جسماً صلباً رُدت الأجزاء الناتئة منه بعض أجزاء البدن الى داخله ، فيصير سطح البدن خشناً ، فتحس القوة بذلك التغيير ، فتؤدي خبرها الى القوة المتخيلة ، وإذا لاقاه جسم أملس رد ما كان من أجزاء البدن ثانياً الى داخله فيصير سطح البدن أملس ، فتحس القوة بذلك التغيير 0 فموضوع الإحساس هنا يختلف حسب اختلاف أعضاء البدن من الحرارة والبرودة والصلابة والرخاوة والخشونة واللين 0 فالإنسان مثلاً إذا وضع يده على ثوب فوجده ليناً ، ثم مسحه على خده فوجده خشناً ، وذلك لأن خده ألين لمساً من يده وكذلك لو مسح مسحاً على يده لوجده خشناً ثم مسحه على رجله لوجده ليناً ، وذلك لأن الرجل أخشن من اليد (1) 0
د. إدراك القوة اللامسة للرطوبة واليبوسة :- إن البدن فيه مقدار من الرطوبة فإذا لاقاه جسمٌ يابس فإن رطوبة البدن ونداوته سوف تنشف ، فتحس عند ذلك هذه القوة بذلك التغيير 0 أما إذا لاقاه جسم رطب فإنه سيُزيد بدوره من رطوبة البدن ونداوته 0
ه. إدراك القوة اللامسة للثقل والخفة :- تحس القوة اللامسة بالثقل والخفة عند الدفع والجذب والحمل ، ومسألة الثقل والخفة للأجسام تعتمد على حالة البدن من حيث القوة والضعف فمثلاً الحيوانات ، منها ما يحمل مثل وزنه أضعافاً كالنمل ، ومن الحيوان ما لا يقدر أن يحمل غير وزن بدنه (2) ويمكن أن نقيس هذه المسألة على الإنسان فهناك أجسام تُعدّ عند بعض الناس خفيفة بينما تُعدّ عند آخرين ثقيلة ، فالحكم على خفة الجسم أو ثقله يعود الى قوة جسم الإنسان أو ضعفه 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 404 0
(2) المصدر نفسه ، ص 405 0(1/17)
2- إدراك الذائقة لمحسوساتها :- سبق وأن ذكرنا أن موضوع الذائقة أو بالتعبير العلمي الحديث حاسة الذوق هي الطعوم وهي تسعة أنواع الحلاوة والمرارة والملوحة والعذوبة والدسومة والحموضة والحرافة والعفوصة والقبوضة 0 أما الموضوع الآن فهو كيفية إدراك الذائقة لهذه الطعوم المختلفة 0 يقوم الإدراك هنا على أساس اتصال رطوبة هذه الطعوم برطوبة اللسان فتمتزجان ، فيتغير مزاج اللسان حسب ذلك الطعم ، إن كان حُلواً فحلواً ، وإن كان مرّاً فمرّاً وإن كان حامضاً فحامضاً وغيرها من الطعوم التي تمتزج رطوبتها برطوبة اللسان 0(1/18)
3- إدراك القوة الشامة لمحسوساتها :- إن محسوسات هذه القوة هي الروائح وهي قسمان كما ذكرنا ذلك سابقاً طيبة وأُخرى نتنة ، وللهواء الدور البارز في عملية الإحساس هذا ، فالأجسام ذات الروائح يتحلل منها في دائم الأوقات بخارات لطيفة تمتزج مع الهواء مزجاً روحانياً ويصبح الهواء مثلها في الكيفية إن كان طيباً فطيباً وإن كان منتناً فيحمله الهواء بنفس الكيفية وهذه الروائح تدركها الشامة في حالة استنشاق الهواء لترويح الحرارة الغريزية التي في القلب وهذا ينطبق على الحيوان الذي له رئة كما ويشمل الإنسان أيضاً ، فعند دخول الهواء المنخرين الى الخياشيم يصير الهواء الذي هناك مثلها في الكيفية فتحس القوة الشامة بذلك التغيير فتؤدي خبرها الى القوة المتخيلة ، فإن كانت طيبة استلذتها الطبيعة وأن كانت منتنة كرهتها ونفرت منها 0 وفي حديث إخوان الصفاء عن إدراك الشامة لمحسوساتها ذكروا مسألة اختلاف مشام الحيوانات للروائح من حيث اللذة والكراهية فمثلاً بعض الحيوانات تستلذ بالروائح الكريهة كالخنازير وبنات وردان والذباب ومنها ما يكره الرائحة الطيبة كالخنفساء ، كذلك الحال فيما يخص بعض الناس فمنهم من لا يستلذ برائحة المسك ويستلذ برائحة الطين وهذا ينطبق على من تغلب الصفراء عليه (1) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 406 0(1/19)
4- إدراك القوة السامعة لمحسوساتها :- جعل إخوان الصفاء من القوة السامعة متقدمة على القوة الباصرة في الحواس الظاهرة ، وذلك لأن الباصرة مقيدة باللحظة التي تبصر فيها ، ويشغلها ما تحسه بالفعل في تلك اللحظة 0 أما السامعة فهي تعي ما أحسته في الماضي وتسمع نغمات الأفلاك المتآلفة (1) 0 ولكن كلتا القوتين تدركان محسوساتهما إدراكاً روحانياً ، أما عن كيفية إدراك هذه القوة لمحسوساتها ، وموضوع إدراكها 0 أكد الإخوان على أن ما تدركه هذه القوة هو الأصوات ، وللهواء الدور البارز في نقل هذه الأصوات بأقسامها المختلفة الى السامعة 0 والأصوات نوعان كما ذكرنا وهي حيوانية وغير حيوانية فضلاً عن ذلك ومنها طبيعية وآلية ، الطبيعية كصوت الحجر والخشب والرعد والريح وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات ، أما الآلية فتشمل صوت الطبل والبوق والزمر والأوتار 0 أما الحيوانية فهي نوعان أيضاً منطقية وغير منطقية ، تشمل الثانية أصوات سائر الحيوانات غير الناطقة 0 أما المنطقية فهي أصوات الناس وهي نوعان دالة ، كالكلام والأقاويل التي لها هجاء مثل تقطيع الصياح بانضمام أجزاء الفم فتحدث منه حروف كما تضم الشفتان بنوعٍ خاصٍ فتحدث الباء وتضم بنوع آخر فتحدث الميم 0 أما غير الدالة فهي الضحك والبكاء أو كل صوت لا هجاء له 0 أما تعريف الإخوان للصوت ( بأنه قرع يحدث في الهواء نتيجة تصادم الهواء) (2) والهواء هو واسطة النقل لهذه الأصوات فهو يتسم بشدة لطافتة وخفة جوهرة وسرعة حركة أجزائه فإنه يتخلل الأجسام كلها فإذا صادم جسمٌ جسماً آخر أنسل ذلك الهواء من بينهما بحمية وتدافع وتموج الى جميع الجهات فيحدث من حركته شكل كروي يتسع كما تتسع القارورة من
__________
(1) الأستاذ ، ت ج دي بور ، تاريخ الفلسفة في الإسلام ، ترجمة محمد عبدالهادي أبو ريده ، مطبعة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ، ص 110 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 407 0(1/20)
نفخ الزجاج فيها ، وكلما أتسع ذلك الشكل الكروي ضعفت حركته وتموج الى أن يسكن ويضمحل ، وبذلك يصل هذا الصوت الى أُذنِ من كان حاضراً من الناس أو الحيوانات التي لها أُذن بالقرب من ذلك المكان (1) فيتموج الهواء في الأُذن وعند ذلك تحس القوة السامعة بتلك الحركة والتغيير 0 والأصوات يختلف بعضها عن بعضها الآخر وذلك أن لكل صوت نغمة وصيغة وهيئة روحانية خلاف الصوت الآخر وهنا يظهر دور الهواء بنقله كل صوت بهيئته وصيغته ، ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض فتفسد هيأتها الى أن يُبلغها أقصى مدى غايتها عند القوة السامعة لتؤديها الى القوة المتخيلة (2) فإخوان الصفاء أظهروا براعة ومهارة علمية أكدت المخترعات الحديثة صدق حدسهم وهذا ما نجده من خلال حديثهم عن دور الهواء في نقل الأصوات ومدى قدرته على التخلل بين الأجسام المتصادمة وأنه يتخذ حركة كروية تضيق كلما اتسعت فضلاً عن دوره بنقل كل صوت بهيئته الى القوة السامعة لتنقله بدورها الى المتخيلة (3) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، والصفحة نفسها 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 408 0
(3) عمر الدسوقي ، إخوان الصفاء ، دار نهضة مصر للطبع والنشر ، الفجالة القاهرة ، ط3 ، ص 212 0(1/21)
5- إدراك القوة الباصرة لمحسوساتها :- إن محسوسات هذه القوة عشرة أجناس وهي الأنوار والظلم والألوان والسطوح والأجسام وأشكالها وأبعادها وحركاتها وسكوناتها وأوضاعها ، والمدرك بالحقيقة والذات من هذه الأجناس هما النور والظلمة ، والفرق بينهما أن الظلمة شيء لا يُرى ولا يُرى بها شيء آخر ، أما النور فهو الذي يُرى ويُرى به شيء آخر ، ومثلما حدد الإخوان الفرق بين النور والظلمة فرقوا أيضاً بين السواد والبياض والنور والظلمة ، فالنور والظلمة لونان روحانيان ، أما السواد والبياض فهما لونان جسمانيان وعلى الرغم من وجود الفرق بينهم إلا أن هناك شبه ، فالنور مشابه للبياض ، والظلمة مشابهة للسواد فضلاً عن أن البياض يلوح على سائر الألوان كما إن في النور تُرى سائر المرئيات وفي السواد لا تتبين الألوان كما إن في الظلمة لا يُرى شيء 0 وعلى الرغم من وجود هذا التشابه بينهما وبين السواد والبياض فأن للنور والظلام خاصية يمتازان بها وهي ، إنهما يسيران في الأجسام المشفه كسريان الروح في الجسد وينسلان منهما بلا زمان (1) ولكن حاسة البصر تعتمد في إدراكها على الضوء الذي عند سريانه في الأجسام المشفه سيحمل معه ألوان الأجسام وأوصافها من أشكال وحركات 000الخ حملاً روحانياً فيحفظها بهيأتها كي لا يختلط بعضها ببعض فتفسد هيأتها كي تصل الى الحاسة الباصرة 0 وهذه الحاسة مكانها في باطن الرطوبة الجليدية التي في الحدقتين اللتين هما من أحد الأجسام المشفه وتعدان مرآتي الجسد ، وهما رطوبتان مغطاتان بغشاءين شفافين فعند سريان الضوء في الأجسام المشفه وحمله ألوان الأجسام سيتصل بالحدقتين ويسري فيهما وبذلك ستنطبع الجليدية بتلك الألوان ، وعندها تحس الباصرة بذلك التغيير فتؤدي خبرها الى المتخيلة كما تؤدي سائر القوى الحساسة أخبار محسوساتها (2) إذن إدراك
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 408 0
(2) ينظر المصدر نفسه ، ص 409 0(1/22)
البصر للمبصرات ليس قائماً على أساس أن العينين يخرج منهما شعاعان وينفذان في الهواء وفي الأجسام المشفه ويدركان المبصرات كما يدعي بعض من الذين ليس لديهم معرفة بالأُمور الروحانية ولا بالأُمور الطبيعية (1) 0 هذا فيما يخص إدراك الباصرة لمحسوساتها ولكن يجب أن لا نفهم من ذلك أن عملية الإدراك هذه تحدث كيفما اتفقت وإنما هنالك شروط يجب توافرها في عملية الإدراك هذه 0
ثانياً- الشروط التي تحتاجها الحواس في إدراك محسوساتها
__________
(1) ينظر المصدر نفسه والصفحة نفسها 0(1/23)
كل حاسة من الحواس الخمسة تحتاج في إدراكها محسوساتها الى شروط عدة لا زائدة ولا ناقصة ، فإذا انعدم واحد من هذه الشروط أو بعضها أو زادت على المقدار الذي ينبغي ، فعند هذه الحالة لا تدرك القوة الحاسة محسوساتها على حقيقتها ، مثال ذلك حاسة البصر أو بتعبير الإخوان ( القوة الباصرة ) تحتاج هذه القوة في إدراكها محسوساتها الى ضوء ما ، وبعد ما ، ومحاذاةٍ ما ، والى وضعٍ ما ، فمتى عُدم شيء منها عاقها ذلك عن إدراكها المبصرات بحقائقها 0 وذلك إن هذه القوة لا يمكنها إدراك الضياء المفرط والنور الباهر ، كما لا يمكنها إدراك المبصرات في الظلمة الظلماء 0 الإنسان مثلاً لا يمكنه النظر الى عين الشمس نصف النهار في يومٍ صائفٍ ، كما لا يمكنه رؤية الأشياء الصغيرة في الظلمة الظلماء ، ولا رؤيتها في البُعد الأبعد ، ولا في القُرب الأقرب ، إذا وضع الإنسان يده مثلاً قرب الجفن ولا يستطيع الإنسان أن يرى الأشياء من غير محاذاة كما لا يستطيع أن يرى الأشياء المتحركة حركة شديدة ، كالنبل المارّ متى رمي عن قوسٍ شديدة 0 وعلى هذا القياس حكم سائر الحواس فهي تحتاج في إدراكها محسوساتها الى شرائط عديدة ، فمتى انعدمت واحدةٍ منها أو أُنقصت عن المقدار أو زادت عليه ، عوقها عن إدراك محسوساتها (1) ولا بد من الإشارة الى مسألة مهمة أكدها إخوان الصفاء وهي أن لكل حاسة محسوسات مختصة بها بالذات ومحسوسات بالعرض ، والخطأ الذي يقع إنما يقع على المحسوسات التي بالعرض أما المحسوسات التي لها بالذات فلا تخطئ في إدراكها 0 مثال ذلك حاسة البصر فالمبصرات التي لها بالذات هي الأنوار والضياء والظُلم أما الألوان فإن ذلك لها بتوسط النور والضياء ، وأما سائر الأجسام وسطوح أشكالها وأوضاعها وأبعادها وحركاتها فهو بتوسط اللون ، وذلك أن كل جسم لا لون له ، لا يُرى ولا يدكه البصر 0 أما القوة السامعة التي
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 409 0(1/24)
لها بالذات فهي الأصوات والنغمات حسب ، والتي للذائقة هي الطعوم حسب ، والتي للشامة هي الروائح حسب والتي لللامسه كما يرى الإخوان أشياء عدة0 فضلاً عن ذلك فإن من خصائص كل قوة من هذه القوى الخمس خاصية ليست للأُخرى 0 أما الخاصية التي تعمها فهي أن هذه القوى لا تخطأ في مدركاتها ، إذا تمت شرائطها ولم يعرض لها عائق ، وخاصية أُخرى أنها لا تدرك كل واحدةٍ منها محسوسات أخواتها التي لها بالذات (1) 0
ومثلما ذكرنا الشروط التي تعصم مراعاتها الحاسة من الخطأ أجد من المناسب أن أذكر الأسباب التي تجعل إدراك هذه القوى لمحسوساتها إدراكاً خاطئاً 0
ثالثاً- الخطأ في إدراك المحسوسات
يمكن أن ننظر لهذا الموضوع من جانبين ، الجانب الأول هو خطأ إدراك الحواس نفسها والثاني الخطأ الناتج من حكم القوة المفكرة على المحسوسات 0 وعن خطأ إدراك الحواس نأخذ الباصرة ، فالبصر اعتبره إخوان الصفاء أشرف الحواس وأشدها تحقيقاً لمدركاته إلا أنه على الرغم من شرفه وتحقيقه لمدركاته فإنه كثير الزلل والسبب في كونه كثير الزلل هو إن الإنسان ربما يرى شيئاً صغيراً فيحسبه كبيراً أو بالعكس وربما يرى القريب بعيداً أو بالعكس ، كما يرى الدرهم في قعر بركة صافية الماء قريباً وكبيراً 0 كما أنه يرى في ما وراء البخار الرطب الشيء أعظم مما هو ، وربما يرى الشيء المتحرك ساكناً والساكن متحركاً ، كما يرى من يكون في الزورق إذا نظر الى الشطوط ، فإنه يرى الأشخاص الساكنة متحركة ويرى نفسه ومن معه ساكناً (2)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 411 0 كذلك ينظر ، د0 عبداللطيف محمد العبد ، الإنسان في فكر إخوان الصفاء ، مكتبة الأنجلو المصرية ، ص 170 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 410 0(1/25)
000الخ من الظواهر التي تبدو للقوة الباصرة بخلاف حقيقتها 0 أما عن الجانب الثاني من الخطأ العائد الى حكم المفكرة نأخذ هذه الأمثلة ، إذا نظر الإنسان الى ثمرة من بعيد يعلم من وقته أنها حلوة أو مرة أو طيبة الرائحة أو إنها خشنة أو لينة 000الخ من الصفات ، فعلم الإنسان لم يكن عن طريق البصر ولكن القوة المفكرة ورويتها وتجاربها وما جرت لها به العادة هي التي دفعت بالإنسان الى أن يصدر هكذا حكم (1) وإذا نظر الإنسان السراب يحسبه ماءٍ فهذا حكم خاطئ وهذا الخطأ ليس سببه الباصرة وإنما هذا الخطأ وقع في حكم المفكرة التي حكمت من دون روية ولا اعتبار وذلك لأنها اعتمدت على أثرِ حاسةٍ واحدةٍ نقلت أثرها المتخيلة الى المفكرة وبناءً على ذلك أطلقت المفكرة حكمها بأن هذا السراب ماءٌ 0 ولكي يكون الحكم صواباً يجب أن تشهد الحواس من دون الاعتماد على حاسة واحدة 0 مثال ذلك ، إذا رأت الباصرة تفاحة معمولة من الكافور ، مصبوغة كلون التفاح ، فأوردت خبرها الى المتخيلة فأوردتها هي الى المفكرة فإذا حكمت المفكرة واكتفت بما نقلت إليها المتخيلة من أثرٍ حاسةٍ واحدةٍ وهي الباصرة فسوف تحكمُ خطأ بأنها تفاحة وكي تتجاوز المفكرة مثل هذا الخطأ يجب أن تتأكد من طعمها عن طريقِ الذائقةِ ومن رائحتها بواسطة القوة الشامة وتتأكد من ملمسها عن طريق القوة اللامسة فإذا نقلت هذه المحسوسات كلها خبرها الى المتخيلة واتحدت كلها بأنها تفاحة فعند ذلك تنقل المتخيلة خبرها الى القوة المفكرة وعند ذلك تصدر حكمها بشكلٍ صحيح فأن أيدت الحواس كلها بأنها تفاحة فهي تفاحة حقيقية وإن لم تتفق فهي بالتأكيد تفاحة مصطنعة 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 411 0(1/26)
ومن أجل هذه العلة كما يقول إخوان الصفاء مُنعت القوة الناطقة من أن تعبر على ألسنة الأطفال لأن المفكرة لم تحكم بعد معانيها فإذا مضت سنون التربية عندها يطلق لسان المولود بالعبارة والبيان عن معاني المحسوسات التي أدتها الحاسة المفكرة (1)
رابعاً- النفس والقوى الحساسة
لقد تكلم إخوان الصفاء عن القوى الحساسة الخمس وهي الحواس الظاهرة وأوضحنا كيف تعمل هذه القوى في إدراك محسوساتها بالشروط اللازم توافرها في عملية الإدراك الحسي ، كما تكلمنا عن الأخطاء التي تقع بالإدراك ، وسوف نستعرض الآن النفس والقوى الحساسة الخمس أي الحواس الظاهرة 0 إن هذه القوى الحساسة هي ليست من أجزاء النفس كما يقول إخوان الصفاء ، وإنما هي النفس عينها ولكن سبب تسميتها بهذه الأسماء المختلفة يعود لإختلاف أفعال هذه القوى ، فإنها إذا فعلت الإبصار سميت الباصرة ، وإذا فعلت الإسماع سميت السامعة ، وإذا فعلت الذوق سميت الذائقة ، وهكذا إذا فعلت في الجسم النمو سميت النامية ، وإذا فعلت في الجسم الحس والحركة سميت حيوانية ، وإذا فعلت الفكر والتمييز سميت ناطقة 0 أذن اختلاف الأسماء لهذه القوى يعود الى اختلاف أفعالها واختلاف أفعالها حسب اختلاف أعضاء الجسد ، كما إن اختلاف أفعال الصُّناع يكون حسب اختلاف أدواتهم ، فالنجار مثلاً ينحت بالفأس وينشر بالمنشار وكذلك الحداد يطرق بالمطرقة ويبرد بالمبرد 0 وعلى هذا القياس سائر الصناع تختلف أفعالهم في صنائعهم حسب اختلاف أدواتهم0 وهكذا تختلف أفعال النفس في الجسد حسب إختلاف أعضائه ، لأن أعضاء الجسد للنفس بمنزلة أدوات الصانع (2)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 412 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 410 0(1/27)
0 وفي موضعٍ آخر وصف الإخوان قوى النفس هذه وأفعالها المختلفة بخمسة أنبياء شرائعهم مختلفة وما يفصل بينهم في هذه الأحكام المتباينة هو الله عزّ وجلّ وكذلك فأن هذه الحواس على الرغم من اختلافها فمرجعها الى النفس الناطقة ، وهذا نص قولهم ( وما مثل النفس مع قواها الخمس الحساسة ، واختلاف طرائق محسوساتها ، وما تحت كل جنسٍ منها مع الأنواع والأشخاص المختلفة الأشكال المتباينة الهيئات ، إلا كخمسة من الأنبياء أولي العزم من الرُسل ، مرسلهم واحد وشرائعهم مختلفة وتحت كل شريعة مفروضات خفية وأحكام متباينة وسُنن متغايرة ، وتحت أحكامها لهم أقوال ومعانٍ لا يحصي عددها إلا الله عزّ وجلّ ، ليفصل بينها فيما اختلفت فيه ، فهكذا علم هذه المحسوسات كلها ، ومرجعها الى النفس الناطقة لتميز بعضها من بعض وتعرفها واحداً واحدا بحقيقته وتحكم على جميعها ، وتبين لها منازلها ) (1) 0
وبعد أن أتضح لنا أن النفس واحدة ولكن قواها متعددة وأن هناك علاقة قائمة بين النفس وقواها الحساسة الخمسة ، فإن هناك مماثلة أو تشابه بين هذه القوى الخمس والطباع الخمسة في جسم العالم 0
خامساً- مناسبة الحواس الظاهرة للطباع الخمسة في جسم العالم
__________
(1) الرسالة الجامعة ، المنسوبة للمجريطي ، ج1 ، تحقيق جميل صليبا ، مطبعة الترقي بدمشق ، 1949 ، ص 602 0 ينظر كذلك ، جبور عبدالنور ، إخوان الصفاء ، دار المعارف بمصر ، 1961 ، ص 45 0(1/28)
الحواس الخمس الموجودة في الإنسان المستوي البنية ، التام الخلقة مناسبة للطباع الخمس في جسم العالم الذي هو الإنسان الكبير ، فحاسة اللمس مناسبة لطبيعة الأرض ، لأن الإنسان يحس بجسمه كله 0 وحاسة الذوق التي هي اللسان مناسبة لطبيعة الماء ، إذ بالمائية والرطوبة التي في اللسان والفم تدرك طعوم الأشياء ، وحاسة الشم مناسبة لطبيعة الهواء لأن القوى الكامنة هوائية وهي المستنشقة للهواء وبه تدرك روائح الأشياء 0 والحاسة الباصرة مناسبة لطبيعة النار ، إذ بها وبالنور تُدرك محسوساتها 0 والحاسة مناسبة لطبيعة الفلك الذي هو مسكن الملائكة وشعار الملائكة وشغلهم ليلهم ونهارهم وكلامهم كله تقديس وتسبيح وتهليل ، ويلتذ بعضهم بسماع بعض ويقوم لهم في ذلك العالم العلوي مقام النداء الجسماني في العالم السفلي وذلك أن حاسة السمع محسوساتها كلها روحانية (1)
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 124 0(1/29)
ولذلك قيل أن فيثاغورس الحكيم سمع بصفاء طبيعته وصفاء جوهرة نغمات الأفلاك (1) وإنه إستخرج الآلة الموسيقية التي هي العود ، وإنه أول من ألف الألحان (2) ومن بعده من الحكماء الذين اقتدوا به وبان لهم حقيقة ما وصفه ، فصدقوه وتابعوه واتسعوا في
__________
(1) يقول الفيثاغوريون ، إن لحركات الأفلاك نغمات وحجتهم في ذلك أن الجسم إذا تحرك بشيء من السرعة أحدث صوتاً هو صوت اهتزاز الهواء أو الأثير ، فلا بد أن يكون لحركات الأفلاك في الأثير العلوي أصوات 0 وتتفاوت سرعة الأفلاك بتفاوت مسافاتها ، كما تتفاوت في العود سرعة الاهتزاز بتفاوت طول الأوتار ، فلا بد أن يكون في السماء ألحان كألحان العود وأن كنا لا نشعر بها فذلك لأننا نحسها باتصال والصوت لا يشعر به إلا بالإضافة الى السكون 0 يوسف كرم ، تأريخ الفلسفة اليونانية ، دار القلم بيروت، لبنان ، ص 26 0 ويشترك الإخوان مع الفيثاغورية في هذه الفكرة أي أن لحركات أشخاص الأفلاك أصواتاً ونغمات وأن سكان الأفلاك هم ملائكة الله وخالص عباده ، وتسبيحهم ألحان أطيب من قراءة داود للزبور في المحراب ونغمات ألذ من نغمات أوتار العيدان في الإيوان العالي 0 ينظر رسائل إخوان الصفاء ج1 ، ص 206 0
(2) يُعد فيثاغورس أول مكتشف للأوتار المنتظمة التي تتناسب أطوالها فتحدث أصواتاً مؤتلفة ، أو بالأحرى انه المبتكر للسلمّ الموسيقي ، بمعنى أن اختلاف النغمة تابع لاختلاف طول الوتر ، وقاده هذا الموقف الى معرفة الوسط التوفيقي Harmonic Analogia وحدوده الثلاثة 0 بحيث يكون زيادة الأول هي زيادة الثاني عن الثالث قياساً الى الثالث معتمداً في موقفه هذا على التناسق الرياضي بالذات 0 د0 جعفر آل ياسين ، فلاسفة يونانيون من طاليس الى سقراط ، منشورات عويدات ، بيروت لبنان ، ط1 بغداد ، 1971 0 كذلك ينظر د0 محمد علي أبو ريان ، تأريخ الفكر الفلسفي من طاليس الى أفلاطون ، ج1 ، ط 3 ، دار المعارف بمصر ، 1968 ، ص 64 0(1/30)
فعل ذلك ، كل بقدر ما اتسع له زمانه وساعده فيه مكانه (1) وجدير بالذكر أن هذه الحواس الخمس لا يقتصر دورها على الإدراك الحسي حسب وإنما لها دورها البارز في التأثير في الحالات الشعورية للإنسان وهذا يظهر من خلال أثر المحسوسات في الحواس وما يترتب عليه من لذة أو ألم 0
سادساً- دور الحواس في إدراك اللذة والألم
قبل تحديد دور الحواس بإدراك اللذة والألم لا بد من الإشارة الى معنى اللذة والألم وهما غير مقصورين على الإنسان وحده وإنما تشترك معه الحيوانات 0 يرى إخوان الصفاء أن الحيوانات في دائم الأوقات لا تخلو من اللذة والألم والتعب والراحة ، لأن أبدنها مركبة من مزاج الأُمهات الأربع ، وهي الأخلاط الأربعة وهذه الأخلاط متضادات في الطباع من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وهي كلها في التغيير والاستحالة بين الزيادة والنقصان ، وهما يخرجان المزاج تارةٍ من الاعتدالِ الى الزيادةِ في أحد الأخلاط والطباع ، أو الى النقصان في واحدٍ منها 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 125 0(1/31)
أما تعريف اللذة عند الإخوان فهي :- رجوع المزاج الى الاعتدال بعدما كانت خارجه عنه ، فمن أجل هذا لا يحس الحيوان باللذة إلا بعد ما يتقدمها ألم 0 أما دور الحواس في هذه المسألة ، فكل محسوس يُخرج المزاج من الاعتدال فأن الحاسة تكرهه وتتألم منه ، وكل محسوس يردّ المزاج الى الاعتدال ، فإن الحاسة تحبه وتلتذ به 0 أما تعريف الإخوان للراحة التي لا يخلو البدن من أن يمر بها :- بأنها الثبات على الصحة والاعتدال 0 أما التعب فعرفوه :- بأنه التردد بين الألم واللذة (1) أتضح لنا من خلال حديث إخوان الصفاء أن هناك محسوسات تؤثر بدورها في الحواس سلباً وإيجاباً ، أما التي يكون تأثيرها سلبياً في الحواس فأن الحواس تكرهها لإنها سوف تؤدي بدورها الى تغيير أخلاط الجسم عن اعتدالها وبذلك يحص الألم للبدن 0 أما المحسوسات التي لها التأثير الإيجابي في الحواس فأنها تؤدي بدورها الى إعادة الأخلاط لحالتها المعتادة ويتولد عن ذلك اللذة لهذا الجسم الذي أدركت حواسه هذه المحسوسات 0 وفي حديثنا عن دور الحواس في المعرفة ظهر لنا أن المحسوسات التي تدركها الحواس تتحول الى معرفة أولى بالعالم أما في موضوع الشعور باللذة والألم فأن إدراك الحواس لمحسوساتها سوف يتحول الى حالة شعورية كيفيه مؤداها الراحة أو التعب أو اللذة أو الألم وتغير الأخلاط ، وهذا هو معنى الإحساس 0 فالإحساس عند إخوان الصفاء ( إنما هو شعور القوى الحساسة بتغيير تلك الأمزجة ) (2) 0
قوى النفس التي تدرك محسوساتها إدراكاً روحانياً ( الحواس الباطنة )
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 413 0
(2) ينظر المصدر نفسه ونفس الصفحة 0(1/32)
بعد حديث الإخوان عن معنى قول الحكماء إن العالم إنسان كبير ، تكلموا بعد ذلك عن العقل والمعقول في الرسالة الرابعة من النفسانيات والعقليات 0 فوصفوا النفس الإنسانية بأنها فاضت من النفس الكلية وبينوا كذلك أن العقل أيضاً هو قوة من قوى النفس الكلّية 0 وبعدها خاض الإخوان بموضوع قوى النفس الإنسانية معللين ذلك ، بإن الجواهر الروحانية لا تُدرَك بالحواسّ ، ولا تُعرف إلا بما يصدر عنها من الأفعال والأعمال حسب القوى وبناءً على ذلك احتاجوا الى ذكر كمية قوى النفس ووصفِ أفعالها وعجائبِ صنائعها 0 وعن قوى النفس الإنسانية قالوا ما نصه ( وأعلم يا أخي أن للنفس الإنسانية قوى كثيرة لا يحصي عددها إلا الله جلّ ثناؤه ، وأن لها بكل قوةٍ ، في عضو من أعضاء الجسد ، فعلاً بخلاف عضوٍ آخر 0 وقد بينا طرفاً من ذلك في رسالة تركيب الجسد ، وطرفاً في رسالة الحاس والمحسوس ، وطرفاً في رسالة الإنسان عالم صغير 0 ووصفنا فيها أن نسبة القوى الحساسة الى النفس فيما يأتون به إليها من أخبار محسوساتها كنسبة أصحاب الأخبار للملك وقد ولَّى كل واحد منهم ناحية من مملكته ليأتوا بالأخبار للملك وقد ولَّى كل واحد منهم ناحية من مملكته ليأتوه بالأخبار من تلك النواحي 0 وذكرنا فيها أيضاً أن لها خمس قوى أخرى نسبتهن إليها كنسبة الندماء الى الملك وهي القوة المفكرة ، والقوة المتخيلة ، والقوة الحافظة ، والقوة الناطقة ، والقوة الصانعة ) (1) أما أماكن هذه القوى من الدماغ وتفاوتها من حيث الأهمية ، فقد قالوا عن القوة المفكرة ( أعلم يا أخي أن القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ ، من بين هذه القوى كالملك وسائرها لها كالجنود والأعوان والخدم والرعية ، يتصرفون بأمرها ونهيها فيما يفعلون في أعضاء الجسد من الحركات وما يُظهرون من الصنائع والأعمال ؛ وأن موضعها من بين مواضع سائر القوى في أشرف عضوٍ من
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 241 0(1/33)
الجسد وأخص مكان منه ، كما أن دار الملك في أشرف مدينة من بلدان مملكته ، وفي أجلَّ موضعٍ من المدينة ، وفي أشرف بقعةٍ منها ) (1) فضلاً عن ذلك أن أفعال هذه القوى الخمس أشرف من أفعال سائر الجسد 0 أما القوة المتخيلة فمسكنها مقدمة الدماغ ونسبة هذه القوة الى القوة المفكرة بما تجمع إليها من أخبار المحسوسات كنسبة صاحب الخريطة الى الملك 0 أما القوة الحافظة فمسكنها مؤخَّرة الدماغ ، ونسبتها الى المفكرة ، كنسبة الخازن الحافظ ودائع الملك 0 أما القوة الناطقة فمجراها على اللسان ونسبتها الى المفكرة كنسبة الحاجب والترجمان الى الملك 0 أما القوة الصانعة فمجراها اليدان والأصابع ونسبتها الى المفكرة كنسبة الوزير المعين له في تدبير مملكته والمساعد له في سياسة رعيته (2) إن ما قاله الإخوان لا يختلف من حيث الجوهر مع ما توصلت إليه وجهة النظر الحديثة ، لو أنهم استبدلوا بمصطلح الدماغ وبمصطلح القوة الحساسة مصطلحات أعضاء الحس ، الحواس أو المحللات بتعبير بافلوف ، وبمصطلح القوة المفكرة والمتخيلة والحافظة والناطقة ، مصطلح الوظائف أو العمليات العقلية أو المخية العليا (3) 0
أولاً – خصائص القوى الروحانية الخمس
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 242 0
(2) المصدر والصحة نفسهما 0
(3) د0 نوري جعفر ، الإبداع وآليات الدماغ في التراث السايكلوجي عند العرب كما ورد في رسائل إخوان الصفا ، مجلة آفاق عربية ، السنة الثالثة ، العدد السادس ، شباط ، 1978 ، ص 52 – 53 0(1/34)
إن لهذه القوى الروحانية خصائص عديدة تتميز بها إذ تختلف عن خصائص القوى الحساسة الظاهرة ( الحواس الظاهرة ) ومن هذه الخصائص إنها تدرك رسوم المعلومات إدراكاً روحانياً من غير هيولاتها وبذلك اختلفت عن القوى الحساسة التي لا تدرك محسوساتها إلا في الهيولى 0 ومن خصائص هذه القوى الروحانية أنها تتناول رسوم المعلومات بعضها من بعض على غير سيرة الحساسة ، وذلك أن كل واحدة من القوى الحساسة مختصة بإدراك جنس من المحسوسات ، وذلك أن الباصرة مثلاً لا تدرك الأصوات ولا الطعوم ولا الروائح ولا الملموسات إلا الألوان 0 وكذلك السامعة لا تدرك الألوان ولا الطعوم ولا الروائح ولا الملموسات إلا الأصوات 0 وهكذا الحال فيما يخص الشامة والذائقة واللامسة وكل واحدة لا تشارك غيرها في محسوساتها0 أما القوى الروحانية الخمس فإنها كالمتعاونات في إدراكها رسوم المعلومات ، وذلك إن القوى المتخيلة إذا تناولت رسوم المحسوسات كلها وقبلتها في ذاتها كما يقبل الشمع نقش الفص ، فإن من شأنها أن تناولها كلها الى القوة المفكرة من ساعتها ، فإذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها ، بقيت تلك الرسوم مصورة صورة روحانية في ذاتها ، كما يبقى نقش الفص في الشمع المختوم مصوراً بصورةٍ روحانيةٍ مجردةٍ عن هيولاتها ، فيكون عند ذلك لها كالهيولى وهي فيها كالصورة ، والمفكرة من شأنها أن تنظر الى ذاتها وتراها معاينةٍ وتتروى فيها وتميزها ، وتبحث عن خواصها ومنافعها ومضارها ، ثم تؤديها الى القوة الحافظة لتحفظها الى وقت التذكار 0 ثم إن من شأن القوة الناطقة والتي مجراها على اللسان إذا أرادت الإخبار عنها والإنباء عن معانيها والجواب للسائلين عن معلوماتها ، ألقت لها ألفاظاً من حروف المعجم ، وجعلتها كالسمات لتلك المعاني التي في ذاتها ، وعبرت عنها بالقوة السامعة من الحاضرين (1) أن قول الإخوان هذا يُعبرُ عن
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 414 0(1/35)
مدى دقةِ تفكيرهم وقد ذهب الى قولهم هذا العالم الألماني جون فردريك هربرت (1) إذ قال إن قوى النفس الإنسانية تتحد وترتبط بعضها ببعض ارتباطاً متيناً لكي تتناول صور المعلومات (2) وإذا أمعنا النظر في رسائلهم نجدهم دونوها بعد بحثٍ دقيق وفي جملة ذلك آراء لم يصل أهل هذا الزمان الى أحسن منها ، وفيها بحث مستفيض من قبيل النشوء والارتقاء (3) 0
__________
(1) فيلسوف وعالم نفس ولد سنة 1776 وعمل أستاذاً بجامعة جوتنجن عام 1805 ثم عمل بجامعة كونجسبرج وله مؤلفات عديدة منها ( ما بعد الطبيعة ) و ( علم النفس مؤسساً للمرة الأولى على التجربة والميتافيزيقا والرياضة ) و ( موجز علم النفس ) توفى سنة 1841 0 يوسف كرم ، تأريخ الفلسفة الحديثة ، ص 295 0
(2) فؤاد البعلي ،فلسفة إخوان الصفاء الاجتماعية والأخلاقية ، دار المعارف بغداد 1958 ، ص 118 0
(3) محمد لطفي جمعه ، تأريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب ، 1927 ، ص 254 0(1/36)
1- القوة المتخيلة:- تعد القوة المتخيلة أول القوى الروحانية في المعرفة بعد الحواس الخمس الظاهرة وكثيراً ما تكرر القول بإن الحواس الخمس تنقل أثر محسوساتها الى القوة المتخيلة ، فالسؤال الآن هو كيف تتعامل هذه القوة مع المحسوسات ؟ للإجابة عن ذلك هو أن القوة المتخيلة التي مكانها في مقدمة الدماغ حيث تنتشر في هذه المقدمة عصبات لطيفة لينه تتصل بأصول الحواس وتتفرق وتُنسج في أجزاء الدماغ مثل نسيج العنكبوت ، فعند إنتقال أثر المحسوسات في الحواس وتغير مزاج الحواس يصل ذلك التغيير الى الأعصاب التي في مقدمة الدماغ والتي منشئوها من هناك كلها فتجتمع آثار المحسوسات كلها عند القوة المتخيلة كما تجتمع رسائل أصحاب الأخبار عند صاحب الخريطة ، فينقل تلك الرسائل كلها الى حضرة الملك ( أي القوة المفكرة ) فيقرؤها ويفهم معانيها ثم يسلمها الى خازنه ليحفظها الى وقت الحاجة إليها حيث قال الإخوان ( فهكذا حكم القوة المتخيلة إذا اجتمعت عندها آثار هذه المحسوسات التي أدت إليها القوة الحساسة ، دفعتها الى القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ ، لتنظر فيها وترى في معانيها ، وتعرف حقائقها ومضارها ومنافعها ، ثم تؤديها الى القوة الحافظة لتحفظها ) (1) هذا فيما يخص إدراك هذه القوة 0 أما أفعالها وخواصها فإن لها خواص عجيبة وأفعالاً ظريفة ومن أفعال هذه القوة :-
أ. تناولها رسوم سائر المحسوسات جميعها ، وتخيلها بعد غيبة المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص411 0(1/37)
ب. إنها تتخيل وتتوهم ما له حقيقة وما لا حقيقة له ، فالقوة المتخيلة تتعامل مع صور مجردة من الهيولى فتقوم بتأليف الصور المختلفة وتركيبها ، مثال ذلك ، إن الإنسان يتخيل بهذه القوة جملاً على رأس نخلة أو نخلة ثابتة على ظهر جمل ، أو فرساً بجناحين 000الخ وما شاكل هذه مما يعمله المصورون والنقاشون من الصور المنسوبة الى الجن والشياطين وعجائب البحر مما له حقيقة ومما لا حقيقة له (1) وحدد إخوان الصفاء سببين لتصور الإنسان لهذه الأشياء 0 السبب الأول إن هذه المتخيلات يجتمع عندها مواد كثيرة من رسوم المحسوسات مع اختلاف أجناسها وفنون أنواعها وسائر أشخاصها ، فهي يمكنها بهذا السبب أن تُركب منها ضروب التراكيب مما له حقيقة ومما لا حقيقة له0 أما السبب الثاني فهو إن النفس لشرف جوهرها ولطافتها وشدة روحانيتها وسهولة قبولها رسوم المعلومات في ذاتها وتصورها لها ، وذلك أن كل هيولى تكون ألطف جوهراً وأشد روحانية ، فإنها تكون لقبول الصور أسرع انفعالاً وأسهل قبولاً ، مثلاً الماء العذب بوصفه ألطف جوهراً من التراب صار لقبول الطعوم والأصباغ أسرع انفعالاً وأسهل قبولاً لنظافته وعذوبته وسيلانه0 ولما كان الهواء ألطف جوهراً من الماء صار لقبول الأصوات والروائح أسرع انفعالاً وأسرع قبولاً 0 ولما كان الضياء والنور ألطف من الهواء صار قبوله للأشكال والألوان أسرع 0 أما جوهر النفس فأنه ألطف وأشد روحانية بكثير من جوهر النور والضياء 0 والدليل على ذلك قبولها رسوم سائر المحسوسات والمعقولات جميعها 0 فلهاتين العلتين صار الإنسان بالقوة المتخيلة يقدر على أن يتوهم ويتخيل ما لا يقدر عليه بالقوى الحساسة ( الحواس الظاهرة ) لأن هذه روحانية وتلك جسمانية ، ولأنها تدرك محسوساتها في الجواهر الجسمانية من خارج ، أما القوة المتخيلة فهي تتخيلها وتتصورها في ذاتها 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 416 0(1/38)
ج. ومن خصائص هذه القوة أنها تعجز عن تخيل شيء لم تؤدَّ إليه حاسة من الحواس (1) وذلك أن كل حيوان لا بصر له فهو لا يتخيل الألوان ، وما لا سمع له فلا يتخيل الأصوات ولا يتوهمها ، وذلك لأن التخيل أبداً في تصوره للأشياء تبع الإدراك الحسي ، والعقل في استنباطها تبع الدليل النفسي وبما أن الإنسان يفهم الكلام أمكنه أن يتخيل المعاني إذا وصفت له 0
د. ومن عجائب أفعال هذه القوة أيضاً أنها تُركب القياسات وتحكم بها على حقائق الأشياء بلا روية ولا اعتبار مثل ما يفعل الصبيان والجّهال وكثير من العقلاء (2) مثال ذلك أن الطفل إذا نشأ ورأى والديه وتأملهما وميز بينهما ، ثم رأى صبيّاً آخر مثله حكم بتوهمه بإن لذلك الصبي مثل ما له قياساً الى نفسه من غير فكر ولا روية ولا تأمل 000الخ من القياسات 0 كذلك نجد الكثير من العقلاء يصدرون أحكامهم على أشياء من دون روية ولا تفكير كمن يرى في بلاده ليلاً أو نهاراً أو صيفاً أو شتاءً أو إن الجو ممطراً أو صحواً حكم بأن سائر البلدان كذلك 0 وقد أرجع إخوان الصفاء سبب ذلك أن هذا الشخص ليس لديه علم أو نظر في علم الرياضيات من الهندسيات والطبيعيات 0 وأضافوا أيضاً أن بعض المرتاضين بهذه العلوم تحصل لديهم قياسات خاطئة ، فبعضهم يظن أنه ليس خارج العالم فضاء بلا نهاية قياساً الى ما يجدون خارج بلدانهم من سعة الأرض ، ومن وراءها سعة الهواء ، ومن وراءها سعة الأفلاك 0 وهكذا أيضاً إذا تفكروا في كيفية حدوث العالم وخلق السماوات والأرض ، ظنوا وتوهموا أن ذلك كان في زمان ومكان قياساً على أفعال البشريين وإذا سمعوا من أهل البصائر قولهم بأن العالم لا في مكان لا يتصورون كيفية ذلك ، فإذا قيل لا في زمان ظنوا وتوهموا أنه قديم بلا حجة ولا برهان (3) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 217 0
(2) المصدر نفسه ، ص 218 0
(3) المصدر نفسه ، ص 219 0(1/39)
ه. ومن عجائب هذه القوة أن بعض الناس يؤثرون في غيرهم بأوهامهم أشياء عجيبة ينكرها أكثر الناس وهذا ما عمل به قوم من الكهنة من أهل الهند (1) من غير المسلمين 0
2- القوة المفكرة :- يأتي دور القوة المفكرة في المعرفة بعد أن تقوم المتخيلة بنقل رسوم المحسوسات إليها ، أي الى القوة المفكرة 0 فإذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها ، فإن رسوم تلك المحسوسات تبقى في فكر النفس مصورة صورة روحانية ، فيكون جوهر النفس لتلك الرسوم المصورة فيها كالهيولى ، وهي فيها كالصورة 0 مثال ذلك أن الإنسان إذا دخل مدينة من البلدان ، وطاف في أسواقها ومحالها ، ونظر الى طرقاتها وشاهد أهلها وهيئاتهم وسمع أقاويلهم وعرف شمائلهم ثم خرج من هذه المدينة ، وغابت مشاهدة حواسّه لها ، فإنه كلما فكر في تلك المدينة وما شاهد فيها تخيلها وكأنه يراها معاينة ، فهذه الفكرة تمثل لمحات النفس الى ذاتها 0 وتخيلها لصور تلك المدينة وما رأى فيها من الموجودات ليس شيئاً سوى صور تلك الموجودات إنطبعت في جوهر النفس كما ينطبع نقش الفص في الشمع المختوم 0 فإذا حصلت رسوم تلك المحسوسات في جوهر النفس ، فإن أول فعل القوة المفكرة فيها هو تأملها واحدةً واحدة لتعرف معانيها وكمياتها وكيفياتها وخواصها ومعرفة النافع من الضار منها ، فعندما يحصل لها العلم بهذه المعاني عند ذلك أودعتها القوة الحافظة الى وقت التذكار ، فمتى ما أراد الإنسان الأخبار عن معلوماته للمخاطبين فعند ذلك تستعين القوة المفكرة بالقوة الناطقة في النيابة عنها بالجواب لغيرها كما يستعين الملك بحاجبة وترجمانه بالنيابة في الخطاب لغيره (2) فلهذه القوة أفعالٌ كثيرة تستغرق فيها أفعال سائر القوى ويمكن تقسيمها الى أفعال تخصها بمجردها أي من دون مساعدة القوى الأُخرى ، وأفعال تشترك بها مع قوىٍ أُخرى 0 أما التي تشترك
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 218 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 243 0(1/40)
بها مع القوى الأُخرى فمنها الصنائع كلها إذ تشترك بينها وبين القوى الصناعية ومنها الكلام والأقاويل أي أقاويل اللغات وهي تشترك مع الناطقة بذلك 0 ومنها تناول رسوم المعلومات المحفوظة وهي تشترك بينها وبين القوة الحافظة (1) أما الأفعال التي تقوم بها القوة المفكرة من دون مساعدة أي حاسة أُخرى من القوى فهي الفكر والروية والتصور والاعتبار والتحليل والتركيب والجمع والقياس ، وكذلك الفراسة والزجر والتكهن والخواطر والإلهام وقبول الوحي وتخيل المنامات (2) 0 أما تفصيل هذه الأفعال ، ففي الفكر إستخراج الغوامض من العلوم ، وبروية تدبير المُلك وسياسة الأُمور ، وبالتصور إدراك حقائق الأشياء ، وبالاعتبار معرفة الأُمور الماضية من الزمان ، وبالتركيب استخراج الصنائع أجمع وبالتحليل معرفة الجواهر البسيطة والمبادئ ، وبالجمع معرفة الأنواع والأجناس ، وبالقياس إدراك الأُمور الغائبة بالزمان والمكان ، وبالفراسة معرفة ما في الطبائع من الأمور الخفية ، وبالزجر معرفة حوادث الأيام ، وبالتكهن معرفة الكائنات بالموجبات الفلكية ، وبالمنامات معرفة الإنذارات والبشارات وبقبول الخواطر والإلهام والوحي معرفة وضع النواميس وتدوين الكتب الإلهية وتأويلاتها المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون من أدناس الطبيعة الذين هم أهل البيت الروحانيون (3) 0 هذا فيما يخص أفعال هذه القوة أوردناها بصورةٍ مختصرةٍ 0 أما الآن فنود الإشارة الى مسألة جديرة بالذكر ألا وهي دور المفكرة في الحكم على المحسوسات 0 فقد سبق أن ذكرنا في حديثنا عن الحواس الظاهرة أن الخطأ في الإدراك قد يقع من الحواس نفسها أو من حكم المفكرة باعتمادها على حاسةٍ واحدةٍ 0 أما الآن فسوف نُشير الى دورها بالحكم الصائب في عملية
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 245 0
(2) د0 عبداللطبف محمد العبد ، الإنسان في فكر إخوان الصفاء ، ص 176 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 422 0(1/41)
الإدراك وإن كنا تكلمنا عن ذلك مسبقاً ولكننا سنبينه بشكلٍ أوسع 0 يرى إخوان الصفاء إن هذه القوة من بين سائر القوى الحساسة والمتخيلة ومدركاتها كالقاضي بين الخصماء ودعاويهم، وذلك أن من سُنة القاضي أنه لا يحكم بين الخصوم إلا على سبيل معرفة شرعية ، وضعية، معروفة بينهم، أو مقاييس عقلية متفق عليها بين الخصمين ، كما لا يقبل الدعاوى إلا بالشهود والصكوك ، وموازين ومكاييل معلومة معروفة بين الخصماء 0 وهكذا حكومة هذه القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ ، وقضاياها بين مدركات الحواس ومتخيلات الأوهام ، فيما يدعي العقلاء بينهم من المنازعات والخصومات، في الآراء والديانات والمذاهب ، فهي لا تحكم لأحدٍ من الخصمين بالصواب أو بالخطأ إلا بعد شهادة شاهدين من الحواس الخمس أو نتائج مقدمات جزئية من أوائل العقول 0 ويضرب الإخوان مثلاً لذلك ، أن رجلين اختلافا بالحكم على لون شراب معين فحكم أحدهما بأن ذلك لون الماء أما الآخر فأبى ، وعندما تحاكما الى القوة المفكرة ، فالمفكرة هنا لا تحكم لأحدهما بالخطأ أو بالصواب إلا بعد شهادة شاهدين من الحواس والشاهدان هما القوة الذائقة والباصرة 0 فالذائقة تذوقت طعمه والباصرة شاهدت لونه وهكذا اختلفت ألوانهما ، اختلفا بالأشياء التي يشبه لونها لون الماء وملمسها ملمس الماء فالقوة المفكرة لا تحكم عليه بأنه ماء أو لا إلا بعد شهادة القوة الذائقة والشامة بماهيتهما كاختلافهما مثلاً في ماء الورد أو النفط الأبيض فيحسبانه ماءً (1)
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 130 – 131 0(1/42)
0 ونود أن نختم حديثنا عن دور المفكرة في فهم معاني الأصوات 0 فماهية صوت الإنسان أنه غرض مفهوم دال على معنى فالقوة المفكرة تحتاج الى أن تفكر فيه وتبحث عن معناه أما أصوات الحيوانات فهي غير مفهومة ولكن القوة المفكرة تحكم عليها إنها ما صوتت إلا لحاجةٍ ما من أكل أو شرب 000الخ أما صوت الحجارة والخشب ، فالقوة المفكرة لا تقضي عليها بأنها ما بدت لغرض ولا لقصد إلا أن تكون آلية لحركة الإنسان مثل البوق والزمر 000الخ وأنها تنسبها الى سبب تصويتها فكل هذه أصوات إنسانية أودعتها النفس الجزئية هذه الأشكال النباتية بالصناعة التي اتخذتها للمعاش 0 أما صوت هبوب الرياح والرعد وخرير الماء واضطراب موج البحر واهتزاز الأشجار فأن النفس لا تعبأ بذلك (1) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 131 0(1/43)
3- العقل واللغة ( القوة الناطقة ) :- تأتي بالترتيب بعد القوة المفكرة ،القوة الحافظة وموقع هذه القوة في مؤخرة الدماغ ووظيفتها حفظ الأفكار التي تأخذها من المفكرة أو هي كالخازن الحافظ ودائع الملك ، حسب تعبير إخوان الصفاء 0 أما القوة الناطقة فمجراها اللسان ، وذكرنا أن القوة المفكرة تستعين بالقوة الناطقة للنيابة عنها في الجواب والخطاب ، وسنعرض كيفية عمل هذه القوة 0 إذ تقوم هذه القوة بتأليف ألفاظ من حروف المعجم وبنغمات مختلفة السمات التي هي الكلام ، فتضمن تلك الألفاظ للمعاني ، وهذه المعاني مصورة عند القوة المفكرة فتدفعها عند ذلك الى القوة المعبرة لتخرجها الى الهواء بأصوات مختلفة لتحملها الى مسامع الحاضرين (1) وقد عدّ إخوان الصفاء هذه الألفاظ المؤلفة من الحروف المختلفة الأشكال والسمات كالجسد المركب من أعضاء مختلفة وعدّوا المعاني المُضمنة في الألفاظ كالروح لهذا الجسد ، فكل لفظ لا معنى له هو بمنزلة جسد لا روح فيه وكل معنى في فكر النفس وليس له لفظ يعبر عنه فهو بمثابة روح لا جسد لها 0 ويرى الإخوان بما أن الصوت لا يمكث في الهواء طويلاً بوصفه جسماً سيالاًفإن هذه القوة أي المفكرة احتالت بحيلةٍ أُخرى بفضلِ نِعم الله سبحانه وتعالى ، فاستعانت بالقوة الصناعية التي أسهمت بدورها في نقش حروفٍ خطوطية بالقلم تحاكي معاني الحروف اللفظية فألفّتها ضروبات التأليف،حتى صارت كتاباً مكتتباً فأودعتها وجوه الألواح والصحف 0 والغرض من ذلك هو أن يبقى
العلم مفيداً فيبقى أثراً من الماضين الى الغابرين وتراثاً من الأولين للآخرين كذلك يجعل ما خلفه الحاضرون تراثاً للاحقين لهم وهذه من نِعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان (2)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 244 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 244- 245 0(1/44)
واستشهدوا بقوله تعالى ): ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (1) 0 فضلاً عن ذلك فإن إخوان الصفاء تكلموا عن القوة الناطقة والقوة الصانعة في رسائلٍ أُخرى 0 فتكلموا في رسالة اختلاف اللغات عن القوة الناطقة وأفعالها ، وفي رسالة الموسيقى أيضاً 0 وتناولوا بحديثهم عن رسالة الصنائع مواضيع تتعلق بالقوة الصانعة 0 هذه أبرز المواضيع التي تتعلق بالحواس الباطنة ودورها بالمعرفة 0
المعرفة العقلية
خالف إخوان الصفاء أفلاطون في قوله بأن النفس تعرف بالتذكر ، ويعتقدون أن الإنسان إذا ولد كان لا يعرف شيئاً وهم يعتقدون أيضاً أن جميع المعارف حتى تلك التي يظن نفر من الفلاسفة أنها معروفة بأوائل العقول ترجع في حقيقتها الى إدراك الحواس لها (2)
__________
(1) سورة العلق ، آية ، 3،4،5
(2)
(1) عمر فروخ ، تأريخ الفكر العربي الى أيام ابن خلدون ، ص 384 0(1/45)
ونجد الإخوان يحللون قول أفلاطون أن المعرفة تذكر بطريقة أُخرى إذ قالوا ( ثم أعلم أن كثيراً من العقلاء يظنون أن الأشياء التي تعلم بأوائل العقول مركوزة ، فنسبتها لما تعلقت بالجسم ، فهي تحتاج الى التذكار ، يسمون العلم تذكر ، ويحتجون بقول أفلاطون العلم تذكر ، وليس الأمر كما ظنوا وإنما أراد أفلاطون بقوله العلم تذكر ، أن النفس علامة بالقوة فتحتاج الى التعليم حتى تصير علامة بالفعل ، فسمى العلم تذكراً 0 ثم أن أول طريق التعاليم هي الحواس ، ثم العقل ، ثم البرهان ، فلو لم يكن للإنسان الحواس لما أمكنه أن يعلم شيئاً ، لا المبرهنات ولا المعقولات ولا المحسوسات ألبته ) (1) ونلاحظ تأكيد إخوان الصفاء أن المعقولات هي صور روحانية تراها النفس في ذاتها بعد مشاهدتها في الهيولى بطريق الحواس ، وأن الله جعل الأُمور الجسمانية المحسوسة كلها مثالات ودلالات على الأُمور الروحانية العقلية وجعل طريق الحواس درجاً ترتقي به الى معرفة الأُمور العقلية (2) وأكد الإخوان أيضاً ، أن الإنسان إذا أراد معرفة الأُمور العقلية التي هي أشرف الغايات فيجب عليه الاجتهاد في معرفة الأُمور المحسوسة لأن في معرفتها سيعرف الأُمور المعقولة 0 ولا بد من الإشارة الى مسألة مهمة وهي أن الإخوان في حديثهم عن المعرفة العقلية قللوا من أهمية المعرفة الحسية وفضلوا المعرفة العقلية عليها ، معللين ذلك بأن المعرفة الحسية تمثل فقر النفس لأنها تحتاج في هذه المعرفة الى الجسد وحواسه وآلاته لتدرك بها الأمور المحسوسة أما في معرفة الأُمور المعقولة الروحانية فهي غنى ونعيم للنفس لأنها تعتمد على جوهرها وذاتها في معرفة الأُمور الروحانية بعدما تأخذها من الحواس بتوسط الجسد ، ومتى ما يحصل الإنسان على
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 424 0
(2) د0 موسى الموسوي ، من الكندي الى ابن رشد ، منشورات عويدات ، بيروت ، لبنان ، ط 3 ، 1982 ، ص 122 0(1/46)
معرفة الأُمور الروحانية فقد استغنت النفس عن الجسد وعن التعليم بالجسد بعد ذلك (1) 0
أولاً- أهمية العقل الإنساني :- سبق أن ذكرنا في صدد حديثنا عن قوى النفس الباطنة بإن إخوان الصفاء عدّوا أن النفس الإنسانية فاضت من النفس الكلية وأن العقل هو أيضاً قوة من قوى النفس الكلية 0 وللعقل المكانة الرفيعة في فكر الإخوان ، إذ جعلوه بمثابة الرئيس الذي ترجع إليه الأُمور التي فيها صلاح الدين والدنيا وتبرءوا من الذين لا يوافقونهم الرأي في رئاسة العقل إذ قالوا ( وأعلم أنه ما من جماعة تجتمع على أمر من أمور الدين والدنيا ، وتريد أن يجري أمرها على السداد ، وتكون سيرتها على الرشاد ، إلا ولا بد لها من رئيس يرأسها ليجمع شملها ويحفظ نظام أمرها ، ويراعي تصرف أحوالها ويرُم على الانتشار جماعتها ، ويمنع من الفساد صلاحها ، وذلك أن الرئيس أيضاً لابد له من أصل يبني عليه أمره ويحكم به بينهم ، وعلى ذلك الأمر يحفظ نظامهم 0 ونحن قد وصينا بالرئيس على جماعة إخواننا والحكم بيننا ، العقل الذي جعله الله تعالى رئيساً على الفضلاء من خلقه الذين هم تحت الأمر والنهي ، ورضينا بموجبات قضاياه على الشرائط التي ذكرناها في رسائلنا وأوصينا بها إخواننا أو خرج عنها بعد الدخول فيها ، فعقوبته في ذلك أن نخرج من صداقته ونتبرأ من ولايته ، ولا نستعين به في أُمورنا ، ولا نعاشره في معاملتنا ، ولا نكلمه في علومنا ، ونطوي دونه أسرارنا ) (2)
__________
(1) إن تأكيد إخوان الصفاء الزهد بالجسد وبالماديات وتأكيدهم النفس وصفاء جوهرها جعل من بعض الباحثين يقولون أن تسميتهم بإخوان الصفاء جاءت مقتبسة من التصوف الذي غايته صفاء النفس ونقاء القلب 0 ينظر سعيد زايد ، رسائل إخوان الصفا ، مجلة تراث الإنسانية ، العدد الأول ، المجلد السابع ، 1969 ، ص 341 0 كذلك ينظر رسائل إخوان ، ج3 ، ص 247 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، دار صادر ، دار بيروت ، لبنان ، 1957 ، ص 127 0(1/47)
أن تأكيد إخوان الصفاء العقل جعلهم يزنون الرجال على أساس نور عقولهم وصفاء جوهر نفوسهم على أساس أن النفوس تتفاضل بالعقل لا بغيرها فهو الذي يفيض على النفس بالخير والفضائل وهو أشرف من جوهر النفس (1) 0 وخير دليل على ذلك هو تقسيمهم لأعضاء جمعيتهم الى أربع مراتب حسب صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور فضلاً عن تقسيمهم على أساس اختلاف أعمارهم وهذه المراتب هي :-
أ. مرتبة أرباب ذوي الصنائع ، وهي القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات الواردة على القوة الناطقة بعد خمس عشرة سنة من مولد الجسد 0
ب. فوق هذه المرتبة مرتبة الرؤساء ذوي السياسات ، وهي القوة الحكمية الواردة على النفس العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد 0
ج. فوق هذه المرتبة مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي ، وهي القوة الناموسية الواردة بعد مولد الجسد بأربعين سنة 0
المرتبة الرابعة فوق المرتبة الثالثة وهي التي يدعون إليها إخوانهم في أي مرتبة كانوا ، وتمثل القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد (2) 0 إلا أننا نجد تقسيماً آخر لإخوان الصفاء جعلوا به مكانته الإنسان تكمن في قدرته على استخدام عقله بالشكل الأمثل أو بتعبير الإخوان ، رجحان العقول للعقلاء ، إذ يتضح رجحان العقل للعقلاء حسب طبقاتهم في أُمور الدين والدنيا فقد قسموها الى تسعة أقسام وهي :
1. أهل الدين وشرائع والنبوات وأصحاب النواميس 0
2. ومن دونهم من الموسومين بحفظ أحكامها ومراعاة سننها 0
3. منهم أهل العلم والحكماء والأدباء ، وأصحاب الرياضيات الموسومون بالتعاليم والتأديب والرياضيات والمعارف 0
__________
(1) قدري حافظ طوقان ، مقام العقل عند إخوان الصفاء ، مجلة الأديب ، السنة الرابعة ، ج5 ، 1945 ، ص 69 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 57 – 58 0(1/48)
4. منهم الملوك والسلاطين والأُمراء والرؤساء ، وأرباب السياسات والمتعلقون بخدمتهم من الجنود والأعوان والكتّاب والعمال والوكلاء ومن شاكلهم 0
5. ومنهم البُناء والمزارعون والأكرة والرعاة للشاة 0
6. منهم الصُناع ، وأصحاب الحرف ، والمصلحون للأمتعة والحوائج جميعاً 0
7. منهم التجار والباعة ، والمسافرون والجلابون للأمتعة والحوائج من الآفاق 0
8. منهم المتعيشون الذين يعيشون في خدمة غيرهم وقضاء حوائجهم يوماً بيوم 0
9. ومنهم الضعفاء والسؤال والمكدون ، ومن شاكلهم من الفقراء والمساكين (1) 0
__________
(1) أن مسألة التخصص بالعمل فكرة سبق بها أفلاطون في جمهوريته ، إخوان الصفاء وإنهم تأثروا بأفلاطون في هذه الفكرة بلا شك 0 ينظر د0 ناجي التكريتي ، الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية وأثرها في مفكري الإسلام ، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، ط2 ، 1982 ، ص 374 0 ينظر جمهورية أفلاطون ، ترجمة حنا خباز ، دار القلم ، بيروت ، لبنان ، ط2 ، 1980 ، ص 90 0(1/49)
هذا فيما يخص طبقاتهم أما عن علاقة رجحان العقل في هذه التقسيمات فالمُرجح هنا في نظر إخوان الصفاء هو أن كل فرد من أفراد هذه الطبقات كائناً من كان لا يخلو من أن يكون فيها رئيساً سائساً لغيره أو يكون مرؤوساً مسوساً فيها بغيره ، ورجحان عقل كل رئيس سائس يتبين فيها ، ويُعرف منه في حسن سياسته ، وتدبير رياسته ، وحسن عشرته مع أبناء جنسه ، ما لم يخرج من سُنة شريعته وحكم الناموس 0 ورجحان عقل كل مرؤوس يتضح في حسن طاعته لرئيسه وسهولة انقياده لأمر سائسه (1) وحسن عشرته مع أبناء جنسه ، مالم يكن ذلك قدحاً في دينه أو نقصاً لاعتقاده 0 ورجحان عقل كل متدين يتضح بحسن قيامه بواجباته في أحكام شريعته وسُنة نبيه فضلاً عن حسن العِشرة مع أبناء جنسه 0 ورجحان عقل كل عالم أو أديب أو حكيم يُعرف في حسن كلامه وأقاويله النافعة وجودة تأديبه وحسن عشرته مع الناس0 ورجحان عقل كل صاحب صنعه يتمثل بالصنعة المُحكمة وحسن المعاشرة للآخرين شريطة أن لا يتدخل في صناعة غير صنعته وأن لا يتعاطى ما لا يُحسنه 0 ورجحان عقل كل تاجر بائعٍ مشترٍ يتبين فيه ويُعرف من خلال صحة معاملته وحسن عشرته مع أبناء جنسه بحيث لا يكذب في بيعه وشرائه 0 ورجحان عقل كل فقير مسكين أو ضعيف أو مبتلى يتضح في حسن عشرته وقلة جزعه وعدم السخط عند الحرمان وعدم الملَحة في السؤال (2) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 428 0
(2) المصدر نفسه ، ص 429 0(1/50)
ثانياً- العقل وأهميته المعرفية :- نبدأ حديثنا عن الأمور العقلية وكيف نظر إليها إخوان الصفاء ومدى أهميتها ، إذ يرى الإخوان ، أن كل ما لا تدركه الحواس بوجهٍ من الوجوه ، لا تتخيله الأوهام ، وما لا تتخيله الأوهام ، لا تتصوره العقول (1) والشيء إذا لم يكن معقولاً ، فلا يمكن البرهان عليه ، وذلك لأن البرهان لا يكون إلا من نتائج مقدمات ضرورية وهذه النتائج مأخوذة من أوائل العقول 0 والأشياء التي في أوائل العقول إنما هي كليات أنواع وأجناس أُخذت من أشخاص جزئية بطريق الحواس ، وحتى يثبت الإخوان صدق قولهم استعملوا هذا المثال 0 إن معرفة الصبي أن الكل أكثر من الجزء إنما جاءت من خلال معرفته أن عشرة جوزات مثلاً أكثر من خمس ، أو خشبه طولها عشرة أذرع أطول من أُخرى لها ستة أذرع 0 فأرادوا بهذا المثال القول أن المعقولات مأخوذة أوائلها من الحواس ، والدليل الآخر الذي قدمه الإخوان هو أنه من كان أكثر محسوسات ولها أكثر تأملاً ، وللمتخيلات أجود اعتباراً ، فإن الأشياء المعقولة عنده أكثر عدداً ، ونفسه لها أكثر تحققاً 0 وقد قال الإخوان عن العقل ( فقد تبين بما ذكرنا أن الأشياء المعقولة ليست شيئاً سوى رسوم المحسوسات الجزئية الملتقطة بطريق الحواس من الأشخاص مجموعة في فكر النفس المسمى أنواعاً وأجناساً وأن العقل للإنسان إذا تبين ليس هو شيئاً سوى النفس الناطقة ، إذا تصورت رسوم المحسوسات في ذاتها ميزت بفكرها بين أجناسها وأنواعها وأشخاصها ، وعرفت جواهرها وأعراضها ، وجربت أُمور الدنيا واعتبرت تصاريف الأيام بين أهلها (2) العقل الإنساني له الأهمية الكبيرة في المعرفة عند إخوان الصفاء وهذا يبدو جلياً من خلال ما يأتي :-
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 224 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 225 0(1/51)
أ. إن مذهبهم مقتبس من مختلف المذاهب ، فهو تلفيقي أُريد به أن يجمع الحكمة أينما وجدت على أن المبدأ الأساس عندهم هو العقل ، ولذلك فهم يعدون ظاهر الشريعة صالحاً للعامة دون الخاصة ، أما هؤلاء الفلاسفة أو الخاصة فنصيبهم النظر الفلسفي العقلي العميق (1) ، وهذا نلمسه بقولهم ( وأعلم يا أخي بأن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهراً وباطناً ، وظواهر الأُمور قشور وعظام ، وبواطنها لُب ومخ ، وأن الناموس هو أحد الأشياء الموجودة في هذا العالم منذ كان الناس وله أحكام وحدود ظاهرة بينه يعلمها أهل الشريعة وعلماء أحكامها من الخاص والعام ، ولأحكامه وحدوده أسرار وبواطن لا يعرفها إلا الخواص منهم والراسخون في العلم ) (2) 0
ب. أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان بأحسن تقويم وجعله خليفة في أرضه وفضله على سائر الحيوانات وملّكه عليها ، وسخرها له وجعله يتحكم بجميع ما فيها من المعادن والنبات والحيوان إنما حصل للإنسان كل ذلك بفضل تمييزه بعقله وتمكنه بكمال هيئته (3) 0
ج. رفض التقليد للإنسان إذا توسط في العلم بمعرفة ما يقول له المخبر عن أُمور دينه فهو أولاً يجب أن يصدق ما يقوله له المخبر ولا يطالبه بالبرهان في أول الأُمر ولكنه متى اجتهد في أمر الدين ووصل الى مرحلةٍ من المعرفة فيجب عليه أن لا يرضى بالتقليد وأن يطلب السبيل والبرهان0
__________
(1) الموسوعة الفلسفية المختصرة ، نقلها عن الإنكليزية ، فؤاد كامل ، جلال العشري ، عبدالرشيد الصادق ، دار القلم ، بيروت ، لبنان ، منشورات دار النهضة ، ص 36 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 328 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 101 0(1/52)
د. إن الإنسان محاسب أمام الله يوم القيامة إذا لم يستخدم عقله بالتأمل في أمور الآخرة ، وأن الله جلّ وعلا ذم الذين لم يُكلفوا أنفسهم التفكر والروية والتأمل العقلي بمسائل الآخرة وجعلوا من الدنيا شغلهم الشاغل ، إذ قال الإخوان ( وأعيذك أيها الأخ البارّ الرحيم أن تكون من الذين ذمهم رب العالمين (1) بقوله (( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )) (2) افترى ذمهم من أجل أنهم لم يكونوا يعقلون أمر معيشة الدنيا ، إنما ذمهم لأنهم لم يكونوا يتفكرون في أمر الآخرة والمعاد ، ولا يفقهون ما يقال لهم من معاني أمر الآخرة وطريق المعاد فقال(( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) (3) وقال عز وجلّ((فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)) (4) (5) 0 إذن أكد إخوان الصفاء العقل وأهميته فبه تميز الإنسان عن سائر الحيوان وبه يفكر ويتأمل في أُمور الدين والدنيا ، ومكانة الإنسان لا تقاس على أساس الجاه والمال أو على قوة البنية أو قوة العشيرة ، وإنما تقاس على أساس مدى استخدامه العقل بالشكل الأمثل ، الذي يجعل من الإنسان إنساناً (6) 0 وبعد أن ذكرنا دور القوى الحساسة بما فيها الظاهرة والباطنة وبعد أن تحدثنا عن دور العقل بالإدراك سوف نتحدث عن الحقائق التي لا تستطيع
__________
(1) إخوان الصفاء رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 260 0
(2) سورة الأعراف ، آية 179 0
(3) سورة الروم ، آية 7 0
(4) سورة النحل ، آية 22 0
(5) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 261 0
(6) حول أهمية العقل عند الإخوان ، ينظر حسين مروه النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، ج2 ، ص 388 – 389(1/53)
هذه القوى إدراكها ولا يستطيع العقل إدراك كنهها 0
المعرفة البرهانية
سبق أن تكلمنا عن دور الحواس الظاهرة بالمعرفة ، ودور الحواس الباطنة ، ودور العقل 0 وذكرنا تأكيد إخوان الصفاء أن كل ما لا تدركه الحواس بوجهٍ من الوجوه ، لا تتخيله الأوهام وما لا تتخيله الأوهام لا تتصوره العقول 0 السؤال الآن ماذا بشأن الحقائق التي لا يمكن للحواس الظاهرة والباطنة إدراكها ولا يستطيع العقل الإحاطة بها ؟ يجيب الإخوان عن ذلك ، بأن هناك طريقاً ثالثاً من طرق المعرفة يمكن بواسطته معرفة ما لا تدركه الحواس ولا تتصوره الأوهام ألا وهو طريق المعرفة البرهانية الذي له الدور البارز في معرفة الأمور الإلهية والرياضية 0 يرى الإخوان أن الأمور الإلهية المبرهنة هي أشياء لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام ولكنها على الرغم من ذلك فإن الدليل والبرهان الصادق هي الباعثة للعقول الى الإقرار والقبول بها ، كذلك الحال فيما يخص الأمور الرياضية ، مثال ذلك أنه قد قام البرهان في كتاب أقليدس على أن كل مقدار ذي نهاية سواء أكان جسماً أم خطاً أم سطحاً ، فإنه يمكن أن يوجد منه ظل دائم أبداً لا يفنى وهذه مسألة لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام ألبته 0 مثال آخر أنه قام البرهان بطريق المنطق الحكمي الفلسفي على أن خارج العالم لا خلاء ولا ملاء وهذه حكمه لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام 0 أما عن المسائل التي تتعلق بوحدانية الباري وصفاته والملائكة والصور المجردة فإنها أيضاً مسائل تعرف بالبرهان إذ نلمس هذا بقولهم ( وأمثال هذه الأشياء كثيرة ومعروفة عند العلماء ، بخاصة إقرار الموحدين لله والعارفين به بأن الله تعالى حي ، قادر، عالم ، حكيم ، خالق لا يوصف بالقيام ولا بالقعود ولا الدخول ولا الخروج ، ولا الحركة ولا السكون ، وما شاكل ذلك من الأوصاف مما يوصف بها النفس والعقل والعقل الفعال والصور المجردة من الهيولى وما شاكلها من الجواهر(1/54)
البسيطة المُسمينّ الملائكة والروحانيين 0 وذلك أن الحواس لا تدركها ولا تتصورها الأوهام بوجهٍ من الوجوه ولا سبب من الأسباب (1) وما دمنا بصدد الحديث عن المعرفة البرهانية فمن الضروري أن نصف البراهين عند إخوان الصفاء ، إذ قال الإخوان ( ثم أعلم أن البراهين هي ميزان العقول ، كما أن الكيل والذرع والشاهين موازين الحواس ، وكما أن الناس إذا اختلفوا في حكم شيء من الأشياء التي لا تدرك بالحواس ولا تتصور بالأوهام رجعوا عند ذلك الى دليل وبرهان وما ينتج من المقدمات الضرورية ، وأقروا بها وقبلوها ، وأن كانت لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام ، لأنهم يرون الإقرار بالحق أولى من التمادي في الباطل) (2) 0 وما دمنا في صدد الحديث عن المعرفة البرهانية فسوف نشير الى أنواع البراهين 0
أنواع البراهين
البراهين نوعان كما يقول إخوان الصفاء ، براهين هندسية وبراهين منطقية وكلا النوعين مأخوذان مما في بداية العقول وهذه بدورها مأخوذه أوائلها من طريق الحواس (3)
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 402 – 403 0
(2) المصدر والصفحة نفسهما 0
(3)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 444 0(1/55)
وإخوان الصفاء قدموا البراهين الهندسية على البراهين المنطقية وإن الإنسان وأن الإنسان لا يستطيع معرفة البراهين المنطقية ما لم يرتاض أولاً بالبراهين الهندسية وحدد الإخوان سبب ذلك بأن البراهين الهندسية أقرب من فهم المتعلمين وأسهل على المتأملين ، وذلك لأن مثالاتها محسوسة مرئية بالبصر ، وأن كانت معانيها مسموعة ومعقولة على أساس أن الأمور المحسوسة أقرب الى فهم المتعلمين 0 وهذه البراهين سواء أكانت هندسية أم منطقية فأنها لا تكون إلا من نتائج صادقة ، والنتيجة الواحدة تحتاج الى مقدمتين صادقتين أو ما زاد على ذلك ، مثال ذلك أقليدس فهو بيّن في البرهان أن ثلاث زوايا من كل مثلث مساوية لزاويتين قائمتين ، وهذا البرهان لم يكن إلا بعد أثنين وثلاثين شكلاً وعلى هذا المثال سائر الأشكال التي تحتاج الى براهين أُخر 0 كذلك قوله إن مربع وتر الزاوية القائمة مساوٍ لمربعي الضلعين 0 فهذا البرهان توصل إليه بعد ستة وأربعين شكلاً ، وهذا الشكل يسمى بشكل العروس 0 وعلى هذا المثال سائر المبرهنات 0 كذلك الحال فيما يخص حكم البراهين المنطقية فربما تحتاج الى مقدمتين وربما تحتاج الى مقدمات عدة (1) مثال ذلك في البرهان على وجود النفس مع الجسم تكفي ثلاث مقدمات وهي :-
كلّ جسمٍ فهو ذو جهات 0
ولا يمكن للجسم أن يتحرك الى جميع جهاته دفعه واحدة 0
وكلُّ جسم يتحرّك الى جهةٍ دون جهةٍ فلِعلهٍّ ما تحرك له 0
فينتج من ذلك وجود النفس 0
والذي يريد أن يبرهن على أن النفس جوهر لا عرض ، يضيف الى هذه المقدمات في أعلاه ما يأتي 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 445 0(1/56)
وكل عله محركة للجسم لا تخلو أن تكون حركتها على وتيرةٍ واحدةٍ في جهة واحدة ، مثل حركة الثقيل الى أسفل ، والخفيف الى فوق ، فتسمى هذه عله طبيعية 0 وأما أن تكون حركتها الى جهاتٍ مختلفة وعلى فنون شتى بإرادةٍ واختيار فهي جوهر ، فالنفس إذن جوهر ، لأن العرض لا فعل له (1) 0
المبحث الثاني
حدود وإمكانيات الإنسان المعرفية
مدخل
قبل الحديث عن إمكانية وحدود الإنسان على المعرفة نود أن نشير الى مسألة مهمة ألا وهي أننا في حديثنا عن طرق المعرفة لاحظنا أن إخوان الصفاء قد قسموا طرق المعرفة الى ثلاثة أقسام وهي المعرفة الحسية والمعرفة العقلية والمعرفة البرهانية 0 ويحق لنا أن نطرح سؤالاً ، ما السبب أو الدافع الذي جعل إخوان الصفاء يقسمون طرق المعرفة الى هذه الأقسام الثلاثة ؟ هل جاء ذلك التقسيم من باب الصدفة أو عن قصدٍ منهم ؟ للإجابة عن هذا التساؤل فإن إخوان الصفاء جعلوا طرق كسب المعلومات للإنسان من هذه الطرق ( الحس ، العقل ، البرهان ) وذلك لكون الإنسان مركباً من بدنٍ جسماني ونفس روحانية ، فبنفسه الروحانية صار يدرك العلم كما أنه بجسده الجسماني يعلم الصنائع هذا من جانب ومن جانبٍ آخر أنه لما كانت النفس في الرتبة الوسطى من الموجودات ، فإن من الأشياء ما هو أعلى وأشرف من جوهر النفس كالباري تعالى والعقل والصور المجردة من الهيولى الذين هم الملائكة المقربون 0 ومنها ما هو أدون من جوهر النفس كالهيولى والطبيعة والأجسام أجمع فصارت معرفة النفس بالأشياء التي دونها بالشرف بطريق الحواس التي هي المباشرة والمماسة والمخالطة والإحاطة (2)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 446 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 415 0(1/57)
وأما ما كان أشرف من النفس وأعلى منها ، فطريق المعرفة هنا هو طريق البرهان الذي يضطر العقول الى الإقرار بهذه الحقائق من غير إحاطة ولا مباشرة ، ولكن الدليل والبرهان الصادق والحجة القاطعة كما يرى الإخوان هي التي تدفع بالعقول الى الإقرار بهذه الحقائق 0 أما عن معرفة النفس بذاتها وجوهرها فقد أرجع إخوان الصفاء هذه المعرفة الى العقل أو بطريق العقل وحجتهم بذلك أن نسبة العقل الى النفس كنسبة الضوء من البصر ، وكنسبة المرآة الى الناظر فيها ، فكما أن البصر لا يرى شيئاً من الأشياء إلا بالضوء كذلك الإنسان لا يرى وجهه إلا في المرآة والنظر فيها ، كذلك النفس لا تنظر ذاتها إلا بنور العقل ولا تعرف حقائق الموجودات إلا بالنظر الى العقل 0 ولكن النفس عند إخوان الصفاء لا يتسنى لها النظر الى العقل بعين البصيرة إلا إذا انتبهت من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ونظرت بعين الرأس الى هذه المحسوسات وفكرت في معانيها واعتبرت أحوالها حتى تعرفها حق معرفتها ومن أجلِ هذا السبب نراهم قدموا رسالة الحاس والمحسوس على رسالة العقل والمعقول ، إذ قالوا ( فمن أجل هذا قدمنا رسالة الحاس والمحسوس على رسالة العقل والمعقول ، فاعتبر يا أخي هذه الأُمور التي وصفنا وتفكر في معانيها وحقائقها ، تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتنفتح عين البصيرة فتعاين في ذاتها صور الأشياء ، وتبين في جوهرها معاني الموجودات لأنها معادن العلوم كلها ومأوى الحكمة ، كما قال الحكيم الفاضل (1)
__________
(1) لم يحدد الإخوان هذا الحكيم الفاضل ، ولكن مصطلح من القوة الى الفعل يجعلنا نقول بأن هذا الحكيم هو أرسطو 0 فهو عني بالإدراك الحسي كما عني بالمعرفة العقلية ، إذ يقول عن المعرفة العقلية بأن العقل الفعال يجرد الماهيات والمعقولات من المحسوسات فيطبعها في العقل المنفعل فيتحول من عقل بالقوة الى عقل بالفعل 0 د0 أميرة حلمي مطر ، دراسات في الفلسفة اليونانية ، دار الثقافة للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1980 ، ص 55 0(1/58)
أن العلوم كلها في النفس بالقوة فإذا فكرت في ذاتها وعرفتها ، صارت العلوم كلها فيها بالفعل) (1) وبعد أن بينا السبب الذي من أجله جعل الإخوان طرق كسب الإنسان المعلومات من هذه الطرق الثلاث أي المعرفة الحسية ، المعرفة العقلية ، المعرفة البرهانية 0 وأشرنا الى كيفية معرفة النفس لذاتها ، سوف نتكلم عن طاقة الإنسان في المعارف والى أي حد هو مبلغه من العلوم والى أي غاية ينتهي وأي شرف يرتقي 0
أولاً- إمكانية أو حدود الإنسان على المعرفة :-
الإنسان كما يرى الإخوان إذا اعتبر أحواله ومجاري أُموره فهو متوسط في كل شيء فمن حيث جثته فهو متوسط بين الصغر والكبر فلا هو صغير جداً ولا كبير جداً 0 وفي مسألة بقاءه بالحياة فلا هو طويل العمر في الدنيا بحيث يُعمر آلاف السنين ولا هو قصير المدة فيها كذلك الحال فيما يخص وجودة فلا هو متقدم بالوجود على الأشياء ولا هو متأخر عنها فمن الموجودات ما هو متقدم عليه بالوجود كالأركان والأفلاك مثلاً وهناك موجودات متأخرة عنه في وجودها كالمصنوعات التي يصنعها هو0 والإنسان متوسط في رتبة الشرف والدماثة 0 فهناك من هو أشرف منه كالملائكة المقربين وهناك موجودات أدنى منه كالبهائم ، كذلك الحال في مسألة الضعف والقوة (2)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 416 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 20 0(1/59)
وقدرته على وزن الأشياء فهو متوسط بين الثقيل المفرط كالجبال والخفيف النزر الخفة كالذرة 0 ومتوسط أيضاً في قدرته على قياس الأبعاد 0 فالإنسان متوسط في كل هذه المسائل المذكورة أعلاه فهو في العلم متوسط أيضاً بين العلم والجهل فلا هو راسخ في العلم كالملائكة ولا هو جاهل به كالبهائم ، فالإنسان في معلوماته متوسط المقدار بين الطرفين فهو غير مُحيط بالأشياء المفرطة الكثيرة كتضاعف العدد الكثير ، ولا مُدرك للأشياء القليلة كالجزء الذي لا يتجزأ 0 وإذا ثبت لنا أن الإنسان متوسط في معلوماته فهو متوسط أيضاً بالطرق التي يعرف من خلالها أو التي تُعد المصادر الأساسية التي يعتمد عليها الإنسان في تحصيل المعرفة ، وسوف نبدأ بالحواس الخمس كونها المصدر الأول لمعرفة الإنسان بالعالم الخارجي 0
1. الحواس الخمس وحدودها في المعرفة :- إن قوة حواس الإنسان على إدراك المحسوسات متوسطة بين الطرفين ، فالقوة الباصرة مثلاً لا تقوى على إدراك الألوان في الظلمة الظلماء ولا على إدراكها في النور الباهر كالنظر الى عين الشمس في نصف النهار في أيام الصيف 0 كذلك الحال فيما يخص القوة السامعة فهي لا تُطيق استماع الصاعقة لشدتها وجلالتها ، ولا تقوى أيضاً على إدراك دبيب النملة لخفتها وخمولها0 كذلك الحال للقوة الذائقة والقوة الشامة والقوة اللامسة فإنها لا تقوى على إدراك محسوساتها إلا المتوسطات منها ، فالحر المفرط والبرد المفرط يفسدان المزاج عن الاعتدال وهكذا فيما يخص الطعم المفرط والرائحة المفرطة إذ يفسدان آلات الحواس ، ويخرجان المزاج عن الاعتدال (1) 0 إذن حواس الإنسان متوسطة في إدراكها محسوساتها 0 وبعد ذكر الحواس سوف ننتقل الى دور العقل عند الإخوان وحدود إمكانياته على المعرفة 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 21 0(1/60)
2. العقل وحدوده على المعرفة :- مثلما أن حواس الإنسان متوسطة في إدراكها محسوساتها فإن قدرة العقل على تصور الأشياء المعقولة هي أيضاً متوسطة ، فهو قادر على تصورها إذا كانت متوسطة بين الجلالة والخفاء وذلك أن من الأشياء المعقولة ما لا يمكن لعقل الإنسان إدراكه وإحاطة العلم به لجلالته وشدة ظهوره وبيانه ووضوحه ، مثل جلالة الباري عزّ وجلّ فإن عقل الإنسان لا يقوى على إدراكه وإحاطة العلم بماهية ذات جلالته ، وشدة ظهوره ووضوح بيانه لا لخفاء ذاته وشدة كتمانه كذلك هناك أشياء لا يستطيع العقل إدراكها ومعرفتها لكبرها وأشياء أخرى لا يستطيع إدراكها لصغرها وشدة خفائها ، وهناك أشياء أُخرى لا يستطيع العقل إدراكها لا لكبرها أو صغرها وإنما لشدة لطافتها ونفوذها في الأشياء 0 أما تفصيل ذلك ، فإن العقل يعجز عن تصور صورة العالم بكليته ، لشدة كبره وظهوره لا لصغره وخفائه وهو عاجز عن إدراك الصور المجردة عن الهيولى لشدة صفاءها ولطافتها ونفوذها في الأشياء 0 أما الأُمور الأُخرى التي لا يمكن للعقل إدراكها فمنها أُمور لا تدرك لخفائها ودقتها وصغرها مثل الجزء الذي لا يتجزأ ومثل الهيولى الأولى المجردة من الصور والكيفيات (1) ومثل عجزه أيضاً عن معرفة كيفية تصوير الجنين في الرحم وخلق الفرخ في جوف البيضة ، والحب في الغلف والثمر في الأكمام 0 فهذه الأُمور لا يستطيع العقل إدراكها 0 وبذلك أثبت إخوان الصفاء محدودية العقل بالمعرفة على الرغم من تأكيدهم أهميته ، وهذا ما أشرنا إليه في حديثنا عن دور العقل الإنساني في المعرفة 0 وإن ما استنتجه إخوان الصفاء في قولهم عن محدودية عقل الإنسان هو النتيجة نفسها ألاأدرية التي استنتجها باسكال (2)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 22 0
(2) يرى باسكال أن المسائل الميتافيزيقية لا يمكن الاستدلال عليها كما هو الحال فيما يخص البراهين الهندسية ، فالحقائق الميتافيزيقية يجب أن تؤخذ تسليماً 0 وذلك لأن الإنسان متوسط في معرفته فهو مثلاً إذا حاول بعقله معرفة الأجزاء وانتظامها في الكل أو معرفة البداية والنهاية فلا يفوز إلا بشيء من الوسط ، ينظر يوسف كرم ، تأريخ الفلسفة الحديثة ، ص 93 – 94 0(1/61)
ذلك أن العقل الإنساني لا يستطيع الإحاطة بمثل هذه المفاهيم البعيدة الغور ، نظير عظمة الله وماهيته ، وصور الكون بكليته أو الصور المجردة عن الهيولى لشدة إشراقها وصفاءها الباهر يضاف الى ذلك أن الحقائق التي هي أقل إيغالاً في التسامي ليست في متناول العقل الإنساني لذلك كانت الحواس الإنسانية قادرة على إدراك أوصاف الأشياء في حال اكتمالها ، وليس في سياق تكاملها ، ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يتبين كيفية حدوث العالم وعلّة كونه ، ولا أن يعلل كيفيات ما لا يحصى من الأشياء الموجودة في العالم العلوي، وفي عالم ما دون فلك القمر ، أو مقاديرها مع أنه يستطيع أن يدرك تلك الأشياء بيسر كما هي موجودة أو ماثلة لحواسه 0 أما بشأن الأُمور السامية التي يعجز عقل الإنسان عن الإحاطة بها وتقصر حواسه عن إدراكها ، فأن ملاذه الوحيد هو التسليم للأنبياء الذين يتلقون من الله ، والإذعان الى إرشاداتهم بلا تردد كما أذعنوا هم بدورهم الى الملائكة الذين هم مرشدوهم (1) وهذا ما نجده بقولهم ( ثم أعلم أنه ليس الى معرفة علل هذه الأشياء وصول إلا أن تؤخذ من الأنبياء ، عليهم السلام ، تقليداً كما أخذوها عن الملائكة تسليماً) (2) ومن لم يقبل ما أخبر به الأنبياء عليهم السلام عن أُمور لا يستطيع معرفتها لا بعقله ولا بحسه واكتفى بما تخيل له الأوهام الكاذبة ، فإنسان كهذا سوف يبقى في حيرةٍ من أمره ويبقى شاكاً ضالاً مضلاً ، وهذا نص قولهم ( وأعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروحٍ منه ، أنك إذا لم تؤمن للأنبياء عليهم السلام ، بما أخبروك عنه من نعيم الجنان ولذات أهلها ، ولم تصدق الحكماء بما عرفوك من سرور عالم الأرواح ، ورضيت بما تخيل لك
__________
(1) تأريخ الفلسفة الإسلامية ، وضعه بالإنكليزية د0 ماجد فخري ، نقله الى العربية ، د0 كمال اليازجي ، الجامعة الأمريكية ، بيروت ، 1974 ، ص 242 – 243 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 23 0(1/62)
الأوهام الكاذبة والظنون الفاسدة ، بقيت متحيراً شاكاً ضاّلاً مُضلاً ) (1) 0
3. حدود وإمكانيات الإنسان بمعرفة الماضي والمستقبل :- أن حدود الإنسان في معرفة الأُمور الماضية متوسطة أيضاً فهو لا يستطيع معرفة الأُمور الماضية وأخبار الماضين في الزمان البعيد جداً ، بل هو يستطيع معرفة الأخبار القريبة من زمانه كمعرفته بآبائه وأجداده القريبين منه ، ويستطيع أن يتعرف على أخبار بني إسرائيل وما كان بعد الطوفان أو قبل ذلك الى أيام آدم عليه السلام 0 أما الأخبار والأحداث الماضية التي حدثت قبل آدم كأخبار الملائكة والجان وكيف عاث الجان فساداً في الأرض قبل أن يُخلق آدم أبو البشر ، فهكذا أخبار ليس باستطاعة الإنسان معرفتها وإنما تُعرف عن طريق الوحي من الملائكة تسليماً 0 وهكذا الحال فيما يخص علم الإنسان بأمور المستقبل فهو متوسط في معرفتها ، والوسيلة التي وضعها الإخوان لمعرفة هذه الأُمور هي طريقة التنجيم ، ونلاحظ أن الإخوان قسموا أمور المستقبل وأحداثه الى قسمين ، منها ما يمكن معرفته ومنها ما لا يمكن معرفته ، فأما الأحداث التي يمكن معرفتها ويمكن استدلال المنجمين عليها فهي التي تقع في القُرانات التي تكون في كل عشرين سنة مرة وفي كل مائتين وأربعين سنة مرة وفي كل تسعمائة وستين سنة مرة 0 أما التي لا يمكن معرفتها فهي الأحداث التي تقع في القُرانات التي تكون في كل ثلاثة آلاف وثمانمائة وأربعين سنة مرة وفي كل سبعة آلاف سنة مرة (2) 0 اتضح لنا أن الإنسان متوسط في معرفته وفي كل شيء وأن معرفته نسبية 0 ولكن هذا المفهوم لا ينطبق على الإنسان وحده وإنما ينطبق على الملائكة أيضاً ، فمثلما الناس متفاوتون بمعارفهم ومختلفون في مراتبهم فالملائكة متفاوتون بمعارفهم ومختلفون بمراتبهم ولا يستطيعون أن يُحيطون علماً بكل
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 211 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 22 0(1/63)
شيء وإنما معرفتهم محدودة 0
4. حدود علم الإنسان بالحقائق الميتافيزيقية :-
أ. محدودية علم البشر بالملائكة :- يرى إخوان الصفاء أن نسبة علم البشر الى علم الملائكة ومعرفتهم بهم كنسبة علم حيوان البحر الى حيوان البر أو كعلم حيوان البر الى علم البشر فحيوان البحر لا يعرف عن حيوان البر إلا الشيء اليسير وحيوان البر لا يعرف عن أحوال البشر إلا الشيء اليسير وهكذا الحال بالنسبة لعلم البشر بأحوال الملائكة الذين هم في فضاء الأفلاك وطبقات السماوات فليس لهم بها علم إلا الشيء اليسير كذلك الحال فيما يخص علم البشر وعلم الملائكة بالله فإنها معرفة محدودة (1) 0
ب. علم الملائكة بالنسبة الى علم الله :- أن الملائكة متفاوتون في مراتبهم من حيث العلم ، كما يقول الإخوان ، (الأول فالأول والأشرف فالأشرف ، وفوق كل ذي علمٍ عليم والى ربك المنتهى ) (2) 0 وأن الله تبارك وتعالى أشار في كتابه الحكيم الى الملائكة بأكثر من سورة وفي آيات عديدة ، ومنها قوله تعالى بالإخبار عن أحوال الملائكة في مراتبها ومقاماتها فقال تعالى (( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ )) (3) وقوله تعالى (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ)) (4) وبعد أن أشرنا الى علم البشر وعلم الملائكة فلا بد من الإشارة الى علم الذي خلق البشر وخلق الملائكة وخلق هذا الكون أيدعه بأسره ، مصدر العلم والمعرفة مصدر الخير والرحمة الخالق ، المُبدع المُصور ، الذي لا إله غيره ولا شريك له في الملك الذي ليس كمثله شيء وأنه تعالى لا يشبه الخلق بوجهٍ من الوجوه0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 23 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 24 0
(3) سورة ص ، الآيات ، 67 ، 68 ، 69 0
(4) سورة المدثر ، آية 31 0(1/64)
ج. علم جميع المخلوقات بالنسبةً الى علم الله :- بيّن إخوان الصفاء محدودية علم البشر والملائكة بالباري تبارك وتعالى إذ قالوا ( ثم أعلم أن علم جميع الخلائق بالنسبةِ الى علمِ الله تعالى ، ليس إلا كالجزء اليسير كما قال تعالى (( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (1) أي علم الله وقال تعالى (( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ )) (2) (3) 0 يظهر لنا من خلال ما ذكره إخوان الصفاء أنهم أرادوا القول بأن علم الله مطلق ، يتجاوز حدود الزمان والمكان أو بعبارةٍ أُخرى لا ينطبق عليه مكان وزمان ، وكيف ينطبق على علمه تعالى ذلك وهو الذي خلق الزمان والمكان 0 أما معرفة الإنسان فأنها معرفة نسبية وبما أنها نسبية إذن فهي متغيرة ومختلفة باختلاف الزمان والمكان 0 فللإنسان معارف تخصه والذي أهّله لهذه المعارف ما ميزة به الله سبحانه وتعالى ، عن الحيوان بالعقل وبقوة الحواس ، وهذه الحواس وإن كانت موجودة عند أغلب الحيوانات إلا أن الله تعالى فضّل الإنسان عليها بزيادة الحواس وبقوتها وهذا ما سنتحدث عنه في الصفحات اللاحقة 0
ثانياً - المعارف التي تخص الإنسان :-
__________
(1) سورة لقمان ، آية 27 0
(2) سورة البقرة ، آية 255 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 24 0(1/65)
ذكرنا أن المعرفة الحسية يشارك فيها الإنسان ، الحيوان ، إلا أن الباري جلّ وعلا جعل في حواس الإنسان زيادة قوة وقدرة على التمييز ما لم يجعل في حواس سائر الحيوانات0 وهذا التمييز يظهر بوضوح وجلاء في القوة اللامسة ، كما جعل في يدي الإنسان القدرة على عمل الصنائع العجيبة ، وجعل في لسان الإنسان القدرة على التكلم باللغات المختلفة ، وفضل الباري جلّ وعلا الإنسان على سائر الحيوانات في مسألة قدرته على التمييز بين النغمات عند استماعه للأصوات وجعله يفهم معاني اللغات والأقوال والكلمات 0 كما مكنه الباري تعالى من القدرة على فهم الخطوط والكتابة ومعرفة معاني ما كُتب على القرطاس أو على الألواح أي تحويل الخطوط الى معانٍ يفهمها الإنسان ويعرف دلالاتها (1) هذه الخصائص كلها يتميز بها الإنسان عن سائر الحيوانات ، ويمكن أن نُجمل المعلومات التي يختص بها الإنسان بما يأتي :-
1. طرق الحواس التي يدرك بها الأُمور الحاضرة في المكان والزمان 0
2. طريق استماع الأخبار التي يُفهم من خلالها الأُمور الغائبة عنه بالزمان والمكان جميعاً 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 413 0(1/66)
3. طريق الكتابة والقراءة التي يفهم بها الإنسان معاني الكلام واللغات والأقاويل ، وهذه الفضيلة يشارك فيها الإنسان الملائكة الكرام كما قال الله تعالى(( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)) (1) فضلاً عن المعرفة العقلية والمعرفة البرهانية 0 وفي حديث إخوان الصفاء عن القراءة والكتابة نجدهم قد فصلوا بحديثهم عن ذلك ، إذ قالوا عن أسبقية الكلام والأقاويل على تعلم القراءة والكتابة وأن المعرفة الحسية سابقة على فهم الكلام والأقاويل وهذا نص قولهم ( وأعلم أن فهم القراءة والكتابة ومعرفتها متأخرة عن فهم الكلام والأقاويل كما أن فهم الكلام والأقاويل ، ومعرفتها إنما هي متأخرة عن فهم المحسوسات كما هو بينّ ظاهر لا يخفى على العقلاء ) (2) وحجتهم بذلك أن الطفل إذا خرج من الرحم فأنه في الوقت والساعة تُدرك حواسه محسوساتها ، فبالقوة اللامسة يحس الخشونة واللين ، وبالبصر يُبصر النور والضياء وبالقوة الذائقة يعرف طعم اللبن وغيره من الطعوم وبالقوة الشامة يُدرك الروائح ، كما يدرك بالقوة السامعة الأصوات ولكنه في ذلك الوقت لا يعرف معاني الكلام والأصوات إلا بعد حين ، فهذه القوى الحساسة تؤدي كل منها دورها في المعرفة ولكن أول معرفة للطفل تبدأ من القوة اللامسة (3) وذلك لأن هذه الحاسة من أعم الحواس هذا من جانب ومن جانبٍ آخر فأن أول إحساس يحسه الطفل هو الألم ، وبعد ذلك يحس بطعم اللبن فيميز لبن أُمه من غيره ثم يميز بين الروائح وعندها يعرف الشم ، ثم يميز بين الأصوات ، الصوت المنخفض والصوت العالي 0 ثم يفرق بين الصور ثم يميز على ممر الأوقات بين نغمة الأم ونغمة الأب والإخوة والأخوات والأقرباء وغيرهم 0 وهكذا يتدرج الطفل في معرفته شيئاً فشيئاً الى أن يتم سن التربية ويغلق باب
__________
(1) سورة الانفطار ، الآيات 10 ، 11، 12 0
(2) المصدر نفسه ، ص 414 0
(3) المصدر والصفحة نفسهما 0(1/67)
الرُضاع ويصبح قادراً على الكلام والنطق 0 وبعد أن يمر الطفل بكل هذه التطورات عندها تجيء أيام تعلمه القراءة والكتابة ، فيبدأ بالتعلم مع مرور الوقت فيعرف الآداب والصنائع والرياضيات وسماع الأخبار والروايات ، والفقة في الدين والنظر في العلوم والمعارف ، وطلب حقائق الموجودات والبحث عن الكائنات وبعدها يتمكن هذا الإنسان كما يرى الإخوان من معرفة الغائبات على أساس الاستدلال بالحاضرات 0 والاستدلال بالمحسوسات على المعقولات ، وبالجسمانيات على الروحانيات ، وهكذا يتطور في المعرفة فيستدل بالعلوم الرياضية على العلوم الطبيعية وبالعلوم الطبيعية على معرفة العلوم الإلهية وهذه العلوم ( الإلهية ) وصفها إخوان الصفاء بقولهم ( التي هي الغاية القصوى في العلوم والمعارف والسعادة الأبدية والدوام السرمدي ) (1) 0 هذا فيما يتعلق بالمعارف التي تخص الإنسان أوردناها بصورة مختصرة ، ولكن الناس بالتأكيد يختلفون في معارفهم وإمكانياتهم على المعرفة ، فمن الضرورة أن نتكلم عن هذا الموضوع المهم ألا وهو تفاوت الناس في المعرفة وأسباب هذا التفاوت 0
ثالثاً- أسباب تفاوت الناس بالمعرفة :-
أن طرق المعرفة الثلاث المعرفة الحسية والمعرفة العقلية والمعرفة البرهانية تعد من أهم الطرق الأساسية للمعرفة الإنسانية إلا أن هذه الطرق على الرغم من أهميتها فأن الناس مختلفون فيها (2) وأرجع إخوان الصفاء هذا الاختلاف الى ثلاثةِ أسبابٍ هي :-
1. تفاوت قوى نفوسهم الداركة لها في الجودة والرداءة وهذا التفاوت يُعد الأصل أو السبب الرئيسي في إختلاف الناس بالآراء والمذاهب 0
2. ومن الأسباب دقة المعاني ولطافتها وخفاؤها 0
3. فنون الُطرق المؤدية إليها الأسباب المعينة على إدراكها 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 415 0
(2) المصدر نفسه ، ص 402 0(1/68)
أما عن السبب الأول فالإنسان لنفسه قوىٍ كثيرة وله بكل قوة أفعال مختلفة مثلما لجسده مفاصل كثيرة وأعضاء مختلفة وله بكل عضوٍ عملٍ خاصٍ وحركات مختلفة كما له قوىٍ داركة للمعلومات ، وأول هذه القوى ( القوى الحساسة الخمس ) فهي المصدر الأول كما ذكرنا لمعرفة الإنسان بالعالم الخارجي وفي معرفة العلوم 0 فضلاً عن ذلك له قوى روحانية أُخرى وهي القوة المتخيلة التي مسكنها في مقدمة الدماغ والمفكرة التي مسكنها في وسط الدماغ والحافظة التي مسكنها مؤخرة الدماغ (1) فالناس متفاوتون في درجات هذه القوى بين الجودة والرداءة في إدراكهم المعلومات فمن الناس من يكون حاد البصر يرى الأشياء الصغيرة البعيدة ، ومنهم من يكون دون ذلك ، ومنهم لا يستطيع أن يُبصر ألبته 0 وهكذا الحال فيما يخص بقية حواس الإنسان 0 وهذا التفاوت هو أحد أسباب اختلاف الناس في الآراء والمذاهب ، أما فيما يتعلق بالقوى الحساسة الباطنة فإن الناس متفاوتون في هذه القوى أيضاً ، فهم مختلفون في ذكاء نفوسهم ، وجودة قرائحهم ، وصفاء نفوسهم 0 فمن الناس من يملك القدرة على التخيل ودقة التمييز وسرعة التصور وله القدرة على الحفظ ومن الناس من يكون بخلاف ذلك ، وهذا الاختلاف هو أيضاً من الأسباب المؤدية الى اختلاف الناس في الآراء والمذاهب كما يرى إخوان الصفاء (2)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 404 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 405 0(1/69)
0 ولابد من الإشارة الى أن هذا التفاوت بين الناس في القوى الدراكة العلامة التي أشرنا إليها أعلاه ليس مرجعها اختلاف هذه القوى في ذواتها بين الجودة والرداءة وإنما يعود الى اختلاف أحوالها في إدراكها صور المعلومات أما علة اختلاف أفعال هذه القوة فهي من أجل اختلاف أدواتها والآتها في الجود والرداءة ، فجسم الإنسان لما كان كل عضو فيه هو آلة وأداة بقوة من قوى النفس ، وكانت أعضاء الجسد مختلفة الهيئات وهي متفاوتة في الجودة والرداءة في بعض الناس أو في بعض الأحايين ، لذا اختلفت أفعال هذه القوى حسب تلك الاختلافات 0 مثال ذلك الحدقتان فهما عضوان من الجسد كما أنهما أداتان للقوة الباصرة فمتى ما كانتا سليمتين من الآفات العارضة عندها تراءت فيها صور المرئيات المقابلات لهما ، كما تتراءى في المرايا صور الأشياء المقابلة لها ، فعند ذلك تدرك القوة الباصرة محسوساتها، أما إذا تعرضت الحدقتان الى آفة أو عارضٍ ما فعندها لا تدرك الباصرة محسوساتها على حقائقها ، وهكذا فيما يخص قوى النفس الأُخرى فمتى ما لم يعترضها عائق عندها سوف تؤدي كل منها مهمتها على أدقِ وجه وأتم صورة (1) هذا فيما يخص السبب الأول 0
أما السبب الثاني الذي هو من جهة دقة المعاني ولطافتها وجلائها وظهورها فيتمثل بالتفاوت الذي يقع بين الأشياء المادية المحسوسة الظاهرة المُدركة بطريق الحواس ، والأُمور الروحانية الخفية عن إدراك الحواس والتي لا تُعلم إلا بدلائل العقول ونتائج البراهين ، وهذا التفاوت يُعد من أكثر الأسباب المؤدية الى اختلاف العلماء في آرائهم ومذاهبهم كما يرى إخوان الصفاء (2) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 406 0
(2) المصدر نفسه ، ص 407 0(1/70)
أما السبب الثالث فهو استعمالهم القياسات المختلفة ، وطُرقات استدلالاتهم المتفاوتة وهذا الباب أكثر تفرعاً وتشعباً كما يرى الإخوان وإنه من اكتساب الذين استعملوا هذه القياسات والاستدلالات ، وعلى أساسها يستحقون من المدح والذم والثواب والعقاب ، وأما الوجهان الأول والثاني فليس باختيار منهم ولا اكتساب لهم فيه (1) أي أن مسألة رداءة بعض الحواس عند بعض الناس ليس سببها الإنسان نفسه وأنما هي عائدة الى وجود عوائق أُخرى خارج سيطرة الإنسان ، كذلك الإنسان غير مسؤول عن اختلاف الحقائق من حيث أن بعضها حسي يستطيع إدراكه وبعضها روحاني يتجاوز حدود الحس والعقل 0 ومن الأسباب الأُخرى لاختلاف الناس في الآراء والمذاهب اختلاف معلومات الإنسان من جهة الزمان 0 فمعلومات الإنسان من هذه الجهة ثلاثة أنواع حاضر وماضٍ ومستقبل 0 والطريقة التي يعرف بها الإنسان الأُمور الماضية مع الزمان هي طريقة استماع الأخبار ، والإشكال في هذه المعرفة هو ، أنه قد يكون المخبر كذاباً وقد يصدقه المستمع أو قد يكون المخبر صادقاً ولكن قد يكذبه من يستمع منه ، وعلى هذا القياس أيضاً حكم الأخبار عن الكائنات قبل كونها ، وعن الأشياء الموجودة في الزمان الغائبة في المكان 0 فهذا الاشكال هو أيضاً أحد أسباب اختلاف الناس في المعلومات واختلاف العلماء في الآراء والمذاهب (2)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 408 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 413 0(1/71)
ومن الأسباب الأُخرى لاختلاف الناس في المعلومات واختلاف العلماء في الآراء والمذاهب ، إدعاء بعض الناس بصناعة هم ليسوا من أهلها وهؤلاء يحكمون من الصناعة فروعها أما أصولها فليس لهم بها علم ولا روية ولا دُربة ، فعند كلامهم يستمع الآخرون لقولهم ويقبلون حكمتهم وهذا الباب كما يقول إخوان الصفاء ( من أجلَّ أسباب الخلاف الذي وقع بين الناس في آراءهم ومذاهبهم وذلك أن قوماً من القُصاص وأهل الجدل (1) يتصدرون في المجالس ويتكلمون في الآراء والمذاهب ويناقضون بعضهم بعضاً ، وهم غير عالمين بماهيتها ، فضلاً عن معرفتهم بحقائقها وأحكامها وحدودها ، فيسمع قولهم العُوام ويحكمون بأحكامهم فيضلون ويُضلون وهم لا يشعرون ) (2) 0
ومن الأسباب المؤدية أيضاً لهذه الاختلافات هي تفاوت العقلاء في معرفة الأشياء التي تُعلم بأوائل العقول تفاوتاً بعيداً جداً ، فالإنسان متى ما كان أكثر تأملاً للمحسوسات وأجود اعتباراً للمتخيلات فإن الأشياء التي تعلم بأوائل العقول تكون في نفسه أكثر عدداً وأشد تحقيقاً من غيره من الناس مثل المشايخ والمجّربين للأُمور المحسوسة (3) 0
__________
(1) ورد نقد الإخوان لأهل الجدل بأكثر من موضع في رسائلهم ، ينظر مثلاً ، ج 3 ، ص 438 ، 439 ، 440 ، 441 ، 442 ، 446 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 438 0
(3) المصدر نفسه ، ص 423 0(1/72)
ولابد من ذكر مسألة لها أهميتها ألا وهي أن مخالفة العقلاء بعضهم بعضاً ليس فيه عيب كثير فهذا التفاوت في منظور إخوان الصفاء مرجعة الى تفاوت درجاتهم ، هذا من جانب والجانب الآخر الذي يبرر اختلاف العقلاء هو أنهم لا يختلفون في الأصول أما بالفروع فهذا أمرٌ مشروع على أساس أن من الصعبِ جداً اجتماع العقلاء على رأيٍ واحدٍ كلهم في شيء واحد أيضاً (1) فضلاً عن ذلك فإن لإختلاف العلماء كما يرى الإخوان ، فوائد عديدة سوف نذكرها ونُشير إليها بصورةٍ موجزةٍ 0
رابعاً – فوائد الاختلاف والتنوع المعرفي :-
إن في اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب فوائد عديدة ذكرها إخوان الصفاء إذ قالوا ( ثم أعلم أن في اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب ، فوائد كثيرة تخفى على كثيرٍ من العقلاء ، فمن أجل ذلك تجد الى العقول بتفاوتها اختلافات كثيرة لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار 0 وقد ذكرنا في كتب المنطق طرفاً من ذلك بشرح طويل ، ولكن نذكر لذلك مثالاً ليكون دليلاً على ما وصفنا ، فنقول أعلم أن العقلاء وضعوا القياسات الى كل من أحدث مذهباً ، واعتقد رأياً من الآراء ، فأن ذلك يصير داعياً الى طلب الحجة عند خصمائه ، وعذراً عند العقلاء ، ويكون سبباً لغوص النفوس في طلب المعاني الدقيقة ، والنظر الى الأسرار الخفية ، ووضع القياسات، واستخراج النتائج ، واتساع في المعارف ، ويكون سبباً ليقظة النفوس من نوم الجهالة وانتباهاً لها من السهو والغفلة ) (2) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 431 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 390 0(1/73)
ومن الفوائد الأُخرى في اختلاف العلماء في الآراء والمذاهب ، هي أنها تُسهم في كشف عيوب الغير على أساس أن الإنسان لا يخلو من محاسن وفضائل ، كما أنه لا ينفك عن وجود مساوئ ورذائل في أخلاقه وسيرة ومذهبة وأفعاله 0 وأن كثيراً من الناس يتظاهرون بمحاسنهم ويفتخرون بفضائلهم ويغضون نظراً عن عيوبهم ومساوئهم ، فاختلافهم في الآراء والمذاهب صار يدعوهم الى كشف عيوب بعضهم بعضاً وذكر مساوئ بعضهم لبعض وهذا يُسهم بدوره في تنبيه الجميع على ترك الرذائل وحثهم على اكتساب الفضائل وعندما يترك هؤلاء مساوئهم والعمل على اكتساب الفضائل ، ففي هذه الحالة يتحقق الصلاح لهذه الأطراف المختلفة في آرائها وعند ذلك يتحقق القول اختلاف العلماء رحمة (1) 0 ومن فوائد اختلاف العلماء في أحكام الدين وشرائعه، واختلاف المذاهب أن هذا الاختلاف سيؤدي بدوره الى دراسة موسعة بأمر الدين ، وعندها لا يكون أمر الدين ضيقاً حرجاً لا رخصة فيه ولا تأويل ويذكرون قوله تعالى (( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج)) (2) 0 فمن هذا الوجه يكون اختلاف العلماء رحمة ، وإن اختلاف أهل الديانات في أمر الدين وسنن أحكامه كما يقول إخوان الصفاء ( حكمة جليلة لا يعرفها إلا المحققون المستبصرون ) (3) 0
خامساً – الجانب العقائدي في المعرفة :-
__________
(1) لم يرد هذا الحديث بهذا اللفظ وإنما ورد (اختلاف أمتي رحمة) شرح النووي على صحيح مسلم ، ج11 ، ص 91 0
(2) سورة الحج ، آية 78 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 391 0(1/74)
اتضح لنا كيف أكد الإخوان المعرفة النسبية للإنسان بوصفه متوسطاً بين الموجودات ولكون أدوات معرفته محدودة من حواس ظاهرة وباطنة فضلاً عن محدودية عقل الإنسان كذلك لم يتفق الناس على حقائق معينة ، كما أنهم ليسوا على مستوىٍ واحد من المعرفة فالإنسان لا يستطيع الإحاطة بكل العلوم التي في زمانه لمحدودية معرفته 0 ولكننا نجد عند الإخوان في حديثهم عن الإنسان المطلق قولاً يخالف ما قالوه عن معرفة الإنسان النسبية إذ قالوا ( وأعلم بأن كل الأشخاص لهذا الإنسان المطلق ، وهو الذي أشرنا إليه أنه خليفة الله في أرضه منذ يوم خُلق آدم أبو البشر، الى يوم القيامة الكبرى ، وهي النفس الكُلية الإنسانية الموجودة في كل أشخاص الناس كما ذكر جل ثناؤه بقوله (( مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ )) (1) وهذا الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه قادراً على قبول جميع الأخلاق والعلوم وأنه موجود في كل زمان ، وأعلم يا أخي أيدك الله بروحٍ منه بأن هذا الإنسان المُطلق الذي قلنا هو خليفة الله ، وهو مطبوع على قبول جميعا لأخلاق البشرية وجميع العلوم الإنسانية والصنائع الحكميّة ، وهو موجود في كل وقت وزمان ، ومع كل شخص من أشخاص البشر تظهر منه أفعاله وعلومه وأخلاقه وصنائعه ... ) (2) 0 أن موقف إخوان الصفاء هذا فيه مفارقة لما قالوه، ففي الوقت الذي أثبتوا فيه محدودية عقل الإنسان نراهم في حديثهم عن الإنسان المُطلق يثبتون له القدرة على معرفة كل العلوم والصنائع والأخلاق 0 فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن ، هل قول إخوان الصفاء هذا جاء لا إرادياً ومن غير قصد أو أنهم تعمدوا هذا القول الذي فرقوا بموجبه بين الإنسان الكلي والإنسان الجزئي (3)
__________
(1) سورة لقمان ، آية 28 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 306 0
(3) عن الإنسان الكلي والإنسان الجزئي ، ينظر الرسالة الجامعة ، ج 1 ، تحقيق جميل صليبا ، مطبعة الترقي بدمشق ، 1949 ، ص 610 ، 612 ، 613 ، 614 0(1/75)
بين الإنسان الذي بإمكانه معرفة كل العلوم والمعارف ، والإنسان الذي يتسم بمحدودية معرفته وعدم قدرة عقله على معرفة كل العلوم والمعارف ؟ للإجابة عن هذا السؤال نذكر قول أحد الباحثين إذ يرى أن إخوان الصفاء يعترفون بمحدودية عقل الإنسان ونقصه كأنهم يُشيدون بذلك الى إمامهم الكامل العقل الذي يستطيع الإنسان بعقلة الناقص أن يلجأ إليه (1) وإذا صح هذا القول فإن الإمام الذي يدعون إليه هو إسماعيل وذريته وذلك لأن أغلب الباحثين أكدوا أن الإخوان هم إسماعيلية ، وإسماعيلية إخوان الصفاء أو علاقتهم بالإسماعيلية (2)
__________
(1) د0 عبداللطيف محمد العبد ، الإنسان في فكر إخوان الصفاء ، ص 181 0
(2) الإسماعيلية :- هم الباطنية إذ لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهرٍ باطناً ولكل تنزيل تأويلاً ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قومٍ قوم ، فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية ، وبخراسان التعليمية والملحدة وهم يقولون أنهم إسماعيلية تمييزاً لهم عن فرق الشيعة بهذا الاسم وهذا الشخص 0 الملل والنِحل ، محمد عبدالكريم الشهرستاني ، ج1 ، ج2 ، ص 112 0 والإسماعيلية تُنسب الى إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق 0 ويظهر أنه لم يكن لهم شأن في عهد إسماعيل نفسه ، ولم تبدأ اتجاهاتها إلا بعد موته بنحو مائة سنة ، ولم تُعرف نسبتها إليه إلا متأخراً ، وقد ربطت بسلسلة من الأئمة الذين جاءوا بعده واستتروا ، لأنه لم تتحقق لديهم قوة تمكنهم من مواجهة أعدائهم وتعاقبوا في دور الستر هذا الواحد تلو الآخر الى أن ظهر عبيدالله بن المهدي ( 322 – 934 ) مؤسس الدولة الفاطمية وقد مهد لهذه الدولة حمدان القرمطي ( 276 – 890) وتفرع عنها الدروز اتباع درزي تلميذ الحاكم بأمر الله والحشاشون اتباع الحسن بن الصباح ، وممثلوا الإسماعيلية النزارية 0 وللإسماعيلية حالياً أنصار ومؤيدون في فارس وأواسط آسيا وإفغانستان ، والهند و عمان والشام ، وزنجبار وتنجانيقا 0 وتولى أخيراً آغا خان (1957) زعامتهم وانتقلت الزعامة الى أعقابه من بعده 0 د0 إبراهيم مذكور ، في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه ، ج2 ، دار المعارف بمصر ، القاهرة ، ص 64 0 حول معرفة إسماعيلية بلاد الشام وبلاد فارس، والهند ، يُنظر دائرة المعارف الإسلامية ، ج3 ، منشورات جيهان ، طهران ، من ص 188 – 193 0(1/76)
أمرٌ أكده باحثون كثيرون سواء أكانوا مستشرقين أم باحثين عرب ، فضلاً عن دعاة الإسماعيلية الذين أكدوا أن إخوان الصفاء هم إسماعيلية وأن الرسائل من عمل الأئمة من نسل إسماعيل وهذا ما سوف نُشير إليه لاحقاً 0 ولنبدأ بقول جولدتسهير إذ يقول عن علاقة الإخوان بالإسماعيلية ( وقد بدأ الإسماعيلية بنظرية الفيض الأفلاطونية ، تلك التي بنت عليها جماعة إخوان الصفاء البصرية (1) فلسفتها الدينية في موسوعتها المصنفة ، واستنبطت الإسماعيلية من هذه الفلسفة أعمق نتائجها وأشدها تطرفاً) (2)
__________
(1) ذكر ابو حيان التوحيدي أسماء إخوان الصفاء بالبصرة وذلك عندما سأله الوزير صمصام الدولة بن عضد الدولة ، عن زيد بن رفاعة الذي يُعد من أعضاء هذه الجمعية وهم ( أبو سليمان محمد ابن معشر البستي ويُعرف بالمقدسي ، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني ، وأبو أحمد المهرجاني ، والعوفي ) يُنظر تأريخ الحكماء ، جمال الدين علي بن يوسف القفطي ، مؤسسة الخانجي بمصر ، مكتبة المثنى بغداد ، ص 83 0 فضلاً عن هذه الجماعة نجد أبي حيان التوحيدي في كتاب ( المقابسات ) يذكر جماعة منهم ( أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني ، وأبو زكريا الصيمري ، وأبو الفتح النوشجاني ، وأبو محمد العروضي ، والمقدسي ، والقومسي ) يُنظر المقابسات أبو حيان التوحيدي ، تحقيق محمد توفيق حسين ، مطبعة الإرشاد ، بغداد ، 1970 ، ص 57 0 وعدّ عمر الدسوقي هؤلاء من جماعة إخوان الصفاء في بغداد ، يُنظر كتابه إخوان الصفاء ، ص 56 – 57 ويذكر الأستاذ طه حسين وماكدونالد أن أبا العلاء المعري كان على علاقة بإخوان الصفاء في بغداد ، يُنظر طه حسين ، من تأريخ الأدب العباسي الثاني ، ج3 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ص 494 0 كذلك يُنظر: ... ... ... ... Promac donald;Muslim theology;London;1903,p,199.
(2)
(1) أجناس جولد تسهير ، العقيدة والشريعة في الإسلام ، تأريخ التطور العقيدي والتشريعي في الدين الإسلامي 0 نقله الى العربية د0 محمد يوسف موسى ، د0 علي حسن عبدالقادر ، الأستاذ عبدالعزيز عبدالحق ، دار الكتب الحديثة بمصر ، الكتاب العربي ، ط3 ، 1959 ، ص 239 0(1/77)
أما هنري كوربان فقد أوضح بأن إخوان الصفاء إسماعيلية وهذا ما نجده بقوله ( لم يكن إخوان الصفاء جماعة ألف بين قلوبهم المذهب الشيعي وحسب، بل كانوا جماعة فكرية ذات نزعة إسماعيلية خاصة على الرغم من أن كتابتهم الحذرة لا تكشف عن الأمر إلا بأولي العلم والإدراك ... وإذا ثبت لدينا أن نسخات عده كانت توزع سراً في المساجد ، فالغرض من ذلك برأي التعليم الإسماعيلي ، توعية من له القدرة على المعرفة بأن هناك أموراً وراء الشريعة ، هذه الشريعة التي لا تنجع إلا في شفاء النفوس الضعيفة والمريضة ) (1) ويذهب كثيرٌ من المستشرقين الى هذا الرأي أي وجود علاقة بين إخوان الصفاء والإسماعيلية ومنهم كازانوفا القائل إن آراء الإسماعيلية هي نفسها التي عبر عنها إخوان الصفاء في رسائلهم 0 وديمفروميري ، القائل بأن زعيم الإسماعيلية سنان الملقب براشد الدين ، إذ أكب على مطالعة إخوان الصفاء (2) وغيرهم من المستشرقين الذين أثبتوا هذه العلاقة 0 ومن الباحثين العرب الذين أكدوا إسماعيلية إخوان الصفاء نذكر منهم على سبيل المثال لا على سبيل الحصر كما فعلنا مع المستشرقين نذكر عبداللطيف الطيباوي إذ قال ( لا أراني مصيباً في القول بأن فلسفة الإسماعيلية جميعها مبثوثة في رسائل إخوان الصفاء فعليه فمن الجوّر أن يرمي الإسماعيلية بالكفر والانحطاط الخلقي كما جاء في فتاوى ابن تيمية ) (3) أما الدكتور عبدالمنعم الحفني
__________
(1) هنري كوربان بالتعاون مع السيد حسين نصر وعثمان يحيى ، تأريخ الفلسفة الإسلامية ، ترجمة نصير مرّوه ، حسن قبيسي ، راجعه الإمام موسى الصدر ، عارف تامر ، منشورات عويدات ، بيروت لبنان ، ط1 حزيران ، 1966 ، ص 210 0
(2) عارف تامر جامعة الجامعة ، منشورات مكتبة الحياة للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان ، ط2 ، ص 10 – 11 0
(3) عارف تامر ، حقيقة إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، منشورات المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، لبنان ، ط 2 ، 1966 ، ص 16 0(1/78)
فقد قال ( إن هناك من الدلائل ما يثبت أنهم من الشيعة وأنهم ارتبطوا بطائفة من الإسماعيلية ، ولعل هذا هو سبب تغلغل الفلسفة الإغريقية في أفكار الفلسفة الإسماعيلية ) (1) ويرى مصطفى غالب أن إخوان الصفاء إسماعيلية وأن الإمام المستور أحمد بن عبدالله الذي يُعد من ألمع أئمة دور الستر الأول ، هو الواضع للكتاب المعروف رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء (2) وقد اعتمد مصطفى غالب هذا القول بناءً على ما ورد في كتب دعاة الإسماعيلية ، وبالتحديد اعتمد على قول الداعي المُطلق إدريس عماد الدين القرشي إذ قال ( وقام الإمام التقي أحمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل عليهم السلام بعد أبيه بأمر الإمامة ... . ولما خشي الإمام على شريعة جده المختار ... . ألف رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء وجمع فيها من العلوم والحِكم والمعارف الإلهية والفلسفية والشريعة ، وأبان فيها الفضائل النبوية ودل على فضل نبينا محمد صلى الله عليه وآله ... . وبعد ذلك ذكر فهرست الرسائل وقال إن عددها 52 رسالة وبعد ذلك تكلم عن الرسالة الجامعة ، وإن الإمام أمر أن تُبث تلك الرسائل في المساجد لتقوم بها على المخالفين البراهين والشواهد (3)
__________
(1) د0 عبدالمنعم الحفني ، الموسوعة الفلسفية ، دار ابن زيدون ، بيروت ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، ط 1 ، ص 34 0
(2) مصطفى غالب ، الرسالة الجامعة ، تأليف الإمام المستور أحمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ، دار صادر بيروت 1974 ، ص 7 0 كذلك يُنظر مصطفى غالب ، فلاسفة من الشرق والغرب ، منشورات حمد ، بيروت ، ط 1 ، ص22 0
(3)
(1) الداعي المُطلق إدريس عماد الدين القرشي ، عيون الأخبار وفنون الآثار ، السبعّ الرابع ، تحقيق د0 مصطفى غالب ، دار التراث الفاطمي ، بيروت ، 1973 ، ص 367 – 368 0(1/79)
أما عارف تامر وإن أكد ، أن إخوان الصفاء إسماعيلية إلا أنه يقول إن مؤلف الرسائل هو عبدالله بن محمد ، وبذلك خالف عماد الدين القرشي ، ونلاحظ عارف تامر في تحقيقه للرسالة المذهبة للقاضي النعمان بن حيون المغربي التميمي يقول إن الذي أسهم في تأليف الرسائل أكثر من إمام ، ولنذكر قول النعمان وكيف شرحه عارف تامر ( وسألت عن معنى قول الصادق صلوات الله عليه 0 عن تمام أمرنا بسبعة منا وأربعة من غيرنا 0 فالثلاثة هم ولده وولد ولده والأربعة من غيرنا أراد من غير عصره ومن غير ذريته وهم ( الأحدث ، والمختلس ، وأخا المختلس ، والقداح ) وهم المتممون عليهم السلام ... وهم بالتحقيق الأئمة الثلاثة المستورون عبدالله ، وأحمد ، والحسين ، والحُرم الأربعة مؤلفو الرسائل عبدالله بن حمدان وعبدالله بن ميمون وعبدالله بن المبارك (1) فالإسماعيلية ودعاتهم لم يتفقوا على عدد الرسائل ولا على اسم من ألفها فمنهم من يقول أن مؤلفها هو أحمد بن عبدالله وبعضهم يقول أنه عبدالله بن محمد ، فالذين يقولون إن مؤلفها الإمام أحمد يرون إن عدد الرسائل 53 رسالة بحسب حساب الجُمل ، أما القائلون بأن مؤلفها عبدالله بن محمد يرون أن عدد الرسائل 52 رسالة بحسب حساب الجُمل ، وتعليل آخر للعدد 52 إنها جاءت مطابقة لعدد ركعات الصلاة المفروضة (2) وما يتبعها من النوافل مضافاً إليها النية المتممة للصلاة فيكون المجموع 52 وعدوا النية تأويلاً
__________
(1) خمس رسائل إسماعيلية ، تحقيق وتقديم عارف تامر ، منشورات دار الإنصاف للطباعة والنشر ، سلميه سوريا، 1956 ص 72 0
(2) حول عدد الركعات ، يُنظر الى ما نقله عن الإمام الصادق ، القاضي أبي حنيفة النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيون التميمي المغربي في كتابة ، دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام ، ج1 ، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي ، دار المعارف القاهرة ، 1963 ، يُنظر ص 132 ، 133 ، 156 ، 208 ، 209 0(1/80)
للرسالة الجامعة (1) أما رأي الأستاذ علي سامي النشار بهذه المسألة فيقول ( ولا شك أن رسائل إخوان الصفا هي إسماعيلية سواء وضعها الإمام أحمد ، نفسه أم أتباعه ، والهدف من هذه الرسائل هو أنهم أرادوا أن يثبتوا معرفة الأئمة بعلوم باطنية لا يعرفها سواهم ، وهذا يبدو في محاولتهم الإلمام بجميع نواحي الفلسفة الغنوصية من أفلاطونية محدثة وفيثاغورية جديدة مختلطة مع العقائد لإسلامية ) (2) وقول النشار قريب جداً من قول المستشرق واط فهو بعد أن بين علاقة الإخوان بالإسماعيلية نجده يقول ( أن إخوان الصفاء يدعون أن علومهم مستمدة من الإمام مع أن أغلبها جاءت من الفلسفة اليونانية ومن حكمة العرب ) (3) ومسألة أخذ الإخوان أفكاراً من الفلسفة ومن حكمة الهند والفرس فضلاً عن أخذها من الديانة المسيحية واليهودية مسألة أكدها دونالد سون إذ قال ( أن إخوان الصفاء قدموا رسائل باطنية تشهد على أخذهم من الفلسفة اليونانية ولا سيما الفيثاغورية فضلاً عما أخذوه من حكمة الهند والفرس ومن كتب اللغة والأدب ومن كتب الديانة اليهودية والمسيحية (4) وهذه المسألة أي أخذ الإخوان أفكاراً من الفلسفة اليونانية ومن حكمة الهند والفرس وأخذهم أفكاراً من مختلف الأديان لا تخفى على من يقرأ رسائلهم 0 ولم يقف إخوان الصفاء عند هذا الحد بل نراهم كونهم مسلمين قد جمعوا أفكاراً شاركوا فيها المعتزلة وأُخرى شاركوا فيها الأشاعرة وأفكاراً شاركوا فيها الأثنى عشرية وأُخرى خالفوهم بها (5)
__________
(1) د0 جعفر آل ياسين ، في رحاب إخوان الصفاء ... ... ... ، ص 9 0
(2) علي سامي النشار ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ج2 دار المعارف بمصر ، ط2 ، 1964 ، ص 375 0
(3) ... ... ... ... ... Watt, Islam and the Integration of society, London , 1960, p 70 .
(4) Dwicht ,M, Donaldson,Studies in Muslim Ethics, London , 1953, p104. ... ...
(5)
(1) محمد كامل حسين ، وثنية إخوان الصفاء ، مجلة الكاتب المصري ، المجلد السادس ، عدد 24سبتمبر ، 1947 ، ص 664 0(1/81)
فضلاً عن وجود نصوص عديدة قالوا فيها بأنهم علويون ، فالشبه بين بعض أفكار الإخوان مع بعض أفكار المعتزلة جعل بعض الباحثين يقولون بأنهم معتزلة إذ ذهب الى هذا الرأي عادل عوّا ، معتنقاً بذلك رأي جرجي زيدان وبرون وغيرهما (1) ومشاركة الإخوان للمعتزلة وقولهم بأنهم علويون فضلاً عن وجود أفكار يشتركون بها مع الإسماعيلية ، وكذلك وجود أفكار فيثاغورية وأفلوطينية وأُخرى أُخذت من المجوس فكل هذه الأفكار دفعت أحد الباحثين الى القول بأن إخوان الصفاء علويون وباطنيون وإسماعيليون ومعتزلة وفيثاغوريون وأفلوطينيون ومجوس (2) 0
__________
(1) يوحنا قمير ، إخوان الصفاء ، منشورات دار المشرق ، بيروت ، لبنان ، 1986 ، ص 16 0
(2) يُنظر ، د0 جبور عبدالنور ، إخوان الصفاء ، ص 26 0(1/82)
اتضح لنا أن من الباحثين من يقول أنهم معتزلة وبعضهم يقول بأنهم إسماعيلية ولكن أجمع أغلب الباحثين على إسماعيلية إخوان الصفاء 0 فهل نحكم على أن الإخوان إسماعيلية بناءً على ما قاله إجماع الباحثين من مستشرقين وعرب أو نقوم بمقارنة بين بعض نصوص رسائل الإخوان وما ورد في كتب الإسماعيلية 0 فإذا ثبت لنا أن الإخوان هم الإسماعيلية عندها نعرف السبب الذي أكد من أجله إخوان الصفاء محدودية عقل الإنسان إن معرفته نسبية وأن عقله قاصرٌ عن إدراك كثيرٍ من الحقائق التي يحتاج الى معرفتها من الإنسان المطلق الذي له القدرة على معرفة كل العلوم والمعارف والأخلاق وهذه بعض نصوص لإخوان الصفاء تبين أنهم شيعة إسماعيلية منها قولهم ( ومما يجمعنا وإياك أيها الأخ الرحيم محبة نبينا ، عليه السلام ، وأهل بيته الطاهرين ، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، خير الوصيين صلوات الله عليهم أجمعين ) (1) ومنها قولهم بالأبوة الروحانية إذ قالوا ( وأعلم يا أخي بأن لكل نفس من المؤمنين أبوين في عالم الأرواح ، كما أن لأجسادهم أبوين في عالم الأجساد ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لعلي رضي الله عنه:أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة،قال تعالى( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِين) (2) وهذه الأبوة روحانية لاجسمانية ) (3) ومنها قولهم ( وأعلم يا أخي أنا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج ، لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا ، وفهموا بعض معانيها وعرفوا حقيقة ما هم مقرون به من تفضيل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، بأنهم خُزان علم الله ، ووارثو علم النبوات ، وتبين لهم تصديق
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 195 0
(2) سورة الحج ، آية 78 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 213 0(1/83)
ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة ، والفهم والتمييز والبصيرة في الآفاق ، بما في أنفسهم من الآيات لقومٍ يوقنون ويعلمون أنه الحق من ربهم ، ولكيما لا يحتاجون الى تفسير المخالفين لكتب الأنبياء عليهم السلام ) (1) فضلاً عن النصوص التي أوضحوا فيها أنهم شيعة نجد لديهم نصاً يُبين ادعاءهم بالانتساب الى العَلَويّة إذ قالوا ( ... إن قوماً من أشرار الناس جعلوا التشيع ستراً عما يحضرون من الآمرين عليهم بالمعروف الناهين لهم عن المنكر فيما يفعلون ، وذلك أنهم يركبون كل محظور ، ويتركون كل مأمور به ، وإذا نُهوُا عن منكر فعلوه ، بارزوا بإظهار التشيع واستعاذوا بالعَلَويّة على من يُنكر عليهم أو ينهاهم عن مُنكر فعلوه ، ولبئس ما كانوا يعملون 0 ومن الناس طائفة يُنسبون إلينا بأجسادهم وهم براء بنفوسهم منا ، ويُسمون أنفسهم بالعَلَويّة وما هم من العلويين ) (2) وفي نقدهم لبعض الفرق الشيعية يؤكدون مسألة ألا وهي مسألة الإمام المنتظر 0 فقد نقدوا من يقول أنه غائب من خوف أعدائه وإنما يقول إخوان الصفاء ( كلا بل هو ظاهر بين ظهرانيهم يعرفهم وهم له منكرون ) (3) 0 إن ما أوردناه من نصوص شاهده على نسبتهم للإسماعيلية 0 وهناك أفكار عديدة تُعبر عن إسماعيلية إخوان الصفاء نذكر منها بعض المسائل على سبيل الإيجاز وليس على سبيل الحصر 0 منها قول إخوان الصفاء ( وأعلم أيها الأخ البار الرحيم أيدك الله وإيانا بروحٍ منه أن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد منهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين ... ومنهم طائفة من أولاد العلماء والفقهاء ... وقد ندبنا لكل طائفة منها أحد من إخواننا ممن ارتضيناه في بصيرته ومعارفه لينوب عنا في خدمتهم وإلقاء النصيحة إليهم بالرفق والرحمة والشفقة عليهم ... ) (4)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 186 0
(2) المصدر نفسه ، ص 147 0
(3) المصدر نفسه ، ص 148 0
(4) المصدر نفسه ، ص 165 0(1/84)
إن قول إخوان الصفاء هذا قريب من قول الإمام الفاطمي المُعز لدين الله في كتابة المشهور المرسل الى حسن الأعصم قائد جيوش القرامطة ( فما من جزيرة في الأرض ولا إقليم إلا ولنا فيه حجج ودعاة يدعون إلينا ويدلون علينا ويأخذون بذمتنا ويذكرون رجعتنا وينشرون علمنا وينذرون بأسنا ويُبشرون بإمامنا ... .. )(1/85)
(1) ومن المسائل التي يشترك فيها إخوان الصفاء مع الإسماعيلية هي قولهم بأن لكل ظاهرٍ باطناً ( فأعلم يا أخي بأن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهراً وباطناً ، وظواهر الأُمور قشور وعظام ، وبواطنها لُب ومخ ، وأن الناموس هو أحد الأشياء الموجودة في هذا العالم منذ كان الناس ، وله أحكام وحدود ظاهرة بينه يعلمها أهل الشريعة وعلماء أحكامها من الخاص والعام ، ولأحكامه وحدوده أسرار وبواطن لا يعرفها إلا الخواص منهم والراسخون في العلم ) (2) ومن الأفكار الإسماعيلية في فكر إخوان الصفاء قولهم ( ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أخلص العبادة لله أربعين يوماً فتح الله قلبه وشرح صدره وأطلق لسانه بالحكمة ولو كان أعجمياً غلِفاً ) (3) فتأويل كلمة الأربعين تحتل المكان الأول في اعتقادات الإسماعيلية ، فأربعون يوماً يدل معناها بالتعريف الإسماعيلي الفلسفي الباطني على الأربعين حداً الذي تتكون منه الدعوى الإسماعيلية في كل عصر وزمان هذا من جانب ومن جانب آخر فأن معنى جملة ( من أخلص لله العبادة أربعين يوماً فتح الله قلبه وشرح صدره) أنه يجب على كل من يرغب بالوصول الى المعرفة التي منها ينبثق فتح الصدور وشرح القلب وإطلاق اللسان بالحكمة والعبادة الفعلية الخالصة لله ، فالذي يريد الدخول الى هذه الدعوة يجب عليه أن ينضوي تحت لواء الدعاة الأربعين الذين تتألف منهم الدعوة وأن يأخذ عنهم العلوم الإمامية العليا واحداً بعد الآخر بالترتيب الى تمام الأربعين وعندئذ يكون قد وصل الى معرفة العلوم الشرعية والحقيقية والناموسية (4)
__________
(1) عارف تامر ، جامعة الجامعة ، ص 21 ، كذلك يُنظر كتاب حقيقة إخوان الصفاء لعارف تامر ، ص 20 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 328 0
(3) المصدر نفسه ، ص 117 0
(4)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 234 ، 235 ، 237 ، 238 0(1/86)
ومن الأفكار التي يُشارك بها إخوان الصفاء الإسماعيلية هي حديثهم عن صدور الموجودات عن الباري تعالى وقولهم أن أول موجود أوجده الباري تعالى العقل الكلي وأنه جوهر روحاني بسيط وبعد العقل ، النفس الكُلية التي هي صورة روحانية فاضت من العقل الكلي الذي هو أول موجود أوجده الله ، ومن النفس الكُلية فاضت الهيولى الأولى ثم الجسم المُطلق الذي هو صورة في الهيولى الأولى وهذا الجسم المُطلق قبلَ الطول والعرض والعمق فصار جسماً ، والموجودات الجسمانية ومنها الأجرام الفلكية والأركان الأربعة الطبيعية ومنها المولدات الكائنات0كذلك في حديثهم عن صور الموجودات وأنها على الرغم من كثرتها فإنها تعود الى الله تبارك وتعالى إذ قالوا الموجودات كلها صور وأعيان غيريات أفاضها الباري عز وجل على العقل الكلي الذي هو أول موجود أوجده الباري وهو جوهر بسيط روحاني فيه جميع صور الموجودات غير متراكمة ولا متزاحمة كما يكون في نفس الصانع صور المصنوعات قبل إخراجها ووضعها في الهيولى وهو فائض تلك الصور على النفس الكلية دفعة واحدة بلا زمان كفيض الشمس نورها على الهواء وأن النفس قابله لتلك الصورة تارة ، وفائضة على الهيولى تارة ، كما يقبل القمر نور الشمس تارة ، ويفيض على الهواء تارة 0 وأن الهيولى قابلة تلك الصور من النفس الكلية شيئاً بعد شيء على التدريج بالزمان ، كما يقبل الهواء نور القمر في وقت دون وقت ، ومن مسامتة دون مسامتة ، كما يقبل التلميذ من الأستاذ شيئاً بعد شيء) (1) أما عن تتالي الموجودات في الحدوث فقد بينوا أن صور الموجودات يتلوا بعضها بعضاً في الحدوث والبقاء عن الباري تعالى الذي هو علّتها الأولى ، كما يتلو العدد أزواجه وأفراده بعضها بعضاً في الحدوث والنظام عن الواحد الذي قبل الاثنين وأكدوا أن الألفاظ التي تطلق على الموجودات إنما هي ألقاب وسمات يُشار بها الى الصور ليميز بين إضافات بعضها الى بعض ،
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 233 0(1/87)
كما يميز بين الأعداد بالألفاظ0فالصورة الواحدة تارة تسمى هيولى وتارة تسمى جوهرية ، وتارة عرضيه ، وتارة بسيطة ، وتارة مركبة وتارة روحانية وتارة جسمانية وتارة علّه ، وتارة معلولة وما شابه هذه الألفاظ ، كما يسمى العدد الواحد تارة نصفاً وتارة ضعفاً وتارةثلثاً ، وتارة ربعاً ، وتارة غير ذلك بإضافة بعضها الى بعض (1) هذه الأفكار التي قالها إخوان الصفاء هي الأفكار التي أكدها دعاة الإسماعيلية الذين دونوا الكتب الفلسفية إذ بحثوا هذا الموضوع بحثاً دقيقاً وفصلوه تفصيلاً بديعاً فما قاله الإخوان هذا هوترتيب عالم الإبداع كما جاءبرسائلهم ويقابل هذا العالم عوالم ثلاثة كل واحدمنها ممثول للاثنين الآخرين وهم عالم الأجرام وعالم الأجسام وعالم الدين وقدتناول هذا الموضوع أغلب دعاة الإسماعيلية في مؤلفاتهم الفلسفية ومن هؤلاء الدعاة المؤيد في الدين الشيرازي ، وأبو يعقوب السجستاني (2)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 234 0
(2) يقول السجستاني : إن الله أمر بخلق العالم ( ويُسمى أمر الله تعالى ذكره ، بأسماء كثيرة منها العلم ، والكلمة ، والوحدة ) فمعنى اسم العلم الواقع على أمره أن أمر الله لم يخالف علمه ولا علمه يخالف أمره ولا وقع بين ما علم من كيفية إبداع المبدعات وبينما أمر فعل بينونة كما يقع بين أوامر من دون المبدع 0 ومعنى اسم الكلمة الواقع على أمره لأن الكلمة مما تحمل على الاسم ليكون به قولاً مؤلفاً من اسم وكلمة فلما وضعت الكلمة بمعنى أمر المبدع فقد أمر المبدع جل جلالة أن تلحق بأمره كلمته كما تلحق بما دونه من المبدعين فهو أمره و المعنى أن الكلمة لا تتعدى الى ما فوق بل حلت محل أمره وتوجهت على اتحاد أمره به وهو السابق والمراد بالسابق العقل ومن دونه لم تنفصل الكلمة في باب التوجه فيلحق بكل مبدع من الكلمة على مقدار شرفه وسبقه وصفوته ... ومعنى الوحدة الواقعة على أمره معناها أن الله تعالى مقدر التوحيد وأن وحدته مزجت الأشياء دفعه واحدة 0 يُنظر رسالة تحفة المستجيب 0 للداعي الأجل أبو يعقوب إسحاق السجستاني ( السجزي ) ضمن كتاب خمس رسائل إسماعيلية ، تحقيق وتقديم عارف تامر ، ص 148 0(1/88)
ومنصور اليمني والقاضي النعمان بن حيون المغربي ، وأحمد حميد الدين الكرماني (1) وأبو حاتم الرازي والنخشي والنسفي (2) 0
هذه الأفكار التي أوردناها وبشكل موجز جداً تُعبر بلا شك عن إسماعيلية إخوان الصفاء ، وبما أنهم كذلك فقد أكدوا الرئيس الروحي أو الإمام الذي يُعدّ وجوده ضرورياً في كل عصراً وزمان ، أو بتعبير إخوان الصفاء الإنسان الكلي الذي يمتاز بالقدرة على معرفة كل العلوم والمعارف والأخلاق ، فتأكيد إخوان الصفاء نسبية المعرفة الإنسانية لا يُعبر عن وجهة نظرهم بوصفهم أصحاب معرفة قدموا بأدلة عديدة ومقنعة محدودية المعرفة الإنسانية وحسب وإنما أرادوا أن يؤكدوا مسألة تتعلق بالجانب العقائدي ألا وهي حاجة الإنسان الى علم الإمام بوصفه عارفاً بكل العلوم وضروب المعرفة شتى فيستمد منه الإنسان ما لم يستطع معرفته لحكم إمكانياتها المحدودة على المعرفة 0
الفصل الثاني
مصادر المعرفة
المبحث الأول
أجناس العلوم
مدخل
__________
(1) يسمي الكرماني ، خلق الله للعالم إبداعاً وأنه أبدع الوجود لا من شيء وإبداع الله للوجود يعبر عن قدرة الباري جل وعلا 0 وكل هذه الكثرة في الموجودات إنما تعود في النهاية الى مصدرة الوحدة الذي أبدعها وهو الباري جل وعلا الذي لم يسبقه شيء في الوجود وليس لوجوده عله أوجدته وليس هو في مادة تعالى الله عن كل هذه الصفات 0 وصدر من الواحد المنبعث الأول وهو العقل الثاني المسمى في السُنة الإلهية القلم وأنه في الكمال كالأول وأنه لا جسم وليس في جسم وأن وجوده لا عن قصدٍ أول 0 أما عن الهيولى فيذكر الكرماني أنها في السُنة اللوح المحفوظ 0 يُنظر الداعي أحمد حميد الدين الكرماني ، راحة العقل ، تحقيق وتقديم د0 محمد كامل حسين ، د0 محمد مصطفى حلمي ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، مصر ، ص73 – 74 0
(2) عارف تامر ، جامعة الجامعة ، ص 33 0(1/89)
تكلمنا في الفصل الأول عن طرق اكتساب المعرفة وكان حجر الزاوية في هذا الموضوع هو الإنسان بوصفة ذاتاً عارفة فكان جُلَ اهتمامنا على تركيبة جسده البايلوجية وعلى قواه النفسية الداخلية ، وقد بينا دور الحواس الظاهرة التي عن طريقها يستطيع الإنسان معرفة العالم الخارجي ، وتناولنا بالحديث أيضاً دور الحواس الباطنة التي مكانها في داخل الجسم وكيف تقوم بتحويل ما ينقل إليها من ادراكات حسية الى معرفة منظمة عن العالم 0 أما في هذا الفصل فسيكون قطب الرحى والأساس الذي تبنى عليه مادته هو موضوع العلم الذي يُعد مصدراً مهماً من مصادر المعرفة أو هو بمثابة معين لا ينضب برفد الإنسان بضروب المعرفة شتى ، فله الدور البارز في الدنيا والآخرة وله المكانة المرموقة في الإسلام ، فحث الباري تعالى على طلب العلم وأهميته في آيات كثيرة نذكر منها قوله تعالى (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )) (1)
__________
(1)
(1) سورة المجادلة ، آية 11 0(1/90)
وحث الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في جملة أحاديث على طلب العلم منها قوله ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) (1) وأهمية العلم وضرورة طلبه من المسائل التي أكدها إخوان الصفاء وستتضح لنا هذه الأهمية عندما نتحدث عن تعريفهم للعلم وفضيلة طلبه ، وما هي أجناسه ، وما هي المصادر التي يعتمدون عليها في معارفهم وما هو موقفهم من العلوم والأديان والمذاهب ، فكل هذه المواضيع ستكشف لنا عن مدى اهتمام الإخوان 0 ولا تخفى هذه الأهمية على من قرأ رسائلهم التي هي أشبه بدائرة معارف شاملة لكل العلوم في زمانهم والسابقة على زمانهم وهم بلا شك عندما قسموا العلوم قد تأثروا بالفارابي في كتابه احصاء العلوم (2) وهي على كل حال تمثل العلوم العربية وما توصلت إليه في القرن الرابع الهجري ( العاشر الميلادي ) كالنحو والفقه والنقد الأدبي وعلوم البلاغة والتفسير والتاريخ والجغرافيا ... الخ من العلوم (3) كما أكد إخوان الصفاء العلم وأهميته ، ففيه تكمن قيمة الإنسان ومكانته وفي طلبه كرامة لصاحبه وتحقيقٌ لرضى الله تبارك وتعالى 0 ولنبدأ بتعريف العلم يقول إخوان الصفاء في تعريفهم للعلم ( وأعلم يا أخي بأن العلم إنما
__________
(1) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ،مسند أحمد بن حنبل ، تحقيق ، أحمد فؤاد عبدالباقي ، ج4 ، مطبعة برلين ، ص 332
(2) قَسم الفارابي هذا الكتاب الى خمسة فصول : الفصل الأول في علم اللسان وفروعه من نحو وصرف وبيان وشعر وقوانين الكتابة والقراءة ، والفصل الثاني في علم المنطق وأجزائه ، والثالث في علوم التعاليم أي العلوم الرياضية ، والفصل الرابع في العلم الطبيعي والعلم الإلهي ، والخامس في العلوم المدنية ( أي علم الأخلاق وعلم السياسة المدنية ) وفي علم الفقه وعلم الكلام ، يُنظر الفارابي ، احصاء العلوم ، تحقيق عثمان أمين ، مطبعة السعادة ، مصر ، 1931 0 من ص 3 - 77 0
(3) عمر الدسوقي ، إخوان الصفاء ، ص 46 – 47 0(1/91)
هو صورة المعلوم في نفس العالم ، وضده الجهل ، وهو عدم تلك الصورة من النفس ) (1) وفي موضعٍ آخر عرفوا العلم : بأنه هو المستفاد بطريق التعليم والتعلم وقد قسم الإخوان هذا العلم الى قسمين ، نظري يستنبطه الإنسان بإجالة فكره ، وأعمال رويته وتتقدمه مقدمات من المعارف الحسية والبداءه العقلية الغريزية (2) حتى يخرج من القوة الى الفعل ومن الخفاء الى الظهور ، ومن العدم الى الوجود بحركة النفس الناطقة 0 ومن هذه العلوم علم العدد والهندسة والهيئة والتأليف وغيرها 0 أما القسم الآخر فهو الخبري ، ويصل إليه الإنسان من خلال قراءة ورواية الأخبار ونقل الرجال عن الرجال ، فمكان حقاً وصدقه البرهان كان علماً ، وأما من كان بخلاف ذلك فقد خرج من حد العلم لأنه كذبٌ ، والعلم الخبري أما أن يكون خبراً وقع تحت الحس والعيان في وقتٍ من الأوقات وكنه الآن غائب عن الحواس لبعد مكانه أو لتقادم زمانه مثل أخبار القرون التي خلت 0 أو أن يكون خبراً غير واقع تحت الحس والعيان كالأخبار التي نُخبر بكونها في المستقبل ومجيئها في المستأنف وهي خارجه عن مجاري عادات الناس ، وهذا هو الذي أتى به الأنبياء عليهم السلام وأن ما جاء به الأنبياء من أخبار ابتداء الخلق ، وبدء النشوء ، وتأليف المركبات ، وخلق الأمهات ، وإبداع الباري سبحانه وتعالى عالم العلو والسُفل ... ووصف الحشر والنشر والمعاد والجزاء من الثواب والعقاب والنعيم ... الخ فهذه وأمثالها مسائل لا تُدرك بالحس ولا تستنبط بطريق القياس والعلم بها من طريق التصديق بها بقول الأنبياء عليهم السلام (3)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 262 0
(2) البداءه : تعني البداهة Commonsense وهي حقائق لا تقبل الشك 0
(3)
(1) يُنظر الرسالة الجامعة للحكيم المجريطي ، تحقيق جميل صليبا ، ج 1 ، ص 39 ، 40 ، 41 ، 42 0(1/92)
أن إخوان الصفاء هنا لا يقسمون العلم الى نظري وعملي كما عند الفارابي وأرسطو وإنما يقسمون العلم الى علم طريقة العقل والنظر وهو النظري وآخر وهو طريقة النقل والوحي وهي العلوم النقلية 0 وفي موضع آخر من رسائلهم يفصلون أجزاء العلم النظري الى أربعة أقسام وهي علم الألفاظ ، علم المعاني وموضوعه السياسات النبوية والتكليفات الشرعية فهي علوم الملة ، علم الحكمة وهو الأخبار بأسرار الكتب النبوية والإشارات الإلهية والرموزات الحكمية في الأمور الظاهرة ، العلوم المحكمة الإلهية التي تكلم بها واعتمدها الحكماء الإلهيون (1) وسوف نجد تقسيمات مختلفة للعلوم سوف نذكرها في موضوع أجناس العلوم 0 بعد أن قدمنا عرضاً موجزاً لموضوع العلم وتعريفه سنتحدث عن فضيلة طلب العلم وأهميته وإذ كنا قد ذكرنا أن في العلم تكمن قيمة الإنسان ومكانته وأنه من خلال طلب العلم سوف ينال رضى الله 0 فمسألة رضى الله تعالى تتحقق على عبادة متى ما عملوا بالواجبات وابتعدوا عن المحرمات 0 والعلم من أوجب مفروضات الشريعة وأحكام الناموس وأجلها وأنفعها للإنسان وأقرب الى رضى الله تبارك وتعالى بعد الإقرار به والتصديق لأنبيائه ورسله بما جاءوا به وخبروا عنه ، وعن شرف العلم وجلالة قدره وأهميته نذكر قول إخوان الصفاء ( وبيان ذكر شرف العلم ، على ما ذكرناه من فضيلته وجلالته وفضل طلبه وتعلمه ، ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم 0 أنه قال: (( تعلموا العلم فأن في تعلمه لله خشية ، وطلبه عباده ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمونه صدقة ، وبذله لأهله قربى لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبيل الجنة ، والمؤنس في الوحدة والوحشة ، والصاحب في الغربة ، والدليل على السراء والضراء ،
__________
(1) د0 حسام محيي الدين الألوسي ، دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط1 ، 1980 ، ص 216 0 يُنظر الجامعة ، ج1 ، ص 46 – 47 0(1/93)
والسلاح على الأعداء ، والمقرب عند الغرباء ، والزّيْنُ عند الإخلاء ، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة يهتدى بهم ، وأئمة في الخير تقتفى آثارهم ، ويوثق بأعمالهم ، وينتهى الى آرائهم وترغب الملائكة في خُلتّهم (1) وبأجنحتها تمسحهم ، وفي صلاتها تستغفر لهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس ، حتى الحيتان في البحر وهوامه ، وسباع البرّ وأنعامه والسماء ونجومها ، لأن العلم حياة القلب من الجهل ، ومصابيح الأبصار من الظُّلم ، وقوة الأبدان من الضعف ، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالس الملوك ، والدرجات العلا في الدنيا والآخرة ، والفكر فيه يعدل بالصيام ، ومدارسته بالقيام (2) به يطاع الله ، وبه يُعبد ، وبه يعلم الخير ، وبه يتورع ، وبه يؤجر ، وبه توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال والحرام )) (3) (4) وأكد الإخوان على أن العلم أمام العمل والعمل تابع له وهذا العلم يلهمه الله تعالى للسعداء ويحرمه على الأشقياء 0 أتضح لنا أهمية العلم وفضيلة طلبه وأنه بالعلم يفوز الإنسان بالدنيا والآخرة وأنه أعظم نعمه أنعمها الله تعالى على الإنسان وأوجب الفرائض التي يجب على الإنسان العمل بها والسعي في طلبها 0 وحتى يبين الإخوان أن بالعلم تكمن سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة نراهم في حديثهم عن مصادر علومهم يجمعون بين العلوم التي فيها صلاح الإنسان في الدنيا والعلوم التي فيها صلاحه في الآخرة 0
أولاً- مصادر العلوم
حدد إخوان الصفاء مصادر علومهم بأنها مأخوذة من أربعة مصادر أو أربعة كتب وهي :-
1- الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة من علوم الرياضيات والطبيعيات 0
__________
(1) الخلّة ، بالضم تعني الصداقة 0
(2) القيام ، أي القيام للصلاة 0
(3) التدريب ، عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي ، ج1 ، تحقيق عبدالوهاب عبداللطيف ، مكتبة الرياض للحديث ، الرياض 0
(4) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 346 - 347 0(1/94)
2- الكتب المنزّلة التي جاء بها الأنبياء صلوات الله عليهم ، مثل التوراة ، الإنجيل ، الفرقان ( القرآن ) ... الخ ومن صحف الأنبياء التي أُخذت معانيها بالوحي من الملائكة ، وما فيها من أسرار خفية 0
3- الكتب الطبيعية التي تمثل أشكال وصور الموجودات من تركيب الأفلاك وأقسام البروج ، وحركات الكواكب ، ومقادير أجرمها ، وتصاريف الزمان واستحالة المكان ، وتشمل كذلك أنواع الكائنات من المعادن والحيوان والنبات ، وأصناف المصنوعات التي صنُعت على أيدي البشر 0 وكل هذه صور وكنايات دالات على معانٍ لطيفة وأسرار دقيقة يرى الناس ظاهرها ولا يعرفون بواطنها من لطيف صنعة الباري 0(1/95)
4- الكتب الإلهية 0 حيث وصفها إخوان الصفاء ( الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهرون الملائكة التي هي بأيدي سفرة كرامٌ بررة ، وهي جواهر النفوس وأجناسها وأنواعها وجزئياتها وتصاريفها للأجسام وتحريكها لها ، وتدبيرها إياها وتحكمها عليها وإظهار أفعالها بها ومنها حالاً بعد حال في ممر الزمان وأوقات القرانات والأدوار ، وانحطاط بعضها تارة الى قعر الأجسام ، وارتفاع بعضها من ظلمات الجثمان وانبعاثها من نوم الغفلة والنسيان وحشرها الى الحساب والميزان ، وجوازها على الصراط ، ووصولها الى الجنان أو حبسها في دركات الهاوية والنيران ، أو مكثها في البرزخ ، أو وقوفها على الأعراف كما ذكر الله تعالى في قوله (( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) (1) وفي قوله تبارك وتعالى (( وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ)) (2) وهم الرجال الذين في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) (3) 0 وأكد إخوان الصفاء بأن هذه العلوم هي التي يأخذ بها إخوانهم الفضلاء الكرام مؤكدين على ضرورة الإقتداء بهم (4) 0 هذه هي مصادر العلوم عند إخوان الصفاء وهي أربعة مصادر كما ذكرنا وإن الإخوان جعلوها كلها تصب في مجرى واحد ألا وهو السعي الى الفوز بالآخرة ، ولكي يُبين الإخوان أنهم على الطريق الصحيح نراهم يدعون الناس الى الإقتداء بهم 0
ثانياً- أجناس العلوم
قسم إخوان الصفاء العلوم التي يتعاطاها البشر الى ثلاثة أجناس :- العلوم الرياضية ، العلوم الشرعية ، العلوم الفلسفية حقيقة (5) أما تفصيل ذلك 0
__________
(1) سورة المؤمنون ، آية 100 0
(2) سورة الأعراف ، آية 46 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 42 0
(4) ينظر المصدر نفسه ، ص 43 0
(5) البير نصري نادر ، من رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، المطبعة الكاثوليكية ، ص 24 0(1/96)
1- العلوم الرياضية : هي علم الآداب وهي كما يرى إخوان الصفاء إنما وضع أكثرها لطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا وحددوها بتسعة أنواع وهي ( علم الكتابة والقراءة ، ومنها علم اللغة والنحو ، ومنها علم الحساب والمعاملات ، ومنها علم الشعر والعرَوضْ ، ومنها علم الزجر والفأل وما شاكلها ، ومنها السحر والعزائم والكيمياء والحيل وما شابهها ، ومنها علم الحِرف والصنائع ، ومنها علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل ومنها علم السَيّرَ والأخبار (1) 0
2- العلوم الشرعية : هي العلوم التي وضعت لطلب الآخرة وطب النفوس وهي ستة أنواع :
أ. علم التنزيل 0
ب. علم التأويل 0
ج. علم الروايات والأخبار 0
د. علم الفقه والسُنن والأحكام 0
ه. علم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف 0
و. علم تأويل المنامات 0
وعن العلماء المختصين بدراسة هذه العلوم التي أشرنا إليها حدد إخوان الصفاء بأن علماء التنزيل هم القُراء والحفظة ، وعلماء التأويل هم الأئمة وخلفاء الأنبياء ، أما علماء الروايات فهم أصحاب الحديث ، وعلماء الأحكام والسُنن هم الفقهاء ، وعلماء التذكار والمواعظ هم العُبّاد والزّهاد والرّهبّان ، أما علماء تأويل المنامات فهم كما يقول الإخوان المعبرون (2) 0
3- العلوم الفلسفية : حددها الإخوان بأربعة أنواع وهي : الرياضيات ، والمنطقيات ، والطبيعيات ، والإلهيات0
أ. العلوم الرياضية وهي أربعة أنواع :
1. الأرثماطيقي ( علم العدد ) يهتم هذا العلم بمعرفة ماهية العدد ، وكمية أنواعه ، وخواص تلك الأنواع ، وكيفية نشوئها من الواحد الذي قبل الاثنين ، وما يعرض فيها من المعاني إذا أُضيف بعضها الى بعض 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 266 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 267 0(1/97)
2. علم الجومطريا ( الهندسة ) يتمثل هذا العلم بمعرفة ماهية المقادير ذوات الأبعاد ، وكمية أنواعها ، وخواص تلك الأنواع ، وما يعرض فيها من المعاني إذا أُضيف بعضها الى بعض وكيفية مبدئها من النقطة التي هي رأس الخط ، وهي في صناعة الهندسة كالواحد في صناعة العدد0
3. الأسطرنوميا ( علم النجوم ) 0
4. الموسيقى (1) 0
ب. العلوم المنطقية وهي خمسة أنواع :
1. أنولوطيقا ، هي معرفة صناعة الشعر 0
2. ريطوريقا ، هي معرفة صناعة الخطب 0
3. طوبيقا ، هي معرفة صناعة الجدل 0
4. بولوطيقا ، هي معرفة صناعة البرهان 0
5. سوفسطيقا ، هي معرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجدل (2) 0
__________
(1) المصدر والصفحة نفسهما 0
(2) المصدر نفسه ، ص 268 – 269 0(1/98)
فإخوان الصفاء ذكروا في حديثهم عن المنطقيات كتب أرسطو الستة انولوطيقا الأولى ، وانولوطيقا الثانية ، وطوبيقا وسوفسطيقا و قاطيغورياس وباريمنياس ، وكذلك كتاب ايساغوجي لفرفوريوس وهو المدخل الى المنطق (1) 0 ومع ذلك نجد إخوان الصفاء في حديثهم عن العلوم المنطقية بينوا بأن المنطق من علوم الفلسفة ، فجعلوا في رسائلهم فصلاً عنوانه ( في أن المنطق أداة الفيلسوف ) يتضح لنا فيه أن المنطق مدخلٌ (2) وهذا نجده بقولهم ( وأعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة ، وقد قيل أنه أداة الفيلسوف وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة ، صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين ، وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات ، لأنه قيل في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية .. وأعلم بأن معنى قولهم طاقة الإنسان ، هو أن يجتهد الإنسان ويتحرز من الكذب في كلامة وأقاويله ، ويتجنب من الباطل في اعتقاده ، ومن الخطأ في معلوماته ، ومن الرداءة في أخلاقه ، ومن الشر في أفعاله ، ومن الزلل في أعماله ، ومن النقص في صناعته 0 هذا هو معنى قولهم التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان ، لأن الله عزّ وجلّ لا يقول إلا الصدق ولا يفعل إلا الخير ) (3) 0
ج. العلوم الطبيعية : هي سبعة أنواع 0
1. علم المبادئ الجسمانية ، يتمثل بمعرفة خمسة أشياء وهي ( الهيولى ، و الصورة ، والزمان ، والمكان ، والحركة وما يعرف فيها من المعاني إذا أُضيف بعضها الى بعض 0
__________
(1) البير نصري نادر ، من رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، ص 24 0
(2) مصطفى عبدالرزاق ، تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية ، ط 3 ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ، 1966 ، ص 56 0 كذلك يُنظر ، د0 موسى الموسوي ، من الكندي الى ابن رشد ، ص 117 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 427 - 428 0(1/99)
2. علم السماء والعالم : هو معرفة جواهر الأفلاك والكواكب وكميتها وكيفية تركيبها وعلّة دورانها ، وهل تقبل الكون والفساد كما تقبل الأركان الأربعة التي هي دون فلك القمر أو لا ، وما علّة حركات الكواكب واختلافها في السرعة والإبطاء ، وما علّة سكون الأرض في وسط الفلك في المركز ، وهل خارج العالم جسم آخر أم لا ... الخ من المواضيع 0
3. علم الكون والفساد : هو معرفة جواهر الأركان الأربعة ( النار ، الهواء ، الماء ، الأرض ) وكيف يستحيل بعضها الى بعض بتأثيرات الأشخاص العالية ويكون منها الحوادث والكائنات ، من المعادن والنبات والحيوان ، وكيف تستحيل إليها راجعة عند الفساد 0
4. علم حوادث الجو : هو معرفة كيفية تغييرات الهواء بتأثيرات الكواكب ، بحركاتها ومطارح شعاعاتها على هذه الأركان وانفعالاتها منها ، ولا سيما الهواء فإنه كثير التلون والتغير من النور والظلمة والحرَّ والبرد وتصاريف الرياح والضباب والغيوم والأمطار والثلوج والبرد والبرق والرعود والصواعق وكواكب الأذناب ... الخ 0
5. علم المعادن 0
6. علم النبات 0
7. علم الحيوان (1) 0
د. العلوم الإلهية : هي خمسة أنواع وتكون على النحو الآتي 0
1. معرفة الباري جلّ جلالة وصفة وحدانيته وكيف هو علّة الموجودات وخالق المخلوقات وفائض الجود ومعطي الوجود ، ومعدن الفضائل والخيرات ، وحافظ النظام ، ومبقي الدوام ، ومدبر الكل ، وعالم الغيب والشهادة لا يعزّبُ عنه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء ، وأول كل شيء ابتداء وآخر كل شيء انتهاء ولا إله غيره 0
2. علم الروحانيات : هو معرفة الجواهر البسيطة العقلية العلاّمة الفعالة ، التي هي ملائكة الله وخالص عبادة وهي الصورة المجردة من الهيولى المستعملة للأجسام المدبرة لها .. ومعرفة كيفية ارتباطها بعضها ببعض وفيض بعضها على بعض ، وهي أفلاك روحانية محيطات بالأفلاك (2)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 270 ، 271 ، 272 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 273 0(1/100)
0
3. علم النفسانيات : يقوم هذا العلم على معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية ، من لدن الفلك المحيط الى منتهى مركز الأرض ومعرفة كيفية إدارتها للأفلاك وتحريكها للكواكب وترتيبها للحيوان والنبات وحلولها في جثث الحيوانات وكيفية انبعاثها بعد الممات 0
4. علم السياسة : هو خمسة أنواع 0 السياسة النبوية ، السياسة الملوكية ، السياسة العامّية ، السياسة الخاصية ، السياسة الذاتية (1) 0
5. علم المعاد : هو معرفة ماهية النشأة الأُخرى وكيفية انبعاث الأرواح من ظلمة الأجساد وانتباه النفوس من طول الرقاد وحشرها يوم المعاد على الصراط المستقيم وحشرها لحساب يوم الدين ومعرفة كيفية جزاء المحسنين وعقاب المسيئين (2) 0
فإخوان الصفاء لا يقسمون العلوم الفلسفية الى نظرية وعملية ، بل يدخلون القسم العملي كله بالإلهيات ويدخلون في علوم الفلسفة ما لم يدخله من قبلهم من السياسة النبوية والمعاد (3) 0
ثانياً- موقف الإخوان من الديانات والمذاهب والعلوم
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 274 0
(2) المصدر والصفحة نفسهما 0
(3) مصطفى عبدالرزاق ، تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية ، ص 55 0(1/101)
لا يخفى على من قرأ رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء أنهم تطرقوا الى كل العلوم في عصرهم والعلوم السابقة لعصرهم 0 ولكن الإخوان لم يكتفوا بعرض هذه العلوم من شرعية ووضعية ورياضية وعلوم فلسفية حقيقة وإنما نجد الإخوان قد كونوا لهم مذهباً جامعاً وفكراً اعتقادياً خاصاً بهم اعتنقوا من خلاله أفكاراً من مختلف الديانات القديمة ومن مذاهب مختلفة فضلاً عن ذلك أنهم وأن تكلموا عن الفلسفة الإغريقية وفلاسفتها إلا إن دورهم لم يقف عند عرض أفكار هؤلاء الفلاسفة وإنما نجدهم ضمنوا فكرهم الاعتقادي ، أفكاراً انتقائية إذ أخذوا من كل فلسفة ما يلائمهم فكونوا مذهباً فلسفياً قائماً على بعض أفكار فيثاغورس والفيثاغورية وأفكار أُخرى أخذوها من سقراط وأفلاطون وأرسطو وإفلوطين ، وجعلوها أساساً بنو عليه فكرهم الاعتقادي ، وفي نهاية المطاف ربطوا ما قاله فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وارسطو وإفلوطين ، بالعلوم الإلهية التي هي أقصى غرض الإخوان وعدّوا ما قاله هؤلاء الفلاسفة من أقوى الشواهد على صحة مذهبهم وما يذهبون إليه 0 فضلاً عن ذلك نجد في مذهبهم أفكاراً أُخذت من مختلف الأديان ولا سيما الديانات المجوسية القديمة فيذكرون فيها طرفاً من حكمة الفرس وفكرهم الاعتقادي ، مستشهدين بحكمائهم وما يحمله فكر هؤلاء الحكماء من اعتقادات تحمل في طياتها آراء واعتقادات لا تمت الى الإسلام في صلة وبالرغم من ذلك نجد أن إخوان الصفاء أخذوا بطرفٍ من هذه الاعتقادات وما تحويه من أفكار غنوصية (1)
__________
(1)
(1) الغنوص : كلمة يونانية الأصل معناها العلم أو المعرفة ، غير إنها أخذت بعد ذلك معنى اصطلاحياً خاصاً هو التوصل بنوعٍ من الكشف الى المعارف العليا أو هو تذوقها تذوقاً مباشراً بأن تلقى فيه إلقاءً 0 ثم أخذ مدلول الكلمة يتسع شيئاً فشيئاً حتى شمل تلك المذاهب الشرقية التي يتجسد فيها بجانب منهجها في المعرفة ، مجموعة الطلاسم والأسرار والسحر ، ويُعدّ هذا المذهب من أقدم المذاهب الفلسفية 0 أما المذهب الغنوصي الحقيقي الفلسفي فإنما نشأ على يد بازليدس وفالنتينوس وغيرهما وقد قاموا بمزج المذاهب المختلفة من فارسية وسريانية وأفلاطونية وفيثاغورية ورواقية بالدين المسيحي واليهودي 0 فضلاً عن انتشار مذاهب غنوصية متعددة لتقويض عقائد الإسلام ، وكان أشدها مجاهدة ومعاداة للإسلام ، غنوص المذاهب الفارسية الثنوية ولا سيما المانوية 0 وأثرت الغنوصية بدورها في طوائف فلسفية عديدة ومنها طائفة إخوان الصفاء 0 د0 علي سامي النشار ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ، ج1 ، دار المعارف بمصر ، ط 2 ، 1964 ، ص 44-45 0
أما اوليري ، فقد نظر الى الغنوص عند إخوان الصفاء فقال ( والمذهب الذي تشتمل عليه رسائل إخوان الصفاء هو مذهب انتقائي Eclectic ، يوصف الإنسانية بإنها من أصل سماوي وإنها تسعى الى الرجوع الى الله والفناء فيه وذلك تلاشِ يوصل إليه بالحكمة وذلك هو الغنوص Gnosis ، الذي قال به المؤلفون الغنوصيون والأفلاطونيون المحدثون ) اوليري ، مسالك الثقافة الإغريقية عالى العرب 0 ترجمة د0 تمام حسّان ، مكتبة الأنجلو المصرية ، ص 269 – 270 0(1/102)
من مانوية وزرادشتية فضلاً عن الأفكار الهندية وأفكار أُخرى أخذوها من الدين اليهودي والدين المسيحي وأفكار من الصابئة فضلاً عن الأفكار المأخوذة من الدين الإسلامي الحنيف فهم عندما وصفوا أنفسهم بسفينة النجاة نراهم يتكلمون عن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ( عليهم السلام ) ومحمد صلى الله عليه وسلم ويضعون الى جانب الأنبياء ، أفلاطون وعاذيمون واليزدان و أهرمن 0 وهذه المسائل نجدها من خلال تتبع النصوص الآتية ( فهل لك يا أخي ، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه أن تبادر وتركب معنا في سفينة النجاة التي بناها أبونا نوح عليه السلام ، فتنجو من طوفان الطبيعة قبل أن تأتي السماء بدخانٍ مبين ، وتسلم من أمواج بحر الهيولى ، ولا تكون من المغرقين ... أو هل لك يا أخي أن تنظر معنا حتى ترى ملكوت السماوات التي رآها أبونا إبراهيم لما جن عليه الليل حتى تكون من الموقنين ) (1) وقولهم ( أو هل لك يا أخي أن تتمم الميعاد ، وتجيء الى الميقات عند الجانب الأيمن حيث قيل يا موسى ، فيقضى إليك الأمر ، فتكون من الشاهدين ، أو هل لك يا أخي أن تصنع ما عمل فيه القوم كي ينفخ فيك الروح فيذهب عنك اللوم ، حتى ترى إلا يسوع عن ميمنة عرش الرب قد قرب مثواه كما يقرب أبن الأب ، أو ترى من حوله من الناظرين ... أو هل لك أن لا ترقد من أول ليلة القدر حتى ترى المعراج في حين طلوع الفجر ، حيث أحمد المبعوث في مقامه المحمود ، فتسأل حاجتك المقضية لا ممنوعاً ولا مفقوداً ، وتكون من المقربين ، وفقك الله إيها الأخ البار الرحيم ، وجميع إخواننا لفهم هذه الإشارات والرموز ، وفتح قلبك وشرح صدرك ، وطهر نفسك ، ونوّر عقلك لتشاهد بعين البصيرة حقائق هذه الأسرار ، فلا تفزع من موت الجسد إذا فارقته وفيه حياة النفس ، فتكون من أولياء الله الذين تمنوا الموت ، لا من توهم أنه منهم فقال (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل الصفاء ، ج4 ، ص 18 0(1/103)
زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) (1) ... أو هل لك أن تخرج من ظلمة أهرمن حتى ترى اليزدان قد أشرق منه النور في فسحة أفريحون ... أو هل لك أن تدخل الى هيكل عاذيمون ، حتى ترى الأفلاك التي يحيكها أفلاطون ، وإنما هي أفلاك روحانية لا ما يُشير إليه المنجمون 0 وذلك أن علم الله تعالى محيط بما يحوي العقل من المعقولات ، والعقل محيط بما تحوي الهيولى من المصنوعات ، فإذا هي أفلاك روحانية محيطات بعضها ببعض ) (2) 0
__________
(1) سورة الجمعة ، آية 6 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 19 0(1/104)
أن هذه النصوص خير شاهد على صحة ما قلنا من أنهم يضعون عاذيمون واليزدان وأهرمن وأفلاطون الى جانب الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام 0 ولنعد الآن الى أثر أفكار الفرس على الإخوان ، إذ يظهر ذلك من خلال حديثهم عن الحدود ومعرفة ما تدل عليه هذه الحدود (1) فضلاً عن ذلك نجدهم يستشهدون في رسائلهم بأبيات شعر فارسية (2) ونراهم أيضاً يستشهدون بقول حكيم الفرس بزرجمهر ، عندما تفكر في الأُمور الغيبية وحاول الكشف عن الأُمور الجزئية المُشكلة ، مثلاً لماذا فلان فقير وفلان غني ، ولماذا تقع المصائب على الأخيار ، ولماذا ييُسر الله تعالى أُمور الأشرار ... الخ من المسائل المُشكلة 0 فأدرك هذا الحكيم أن من يحاول معرفة هذه المسائل من دون أن يهذب أخلاقه وقبل أن ينظر في العلوم والآداب والرياضيات ويبحث عن هذه المسائل التي أُشكلت حتى على الحُذاق في الفلسفة والعلوم ، فعرف ، من يحاول ذلك سوف يقع في شكوك وحيرة عن عدالة الله تعالى ، فقال هذا الحكيم احتجاجاً على نفسه لعدم معرفة عللها وقد تبين له عدالة الله وأنه حكيمٌ عدلٌ ، فقال ( إن مصائب العباد إذاً لعللٍ لا يعرفها ) (3) فضلاً عن ذلك فأننا نجد في حديث إخوان الصفاء عن أثر الاعتقاد بالأخلاق وكيف تُبنى أخلاق الإنسان على أساس اعتقاده نجدهم يفضلون دين المجوس على دين اليهود (4) 0 أما عن أثر أفكار الهنود على إخوان الصفاء فيظهر هذا الأثر من خلال حديثهم عن كلام حكماء الهند عن البروج وما تدل عليه من الحدود حيث جعلوا فصلاً عن هذا الموضوع في رسائلهم (5)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 346 ، 349 0
(2) يُنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 350 – 351 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 507 – 508 0
(4) حول تفضيل الإخوان دين المجوس على دين اليهود ، يُنظر القصة المذكورة في الجزء الأول من رسائلهم ، ص 308 – 310 0
(5) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 350 – 351 0(1/105)
وفي حديث الإخوان عن بقاء النفس بعد فناء الجسد ، استشهدوا بما يعمله البراهمة في حرق الجسد بعد الموت واتخذوا ذلك دليلاً على أن الموت للجسد لا للنفس (1) ويشترك الإخوان مع الهنود في مسألة تقسيم الحيوان الى خمسة أجناس حسب عدد الحواس (2) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 25 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 450 0 كذلك يُنظر جعفر آل ياسين ، في رحاب إخوان الصفاء، ص 14(1/106)
أما عن الأفكار اليهودية في فكر الإخوان فأننا نجد ترديد إخوان الصفاء لبعض أفكار اليهود ولا سيما التي تتعلق بخلق آدم عليه السلام ، فقد خصصوا فصلاً عن كيفية خلق آدم كما وجد في بعض كتب بني إسرائيل ، إذ ورد أن الله ، رّكب جسد آدم من رطب ويابس وحار وبارد فقد خلقه من تراب وماء ونفخ فيه نفساً وروحاً 0 وبالنفس جعله يسمع ويُبصر ويشم ويذوق ويلمس ويحس ويأكل ويشرب وينام ، ومن النفس تكون الحدة والشهوة واللعب واللهو ... الخ من الأفعال 0 وبالروح يعقل ويفهم ويدري ويتعلم ويستحي ويحلم ، ومن الروح يكون حلمه ووقاره وعفافه وحياؤه وبهاؤه وفهمه وتكرمه ... الخ من الصفات الحميدة 0 وجعل الله تعالى قوام جسد آدم ، يقوم على أربع ملاك ولا تقوم واحدة منهن إلا بالأُخرى ، وهي المُرة السوداء ، والمُرة الصفراء ، والدم ، والبلغم ، ثم أسكن بعضها في بعضٍ فجعل مسكن اليبوسة في المُرة السوداء والحرارة في المُرة الصفراء والرطوبة في الدم والبرودة في البلغم ونسبة كل واحدة في الجسم ربعاً فإن زادت أو نقصت أصاب الجسد السُقم 0 وذكروا أن الله تعالى علم آدم كيفية زيادة الناقص وإنقاص الزائد كي يحافظ على صحة الجسم وأن الله تبارك وتعالى جعل هذه الأشياء ، تنطبق على كل بني آدم ، وهذه الأخلاط التي رُكب منها الجسد أصبحت فطراً وأصولاً تُبنى عليها أخلاق بني آدم وبها توصف ، فمن التراب العزم ومن الماء اللين ومن الحرارة الحدة ومن البرودة الأناة 0 فأن مالت به اليبوسة وأفرطت ، كانت عزمته قساوة وفضاضة ، وإن مالت به الرطوبة ، كان لينه توانياً ومهانة ، وأن مالت به الحرارة كانت حدته طيشاً وسفاهة ، وإن مالت به البرودة كانت أناته ريثاً وبلاده ، وإن اعتدلت وكنَّ سواءً ، اعتدلت أخلاقه واستقام أمره 0 وتكلموا بعد ذلك عن كيفية معالجة الإنسان إذا غلبت عليه أحد هذه الأخلاق ( أخلاق النفس ) وأن علاجها يكون بمقابلتها بأخلاق الروح كمقابلة الحدة بالحلم ،(1/107)
واللعب بالحياء (1) ... الخ من الأخلاق 0
وفي حديث إخوان الصفاء عن مسألة بقاء النفس بعد فناء الجسد نجدهم يذكرون موقف موسى عليه السلام ، من المرتدين عن عبادة الله ، الذين عبدوا العجل في أثناء غيبته ، وكيف طلب منهم أن يتوبوا الى الله ، ويقتلوا أنفسهم وذلك لأن هذا العمل فيه صلاح لأنفسهم وصلاح للدين ، كذلك ذكروا ما عمله السحرة الذين تحملوا الصلب والطعن من فرعون لأنهم آمنوا لموسى وعلموا أن الفناء للجسد لا للنفس (2) 0 هذه بعض الأفكار التي أخذها الإخوان من الدين اليهودي أوردناها بشكلٍ موجز 0
أما عن الأفكار المسيحية في فكر الإخوان فتتمثل في وصفهم المسيح عليه السلام ، بأنه ابن الرب ، وهذا نجده بقولهم ( أو هل لك يا أخي أن تصنع ما عمل فيه القوم كي يُنفخ فيك الروح ... حتى ترى إلا يسوع عن ميمنة عرش الرب قد قرب مثواه كما يقرب الابن الأب ) (3) كذلك يشترك الإخوان مع المسيحيين بمسألة الزُهد والتهاون في أمر الجسد (4) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 300 ، 302 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 26 –27 0
(3) المصدر نفسه ، ص 19 0
(4) المصدر نفسه ، ص 32 0(1/108)
أما عن الأفكار التي يشارك بها الإخوان ، الصابئة فهي جعلهم هرمس الذي يُعد إله الخير في عقيدة الصابئة ، نبياً من الأنبياء وأطلقوا عليه أسم إدريس النبي (1) وجعلوا له الدور البارز في حل المشاكل التي وقعت بين الجن وبني آدم نتيجة حقد بني آدم على الجن لأنهم سبب خروج آدم وحواء من الجنة بعد أن أحتال إبليس عليهما وجعلهما يقتربان من الشجرة التي نهاهم عنها الله تبارك وتعالى 0 فاستمرت هذه العداوة الى أن بعث الله إدريس النبي عليه السلام ، وهو كما يقول إخوان الصفاء ، هرمس بلغة الحكماء ، فأصلح بين الجان وأولاد آدم (2) ،
__________
(1) د0 جبور عبدالنور ، معالم الوثنية في رسائل إخوان الصفاء ، مجلة الكاتب المصري ، المجلد السادس ، العدد 21 يوليو ، 1947 ، ص 26 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 231 ، كذلك ج 1 ، ص 225 0(1/109)
ولم يقف إخوان الصفاء عند هذا الحد بل نفوا النسب الإغريقي لفيثاغورس وعدّوه رجلاً من أهل حران وهذا ما نجده بقولهم ( أعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروحٍ منه أن فيثاغورس كان رجلاً من أهل حران ) (1) ومن الأفكار التي يشترك فيها الإخوان مع الصابئة هي اعتقادهم بتأثير السيارات في عالم الكون والفساد ، فللشمس وزحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد والقمر أمزجة وأفاعيل (2) ويشتركون أيضاً مع الصابئة في مسألة السرّية بمعتقداتهم إذ لا يصرحون بها إلا لمن كان منهم 0 كذلك يشتركون مع الصابئة في مسألة تأكيدهم التعاون فيما بينهم والتضحية بالنفس من أجل الجماعة (3) وفي تقسيم إخوان الصفاء للعبادة الى شريعة ، وفلسفية ، نجد أفكاراً يشاركون فيها الصابئة 0 فإخوان الصفاء قالوا بأنهم أولى الناس بهما أي العبادة الشرعية والعبادة الفلسفية 0 وفي حديثهم عن العبادة الفلسفية تكلموا عن أربعة أعياد فلسفية تقابل أعياد المسلمين في العبادة الشرعية 0 فالعيد الأول يوم نزول الشمس برج الحمل لمجيء الربيع وهو عيد فرح وسرور (4) والعيد الثاني يوم نزول الشمس أول السرطان ، والعيد الثالث يوم نزول الشمس أول الميزان ودخول الخريف ، والعيد الرابع يوافق يوم رجوع الشمس الى برج الحمل بعد ذهاب الشتاء وهو يوم الكآبة والحزن والرجوع الى كهف التقية والاستتار (5) وذكرنا فيما سبق أن الإخوان بتقسيمهم العبادة الى شريعة وفلسفية نجد لديهم أفكاراً أُخذت من الصابئة وهذا يتضح من خلال حديثهم عن العبادة الشهرية ، ففي كل شهر من شهور السنة اليونانية ثلاثة أيام في كل شهر ،
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 200 0
(2) يُنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 215 ، 217 ، 218 ، 219 ، 220 ، 221 ، 222 ، 223 ، 224 0
(3) يُنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 25 0
(4) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 266 0
(5) المصدر نفسه ، ص 266 – 267 0(1/110)
يومٌ في أوله ويوم في وسطه ويوم في آخره 0 فهم في حديثهم عن هذه الأيام يخلطون بين تعاليم الإسلام وأفكار الفلاسفة ، ويخلطون بين تعاليم الإسلام ومعالم الوثنية ويظهر أثر الصابئة فيهم ، فاليوم الأول من الشهر يقول إخوان الصفاء ، يجب على من أراد الاقتداء بهذه السنة أن يتطهر ويتبخر ويؤدي الصلاة المفروضة في شريعة الناموس 0 فإذا انقلب من محراب صلاة العشاء الآخرة يجب عليه أن يجلس ، ويسبح الله ويقدسه ويهلله ويكبره الى أن يمضي من الليل الثلث الأول ثم يقوم ويجدد الوضوء ويسبغ الطهارة ليكون طهوراً على طهور ونوراً على نور ويبرز من بيته الى أن يحصل تحت السماء وبحذاء الجدي وهو النجم الذي يهتدى به ، فيتأمل الكتاب المبين ويتدبر آياته ويرى الملكوت دائماً وهو يسبح الله ويقدسه بحيث لا يترك التكبير والتهليل ليكون من الذين قال عنهم الله تعالى (( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض)) (1) ولا يزال كذلك حتى يذهب من الليل الثلثان فيكون الثلث الأول قياماً لعبادة الناموس ، والثلث الثاني قياماً في التفكر بالملكوت (2)
__________
(1) سورة آل عمران ، آية 191 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 263 0(1/111)
فإذا زال أوان الثلث الأوسط هبط الى الأرض ساجداً بتذلل وخضوع لبارية ، فلا يزال كذلك ما قدر عليه ثم يرفع رأسه ببكاء واستغفار وتوبة واستعبار ، فيعدد ذنوبه على نفسه ، وينوي التوجه بحسناته وصالح أعماله ويدعو بالدعاء الأفلاطوني ، والتوسل الإدريسي ، والمناجاة الأرسطاطاليسية المذكورة في كتبهم فلا يزال كذلك حتى يبدو الفجر وعندها يتوضأ ويرجع الى محرابة فيصلي صلاة الفجر ويجلس حتى طلوع الشمس وعند طلوعها يذبح بيده إن كان ممن قد تعودوا على ذلك مما حلل الله ، ويأمر بإصلاح ما كان من الطعام ثم يأذن بأهله وإخوانه بالدخول عليه ويشاركونه في تناول الطعام وبعد حمد الله وشكره ، يُخرج إليهم من الحكمة بحسب ما يوجبه الزمان ويسعه المكان ويقضون يومهم الى وقت العشاء وبعد ذلك ينصرفون الى منازلهم ويتصرفون في شؤون معايشهم 0 الى اليوم الثاني وهو كما يسمونه إخوان الصفاء ، يوم ليلة البدر إذا استكملت استدارته وتمت أنواره فيه ، في تلك الليلة وصبيحة ذلك اليوم يفعل كما فعل في اليوم الأول وأزيد قليلاً 0 وحدد اليوم الثالث بأنه يوم الخامس والعشرين من شهره بينه وبين أول الشهر الجديد المقبل خمسة أيام (1) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 264 0(1/112)
اتضح لنا من حديث الإخوان عن هذه الأيام أنهم مزجوا فيها بين طقوس الإسلام من صلاة وتلاوة القرآن والتهليل والتسبيح والتفكر في خلق الله ، وأفكاراً فلسفية وأُخرى أُخذت من الصابئة ، هذه الأفكار وغيرها جعلت الآخرين ينتقدونهم ويشكون في أمر اعتقادهم ، ويتهمونهم بعدم مراعاة أركان الإسلام 0 وهذا الحريري يخاطب المقدسي قائلاً له ( فإنك من أهل الإسلام بالهدى والجبلة والمنشأ والوراثة ، فما بالنا لا نرى واحداً منكم يقوم بأركان الدين ، ويتقيد بالكتاب والسُنة ويراعي معالم الفريضة ووظائف النافلة ) (1) وإن أقوال إخوان الصفا هذه التي مزجوا فيها بين تعاليم الإسلام الحنيف والأديان الأُخرى وربط الفلسفة بالدين لم تلقى استحسان عند أهل المذهب السُني الحنيف كما يقول هنري كوربان بأن الخليفة المستنجد ، أمر في عام ( 554 هـ - 1150 م ) بأن تُحرق رسائل الإخوان جميعاً ، الموجودة منها في المكتبات الخاصة أو العامة مع مؤلفات ابن سينا (2) فضلاً عن إن الأفكار التي يشارك بها إخوان الصفاء ، الصابئة دفعت أحد الباحثين الى القول بأن إخوان الصفاء هم من الصابئة (3) 0
__________
(1) أبو حيان التوحيدي ، الإمتاع والمؤانسة ، ج2 ، تصحيح وشرح أحمد أمين ، أحمد الزين ، مطزبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ، 1942 ، ص 14 0
(2) هنري كوربان ، تأريخ الفلسفة في الإسلام ، ص 213 0 يُنظر كذلك جورج طرابيشي ، معجم الفلاسفة ، ط1 ، دار الطليعة بيروت 1987 ، ص 42 0
(3) د0 جبور عبدالنور ، معالم الوثنية في رسائل إخوان الصفاء ، مجلة الكاتب المصري ، المجلد السادس ، العدد 21 يوليو ، 1947 ، ص 25 ، 26 ، 27 0(1/113)
ولكن وجود شبه مع أفكار الصابئة لا يُعد دليلاً قاطعاً وحجةً دامغة على أن الإخوان صابئة 0 وإنما السبب الذي جعل من الإخوان يأخذون أفكاراً من مختلف الأديان هو أنهم يرون وحدة الأديان على الرغم من تعدد الشرائع ، وأن الأنبياء عليهم السلام ، لا يختلفون بظاهر أو باطن من الدين ولا يختلفون فيما يعتقدون من الدين سراً وعلانية ، إذ قالوا في ذلك ( أعلم أن الأنبياء عليهم السلام لا يختلفون من الدين سراً وعلانية ولا في شيء ألبته ، كما قال تعالى (( أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )) (1) (2) والأنبياء جميعهم يشتركون في الاعتقادات والخصال نفسها ، ومن الاعتقادات التي يشترك فيها الأنبياء ، الذين هم واضعون للشرائع ، وهذه الاعتقادات يؤمن بها كل نبي من أنبياء الله تعالى وهي ما يأتي : -
1- يجب أن يرى ويعتقد في نفسه علماً يقينياً ، أن للعالم بارئاً حياً حكيماً خالقاً قديراً قاهراً مريداً ، وهو علّه لجميع الموجودات ومالكها ومتصرفها حسب ما يليق بواحدٍ واحدٍ منها (3) 0
2- أن يرى ويتصور موجودات عقلية مجردة من الهيولى ، كل واحد منها قائم بنفسه ، متوجه نحو ما نصب له من أمره ، وهم ملائكة الله تعالى ، وخالص عبادة فبهم تقع المراسلة والوحي والأنباء ومن جهتهم يحصل التأييد (4) 0
3- أن يرى ويعتقد موجودات نفسانية مجردة من الأبدان تارة ومستعملة لها تارة أُخرى ومتعلقة بها تارة ، وإنها نازلة في جثث الحيوانات حسب ما يليق بواحدٍ واحدٍ منها 0
4- أن يرى أن بمفارقتها الجثث لا تبطل ذاتها ، وخروجها من الأجساد والحس لا يخرجها من قدرة الباري سبحانه وتعالى 0
__________
(1)
(1) سورة الشورى ، آية 13 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 486 0
(3) المصدر والصفحة نفسهما 0
(4) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 130 0(1/114)
5- أن يرى أن كل واحدة من الموجودات منفردة بذاتها لا يُصلحها ولا يفسدها إلا ما يتعلق بها من سوء أعمالها أو فساد آرائها أو رداءة أخلاقها أو تراكم جهالتها 0
6- أن يرى أن الباري تعالى ، إذ أمر الناس أمراً مكنهم منه وأزاح عللهم فيه فمنهم طائع لأمره ومنهم راكبٌ نهيه 0
7- إن الله جعل لكل صنف من أصناف الطاعات والمعاصي جزاءً من الثواب والعقاب ويُعلم المأمورين والمنهيين عنه أنه إذا ما آتوه على بصيرة أوجب الأجر وقطع العذر 0
8- أن يرى أن لهم معاداً فيه مجازون بما أسلفوا من خيرٍ وشر وعُرف ونُكر ، وأنه قد جعل لكل واحد تمهيد مثواه وإصلاح مأواه ، فإن أحسن فلنفسه وإن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (1) 0
9- أن يرى أن الدعاء الى الله تعالى أولى بالثواب ، وأرفع درجة عند المآب0
10- أن يرى أن الدعاة الى الله تعالى ، هم أعلى الناس درجةٍ ، وأرفعهم منزلةٍ ، وأشدهم في الدعاء الى الله تعالى حرصاً ، وأكثرهم فيه درباً وأوسعهم علماً ، وأعظمهم على الناس نعمة (2) 0
11- يجب على واضع الشريعة الذي تحققت هذه الآراء في نفسه وأصبح وكأنه يشاهدها بعين اليقين أن يدعو الناس الى اعتقاده ويجتهد في إنبائهم فيُعبر عنها للخاصة ويرمز في تعبيره للعامة بالألفاظ المشتركة والمعاني المحتملة للتأويلات بما يعقله الجمهور وتقبله نفوسهم (3) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 131 0
(2) المصدر نفسه ، 132 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 132 – 133 0(1/115)
12- يجب أن يعتقد صاحب الشريعة أن من أقرب القرُبات الى الله تعالى ، وأبلغ طلب لمرضاته ، بذل المال والنفس والأهل في إقامة الشريعة وتقويمها وإظهارها ، وأن الذي جعل من جسده قُربان في نصرة الشريعة فإن تلك النفوس بعد مفارقة جسدها تبقى مجردة من الهيولى وتعلو رتبتها فوق سائر النفوس من أبناء جنسها وترتفع درجتها وتشرف هي على النفوس المتجسدة المستعملة تلك الشريعة ويكون تصرفها وتحكمها على تلك النفوس كتصرف رؤساء أهل المدينة في أملاكهم وغلمانهم وإنها تنال بتلك اللذة والسرور والفرح (1) 0
أذن يشترك الأنبياء عليهم السلام ، في هذه الاعتقادات التي عدّها إخوان الصفاء خير دليل على وحدة الاعتقاد عند الأنبياء ، فضلاً عن أن هناك خصالاً فطرية يشترك فيها كل الأنبياء وحددوها باثنتى عشرة خصلة هي عينها الخصال التي أكد الفارابي ضرورة توافرها بحاكم المدينة الفاضلة (2) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 135 0
(2) يُنظر أبو نصر الفارابي ، آراء أهل المدينة الفاضلة ، تقديم وشرح إبراهيم جزيني ، دار القاموس الحديث ، بيروت ، ص 103 – 104 0 يُنظر كذلك رسائل إخوان الصفاء ، ج4 من ص128 – 130 0(1/116)
فوحدة الاعتقاد عندهم ووحدة الخصال ووحدة الدين هي مسائل يشترك فيها الأنبياء كافة ، أما الاختلاف بين الديانات ، فإخوان الصفاء يرون إن الاختلاف في الشرائع وليس في الأديان ، وذلك على أساس أن الشرائع هي أوامر ونواهٍ وحدود وسُنن 0 ومسألة تعدد الشرائع لا تضر ما دام الدين واحداً ، فالأنبياء هم أطباء النفوس واختلاف شرائعهم عائد لاختلاف الأمراض التي يقومون بمعالجتها ، فالأمراض التي تعرض للنفوس عند أهل كل زمان هي اعلال مختلفة من الأخلاق الرديئة والعادات الجائرة والآراء الفاسدة من الجهالات المتراكمة ، وبذلك يعود تعدد الشرائع واختلافها لكون كل شريعة في زمانها هي العلاج لتلك الأمراض والأسقام ، فشريعة نوح في زمانه ، وشريعة إبراهيم بعده في زمانٍ آخر وقومٍ آخرين ، وشريعة موسى في زمانٍ وقوم آخرين وشريعة المسيح كذلك ، وشريعة سيد الأنبياء محمد في زمانٍ وقوم آخرين 0 فعلى الرغم من تعدد شرائع الأنبياء عليهم السلام ، فإن الدين واحد (1) أذن أكد الإخوان وحدة الدين على الرغم من تعدد الشرائع واختلافها0 فوحدة الدين عندهم هي التي جعلتهم يأخذون أفكاراً من الديانات الأُخرى من مجوسية ، وهندية ، ويهودية ، ومسيحية ، ومزجها مع معتقدات الإسلام ، فهذه الفكرة هي التي جعلتهم ينطلقون بالقول بأنهم لا يعادون مذهباً من المذاهب لكون مذهبهم يستغرق المذاهب كلها ظاهرها وباطنها جليها وخفيها ، ما دامت هذه الديانات والمذاهب كلها تعود لمبدأ واحد وعلّة واحدة 0
وبعد أن بينا موقف الإخوان من الأديان وعرفنا سبب قولهم بوحدة الأديان ، نودُ أن نبين موقفهم من أفكار الفلاسفة وعلّة ربطهم الفلسفة بالدين 0 ولنبدأ بالفيثاغورية ونقارن بين أفكارها وأفكار الإخوان 0 الفيثاغورية نحلة دينية ومذهب فلسفي عُنيت بالرياضة والموسيقى والفلك والهندسة والطب وحاولت إصلاحاً اجتماعياً ، وسياسياً (2)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 487 0
(2)
(1) يوسف كرم ، تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص 26 0(1/117)
0 وجمعية إخوان الصفاء تُشارك الفيثاغورية في هذه المسألة ، فهي جمعية دينية ومذهب فلسفي ، اهتمت بالرياضيات والموسيقى والهندسة ، ولا يُخفى لمن اطلع على رسائلهم بأنهم كانوا يحاولون إنشاء مدينة فاضلة 0 ومن المسائل التي يشترك فيها الإخوان مع الفيثاغورية هي أن أعضاء الجمعية الفيثاغورية لم يكونوا على رتبة واحدة ودرجة واحدة ، فمنهم السماعون ، ومنهم من هو أرقى رتبه من أولئك ومنهم الخاصة المنتقون ، وهم أقرب روحاً وعملاً الى أستاذهم الذي علمهم السرّ وفتح لهم السبيل (1) ولم يكن الأفراد في جمعية إخوان الصفاء على مستوى واحد وإنما قسموهم الى أربع مراتب حسب العمر وحسب صفاء جوهر النفس وسرعة القبول وجودة التصور ، وأن أفضل المراتب هم أصحاب المرتبة الرابعة (2) 0 وكما إن الفيثاغورية لم تتعصب لديانة بعينها وإنما أخذت من كل ديانة بطرف ، فقد أخذ فيثاغورس من طقوس بابل ومصر وتراقيا وعقائد اليونان والأورفية ، نجد أن إخوان الصفاء لم يتعصبوا لعلم من العلوم أو مذهب من المذاهب (3) ومن المسائل الأُخرى التي يشارك فيها الإخوان ، الفيثاغورية هي مسألة كتم أسرارهم (4) وتأكيد الزهد وتطهير النفس (5) والفيثاغورية اهتمت بالرياضيات إذ كان غرضها من الاشتغال بها هو مساعدة النفس في التحرر من علائق الحس والمحسوس والتطهر من ادران البدن ،
__________
(1) جعفر آل ياسين ، فلاسفة يونانيون من طاليس الى سقراط ، ص 44 0
(2) يُنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 57 – 58 0
(3) د0 ناجي التكريتي ، الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية وأثرها على مفكر الإسلام ، ص 372 0 كذلك ينظر رسائل إخوان الصفاء ج4 ص 167 0
(4) يبدو أن كتم الفيثاغوريين لأسرارهم يمثل المرحلة السابقة على تولي فيثاغورس وجماعته الحكم في مدينة كروتونا 0 ينظر مثلاً كريم متى ، الفلسفة اليونانية ، مطبعة الإرشاد ، بغداد ، 1971 ، ص 85 0
(5) د0 ناجي التكريتي ، الفلسفة الأخلاقية ، ص 372 0(1/118)
من حيث أن الفكر الرياضي يُعد نوعاً من التجريد العقلي الذي ينصب في دراسة العلاقات الرتيبة بين المحسوسات واستنباط قواعدها (1) كذلك جعل إخوان الصفاء من العلوم الرياضية وسيلة لمعرفة جوهر النفس التي تُعد أول درجة من درجات النظر في العلوم الإلهية التي تُعد الغرض الأقصى من خوض الحكماء والفلاسفة بالعلوم الرياضية (2) 0
ومن الأفكار التي يشترك فيها إخوان الصفاء مع الفيثاغورية هي قول الفيثاغوريين بأن لحركات الأفلاك نغمات وحجتهم في ذلك أن الجسم إذا تحرك بشيء من السرعة أحدث صوتاً هو صوت اهتزاز الهواء أو الأثير ، فلابد أن يكون لحركات الأفلاك في الأثير العلوي أصوات ، وتتفاوت سرعة الأفلاك بتفاوت مسافاتها ، كما تتفاوت في العود سرعة الاهتزازات بتفاوت طول الأوتار ، فلابد أن يكون في السماء ألحان كألحان العود وأن كنا لا نشعر بها فذلك لأننا نحسها باتصال ، والصوت لا يُشعر به إلا بوجود السكوت (3)
__________
(1) د0 محمد أبو ريان ، تأريخ الفلسفة من طاليس الى أفلاطون ، ج 1 ، ص 63 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 75 – 76 0
(3)
(1) يوسف كرم ، تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص 26 0(1/119)
كذلك ذهب إخوان الصفاء الى نفس ما ذهب إليه الفيثاغورية ، من أن لحركات الأفلاك أنغاماً وأضافوا الى ذلك أن سكان الأفلاك يسمعون هذه النغمات لكونهم ملائكة ، وهذا نجده بقولهم ( أعلم يا أخي أيدك الله ، وإيانا بروحٍ منه أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ولا نغمات ، لم يكن لأهلها فائدة من القوة السامعة الموجودة فيهم ، فأن لم يكن لهم سمع فهم صم بكم عمي وهذه خصال الجمادات) (1) وعلى أساس أن سكان الأفلاك هم الملائكة فثبت لهم السمع حيث قال الإخوان ( وقد قام الدليل وصح البرهان بطريق المنطق الفلسفي أن أهل السماوات وسكان الأفلاك هم ملائكة الله ، وخالص عبادة يسمعون ويبصرون ويعقلون ويقرأون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون وتسبيحهم ألحان أطيب من قراءة داود للزبور في المحراب ونغمات ألذ من نغمات أوتار العيدان في الإيوان العالي ) (2) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 206 0
(2) المصدر نفسه ، ص 207 0(1/120)
ونجد إعجاب الإخوان بفيثاغورس في قولهم إن فيثاغورس الحكيم لما صفت نفسه من ادران الشهوات الجسمانية ولطفت نفسه بالأفكار الدائمة ، وبالرياضيات العددية والهندسية والموسيقية فسمع بصفاء نفسه صوت نغمات الأفلاك (1) كذلك يشترك الإخوان مع الفيثاغورية في مسألة ربط أصل الوجود بالعدد ، ففيثاغورس نظر للموجودات على إنها أعداد أو أشياء تحاكي الأعداد وهذه الأعداد لا تفارق الأشياء بل متحدة بها ، لذا فالعالم كله توافق عدد ونغم (2) ، أما عن ربط الإخوان ، الموجودات بالعدد فقد قالوا ( وأعلم يا أخي . ... بأنك إذا تأملت ما ذكرنا من تركيب العدد من الواحد الذي قبل الاثنين ، ونشوئه منه وجدته من أدّل الدليل على وحدانية الباري ، جل ثناؤه ، وكيفية اختراعه للأشياء وإبداعه لها 0 وذلك أن الواحد الذي قبل الاثنين وأن كان منه يتصور وجود العدد وتركيبة ... . فهو لم يتغير عما كان عليه ، ولم يتجزأ ، كذلك الله عزّ وجلّ ، وأن كان هو الذي اخترع الأشياء من نور وحدانيته قبل اختراعه وإبداعه لها ) (3) وإن نسبة الله ، من الموجودات كنسبة الواحد من العدد ، كما أن الواحد أصل العدد ومنشؤه وأوله وآخره ، وكما أن الواحد لا جزء له ولا مثل له ، وكما أن الواحد محيط بالعدد كله ، كذلك الباري هو علّة الوجود ولا مثل له ولا جزء له ولا شبه له في خلقه وهو عالمٌ بالأشياء كلها (4) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 226 0
(2) د0 جعفر آل ياسين ، فلاسفة يونانيون من طاليس الى أفلاطون ، ص 45 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 54 0
(4) المصدر نفسه ، ص 55 0(1/121)
أما عن الأفكار الأفلاطونية وأثرها في فكر الإخوان فأننا نجدها واضحة في رسائلهم 0 وقبل الحديث أن أثر أفلاطون ، سوف نشير الى مكانة أستاذه سقراط ، عند الإخوان 0 ففي حديثهم عن بقاء النفس بعد فناء الجسد نراهم قد ذكروا ما حدث لسقراط عند شربه السم ( ومما يدل على أن الفلاسفة والحكماء المتألهين كانوا يرون هذا الرأي ويعتقدونه تسليم سقراط جسده للتلف وتناوله شربة السم اختياراً منه ... ) (1) فكان سقراط في منظور الإخوان هو ذلك الحكيم المتأله الجليل الذي جعل من نفسهِ قرباناً من أجل الحكمة 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 35 0(1/122)
أما عن الأفكار الأفلاطونية وأثرها في إخوان الصفاء ، فالإخوان في صدد حديثهم عن الموضوع نفسه أي بقاء النفس بعد فناء الجسد إذ قالوا ( ومما يدل على أن أفلاطون حكيم اليونان كان يرى هذا الرأي ويعتقده ، قوله في بعض حكمته ( لو لم يكن لنا معاد نرجو فيه الخير ، لكانت الدنيا فرصة الأشرار ... ) ) (1) وفي الوقت الذي أكد فيه أفلاطون مسألة عشق الخير لذاته نجد الإخوان يقولون ( وقد قالت الحكماء الفلاسفة بأن كل شيء يُراد فهو من أجل الخير ، والخير يُراد من أجل ذاته ، والخير المحض السعادة والسعادة تُراد لنفسها لا لشيء آخر) (2) كذلك نجدهم يشتركون مع أفلاطون في مسألة أن النفس جوهرة سماوية وعالمها عالم روحاني وأن النفس هي المدبرة للجسد وهي خالدة ، وأنها متى ما استيقظت من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وأبصرت ذاتها فأنها سوف تشتاق الى عالمها الروحاني وعندها تزهد بالجسد وتتمنى الموت (3) وأفلاطون قسم قوى النفس الى ثلاث ، الشهوانية ، والغضبية ، والناطقة ، وأن هذه الأسماء تقع على نفسٍ واحدةٍ حسب أفعالها المختلفة وذلك أنها إذا فعلت في الجسم الغذاء والنمو سُميت نباتية شهوانية ، وإذا فعلت الحس والحركة سُميت حيوانية غضبية وإذا فعلت النطق والتمييز والروية والفكر سُميت ناطقة (4) ونجد الإخوان يقسمون قوى النفس الى نباتية شهوانية وحيوانية غضبية وعاقلة ناطقة وأضافوا أفعالاً منسوبة منها الى العاقلة الحكمية ، ومنها ما هي
__________
(1) المصدر والصفحة نفسهما 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 317 0 يُنظر د0 ناجي التكريتي ، الفلسفة الأخلاقية ، الأفلاطونية وأثرها على مفكري الإسلام ، ص 372 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 184 – 185 0 يُنظر الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية وأثرها على مفكري الإسلام ، ص 373 – 374 0
(4) د0 ناجي التكريتي ، الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية وأثرها على مفكري الإسلام ، ص 374 0(1/123)
منسوبة الى النفس الناموسية الملكية (1) ومثلما أكد أفلاطون خضوع القوة الشهوانية للغضبية وخضوع الغضبية للقوة العاقلة نجد الإخوان يؤكدون خضوع النباتية للحيوانية والحيوانية للعاقلة والعاقلة للناموسية وخضوع الناموسية للملكية (2) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، 313 0
(2) د0 ناجي التكريتي ، الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية وأثرها على مفكري الإسلام ، ص 374 0(1/124)
وكما أكد أفلاطون في الجمهورية التخصص بالعمل نجد الإخوان أكدوا أيضاً هذه المسألة ، إذ جعلوا لكل طبقة من أفراد جمعيتهم أعمالاً خاصة بهم كأرباب الصنائع وذوي السياسة وذوي السلطان والإلهيين (1) وأفلاطون تكلم عن دور الموسيقى في تهذيب النفس ودور الألحان وأثرها في نفس المستمع فبعضها تتفق مع الدناءة والسفاهة والجنون ونحوها من الرذائل 0 ومن الألحان ما هي خلاف ذلك فتؤدي الى الهدوء ، وبعضها يُثير الشجاعة 0 كما أكد أفلاطون دور الموسيقى في تغيير قساوة القلب (2) 0 نجد الإخوان تكلموا المسائل نفسها التي تطرق إليها أفلاطون ، فعن تأثير الموسيقى في نفوس المستمعين ، قالوا ( أعلم يا أخي ... بأن كل صناعة تعمل باليدين ، فأن الهيولى الموضوعة فيها إنما هي أجسام طبيعية ، ومصنوعاتها كلهُّا أشكال جسمانية ، إلا الصناعة الموسيقية فإن الهيولى المصنوعة فيها ، كلها جواهر روحانية ، وهي نفوس المستمعين ، وتأثيراتها فيها مظاهر كلها روحانية أيضاً ) (3) أما عن تأثير الألحان فقالوا ( إن ألحان الموسيقى أصوات ونغمات ، ولها في النفوس تأثيرات كتأثيرات صناعات الصُناع في الهيوليّات الموضوعة في صناعتهم ، فمن تلك النغمات والأصوات ما يحرك النفوس نحو الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة ... ومن الألحان والنغمات أيضاً ما يُسكن سورة الغضب ويحلُّ الأحقاد ويوقع الصلح ، ويكسب الأُلفة والمحبة ... ) (4) ومن الأفكار التي يشترك فيها الإخوان مع أفلاطون هي ما قالوه في ماهية العشق ، فذكروا قوى النفس الثلاث ومعشوقاتها وهو التقسيم نفسه الذي قال به أفلاطون إذ قالوا ( وأعلم يا أخي أن
__________
(1) أفلاطون ، جمهورية أفلاطون ، ترجمة حنا خباز ، دار القلم بيروت ، لبنان ط 2 ، 1980 ، ص 90 0 كذلك ينظر الرسائل ج 4 ، ص 175 0
(2) يُنظر جمهورية أفلاطون ، ص 91 ، 92 ، 93 ، 97 ، 105 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 183 0
(4) المصدر نفسه ، ص 184 0(1/125)
النفوس المتجسدة لما كانت ثلاثة أنواع كما قالت الحكماء والفلاسفة صارت معشوقاتها أيضاً ثلاثة أنواع 0 فمنها النفس النباتية الشهوانية وعشقها يكون نحو المأكولات والمشروبات والمناكح 0 ومنها النفس الغضبية الحيوانية ، وعشقها يكون نحو القهر والغلبة وحب الرياسة 0 ومنها النفس الناطقة ، وعشقها يكون نحو المعارف واكتساب الفضائل ) (1) وفي تدرج إخوان الصفاء في أنواع المحبوبات أشبه بتدرج أفلاطون ، فعند الإخوان أول المحبوبات محبة الحيوانات التي تتجه نحو الزواج والسفاد وبقاء النسل ، ومنها محبة الرؤساء للرياسات ... ومنها محبة الصناع والصانع لصنعته والتجار لتجارتهم ومنها محبة العلماء والحكماء لاستخراج العلوم ، ووصف الآداب وتعليم الرياضيات والبحث عن الغوامض (2) ومثلما أكد أفلاطون أن الحُب يجب أن لا يمسه جنون أو أن يقوم على أساس ممارسات لا تليق بالحب الحقيقي بين المحبين وأن لا يتعدى المحب على محبوبة على أساس أن الدافع للحب هو حب الجمال الروحي (3) فالإخوان يرون أن الحب الذي هدفه اللذة الجسدية والاستمتاع ، زائل متى واصل الحبيب حبيبة واستمتع به فلا يلبث أن يمله ويتغير عليه وربما يفارقه وتذهب تلك الحلاوة وتتلاشى (4) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 272 0 يُنظر د0 ناجي التكريتي ، الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية وأثرها على مفكري الإسلام ، ص 376 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 278 0 يُنظر د0 ناجي التكريتي ، الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية وأثرها على مفكري الإسلام ، ص 377 0
(3) يُنظر جمهورية أفلاطون ، ص 96 0 يُنظر د0 ناجي التكريتي ، الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية وأثرها على مفكري الإسلام ، ص 377 0
(4) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 286 0(1/126)
أما الحب الدائم فهو كما يرى الإخوان حب المؤمنين لله سبحانه وتعالى ، وهذا الحب دائم لا ينقطع ، فالله تعالى هو المعشوق الأول وأن كل الموجودات تشتاق إليه ونحوه تقصد وإليه يرجع الأمر كله 0 هذه بعض الأفكار التي يشترك فيها الإخوان مع أفلاطون أوردناها بصورة موجزة 0
أما عن الأفكار التي يشارك فيها إخوان الصفاء ، ارسطو ، فعند حديثهم عن الصداقة نجد أوجه شبه عديدة بين ما قاله ارسطو وإخوان الصفاء 0 فارسطو أكد ضرورة محبة الصديق لصديقة ويجب على الصديق أن يحب لصديقة ما يحب لنفسه وأن العلاقة تتوثق بين الأصدقاء من خلال العِشرة والمشاركة معاً في أُمور الحياة فيشاطر الصديق صديقه بالعيش معاً وأن بعض الأصدقاء يأكلون ويشربون معاً وآخرون يصطادون معاً وآخرون ينكبون معاً على الرياضات البدنية وآخرون يُروضون أنفسهم معاً على دروس الفلسفة (1) ومسألة محبة الصديق صديقه وتأكيد ضرورة المعاشرة والمشاركة معاً في أُمور الدين والدنيا من المسائل التي أكدتها جمعية إخوان الصفاء (2) فقد فضلوا الصديق على الأهل والأقارب (3) وجعلوا من صداقتهم قائمة على أساس طلب العلوم والمعرفة إذ جعلوا لهم مجالساً يجتمعون فيها لدراسة العلوم المختلفة من طبيعية ورياضية وعقلية وإلهية (4) 0
__________
(1) ارسطو طاليس ، علم الأخلاق الى نيقوماخوس ، ج2 ، نقله من اليونانية الى الفرنسية ، بار تملي سانتهلير ، نقله الى العربية أحمد لطفي السيد ، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة ، 1924 ، ص 323 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 167 0
(3) المصدر نفسه ، ص 49 0
(4) المصدر نفسه ، ص 41 0(1/127)
ونلاحظ أن ارسطو أكد ضرورة قيام الصداقة بين الأخيار بوصفها قائمة على أساس التبادل الخير والمحبة بين الأصدقاء وإصلاح حال بعضهم بعضاً ، أما الصداقة القائمة بين الأشرار فهي صداقة غير حقيقية لأنها قائمة على أساس الرذيلة فتكسب أصحابها الرذائل (1) كذلك نجد أن الإخوان أكدوا صداقة الأخيار ومجانبة الصداقة مع الأشرار ، إذ وضعوا شروطاً جمة للصداقة وتكلموا عن الأسباب المانعة لها ومنها رداءة الأخلاق وتراكم الجهالات وسوء الأعمال وفساد الآراء (2) ومثلما تكلم ارسطو عن صداقة المنفعة واللذة وإنها تنقطع بمجرد انقطاع أسبابها وأن هذه الصداقة لا تُعدّ صداقةٍ حقة (3) نجد الإخوان يؤكدون أن كل صداقة تكون لسبب ما ، فإذا انقطع ذلك السبب بطلت تلك الصداقة ، ويعبرون عن صداقتهم إنها صداقة لا تنقطع بانقطاع أسبابها لأن صداقتهم قرابة رحِم ورحِمهم أن يعيشوا مع بعضهم (4) ومن المسائل التي يشارك فيها الإخوان ، ارسطو ، هي أن الصديق إذا وجد صديقة قد انحرف عن الطريق الصحيح يجب على صديقة الآخر أن لا يقاطعه وإنما يقوم بإلقاء النصيحة له والسعي لإصلاحه ومتى ما عرف أنه لا ينصلح فعند ذلك يحق له أن يقطع علاقته به (5) 0 ومن المسائل التي أكدها ارسطو هي مشاركة الأصدقاء بعضهم بعضاً في السراء والضراء 0 وقد جعل إخوان الصفاء جُلّ اهتمامهم في صداقتهم بهذا الجانب 0 ولا يقتصر أثر أفكار ارسطو على الإخوان في هذا الجانب وحسب وإنما نجد أثره واضحاً في فكر إخوان الصفاء في المنطق ، وهذا
__________
(1) ارسطو طاليس ، علم الأخلاق الى نيقوماخوس ، ج2 ، ص 324 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 47 0
(3) ارسطو طاليس ، علم الأخلاق الى نيقوماخوس ، ج2 ، ص 284 0
(4) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 48 0
(5) ارسطو طاليس ، علم الأخلاق الى نيقوماخوس ، ج 2 ، ص 286 0 يُنظر كذلك الرسالة الجامعة ، ج2 ، تحقيق جميل صليبا ص 400 ، 401 0(1/128)
لا يخفى على من أطلع على رسائل إخوان الصفاء وحديثهم عن المنطق الارسطي (1) فضلاً عن أن أثر ارسطو في إخوان الصفاء لم يقف عند المنطق وحسب وإنما نجد أثره بارزاً في القسم الثاني من رسائلهم ، وهي تتفق في المضمون مع مؤلفات ارسطو في الطبيعيات (2) ، وهي ( سمع الكيان ، والسماء والعالم ، والكون والفساد ، والآثار العلوية وأجزاء الحيوان ، والحاس والمحسوس ) (3) 0
__________
(1) يُنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 395 ، 405 ، 414 ، 415 ، 430 ، 425 0
(2)
(1) إن إخوان الصفاء وأن تناولوا بالطبيعيات مؤلفات ارسطو إلا أنهم يخالفون ارسطو في قوله بقدم العالم ، أما الإخوان فقد قالوا إن العالم محدث مخلوق 0
(3) ماجد فخري ، مختصر تأريخ الفلسفة العربية ، دار الشورى بيروت ، ط 1 ، 1981 ، ص79 0(1/129)
أما عن أثر أفكار افلوطين في فكر إخوان الصفاء ، فإذا عقدنا مقارنة بين ما قاله افلوطين عن صدور الموجودات عن الله ، وما قاله الإخوان ، نجد أن هناك أفكاراً يشابه بها الإخوان افلوطين وأفكاراً أُخرى نجدهم فيها مختلفين عن افلوطين ، ولنبدأ بالمسائل المشتركة 0 يقول افلوطين أن أول ما صدر عن الواحد المطلق ، هو العقل الكلي وهو كالأول كائن بسيط ، لكنه دائم التعقل ، فصدر عنه بدوره كائن آخر بسيط مثله ، وهو النفس الكلية 0 والنفس الكلية هي الأخرى جوهر دائم التفكير إلا أن تفكيرها متشعب (1) أو بعبارة أُخرى أن تفكيرها يختلف عن العقل الكلي الذي صدرت منه وأنه مصدرها 0 أما إخوان الصفاء فقد قالوا بأكثر من موضوع إن أول موجود أوجده الباري سبحانه وتعالى ، هو العقل الكلي أو العقل الفعال ، الذي هو جوهر روحاني بسيط فيه جميع صور الموجودات غير متراكمة ولا متزاحمة ، وهو فائض تلك الصور على النفس الكلية دفعة واحدة بلا زمان كفيض الشمس نورها على الهواء ، وتأتي النفس الكلية بعد العقل الكلي ، والنفس غير حائطه بكلية ما في العقل بلا واسطة له بكمال صفاته الموجودة إلا مما أمدها به وافاضة عليها الشيء بعد الشيء والنفس غير قابلة لجميع ما في العقل دفعة واحدة ، وذلك أنها لو كانت قادرة على ذلك لأصبح لا فرق بينها وبين العقل وعند ذلك لا يصبح للعقل أي فضلٍ عليها (2) ومن الأفكار التي يشارك فيها الإخوان ، افلوطين فكرة رد الكثرة في الموجودات الى الواحد 0 وتأكيد ضرورة اختلاف المخلوق عن الخالق فإذا كان المخلوق متكثراً فأن الخالق واحداً (3) وهذا
__________
(1) د0 كمال اليازجي ، معالم الفكر العربي في العصر الوسيط ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ط 3 ، 1961 ، ص 184 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 200 – 201 0 كذلك يُنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 234 0
(3) د0 محمد عبداللطيف العبد ، الإنسان في فكر إخوان الصفاء ، ص 71 0(1/130)
يتضح بصدد حديثهم عن العقل الكلي ( وأعلم أن دائرة العقل مشرفة بهيئته فهو يتراءى فيها بشدة صفاءها وإشراقها ما يتلألأ من الأنوار الإلهية البادية بالأمر الممجد عن الوحدة المحضة التي لا تتكثر ولا تزداد بل هي منفردة بالوجود والإيجاد ، وإنما يتكثر من ينضاف إليه ما يشاكله ويجانسه ، ويزداد من يحتاج الى الزيادة ، وإذا احتاج الى الزيادة لزمه النقصان ، والوحدة المتنزهة عن الصفات البادية بالألفاظ المنطقية، والتخيلات النفسانية والتمثيلات الهيولانية ، لا تتكثر كتكثر واحد الأعداد التي هي الوحدة المتكثرة بما يكون ويبدو عنها ، إذ كانت هي أصل الكثرة ومبدأ وجود الخلقه ) (1) وفي موضع آخر من نصوصهم قالوا عن صور الموجودات أن ألفاظ هذه الصور هي ألقاب أو سمات يشار بها الى الصور ليميز بين إضافات بعضها كما يميز بين الأعداد بالألفاظ ، وذلك أن الصورة الواحدة تارة تسمى هيولى وتارة تسمى جوهرية وتارة عرضية وتارة بسيطة ... وما شابه هذه الألفاظ (2) فضلاً عن ذلك نجد أن افلوطين قد جعل للنفس الكلية جانبين 0 جانب أعلى لا يتصل بشيء بل يضل في علو المعقولات ، وجانب أدنى هو وسيلتها للاتصال بالعالم وتنظيمه (3)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 199 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 234 0
(3)
(1) افلوطين ، التُساعية الرابعة في النفس ، ترجمة د0 فؤاد زكريا ، مراجعة سليم سالم ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، 1970 ، ص 103 0(1/131)
نجد عند الإخوان إن فكرة أن للنفس الكلية طرفين تنحط منها قوتان ، قوة تنحط الى الطبيعة وقوة تنحط من الطرف القريب من العقل (1) كذلك يشترك الإخوان مع افلوطين في القول بأن النجوم أو الكواكب كائنات حية لها نفوس ، وهي واقعة تحت مصادر الفيض ، ولكن الإخوان قالوا بأن كل شيء تحت الكواكب حادثٌ بتأثير منها خيراً كان أم شراً ، أما افلوطين فقد نفى تأثير الكواكب ، وجعل لها مشاركة عامة لا فردية في الحياة الطبيعية (2) ومن المسائل التي يشارك فيها الإخوان افلوطين قولهم بأن النفس تحاول العودة الى مكانها المعقول الذي هبطت منه وأنها متى ما تخلصت من شهوات الجسد وعلائق المادة فسوف تتأمل الحقائق العليا (3) وهذه الحقائق يتم التوصل إليها بعد تطهير النفس وبعد تأمل شديد للمحسوسات ودقة نظر في المعقولات وبعد التأمل الباطني ومعرفة الرياضيات (4) 0
__________
(1) يُنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 215 0
(2) افلوطين ، التساعية الرابعة في النفس ، ص 78 0
(3) المصدر نفسه ، ص 112 0
(4) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 453 ، كذلك يُنظر كمال اليازجي ، معالم الفكر العربي في العصر الوسيط ، ص 186 0(1/132)
ومن خلال ما ذكرنا نجد أن هناك علاقة بين الفيض الأفلوطيني والفيض عند الإخوان ، ففكرة الفيض والصدور لها أصل افلوطيني ولكن صورة الفيض عند الإخوان تغيرت من حيث الشكل ومن حيث الجوهر معاً عن الفيض الافلوطيني 0 أما من حيث الشكل فأن مراتب الصدور مختلفة بمصطلحاتها ومراتبها وأعدادها (1) فالفيض الافلوطيني يسير بالمراتب الآتية وهي أن أول ما صدر عن الواحد المطلق ، العقل الكلي وصدر عن هذا العقل النفس الكلية وعن هذه النفس صدرت النفوس الجزئية والعالم المحسوس وهذه النفوس الجزئية هي المحركة لأجزاء العالم 0 ثم انحدرت صور الموجودات من النفوس الجزئية وبابتعادها عن مصدرها زادت النسبة السلبية ، وقد تكون من المبدأ السلبي الملازم له ، العناصر الأربعة ومنها نشأ كل شيء في عالم الطبيعة أما نوع الكائن وشخصه فقد تقّرر بحكم النسبة التي قامت بين مبدئه الإيجابي ومبدئه السلبي (2) 0
أما الفيض عند الإخوان فهو يسير في تسع درجات وفقاً للأرقام التسعة ، فالله ، أو الموجود الأول قديم قائم بنفسه حكيم قادر عليم ومنه يصدر الفيض وأول موجود صدر عنه هو العقل الفعال أو الكلي وفاضت منه النفس الكلية ومن النفس الكلية الجسم الكلي ويفيض منه أيضاً الهيولى الأولى ، وهي جوهر بسيط روحاني يقبل من النفس الصور والأشكال بالزمان شيئاً فشيئاً (3) إذ أن فيه استعداداً لأن يتخذ كل صورة من صور المصنوعات الإلهية الأولى ، كالماء والتراب والرخام وأشباهها 0 ولما كانت أول صورة قبلتها الهيولى الأولى هي الطول والعرض والعمق فيفيض بذلك الجسم المطلق أو الهيولى الثانية (4)
__________
(1) حسين مروه ، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، ص 407 0
(2) د0 كمال اليازجي ، معالم الفكر العربي في العصر الوسيط ، ص 184 0
(3) يُنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 460 0
(4)
(1) أنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 466 0(1/133)
وهنا يقف فيض العقل الفعال وأثره في الفيوضات الآتية لأنها ناقصة في الرتبة عن الجواهر الروحانية ويفيض بعد ذلك الجسم الكلي المطلق ثم العلل الأربعة ثم الأجسام الجزئية العامة (1) أما الاختلاف من حيث الجوهر فأن افلوطين قال بقدم العالم (2) أما الإخوان فقالوا لحدوثه (3) 0
وبعد أن بينا المسائل التي يشارك فيها الإخوان ، افلوطين والمسائل التي يخالفونه بها فلابد من الإشارة الى مسألة جديرة بالاهتمام وهي أن الإخوان على الرغم من قولهم بخلق العالم وإثباتهم لله ، الكمالات كونهم مسلمين وأنه لا قديم إلا الله ، نراهم يخالفون معتقد الإسلام القائل بأن الله ، أوجد الموجودات دفعة واحدة أي خلقها فوراً وبكلمة واحدة ، من خلال قولهم في مسألة تطور الهيولى وصدور الموجودات عن طريق الفيض وقبولها الأشكال والتئام العناصر ، وخالفوا أيضاً الفلاسفة في مسألة حدوث المادة (4) 0
__________
(1) سعيد زايد ، معجم أعلام الفكر الإنساني ، تصدير إبراهيم مذكور ، المجلد الأول ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1984 ، ص 460 – 461 0
(2) تكلم افلوطين عن عالمين ، عالم معقول ، وعالم محسوس ، فاض من النفس الكلية 0 فالعالم المعقول على الرغم من أنه صادر عن الأول ، فأنه أبدي لا يفنى 0 عبدالرحمن بدوي ، خريف الفكر اليوناني ، ص 138 0
أما العالم المحسوس فهو حادث ، فمخالفة الإخوان له ليس في العالم المحسوس وإنما في العالم المعقول 0 فالإخوان اثبتوا أن العالم سواء أكان جسمانياً أم روحانياً فهو مخلوق محدث 0
(3) د0 محمد عبداللطيف العبد ، الإنسان في فكر إخوان الصفاء ، ص 68 0
(4) لمزيد من التفصيل يُنظر ، عبده الشمالي ، دراسات في تأريخ الفلسفة العربية الإسلامية وآثار رجالها ، ط 4 ، دار صادر بيروت 1965 ، ص 405 0(1/134)
بعد أن بينا الأفكار الفلسفية التي أخذها إخوان الصفاء من الفيثاغورية ومن أفلاطون وارسطو وافلوطين ، اتضح لنا أنهم أخذوا من كل فيلسوف بعض الأفكار وضمنوها فكرهم الاعتقادي فلابد من تحديد السبب الذي دفعهم الى ذلك 0 ولتحديد السبب نذكر قول القفطي عنهم ، إذ قال ( لقد زعموا أن الشريعة دنُست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل الى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية وزعموا أنه متى ما انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال ) (1) بعبارة أخرى كما يقول إخوان الصفاء إن العلوم الحكمية والشريعة النبوية كليهما أمران إلهيان يتفقان في الغرض المقصود منهما الذي هو الأصل ويختلفان في الفروع وذلك بقولهم ( أن الغرض الأقصى من الفلسفة هو ما قيل إنها التشبه بالإله بحسب طاقة البشر ، وعمدتها أربع خصال : أولاها معرفة حقائق الموجودات ، والثانية اعتقاد الآراء الصحيحة ، والثالثة التخلق بالأخلاق الجميلة الحميدة ، والرابعة الأعمال الزكية والأفعال الحسنة) (2) 0 فالغرض من العلوم الحكمية هو تهذيب النفس والترقي من حال النقص الى التمام والخروج من حَدّ القوة الى الفعل بالظهور ، لتنال البقاء والدوام والخلود في النعيم مع أبناء جنسها مع الملائكة 0 كذلك الغرض من النبوة والناموس هو تهذيب النفس الإنسانية إصلاحها وتخليصها من جهنم عالم الكون والفساد ، وإيصالها الى الجنة ونعيم أهلها في فسحة عالم الأفلاك وسعة السماوات والتنسم من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن 0 فهذا في منظورهم هو المقصود من العلوم الحكمية والشريعة النبوية جميعاً 0 فالعلوم الحكمية والشرعية غرضها واحد لديهم ولهذا السبب ضمنوا فكرهم الاعتقادي أفكاراً فلسفية 0 فوحدة الأديان ووحدة
__________
(1) جمال الدين علي بن يونس القفطي ، تأريخ الحكماء ، ص 83 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 30 0(1/135)
العلوم الفلسفية والشرعية دفعتهم الى مذهبهم القائم على أساس عدم معاداتهم أي علم من العلوم أو عدم هجرهم أي كتاب من الكتب على أساس أن مذهب يستغرق المذاهب كلها 0
وبعد أن بينا موقفهم من الأديان والفلسفة نود أن نذكر مسألة تتعلق بالعلوم الحكمية والعلوم الشرعية ودورها في تهذيب النفس 0 بين الإخوان أن العلوم الحكمية والشريعة النبوية وإن كانت تهدف الى هدف واحد وهو تهذيب النفوس إلا أن الطرق المستخدمة في ذلك مختلفة ، وهذا الاختلاف يعود الى الطبائع المختلفة والأعراض المتغايرة التي عرضت للنفوس وبذلك اختلفت موضوعات النواميس وسُنن الديانات ومفروضات الشرائع كما اختلفت عقاقير الأطباء وعلاجاتها ، حسب اختلاف الأمراض العارضة للأجساد من الآلام والأوجاع وحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة (1) ، ويضرب الإخوان مثالاً يبينون فيه أن العلوم الحكمية والعلوم النبوية وأن اختلفت سُننها وفنون مفروضات النواميس إلا أن المقصد واحد فيقولون ، أن اختلافها كاختلاف طرق القاصدين نحو بيت الله الحرام ، وتوجههم شطرة ، حسب مواضع بلدانهم ومراحلهم ومرافقهم من البيت الحرام شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً (2) فضلاً عن ذلك فقد أكد الإخوان ضرورة مراعاة أحكام الشريعة ومراعاة الرياضة بالعلوم الفلسفية ونقدوا من يتعاطى العلوم الفلسفية ولا يُعير اهتماماً لظاهر الشريعة ، فهؤلاء صم بكم عمي لا يفقهون أحكام الشريعة (3) 0
وقد أكد إخوان الصفاء ، العلوم الشرعية وبجانبها العلوم الفلسفية ، ونظراً لأهمية العلوم الفلسفية فسوف نفرد مبحثاً خاصاً بالعلوم الفلسفية ، وكيف نظر الإخوان لهذه العلوم وبأي علم ابتدئوها 0
المبحث الثاني
العلوم الفلسفية
أولاً – العلوم الرياضية
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 30 0
(2) المصدر نفسه ، ص 31 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 137 – 138 0(1/136)
سبق أن ذكرنا في حديثنا عن أجناس العلوم أن العلوم الفلسفية أربعة أنواع ، أولها الرياضيات وثانيها المنطقيات وثالثها الطبيعيات ورابعها الإلهيات 0 وذكرنا أن العلوم الرياضية أربعة أنواع أيضاً وهي العدد والهندسة وعلم النجوم والموسيقى 0
1- علم العدد 0 في حديثنا عن هذا العلم يحق لنا أن نطرح سؤالاً وهو ما السبب الذي جعل إخوان الصفاء يقدمون هذا العلم على سائر العلوم الرياضية ؟ علل الإخوان ذلك بقولهم ( لما كان مذهب إخواننا الكرام أيدهم الله ، النظر في جميع علوم الموجودات التي في العالم ، من الجواهر والأعراض والبسائط والمجردات والمفردات والمُركبات والبحث عن مبادئها وعن كمية أجناسها وأنواعها وخواصها ، وعن ترتيبها ونظامها على ما هي عليه الآن 0 وعن كيفية حدوثها ونشوئها عن علّة واحدة ، ومبدأ واحد ، من مبدع واحد ، جلّ جلالة ، ويستشهدون على بيانها بمثالات عددية ، وبراهين هندسية ، مثل ما كان يفعله الحكماء الفيثاغوريون ، احتجنا أن نقدم هذه الرسالة قبل رسائلنا كلّها ، ونذكر فيها طرفاً من علم العدد وخواصة التي تسمى الأرثماطيقي شبه المدخل والمقدمات ، لكيما يسهل الطريق على المتعلمين الى طلب الحكمة التي تسمى الفلسفة ، ويقرب تناولها للمبتدئين بالنظر في العلوم الرياضية ، فنقول الفلسفة أولها محبة العلوم ، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة الإنسانية ، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم ) (1) إن صدارة هذا العلم ناشئة من تأثرهم بالفيثاغورية الحديثة التي امتزجت بالفلسفات الإسكندرية ثم اتجهت الى غاية معينه وهي إثبات الانسجام الدقيق بين الأعداد وسائر الموجودات من علوية عقلية ، وسفلية مادية ، إذ قالت بمطابقة الأعداد للموجودات (2) وهذا التأثر سوف يظهر جلياً في أثناء حديثنا عن علم العدد ، ففي حديث
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 48 0
(2) د0 محمد غلاب ، إخوان الصفا ، ص 41 – 42 0(1/137)
الإخوان عن العدد ابتدئوا بالعدد واحد الذي له الدور البارز من بين الأعداد ، فهذا العدد يقال على وجهين إمَّا بالحقيقة وإمَّا بالمجاز ، فالواحد بالحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له ألبته ولا ينقسم ، وكل ما لا ينقسم فهو واحد من تلك الجهة التي بها لا ينقسم 0 أما الواحد بالمجاز ، فهو كل جملة يقال لها واحد كما يقال عشرة واحدة ، ومائة واحدة ، وألفٌ واحدٌ ، والواحد واحدٌ بالوحدة كما أن الأسود أسود بالسواد ، والوحدة صفة للواحد كما أن السواد صفة للأسود 0 ومن الواحد تنشأ الكثرة وقد عرفوا الكثرة ، بأنها جملة الآحاد وأول الكثرة الاثنان ثم الثلاثة ثم الأربعة ... الخ والكثرة كما يقول الإخوان نوعان كثرة العدد، وكثرة المعدود 0 أما عن كثرة العدد فهي كمية صور الأشياء في العادّ نفسه (1) أما كثرة المعدودات ، فهي كثرة الأشياء نفسها 0 ولا يقتصر دور الواحد على أنه أصل الكثرة حسب وإنما الواحد هو أصل الأعداد جميعها من أعداد صحيحة وكسور ، وكل هذه الأعداد تنحلُ راجعهٍ الى الواحد وفضلاً عن ذلك فقد تكلم الإخوان عن مراتب العدد ومواضيع أُخرى كثيرة 0 وحتى لا نخرج عن مسألة قول الإخوان بالانسجام بين الأعداد والموجودات العلوية والسفلية منها ، ومطابقة الأعداد للموجودات ، نذكر ما قاله الإخوان عن هذه المسألة 0 فقد قالوا ( ومسألة كون العدد على أربع مراتب وهي الآحاد والعشرات والمئات والألوف ليس أمراً ضرورياً لازماً لطبيعة العدد مثل كونه أزواجاً وأفراداً ، صحيحاً وكسوراً ، بعضها تحت بعض ، لكنها أمر وضعي رتبهُ الحكماء باختيار منه ، وإنما فعلوا ذلك لتكون الأُمور العددية مطابقة لمراتب الأُمور الطبيعية ) (2)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 49 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 52 0(1/138)
فالأُمور الطبيعية كما يرى الإخوان جعلها الباري مربعات مثل ، الطبائع الأربع وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة 0 ومثل الأركان الأربعة وهي الدم والبلغم والمرتان الصفراء والسوداء 0 والأزمان أربعة وهي الشتاء والربيع والصيف والخريف 0 والمكونات أربعة أيضاً وهي المعادن والنبات والحيوان والإنسان 0 وجهات الرياح أربعة وهي الصَّبا والدَّبور والجنوب والشمال (1) وعلى هذا المثال وجد أكثر الأُمور الطبيعية مربعات 0 ولهذا العدد أربعة دوره البارز في الأمور الروحانية وأن هذه الأمور جعلها الباري ، مربعات أيضاً مثلما جعل الأمور الطبيعية مربعات والغرض من ذلك كي تطابق الأمور الطبيعية الأمور الروحانية وهذا نص قولهم ( وأعلم بأن هذه الأمور الطبيعية إنما صارت أكثرها مربعات بعناية الباري ، جل ثناؤه واقتضاء حكمته لتكون مراتب الأمور الطبيعية مطابقة للأمور الروحانية التي هي فوق الأمور الطبيعية ، وهي التي ليست بأجسام وذلك أن الأشياء التي فوق الطبيعة أربع مراتب وهي أولها الباري جل جلالة ، ثم دونه العقل الكلي الفعال ، ثم دونه النفس الكلية ، ثم دونه الهيولى الأولى ، وكل هذه ليست بأجسام ) (2) فنسبة الباري ، من الموجودات كنسبة الواحد من العدد ، ونسبة العقل الكلي من الموجودات كنسبة الاثنين من العدد ، ونسبة النفس من الموجودات كنسبة الثلاثة من العدد ، ونسبة الهيولى الأولى من الموجودات كنسبة الأربعة من العدد (3) ومثلما أصل الأعداد كلها بمختلف مراتبها تعود الى الأعداد من واحد الى أربعة نجدهم بحديثهم عن صدور الموجودات عن الباري يقولون بأن هناك مطابقة بين هذه الأعداد وصدور الموجودات إذ قالوا وأعلم يا أخي أن الباري جل ثناؤه ، أول شيء اخترعه وأبدعه من نور وحدانيته ، جوهر بسيط يقال له العقل الفعال ، كما أنشأ الاثنين من الواحد
__________
(1) المصدر والصفحة نفسهما 0
(2) المصدر نفسه ، ص 53 0
(3) المصدر والصفحة نفسهما 0(1/139)
بالتكرار ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من نور العقل ، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين ، ثم أنشأ الهيولى الأولى من حركة النفس ، كما أنشأ الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة ، ثم أنشأ سائر الخلائق من الهيولى ورتبها بتوسط العقل والنفس ، كما أنشأ سائر العدد من الأربعة بإضافة ما قبلها إليها ) (1) 0 ومثلما الواحد لا يتجزأ وأنه أصل الأعداد وأنه عندما أُضيف إليه واحد أدى الى ظهور الاثنين ولم يجرِ عليه تغيير ، فأن الله ، هو الواحد الذي هو أصل الموجودات والذي خلق العالم ولم يجرِ عليه تغير ولم يحصل له تجزؤ ، ومثلما أن الأعداد كلها ترجع الى العدد واحد ، كذلك الموجودات تعود كلها الى الله ، ومثلما العدد واحد هو أصل الكثرة ، فأن الله الواحد الأحد ، هو مصدر كثرة المخلوقات في هذا العالم كذلك تكلم الإخوان عن مواضيع أُخرى تتعلق بالعدد منها خواص الأعداد (2) وضرب الأعداد موضوعات أُخرى تُعبر عن اهتمامهم بفلسفة العدد وما قدموه عن سائر العلوم الرياضية وهذا كما يقول الإخوان ما فعله الحكماء لأن هذا العلم مركوز في كل نفس بالقوة ، وإنما يحتاج الإنسان الى التأمل بالقوة الفكرية حسب من غير أن يأخذ لها مثالاً من علم آخر ، بل منه يؤخذ المثال على كل معلومة وبينوا أيضاً أن الأمثلة التي قدموها ومثلوها بالخطوط للمتعلمين المبتدئين ، أما الفهم الذكي فغير محتاج الى هذه الأمثلة (3) وهذا سبب ثانٍ لتقديم علم العدد على سائر العلوم الرياضية فضلاً عن ذلك فالاستغراق في فلسفة العدد يمهد لمعرفة النفس ، فمن يدرك حقيقة الأعداد على أنواعها لابد أن
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 54 – 55 0
(2) لمزيد من التفصيل يُنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 56 ، 57 ، 58 ، 59 ، 60 ، 61 0 يُنظر كذلك د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، ص 64 – 65 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 75 0(1/140)
يدرك أنها أعراض قائمة في النفس على غرار ما تقوم الأعراض في الجواهر بوجهٍ عام وأن معرفة النفس تمهيد لأسمى درجات المعرفة التي لا تحصل إلا عن طريق الفلسفة ، وهي معرفة الباري تعالى ، ذلك أن معرفة النفس من حيث منشأها ومصيرها هي السبيل الى معرفة الله ، كما يرى إخوان الصفاء (1) 0 وبعد أن بينا أهمية علم العدد في فكر إخوان الصفاء ، سوف نتكلم عن علم الهندسة الذي يأتي في الترتيب الثاني بعد علم العدد 0
2- الهندسة 0 أطلق إخوان الصفاء على علم الهندسة ( جومطريا ) وهذه الكلمة إغريقية ، فهم متأثرون في ذلك بالفيثاغورية ، وهذه الكلمة أي جومطريا انتقلت الى اللغات الأوربية ( جيومتري ) ومعناها القاموسي قياس الأرض (2) ، أما إخوان الصفاء فقد عرفوا علم الهندسة ، بأنه معرفة المقادير والأبعاد وكمية أنواعها وخواص تلك الأنواع ، إذ يبدأ علم الهندسة بالنقطة ، التي هي طرف الخط ومن الخطوط تتكون السطوح ومن السطوح تتكون الأجسام 0 وعلم الهندسة اصطلاح يُطلق بمعنيين الهندسة الحسية والهندسة العقلية الهندسة الحسية 0 وهي معرفة المقادير وما يعرض فيها من المعاني إذا أُضيف بعضها الى بعض وهي ما يُرى بالبصر ويدرك باللمس 0 أما الهندسة العقلية ، فهي ما يُعرف ويدرك بالعقل قبل البدء بمعالجة المقادير الحسية أي ما تتصوره النفس أو ما يتصوره الفكر من النسب 0 وكل صانع إذا قدر أُمور صناعته قبل المباشرة في عمله فأنه يقوم بضرب من الهندسة العقلية (3) 0 ولنبدأ بالهندسة الحسية 0
__________
(1) د0 ماجد فخري ، مختصر تأريخ الفلسفة العربية ، ص 82 ، يُنظر كذلك د0 ماجد فخري ، تأريخ الفلسفة الإسلامية ، ص 333 – 334 0
(2) عبدالغني الملاح ، من أثر إخوان الصفا في الحضارات الأوربية ، مجلة آفاق عربية ، العدد الخامس ، كانون الثاني ، 1980 ص 82 0
(3) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 67 0 ينظر كذلك رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 79 – 80(1/141)
أ. الهندسة الحسية 0 تبدأ هذه الهندسة من النقطة 0 وكما أن الواحد هو أصل الأعداد وأصل الاثنين ، والاثنان أصل الأعداد ، فأن النقطة هي أصل الخط ، فإذا تعددت النقاط كان الخط بكل أنواعه ، والخط هو أصل السطح فعند تجاور الخطوط تظهر السطوح لحاسة البصر ، ومن السطوح تتكون الأجسام (1) 0 أما عن النقطة فقد ذكرنا أن الخطوط يظهر طولها لحاسة البصر من النقطة إذا انتظمت ، فأقصر خط من نقطتين ثم من ثلاث ثم من أربع ثم من خمس وتتزايد واحداً بعد واحد كتزايد العدد على نظمه الطبيعي 0 أما عن عدد النقاط بالأشكال فأصغر شكل هو المثلث المتكون من ثلاثة أجزاء ثم من أربعة ثم من عشرة وعلى هذا القياس يتزايد كما يتزايد جمع العدد على النظم الطبيعي 0 أما عدد النقاط في المربعات ، فأصغر مربع يتكون من أربعة أجزاء وبعده من تسعة أجزاء وبعده من ستة عشر ، وبعده من خمسة وعشرين جزءاً ، وعلى هذا القياس تتزايد المربعات دائماً كتزايد جمع العدد على نظمه الطبيعي (2) 0 أما عن الخطوط فهي ثلاثة أنواع الخط المستقيم ، والخط المقوس ، والخط المنحي 0 وللخطوط المستقيمة إذا أُضيف بعضها الى بعض ألقاب وأسماء عديدة 0 ومن هذه الخطوط تتكون لنا أنواع الزوايا ونذكر منها الزوايا التي تحيط بها الخطوط المستقيمة وهي الزاوية الحادة ، والقائمة ، والمنفرجة ولكل زاوية خصائصها (3) 0 أما عن السطوح ، فالسطح هو شكل يحيط به خط أو خطوط عدة ، فالدائرة مثلاً هي شكل مسطح يُحيط به خط واحد مقوس ، تبعد كل نقطة عنه ببعد واحد عن نقطة في داخل الدائرة تسمى المركز أما نصف الدائرة ، فهو شكل يحيط به خطان أحدهما مقوس والآخر مستقيم 0 أما قطعة الدائرة فهي شكل يحيط به خط مستقيم وقوس من محيط الدائرة ، أما أكبر من نصفه أو أصغر (4)
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 80 0
(2) المصدر نفسه ، ص 89 – 90 0
(3) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، من ص 81 الى 86 0
(4) المصدر نفسه ، ص 88 0(1/142)
والسطح قد يحاط بثلاثة خطوط مستقيمة وهو ما يسمى المثلث الذي له ثلاث زوايا 0 وقد يحاط بأربعة خطوط مستقيمة وتكون له أربع زوايا قائمات وهو المربع ثم هناك المخمس والمسدس ... الخ من الأشكال (1) ومثلما الواحد هو أصل العدد والنقطة هي الأصل في الهندسة ، فأن المثلث هو أصل لجميع السطوح ، وذلك لأن أقل سطح ممكن هو سطح المثلث0 فمن مثلثين يكون السطح المربع ومن ثلاثة مثلثات يكون السطح المخمس ومن أربعة مثلثات يكون السطح المسدس وهكذا بإضافة مثلث في كل حالة تتقدم فيها الى المسبع والمثمن ... الخ 0
والسطح من حيث الكيفية هو مسطح ( مستوي ) أو مقعر أو مقبب ( محدب ) وهناك أنواع عديدة من السطوح (2) 0 أما عن الأجسام فيرى الإخوان أن الخط ينتهي الى نقطة من أحد طرفيه والى نقطة أُخرى من طرفة الآخر وهكذا تنتهي السطوح الى خطوط ، والسطوح هي نهايات الأجسام إذ تختلف الأجسام من حيث عدد سطوحها 0 فمن الأجسام ما ينتهي الى سطح واحد كالكرة أو قد ينتهي الجسم بسطحين كنصف الكرة ومن الأجسام ما تحيط به ثلاثة سطوح كربع الكرة أو قد يحاط بأربعة أو خمسة أو ستة سطوح كالمكعب 0 والأجسام مختلفة من حيث شكلها وخصائصها وتسميتها ، فمنها الجسم اللوحي ، الذي طوله أكبر من عرضه ، وعرضه أكبر من سمّكة 0 والجسم اللبَّنيّ ، الذي طوله مثل عرضه وسمّكه أقل منهما (3) ... الخ من الأجسام التي تختلف في عدد السطوح والزوايا والأضلاع 0
__________
(1) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 68 0 كذلك رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 90 0
(2) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 69 0 كذلك رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 91 0
(3)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 95 0(1/143)
وبعد أن بينا بشكلٍ سريع المواضيع التي تتناولها الهندسة الحسية ، سنبين فائدتها 0 إذ تعود أهمية الهندسة الحسية الى أنها العلم الذي يحتاج إليه أكثر الصناع فهو التقدير قبل العمل ، وذلك لأن كل صانع يؤلف الأجسام بعضها الى بعض ويركبها فلابد له من أن يقدر أولاً المكان والزمان للعمل في أي مكان وأي وقت يعملها ، كذلك يبتدئ بمعرفة إمكانياته بالقدرة على العمل وهل بالإمكان عمله أو لا ، وبأي آلة وأداة يمكن عملها ويؤلف أجزاءها ، حتى تلتئم وتأتلف ، فهذه هي الهندسة التي تدخل في أكثر الصنائع التي تؤلف الأجسام بعضها الى بعض (1) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 96 0(1/144)
ب. الهندسة العقلية 0 أكد الإخوان هذه الهندسة لكونها أحد أغراض الحكماء الراسخين في العلوم الإلهية المرتاضين بالرياضيات الفلسفية 0 وأن غرض الهندسة العقلية هو تخريج المتعلمين من المحسوسات الى المعقولات وترقيتهم بتلاميذهم من الأمور الجسمانية الى الأمور الروحانية ، ففي الوقت الذي يؤدي النظر في الهندسة الحسية الى الحذق في الصنائع العملية كلها ، فإن النظر في الهندسة العقلية يؤدي الى الحذق في الصنائع العلمية 0 وهذا العلم أي الهندسة العقلية هو أحد الأبواب التي تؤدي الى معرفة جوهر النفس التي هي جذر العلوم وعنصر الحكمة ، وأصل جميع الصنائع العملية العلمية (1) 0 أما تعريف الهندسة العقلية عند الإخوان ، فهي النظر في الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق خلواً من الأجسام الطبيعية ، وهذه الأبعاد لا تُرى بالبصر وليس لها وجود بذاتها 0 ومثلما تبدأ الهندسة الحسية من النقطة ، فالهندسة العقلية تبدأ من النقطة التي هي شيء لا جزء له (2) وتقوم الهندسة العقلية على أساس توهم الأبعاد وما ينتج منها من الأشكال ، فإذا توهم الإنسان مثلاً حركة هذه النقطة على سمتٍ واحدٍ ، حدث في فكره خط مستقيم وإذا توهم حركة هذا الخط على غير الجهة التي تحركا إليها الخط والنقطة ، حدث في وهم الإنسان جسم وهمي له ستة سطوح مربعات الزوايا وهو المكعب 0 وإن كانت مسافة حركة السطح أقل من مسافة حركة الخط ، حدث من ذلك جسمٌ لبني ، وإن كان أكثر من ذلك ، حدث من ذلك جسمٌ بئريُّ ، وإن كانت متساوية حدث جسمٌ مكعب (3) 0 وهكذا بالإمكان أن نتحدث بأفكار عقلية عن أي أبعاد ومقادير في علم الهندسة من دون أن نُشير الى أجسام طبيعية ودون أن نحتاج الى تعيين ما نقول تعييناً حسياً 0 هذا مع الفارق بين التعيين في صورته العقلية والتعيين الحسي (4)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 101 0
(2) المصدر نفسه ، ص 81 0
(3) المصدر نفسه ، ص 102 0
(4) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية 0 ص 72 0(1/145)
وقد تناول الإخوان مواضيع عدة منها أنواع المثلثات والمربعات ، كما تكلموا عن خواص تركيب العدد الهندسية ، وتجنباً للإطالة ، نعود لموضوع توهم الأبعاد الثلاثة التي هي الطول ،والعرض ، والعمق 0 فعند حديثهم عن هذا الموضوع نقدوا المهندسين والناظرين في هذا العلم عندما توهموا أن للأبعاد الثلاثة وجوداً بذاتها وقوامها ، إذ يرى الإخوان أن هؤلاء لا يدرون أن ذلك الوجود لهذه الأبعاد إنما هو جوهر الجسم أو في جوهر النفس ، وهي لها كالهيولى وهي فيها كالصورة إذا انتزعتها القوة المفكرة من المحسوسات 0فلو كانوا يعلمون أن الغرض الأقصى من النظر في العلوم الرياضية هو أن ترتاض أنفس المتعلمين بأن يأخذوا صور المحسوسات من طريق القوى الحساسة وتصورها في ذاتها بالقوة المفكرة ، حتى إذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها بقيت تلك الرسوم التي أدتها القوى الحساسة الى القوة المتخيلة ومن المتخيلة الى القوة المفكرة ، والمفكرة تؤديها الى الحافظة مصورة في جوهر النفس ، فستغني النفس عند ذلك عن استخدامها للقوى الحساسة في إدراك المعلومات عند نظرها الى ذاتها فسوف تجد النفس صور المعلومات كلها في جوهرها وعندها سوف تستغني النفس عن الجسد وزهد فيه وتنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتنهض بقوتها وتفارق الأجسام ، وبحر الهيولى وتنجو من أسر الطبيعة وعبودية اللذات الجسمانية وتشاهد عالم الأرواح وترتفع الى هناك وتُجزى بأحسن جزاء ، وهذا هو الغرض الأقصى من النظر في العلوم الرياضية التي كانوا يخرجون بها أولاد الحكماء التلامذة القدماء ، وهذا هو مذهب إخوان الصفاء (1) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 103 – 104 0 يُنظر كذلك مصطفى غالب ، فلاسفة من الشرق والغرب ص 40 – 41 0(1/146)
أما عن فائدة الهندسة العقلية ، فيرى الإخوان أن النظر فيها وفي معرفة خواص العدد والأشكال يعين على فهم كيفية تأثير الأشخاص الفلكية وأصوات الموسيقى في نفوس المستمعين والنظر في كيفية تأثير الحس في منفعلاتها يعين على فهم كيفية تأثيرات النفوس المفارقة في النفوس المتجسدة التي هي في عالم الكون والفساد (1) كذلك من فوائد الهندسة العقلية ، بل وأعظمها فائدة هو إدراك العلوم والتأدي منها الى دراسة العقل والارتفاع من ذلك الى دراسة الذات الإلهية ، والإطلاع على أسرارها (2) 0 هذا ما استطعنا تقديمه عن الهندسة العقلية وأهميتها عند إخوان الصفاء أوردناه بصورةٍ مختصرةٍ 0 ثم يأتي بعد علم الهندسة في الترتيب علم النجوم 0
3- علم النجوم (3) أو الأسطرنوميا هو العلم الثالث من العلوم الرياضية ووصف الإخوان هذا العلم ، بأنه معرفة كمية الأفلاك والكواكب والبروج وكمية أبعادها ومقادير أجرامها ، وكيفية تركيبها وسرعة حركاتها ، وكيفية دورانها وماهية طبائعها وكيفية دلائلها على الكائنات قبل كونها (4) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 113 0
(2) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 75 0
(3) قسم الإخوان علم النجوم الى ثلاثة أقسام 0 قسم منها هو معرفة تركيب الأفلاك وكمية الكواكب وأقسام البروج وما يتبعها من هذا الفن ويسمى هذا القسم ( علم الهيئة ) والقسم الثاني يهتم بمعرفة حل الزيجات وعمل التقاويم واستخراج التواريخ 0 أما القسم الثالث فهو معرفة كيفية الاستدلال بدوران الفلك وطوالع البروج وحركات الكواكب على الكائنات قبل كونها تحت فلك القمر ويسمى هذا النوع ( علم الأحكام ) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 114 0
(4) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 267 0(1/147)
أما عن الأفلاك فقد عرفها الإخوان ، بأنها أجسام كروية شفافة مجوفة وهي تسعة أفلاك مركبة بعضها في جوف بعض كحلقات البصلة ، حول الأرض فلك الهواء ثم فلك القمر فعطارد فالزهرة فالشمس فالمريخ فالمشتري فزحل ثم فلك الكواكب الثابتة 0 والتاسع هو الفلك المحيط عدا فلك الهواء 0 والفلك المحيط دائم الدوران من المشرق الى المغرب فوق الأرض ، ومن المغرب الى المشرق تحت الأرض ، ولهذا الفلك دورة واحدة في كل يوم وليلة وهو الذي يُدير سائر الأفلاك في داخله معه (1)
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 115 ، كذلك ينظر رسائل فلسفية ، د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، ص 76 0(1/148)
0 أما عن الكواكب ، فهي أجسام كريات مستديرات مضيئات ، وأنه أمكن إدراك ألف وتسعة وعشرين كوكباً كبيراً منها بالرصد ، وهي التي يقال لها الكواكب السيارة التي هي ابتداءً من تلك التي حول الأرض القمر ، عطارد ، الزهرة ، الشمس ، المريخ ، المشتري ، زحل 0 أما الكواكب الباقية فيقال لها الثابتة 0 أما عن البروج فهي أثنتا عشر قطاعاً ينقسم إليها الفلك المحيط ، وهذه البروج هي الحمل ، الثور ، الجوزاء ، السرطان ، الأسد ، السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدي ، الدلو ، الحوت (1) 0 وكل برج من هذه الأبراج ينقسم الى ثلاثين درجة ، إذن جملة درجات الفلك المحيط هي ثلثمائة وستون درجة ولكل درجة ستون قسماً يسمى كل قسم منها دقيقة ، ولهذه ستون قسماً يسمى كل منها ثانية ، وتنقسم هذه الأخيرة الى ستين ثالثة وهكذا رابعة وخامسة (2) ... الخ وتناول إخوان الصفاء مواضيع عديدة منها دوران الشمس والقمر ، وتحدثوا كذلك عن الفصول الأربعة ومواضيع أُخرى 0 نأخذ منها موضوع الكسوف الذي استخدموه بمعنى كسوف القمر وكسوف الشمس 0 فكسوف الشمس يحصل عند اجتماع الشمس والقمر في وقت من الأوقات عند أحدهما في برجٍ واحد ودرجةٍ واحدة ، ويحصل ذلك في آخر الشهر ، لأن القمر يصير محاذياً لموضع الشمس من البرج والدرجة ، فيمنع نور الشمس من أبصارنا فنراها منكسفة (3) أما عن كسوف القمر ، فأنه يحصل عندما تكون الشمس عند إحداهما وبلغ القمر الى الآخر انكسف القمر وهذا الكسوف لا يتم إلا في نصف الشهر ، لأن القمر في هذا الوقت يكون في البرج المقابل للبرج الذي فيه الشمس وتكون الأرض في الوسط فتمنع نور الشمس عن إشراقة على القمر فيرى القمر
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 115 ، كذلك رسائل فلسفية ، ص 77 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 116 ، كذلك رسائل فلسفية ، ص 77 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 121 0(1/149)
منكسفاً لأنه ليس له نور من نفسه ، وإنما يكتسب النور من الشمس (1) أما علة الكسوفين فيرى الإخوان ، أن الحكمة الإلهية اقتضت كسوف النيرين ( الشمس والقمر ) لكيما تزول التهمة والريبة من قلوب المرتابين بإنهما إلهان فلو كانا إلهين ما انكسفا ، وإنما صارت محنة الشخصين النيرين بأمرين خفيين ، ليكون دليلاً على أن أعظم المحنة من الشيطان على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ، لأن الأنبياء هم شموس بني آدم وأقمارهم ، وأن قصص الشيطان كثيرة مع الأنبياء ، مع نوح في السفينة ومع إبراهيم في فكرة إصلاح المنجنيق يوم طرحه قومه في النار ، وقصته مع موسى ، والمسيح ، وزكريا ويحيى عليهم السلام (2)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 122 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 143 0(1/150)
ولم تقف الحكمة الإلهية عند هذا الحد وحسب 0 وإنما جعل الباري بواجب حكمته من عدد البروج اثناعشر ، فلو كانت أكثر أو أقل من هذا العدد لما استمرت فيه هذه الأقسام 0 وإنه تعالى جعل الأفلاك كرويات الشكل لأن هذا الشكل أفضل الأشكال كونه أوسطها وأبعدها من الآفات وأسرعها حركة ومركزه في وسطه وأقطاره متساوية ، ويحيط به سطحٌ واحد ، ولا يماس غيره إلا على نقطة ، ولا يوجد في شكله غير هذه الأوصاف ، وجعل حركته مستديرة لأنها أفضل الحركات (1) كذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن تجعل من الكواكب السيارة والأفلاك والبروج بأعداد معينة وجاء هذا من إتقان الحكمة الإلهية ، فكون الكواكب السيارة سبعة ، مطابق لأول عدد كامل 0 وكون الأفلاك تسعة مطابق لأول عدد فرد مجذور 0 وكون البروج أثني عشر مطابق لأول عدد زائد 0 وكون المنازل ثمانية وعشرين مطابق لأول عدد تام ، ولما كانت السبعة ناتجة من جمع ثلاثة وأربعة ، وكان الأثنى عشر من ضرب 3 × 4 ، وثمانية وعشرين من ضرب 7 × 4 ، فبواجب الحكمة صارت مقصورة على هذه الأعداد وكانت السبعة والأثنا عشر والتسعة ، مجموعها ثمانية وعشرون عدداً لتكون الموجودات الفاضلة مطابقة للأعداد الفاضلة (2) وهذه المطابقة لا يعرفها إلا المرتاضون بالعلوم الرياضية فمن أرتاض بهذه العلوم يعرف عند ذلك بأن هناك مطابقة بين الأعداد والأمور الطبيعية 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 119 0
(2) المصدر نفسه ، ص 141 0(1/151)
وبعد أن تحدثنا عن علم النجوم بصورة مختصرة فسوف نتكلم عن أهمية علم النجوم 0 يرى إخوان الصفاء إن العاقل الفهم إذا نظر في علم النجوم وفكر في سعة هذه الأفلاك وسرعة دورانها وعظم الكواكب وحركاتها العجيبة وأقسام البروج وغرائب أوصافها عندها تشتاق نفسه الى الصعود الى الفلك والنظر الى ما هناك ومعاينته ، ولكن هذا الصعود لا يمكن أن يصله الإنسان بالجسد الثقيل الكثيف وإنما يتم بالنفس إذا فارقت الجثة بحيث لا يعيقها شيء من سوء أفعالها أو فساد آرائها أو تراكم جهالاتها أو رداءة أخلاقها ، فإذا تحررت من كل هذه العوائق فهي هناك كما يقول الإخوان في أقل من طرفة عين بلا زمان ، لأن كونها حيث همتها ومحبوبها كما تكون نفس العاشق من حيث معشوقة (1) وبعد علم النجوم يأتي علم الموسيقى0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 138 0 لمزيد من التفصيل ينظر المصدر نفسه ، ص 139 – 140 0(1/152)
4- علم الموسيقى 0 يأتي في المرتبة الرابعة من العلوم الرياضية إذ إن غرض إخوان الصفاء من الخوض في الموسيقى هو ليس تعلم الغناء وإنما هو معرفة النسب وكيفية التأليف اللذين بهما وبمعرفتهما يكون الحذق بالصنائع كلها (1) وإذا كانت كل صناعة تُعمل باليدين فإن هيولاها إنما هي أجسام طبيعية ومصنوعاتها كلها أشكال جسمانية إلا صناعة الموسيقى فإن الهيولى الموضوعة فيها كلها جواهر روحانية والتي هي نفوس المستمعين ، فالموسيقى وإن تُستعمل بها آلات إلا إن تأثيراتها روحانية (2) فالموسيقى لها تأثيرها في نفوس المستمعين بحيث تنقلها من حال الى حال فمن النغمات والألحان ما يُسكن سورة الغضب ويحل الأحقاد ومنها ما يحرك النفس نحو الأعمال الشاقة (3) وهذا ما ذكرناه عند حديثنا عن أثر أفلاطون ، في إخوان الصفاء 0 ومن الألحان ما يثير الحزن وآخر يثير الشجاعة ويسمى اللحن المشجع (4) وقد استخرج الحكماء ، الموسيقى وأخذها عنهم الناس وحتى الأنبياء (5) يستعملون الموسيقى لرقة القلوب كالتي تستعمل في بيوت العبادة والهياكل أو عند القراءة في الصلوات وعند القرابين والتضرع والبكاء كما كان يفعل النبي داود ، عند قراءة مزاميره وكما يفعل النصارى في كنائسهم ، والمسلمون في مساجدهم من طيب النغّمة ولحن القراءة لرقة القلوب وخشوعها والانقياد لأوامر الله تعالى ، ونواهيه والتوبة إليه من الذنوب (6)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 183 0
(2) المصدر والصفحة نفسهما 0
(3) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 184 – 185 0
(4) المصدر نفسه ، ص 187 0
(5) يقول الإخوان أن سبب تحريم الموسيقى في بعض شرائع الأنبياء عليهم السلام ، إنما جاء نتيجة استعمال الناس لها على غير السبل التي استعملها الحكماء ، بل على سبيل اللهو واللعب والترغيب في شهوات لذات الدنيا والغرور بأمانيها 0 يُنظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 210 – 211 0
(6) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 186 0(1/153)
والموسيقى ليست وقفاً من حيث تأثيرها في نفس الإنسان وحسب وإنما لها تأثير في نفوس الحيوانات أيضاً فيستعمل الجمَّالون الحِداء في الأسفار وفي ظُلم الليل لينشطوا الجمال في السير ، ويخففوا عليها ثقل الأحمال ، كذلك يستعمل رعاة الغنم والبقر والخيل ألحاناً عند ورودها الماء ، وأخرى عند هيجانها للنزو والسفاد ، وألحاناً أُخر عند حلب ألبانها لتدر ، كما يستعمل صياد الغزلان والدراج والقطا وغيرها من الطيور ألحاناً في ظُلم الليل يوقع بها حتى تؤخذ باليد (1) وفي حديث الإخوان عن الموسيقى تكلموا عن مواضيع عديدة منها أنواع الآلات واختلاف أصواتها ومواضيع أُخرى 0 وحتى لا نذهب بالموضوع بعيداً سوف نتكلم عن موضوع النسب الموسيقية 0 فقد تكلم الإخوان عن أصول الألحان وقوانينها ، إذ حددوها بثلاثة وهي السبب ، والوتد ، والفاصلة 0 أما السبب فهو نقرة متحركة يتلوها سكون ، والوتد نقرتان متحركتان يتلوهما سكون ، والفاصلة هي ثلاث نقرات متحركة يتلوها سكون 0 وهذه الثلاث هي الأصل والقانون في جميع ما يُركب منها من النغمات ، وما يُركب من جميع النغمات في جميع اللغات من الألحان وما يتركب منها من الغناء في جميع اللغات 0 وقد حصر الإخوان جميع أنواع الإيقاعات المركبة من النقرات ، ثلاث منها مفردة ، وتسع ثنائية ، وعشر ثلاثية ، فذلك اثنان وعشرون تركيباً (2) فضلاً عن ذلك فإن الحركة هي أحد أصول الألحان وقوانينها كما هو الحال فيما يخص السبب والوتد والفاصلة 0 فالحركة كالواحد ، والسبب كالاثنين ، والوتد كالثلاثة ، والفاصلة كالأربعة ، وسائر نغمات الألحان والغناء مركبة منها ، كما إن سائر الأعداد من الآحاد والعشرات والمئات والألوف مركبة من الأربعة والثلاثة والاثنين والواحد (3) والحركة يتبعها سكون فبين كل نقرتين من نقرات الأوتار والقُضبان يكون سكون ،
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 188 0
(2) المصدر نفسه ، ص 198 0
(3) المصدر نفسه ، ص 199 0(1/154)
فإذا كانت أزمان السكونات مساوية لأزمان الحركات في طولها سُميت تلك النغمات العمود الأول ، وهو ما يسمى الخفيف ، وإن كان طول أزمان السكونات بمقدار ما يمكن أن تقع فيها حركة أُخرى سميت تلك النغمات العمود الثاني ، والخفيف الثاني ، وإن كانت أزمان تلك السكونات أطول بمقدار ما بحيث يسمح أن تقع فيه حركتان سميت تلك النغمات الثقيل الأول ، وإن كانت تلك الأزمان أطول من هذه بمقدار بحيث يمكن أن تقع فيه ثلاث حركات سميت تلك النغمات الثقيل الثاني (1)
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 200 0(1/155)
وعلى الرغم من تفصيل حديث الإخوان عن كيفية صناعة الآلات الموسيقية إلا أنهم جعلوا جُل اهتمامهم بآلة العود ففضلوه على سائرها 0 وأسباب هذا التفضيل هو مطابقة هذه الآلة للأمور الطبيعية ، فالحكماء جعلوا أوتار العود أربعة لتكون مصنوعاتهم مماثلة للأمور التي دون فلك القمر اقتداء بحكمة الباري 0 فوتر الزير مماثل لركن النار ونغمته مناسبة لحرارتها وحدتها ، والمثنى مماثل لركن الهواء ونغمته مناسبة لرطوبته ولينه ، والمثلث مماثل لركن الماء ونغمته مناسبة لرطوبته وبرودته ، والبُم مماثل لركن الأرض ونغمته مماثلة لثقل الأرض وغلظها (1) ومن خصائص العود أن غلظ كل وتر مثل غلظ الذي تحته ومثل ثلثه وهذا العمل قام به الحكماء لما صنعوا العود اقتداءً بحكمة الباري ، إذ جعل كما يقول حكماء الطبيعة أن أقطار الأركان الأربعة التي هي تحت فلك القمر النار ، الهواء ، الماء ، الأرض ، كل واحد منها مثل الذي تحته ومثل ثلثه في الكيفية أي اللطافة ومن خصائص هذه الآلة أن الحكماء شدوا وتر الزير في أسفل الأوتار وشدوا البُم فوق الأوتار كُلها ، وجعلوا المثنى مما يلي الزير والمثلث مما يلي البُم 0 وقد جاء هذا العمل لعلتين ، فالعلة الأولى أن نغمة الزير حادة خفيفة تتحرك عُلوا ، ونغمة البُم ثقيلة تتحرك الى أسفل ، فيكون ذلك أمكن لمزاجهما واتحادهما وكذلك الحال فيما يخص المثنى والمثلث 0 أما العلة الأخرى فهي أن نسبة غلظ الزير الى غلظ المثنى والمثنى الى المثلث الى البُم كنسبة قطر الأرض الى قطر كرة النسيم ، وكرة النسيم الى كرة الزمهرير ، والزمهرير الى الأثير (2) واستخدم الحكماء نسبة الثُمن في نغمة الأوتار لأنها مشتقة من أول عدد مكعب وهو أفضل الأشكال ذوات السطوح ، وذلك لأن طوله مساوٍ لعرضه وعمقه ، وله ستة سطوح مربعات متساويات ، وأربع وعشرون زاوية قائمة ، وأثنى عشر ضلعاً ، وهو
__________
(1) ينظر المصدر نفسه ، ص 213 0
(2) المصدر نفسه ، ص 214 0(1/156)
يأتي من حيث تمام شكله بعد الشكل الدائري (1) 0 ونود أن نختم حديثنا عن الموسيقى بموضوع نغمات الأفلاك ، وهذا ما أشرنا إليه في حديثنا عن أثر فيثاغورس في إخوان الصفاء ، إذ قالوا إن لحركات الأفلاك نغمات وذلك لأن بنية هذه الأفلاك مركبة على النسبة الأفضل 0 وإن الملائكة يسمعون هذه النغمات ، وفي تسبيحهم وتهليلهم ألحان أطيب من قراءة داود للزبور في المحراب ونغمات ألذ من نغمات العيدان في الإيوان العالي ، وهذه النغمات مفرحة لنفوس أهلها ، وتُذكر النفوس البسيطة التي هناك بسرور عالم النفوس ودار الحياة التي كلها روح وريحان ومثلما حركات الموسيقى تُذكر النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد بسرور عالم الأرواح ، فأن نغمات الأفلاك تُذكر النفوس التي هناك بسرور عالم الأرواح (2)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 215 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 207 0(1/157)
وسماع هذه النغمات لا يتهيأ للإنسان ما لم يتخلص من الآراء الفاسدة والأخلاق الرديئة ويتجرد من مغريات الجسد ، فمتى ما صفت نفسه عندها يسمع هذه النغمات وتشتاق نفسه الى هذا العالم ، فقد استطاع كما يقول الإخوان ، هرمس وفيثاغورس سماع صوت نغمات الأفلاك بصفاء جوهر نفوسهم (1) 0 أما ألذ نغّمة فهي كما يرى الإخوان ، هي التي يجدها أهل الجنة ، وأطيب نغمة يسمعونها مناجاة الباري جل ثناؤه وأن موسى عليه السلام لما سمع مناجاة ربه ، داخله من الفرح والسرور واللذة حتى طرُب وترنم وصغرت عنده بعد ذلك كل النغمات والألحان والأصوات (2) وبعد أن تكلمنا عن بعض جوانب الموسيقى ، الذي يُعد رابع العلوم الرياضية نود أن نختم حديثنا عن هذه العلوم أي ( العلوم الرياضية ) 0 بغرض الإخوان من الخوض فيها إذ يرى إخوان الصفاء أن الغرض من هذه العلوم إنما هو السلوك (3) والتطرق منها الى العلوم الإلهية وهذه العلوم هي أقصى غرض الحكماء والنهاية التي إليها يرتقى بالمعارف الحقيقة ، ولما كانت أول درجة من النظر في العلوم الإلهية ، هي معرفة جوهر النفس والبحث عن مبدئها وأين كانت قبل تعلقها بالجسد والفحص عن معادها الى أين تكون بعد فراق الجسد أي الموت ، وعن كيفية ثواب المحسنين وجزاء المسيئين كيف يكون في دار الآخرة هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنه لما كان الإنسان مندوباً الى معرفة ربه وليس أمام طريق الى معرفته تعالى ، إلا بعد معرفة الإنسان نفسه وجب على كل عاقل طلب علم النفس ومعرفة جوهرها وتهذيبها ، فمعرفة النفس هي الطريق الأوحد لمعرفة الله ، فقد أكد الباري في أكثر من آية على النفس ، وضرورة معرفتها وتهذيبها في الدنيا كي تفوز بالآخرة فقال تعالى (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *
__________
(1) المصدر والصفحة نفسهما 0
(2) المصدر نفسه ، ص 225 – 226 0
(3) المصدر نفسه ، ص 241 0(1/158)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )) (1) وقوله تعالى(( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيم)) (2) وقوله تعالى(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) (3) وقوله تعالى (( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا)) (4) وكذلك قوله تعالى (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)) (5)
ثانياً – العلوم المنطقية
تكلم إخوان الصفاء في رسائلهم المنطقية وتناولوا كل مفاهيم المنطق الأرسطوطالي ، فقد تكلموا عن الألفاظ الستة ( الشخص ، النوع ، الجنس ، الفصل ، الخاصّة ، العرض ) وماهية كل واحدة منها وكيفية دلالاتها على المعاني التي في أفكار النفوس (6)
__________
(1) سورة الشمس ، الآيات ، 7 ، 8 ، 9 ، 10 0
(2) سورة يوسف ، آية 53 0
(3) سورة النازعات ، الآيات ، 40 ، 41 0
(4) سورة النحل ، آية 111 0
(5) سورة الفجر ، الآيات ، 27 ، 28 0
(6)
(1) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 390 ، 391 ، 392 ، 393 ، 394 ، 395 ، 400 ، 401 ، 402 0(1/159)
وتكلموا أيضاً عن المقولات العشر التي هي ( الجوهر ، الكم ، الكيف ، الأين ، متى ، المضاف ، النصبة ، الوضع ، الملكة ، يفعل ، ينفعل ) وماهية كل واحدة منها وكمية أنواعها ورسم كل واحدة منها وكيفية دلالتها على جميع المعاني التي في أفكار النفوس (1) كذلك تكلموا عن تركيب هذه الألفاظ العشرة وما تدل عليه من المعاني عند تركيبها ، وكيف تصير كلمات وقضايا تحتمل الصدق والكذب (2) ، وتكلموا عن كيفية تركيب الألفاظ مرة أُخرى ، وكيف تكون منها مقدمات مختلفة في أنواعها ، وكيفية اقتران القضايا ونتائجها (3) كما تكلموا عن كيفية استعمال القياس الصحيح والبرهان الذي لا خطأ فيه ولا زلل (4) 0 ولسنا هنا في حديثنا عن العلوم المنطقية بصدد عرض مفصل لكل هذه المواضيع التي يطول عرضها والتي لا يخفى على المختصين معرفتها لذا سنأخذ بعض الجوانب منها 0 ولنبدأ بالتعريف الاشتقاقي للمنطق 0
__________
(1) ينظر المصدر نفسه من ص 404 – 412 0
(2) ينظر المصدر نفسه من ص 414 – 419 0
(3) ينظر المصدر نفسه من ص 420 – 427 0
(4) ينظر المصدر نفسه من ص 429 – 446 ، كذلك ص 451 0(1/160)
المنطق مشتق من نطق ينطق نطقاً ، والنطق فعل من أفعال النفس وهذا الفعل نوعان ، فكري ، ولفظي 0 فاللفظي إنما هو أمر جسماني محسوس (1) أما المنطق الفكري فهو أمر روحاني معقول 0 فاللفظي إنما هو أصوات مسموعة لها هجاء وتظهر من اللسان الذي يُعد عضواً من أعضاء الجسد وتمر الى المسامع من الآذان والنظر في هذا المنطق والبحث عنه والكلام عن كيفية تصاريفه وما تدل عليه من المعاني ، يسمى علم المنطق اللغوي 0 أما المنطق الذي يُعّد أمراً روحانياً معقولاً ، فهو يمثل تصور النفس معاني الأشياء في ذاتها ورؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها وتمييزها لها في فكرتها ، ويرى الإخوان أنه بهذا النطق يُحد الإنسان فيقال أنه حي ناطق مائت ، لأن نطق الإنسان وحياته من قبل النفس وموته من قبل الجسد ، فأن اسم الإنسان إنما هو واقع على النفس والجسد معاً 0 ويسمى النظر والبحث بالمنطق الذي يقوم على معرفة كيفية إدراك النفس ، معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواس وكيفية أنقداحها في فكر النفس من جهة العقل الذي يسمى الوحي والإلهام وعبارتها عنها بالألفاظ بأي لغة كانت يسمى علم المنطق الفلسفي (2) والإنسان محتاج للمنطق اللفظي والمنطق الفلسفي ، فإما سبب حاجته للمنطق اللفظي فهو أن الألفاظ سمات دالات على المعاني التي في أفكار النفوس ، وضعت بين الناس ليُعبر كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيرة من الناس عند الخطاب والسؤال والمعاني من الألفاظ كالأرواح للأجساد ، فكل لفظه لا معنى لها هي بمثابة جسد لا روح فيه ، وكل معنى في فكر النفس لا لفظ له هو بمنزلة روحٍ لا جسد لها (3) ولكن السبب الأساس من استعمال هذا المنطق ، هو أن أنفس الناس لما كانت محجوبة بالأبدان ، فلا يستطيعون بسبب ذلك معرفة الأفكار
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 391 0
(2) المصدر نفسه ، ص 392 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 398 ، 399 ، 401 0(1/161)
والمعاني الموجودة في أنفس الآخرين ، ولا يستطيع الآخرون رؤية ومعرفة الأفكار والمعاني في أنفس غيرهم وإنما الذي يرونه هو ظاهر الأبدان من الناس ، لذلك احتاجوا أن يعبروا عن هذه الأفكار باستعمال المنطق اللفظي وما يستلزمه هذا المنطق من تعلم اللغات الأُخرى ، واستعمال اللسان والشفتين واستنشاق الهواء وغيرها من الشرائط التي يحتاجها الإنسان في إفهام غيره 0 وجدير بالذكر أن الإخوان يرون ، أن الحاجة للمنطق اللفظي لا تنطبق على النفوس الصافية من درن الشهوات الجسمانية المتخلصة من بحر الهيولى وأسر الطبيعة ، المستغنية عن الكون مع الأجساد المظلمة التي ارتفعت الى أعلى أُفق العالم العلوي ، فهكذا أنفس لا حاجة لها بهذا المنطق ، لأنها لصفائها سرت في الجواهر النيرة والشفافة التي هي الكواكب والأفلاك فأصبحت بواجب الحكمة الإلهية ، ومستغنية عنه لأنها صافية من الخبث والدغل ولا تحتاج الى كتمان أسرارها ، لأن هذه الجواهر والأُكر الشفافة يتراءى الجزء منها في الكل والكل في الجزء ، أو كما تتراءى وجوه المرايا المجلاة بعضها في بعض (1) أو كما تتراءى وجوه الجماعة المتقابلين في عين الواحد منهم ، ووجه الواحد في أعين الجميع فهم غير محتاجين الى الإخبار عن الإضمار ولا السؤال عن كتمان الأسرار ، لأنهم في الأشراق والأنوار وهي كما يقول إخوان الصفاء معدن الأخيار والأبرار ، ولهذه المرتبة دعا الإخوان الناس وأكدوا ضرورة اجتهاد الإنسان في تصفية نفسه وأن يبتعد عن التعلق بالدنيا التي ذمها رب العالمين في آيات كثيرة منها قوله تعالى (( أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُر)) (2) وقوله تعالى (( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) (3) وقوله تعالى (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 402 0
(2) سورة الحديد ، آية 20 0
(3) سورة آل عمران ، آية 185 0(1/162)
النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة)) (1) وقوله تعالى (( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّات)) (2) وكذلك قوله تعالى (( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (3) أما عن حاجة الإنسان للمنطق الفلسفي فأن هذا المنطق يحفظ أقاويل المهتمين بدراسته من التناقض ، فمتى ما فعل الإنسان ذلك فقد أحكم صناعة المنطق الفلسفي 0 ومن فوائد المنطق الفلسفي أنه في استعمال القياس المنطقي والبرهان الصحيح الذي يسلعد الإنسان في إقامة البرهان من عند نفسه على اعتقاده ، فمتى ما صحت في نفسه تلك الاعتقادات عندها يسعى الى تصحيحها عند غيره (4) وللقياس والبرهان أهمية كبيرة في معرفة الأُمور الروحانية ، فالإنسان العاقل كما يرى إخوان الصفاء ، إذا أكثر التأمل والنظر للأمور المحسوسة ، واعتبر أحوالها بفكرته ، وميزها برويته ، عند ذلك تكثر المعلومات العقلية في نفسه ، وإذا استعمل الإنسان هذه المعلومات بالقياسات واستخرج نتائجها فعند ذلك تكثر المعلومات البرهانية في نفسه وكل نفس كثرت معلوماتها البراهنية ، كانت قوتها على تصور الأُمور الروحانية التي هي صورة مجردة عن الهيولى حسب ذلك ، وعند ذلك تشبهت بها وصارت مثلها بالقوة فإذا فارقت الجسد عند الممات صارت مثلها بالفعل واستقلت بذاتها ونجت من جهنم عالم الكون والفساد ، وفازت بالدخول الى الجنة ، عالم الأرواح التي هي دار الحيوان (5) وسوف نختتم حديثنا عن المنطق بمسألةٍ جديرةٍ بالاهتمام ألا وهي قولنا أن إخوان
__________
(1) سورة آل عمران ، آية 14 0
(2) سورة آل عمران ، آية 15 0
(3) سورة القصص ، آية 83 0
(4) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 427 0
(5) المصدر نفسه ، ص 451 ، 452 0(1/163)
الصفاء جعلوا من المنطق أحد العلوم الفلسفية ، إذ يأتي بعد العلوم الرياضية 0 إلا أننا نجدهم في حديثهم عن المنطق يضعون فصلاً عنوانه ( في أن المنطق أداة الفيلسوف ) يتضح لنا من خلاله أن المنطق مدخلٌ (1) وهذا ما نجده في قولهم ( وأعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة ، وقد قيل أنه أداة الفيلسوف وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة ، صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين ، وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات ، لأنه قيل في حد الفلسفة إنها التشبة بالإله بحسب الطاقة الإنسانية 0 وأعلم بأن معنى قولهم طاقة الإنسان ، هو أن يجتهد الإنسان ويتحرز من الكذب في كلامه وأقاويله ، ويتجنب من الباطل في اعتقاده ، ومن الخطأ في معلوماته ، ومن الرداءة في أخلاقه ، ومن الشر في أفعاله ، ومن الزلل في أعماله ، ومن النقص في صناعته 0 وهذا هو معنى قولهم التشبة بالإله بحسب طاقة الإنسان لأن الله عز وجل ، لا يقول إلا الصدق ولا يفعل إلا الخير ) (2) 0 وبعد أن تناولنا العلوم المنطقية بشكل مختصر جداً تجنباً للإطالة سننتقل الى موضوع العلوم الطبيعية 0
ثالثا- العلوم الطبيعية
__________
(1) ينظر ، مصطفى عبدالرزاق ، تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية ، ص 56 ، كذلك د0 موسى الموسوي من الكندي الى ابن رشد ، ص 117
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 427 – 428 0(1/164)
نبدأ بهذه العلوم من الطبيعة وكيف نظر إليها إخوان الصفاء 0 يرى الإخوان أن الطبيعة ، هي قوة النفس الكلية الفلكية وهي سارية في جميع الأجسام التي دون فلك القمر من لدن كرة الأثير الى منتهى مركز الأثير (1) والأجسام التي دون فلك القمر نوعان ، بسيطة ، ومُركبة 0 فالبسيطة أربعة أنواع وهي النار والهواء والماء والأرض 0 أما المركبة فهي ثلاثة أنواع وهي المعادن والنبات والحيوان 0 وقوى الطبيعة سارية فيها كلها ، وحركة ومسكنة ومدبرة لها ومتممة ومبلغة لكل واحدةٍ منها الى أقصى مدى غايتها حسب ما يليق بواحدة واحدة كما شاء باريها0 والنفس الكلية هي روح العالم والطبيعة فعلها والأركان الهيولى الموضوعة لها والأفلاك والكواكب كالأدوات لها ، والمعادن والنبات والحيوان كلها مصنوعاتها 0 فإذا كانت الصنائع البشرية يعملونها بأيديهم وأرجلهم ويستعملون مصنوعات طبيعية كالخشب مثلاً والحديد ... الخ من المواد 0 ويستعملون أدوات اتخذوها من مصنوعات الطبيعة كالفأس والمنشار ... الخ من الأدوات 0 فالهيولى هنا والأدوات خارجة عن ذواتهم ، أما الطبيعة فهيولاها من ذاتها التي هي الأركان الأربعة (2)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 132 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 132 0(1/165)
وهذه الأركان تنفعل بتأثيرات الكواكب وحركاتها ومطارح شعاعاتها (1) وهذه الأركان أو الأمهات هيولاها كلها واحدة ، وهو الجسم المطلق ولكنها تختلف في صورها المتممة والمقومة لها0 وتمتاز الأركان الأربعة باستحالة بعضها الى بعض 0 فالماء مثلاً تارة يصير هواء وأرض تارة أُخرى وكذلك حكم الماء إذ يبقى ماءً تارة ويصير ناراً تارة أُخرى وكذلك النار فإنها إذا أُطفئت وخمدت صارت هواءً والهواء إذا غلظ صارت ماءً ، والماء إذا جمد صار ناراً وهكذا تستحيل هذه الأركان الى بعضها البعض 0 ومن يهمنا الآن كيفية تكون المعادن والنباتات والحيوانات من هذه الأمهات0
__________
(1) ينظر المصدر نفسه ، ص 27 ، كذلك من ص 62 – 86 0(1/166)
يرى الإخوان أن هذه المولدات أي المعادن والنباتات والحيوانات تتكون من اختلاط أجزاء الأركان الأربعة بعضها ببعض ، وأصل هذه المولدات الكائنات الفاسدات كلها هي البخارات والعصارات عند امتزاج بعضها ببعض 0 وحتى نتجنب الغموض سوف نذكر ما المقصود بالبخارات والعصارات ، أما البخارات فتعني ما يصعد من لطائف البحار والأنهار في الهواء بسبب تسخين الشمس والكواكب لها بمطارح شعاعاتها على سطوح البحار والأنهار 0 أما العصارات فهي ما ينجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار التي تخلط بالأجزاء الأرضية ، وتغلظ فتنضجها الحرارة المستبطنة في عمق الأرض 0 والأركان الأربعة هي أول ما يستحيل الى هذين الخليطين أي ( البُخارات والعُصارات ) ويكون هذان الخليطان هيولى ومادة لسائر الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر 0 أما سبب كونهما مادة وهيولى لهذه الكائنات فيعود للشمس والكواكب ، فالشمس والكواكب إذا سخنت المياه بإشراقها على سطح الأرض والبحار والأنهار ، قللت المياه ولطفت أجزاء الأرض ، وصارت بخاراً ودخاناً ، والبخار والدخان يصيران سحاباً ، والسحاب يصير أمطاراً ، والأمطار إذا بللت التراب واختلطت الأجزاء الأرضية بالأجزاء المائية تتكون منها العصارات التي تكون بدورها مادة وهيولى للكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان (1) 0 ومراعاةً للترتيب سوف نبدأ بالمعادن وكيفية تكوينها الجواهر المعدنية مختلفة في طباعها وطعومها وأنواعها وروائحها ، وهذه الاختلافات تعود لاختلاف تُرب بقاع معدنها ومياهها وتغييرات أهويتها (2) أما أنواع الجواهر المعدنية فهي ثلاثة أنواع ، منها ما يتكون في التُراب والطين والأرض السبخة ويتم نضجه في سنة أو أقل منها كالكبريت والأملاح والشبوب وما شاكلها، ومنها ما يتكون في قعر البحار وقرارة المياه ولا يتم نضجه إلا في سنة أو أكثر منها ، كالدُّرّ والمرجان 0 ومنها
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 58 0
(2) المصدر نفسه ، ص 90 0(1/167)
ما يتكون في كهوف الجبال وجوف الأحجار ، وخلل الرمال ولا يتم نضجه إلا في سنين ، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وما شابهها 0 ومن الجواهر المعدنية ما لا يتم نضجه إلا في عدد سنين ، كالياقوت والزبرجد والعقيق وما شاكلها (1) 0 أما عن كيفية تكوين المعادن ، فالمعادن ناتجة من استحالة الأركان الأربعة وقلنا إن أصلها كُلها البخارات والعصارات 0 فهذه البخارات والعصارات موجودة في الكهوف والمغارات ، فالأهوية التي في جوف الأرض كالجبال ، إذا لم يكن لها منفذ تخرج منه المياه ، بقيت تلك المياه هناك محبوسة زماناً ، وإذا حمي باطن الأرض وجوف تلك الجبال ، سخنت تلك المياه ولطفت وتحللت وصارت بخاراً وارتفعت وطلبت مكاناً أوسع ، فإن كانت الأرض كثيرة التخلخل تحللت وخرجت تلك البخارات من تلك المنافذ ، وإن كان ظاهر الأرض شديداً مستحكماً فعند ذلك يمنعها من الخروج وتبقى محبوسة تتموج في تلك الأهوية لطلب الخروج ، وقد تنشق الأرض في موضعٍ ما وتخرج تلك الرياح المحبوسة بصورةٍ مفاجأةٍ وينخسف مكانها ويسمع لها دوي وزلزلة 0 أما إذا لم تجد مخرجاً فتبقى عندئذ محتبسة هناك وتدوم تلك الزلزلة الى أن يبرد جو تلك المغارات والأهوية وتمكث زماناً فتزداد صفاءً وغلظاً حتى تصير زئبقاً رجراجاً وتختلط بتُربة تلك المعادن وتتحد بحرارة المعدن دائماً فتكوّن منها أنواعاً مختلفةٍ من الجواهر المعدنية (2) التي يدلُ اختلاف خواصها وعجائب أفعالها على مدى لطيف صُنع الباري جل جلالة وإتقان حكمته فيها (3) 0 وقد أكد إخوان الصفاء أن لكل كائن حادثاً تحت فلك القمر أربع علل ،وهي نفسها العلل التي تكلم عنها ارسطو وهذه العلل علَّة فاعلية ، وعلة هيولانية ، وعلة صورية ، وعلة تمامية (4)
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، ص 91 0
(2) المصدر نفسه ، ص 97 0
(3) المصدر نفسه ، ص 113 0
(4) يسمي ارسطو هذه العلة بالعلة الغائية بينما يسميها إخوان الصفاء بالعلة التمامية 0(1/168)
أما العلة الفاعلية للجواهر المعدنية ، بإذن باريها جل جلالة ، فهي الطبيعة ، أما العلة الهيولانية لهذه الجواهر فهي الزئبق والكبريت ، والعلة الصورية هي الأفلاك وحركات الكواكب حول الأركان الأربعة ( النار والهواء والماء والأرض ) أما العلة التمامية فهي المنافع التي ينالها الإنسان والحيوان من هذه الجواهر المعدنية بإذن الله جل جلالة (1) 0 وبعد أن تكلمنا عن الجواهر المعدنية بشكلٍ مختصر وبينا كيفية تكونها وأن هيولاها واحدة وهي الأركان الأربعة التي تسمى الأمهات ، وبينا أن المُركب لها والفاعل فيها والمؤلف لأجزائها هي الطبيعة بإذن الله ، سوف ننتقل الى موضوع النباتات وأجناسها 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، ص 92 0(1/169)
النبات طبقاً لقول إخوان الصفاء له علاقة بالجواهر المعدنية ، وذلك لأن آخر مرتبة الجواهر المعدنية متصلة بأول مرتبة الجواهر النباتية (1) فضلاً عن ذلك فإن آخر مرتبة النبات متصلة بأول مرتبة الحيوانية وآخر مرتبة الحيوانية متصلة بأول مرتبة الإنسانية ، وآخر مرتبة الإنسانية متصلة بأول مرتبة الملائكة الذين هم سكان السماوات وقانطوا الأفلاك الذين خلقهم الله تبارك وتعالى ، لعمارة عالمه مطيعين في طاعته لا يعصونه فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (2) أما عن تعريف النبات ، فهو كل جسم يخرج من الأرض ويتغذى وينمو ، فمنه أشجار تُغرس قضبانها أو عروقها ومن النبات ما يُزرع عن طريق بذر حبوبه أو بذوره أو قضبانه ، ومن النبات ما يكون من أجزاء تتكون من أجزاء الأركان إذا اختلطت وامتزجت كالكلأ والحشائش ، ومن هذه الأجناس الثلاثة التي ذُكرت آنفاً يتنوع كل واحدٍ منها أنواعاً كثيرةً من جهاتٍ عدة وصفاتٍ مختلفةٍ (3) فالنباتات تختلف من جهة الأماكن (4) كما تختلف من جهة الأزمان (5) وتختلف في طباعها أيضاً من حيث الطعوم والألوان والروائح ، وسبب اختلاف الطبائع هذه يعود لكونها غذاءً للحيوان ولما كانت الحيوانات مختلفة الطباع ، جعل كل نوع من النبات غذاءً لنوع من الحيوان ودواء لداء يعرض لها 0 أما عن العلل الأربعة للنبات ، فالعلة الهيولانية له هي الأركان الأربعة ، والعلة الفاعلية هي قوى النفس الكلية ، والعلة التمامية هي لكون النبات غذاءً للحيوان ومنافعٌ له ، أما العلة الصورية فهي كما يقول الإخوان ، أسبابٌ فلكيةٌ يطول شرحها (6) 0 وما دمنا بصدد الحديث عن العلل ، إذ بينوا أن العلة التمامية للنبات هي أن يكون غذاءً للحيوانات ،
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 150 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، ص 151 0
(3) المصدر نفسه ، ص 158 0
(4) ينظر المصدر نفسه ، ص 160 0
(5) ينظر المصدر نفسه ، ص 161 0
(6) المصدر نفسه ، ص 158 0(1/170)
فسوف نتكلم عن سبب تقدم النبات على الحيوان بالزمان أو بعبارةٍ أُخرى ، الغاية من تقدم النبات على الحيوان 0 أن سبب تقدم النبات على الحيوان بالزمان يعود لمقتضى حكمة الباري تبارك وتعالى ، إذ جعل من النبات وسطاً بين الأركان الأربعة والحيوانات ليكون غذاءً للحيوانات ، فالنبات كما يرى الإخوان هو مادة لها كلها وهيولى لصورها وغذاءٌ لأجسادها ، وهو كالوالدة للحيوان ، وذلك لأنه يمتص رطوبات الماء ولطائف أجزاء الأرض بعروقه الى أصوله ، ثم يحيلها الى ذاته ، ويجعل من فضائل تلك المواد ورقاً وثماراً وحبوباً نضيجاً ، وعندما يتناول الحيوان غذاءً صافياً كما تفعل الوالدة بالولد ، فإنها تأكل الطعام ناضجاً ونيئاً وتناول ولدها لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ، فالنبات لو لم يكن يعمل ذلك من الأركان الأربعة ، لكان الحيوان يتغذى من الطين صرفاً ومن التراب ولكن حكمة الله جعلت من النبات يقوم بهذا العمل (1) 0 هذا فيما يخص تقدم النبات على الحيوان بالزمان 0 أما عن كيفية ارتباط آخر النباتات بأول مرتبة الحيوانات ، يقول الإخوان إن النخل هو آخر المرتبة النباتية مما يلي الحيوانية ، وذلك لأن النخل نباتٌ حيواني ، فهو كذلك لأن بعض أحواله مباين لأحوال الحيوان وإن كان جسمه نباتياً 0 بيان ذلك أن القوة الفاعلة منفصلة من القوة المنفعلة والدليل على ذلك ، أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث ، ولأشخاص فحولته لقاح في إناثها كما يكون ذلك للحيوان ، فضلاً عن أن النخل يشارك الحيوان في مسألة وهي أن النخيل إذا قطعت رؤوسها جفت وبطل نموها ونشوئها وماتت وذلك ما هو موجود عند الحيوان أيضاً (2) 0 اتضح لنا أن آخر مرتبة النبات مرتبطة بأول مرتبة الحيوان 0 وبعد أن بينا أهم المواضيع التي تناولها الإخوان في علم النبات ، جاء الدور الآن الى علم الحيوان 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 180 – 181 0
(2) المصدر نفسه ، ص 168 0(1/171)
يقول إخوان الصفاء في حديثهم عن علم الحيوان ، إن أول مرتبة الحيوان متصلة بآخر مرتبة النبات ، وآخر مرتبة الحيوان متصلة بأول مرتبة الإنسان ، مثلما أن أول المرتبة النباتية متصلة بآخر المرتبة المعدنية ، وأول المرتبة المعدنية متصلة بالتراب والماء (1) 0 وعرفوا الحيوان ، بأنه كل جسم متحرك حساس يتغذى وينمو ويحس ويتحرك حركة مكان ، والحيوانات تتفاوت في شرف مراتبها مما يلي رتبة الإنسانية ، وهو ما كانت له الحواس الخمس والتمييز الدقيق وقبول التعليل 0 ومن الحيوانات ما هو أدون رتبة مما يلي رتبة النبات ، وهو كل حيوان ليس له إلا حاسة اللمس كالأصداف وما كان من جنسها (2) ، أما عن الحيوانات التي في أدون رتبة مما يلي رتبة النبات فقد بينوا أن أدون الحيوانات وأنقصها ، هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط وهو الحلزون ، والحلزون دودة في جوف الأرض تخرج نصف شخصها في جوف تلك الأنبوبة وتنبسط يمنة ويسرة تطلب مادة تغذي بها جسمها ، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه ، وإذا أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذراً من الأذى ، وهذه الدودة ليس لها سمع ولا بصرر ولا ذوق ولا شم وهذا بمقتضى الحكمة الإلهية التي لا تعطي الحيوان عضواً لا يحتاج إليه في جذب المنفعة ودفع المضرة ، لأنها لو أعطته ما لا يحتاج إليه لكان وبالاً عليه في حفظة وبقائه ، إذن فهذا النوع حيواني نباتي ، لأن جسمه ينبت مثل النبات ويقوم على ساقه قائماً ، ومن أجل أن يتحرك جسمه حركة اختيارية فهو حيوان من هذه الجهة ، ومن أجل أنه ليس له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوان رتبة في الحيوانية ، وحاسة اللمس يشاركه بها النبات والدليل على أن للنبات هذه الحاسة إرساله بعروقه نحو المواضع الندية وامتناعه من إرسال عروقه نحو الصخور والمناطق اليابسة (3)
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، ص 168 0
(2) المصدر نفسه ، ص 184 0
(3) المصدر نفسه ، ص 169 0(1/172)
ومن المسائل التي أكدها الإخوان هي أن الحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخلق ، وذلك لكون الناقصة الخلقة تتكون في زمانٍ قصيرٍ ، أما التامة الخلقة والتي هي متأخرة على الناقصة بالزمان فإنها تتكون في زمانٍ طويل ، وهذا يعود لأسباب يطول شرحها كما يرى إخوان الصفاء 0 فضلاً عن فإن وجود حيوان الماء قبل حيوان البر بزمان ، وذلك لأن الماء قبل التراب والبحر قبل البر في بدء الخلق (1) هذا فيما يخص مرتبة الحيوانية مما يلي المرتبة النباتية 0 أما عن مرتبة الحيوانية مما يلي مرتبة الإنسان 0 فيرى إخوان الصفاء أن هذه المرتبة ليست على وجه واحد ولكنها من وجوه عده ، وذلك لأن رتبة الإنسانية هي معدن للفضل وينبوع للمناقب لذلك فلا يستوعبها نوع واحد من الحيوان ولكن أنواع عده ، فمن الحيوانات ما قارب رتبة الإنسانية في صورة جسدة كالقرد ، ومنها ما قاربها بالأخلاق الإنسانية كالفرس في كثير من أخلاقها ، ومثل الفيل في ذكائه والببغاء والهزار وغيرها من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات ، ومنها النحل اللطيف الصنائع 0 فكل حيوان يستخدمه الناس ويأنس بهم إلا ولنفسه قرب من النفس الإنسانية ، أما القرد فالقرب شكل جسمه من شكل جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية ، وأما الفرس الكريم فأنه قد بلغ من كرم أخلاقه أنه صار مركباً للملوك وله ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح كما يكون الرجال الشجعان ، وأما الفيل فأنه يفهم لخطاب بذكائه ويمتثل للأمر والنهي كما يمتثل الرجل الفاضل المأمور المنهي (2)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 181 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، ص 170 0(1/173)
0 هذه أبرز الجوانب التي تكلم عنها إخوان الصفاء في حديثهم عن العلوم الطبيعية 0 ولابد من أن نختم حديثنا عن العلوم الطبيعية بمسألة جديرة بالذكر ألا وهي أن الإخوان بصدد حديثهم عن العلوم الطبيعة تناولوا أفكاراً عديدةٍ في علم الحيوان تجعل من قارئها يقول إن إخوان الصفاء قالوا بالنشوء والارتقاء 0 ومن هذه الأفكار ، قول إخوان الصفاء بأن الكائنات المختلفة من معادن ونبات وحيوان هي سلسلة متماسكة الحلقات ، شديدة الأندغام بعضها في بعض وأنه ليست ثمة حدود فاصلة أو مراحل متقطعة بين الحلقة وتاليتها 0 المعادن متصل أولها بالتراب وأخرها بالنبات ، والنبات متصل آخرها بالحيوان ، والحيوان متصل آخره بالإنسان ، والإنسان متصل آخره بالملائكة (1) فقالوا عن أول مرتبة النباتية مما يلي التراب ( أن أول مرتبة النباتية مما يلي التراب هي خضراء الدمن ، وآخرها وأشرفها مما يلي الحيوانية النخل ، وذلك لأن خضراء الدمن ليست بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار ، ثم يصيبها المطر فتصبح بالغذاء خضراء ، كأنه نبت زرع وحشائش فإذا أصابها حر الشمس نصف النهار تجف ثم تصبح بالغد مثل ذلك من نداوة الليل وطيب النسيم ، ولا تنبت الكمأه ولا خضراء الدمن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة لتقارب ما بينها) (2) فقول إخوان الصفاء هذا قريب من قول هيجل في المونيرة ، Monera التي هي أول الحييوينات الدنيا خلقاً في مذهبة ، إذ يقول بأنك لا تعرف الفرق بينها وبين المادة الصرفة إلا بتكوين زلالي خاص بها وحركة انقباض لا تكاد تحس ، وجعل هذه المرتبة أول النشوء الانقلابي بين الجماد والنبات ، أو كما يقول علماء الحيوان في الصور الحيوانية النباتية التي يسمونها الحونبيات ، Zoopliytes ،
__________
(1) أديب عباسي ، مذهب النشوء وإخوان الصفاء ، مجلة الرسالة ، السنة الأولى العدد 23 ديسمبر 1933 ، ص 13 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 167 0(1/174)
إذا لم يستطيعوا أن يفرقوا بين الصفات الحيوانية والصفات النباتية فيها ، فقالوا إنها حونبيات تحوز صفات الحيوان والنبات معاً ، فقول إخوان الصفاء وقول علماء عصرنا هذا لا يفرق من حيث الأفكار ولكن الفرق في الاصطلاح اللفظي (1) وقالوا أن آخر مرتبة النبات مما يلي الحيوانية ، النخل وأنه حيواني نباتي لأن فيه صفات يشارك فيها الحيوان وهي أن أشخاص فحولته مباين لأشخاص الأنوثة ، كما ذكرنا ذلك في صفحات سابقة 0 وتدرجوا من ذلك الى إيراد أغلب الأوصاف التي يضعها علماء النبات في هذا الزمان ، حداً لأوصاف النباتات الراقية من ذوات الفلقتين ، وفي هذه النبذة رغم ذلك تلميح الى أن الحد بين عالمي النبات والحيوان قد بلغ دور الانقلاب الذي يظهر أثره في الحيوانات الدنيا ، فقالوا ( وفي النبات نوع آخر فعله أيضاً فعل النفس الحيوانية وأن جسمه ، جسم نباتي ، وهو الأكشوت وذلك أن هذا النوع في النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النباتات ، ولا ورقة له كأوراقها ، بل هو يلتف على ورق الأشجار والزرع والبقول والحشائش ويمتص من رطوبتها ويتغذى كما يفعل الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات ) (2)
__________
(1) تشارلز داروين ، أصل الأنواع ، ترجمة إسماعيل مظهر ، منشورات مكتبة النهضة ، بيروت ، بغداد ، 1973 ، ص 5-6 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، ص 168 0(1/175)
أن قول الإخوان هذا إنما يدل على استدلالهم بأن هناك مشابهة بين حالات في النبات وحالات في أرقى الحيوان ويمكن عد هذه خطوه تخطوها الصور الحية ممعنة في سبيل دور انقلابي من النشوء تتحول به صور الحيوان والنبات (1) ومن الأفكار التي قالها الإخوان والتي لها علاقة بالتطور هي قولهم ، إن النبات متقدم الوجود بالزمان على الحيوان ، وأن الحيوان الذي يأتي في آخر المرتبة النباتية هو ذلك الحيوان الذي ليس له إلا حاسة واحدة وهكذا أكثر الديدان التي تكون في الطين وفي قعر البحار ، وفي أعماق الأنهار فهذا النوع حيواني نباتي إذ يشارك الحيوان في الحركة ويشارك النبات في الحس فقط 0 كذلك قولهم ، بأن الحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود بالزمان على التامة الخلقة التي تتكون في زمان طويل 0 وقولهم ، إن حيوان الماء وجد قبل حيوان البر بزمان ، والحيوانات كلها متقدمة الوجود على الإنسان (2) ويتقدم إخوان الصفاء خطوة جريئة ويسبقون داروين ، في أن الانتخاب الطبيعي يفني كل عضو لا فائدة للجسم منه ، ويوجد الأعضاء التي تفيد الجسم في تنازع البقاء وهذا ما نجده في حديثهم عن الحلزون الذي ليس له إلا حاسة واحدة فالحكمة الإلهية لم تعطِ لحيوان عضواً لا يحتاج إليه في جر المنفعة أو دفع المضرة ، لأنه لو أعطاها ما لا تحتاج إليه لكان وبالاً عليها في حفظها وبقائها (3) كذلك قالوا إن الوظيفة توجد العضو وهذا ما نجده بقولهم ( وأما السباع الآكلة اللحُمان فأن خلقتها وطباعها وتركيب بعض أعضائها الظاهرة والباطنة وأمزجتها وشهواتها مخالفة لما عليها
__________
(1) ينظر مقدمة ، إسماعيل مظهر لكتاب أصل الأنواع ، لتشارلز داروين ، ص 6 – 7 0
(2) عمر فروخ ، عبقرية العرب في العلم والفلسفة ، منشورات المكتبة العلمية ومطابعها ، بيروت ، ط 2 ، 1952 ، ص 68 0
(3) أديب عباسي ، النشوء وإخوان الصفاء ، مجلة الرسالة ، ص 13 0 ينظر كذلك رسائل إخوان الصفاء ، ج2 ، ص 169 0(1/176)
الحيوانات الآكلة العشب وذلك أن الباري لما خلقها وجعل غذاءها من أكل اللحُمان ومادة أبدانها من جثة الحيوانات ، جعل لها أنياباً صلاباً ، ومخالب مقوسة قوية وزندات متينة ووثبات خفيفة وقفزات بعيدة شديدة تستعين بها على قبض الحيوانات وضبطها وخرق جلودها وشق اجوافها ، وكسر عظامها ونهش لحومها من غير رحمة ولا شفقة عليها (1) ، هذه بعض الأفكار التي قالها بعض الباحثين عن النشوء وإخوان الصفاء ، ولا يسعنا هنا المقام لذكرها كلها تجنباً للإطالة (2) ولابد من الإشارة الى حقيقة مهمة وهي أن هذه الأفكار التي تشبه أفكار داروين والقائلين بالنشوء والارتقاء لا تُعد دليلاً كافياً على أن إخوان الصفاء ذهبوا الى الأفكار نفسها التي قالها دارونيو القرن العشرين 0 نعم كانوا يذهبون الى إن عوالم الطبيعة تؤلف سلسلة تصاعدية ، متصلة الحلقات ، غير أن العلاقة بين هذه العوالم لا تنبني على التركيب الجسمي لكل عالم ، بل هي تتعين حسب الصورة الذاتية أو نفس الجوهر ، والصورة تسري سرياناً خفيفاً من أدنى الموجودات الى أعلاها ومن أعلاها الى أدناها ، ولكن ذلك لا يكون حسب قوانين النشوء ، كما أن الصورة لا تتكيف في أثناء انتقالها بما يتلائم مع الظروف الخارجية بل هي تسري طبقاً لتأثيرات الكواكب ، وسريانها في الإنسان خاصةً يتوقف على سلوكه العملي 0 أما وضع تأريخ للتطور بالمعنى الحديث لهذه الكلمة ، فقد كان بعيداً كل البعد عن ذهن إخوان الصفاء ، فهم يصرحون في غير لبسٍ أن الفرس والفيل أشبه بالإنسان من القرد ،
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، ص 195 ، كذلك ينظر أديب عباسي ، النشوء وإخوان الصفاء ، ص 13 – 14 0
(2) من الباحثين الذين تناولوا هذا الموضوع ، ينظر مثلاً ، حسين مروة ، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، ج2 ، ص 416 – 420 0 كذلك ينظر ، د0 ماجد فخري ، تأريخ الفلسفة الإسلامية ، ص 237 – 238 0 وباحثين أخر 0(1/177)
وإن كان جسم القرد أقرب شبهاً من جسم الفيل أو الفرس 0 والحق أن الجسم في مذهب إخوان الصفاء قليل الخطر جداً ، وموت الجسم عندها ولادة الروح والنفس وحدها هي الماهية الفعالة وهي تخلق الجسم لنفسها (1) ونضيف على ذلك تأكيد إخوان الصفاء أن أول مرتبة النبات متصلة بآخر مرتبة الجواهر المعدنية ، وأن آخرها متصلة بأول مرتبة الحيوان ، وأن آخر مرتبة الحيوان متصلة بأول مرتبة الإنسان وآخر مرتبة الإنسان متصلة بأول مرتبة الملائكة 0 فهذه السلسلة المترابطة يقول الإخوان عنها ( ليكون ذلك بيانٌ ودليلٌ لمن كان له قلبٌ صافٍ ، ونفسٌ زكية وعقل راجح على كيفية ترتيب الموجودات ونظام الكائنات عن علة واحدة ومبدأ واحد وأنها كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين ) (2) فضلاً عن ذلك فأن ما قاله الإخوان عن الطبيعيات ليس اكتشاف القوانين وحسب وإنما هناك غايات خلقية ، فترتيبهم الموجودات الطبيعية الى مراتب وجعلهم آخر مرتبة كل جنس متصلة بأول مرتبة ما فوقها من أجناس حتى آخر مرتبة الإنسانية المتصلة بأول مرتبة الملائكة ، فإذا كان الإنسان خيراً عاقلاً فهو ملك كريم ، وما تسخير الإنسان لما تحته من كائنات إلا ليكون زينة العالم العلوي بعد حين من الزمان ، فالاتجاه الغائي في البحث في المسائل الطبيعية يكون عادةً لأغراض خلقية (3) فضلاً عن الأغراض الإلهية والرياضية 0 فإذا كان داروين يُرجع كل هذه التطورات الى الطبيعة فإخوان الصفاء يرجعونها للنفس الكلية المتحركة بإذن الله تعالى ، فتدير الطبيعة بقواها 0
رابعاً – العلوم الإلهية
__________
(1)
(1) ت ج دي بور ، تأريخ الفلسفة في الإسلام ، ترجمة عبدالهادي أبو ريدة ، ص 108 – 109 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، ص 178 – 179 0
(3) د0 أحمد محمود صبحي ، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي ، العقليون والذوقيون ، دار المعارف بمصر ، ص 303 0(1/178)
نبدأ بالعلوم الإلهية مراعين الترتيب الذي سار عليه إخوان الصفاء ، في العلوم الإلهية والذي ذكرنها في موضوع أجناس العلوم من فعل الله تعالى وما يليق به من صفاته 0 فأما عن فعل الله الخاص المنسوب إليه فقد قال إخوان الصفاء ( أعلم أيها الأخ أن نسبة العقل من مبدعة أقرب من نسبة ما دونه ، ونسبة ما دونه لمن ينسب أولاً منه أقرب ، وكذلك الأفعال البادية عن كل قوة من القوى المتصلة بكل واحد من الأصول البادية وما يتعلق به من الصفات والتراكيب المؤلفة 0 ولما كان العقل هو أقرب الأشياء من بارية ، جل أسمه ، وأنه الفعال لما دونه بأمره وجب أن يكون هو فعل الباري تعالى الذي فعله بذاته ، وكتبه التي كتبها بيده ،وهو الملك الذي ليس له فيه شريك يناوئه ولا ضد ينافيه بل هو خالص صافٍ لا يقع عليه التغيير ، ولا يجوز عليه التبديل مشرقة أنواره ، ظاهرةٌ آثاره ، حاوٍ لما بدا عنه ، محيط ما يكون منه ) (1) فهذا هو فعل الله الخالص به المنسوب إليه الذي لا تفاوت فيه 0 وأن الباري أعطى العقل الكلي أو الفعال صورته ومثاله ، وأيده بالقدرة على فعل الأعمال الخاصة به فكان هذا العقل موضعاً لأمر الله ، ودليلاً على قدرته 0 وليس العقل وحده كما يرى الإخوان هو الذي أوجده الله على مثاله وحسب وإنما ورد في بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى ، خلق آدم ، على صورته كما إن له المثل الأعلى في خلق السماوات والأرض فهذا الخلق دليل على قدرته وعلمه أو كما يقول الحكماء إن في المعلول توجد آثار العلة ، فالصنعة المحكمة والمتقنة تدل على الصانع الذي أحكمها وأتقن صناعتها (2)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 206 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 206 0(1/179)
أما عن صفات الباري جل جلالة ، فقد تكلم إخوان الصفاء عن صفات الباري ، التي لا يشاركه فيها أحد من خلقه ومعرفته التي لا يعرف بها إلا هو ، أنه مُبدع مخترع خالق مكوّن قادر عليم حي موجود قديم فاعل ، وأنه المعطي من جوده الوجود ، هذه الصفات وما ينبغي له ويليق ، وأن الباري أفاض على العقل من ذلك أنه مبدئ ومحدث وحي وقادر ومخترع وعالم وفاعل وموجود 0 فالعقل مبدأ لما بدا منه ، وفاعل بمعنى مفعول ، ومحدث بمعنى أنه محدث معلول ، ومعطي الحياة لمن دونه كما أُعطي ، وموجود بوجود أفعاله الصادرة عنه 0 أما عن الصفات التي تقال على الروحانيين والجسمانيين من العلم والحياة والقدرة ... الخ من الصفات 0 فيقول الإخوان إن هذه الصفات صفات جزئية يقال بها عليهم مقالة مجازية ، فهذه الصفات التي تطلق عليهم إنما هي صفات مقرونة باضدادها كاقتران الوجود بالعدم ، والعلم بالجهل ، والحياة بالموت ... الخ من الصفات (1) فكل هذه الموجودات بالصفة في الموصوفين بها مقارنة لأضدادها لا يوصف بها الباري سبحانه بل أنه خالق الوجود والعدم فصار مخصوصاً بالخلقة ، جاعل الموت والحياة فصار مخصوصاً بالبقاء ، موجد العلم والجهل فاختص بالعلم 0 كذلك ما يوجد من أفعال المخلوقين من الروحانيين والجسمانيين والأعمال ، حسب الودائع التي فيهم والآثار المفاضة عليهم باستفادة بعضهم من بعض ، حتى يكون سبحانه موجدهم كلهم ومعطيهم الحياة ، ثم لا يكون موصوفاً بصفاتهم في المعنى ولا يستحقونها بالشركة له فيها وهم ذو درجات ومنازل ، ولكل واحد منهم صفه تزيد على ما دونه بها ويتخصص بفضلها (2) ، فالباري جل أسمه ، لا موصوف بصفات الروحانيين من حيث هم محدثون فاعلون منفعلون ، ولا بصفة الجسمانيين المدركين بالحواس وإنما صفته من حيث أفهامنا أنه قديم أزلي ، مُعللَّ العلل ، فاعل غير منفعل ، موجد مبدع مجوهر يُبدي ما يشاء ويفعل
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 207 0
(2) المصدر نفسه ، ص 208 0(1/180)
ما يريد ، كل يوم في شأن لا يشغله شأن عن شأن ، منشئ النشئة الأولى ، مُبدع النشئة الآخرة (1) ،لا إله إلا هو رب الآخرة والأولى ، رافع من وحدَّه الى جنة المأوى ومُحط من جحدة الى قعر جهنم السفلى وفعله الخاص هو ما كان بالأمر عنه تبارك وتعالى (2) 0
وبعد أن ذكرنا الصفات الإلهية التي تخص الباري وحده ، وإن هذه الصفات لا تشاركه فيها الموجودات الجسمانية والموجودات الروحانية ( الملائكة ) سوف نتكلم عن الروحانيات وكيف نظر لها إخوان الصفاء وخلان الوفاء 0
يرى إخوان الصفاء إن أفعال الروحانيين لا يتهيأ لأحد من العالم الجسماني الوقوف عليها والمعرفة بها إلا بعد معرفة الإنسان جوهر نفسه وكيفية فعلها في جسمه 0 فإذا عرف ذلك ووقف عليه تهيأ له بعد ذلك الوقوف على أحوال الروحانيين في العالم جميعاً العلوي بما فيه والسفلي وما يحتويه ، وسوف يقوده ذلك الى معرفة الخالق وتنزيهه ومعرفة فعله الذي فعله بذاته وما أبدعه من موجوداته ، وبمعرفة ذلك يكون كمال الإنسان ويهيأ له عند ذلك التصور بالصورة الروحانية الملكية ، فتكون أفعاله أفعال الملائكة وما يظهر عنهم من الأفعال والأعمال في العالم الجسماني والخلق الإنساني 0 كذلك يستطيع معرفة أفعال الجن والشياطين (3)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 209 0
(2) المصدر نفسه ، ص 210 0
(3)
(1) ينظر إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 198 – 199 0(1/181)
وحتى لا نذهب بعيداً عن الموضوع فقد ذكرنا أن العقل هو فعل الله الخالص ، وهذا العقل يمثل التمام والكمال والفيض والرحمة والرأفة وهو أول ما فاض عن الله تبارك وتعالى ، وهذا العقل محتاج الى الله ، الذي أوجده وجعله محيطاً بصور الموجودات ومخرجاً لها من القوة الى الفعل (1) ومن العقل فاضت النفس الكلية ، وهذه النفس غير حائطه بكلية ما في العقل ، وإنما هي حائطه بما افاضه العقل عليها ، أما فعلها الخاص بها فهو ما انبعث منها وصدر عنها من القوة الطبيعية بما جعلت فيها من الصور المنطبعة بالنفس في الهيولى ، والنفس الكلية لما كانت غير محيطة بكلية ما في العقل من الصور المُعرّاة والجواهر المبرأة من الهيولى إلا بما يلقيه إليها ويمدها به (2) ولما كان ذلك كذلك صارت الطبيعة في كل لحظة وفي كل وقت من الأوقات ومع كل حركة من الحركات الزمانية الطبيعية تظهر شكلاً ونوعاً ولوناً ، فغرائبها لا تُحصى وعجائبها لا تفنى ، وهي تبديها الشيء بعد الشيء حسب ما يُلقى إليها ويفاض عليها من النفس الكلية ، وبما يسري فيها من القوى الفلكية ، وبما ينزل مع الملائكة الموكلين بالنشأة الأرضية والخلقة الجسمانية فهم كما يرى الإخوان ، المودعون تلك الصور في جواهر الأمهات المظهرون لها بطبائع الأسطقسات ومتممون ما يبدو منها من الحيوان والنبات (3) وتحاشياً للغموض وحتى نعطي صورة واضحة عن الفيض عند إخوان الصفاء ، نقول أن النفس تحاول أن تحاكي العقل الفعال الذي فاضت منه ، ففاضت منها الهيولى الأولى ، وابتدأت النفس الكلية بتوسط العقل الفعال فحركت الهيولى الأولى طولاً وعرضاً وعمقاً ، وكان منها الجسم المطلق (4) وهذا ما يتعلق بالخلق الروحاني الذي تكلم عنه إخوان الصفاء فبينوا أن الخلقة الروحانية للجواهر البسيطة
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 201 0
(2) المصدر والصفحة نفسهما 0
(3) المصدر نفسه ، ص 201 – 202 0
(4) يوحنا قمير ، إخوان الصفاء ، ص 27 0(1/182)
سابقة على الخلق الجسماني للعالم الذي يُعد خلقاً تركيبياً 0 فالخلق الروحاني يبدأ من العقل الأول ، والنفس الكلية تنبعث منه ، ومن النفس تتكون الهيولى التي تعمل الطبيعة في تشكيلها بمعونة النفس الكلية ، وبينوا أن الهيولى مشتاقة الى حصول الصورة فيها ، ومن النفس الكلية صدرت النفوس الجزئية (1) وبعد مرحلة الخلق الروحاني تأتي مرحلة الخلق الجسماني أي الخلق التركيبي 0 تأتي هذه المرحلة بعد تركيب الأفلاك العالية ودورانها بالقوة المحركة لها التي تنبعث من النفس الكلية ، ومن قبول الهيولى الأولى ، الأشكال والصور يتكون الجسم المطلق فتبدأ الأشياء تبدو من الطبيعة لما تم المركز فتمتزج الأمهات بالحركات الفلكية الدورية ، فتشرق الكواكب النورانية وتلقي بأنوارها الى المركز0 فتدور الأفلاك دورتها الأولى وهي متحركة بحركة نفسانية إرادية فتنتج من تلك الحركة ، الفلك المحيط 0 ثم تدور النفس الكلية شوقاً الى الله تطلب منه اللحوق بدرجة الإبداع الأول أي العقل الفعال الذي هو علتها فينتج عن دورانها دوران الفلك المحيط ، فيتركب ما دونه من الكواكب السيارة التي يدورها جميعاً ، الإبداع الأول الذي هو علتها ، والوصول الى درجة الكمال والبقاء على أشرف الأحوال 0 ثم يدور الفلك المحيط حتى فلك القمر إلا ما دونه فكانت دائرة المركز وما هو محيط بها ومماس لأجزائها من الدوائر مثل الماء والهواء والزمهرير والأثير ، وتتحد القوى الطبيعية بالمركز ، وتمتزج بالدوران ويشرق عليها النيران الأعظمان الشمس والقمر ، ومطارح شعاعات الكواكب (2)
__________
(1) الرسالة الجامعة ، للحكيم المجريطي ، تحقيق جميل صليبا ، ج 2 ، ص 273 – 274 0
(2)
(1) الرسالة الجامعة ، للمجريطي ، تحقيق جميل صليبا ، ج2 ، 276 ، 277 ، 278 0(1/183)
فكان أول شيء بدا من الأرض هي المعادن ، ثم صورة النبات وكان ذلك بالأرض بالقوة لما قدر الله سبحانه ، فيه من أنه يكون غذاء للحيوان ، فجعل النبات متقدم الوجود على الحيوان لحاجة الحيوان إليه إذ لا غنى به عنه ، فكانت صورة النبات مجموعة فيها صور الحيوان بالقوة (1) ، وهكذا بدأ الحيوان يتركب من الأدون والأقل 0 والخلق الجسماني يبدأ كما يرى الإخوان من الأدنى الى الأعلى ، وذلك لأن العالم الطبيعي يقبل الكون والفساد والتغيير والاستحالة ويكون في الزمان ويحتاج الى المكان (2) ويتغذى فكانت بدايته بالأدون حتى تكون النهاية بالأفضل ، فلذلك ظهر الإنسان بعد كون المعادن والنبات والحيوان لما له فيها من المنفعة والمصلحة و لو كانت البداية في الخلقة الجسمانية بالإنسان قبل المعادن والنبات والحيوان لكان خلقه عبثاً ، لأنه لن يقدر على البقاء ولا يتيسر له العيش لذلك اقتضت الحكمة الإلهية تقديم المعادن والنبات والحيوان على الإنسان (3) أما الخلق الروحاني فكانت البداية فيه بالخلق الأفضل الأعلى ، إذ كان عالم الجواهر النورانية التي لا تركيب فيها ولا تغاير ولا تخالف ولا تباين إلا بشرف السبق بالرتبة والقرب من الباري جل جلالة ، وذلك لأنها خارجه عن الزمان ومستغنية عن المكان (4) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 279 0
(2) المصدر والصفحة نفسهما 0
(3) المصدر نفسه ، ص 280 – 281 0
(4) المصدر نفسه ، ص 279 0(1/184)
وبعد أن تكلمنا عن فعل الله تبارك وتعالى ، وصفاته والخلق الروحاني والخلق الجسماني بصورة مختصرة جداً تجنباً للإطالة والغموض سننتقل الى موضوعٍ آخر أكده إخوان الصفاء في حديثهم عن العلوم الإلهية ، ألا وهو المعاد وكيفية البعث والجزاء والثواب والعقاب في الحياة الآخرة 0 إذ يرى الإخوان أن معرفة الأمور الروحانية من أمر المبدأ ، والمعاد ، والباري تعالى ، وملائكته ، ومعرفة البعث وحقيقة القيامة والنشر بعد الموت ، والحشر والحساب ، والجزاء ، وثواب المحسنين ، وعقاب المسيئين كل هذه المسائل لا يمكن للإنسان معرفتها إلا بعد معرفته لنفسه وجوهرها ولهذا السبب كما يرى الإخوان ، أكد الحكماء والفلاسفة في كتبهم وفي مذكراتهم ، ذكر النفوس وحثهم تلاميذهم وأولادهم على طلب علم النفس ومعرفة جوهرها (1) ،
__________
(1)
(1) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 289 0(1/185)
والنفس جوهرة سماوية وعالمها عالم روحاني ، وهي حية بذاتها غير محتاجة الى الأكل والشرب واللباس والمسكن ... الخ من متطلبات الجسد (1) وهذه النفس كما ذكرنا سابقاً ، هبطت من عالمها الروحاني وأُسقطت من مرتبتها العالية لجناية فتفرقت هذه النفوس بالأجساد ، ولكونها مع الأجساد وما اُبتُليت به من ظُلمات الأجساد وانشغالها بإصلاح حال الجسد ومتطلباته من هموم المعاش وخوف الجوع وألم العطش وأوجاع الأمراض ... الخ من المتاعب والهموم ، فصارت النفس لا تذكر شيئاً مما كانت فيه من أمر عالمها ومبدأها ومعادها كما قال الله جل ذكرهُ (( وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ)) (2) 0 وهذه النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وأبصرت ذاتها وعرفت جوهرها وأحست بغربتها 0 في عالم الأجساد ، ومحنتها وغرقها في بحر الهيولى ، وأسرها بالشهوات الطبيعية ، فإذا عاينت عالمها سوف يتبين لها فضل نعيمها على اللذات الجسمانية وتنسمها بروح عالمها وريحانها فعند ذلك تشتاق الى هذا العالم الذي أهبطت منه وتزهد الكون مع الجسد وتتمنى الموت الذي هو مفارقة الجسد والخروج من ظُلمة الأجسام فيكون خروجها كما يرى الإخوان كمثل قومٍ خرجوا من الحبس والمطامير مع ضوء الصبح ، فشاهدوا هذا العالم بما فيه دفعه واحدة0 أما عن النفس التي لم تحاول معرفة ذاتها وجوهرها ومبدئها ومعادها ولم تحس بغربتها وما هي عليه في هذه الدنيا من المحنةِ والبلوى ، وكان بإمكانها البحث والاجتهاد في التعليم ولها تمييز وعقل وحواس سليمة وبقيت عمياء حتى الممات فهي بالآخرة أعمى وأضل سبيلا (3) فمن لم يعرف النفس وجوهرها ومن أين جاءت وما هو مصيرها فإنسان كهذا كما يرى الإخوان لا يستطيع معرفة الأمور الروحانية من البعث والقيامة والجزاء ثواباً وعقاباً 0 ونبدأ
__________
(1) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 184 0
(2) سورة الصافات ، آية 13 0
(3) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 184 ، 185 ، 186 0(1/186)
حديثنا عن البعث والقيامة بتحديد معناهما 0
يرى إخوان الصفاء أن معنى القيامة مشتق من قام يقوم قياماً ، والهاء فيها للمبالغة ، وهي من قيامة النفس من وقوعها في بلائها 0 أما البعث فهو انبعاثها أي ( النفس ) وانتباهها من نوم غفلتها ورقدة جهالتها (1) وقالوا أيضاً إن لفظ البعث ، اسم مشترك في اللغة العربية يحتمل ثلاثة معانٍ : فمنها قول القائل بعثت يعني أرسلت ، أي إرسال الله تعالى للأنبياء عليهم السلام ، ومنها ما يكون بمعنى بعث الأجساد الميتة من القبور ، ونشر الأبدان من التراب كما وعد الله تعالى ، الكفار والمنكرين بقولهم (( قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)) (2) 0 وتأتي كلمة بعث أيضاً بمعنى بعث النفوس الجاهلة من نوم الغفلة وإحيائها من موت الجهالة ، كما ذكر الله جل ثناؤه ، ذلك بقوله (( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (3)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 292 0
(2) سورة المؤمنون ، آية 82 0
(3)
(1) سورة الأنعام ، آية 122 0(1/187)
وغيرها من الآيات (1) وجدير بالذكر إن إخوان الصفاء تكلموا عن البعث بمعنى بعث الأجساد ، وبمعنى بعث النفوس 0 فأما عن بعث الأجساد ، قالوا ( وأعلم يا أخي أن بعث الأجساد من القبور الدارسات ، وقيامها من التراب ، إنما يكون ذلك إذا رُدت منها تلك النفوس والأرواح التي كانت متعلقة بها وقتاً من الزمان ، فيما سلف من الدهر ، فتنتعش تلك الأجساد وتحيا تلك الأبدان ، وتتحرك وتحس بعدما كانت جموداً ، ثم تُحشر وتُحاسب وتجازى ، لأن الغرض من البعث هو المجازاة والمكافئة (2) ونلاحظ أن إخوان الصفاء يفضلون بعث النفوس على بعث الأجساد ، وذلك أن في رد النفوس الناجية الى الأجسام البالية في التراب ، ربما يكون موتاً لها في الجهالة واستغراقاً في ظُلمات الأجسام وحبساً في أسر الطبيعة وغرقاً في بحر الهيولى 0 أما عن بعث النفوس وقيام الأرواح فهو الانتباه من نوم الغفلة واليقظة من رقدة الجهالة ، والحياة بروح المعارف والخروج من ظلمات عالم الأجسام الطبيعية والنجاة من بحر الهيولى وأسر الطبيعة والترقي الى درجات عالم الأرواح والرجوع إليه حيث يُعد محلها النوراني كما ذكر الله تعالى ، بقوله (( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (3) فضلاً عن ذلك فأن إخوان الصفاء وجهوا نقداً لمن يؤمن ببعث النفوس من دون الأجساد ، إذا كان من العامة ، وذلك لأن بعث النفوس لا يعرفه إلا الخاصة ، وأكدوا أيضاً إن الذي لا يوقن ببعث الأجساد ولا يقدر على تصور ذلك فليس من الحكمة أن يخاطب ببعث النفوس ، لأن بعث الأجساد يمكن تصوره وفهمه وعلمه ، فأما من لا يقر به ولا يتصوره فهو لبعث النفوس أنكر وبه أجهل ومن تصوره أبعد 0 وحتى يؤكد إخوان الصفاء أفضلية بعث الأنفس على الأجساد ، قالوا ( وإنما وعد
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 300 0
(2) المصدر نفسه ، ص 301 0
(3) سورة الزخرف ، آية 71 0(1/188)
الكفار أن يبعث أجسادهم ليوافقهم على تكذيبهم ويجازيهم بسوء أفعالهم ، ووعد الله ، المؤمنين أن يحيي نفوسهم ويبعث نفوسهم ، ليجازيهم على حسناتهم ، ويثبتهم بأعمالهم 0 فلا تكن يا أخي ممن ينتظر بعث الأجساد ، ويؤمل نشر الأبدان ، فأن ذلك ظلمٌ عظيم إذا كنت تتوهم ذلك ) (1) من قول الإخوان هذا نستنتج أن ما يبعث من الكفار أجسادهم لأنهم أنكروا ذلك ، أما المؤمنون فما يُبعث منهم هي الأرواح 0 فضلاً عن ذلك فأن البعث الجسماني أمر يمكن للعامة معرفته ، ولكن البعث النفساني وقف على الخاصة الذين أرتاضوا بالعلوم الإلهية والمعارف الربانية فهؤلاء يجب أن لا ينتظروا بعث الأجساد ونشرها وإنما يكونون من المنتظرين للبعث الروحاني (2) 0 أما عن مصير الأنفس بعد مفارقة الجسد ومصيرها يوم القيامة ، فيقول الإخوان إن أنفس المؤمنين من أولياء الله وعبادة الصالحين ، يعرج بها بعد الموت الى ملكوت السماوات وفسحة الأفلاك ، وتخلى الى يوم القيامة ، الطامة الكبرى 0 فإذا انتشرت أجسادها ، ردت إليها لتحاسب وتجازى بالإحسان إحساناً ، والسيئات غفراناً (3)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 300 0
(2) المصدر نفسه ، ص 301 0
(3)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 290 0(1/189)
فهذه النفوس الخيرة الفاضلة الملكية بعد مفارقتها للجسد المعبر عنها في الشريعة ، بالثواب والجزاء فإن ما ستلاقيه يقصر الوصف بحقائقها ، ولا يبلغ البشر كنة معرفتها لأنها روحانية أبدية سرمدية ، واستشهد الإخوان بقول الباري تعالى (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (1) فيها من اللذات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من الروح والريحان (2) 0 أما عن أنفس الكفار ومصيرها بعد الموت ، ومصيرها يوم القيامة فيقول إخوان الصفاء ( وأما أنفس الكفار والفساق والأشرار فتبقى ، في عماها وجهالاتها ، معذبة متألمة ، مغتمة حزينة ، خائفة وجلة ، الى يوم القيامة 0 ثم ترد الى أجسادها التي خرجت منها لتحاسب وتجازى بما عملت من سوء 0 والدليل على صحة ما قلنا ، وحقيقة ما وصفنا ، قول الله سبحانه وتعالى (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)) (3) وقال تعالى (( قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ )) (4) وقال تعالى في محكم كتابه العزيز (( يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)) (5) وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى تدل على بقاء النفوس بعد الموت أما منعمة ملتذة ، وأما معذبة متألمة) (6) فمصير الكافرين جهنم التي وصفها الإخوان ، بأن لها طبقات كثيرة وهي الأهواء المختلفة ، والجهالات المتراكمة التي النفوس فيها محبوسة ، ومعها موقوفة وقلوب أهلها
__________
(1) سورة السجدة ، آية 17 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 82 0
(3) سورة غافر ، آية 46 0
(4) سورة الأعراف ، آية 38 0
(5) سورة الانفطار ، الآيات 15 ، 16 0
(6) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 291 0(1/190)
معذبة منها بألوان من الآلام وهم في العذاب مشتركون ، كلما مضت منهم أمة فنقرض خلفها قومٌ آخرون من تلاميذهم وأتباعهم في تلك المذاهب والآراء وكلما دخلت الآراء ، أمة لعنت أُختها المخالفة لها كما ذكر الله تعالى ، في سور عدة من القرآن الكريم يشير بها الى هذه المسألة 0 وفي آيات أخرى يلعن بعضهم بعضاً ، ويتعايرون ، ويتنادون ، ويتباغضون ، وهم في العذاب مشتركون فهذه حالهم في الدنيا والآخرة (1) الى آخر كلامهم في ذلك0 اتضح لنا من خلال حديث الإخوان عن البعث أنهم استعملوه بمعنى بعث النفوس وبمعنى بعث الأجساد ، فقالوا إن ما يبعث من المؤمنين هي أرواحهم ، وقالوا أن ما يبعث من الكفار أجسادهم 0 ولكنهم في حديثهم عن مصير أنفس المؤمنين ، قالوا فإذا رُدت الروح الى الأجساد ، فخالفوا قولهم الأول ، أي أن الذي يبعث من المؤمنين هي أنفسهم 0 فموقف إخوان الصفاء هنا فيه تناقض فتارة يقولون ببعث أنفس المؤمنين ، وتارة يقولون ببعث الأجساد عندما ترد الروح إليها أي ( روح المؤمن ) فضلاً عن أنهم وجهوا نقداً لمن يقر ببعث النفوس وينكر بعث الأجساد إذا كان من العامة ، ونقدوا من يقر ببعث الأجساد ونشر الأبدان إذا كان من الخاصة 0 وفي حديث الإخوان عن العلوم الإلهية تتطرقوا لموضوع السياسات ، فحددوها بخمسة أنواع وهذا ما ذكرناه في حديثنا عن أجناس العلوم ، وهذه السياسات هي السياسة النبوية ، والسياسة الملوكية ، والسياسة العامية ، والسياسة الخاصية ، والسياسة الذاتية 0 أما عن السياسة النبوية ، فيرى إخوان الصفاء أن من خصال النبوة الوحي والإنباء من الملائكة ثم إظهار الدعوة في الأمة ، ثم تدوين الكتاب المنزل بالألفاظ الوجيزة ، وتبيين قراءته في الفصاحة ، ثم إيضاح تفسير معانية وبلوغ تأويله ، ثم وضع السُنن المركبة ، ومداواة النفوس المريضة من المذاهب الفاسدة ، والآراء السخيفة ، والعادات الرديئة ، والأعمال
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 314 0(1/191)
السيئة ، والأفعال القبيحة ، ثم نقلها من تلك العادات الرديئة والأعمال السيئة والأفعال القبيحة 0 ويكون نقلها من تلك العادات وتلك الآراء عن طريق ذكر عيوبها ومداواتها من أسقام تلك العادات بالحمية لها من العود إليها وإشفائها بالرأي الرصين ، والعادات الجميلة ، والأعمال الزكية ، والأخلاق الحميدة ، بالمدح والترغيب في جزيل الثواب ليوم المآب (1)
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 494 0(1/192)
ولا يقتصر دور السياسة النبوية عند هذا الحد وحسب وإنما تقوم على معرفة كيفية سياسة النفوس الشريرة التي ابتعدت عن سبيل الرشاد وردها عن سلوكها ، ومعرفة كيفية سياسة النفوس الساهية والأرواح اللاهية من طول الرقاد ونسيانها ذكر المعاد بالتذكار لها يوم المعاد لئلا يقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير ولا كتاب (1) 0 أما عن السياسة الملوكية ، فتتمثل هذه السياسة بمعرفة حفظ الشريعة على الأمة وإحياء السُّنة في الملة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإقامة الحدود ، وإتقان الأحكام التي رسمها صاحب الشريعة ، ورد المظالم وقمع الأعداء وكف الأشرار ، ونصرة الأخيار 0 وهذه السياسة يختص بها خلفاء الأنبياء ، عليهم السلام ، والأئمة المهديون الذين قضوا بالحق ، وبهم كانوا يعدلون (2) وما دمنا نتكلم عن السياسة الملوكية فمن الضروري أن نتحدث عن خصال الملك ، إذ تتمثل هذه الصفات بأخذ البيعة على الأتباع المستجيبين ، وترتيب الخاص والعام مراتبهم ، وجباية الخراج والعُشر والجزية من الملة ، وتفريق الأرزاق على الجند والحاشية وحفظ الثغور وتحصين البيضة ، وقبول الصلح والمهادنة مع الملوك والرؤساء ، وإعطاء الهدايا لتأليف القلوب وشمل الألفة وما شاكل ذلك من الخصال المعروفة بين الرؤساء والملوك (3) 0 من الملاحظ أننا في حديثنا عن السياسة النبوية والسياسة الملوكية تكلمنا عن خصال النبوة وخصال الملك ، والغرض من ذلك هو أننا نود الإشارة الى موضوع أكده إخوان الصفاء ، وهو اجتماع النبوة والملك للنبي محمد صلى الله عليه وسلم 0 يرى الإخوان أن الله ، جعل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، خصال الملك والنبوة جميعاً كما جمعها لداود وسليمان ويوسف عليهم السلام ، أما عن كيفية جمع الملك والنبوة لمحمد صلى
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 495 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 273 – 274 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 495 0(1/193)
الله عليه وسلم ، يقول الإخوان أن النبي أقام بمكة في أول مبعثه نحو اثنتي عشرة سنة يدعو الناس ويعلمهم معالم الدين ، حتى استوفى خصال النبوة وأحكامها ثم هاجر بعد ذلك الى المدينة وأقام بها نحو عشر سنين في ترتيب أمر الأمة ، وتحذير الأعداء ، وجباية الخراج والعُشر ومصالحة الأعداء والمهادنة ، وقبول الهدايا وحملها ، والتزويج منهم وإليهم حتى أحكم أمر الملك (1) 0 فضلاً عن ذلك أن الله لما جمع لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، الملك والنبوة لم يضعهما لرغبة في الدنيا وإنما أراد الله أن يجمع لأمة محمد الدين والدنيا جميعاً ، فالغرض هو الدين أما الملك فهو أمر عارض 0 والملك عارض لأسباب عديدة منها أنه لو كان الملك في غير أمته ، لم يكن يؤمن أن يردهم أو يسومهم سوء العذاب ما يكن مسلطاً عليهم 0 والسبب الآخر أن الملك والدين توأمان 0 فضلاً عن ذلك أن الناس في طباعهم وجبلتهم لا يرغبون إلا في دين الملوك ، ولا يرهبون إلا منهم ، ولهذه الأسباب وأسباب أخرى جمع الله تعالى لنبيه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام والتحية ، الملك والنبوة فلم يكن الملك قدحاً في نبوته مثلما لم يكن الملك قدحاً في نبوة الأنبياء من قبله 0 ونختم حديثنا بما قاله إخوان الصفاء ( وأعلم يا أخي أن الله تبارك وتعالى قد جمع لمحمد ، عليه السلام ، الملك والنبوة وأيده بروحٍ منه ، حتى إنه قام بواجب حقهما لما خصة الله به من الجبلة القوية والقوة المتينة كما قال تعالى (( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )) (2) (3) 0 أما عن السياسة العامية فهي الرياسة على الجماعات ، كرئاسة الأمراء على البلدان والمدن وكرئاسة الدهاقين (4) على أهل القرى ، ورئاسة قادة
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 396 0
(2) سورة القلم ، آية 4 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 397 0
(4) الدهاقين : جمع دهقان ، وهو حاكم الإقليم ، ورئيس الفلاحين 0(1/194)
الجيوش على العساكر وما شاكلها 0 فهذه السياسة تقوم على معرفة طبقات المرؤوسين وحالاتهم وأنسابهم وصنائعهم ومذاهبهم وأخلاقهم ، وترتيب مراتبهم ومراعاة أمورهم وتفقد اسبابهم وتأليف شملهم والمساواة فيما بينهم واستخدامهم فيما يصلحون له من الأمور ، من الصنائع والأعمال اللائقة بكل واحد منهم (1) 0 أما عن السياسة الخاصية ، فتقوم على كيفية معرفة الإنسان تدبير منزلة وأمر معيشته ، ومراعاة أمر خدمه وغلمانه وأولاده ومماليكه وأقربائه وعشرته مع جيرانه وصحبته مع إخوانه وقضاء حقوقهم ، وتفقد اسبابهم ، والنظر في مصالحهم من أمور دنياهم وآخرتهم (2) أما عن الأهل من الاخوة والزوجة والأولاد والعبيد فيجب على المسؤول عنهم سياستهم سياسة لا اختلاف فيها ، وأنه متى غير سياسته معهم واختلفت عاداته معهم فأن هؤلاء سوف يتغيرون عن عاداتهم التي كان يراها منهم ويعرفها فيهم فعندها ينسب التفريط لنفسه ويكثر غمه وهمه أما إذا ساسهم سياسة تؤلف بينهم فعندها سوف ترتاح نفسه 0 وقد أكد الإخوان في حديثهم عن السياسة الخاصية ضرورة اتباع السياسة مع النساء وتفقد أحوالهن في كل وقت ، وذلك لأنهن سريعات التلون ، كثيرات التغير فهن كما يقول الإخوان ( يتغيرن مع الساعات ويضطربن على الأوقات ، فيكون صفحك إليهن كثيراً ومن غير شعار منهن أن تكون مراعياً أحوالهن ، ولا يغرنك منهن صلاح تعرفه فيهن ، فقد أنبئناك أن تلونهن كثير ، وأن استفسادهن سهل يسير ، إلا من عصمها الله تعالى ، منهن وقليل ما هن ) (3) ،
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 274 0
(2) المصدر والصفحة نفسهما 0
(3)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 259 0(1/195)
أما عن سياسة الأولاد والغلمان والحاشية ، فيجب على من يسوسهم أن لا يظهر لهم فاقة ، فإنه متى أظهر لهم من اختلال أو حاجة أو نقصت منزلته وقصر موضعه ، وأن هؤلاء سوف لم يقيموا له وزن ولا هيبة ، فيجب عليه أن يقوم بواجباته نحوهم وأن لا يشكو لهم أو يكشف فاقته الى من لا يزيد من شكواها إلا ذلاً ومهانة ، فيجب أن يضع عند كل واحدٍ منهم عذراً على وجهٍ لا يُنسب معه الى فاقة (1) أما عن سياسة الأصحاب ، فيرى الإخوان إن سياسة الأصحاب تكون بعد معرفتهم والإطلاع على أحوالهم بحيث لا يخفى عمن يريد سياستهم لا صغيرة ولا كبيرة فبعد معرفة ذلك عندها يستطيع سياستهم ، فإذا لم يستطيع الإنسان معرفة أصحابه لن يستطيع سياستهم ولن يبلغ رضاهم 0 وأكد الإخوان مسألة ألا وهي أن على الإنسان أن لا يُطلع أصحابه على أموره ، بحيث يسمح لهم باستخراج نقاط الضعف فيه ومن ثم يأتون إليه من حيث آمن منهم ، ولا يجب الاطمئنان لهم فكثيراً ما صاحب الأنبياء ، ليس من أجل الصداقة وإنما من أجل إيقاع الحيلة بهم وكان هدفهم الإطلاع على أسرار الأنبياء ، وكشف أمرهم 0 فضلاً عن ذلك فأن على من يريد سياسة الأصحاب أن لا يكون اعتقاده يريد أن يعلمهم لأصحابه ولإخوانه ، مخالفاً لدين أهله واعتقادهم ، فمن كانت هذه صفته فهو بعيد عن الدين والعلم 0 وأن على المسؤول عن السياسة الخاصية أن يكون أهله وأصحابه بمنزلة واحدة عنده في التعليم وأن لا يخص أصحاب النسب الجسداني فقط ، بل يجب أن يجعله بمنزلة واحدة لأهل النسب الجسماني والنسب الروحاني ، فيلقنهم التعاليم والمعارف والعبادات والفرائض كل واحد منهم حسب استطاعته (2) 0 أما عن السياسة الذاتية ، فتقوم هذه السياسة على معرفة كل إنسان نفسه وأخلاقه ، وتفقد أفعاله وأقاويله في حال شهواته وغضبه ورضاه والنظر في جميع أموره (3)
__________
(1) المصدر والصفحة نفسهما 0
(2) المصدر نفسه ، ص 260 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 274 0(1/196)
وحفظ الأمانة ومساعدة الآخرين وحسن مجاورة الجيران وحب الخير للغير ، فيحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه ، وأن يفعل الخير من أجل الخير ذاته من دون طلب العوض والأجر أو لغرض المدح والذكر (1) هذا فيما يتعلق بأنواع السياسات التي تكلم عنها إخوان الصفاء في حديثهم عن العلوم الإلهية 0 وهذا ما استطعنا الإشارة إليه من أبرز المواضيع التي تكلم عنها إخوان الصفاء في حديثهم عن العلوم الفلسفية والتي تعد من العلوم الأساسية والحقيقية التي أكدوا عليها 0 أما عن أهمية العلوم بشكلٍ عام فقد عدوها من المصادر المهمة التي تزود الإنسان بالمعلومات المختلفة ، فمن يطلع على العلوم الرياضية سوف تتكون لديه معرفة عن علم العدد ومعرفة بالهندسة الحسية والهندسة العقلية ، كما يتكون لديه خزين معرفي عن علم النجوم والموسيقى وسوف يتبين له من خلال هذه العلوم معرفة نفسه ، ومعرفة إبداع الله ، للعالم على النسبة الأفضل0 ومن يطلع على العلوم المنطقية ، ستتكون لديه معرفة بأساسيات هذا العلم وقواعده ، وفي تطبيقه لهذه القواعد سيعصم فكره وقوله من الخطأ 0 ومن يطلع على العلوم الطبيعية ، سوف تتكون لديه معارف مختلفة عن الطبيعيات من العالم العلوي الى ما دون فلك القمر ، سيعرف عن المعادن الكثير وعن النبات الكثير وعن الحيوان المعلومات الوافرة ، ومن ثم يتوصل من خلال معرفة هذه الأشياء ، الى معرفة القدرة العظيمة التي أيدعت هذا الكون بأسره 0 أما عن العلوم الإلهية فالذي يطلع عليها ويتأمل في أسرارها ودقيق أغوارها سيتهيأ له معرفة جوهر نفسه ، ومن أين جاءت ، والى أين مصيرها ، سيعرف الروحانيات ، سيعرف الله تبارك وتعالى ، وكيف أبدع الخلق الروحاني والخلق الجسماني ، وكيف هو علة الوجود ، كما يتعرف على أمور الغيبيات من بعث وقيامة وجزاء ، فهذه العلوم تمد من اطلع عليها وتعمق في دراستها بمعارف مختلفة ،
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 258 0(1/197)
ومن أكمل دراسة هذه العلوم من رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية ستمده هذه العلوم بمعرفة فلسفية متكاملة فضلاً عن ذلك أن من اطلع على العلوم الشرعية ستصبح له معرفة بأحكام الشرع وأموره ، ومن اطلع على الكتب السماوية ستصبح لديه معرفة بهذه الكتب الإلهية 0 فكل علم يقدم لصاحبه معرفة خاصة ، فمن خلال العلوم تتكون لدى الإنسان معارف عديدة في جزئيات كل علم تدرج تحت مفهوم المعرفة سواء أكانت معرفة فلسفية أم معرفة شرعية ... الخ من المعارف 0 وجدير بالذكر أن إخوان الصفاء أكدوا على وحدة العلوم وأن هذه العلوم يجب أن تكون فيها منفعة للإنسان في الدنيا والآخرة ، وهذا موضوع ذكرناه في جزئيات هذا الفصل ولكن نود ختم هذا المبحث بقول إخوان الصفاء ( وأعلم يا أخي بأن كل علمٍ وأدب لا يؤدي صاحبة الى طلب الآخرة ولا يُعينه على الوصول إليها ، فهو وبال على صاحبه وحجة عليه يوم القيامة ، وذلك أن الملوك والجبابرة والفراعنة والقرون الماضية كانت لهم عقول رضية ، وآداب بارعة وسياسة وحكمة وصنائع عجيبة وهكذا من كان يعاشرهم وينادمهم ويقرب إليهم ، من وزرائهم وكتابهم وعمالهم وقوادهم وعلمائهم وأدبائهم ، ولكن هلكوا من أجل أنهم صرفوا تلك القوى والعقول والأفهام وأكثر أفكارهم وتمييزهم ورويتهم في طلب شهوات الدنيا ، والتمتع بلذتها ونعيمها ، بالرغبة الشديدة والحرص والتمني للخلود فيها وجعلوا أكثر كدهم وسعيهم في صلاح أُمور الدنيا حتى عمروها وأهملوا الآخرة ... ) (1) 0
الفصل الثالث
التربية والتعليم وصلتهما
بالمعرفة
المبحث الأول
التربية والأخلاق
مدخل
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 349 0(1/198)
إن من شرائط المعرفة أن تؤخذ من معلم ، فليس بوسع كل إنسان أن يتعلم بمفرده وإنما يحتاج الى معلم أو مؤدب أو أستاذ في تعلمه وتخلقه وأقاويله واعتقاده وصنائعه (1) فالتربية والتعليم لها الدور البارز في معرفة الإنسان فمن خلالها يحصل على المعرفة المنظمة ومن خلال التربية والتعليم يتربى الإنسان على القيم الأخلاقية بحيث يستعمل العلم والمعرفة بالشكل الأمثل 0 أما عن المصطلح العلمي للتربية والتعليم ، فالتربية هي نظام اجتماعي يحدد الأثر الفعال للأسرة والمدرسة في تنمية النشء من النواحي الجسمانية والعقلية والأخلاقية حتى يمكنه أن يحيا حياة سوية في البيئة التي يعيش فيها (2) ، أما التعليم ، فهو فرع من التربية يتعلق بطرائق التدريس والتعلم (3) 0 وموضوع التربية والتعليم له مكانته الكبيرة في الفكر الفلسفي 0 ففي الفلسفة اليونانية نجد ظهور مدارس عديدة أكدت ضرورة العلم والأخلاق ، وهذه المدارس وأن اختلفت في أفكارها ومذاهبها إلا أنها لم تبخل بشيء من العلم على المتعلمين 0 ومن هذه المدارس المدرسة الرواقية ، التي قسمت الفلسفة الى فلسفة علمية وفلسفة عملية تقوم على العمل المطابق للعقل ، وهنا يتحقق الجانب الأخلاقي فضلاً عن ذلك فأن هذا العمل يجب أن يكون وفقاً لقوانين الطبيعة (4) ومن المدارس الأُخرى المدرسة الأبيقورية ، التي أسسها أبيقور في أثينا في حديقته ، والتي ظل يدرس بها ما يقارب ستة وثلاثين عاماً ، حيث أكد ضرورة تحويل العلم الى عمل لأن في ذلك سعادة الإنسان (5) ومن المدارس الأُخرى المدرسة الفيثاغورية ، التي جمعت بين الفلسفة والدين والأخلاق
__________
(1) ينظر د0 أحمد فؤاد الأهواني ، التربية في الإسلام ، دار المعارف بمصر ، 1967 ، ص 229 0
(2) أحمد خورشيد النوره جي ، مفاهيم في الفلسفة والاجتماع ، ص 79 0
(3) المصدر نفسه ، ص 90 0
(4) عبدالرحمن بدوي ، خريف الفكر اليوناني ، ص 11 0
(5) ينظر المصدر نفسه ، ص 51 0(1/199)
وأكدت الطرائق الصوفية في تعاليمها للمتعلمين ، فقد أكدت الزهد والعبادة (1) ولا ننسى سقراط بوصفة معلماً جعل من نفسه قرباناً للحقيقة والعلم والمعرفة وهو يقدم العلم للمتعلمين مجاناً ، وتحقيقاً للمقولة التي عرفها من الراعية في معبد دلفي ، إذ قالت ليس هنالك رجل أحكم من سقراط (2) ، ومن الفلاسفة اليونان الذين اهتموا بالتربية والتعليم ، أفلاطون الذي تكلم عن النظام التربوي ، حيث يرى أن الأولاد يدربون على الرياضة البدنية من سن العاشرة (3) الى سن السادسة عشرة كي ينشئوا الأجساد ويستدرجون الى تذوق الفنون والموسيقى خاصةً لما لها من تأثير في تصفية النفس ، وخلق الانسجام فيها وترويضها على حب الجمال إلا أنه لا يجوز الإفراط في تعليمها خشيةٍ عليهم من اللين والضعف 0 وبعد السادسة عشرة تزاول الرياضة البدنية فضلاً عن تدريسهم أصول الدين التي ترشدهم الى وجود الله والعقاب ، فتلجم بذلك شهواتهم فضلاً عن إيمانهم بخلود النفس ، فيقفون غير هيابين في وجه الخطوب والموت 0 ويهدون الى سبل البرّ والأخلاق السامية ليصبح الخير جزءاً من طبيعتهم فيأتونه على غير تكلف وجهد 0 وأفلاطون في هذا كله ينفي طريقة الإكراه في التعليم ويدعو الى تربية ممتعة ، وذلك لأن الإكراه يميت في الطالب معنى الحرية (4) ،
__________
(1) عبدالرحمن بدوي ، ربيع الفكر اليوناني ، ص 106 0
(2) د0 محمد علي أبو ريان ، تأريخ الفكر الفلسفي من طاليس الى أفلاطون ، ص 115 – 116 0
(3) أفلاطون ، جمهورية أفلاطون ، ص 232 0
(4)
(1) د0 كمال اليازجي ، أنطوان غطاس كرم ، أعلام الفلسفة العربية ، بيروت ، لبنان ، آب 1957، ص 406 0(1/200)
ثم يبعد من منهج التدريس القصص التي تسيء الى الإلهة ، وأنهم كانوا يشتبكون بالحروب ، وهذا ينطبق على قصص هزيود وهوميروس التي أفسدت ضمائر الإغريق وملأت أخيلتهم بالأوهام (1) أما باقي القصص فمسموح بها سواء أكانت حقيقية أم وهمية مادامت تتسم بالجمال ولها مغزى حقيقي للمستمعين (2) وهكذا بعد أن تستكمل جوانب التربية الجسمية عن طريق الجمناز ، والتربية العقلية عن طريق الموسيقى ، ثم تجرى لهؤلاء الامتحانات فمن رسب منهم انضوى في طبقة العمال أو الطبقات الأخرى حسب ما تؤهله الخصائص التي يملكها للقيام بالعمل المُشاكل 0 أما من نجح فيحق له استئناف الدراسة حتى الثلاثين ، وفي هذه المرحلة يعنون بدرس الرياضيات والطبيعيات ، لأنها تستعمل البرهان وتؤكد الروح الفلسفي ، وبعد ذلك يجرى لهم امتحان جديد أعسر من الامتحان السابق ، فيتابع الأكفاء الدراسة ، وينضم الراسبون الى الجندية أو طبقة الحراس (3) أما الذين جاوزوا الامتحان الجديد ، وهم قلة ، فيدرسون الفلسفة في شقيها النظري والعملي ، النظري في أصول البرهان والفكر السوي ، والعملي في أساليب الحكم وأصول السياسة 0 ويدوم ذلك خمس سنوات أي حتى سن الخامسة والثلاثين وعند ذلك تتأهب هذه الفئة للحكم فتمارس دورها في الحياة الاجتماعية قبل أن تتولى الحكم ، فيجابهون عواطف الدهر ونوائبه نحو خمسة عشر عاماً (4) وهذه المسائل التربوية تنطبق على الذكور والإناث سواء بسواء ، ففي ميسور المرأة أن تتعاطى الطب والموسيقى والرياضة والحرب والفلسفة مادام الفارق بالدرجة لا بالنوع (5) ،
__________
(1) أفلاطون ، جمهورية أفلاطون ، ص 44 0
(2) المصدر نفسه ، ص 65 – 66 0
(3) د0 كمال اليازجي ، أنطوان غطاس كرم ، أعلام الفلسفة العربية ، ص 407 ، كذلك ينظر جمهورية أفلاطون ، ص 196 0
(4) ينظر ، د0 كمال اليازجي ، أنطوان غطاس كرم ، أعلام الفلسفة العربية ، ص 407 0
(5) ينظر جمهورية أفلاطون ، ص 150 ، 151 ، 154 ، 155 ، 166 ، 232 0(1/201)
ومن الفلاسفة اليونان الذين اهتموا بالتربية والتعليم ( ارسطو ) الذي يرى أن الدولة هي التي ترسم مناهج التعليم طبقاً لمقتضيات شكل الحكم ، وتنشئ الأجيال الطالعة على طاعة القانون واحترام الدولة ، وتدربهم على الحرية المقيدة بالقانون الدولي 0 ويرى أن الحياة الاجتماعية تهذب الفرد وترقي مداركه وتمرسه بالنظام ، فالإنسان اجتماعي بالطبع ، وممارسة الحياة الاجتماعية وظيفة من وظائف الطبيعة0 ولذلك أن الإنسان المنعزل عن المجتمع أشبه بالحيوان (1) ويظهر اهتمام ارسطو بالتربية والأخلاق في كتاب الأخلاق النيقوماخية ، إذ يحفل هذا الكتاب بالقيم الأخلاقية والتربوية 0
ولموضوع التربية والتعليم الأهمية الكبرى عند فلاسفة الإسلام ومفكريهم ، إذ ترجع أصول الفكر التربوي الإسلامي الى القرآن الكريم والسُنة النبوية المباركة 0 ومن الفلاسفة والمهتمين بالفكر التربوي ، الفارابي ، وإخوان الصفاء ، وابن سينا ، والغزالي ، فضلاً عن ابن مسكويه ، وابن سحنون ، والقابسي ، وابن جماعة ، وابن خلدون (2) فهؤلاء وغيرهم من مفكري الإسلام اهتموا بالتربية والأخلاق اهتماماً كبيراً 0
التربية عند إخوان الصفاء
عند قراءة رسائل الإخوان يتضح لنا أن الإخوان بدءوا بالتربية من الجنين ، إذ وردت في رسائلهم الملاحظات الآنية التي تحمل مجمل آرائهم التربوية بصدد رعاية الحامل وصحة الجنين ، وهو ما أخذت به الدول المتقدمة المعاصرة (3)
__________
(1) د0 كمال اليازجي ، أنطوان غطاس كرم ، أعلام الفلسفة العربية ، ص 425 0
(2) د0 محمد ناصر ، الفكر التربوي العربي الإسلامي ، ج 2، وكالة المطبوعات ، الكويت ، ط1 ، 1977، ص 10 0
(3)
(1) د0 نوري جعفر ، آراء ومواقف تربوية ونفسية صائبة في التراث العربي الإسلامي ، دار الرشيد للنشر ، دار الحرية للطباعة بغداد ، 1982 ، ص 18 – 19 0(1/202)
حيث قال الإخوان ( وقد تبين بما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم تسعة أشهر إنما هو لكيما تتم البنية وتستكمل الصورة ... .. وقد يعرف كل عاقل أن من يولد غير تام البنية ولا كامل الصورة ، لا ينتفع في هذه الدنيا ونعيمها ، ولا يتلذذ ولا يتمتع بلذاتها على التمام والكمال ) (1) وقالوا أيضاً ( وقد أوصى الأطباء بالوالدين ، وأمر الحوامل من النساء بالرفق بأنفسهن وفي حركاتهن وتصرفاتهن باعتدال وبوسائط بلا افراط ولا تقصير ، كيما يسلم الجنين من الآفات العارضة هناك ، ويخرج الطفل سالماً الى هذه الدنيا ويتربى ويعيش وينتفع بالحياة ) (2) فالطفل إذا خرج من الرحم سالماً الى هذه الدنيا فباستطاعة حواسة منذ تلك الساعة أن تدرك محسوساتها بالقوة الباصرة وبالقوة السامعة الصوت وبالقوة اللامسة الخشونة واللين ... الخ من الحواس التي يدرك بها المحسوسات الخاصة بكل حاسة ، غير أنه لا يعلم معاني الكلام والأصوات إلا بعد مده ، ولا يستطيع أن يميز بين الصور إلا أنه على ممر الزمن يميز بين نغمة الأم ونغمة الأب أو الأخوة والأخوات والأقرباء 0 وهكذا يزداد فهمه ومعرفته بالتدريج مادام هو في النمو والزيادة (3) حتى يصل الى سن الرابعة (4)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، ص 442 0
(2) المصدر نفسه ، ص 443 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 414 – 415 ، كذلك ينظر فؤاد البعلي فلسفة إخوان الصفاء الاجتماعية والأخلاقية ، ص 99 – 100 0
(4) أكد إخوان الصفاء أثر الكواكب في التصرف بأحوال الطفل من النمو والتربية والزيادة والصحة والسلامة فمن يوم الولادة حتى السنة الرابعة ، يكون التدبير للقمر ثم يصير التدبير لعطارد صاحب النطق والحركة والتعاليم ، ثم يصير المولود في تدبير الزهرة ثماني سنوات والتي تعد صاحبة الحُسن والجمال والزينة والشهوات فيظهر من المولود الزينة والجمال وطلب الشهوات والتمتع باللذات ، ثم يصير في تدبير الشمس عشر سنوات ، ويظهر من المولود طلب العز والرفعة والعلوم والشرف ، ثم يصير التدبير الى المريخ ، سبع سنوات ، وهو صاحب العزم والشجاعة وبالجملة كل خصلة وسجية لسياسة الأمور وقادة الجيوش ، ثم يصير التدبير الى المشتري اثنتي عشرة سنة ، وهو صاحب الدين والورع والتوبة ، وينتهي التدبير في زحل بعد إحدى عشرة سنة ، وهو صاحب الهدوء والكسل والسكون 0 ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، من ص 447 – 449 0(1/203)
ويسمونها سني التربية إذ إكمال التربية واشتداد القوة وحصول الفهم والذهن والتمييز والتفكير 0 فهذه السنوات الأربع الأولى مهمة في حياة الطفل ، ولا تقل السنوات التي تعقبها أهميةً أيضاً 0 فهي التي تغير مجرى حياته القابلة ، وذلك أن السجايا والأخلاق تظهر بوضوح وبالتدريج بعد السنة الرابعة كما يظهر زهر النبات وحبوبها ونور الشجر وثمارها وروائحها وألوانها وطعومها عند بلوغها وتمامها وكمالها ونضجها حسب ما في طباعها (1) وللبيئة الأثر الكبير في تربية الطفل فالعادات التي يحصل عليها من بيئته ومحيطه تقوي الأخلاق والسجايا المشاكلة فقد قال الإخوان ( وأعلم بأن العادات الجارية بالمداومة فيها تقوي الأخلاق المُشاكلة لها ، كما أن النظر في العلوم والمداومة على البحث عنها والدرس لها ، والمذاكرة فيها يقوي الحذق والرسوخ فيها ، وهكذا المداومة على استعمال الصنائع والدؤوب فيها يقوي الحذق والأستاذية فيها ، وهكذا جميع الأخلاق والسجايا والمثال في ذلك أن كثيراً من الصبيان إذا نشأوا مع الشجعان والفرسان وأصحاب السلاح وتربوا معهم وتطبعوا بأخلاقهم وصاروا مثلهم ، أن لم يكن في كل الخلق ففي بعض 0 وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق والسجايا التي يتطبع عليها الصبيان منذ الصغر ، أما بأخلاق الآباء والأمهات أو الأخوة والأخوات والأتراب والأصدقاء والمعلمون والأستاذين المخالطين لهم في تصاريف أحوالهم وعلى هذا القياس حكم الآراء والمذاهب والديانات جميعاً ) (2) وتأثير البيئة يبرز أيضاً في أن صناعة الآباء والأجداد تكون أنجع في الأولاد من صناعة الغير ، ولذلك يكون الحذق فيها (3) ثم يتطرقون الى اهتمام بعض الناس بصناعة معينة ولزوم عدم الخروج عنها (4)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 2 ، ص 446 – 447 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 307 0
(3) المصدر نفسه ، ص 291 0
(4) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 287 – 290 0(1/204)
ويتضح لنا من هذا ، ومن آرائهم الشبيهة المتفرقة في رسائلهم أهمية المحاكاة والتقليد ، وتأثير البيئة وكيف باستطاعة بيئة معينة أن تخلق شخصاً معيناً ، فضلاً عن أثر الوالدين وتصرفاتهم في مستقبل أبنائهم 0 فهذا القول يذكرنا بقول واطسن (1) وتطرفه الشديد للبيئة ، فهو يرفض الغريزة وآثار العقل الوراثية ويؤكد أن كل طفل سوي ، في بيئة ومران صالحين ، ممكن أن نكون منه أي نوعاً شئنا طبيب ، أو محامٍ ، أو فنان ، أو تاجر ... بل وحتى متسول أو لص ، بغض النظر عن مواهبه واتجاهاته وميوله وكفايته وعنصر أسلافه 0 وكذلك فقد أكد دوركهايم (2) وجبرييل تارد (3) و وليم جيمس (4)
__________
(1) ولد واطسن عام 1924 وهو من علماء النفس البارزين ، حيث أكد دور البيئة في تكوين شخصية الإنسان فنوع البيئة هو الذي يحدد نوع الشخصية 0 ينظر فراير ، هنري ، سباركس ، علم النفس العام ، ترجمة د0 إبراهيم يوسف المنصور، مطبعة المعارف بغداد ، ط 2 ، 1968 ، ص 314 0
(2) دوركهايم ، عالم اجتماع فرنسي ، ولد بفرنسا عام 1858 ، ويُعد زعيماً للمدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع ومنشأ علم النفس الحديث ، ولهذا الرجل الدور البارز في تأكيد التضامن الاجتماعي 0 ينظر د0 زيدون عبدالباقي ، التفكير الاجتماعي نشأته وتطوره ، مطبعة السعادة ، مصر ط 2 ، 1974 ، ص 286 0
(3) جبرييل تارد ، من مؤسسي علم النفس الاجتماعي في فرنسا ، عاصر دوركهايم ، ويُعد من أكبر ناقدي المدرسة الواقعية ، عمل مديراً لدائرة الإحصاء الجنائي في وزارة العدل ، ونال بعد ذلك كرسي الأستاذية في Collage Deference 0 ينظر د0 عبدالجليل الطاهر ، المشكلات الاجتماعية في حضارة متبدلة ، مطبعة دار المعرفة ، بغداد 1953 ، ص 181 0
(4) وليم جيمس ، عالم نفس أمريكي ، ولد عام 1842 ، وتوفى عام 1910 ، وهو صاحب كتاب Principles of Psychology حيث كان له الأثر البارز في علم النفس والتربية الأمريكية ، ينظر فراير هنري ، سباركس ، علم النفس العام ، ص 24(1/205)
وغيرهم من علماء الاجتماع والنفس الذين أكدوا أهمية المحاكاة والبيئة (1) ونود أن نشير الى إن إخوان الصفاء أقاموا التربية والتعليم على أسس دينية وأن دراساتهم في هذه الموضوعات لا تخلو من طرافة حسب ظروف عصرهم (2) وسيتضح لنا ذلك عند حديثنا عن موضوع القيم التربوية في صداقة إخوان الصفاء ، ويتضح ذلك أيضاً عند حديثنا عن موضوع التعليم 0
1- القيم التربوية في صداقة الإخوان
لقد تكلم إخوان الصفاء عن صداقتهم ونظام جمعيتهم في القسم الرابع من رسائلهم ويظهر من تأخير الحديث عن نظام الجمعية أنهم ما كانوا ليعلنوا تدابيرهم إلا للمتقدمين الراسخين من الإخوان ، فكانت الرسائل المتأخرة أعز منالاً من المتقدمة (3)
__________
(1) فؤاد البعلي ، فلسفة إخوان الصفاء الاجتماعية والأخلاقية ، ص 103 – 104 0
(2) مصطفى الخشاب ، الفلسفة وعلم الاجتماع ، مجلة عالم الفكر ، المجلد الثاني ، العدد الثاني ، سبتمبر 1971 ، ص 87 0
(3)
(1) كمال اليازجي ، أنطوان غطاس كرم ، أعلام الفلسفة العربية ، ص 485 0(1/206)
فقد بين الإخوان بأن لهم علاقات قوية تربطهم بأُناس من مختلف الطبقات فلهم علاقات وطيدة مع أولاد الملوك والأُمراء والعمال والكتاب وحكام الأقاليم ورؤساء الفلاحين ، وتربطهم علاقة أيضاً بأولاد التجار والعلماء والفقهاء وتمتد الى أولاد الصُناع والمتصرفين 0 وجعل الإخوان لكل طائفة من هؤلاء شخصاً من جماعتهم ينوب عنهم لمساعدتهم في أُمور الدين والدنيا ، فيلقي لهم النصيحة والمساعدة ويلقي عليهم من حكمته ، فضلاً عن التحنن والرفق والشفقة والرحمة بهم ويدعوهم الى الله سبحانه وتعالى والى ما جاء به الأنبياء وما أشار إليه الأولياء من أمر التنزيل والتأويل لإصلاح أمر الدين والدنيا (1) فإذا عرفوا أن هذا الصديق الجديد أو الأخ حسب تعبير إخوان الصفاء ، من الذين يخدمون السلاطين ويتصرف في أعمالهم فإنهم يوصون جماعتهم الذين في حضرة السلاطين أن يدارونهم ، وأن كان من أصحاب الأملاك يسهمون في الحفاظ على أملاكه من أيدي الظالمين ، وأن كان من الفقراء فيسهمون في تقديم العون له مما آتاهم الله من فضله ، وأن كان من المحتاجين الى العلم ويرغب بالحكمة والأدب وأمر الدين وطلب الآخرة فسوف يعلمونه مما علمهم الله عزّ وجلّ (2) ففي الوقت الذي يكون التعاون بين أهل الدنيا سهلاً يسيراً ، فأن تعاون الإخوان في تقديم خدمة العلم والمعرفة والتعاون في أمر الآخرة برأيهم له السهولة نفسها (3) فضلاً عن ذلك فأن الإخوان لا يستعينون بأحد من إخوانهم على أمر الدين قبل أن يعينوه هم على أمر الدنيا ، فأن كان غير محتاج لمساعدتهم فهذا ما يريدونه له ، وأن كان محتاجاً لهم فذلك ما يريدونه منه 0 فإذا كان محتاجاً للمساعدة فيقدمونها له وعندها يفرغ قلبه لهم فيعرفون ما علمه وهل لديه علمٌ جديد فأن كان كذلك فأنهم يقولون ( فأن كان عنده علم ليس
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 165 0
(2) المصدر نفسه ، ص 166 0
(3) المصدر نفسه ، ص 167 0(1/207)
عندنا تعلمنا منه تعلم صبيان الكتاب ، واستمعنا منه استماع المنصتين لخطبة الخطيب يوم الجمعة ، فأن كان حقاً ما يقول اتبعناه اتباع المأموم والإمام ، وإن كان يرغب فيما لدينا من العلم علمناه بحسب رغبته وطلبته) (1) والعلم الذي يأخذ به الإخوان يتسم بالشمولية على أساس أنهم لا يعادون علماً من العلوم ولا يتعصبون لمذهب من المذاهب ولا يهجرون كتاباً من تصنيف الحكماء والفلاسفة ، فضلاً عن ذلك فأن اعتمادهم في علومهم كما يقولون قائم على ما ورد في كتب الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ، وهذا نص قولهم ( وأعلم أيها الأخ أنا لا نعادي علماً من العلوم ، ولا نتعصب على مذهب من المذاهب ، ولا نهجر كتاباً من
كتب الحكماء والفلاسفة فما وضعوه وألفوه في فنون العلم ، وما استخرجوه بعقولهم وتفحصهم من لطيف المعاني 0 وأما معتمدنا ومعولنا وبناء أمرنا فعلى كتب الأنبياء ، صلوات الله عليهم أجمعين ، وما جاءوا به من التنزيل ، وما ألقت إليهم الملائكة من الأنباء والإلهام والوحي (2) ،
__________
(1) المصدر والصفحة نفسهما 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 167 0(1/208)
وكذلك فإن إخوان الصفاء جعلوا من كسب الأصدقاء شغلهم الشاغل وأكدوا ضرورة المحافظة على الصديق ، إذ قالوا ( ينبغي أن يكون أكثر كدك وعنايتك ، بعد اتخاذ الصديق حفظه ومراعاة أمره وأداء حقوقه حتى لا تصير الصداقة عداوة بعد طول الصحبة بملالة أو ضجر أو شكوك أو ظنون أو شبهة تدخل في المودة أو نميمة ووشاية من مخالف يسعى بينكما للفساد ، فتفقد يا أخي هذا الباب ولا تغفل عنه ) (1) وحتى يبين الإخوان أن صداقتهم هي الصداقة الحقة يقولون إن كل صداقة تنقطع بانقطاع أسبابها إلا صداقتهم لأنها قائمة على قرابة الرحم ورحمهم أن يعيش بعضهم لبعض ويرث بعضهم بعضاً ويشعرون أنهم نفس واحدة بحيث إذا قدم أحدهم خدمة للآخر لا يمن عليه لأنه يُعد تقديم هذه الخدمة لنفسه (2) وللصديق مكانة كبيرة عند إخوان الصفاء ، فقد فضلوه على الأهل والأقارب والعشيرة والجيران (3) ولم يقف الإخوان عند هذا الحد من الاهتمام بالصديق والحفاظ عليه فحسب وإنما أكدوا التضحية بالنفس من أجل الآخرين ما دام في فناء الجسد مصلحة للآخرين ، وأن الفناء إنما يصيب الجسد أما جوهر النفس فلا يصيبه الفساد والاضمحلال وهذا ما أكده الأنبياء والأولياء والفلاسفة (4) ، وبما أننا لسنا بصدد عرض مفصل عن صداقة الإخوان وإنما بصدد عرض القيم التربوية ونضيف إليها الأخلاقية في صداقتهم ، وتحقيقاً لذلك سندخل في المواضيع التي لها علاقة بذلك 0 ومن هذه المواضيع ، تأكيد إخوان الصفاء في صداقتهم على الشباب السالمي الصدور الراغبين في الآداب المبتدئين بالنظر في العلوم ، الذين يريدون طريق الحق التاركين للهوى المؤمنين بيوم الحساب ، الذين يبذلون قصار جهدهم في تعلم شرائع الأنبياء ، والبحث عن أسرار كتبهم ومن غير
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 47 0
(2) المصدر نفسه ، ص 48 0
(3) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 49 0
(4) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 24 ، 25 ، 26 ، 27 ، 32 ، 33 ، 35 ، 36 0(1/209)
تعصب لمذهب من المذاهب (1) أما أسباب تأكيد الإخوان الشباب فهي ، مبدؤهم القائل بأن الله تعالى ، لم يبعث نبياً إلا وهو شاب ولا أعطى الحكمة لعبد من عبادة إلا وهو حدث من الفتيان وإن هؤلاء ذكرهم الله تعالى ، بقوله (( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدى )) (2) وقال تعالى عنهم في قصة إبراهيم الخليل (( قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ )) (3) كذلك قوله تعالى (( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا )) (4) وهذا السبب الأول ، أما السبب الآخر لاختيار الشباب ، يرى الإخوان إن هؤلاء الشباب لم تُغرس في داخلهم بعد آراء فاسدة واعتقادات وعادات رديئة وأنهم أي الشباب لا يتعصبون لاعتقاداتهم ، فهم بخلاف المشايخ الهرمة الذين اعتقدوا من الصبا آراء فاسدة وعادات رديئة وأخلاقاً وحشية فهؤلاء يتعبون من يريد إصلاحهم ومن ثم فأن قليلاً منهم من يفلحون ، أما الشباب سالمي الصدور فهم بخلاف ذلك (5) فضلاً عن ذلك أن كل نبي بعثه الله سبحانه وتعالى ، كان أول من كذبه مشايخ قومه المتعاطين الفلسفة والنظر والجدال (6) ، واستشهد الإخوان بقوله تعالى عن عيسى بن مريم ، وتكذيب مشايخ قومه له فوصفهم الباري ، بقوله (( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) (7) 0 فتأكيد إخوان الصفاء ، الشباب ليس لهذه الأسباب التي ذكروها وحسب وإنما جاء تأكيدهم الشباب لكونهم يمثلون مصدر القوة والحيوية
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 52 0
(2) سورة الكهف ، آية 13 0
(3) سورة الأنبياء ، آية 60 0
(4) سورة الكهف ، آية 62 0
(5) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 151 0
(6) ينظر المصدر نفسه ، ص 51 – 52 0
(7) سورة الزخرف ، الآيات 57 ، 58 0(1/210)
والنشاط ، فيكون دورهم فعالاً في المجتمع وفي نشر آرائهم ومعتقداتهم وتحقيق أهدافهم التي لا تخفى على من قرأ رسائلهم 0 ولكن يجب أن لا نفهم من ذلك أن الإخوان لم يهتموا بكبار السن من المشايخ على الإطلاق وإنما كان ابتعادهم عن الذين يعتقدون اعتقادات خاطئة ويتعصبون لها على الرغم من كونها باطلة فهؤلاء من الصعوبة إصلاح حالهم أما المشايخ الذين يتميزون بالذكاء والقدرة على فهم أسرار الكتب الإلهية ، الذين ابتعدوا عن الهيولى وعلائقها بحيث أصبحوا مؤهلين لنزول قوة المعراج التي تصعد بها نفوسهم الى ملكوت السماء فتشاهد أحوال القيامة والبعث والنشر والحساب ... الخ من الغيبيات ، فأُناس كهؤلاء لهم مكانتهم العظيم عند إخوان الصفاء 0
2- مراحل التربية الإخوانية
تقوم مرتبة الفرد في جمعية إخوان الصفاء على أساس صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور كذلك تعتمد مراتبهم على أساس اختلاف أعمارهم ، فقسموا أعضاء جمعيتهم الى أربع مراتب وهي :
1- مرتبة أرباب ذوي الصنائع ، هي القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات الواردة على القوة الناطقة بعد خمس عشرة سنة من مولد الجسد ، والى هذه أشار الباري تعالى ، بقوله (( وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُم )) (1) ويسمونهم الإخوان الأبرار والرحماء 0
2- فوق هذه المرتبة مرتبة الرؤساء ذوي السياسات ، وهي مراعاة الإخوان وسخاء النفس وإعطاء الفيض والشفقة والرحمة والتحنن على الإخوان ، وهي القوة الحكمية الواردة على النفوس العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد وإليها أشار تعالى ، بقوله (( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْما )) (2) ويسمونهم الإخوان الأخيار الفضلاء 0
__________
(1) سورة النور ، آية 59 0
(2)
(1) سورة القصص ، آية 14 0(1/211)
3- فوق هذه المرتبة مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي والنصر والقيام بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق واللطف والمداراة في إصلاحه ، وهي القوة الناموسية الواردة بعد مولد الجسد بأربعين سنة ، وإليها أشار الباري بقوله (( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيّ)) (1) ويسمونهم الإخوان الفضلاء الكرام 0
__________
(1) سورة الاحقاف ، آية 15 0(1/212)
4- المرتبة الرابعة ، وهي فوق هذه المراتب الثلاث وهي التي وصفها الإخوان بقولهم ( التي ندعو إليها إخواننا كلهم في أي مرتبة كانوا ، وهي التسليم وقبول التأييد ، ومشاهدة الحق عياناً ، وهي القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد ، وهي الممهدة للمعاد والمفارقة للهيولى ، وعليها تنزل قوة المعراج وبها تصعد الى ملكوت السماء ) (1) وعند صعودها الى ملكوت السماء فإنها تشاهد أحوال القيامة من البعث والنشر والحساب والميزان والجواز على الصراط ... الخ من الغيبيات 0 فإخوان الصفاء يعطون قيمة كبيرة لأصحاب هذه المرتبة فقد قالوا ( والى هذه المرتبة أشار الله سبحانه وتعالى ، بقوله (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي )) (2) وقال تعالى عن إبراهيم (( وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ )) (3) وإليها أشار الباري بقوله تعالى ، عن يوسف (( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ )) (4) وإليها أشار المسيح عليه السلام ، بقوله للحواريين [ أني إذا فارقت هذا الهيكل ، فأنا واقف في الهواء عن يمين العرش بين يدي أبي وأبيكم ، أتشفع لكم فأذهبوا الى الملوك في الأطراف أدعوهم الى الله تعالى ، ولا تهابوهم ، فأني معكم حيث ما ذهبتم بالنصر والتأييد ] ) (5) 0 والى هذه المرتبة أشار سقراط بقوله يوم سقي السم ( إني وأن كنت أفارقكم
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 57 0
(2) سورة الفجر ، الآيات 27 ، 28 ، 29 ، 30 0
(3) سورة الشعراء ، آية 85 0
(4) سورة يوسف ، آية 101 0
(5) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 58 0(1/213)
إخوانناً فضلاء ، فإني ذاهب الى إخوان كرام قد تقدمون ) (1) وأشار الى ذلك فيثاغورس في آخر الرسالة الذهبية حيث قال ( أنك إذا فعلت ما أوصيتك عند مفارقة الجسد ، تبقى في الهواء غير عائد الى الإنسية ولا قابل للموت ) والى هذه المرتبة أشار بلوهر ليوزاسف إذ قال لوزيرة وكان من أهل هذه المقالة ( قل من أنت ؟ فقال من الذين يعرفون ملكوت السماء ) (2) فالإخوان يدعون الى هذه المرتبة جميع إخوانهم ويقولون إن الله تعالى ، أشار الى هذه المرتبة بقوله (( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (3) وفي حديث إخوان الصفاء عن صداقتهم تكلموا عن مجالسهم وأن ما ذكروه يدل على أن صداقتهم قائمة على أسس تربوية وتعليمية ، فمن المعروف أن الإخوان جعلوا لهم مجالس خاصة في أوقاتٍ معلومة وهذه المجالس لا يحق لغيرهم دخولها ، وهم في هذه المجالس يتذاكرون علومهم ويتحاورون فيها أسرارهم ، فأكدوا علم النفس ، والحس والمحسوس ، والعقل والمعقول ، والنظر والبحث عن أسرار الكتب الإلهية ، والتنزيلات النبوية ، ومعاني ما تضمنتها موضوعات الشريعة 0 كذلك يتذاكرون العلوم الرياضية الأربعة وهي ، العدد ، والهندسة ، والتنجيم ، والتأليف (4) ولكنهم جعلوا جُلّ اهتمامهم بالعلوم الإلهية التي هي غرضهم الأقصى (5)
__________
(1) حول موقف سقراط من الموت ، ينظر مثلاً ، د0 محمد علي أبو ريان ، تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 1 ، الفلسفة اليونانية من طاليس الى أفلاطون ، ص 122 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 58 0
(3) سورة يوسف ، آية 25 0
(4) إن هذه المباحث تمثل مناهج التربية العالية عند إخوان الصفاء ، ينظر ، د0 عبدالله عبدالدايم ، التربية عبر التأريخ من العصور القديمة حتى أوائل القرن العشرين ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ط 3 ، 1973 ، ص 258 0
(5) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 41 0(1/214)
على أنا في الرسالة الجامعة نجد معلومات أكثر عن مجالسهم 0 فقد حددوا المدة بين مجلس وآخر باثنتي عشر يوماً فيأتون الى هذا المجلس بعد أن يأمنون فيه على أنفسهم فيجتمعون كما يقول الإخوان على تقوى الله ، وأن على الحاضرين للمجلس أن يتطهروا ويتنظفوا قبل حضورهم المجلس وأن لا يغيب أحدهم عن هذا المجلس إلا لعذر مقنع يبرر عدم حضوره 0 وأكدوا على من يتولى رئاسة المجلس أن يخرج بهيبة ووقار وسكينة ويبرز عليهم كبروز النفس الكلية للنفوس الجزئية فيلقي على الجالسين من حكمته حسب ما يحتمله الوقت وبما تحتمله عقولهم ، وبعدها يحثهم على طلب العلم ويوجههم على أن يجعلوا أكثر عنايتهم وسعيهم في البحث عن الأمور الإلهية والأسرار العقلية التي هي الغرض الأقصى من مجالسهم (1) فضلاً عن ذلك يجب على من يترأس المجلس أن يتفقد أحوال الحاضرين ويحثهم على تفقد أحوال بعضهم لبعض وتدبير أمورهم ويجب عليه أن يعلمهم السياسات الدينية والدنيوية وما يجب لهم وما يجب عليهم ، وأن لا يباغض بعضهم بعضاً وأن يؤدوا الأمانة ويتركوا الخيانة وأن يحب بعضهم بعضاً ، كما يجب على من يترأس المجلس أن يُعرّف الحاضرين بأخلاق الأنبياء وصفات الحكماء وأخلاق المؤمنين 0 ومن المهام الأُخرى التي يقوم بها من يترأس المجلس ، وهي مهام تتعلق بالجانب التعليمي كعرض الرسائل من أولها الى آخرها وشرحها رسالة رسالة ومقالة مقالة ومن خلال عرضه للرسائل يتعرف على الذين فهموها من الحاضرين فعندها يستخلصهم له ، وحتى يكونوا مؤهلين للإستخلاص أكثر فأنه يمتحنهم في مواطن المحبوبات عندهم ، فيأمرهم بترك الأوطان ومفارقة الأحباب وما يلحقها من إيتام الأولاد وترميل النساء 0 ويأمرهم أيضاً بإنفاق الأموال والجهاد بالنفس فمتى ما فعلوا كل هذه الأشياء عندها يستخلص رئيس المجلس هؤلاء لنفسه وعندها يتلو عليهم من حكمته ،
__________
(1) الرسالة الجامعة ، للحكيم المجريطي ، تحقيق جميل صليبا ، ج2 ، ص 396 0(1/215)
فيقرأ عليهم ما غمض من الأسرار المخزونة والعلوم المكنونة ويشرح لهم ما في الرسالة الجامعة ، ويشرح الكتب الأخرى وهي المدارس الأربع ، والكتب السبعة ، والجفران ، والرسائل الخمس والعشرون (1) والرسائل الإحدى والخمسون فضلاً عن الجامعة (2) ولا يقف دور رئيس المجلس عند هذا الحد وحسب وإنما يجب أن يكون بمثابة أب شفيق ، وطبيب رفيق ، غير متكبر ولا متجبر ، يحدد ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات 0 هذا فيما يخص الذين أثبتوا جدارتهم بأن يصطفيهم رئيس المجلس لنفسه 0 أما الذين لم يثبت على ما فرض عليه من ترك المحبوبات أو أنه زل ، فيقول الإخوان ( وأن زلت به قدم فاعتمد على الأخرى ، وأن زلت به القدمان وعدم المنزلتين ، فخله في مكانه ولا تعني بشأنه وأطوِ عنه ما كنت ذكرته ، لئلا يحتج به عليك في باطلة وما يبديه من سوء عمله ، إذا اتبع الشياطين ورافق الظالمين وأغلق دونه بابك وأسبل فيما بينك وبينه حجابك ) (3) ولكن هذا لا يعني معاداته والحقد عليه وإنما يجب أن لا يعامل من هذه حالة بخشونة القول ، وإنما يجب معاملته بالقول اللين والموعظة فإن تاب وأناب فهو المطلوب منه ، أما إذا بقى على حالة فما على الرسول إلا البلاغ المبين 0 يتضح لنا من ذلك أن هذه المجالس تحتوي على قيم تربوية وتعليمية 0 أما الآن فنود أن نشير الى مسألة مهمة وهي مسألة انفتاح الذهن ونقد الاعتقادات عند الإخوان 0 و تسعى التربية الحديثة نحو تحقيق هذا النقد ، فقد وردت لهم عبارات جريئة جداً في ضوء قرينتها التاريخية وظروفها الاجتماعية السائدة آنذاك وفي الوقت الحاضر أيضاً في كثير من المجتمعات المعاصرة بحيث أن المرء يتهيب عند الاستشهاد بها (4)
__________
(1)
(1) لا يعرف محتوى المصنفات الثلاثة الأخيرة وإنما يذكرون أسماءها من دون تحديد مضمونها 0
(2) الرسالة الجامعة ، للحكيم المجريطي ، ج2 ، تحقيق ، جميل صليبا ، ص 397 ، 398 ، 399 0
(3) المصدر نفسه ، ص 400 – 401 0
(4) ينظر ، د0 نوري جعفر ، آراء ومواقف تربوية ونفسية صائبة في التراث العربي الإسلامي ، ص 21 0(1/216)
إذ قالوا ( فأعلم أن الحق في كل دين موجود ، وعلى كل لسانٍ جارٍ ، وأن الشبهة دخولها على كل إنسان جائز ممكن : فاجتهد يا أخي أن تبين الحق لكل صاحب دين ومذهب مما هو في يده ، أو مما هو متمسك به وتكشف عن الشبهة التي دخلت عليه ، أن كنت لا تحسنها ولا تمسك بما أنت عليه من دينك ومذهبك ، واطلب خيراً منه ، فأن وجدت فلا يسعك الوقوف على الأدون ، ولكن واجب عليك الأخذ بالأخير الأفضل والانتقال إليه 0 ولا تشغلن بذكر عيوب مذاهب الناس ولكن أنظر هل مذهبك بلا عيوب ) (1) وقالوا أيضاً ( وأعلم أن الإنسان العاقل قد تخفى عليه عيوب مذهبه ، كما تخفى عليه مساوئ أخلاقه وقبائح أفعاله وسيئات أعماله ، وتسنح له عيوب غيره ومساوئ أخلاقه وقبيح أفعاله كما قيل في المثل ، يا ابن آدم لك محلان أحدهما فيه عيوب نفسك ، وفي الآخر عيوب غيرك ، وأنت قد جعلت التي فيها عيوب غيرك قدام وجهك ، ولا تزال تطلع عليها والتي فيها عيوب نفسك تجعلها خلف ظهرك فلا تلتفت إليها (2)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 501 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 501 0(1/217)
هذا ولم تقف عملية النقد هذه عند الاعتقادات وحسب ، وإنما اخضعوا الصداقة أيضاً للنقد ، فتكلموا عن شروط الصداقة وعن الأسباب المانعة لها 0 أما عن الأسباب فقد بينوا أن على الفرد إذا أراد اتخاذ صديق يجب عليه التأكد من مسائل عده ، إذ قالوا ( وينبغي لإخواننا أيدهم الله ، حيث كانوا في البلاد ، إذا أراد أحدهم اتخاذ صديقاً مجدداً أو أخاً مستأنفاً أن يعتبر أحواله ، ويتعرف أخباره ، ويجرب أخلاقه ويسأل عن مذهبه واعتقاده ، ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أم لا ، لأن في الناس أقواماً طبائعهم متغايرة خارجة عن الاعتدال وعاداتهم رديئة مفسدة ومذاهبهم مختلفة جائرة 0 فمنهم خير وشرير ، وكفور وشكور وسخي وبخيل وجبان وحسود وودود ... وما شاكل هذه الأخلاق المحمودة والمذمومة ، متضادات بعضها لبعض ... أما شر هذه الطوائف كلها من لا يؤمن بيوم الحساب ) (1) وشر الأخلاق كبر إبليس وحرص آدم وحسد قابيل ، وهي أمهات المعاصي (2) وأن للعادات التأثير الكبير في الأخلاق إذ قالوا ( وأن العادات الرديئة تقوي الأخلاق الرديئة ، والعادات الجميلة تقوي الأخلاق المحمودة ، وهكذا حكم الآراء والاعتقادات ، فأن من الناس من يرى ويعتقد في دينة ومذهبة أنه حلال له سفك دم كل مخالف له في مذهبة ، مثل اليهود والخوراج وكل من يكفر بالرب ) (3) 0 فمن يريد أن يختار صديقاً يجب عليه أن يتأكد من كل هذه المسائل المشار إليها في أعلاه وأن ينتقيه كما ينتقي الدنانير والأراضي الطيبة الصالحة للغرس أو كما ينتقي الناس أمر التزويج ، وشرى الممالك والأمتعة ، وعملية الانتقاء هذه تصبح هينة إذا ما قورنت بمسألة اتخاذ الصديق والسبب في ذلك كما يقول الإخوان ( وأعلم يا أخي أن الخطب في اتخاذ الإخوان أجل وأعظم خطراً من هذه كلها ، لأن إخوان الصدق
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 43 0
(2) المصدر والصفحة نفسهما 0
(3) المصدر نفسه ، ص 44 0(1/218)
هم الأعوان على أمور الدين والدنيا جميعاً وهم أعزُّ من الكبريت الأحمر ) (1) ومن المسائل التي أكدها الإخوان ، أن على من يريد اتخاذ صديق وبعد أن يعرف عاداته وأخلاقه ومذهبة ، يجب عليه أن يتأكد هل هذا المراد صداقته هو فعلاً صديق أو أنه ظاهراً يبدو كذلك ولكنه باطناً يضمر خلاف ما يظهر ، فقالوا ( وأعلم يا أخي أن من الناس من لا يصلح للصداقة والأخوة والمقاربة أصلاً ألبته 0 فأنظر من تصحب وتعاشر ، ولا تغتر بظاهر الأمور من غير معرفة بواطنها ولا بحلاوة العاجل من قبل النظر في مرارة عاقبتها 0 فإذا أردت اتخاذ أخٍ أو صديق فاعتبر أحواله ... وانظر في عاداته وسجيته وشمائله وحركاته ، فأنه لا يخفى على المتفرس بواطن الأمور إذا نظر الى ظواهرها ) (2) فضلاً عن ذلك يجب أن لا تقوم الصداقة بين فردين متضادين في الطباع ، وذلك لأن الضدين لا يجتمعان ، فالسخي والبخيل على سبيل المثال لا تتم بينهما صداقة قائمة على المودة الصافية والعيشة الهنية وسبب ذلك كما يقول الإخوان ( لأنه إذا فعل السخي شيئاً مما يوجبه سخاؤه من بذل المال أو المعروف ، رآه البخيل بصورة المضيع قد فعل ما لا ينبغي ولا يجوز 0 وإذا فعل البخيل بطبعه شيئاً من إمساك المال مما يوجبه بخلة ، رآه السخي بصورة من قد آتى منكراً لا يحسن فعله ، فيصير ذلك سبباً لعيب كل واحد منهما على صاحبه ، حتى يعتقد البخيل في السخي ، سخف الرأي وتضييع المال وترك النظر في العواقب ، ويعتقد السخي في البخيل النذالة والدناءة وصغر النفس وقصور الهمة ، فإذا وقع بينهما ودام ، صارت وحشه وتواترت حتى تصير عداوة ، وتصير العداوة الى الصرامة 0 وهذا القياس في كل خلقين مختلفين متضادين ، فإنهما يوجبان المنازعة ، والمنازعة توجب المغالبة ، والمغالبة تنتج المغايظة ، والمغايظة توجب المباغضة ، والمباغضة ضد الصداقة ) (3)
__________
(1) المصدر والصفحة نفسهما 0
(2) المصدر نفسه ، ص 45 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 47 0(1/219)
0 هذا فيما يتعلق بالشروط اللازم توافرها في الصديق والتي يجب التأكد من توافرها 0 أما عن الأسباب المانعة للصداقة فقد حددها الإخوان بأربعة أجناس ، أحدها سوء أعمالهم ، والثاني فساد آرائهم ، والثالث رداءة أخلاقهم ، والرابع تراكم جهالاتهم 0 فسوء الأعمال يكون حسب آرائهم الفاسدة التي اعتقدوها قبل بحثهم عن حقائق الأشياء ، وأن آرائهم الفاسدة استحكمت في ضمائرهم حسب جهالاتهم المتراكمة التي غشيتهم في أول الأمر 0 أما الجهالات المناعة للصداقة فقد حددها الإخوان بأربعة أجناس أيضاً ، إذ قالوا ( وأعلم أن الجهالات التي غشيتنا المناعة لنا من الصداقة و صفوة الأخوة وهي أربع جهالات :- إحداها أنهم لا يعرفون ما الفرق بين النفس والجسد ، والثانية أنهم لا يدركون كيف رباط النفس بالجسد ، والثالثة أنهم لا يدرون لمَ ربطت بالجسد ، والرابعة أنهم لا يدرون كيف تنبعث النفس من الجسد (1) فمتى ما تطهر الآخرون من هذه الأسباب والجهالات المانعة للصداقة ، فيجب على الأصدقاء عند ذلك توحيد قوى أجسادهم بحيث تكون قوة واحدة وترتيب نفوسهم وبناء مدينة فاضلة روحانية (2) 0 وهذه المدينة يكون بناؤها في مملكة صاحب الناموس الأكبر الذي يملك النفوس والأجساد (3) 0وإذا كانت التربية وثيقة الصلة بالأخلاق أو بعبارةٍ أخرى إذا قلنا تربية إنما يتبادر الى ذهن الإنسان التربية على الأخلاق ، فمن المناسب أن نتكلم عن الأخلاق وكيف نظر إليها إخوان الصفاء 0
3- الأخلاق
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 47 0
(2) لمزيد من التفصيل عن المدينة الفاضلة عند ، إخوان الصفاء ينظر الرسائل ، ج 4 ، من ص 171 – 175 ، كذلك ينظر فؤاد البعلي ، مدينة إخوان الصفاء الفاضلة ، مجلة الأقلام السنة الثالثة ، العدد الثاني ، 1966 ، من ص 101 – 105 ، ينظر كذلك البعلي ، فلسفة إخوان الصفاء الاجتماعية والأخلاقية ، من ص 86 – 93 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، 171 0(1/220)
تناول إخوان الصفاء مواضيع عديدة في الأخلاق وهي تعبر عن مدى اهتمامهم بهذا العلم 0 ومن أبرز المواضيع التي تكلم عنها الإخوان بعد تأكيدهم تهذيب النفس ، موضوع اختلاف الأخلاق بين الناس ، إذا ارجعوا أسباب هذه الاختلافات الى أربعة أسباب وهي :-
أ. من جهة اختلاف أخلاط أجسادهم ومزاجها 0
ب. من جهة تربة بلدانهم واختلاف أهويتها 0
ج. من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم ومعلميهم وأستاذيهم ومن يربيهم ويؤدبهم 0(1/221)
د. من جهة موجبات أحكام النجوم في أصل مواليدهم ومساقط نطفهم ، وهي أصل الأسباب وباقيها فروع لها (1) ، نلاحظ أن الإخوان يذهبون مذهباً معتدلاً متوازناً في سبب أخلاق الإنسان وسيرته ، فمنهم من يعطون للطبع أهمية معينة أو بعبارة أخرى للوراثة ، وذلك عندما يعطون لأخلاط الأجساد أهمية وكذلك عندما يذهبون الى أثر النجوم في التحكم بالجنين في بطن أمه شهراً بعد شهر ، نراهم لا ينسون الأثر الاجتماعي أو البيئة الاجتماعية في التربية ، فهم يعطون أهمية للبيئة وما تحويه من تربة وهل هي جبلية أو سهلية ، وعن أثر الهواء هل هو جاف أو رطب ، وربما يقصدون هنا إذا كان البلد صحراوياً أم بحرياً ، إذا وقع في سهل تكثر فيه الأشجار أو أنه بلد جبلي قاسٍ إذ لا شك أنه يؤثر في تنشئتة وأخلاقية الفرد ، فضلاً عن أثر التربية وما يجده الفرد من دين وعلوم وآداب عند آبائه يجد نفسه ملزماً بالسير على خطاهم ، كذلك الأثر الكبير للأستاذ والمربي على الفرد ، فالإخوان يمزجون بين الوراثة والبيئة في الإنسان من حيث اكتساب الأخلاق والسير على هديها (2) فأما عن السبب الأول ، يرى الإخوان أن أخلاط الجسد لا شك تؤثر في الإنسان طوال حياته ، ولذا فإن الإخوان يعطون صفات مميزة لكل صنف من الناس ممن تختلف أخلاط جسمه عن الآخر 0 فمحروري الطباع من الناس ولا سيما مزاج القلب يكونون على أكثر الأمر شجعان القلوب ، أسخياء النفوس ، متهورين في الأمور المخوفة ، قليلي الثبات والتأني في الأمور ، مستعجلي الحركة شديدي الغضب ، سريعي المراجعة ، قليلي الحقد ، أذكياء النفوس ، حادي الخاطر ، جيدي التصور 0 أما المبرودين في أكثر الأحوال فيكونون بليدي الذهن ، غليظي الطباع ، ثقيلي الأرواح ، غير نضجي الأخلاق 0 أما المرطوبون فيكونون في أكثر الأمر
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 299 0
(2) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 102 – 103 0(1/222)
ذوي طباع بليدة وقلة ثبات في الأمور ، ليني الجانب ، سمحاء النفوس ، طيبي الأخلاق ، سهلي القبول ، سريعي النسيان ، مع كثرة تهور في الأمور الطبيعية 0 أما ما يخص يابسي المزاج ، فيكونون في أكثر الأمور صابرين في الأعمال ، ثابتي الرأي عسري القبول ، الغالب عليهم فضلاً عن الصبر ، الحقد والبخل والإمساك والحفظ (1) 0 أما عن السبب الثاني في اختلاف أخلاق الناس ، فهو اختلاف طبيعة البلدان وأهويتها ، إذ يرى الإخوان ، أن ترب البلدان والمدن والقرى تختلف كما تختلف أهويتها وتتغير من جهات عدة ، فمنها كونها في ناحية الجنوب أو الشمال أو الشرق أو الغرب ، أو على رؤوس الجبال أو في بطون الأودية والأغوار أو على سواحل البحار أو شطوط الأنهار أو في البراري والقفار أو في الأراضي الرملية أو الأراضي السبخة ، فلهذه الترب تأثير في تشكيل أخلاق أبنائها 0 أما عن اختلاف الأهوية ودورها في اختلاف الأخلاق من جهة أخلاط الجسد والأمزجة ، فبينوا أن أهوية البلاد والبقاع تختلف باختلاف تصاريف الرياح وحسب مطالع البروج عليها ومطارح شعاعات الكواكب عليها ، وهذه كلها تؤدي بدورها الى اختلاف الأهوية ، ومن ثم اختلاف أمزجة الأخلاط ، وأن اختلاف هذه الأمزجة يؤدي الى اختلاف أخلاق أهلها وطباعهم وألوانهم ولغتهم وعاداتهم ومذاهبهم وأعمالهم وصنائعهم ... الخ فتنفرد كل أمة منها بأشياء معينة من هذه التي تقدم ذكرها بحيث لا يشاركهم فيها قوم آخرون 0 وضرب الإخوان مثال عن ذلك ، أن الذين يولدون في البلاد الحارة ويتربون هناك وينشأون على ذلك الهواء يكون الغالب على باطن أمزجة أبدانهم البرودة ، لأن الحرارة والبرودة هما ضدان لا يجتمعان في حال واحدة وفي موضع واحد ، فعند ظهور أحدهما يستبطن الآخر ويستجن ليكونا موجودين في دائم الأوقات (2)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 299 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 302 ، لمزيد من التفصيل ينظر د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 105 – 106 0(1/223)
0 أما عن السبب الثالث لاختلاف الأخلاق وهو اختلاف المعتقدات ، فيرى الإخوان أن من الناس من يكون اعتقاده تابعاً لأخلاقه ومنهم بالعكس ، فأما الذي يكون اعتقاده تابعاً لأخلاقه فهو من الناس الذين طبعوا على طبيعية مريخية أو مشترية ، فالمطبوع على طبيعة مريخية كما يرى الإخوان ، تميل نفسه عادة الى الآراء والمذاهب التي يكون فيها التعصب والجدل والخصومات أكثر ، وهكذا من يكون مطبوعاً على طبيعة مشترية ، فأن نفسه تكون مائلة الى الآراء والمذاهب التي فيها الزهد والورع واللين أكثر ، وعلى هذا القياس توجد آراء الناس ومذاهبهم تابعة لأخلاقهم 0 أما الذين تكون أخلاقهم تابعة لاعتقادهم ، فهم الذين إذا اعتقدوا رأياً أو ذهبوا مذهباً وتصوروه وتحققوا به صارت أخلاقهم وسجاياهم مشاكلة لمذهبهم واعتقادهم ، وذلك لأنهم سيصرفون أكثر همهم وعنايتهم في نصرة مذهبهم وتحقيق اعتقادهم (1) 0 أما عن السبب الرابع لاختلاف أخلاق الناس وهو اختلاف موجبات أحكام النجوم ، فيرى الإخوان أن الذين يولدون بالبروج النارية في الأوقات التي يكون المستولي عليها الكواكب النارية مثل المريخ وقلب الأسد وما شاكلة من الكواكب ، فأن الغالب على أمزجة أبدانهم الحرارة وقوة الصفراء ، أما الذين يولدون بالبروج المائية في الوقت الذي يكون المستولي عليها الكواكب المائية ، مثل الزهرة والشعرة اليمانية 0 فأن الغالب على أمزجة أبدانهم الرطوبة والبلغم 0 أما الذين يولدون بالبروج الترابية ، فالغالب على أمزجة أبدانهم كما يرى الإخوان ، اليبوسة والمرة السوداء 0 أما ما يخص الذين يولدون بالبروج الهوائية في الأوقات التي يكون المستولي عليها المشتري وما شابهه من الكواكب السيارة ، فالغالب على أمزجة أبدانهم الدم والاعتدال (2) هذه أهم أسباب اختلاف الناس بالأخلاق ،
__________
(1) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 307 – 308 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 304 – 305 0(1/224)
واتضح لنا بأن السبب الرابع هو الأصل وباقي الأسباب فروع له 0
أما عن أقسام الأخلاق 0 فيرى الإخوان أن الأخلاق بعضها طبيعية مركوزة في الجبلة ، وبعضها نفسانية اختيارية ، وبعضها عقلية فكرية ، وبعضها ناموسية سياسية (1) ومنها فروع تابعة للأصول (2) ، لنبدأ بالأخلاق المركوزة 0 إذ يرى الإخوان أن هذه الأخلاق إنما هي تهيؤ ما في كل عضو من أعضاء الجسد بحيث يسهل على النفس إظهار فعل من الأفعال أو عمل من الأعمال أو تعلم علم من العلوم أو أدب من الآداب أو سياسة من السياسات ... الخ من غير فكر ولا روية فالإنسان كما يرى الإخوان أنه متى كان مطبوعاً على الشجاعة ، فأنه يسهل عليه الإقدام على الأمور المخوفة من غير فكر ولا روية ما دام مطبوعاً عليها ، وهكذا الحال فيما يخص بقية الأخلاق والسجايا المطبوعة أو المركوزة في الجبلة (3) ، أما الإنسان المطبوع على الضد من ذلك ، فيحتاج كي يكون شجاعاً على سبيل المثال وحتى يأتي بالأفعال المخالفة لما طبع عليه الى فكر وروية واجتهاد وكلفة ويحتاج الى أمر ونهيي ووعد ووعيد وترهيب وترغيب ، ومن المسائل التي أكدها الإخوان أن أكثر أوامر الناموس ونواهية جاءت ضد ما هو مركوز في الجبلّة ، ولهذا السبب كان وعده ووعيده وترهيبه وترغيبه (4) ، ونود أن نبين معنى قول الإخوان هذا 0 إذ يرون أن الإنسان إذا أمعن النظر بعقله وفكر برويته وتأمل أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده ووعده ووعيده وترهيبه وترغيبه عندها سيجد أن أكثر أوامر الناموس جاءت بخلاف ما هو مركوز في جبلة الإنسان من تركيب الشهوات وطلب الراحة والنعيم والتلذذ 0 فالناموس أمر بالصيام وترك الأكل والشرب عند شدة الجوع والعطش ، وأمر بالطهارة عند البرد
__________
(1) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 107 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 305 0
(3) المصدر والصفحة نفسهما 0
(4) ينظر المصدر نفسه ، ص 305 – 306 0(1/225)
وبالقيام للصلاة وفي الصلاة وترك النوم على الفرش الوطيئ ، وأمر بالمواساة عند القلة وشدة الحاجة ، وبالتعفف عند هيجان الشهوة ، وبالحلم عند الغضب،وبالشجاعة عند المخاوف ، وبالعفو عند المقدرة ، وأمر أيضاً بالعدل عند القضاء ، وبالصبر عند الشدائد ، وبحسن العزاء عند المصائب ، وصدق القول عند شدة الخوف منه وأمر أيضاً بالسخاء عند شدة الفقر والزهد في الدنيا ... الخ من الأعمال والأخلاق والسجايا التي في الجبلة خلافها وفي الطباع مركوزة غيرها 0 وأضاف الإخوان الى ما ذكروه قائلين ( يروى في الخبر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن معنى قوله تعالى (( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )) (1) فقال صلى الله عليه وسلم [ جمع في هذه الآية مكارم الأخلاق وهي سبعة ، عفوك عمن ظلمك وإعطاؤك من حرمك ، وصلتك لمن قطعك ، وإحسانك الى من أساء إليك ، ونصيحتك لمن غشك ، واستغفارك لمن اغتابك ، وحلمك عمن أغضبك ] (2) فهذه هي أخلاق الكرام من أولياء الله ) (3) 0أما عن الأخلاق وأيهما أصل وأيها فرع له ، فهذه المسألة تتضح لنا من خلال حديث الإخوان عن أخلاق أهل الدنيا وأهل الآخرة 0 يرى الإخوان أن أخلاق أهل الدنيا وسجاياهم طبيعية مركوزة في الجبلة ، وذلك لأنهم وردوا الى الدنيا جاهلين غير مستعدين لها فأُزيحت عللهم في ذلك 0 أما أبناء الآخرة فأخلاقهم مكتسبة معتادة ، وذلك لأن عللهم أُزيحت قبل ورودهم الى الآخرة ، بما أعلموا بها وأخبروا عنها وبشروا بها وأنذروا منها وسعوا في طلبها وتبين لهم طريقها ، فأُناس كهؤلاء أُزيحت عللهم فيما يحتاجون إليه من البيان والاستطاعة والقدرة والأمر والنهي والوعد والوعيد والترهيب والترغيب وما شابة ذلك مما هو بين في أحكام الناموس وحدوده وفي
__________
(1) سورة الأعراف ، آية 199 0
(2) لم يرد هذا الحديث في كتب الحديث 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 333 0(1/226)
موجبات العقل وقضاياه (1) والأخلاق المكتسبة قسمان منها ما هي محمودة ومنها ما هي مذمومة 0 فالمحمودة منها ما هي بموجب العقل وقضاياه ، ومنها ما هي بموجب أحكام الناموس وأوامره 0 وهكذا حكم المذمومة منها أي التي تُكسب بخلاف العقل وبخلاف الناموس (2) ، يتضح لنا مما ذكره الإخوان أن الأصل في الأخلاق ، هي الأخلاق المكتسبة بموجب الناموس والعقل وباختيار من الإنسان ، وهذه الأخلاق تمثل أخلاق بني الآخرة 0 ومن المواضيع الأخرى التي تناولها إخوان الصفاء ، في الأخلاق ، موضوع الأخلاق وقوى النفس 0 إذ يرون أن من الأخلاق والقوى ما هي منسوبة الى النفس النباتية الشهوانية ، ومنها ما هي منسوبة الى الحيوانية الغضبية ، ومنها ما هي منسوبة الى النفس الإنسانية الناطقة ، ومنها ما هي منسوبة الى النفس العاقلة الحكمية ، ومنها ما هي منسوبة الى النفس الناموسية الملكية 0 فأما المنسوبة الى الشهوانية من الخصال والقوى أولها شهوة الغذاء ، ومن القوى المختصة بها سبعة قوى أخرى وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصورة (3) ، وهذه القوى والخصال مركوزة كلها في الجبلة من غير فكر ولا روية 0 وقد رتبت هذه الأجزاء بمعاونة الطبيعة أفرادها أو نفوسها 0 ودلالة على تأييد الباري ، لها على طلب مشتهياتها والوصول الى منافعها ، والفرار من المضر منها 0 أما القوة الحيوانية فتنسب لها الخصال التي ذكرناها فضلاً عن شهوة الجماع والانتقام والرياسة (4) وأما المنسوبة الى النفس الناطقة المختصة بها زيادة على ما تقدم ذكره فهي شهوة العلوم والمعارف والتبحر والاستكثار منها ، وشهوة الصنائع والحذق بالأعمال ، ومنها شهوة العزة والرفعة والترقي والسعي
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 335 0
(2) المصدر والصفحة نفسهما 0
(3) المصدر والصفحة نفسهما 0
(4) مجيد مخلف طراد ، العدالة عند فلاسفة الإسلام من الكندي الى ابن سينا ، رسالة ماجستير ، ص 187 0(1/227)
في طلبها (1) فقد يتحمل الكائن لأجلها المشقة والذل وقد يصيبه الفرح والسرور من وجدانها وعند الوصول إليها وقد يعتري نفسه حزن وغم إذا لم يحققها أو فشل في الوصول إليها (2) فضلاً عن ذلك يرى الإخوان إن هذه النفس خُصت بالعقل الغريزي وخصاله المحمودة وهذه من نعم الله (3)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 315 0
(2) مجيد مخلف طراد ، العدالة عند فلاسفة الإسلام من الكندي الى ابن سينا ، ص 188 0
(3)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 316 0(1/228)
0أما ما ينسب من الخصال المحمودة الى النفس الملكية فهي شهوة العلوم والمعارف وما أُعينت به على طلبها وإدراكها والوصول إليها من الخصال المركوزة والقوة المجبولة ، كالذهن الصافي والفهم الجيد ، وذكاء النفس ، وصفاء القلب ، وسرعة الخاطر والقدرة على التخيل وجودة التصور ، فضلاً عن الفكر والروية والتأمل والاعتبار والنظر والاستبصار والحفظ والذكاء ومعرفة الأخبار والروايات ، ووضع القياسات واستخراج النتائج منها ، فضلاً عن ذلك فقد أضاف الإخوان لها التكهن والقيافة والفراسة وقبول الوحي والإلهام ورؤية المنامات والإنذار بالكائنات من خلال معرفتها لعلم النجوم والزجر (1) 0 أما التي تنسب الى النفس الملكية القدسية ، فهي شهوة القرب الى الله والزلفى لديه وقبول الفيض منه وإفاضة الجود على من دونها على أبناء جنسها 0 هذه جملة الشهوات المركوزة في كل جنس من النفوس ، ولكن التي تعم هذه النفوس من الخصال هي شهوة البقاء على أتم الحالات وأكمل الغايات ، وكراهية الفناء والنقص عن الحال الأفضل والأكمل0 أما سبب حب هذه الموجودات للبقاء وكرهها للفناء كما يرى الإخوان ، فهو أن الباري تعالى لما كان هو علة الموجودات ومبدعها ومخترعها ومبقيها ومتممها ، ومبلغها الى أقصى مدى غايتها وأفضل حالاتها ، وكان جل ثناؤه دائم البقاء لا يعرض له شيء من الفناء ، صار من أجل ذلك في جبلة كل الموجودات حب البقاء وشهوته وكراهية الفناء وبغضه ، لأن في جبلة المعلول توجد بعض صفات العلة دلالةً دائمةً عليها (2) 0 ومن المواضيع المهمة التي تناولها إخوان الصفاء عند حديثهم عن الأخلاق ، فكرتي الخير والشر ، والفضيلة والرذيلة ، إذ تعد هذه الأفكار الموضوع الأساس للأخلاق 0
__________
(1) المصدر والصفحة نفسهما 0
(2) المصدر نفسه ، ص 317 0(1/229)
يرى إخوان الصفاء وهذا ما بيناه في حديثنا عن أقسام الأخلاق ، أن أخلاق الإنسان وأفعاله بعضها طبيعية مركوزة في الجبلة ، وبعضها نفسانية اختيارية ، وبعضها عقلية فكرية ، وبعضها ناموسية سياسية (1) وحتى يعطي الإخوان حكماً على خير الأفعال أو شرها ، بينوا بأن الطبيعة خادمة للنفس ومقدمة لها والنفس خادمة للعقل ومقدمة له ، فالطبيعة إذا أصلت خلقاً وركزتة في الجبلة ، جاءت النفس بالاختيار فأظهرته وبينته وبعد ذلك يقوم العقل بالفكر والروية فيتممه ويكمله ، ثم يأتي الناموس بالأمر والنهي فيسويه ويقومه ويعدله ، فمتى ما ظهرت من الطبيعة هذه الشهوات المركوزة في الجبلة ، وكانت على ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي من أجل ما ينبغي سميت خيراً 0 ومتى كانت بخلافه سميت شراً ، فالإنسان متى فعل ذلك العمل باختياره وإرادته على ما ينبغي ، بمقدار ما ينبغي ومن أجل ما ينبغي كان صاحبه محموداً ، ومتى كان بخلافه كان صاحبه مذموماً ، ومتى كان اختياره وإرادته بفكرٍ وروية على ما ينبغي وبمقدار ما ينبغي ومن أجل ما ينبغي ، يكون صاحبة كما يقول الإخوان ، حكيماً فيلسوفاً فاضلاً ، ومتى كان بخلافه سمي صاحبة سفيهاً جاهلاً رذلاً 0 ومتى كان فعل الإنسان وإرادته واختياره وفكره ورويته مأموراً بها ومنهياً عنها وفعل ما ينبغي كما ينبغي على ما ينبغي ، كان صاحبة مثاباً بها ومجازى عليها ، ومتى كان بخلاف ذلك كان مأخوذاً بها ومعاقباً عليها (2) 0 ومن المواضيع التي تكلم عنها الإخوان عند حديثهم عن الأخلاق ، موضوع اللذة والألم 0 إذ يرى الإخوان أن جسم الإنسان لما كان مركباً من الأخلاط الأربعة المتضادة الطباع ، الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة ، ولما كانت هذه كلها في تغير واستحالة ، بين زيادة ونقصان ، فأن هذه الزيادة وهذا النقصان يخرجان المزاج تارة من الاعتدال الى
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 318 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 319 0(1/230)
الزيادة في أحد الأخلاط والطباع أو الى النقصان 0 وعلى ذلك فاللذة ، هي رجوع المزاج الى الاعتدال بعد أن كانت خارجة عنه ، أي تخلصها من الألم الذي هو خروج المزاج عن الاعتدال 0 أي أنه ليس هناك لذة إلا بعد أن يتقدمها ألم (1) فالألم سابق على اللذة ، واللذة هي الراحة التي تحس بها النفوس الحيوانية عند زوال الألم 0 وأسباب ذلك كثيرة ، من ذلك مثلاً ماهية لذة الطعام والشراب ، فأن حرارة المعدة بعد أن تهضم الطعام وتفرغ تحس النفس بالألم ، وتطلب الأجساد الغذاء لتعوض وهذا حسب شدة لهيب تلك الحرارة وسكونها تكون لذة الأكل ، والشيء نفسه ينطبق على العطش 0 فأن الحيوان يجد لذة الأكل والشرب الى أن تستوفي الطبيعة حاجتها ، فعند ذلك تزول تلك اللذة وتسكن حتى إذا زيد على مقدار الحاجة صارت اللذة ألماً والأمثلة كثيرة 0 نلاحظ أن الألم هو خروج من الحالة الطبيعية التي هي الاعتدال ، وإذا جاوزت اللذة حدها فإنها تخرج بالجسم من الاعتدال الى الطرف الآخر من الألم وهكذا هي سائر اللذات والآلام الجسمانية سواء كان الجوع أو العطش أو الحر أو البرد أو ما تحسه النفس مثلاً من لذة بالنظر الى محاسن الموجودات أو الاستماع الى الأنغام أو شم الروائح الطيبة ، فكل هذه تكون حسب مشاكلات المزاج الموافقات ، وألمها حسب المخالفات المتضادات (2) فكل محسوس يخرج المزاج من الاعتدال فأن الحاسة تتألم منه وكل محسوس يرجع المزاج الى الاعتدال فالحاسة تلتذ به 0 فالإخوان يرون أن حياة الحيوان تكون بين اللذة والألم ، فمنذ أن اقترنت النفس بالجسد ، فأن الجسد معرض للآفات المفسدة له وليس له القدرة على دفع هذه الأشياء المفسدة له 0 لذلك اقتضت الحكمة الإلهية بأن جعلت الآلام
__________
(1) فؤاد البعلي ، فلسفة إخوان الصفاء الاجتماعية والأخلاقية ، ص 156 0
(2) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 124 – 125 ، ينظر كذلك رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 59 0(1/231)
تلحق بالنفس أيضاً ، وبذلك تدفع النفس تلك الأشياء المفسدة وتحفظ الجسد من الآفات المهلكة له ، فلو لم يعرض الألم للنفس لأصبح من السهل فساد الجسد (1) فالإنسان مثلاً لو لم تكن نفسه تحس لكان إذا نام على سبيل المثال واستغرق في نومه ثم مد يده ورجله فدخلتا في نار الى جانبه فاحترقتا ولم يكن يحس بهما حتى ينتبه من نومه ، فإذا هو بلا يد ولا رجل ، ولكن لما كانت النفس تحس بالألم فأنه عند ملاقاة رجله ويده للنار سينتبه من نومه ويخلص جسده من هذه الآفة الخارجية (2) وقد قسم إخوان الصفاء ، اللذات والآلام التي تحفظ الأجساد من التلف الى نوعين جسمانية ، وروحانية 0 أما عن الجسمانية فهي التي تجدها النفس عند الخروج من الألم ، فالنفوس الحيوانية تجد اللذة عند تناول الغذاء ، كذلك النفوس النباتية فلذة الغذاء تحثها على جذب الرطوبات الى أصول النبات والى أعلى فروعها 0 أما اللذات الروحانية التي تجدها النفس بمجردها فهي نوعان ، لذة تجدها النفس وهي مفارقة للجسد ولذة تجدها النفس عندما تكون مقارنة للجسد 0 أما اللذة التي تجدها وهي مفارقة للجسد فهي نوعان ، إحداهما ما يرد عليها من خارج ، وهي نفوس أهل الجنة وما ترى من روح وريحان وتكون بريئة من الأوجاع والآلام والأخرى من ذاتها بوصفها جوهراً روحانياً قد تخلصت من الشرور 0 أما عن اللذات التي تجدها وهي مقارنة للجسد فحددها الإخوان بأربعة أنواع ، وهي :
1- ما تجده من اللذة عند تصورها حقائق الموجودات من المحسوسات والمأكولات جميعاً 0
2- ما تجده عند اعتقادها الأداء الصحيح ومذاهبها الحميدة 0
3- ما تجده عند عذوبة أخلاقها الكريمة وعاداتها الجميلة 0
4- ما تجده من الفرح والسرور واللذة عند ذكر أعمالها الزكية وأفعالها الخيرة (3)
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 58 0
(2) ينظر المصدر نفسه ، ص 60 0
(3)
(1) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 126 – 127 0(1/232)
0
أما اللذات بصورة عامة فهي أربعة أنواع :
1- لذة شهوانية طبيعية ، وهي التي تجدها النفس عند تناول الغذاء من الطعام والشراب ، وهذه اللذة مشتركة بين الإنسان والحيوان والنبات ، فالإنسان له لذة وألم وكذلك الحيوان له لذة وألم ، أما النبات فله لذة وليس له ألم 0
2- لذة حيوانية حسية وهي نوعان ، منها ما تجده النفس عند الالتئام ، كلذة الشهوات الجنسية ، والآخر ما تجده عند الانتقام وهي شهوة تهيج الغضب (1) 0
3- لذة إنسانية فكرية ، وهي ما تجده النفس من اللذة عند تصورها معاني المعلومات ومعرفتها بحقائق الموجودات ، ويشترك في هذه اللذة الإنسان والملائكة (2) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 60 0
(2) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 127 0(1/233)
4- لذة ملكية روحانية ، وهي ما تجده النفس من الراحة واللذة بعد مفارقتها الجسد ، وهي الروح والريحان ، وهذه اللذة مختصة بالنفوس المفارقة للأجسام الناجية من بحر الهيولى ، وللنفوس الملكية لذة وليس لها ألم (1) ، ولإخوان الصفاء رأي لطيف جداً ، وهو أن الإنسان قد يشعر بلذة وألم في وقتٍ واحد أيضاً ، وذكروا أمثلة كثيرة منها ، أن العاشق يرى معشوقة وهو على خيانة ، فتسره رؤيته له ويلتذ بها ، وفي الوقت نفسه تغمه خيانته له وتؤلمه 0 كذلك من يأكل طعاماً يشتهيه وله رائحة منكره تؤذيه كما يحدث في تناول بعض أنواع السمك ، كذلك من يسمع لحناً طيباً ونغمة لذيذة كغناء أبيات من الشعر فيها هجو له ، فأنه يلتذ باستماع اللحن اللطيف ويغمه هجوه في الوقت نفسه 0 ومثل من يسمع بموت مورث له ، فيغتم لخبر موته ويسره ما سيرث عنه ... الخ من الأمثلة (2) ، وهكذا بشأن ما يلحق النفوس من اللذة والألم 0 فإخوان الصفاء ، يرون أن الإنسان إذا كانت أعماله سيئة وأفعاله قبيحة ، فأن نفسه تكون دائماً مضطربة متألمة ، بينما إذا كانت أخلاق الإنسان جميلة فأن نفسه تكون أبداً آمنة محبوبة (3) 0 ومن المواضيع الأخرى التي تكلم عنها الإخوان والتي لها علاقة بالأخلاق ، موضوع العشق 0 وهذا الموضوع أشرنا إليه بصورة موجزة عندما قارنا بين العشق عند الإخوان والعشق عند أفلاطون 0
المبحث الثاني
التعليم
مدخل
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 65 0
(2) لمزيد من الأمثلة ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 67 0
(3) د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 128 0(1/234)
التعليم فرع من التربية ، ويتناول الجوانب المتعلقة بطرائق التدريس أي كيفية عرض المواد الدراسية للمتعلمين بصورة صحيحة بحيث يحصل المتعلم على أكبر فائدة ، فضلاً عن ذلك فالتعليم يهتم بالمعلم اهتماماً كبيراً ، فيحدد ما له وما عليه من حقوق وواجبات تجاه المتعلمين ، كمعرفته بمستوياتهم العلمية ومدى قدرتهم على تقبل مادة الدرس فضلاً عن ضرورة معرفته بأحوال المتعلمين ، وطبيعة ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية خارج المدرسة ومسائل أخرى ، يؤكد التعليم الصحيح مراعاتها وهي الاهتمام بالجوانب الأخلاقية اهتماماً خاصاً ، إذ يجب أن تقوم العلاقة بين المعلم والمتعلم على أساس احترام المعلم للمتعلم وإجلال المتعلم لمعلمهُ ، مادام المعلم يعد مصدراً مهماً من مصادر المعرفة للمتعلم ، فهذه المواضيع كلها أكدها إخوان الصفاء عند حديثهم عن التعليم وأهميته 0 فقد أعطى إخوان الصفاء اهتماماً كبيراً للعلم وللمعلم فضلاً عن المتعلم ، فالعلم قنية روحانية وفيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة 0 وفضلوه على قنية المال ومتاع الدنيا التي هي قنية جسدانية 0 فالإنسان كما يرى الإخوان ، مُركب ثنائي من جسدٍ وروح أو ( نفس ) وقد استعملوا مصطلح النفس والروح بمعنى واحد 0 والجسد والروح جوهران متباينان ، وبناء على ذلك صار للإنسان هاتان القنيتان 0 فبالقنية الجسدانية يتمكن الإنسان من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا ، وهكذا قنية مصيرها الزوال 0 وبالقنية الروحانية ينال الإنسان السعادة في الآخرة ، وهذه السعادة لا تزول أبداً 0 والإنسان بالعلم ينال طريق الآخرة وبالدين يصل إليه ، فبالعلم والدين تضيء النفس وتشرق (1) فضلاً عن ذلك يرى إخوان الصفاء وخلان الوفاء أنه لما كانت للإنسان هاتان القنيتان صارت المجالس اثنين ، مجلس للأكل والشرب واللهو واللعب واللذات الجسمانية من لحوم
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 261 0(1/235)
الحيوانات ونبات الأرض ، لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاني ، ومجلس للعلم والحكمة وسماعٍ روحاني من لذة النفوس التي لا تبيد جواهرها ، ولا ينقطع سرورها في الدار الآخرة كما ذكرها الله جل ثناؤه بقوله (( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )) (1) فلما كانت المجالس اثنين صار السائلون اثنين أيضاً ، واحد يسأل حاجةً من عرض الدنيا لصلاح هذا الجسد ولجر المنفعة إليه أو لدفع المضرة عنه ، وواحد يسأل مسألة من العلم لصلاح أمر النفس وخلاصها من ظلمات الجهالة أو للتفقه في الدين طلباً لطريق الآخرة ، واجتهاداً في الوصول إليها وفراراً من نار جهنم ونجاةً من عالم الكون والفساد (2) وفوراً بالوصول والصعود الى عالم الأفلاك وسعة السماوات والسيحان في درجات الجنان والتنفس من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن (3) 0 أتضح لنا السائلون وانقسامهم الى قسمين ، وبما أن موضوعنا هنا التعليم ، فالذي يعنينا بالتأكيد هو الصنف الثاني من السائلين أي الذين يسألون العلم ويطلبونه 0 وجدير بالذكر أن من يسأل مسألة من العلم ، فهو محتاج الى من يجيبه عن مسائلة ويبين له الحقائق التي لا يعرفها ، فالسائل هو المتعلم والمجيب هو المعلم0ولكل منهم خصال لازم توافرها فيهم وهذا ما سنتكلم عنه في الصفحات اللاحقة
1- ما يجب على طالبي العلم معرفته
__________
(1) سورة الزخرف ، آية 71 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 261 0
(3) المصدر نفسه ، ص 262 0(1/236)
قبل أن نتحدث عن صفات المتعلم والشروط اللازم توافرها به سنبدأ بالمفاهيم التي يجب على طالبي العلم معرفتها 0 لقد حدد إخوان الصفاء مفاهيم عدة ، ينبغي على طالبي العلم والباحثين عن حقائق الأشياء معرفتها ، وهي أن يعرفوا أولاً ما العلم وما المعلوم ، وعلى كم وجه يكون السؤال ، وما هو جواب كل سؤال ، حتى يعلموا ما الذي يسألون وما الذي يجيبون إذا سُئلوا ، وذلك كما يقول الإخوان ( إن الذي يسأل ولا يدري أي شيء يسأل ، فإذا أُجيب لا يدري بأي شيء أُجيب ) (1) أما عن العلم فقد عرفوه بأنه صورة المعلوم في نفس العالم ، وضده الجهل ، وهو عدم تلك الصورة من النفس 0 وعرف الإخوان التعليم والمعلم والمتعلم بقولهم ( وأعلم بأن أنفس العلماء علامة بالفعل ، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة ، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئاً سوى إخراج ما في القوة ، يعني من الإمكان الى الفعل ، يعني الوجود 0 فإذا نسب ذلك الى العالم سميّ تعليماً وأن نسب الى المتعلم سميّ تعلماً ) (2) 0 أما عن السؤالات ، فقد حددها الإخوان بتسعة أنواع مثل تسعة آحاد وهذه السؤالات أسماها الإخوان ، بالسؤالات الفلسفية وهي ، هل هو ؟ ، ما هو ؟ ، كم هو ؟ ، كيف هو ؟ ، أي شيء هو ؟ ، أين هو ؟ ، متى هو ؟ ، لمَ هو ؟ ، من هو ؟ 0 أما تفسير هذه الأسئلة فهو :
1- هل هو ، سؤال يبحث عن وجود الشيء أو عدم وجوده ، والجواب عنه يكون بنعم أو لا 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 262 0
(2) المصدر والصفحة نفسهما 0(1/237)
2- ما هو ، سؤال يبحث عن حقيقة الشيء ، وهذه الحقيقة تعرف بالحدَّ أو بالرسم ، وذلك لكون الأشياء منها ما هو مركب ومنها ما هو بسيط ، فالمركب مثل الجسم والبسيط مثل الهيولى والصورة 0 والأشياء المركبة تعرف حقيقتها عن طريق معرفة الأجزاء المركبة منها ، ويسمى هذا الوصف بالحدَّ 0أما عن الأشياء التي ليست مركبة من شيء بل مخترعة مبدعة كما شاء بارئها وخالقها تعالى ، فحقيقتها تعرف من الصفات المختصة بها 0 مثال ذلك ، إذا قيل ما حقيقة الهيولى ؟ فيقال جوهرٌ بسيط قابل للصورة لا كيفية فيه ألبته ، وإذا قيل ما الصورة ؟ فيقال هي التي يكون الشيء بها ما هو فمثل هذا الوصف يسميه الحكماء الرسم (1) 0
3- كم هو ، ، سؤال يبحث عن مقدار الشيء ، والأشياء ذوات المقادير ، متصل ومنفصل 0 المتصل خمسة أنواع ، وهي الخط ، والسطح ، والجسم ، والمكان ، والزمان ، والمنفصل نوعان ، وهما العدد والحركة 0 وهذه الأشياء كلها يقال فيها كم هو 0
4- كيف هو ، ، سؤال يبحث عن صفة الشيء ، والصفات كثيرة الأنواع 0
5- أيُّ شيءٌ هو ، سؤال يبحث عن واحدٍ من الجملة أو عن بعضٍ من الكل ، مثال ذلك ، إذا قيل طلع الكوكب ، فيقال أي كوكبٍ هو ؟ لأن الكواكب كثيرةٌ ، وإما إذا قيل طلعت الشمس ، فلا يقال أي شمس هي؟ إذ ليس من جنسها كثرة وكذلك القمر0
6- أين هو ، ، سؤال يبحث عن مكان الشيء أو عن رتبته ، والفرق بين الاثنين هو أن المكان صفة لبعض الأجسام لا لكلها ، مثال ذلك ، إذا قيل أين زيدٌ ؟ فيقال في البيت أو في المسجد 0 وأما المحل فهو صفة للعرض ، والعرض جسماني أو أعراض جسمانية حالة في الأجسام ، أو روحانية حالة في الجواهر الروحانية 0 مثال ذلك إذا قيل أين السواد ؟ فيقال حال في الجسم الأسود ، وهكذا حكم الألوان كلها والطعوم والروائح الحالة في الأجسام (2) ،
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 263 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 264 0(1/238)
أما عن الأعراض الروحانية الحالة بالجواهر الروحانية فقد ضرب الإخوان ، لها مثالاً ، بقولهم إذا قيل أين العلم ؟ فيقال حال في نفس العالم ، وكذلك السخاء والشجاعة والعدل ... الخ من الصفات الحالة بالنفس ، وهكذا حكم أضدادها 0 أما الرتبة فهي من صفات الجواهر الروحانية ، مثال ذلك ، إذا قيل أين النفس ؟ فيقال ، هي دون العقل وفوق الطبيعة ، وهكذا إذا قيل أين الثلاثة من العدد ؟ فيقال بعد الاثنين وقبل الأربعة ، وعلى هذا القياس حكم سائر الجواهر الروحانية التي لا توصف بالمكان ولا بالمحل 0
7- متى هو ، سؤال يبحث عن زمان كون الشيء 0 والأزمان ثلاثة ، ماضٍ مثل أمس ، ومستقبل مثل غدٍ ، وحاضر مثل اليوم ، وهكذا حكم السنين والشهور والساعات 0
8- لِمَ هو ، سؤال يبحث عن علة الشيء ، أي العلة الهيولانية ، والعلة الصورية ، والعلة الفاعلية ، والعلة التمامية 0 فالكرسي مثلاً ، العلة الهيولانية فيه الخشب ، والعلة الصورية الشكل والتربيع ، والعلة الفاعلية النجار ، والعلة التمامية القعود على الكرسي 0
9- من هو ، سؤال يبحث عن التعريف للشيء ، ويقول علماء النحو أن هذا السؤال لا يتوجه إلا الى كل ذي عقل ، ويقول قوم آخرون الى كل ذي علمٍ وتمييز ، والجواب فيه أن يعرف السؤال بأحد ثلاثة أشياء ، أما أن ينسب الى بلده ، أو الى أصله ، أو الى صناعته ، مثال ذلك ، إذا قيل من زيد ؟ فيقال البصري ، ينسب الى بلده ، والهاشمي الى أصله ، والنجار الى صناعته 0(1/239)
وهكذا فسر الإخوان هذه السؤالات وكيفية الإجابة عنها 0 وعدوها شبه المدخل والمقدمات ليقربوا من فهم المتعلمين النظر في المنطق الفلسفي ، فيجب على المتعلمين الوقوف عليها قبل النظر في ايساغوجي ، الذي هو المدخل الى المنطق الفلسفي (1) ومن المسائل المهمة التي ينبغي على طالبي العلم معرفتها ، هي معرفتهم بأجناس العلوم وأنواع تلك الأجناس ، إذ حدد الإخوان سبب ذلك بقولهم ( ليكون دليلاً لطالبي العلم الى أغراضهم ، وليهتدوا الى مطلوباتهم ، لأن رغبة النفوس في العلوم المختلفة وفنون الآداب ، كشهوات الأجسام للأطعمة المختلفة الطعم واللون والرائحة ) (2) فأجناس العلوم قسمها الإخوان الى ثلاثة أجناس ، وهذا ما تكلمنا عنه بصورةٍ مفصلةٍ عند حديثنا عن موضوع أجناس العلوم في الفصل الثاني 0 ولكن سوف نشير إليها بصورة مختصرة 0
يرى الإخوان ، إن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس ، منها رياضية ، ومنها شرعية وضعية ، ومنها علوم فلسفية حقيقية 0 الرياضية وهي ، علم الآداب وهي تسعة أنواع ، علم الكتابة والقراءة ، وعلم اللغة والنحو ، وعلم الحساب والمعاملات ، وعلم الشعر والعَروض ، وعلم الزجر والفأل ، وعلم الحرف والصنائع ، وعلم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل ، وعلم السَّيرَ والأخبار0 أما العلوم الشرعية فتشمل علم التنزيل ، وعلم التأويل ، وعلم الروايات والأخبار ، وعلم الفقه والسُنن والأحكام ، وعلم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف ، وعلم تأويل المنامات 0 أما العلوم الفلسفية ، فمنها الرياضيات ، والمنطقيات ، والطبيعيات والإلهيات (3) 0
__________
(1) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، من ص 264 – 266 0
(2) المصدر نفسه ، ص 266 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 267 0(1/240)
هذه أبرز المسائل التي يجب على طالبي العلم والباحثين عن حقائق الأشياء معرفتها وبعد أن بيناها ، ومراعاة للترتيب الذي سار عليه إخوان الصفاء ، فسوف نبدأ بالمتعلم والشروط اللازم توافرها فيه 0
2- المتعلم والشروط اللازم توافرها فيه
لقد أكد الإخوان أهمية التعليم في طبع النفوس على العقيدة ، إذ قالوا ( وأعلم أن مثل أفكار النفوس قبل أن يحصل فيها علم من العلوم واعتقاد من الآراء ، كمثل ورق أبيض نقي لم يكتب فيه شيء ، فإذا كتب فيه شيء حقاً كان أم باطلاً ، فقد شغل المكان ومنع أن يكتب فيه شيء آخر ، ويصعب حكة ومحوة ... ) (1) فالتعليم له الأثر البارز في بناء معرفة الإنسان ، وأن وصف الإخوان نفس الإنسان بأنها كمثل ورق أبيض فكرة سبقوا بها الفيلسوف الإنجليزي ، جون لوك ، الذي وصف النفس بأنها كلوح مصقول لم ينقش فيها شيء (2) وبعد أن بين الإخوان ، هذه المسألة المهمة ، حددوا المدة التي يجب تعليم المتعلم فيها ، فقالوا ( ثم أعلم أن الأطفال والصبيان ، إذا استغنوا عن تربية الآباء والأُمهات ، فهم بعدُ متحاجون الى تعليم الأستاذين لهم العلوم والصنائع ليبلغوا بهم الى التمام والكمال ) (3) ويبدأ تعليم الصبيان في المكتب فيتأدبون ويرتاضون فالصبي كما يقول الإخوان ( وكما أن الصبي إذا أحكم ما
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 51 0
(2) يرى جون لوك أن النفس في الأصل كلوح مصقول لم ينقش فيه شيء ، وأن التجربة هي التي تنقش فيها المعاني والمبادئ جميعاً ، وقد قسم التجربة الى نوعين ، تجربة ظاهرة واقعة على الأشياء الخارجية أي إحساس ، وتجربة باطنة واقعة على أحوالنا النفسية ، أي تفكير ، يوسف كرم ، تأريخ الفلسفة الحديثة ، ص 145 ، وجدير بالذكر أن الإخوان قد سبقوا جون لوك في قوله بالتجربة الظاهرة والتجربة الباطنة عندما قالوا بالحواس الظاهرة والحواس الباطنة 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 277 0(1/241)
يراد منه في المكتب استغنى عن حمل اللوح والدواة والمداد والقلم وسواده ، لأنه كان يكتسب به ويقرأ منه ويمحو ، ليحصل العلم في نفسه محفوظاً ، من القرآن والأخبار والأشعار والنحو واللغة وما شاكلها مما يحفظ الصبيان في المكتب (1) 0
يظهر لنا من حديث الإخوان ، أنهم يتركون الصبيان يتعلمون في المكتب حتى سن الخامسة عشرة 0 لأن تعليمهم يتم بالتحفيظ لا بالتفهيم ، فهم يحفظون مبادئ العلوم التي لا يستغنى عنها فيما بعد من القرآن والأخبار والأشعار واللغة (2)
__________
(1) ينظر المصدر نفسه ، ص 43 0
(2)
(1) د0 أحمد فؤاد الأهواني ، التربية في الإسلام ، ص 230 0(1/242)
... الخ 0 وهكذا يتدرج المتعلم بالعلوم ، ولكل مرحلة علوم يجب عليه تعلمها ، وقد أكد الإخوان أن طرق اكتساب الإنسان للمعلومات تكون عن طريق الحواس ، واستماع الأخبار ، والقراءة والكتابة فضلاً عن دور العقل في المعرفة وهذا ما تكلمنا عنه بشكلٍ مفصل في مواضيعٍ سابقة 0 فأصل المعرفة عندهم الحواس ولذلك أكدوا وجوب السير في التعليم من المحسوسات الى النظريات ، لأن النظر في مبادئ الأمور المحسوسة يروض العقل ويقوي النظر في مبادئ الأمور المعقولة 0 ويرى الإخوان ، أن مناهج التربية العالية يجب أن تشمل المباحث الآتية ، مباحث علم النفس ، والعقل والمعقول ، والحاس والمحسوس ، والعلة والمعلول والنظر في أسرار الكتب الإلهية ، والتنزيلات النبوية والرياضيات وما إليها 0 على أن العناية يجب أن تكون بالعلوم الإلهية (1) وجدير بالذكر إن إخوان الصفاء ، اهتموا اهتماماً زائداً بالحواس كطريق أول للحصول على العلوم ، سبقوا فيه الكثير من رجال التربية والتعليم وعلم النفس في العصور الحديثة ، فأن العالم ، هنري بستالوتزي ، قد بين وأسهب في أهمية إدراك الحواس للمحسوسات وتأثيرها في التربية ، وقال بنظريته المعروفة ، ( نظرية العلاقات المكانية ) (2)
__________
(1) د0 عبدالله عبدالدايم ، التربية عبر التاريخ في العصور القديمة حتى أوائل القرن العشرين ، ص 257 – 258 0
(2) إن هذه النظرية مقصورة على إدراك المكان باللمس والبصر وهي ترمي الى بيان أن التأثيرات الواردة من الخارج على العين وعلى سطح الجسم متمكنة ومختلفة بعضها من بعض بأمكنتها ، وكل نقطة من الشبكية أو أديم الجلد تنفعل بكيفية خاصة بها وكل تأثير يعرض للشعور له طابع متميز ، وهذا الطابع هو العلاقة المكانية ، التي يمكن تعريفها ، بأنها إحساس عضلي مصاحب للتأثير اللمسي أو البصري ، وهي نظام من الحركات أو من الميول للحركة يبعثها كل تأثير ، وهي أيضاً موجسة الاحساسات الثانوية ، إذ أن كل تأثير في نقطة من الحس يحدث في المنطقة المجاورة تواتراً أو ضغطاً يعين مكان التأثير في الجسم تعييناً دقيقاً 0 يوسف كرم ، تأريخ الفلسفة الحديثة ، ص 395 0(1/243)
كما أن فيبر وفخنز ، وهما من علماء النفس الحديث (1) أوضحا أهمية الحواس والعلاقة بين المؤثر الخارجي والحس بطريقة بيانية (2) ، وللإخوان رأي قيم آخر في الحواس عندما تكلموا عن الشروط التي تحتاجها الحواس في عملية الإدراك ، فقولهم عن القوة الباصرة إنها تحتاج في إدراكها المبصرات الى ضوء ما ، والى بُعد ما ، والى محاذاة ما ، والى وضعٍ ما 0 ومتى ما عُدم شيء من ذلك عاقها عن إدراك المبصرات بحقائقها (3)
__________
(1) استخدم قانون فيبر وفخنز ، في مقارنة الحساسية النسبية للحواس المختلفة وعلى الرغم من وجود بعض الصعوبات التي جابهها في اختيار القيم الممثلة وعلى الرغم من أن بعض الظروف البيئية تترك آثاراً واضحة ، فأن هنالك فروقاً كبيرة في حساسية الحواس المختلفة نفسها ، فالضغط الثقيل والإحساس البصري لهما قيم فيبرية صغيرة ، إذا قيست بنسب الضغط الخفيف والسمع والتذوق 0 فراير ، هنري ، سباركس ، علم النفس العام ، ص 94 0 أما عن طريقته في التعبير عن نسبية الحساسية للحواس بطريقة بيانية ، فيقول فيبر ، عند مقارنة الأشياء وملاحظة الفروق بينها نحن لا ندرك الفرق بينها ولكن ندرك نسبة ذلك الفرق الى حجم الأشياء المقارنة ، فإذا كنا نقوم بالمقارنة من خلال اللمس بين شيئين أحدهما وزنه 30 أوقية والآخر 5 ر29 أوقية ، فأن المقارنة لا تكون أسهل منها في حالة المقارنة بين شيئين أحدهما يزن 30 والآخر 29 0 فوجد فيبر أن هذه النسبة تختلف من حاسة الى أخرى ، فيما يخص الطول يكون الحكم عليها بالعين وقد وجد أن هذه النسبة هي 1 : 100 وبالنسبة للأوزان 1 : 40 وبالنسبة لارتفاع النغمات الصوتية 1 : 160 0 ينظر و0 م أوميل ، بدايات علم النفس الحديث ، ترجمة د0 شاكر عبدالحميد ، مراجعة د0 عاهد حسني العاني ، دار الشؤون الثقافية العامة ، ط 1 ، 1987 ، ص 57 – 58 0
(2) فؤاد البعلي ، فلسفة إخوان الصفاء الاجتماعية والأخلاقية ، ص 118 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج3 ، ص 409 0(1/244)
0
أن قول الإخوان هذا هو نفسه الذي تقول به التربية الحديثة وعلم النفس الحديث عند حديثهم عن العتبة (1) وتكوين الإحساس 0 وهذا ما يوصي به الكثيرون في التعليم وما تأخذ به الجامعات والمدارس الراقية ، ولا سيما عند تعيين مكان للمدرس بحيث يستطيع أي طالب في الصف أو القاعة أن يسمع المحاضرة بوضوح ، وكذلك عند وضع لوحة الكتابة ( السبورة ) في مكان مناسب بحيث يستطيع الطلاب في أي ركن من أركان القاعة مشاهدتها بوضوح (2) 0 هذه بعض من الأفكار التي أكدها إخوان الصفاء ، والتي كان لها أثرها في التربية الحديثة وعلم النفس الحديث ، وحتى لا نخرج بعيداً عن الموضوع نعود للحديث عن المسائل الأخرى التي أكدها الإخوان ، والتي تتعلق بطالب العلم 0 ومن أبرز المسائل التي أكد الإخوان ضرورة توافرها بالمتعلم ، أنه يجب عليه أن يتحلى بسبع خصال ، وهذه الخصال شروط أساسية لا يمكن له الاستغناء عنها وهي ، السؤال والصمت ، ثم الاستماع ، ثم التفكر ، ثم العمل به ، ثم طلب الصدق من نفسه ، ثم كثرة الذكر له ، لأنه أي العلم من نعم الله سبحانه وتعالى ، ثم ترك الإعجاب بما يحسنه (3) ، فهذه الخصال لابد من توافرها في طالب العلم ، فضلاً عن أن العلم سيعطي صاحبة خصالاً محمودة لها أهميتها ، فقد حددوها بعشر خصال ، وهي أنه يكسب صاحبة الشرف وإن كان دنيئاً ، والعز وإن كان مهيناً ، والغنى وإن كان فقيراً ، والقوة وإن كان ضعيفاً والنبل وأن كان حقيراً ، والقرب وإن كان بعيداً ، والقدر وإن كان ناقصاً ، والجود وإن كان بخيلاً ، والحياء وإن كان صلفاً ،
__________
(1)
(1) العتبة : يطلق هذا المفهوم على أقل مقدار من الطاقة يستطيع استثارة المستلم 0 لمزيد من التفصيل حول العتبة ، ينظر فراير ، هنري ، سباركس ، علم النفس العام ، ص 88 ، 89 ، 91 ، 92 0
(2) فؤاد البعلي ، فلسفة إخوان الصفاء الاجتماعية والأخلاقية ، ص 118 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 348 0(1/245)
والمهابة وإن كان وضيعاً ، والسلامة وإن كان سقيماً 0 واستشهد الإخوان بجملةٍ من الآيات القرآنية المباركة بشأن أهمية العلم منها قوله تعالى (( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )) (1) وقوله تعالى ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)) (2) وآيات أخرى كثيرة في القرآن في مدح العلماء وفضائلهم وحسن الثناء عليهم (3) 0 هذا فيما يتعلق بالمتعلم وما يجب عليه معرفته فضلاً عن الشروط اللازم توافرها فيه ، وقد ذكرنا أن المتعلم يحتاج الى من يعلمه ويرشده الى الطريق الصحيح فيرفده بالمعارف المختلفة ، وليس كل إنسان قادراً على ذلك العمل ما لم يتميز بخصال معينة تؤهله لهذا العمل الشريف الذي له المكانة العظيمة في فكر إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، وستتضح لنا هذه المكانة عند حديثنا عن المعلم 0
2- المعلم
__________
(1) سورة الزمر ، آية 9 0
(2) سورة فاطر ، آية 28 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 348 0(1/246)
من المعروف أن إخوان الصفاء ، اهتموا اهتماماً كبيراً بالتربية والتعليم ، وكانوا يعتمدون على المعلمين الجيدين والإخوان الأبرار والأصدقاء الأخيار (1) الذين يسهمون في نقل العلم من أنفس المتعلمين من القوة الى الفعل (2) ، وإن من سعادة الإنسان المتعلم أن يتفق له معلم ذكي ، جيد الطبع ، حسن الخلق ، صافي الذهن ، محب للعلم ، طالب للحق ، غير متعصب لرأي من المذاهب (3) وتعبيراً عن أهمية المعلم نجد الإخوان قد أكدوا أن من أعظم السعادات وأتمها أن يتفق للمتعلم معلم رشيد عالم ، عارف بحقائق الأمور والأشياء ، مؤمن بيوم الحساب ، عالم بأحكام الدين ، بصير بأمور الآخرة ، خبير بأحوال المعاد ، مرشد له إليها ، ومن أنحس المناحس حسب رأيهم أن يكون المعلم بعكس ذلك (4) وتظهر مكانة المعلم عند الإخوان ، بشكل أكثر ، عندما عدّوه أباً روحياً للمتعلمين ، حتى أنهم فضلوه على الأب الحقيقي للمتعلم ، ويعود سبب هذا التفضيل الى أن الأب منح ولده صورة جسدانية فكان سبباً لكون الجسد في الدنيا ، وأنه يسعى لإصلاح حال هذا الجسد في الدنيا التي هي دار فناء ، أما المعلم فهو الذي يعطي المتعلم صورة روحانية من خلال تغذية نفس المتعلم بالعلوم والمعارف التي تهديها الى طريق النعيم والسرمدية والراحة الأبدية ، وهذا نص قولهم ( وأعلم بأن المعلم والأستاذ أبٌ لنفسك وسبب لنشوئها وعلّة حياتها ، كما أن والدك أبٌ لجسدك وكان سبباً لوجوده ، وذلك أن والدك أعطاك صورة جسدانية ، ومعلمك أعطاك صورة
__________
(1) ينظر د0 محمد ناصر ، الفكر التربوي العربي الإسلامي ، ص 180 0
(2) فؤاد البعلي ، فلسفة إخوان الصفاء الاجتماعية والأخلاقية ، ص 124 ، كذلك ينظر الرسائل ، ج1 ، ص 262 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 51 0
(4) د0 مصطفى غالب ، في سبيل موسوعة فلسفية ، إخوان الصفاء ، منشورات دار ومكتبات الهلال ، بيروت ، ص 163 ينظر كذلك الرسائل ، ج4 ، ص 50 0(1/247)
روحانية ، وذلك أن المعلم يغذي نفسك بالعلوم ويربيها بالمعارف ويهديها طريق النعيم واللذة والسرور والأبدية والراحة السرمدية ، كما أن أباك كان سبباً لكون جسدك في دار الدنيا ومربيك ومرشدك الى طلب المعاش فيها التي هي دار الفناء والتغيير والسيلان ساعةٍ بساعة ، فسل يا أخي ربك أن يوفق لك معلماً رشيداً هادياً سديداً ، وأشكر الله على نعمائه السابغة ) (1) 0 وجدير بالذكر أن هذه الأهمية عظيمة القدر لا تمنح لأي معلم كيفما أتفق وإنما تمنح الى المعلم الذي يستحق ذلك ، وحتى تكون للمعلم هذه الأهمية وجب عليه تجنب بعض الصفات ، إذ قالوا ( وأعلم يا أخي بأن للعلماء مع كثرة فضائل العلم ، آفاتٍ وعيوباً وأخلاقاً رديئةً تحتاج أن تتجنبها وتتحذرها ) (2) وحددها الإخوان ، بما يأتي :-
1- الكبر والعجب والافتخار 0
2- كثرة الخلاف والمنازعة فيه ، وطلبوا الرياسة به والتعصب والعداوة والبغضاء فيما بينهم ، وذكر الإخوان ما قاله لقمان الحكيم لأبنه : يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتك ، فأن الله يحيي القلوب الميتة بنور العلم كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر ، وإياك ومنازعة العلماء ، فإن الحكمة نزلت من السماء صافية فلما تعلمها الرجال صرفوها الى أهواء أنفسهم (3) 0
3- الخوض في المشكلات ، والترخيص في الشبهات ، وترك العمل بموجبات العلم 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج4 ، ص 50 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 349 0
(3)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج1 ، ص 349 0(1/248)
4- كثرة الرغبة في الدنيا وشدة الحرص في طلبها ، فحب الدنيا رأس كل خطيئة ، والحرص في طلبها مرض للنفوس وسقام لها (1) 0 فضلاً عن ذلك نجد الإخوان في حديثهم عن تفاوت الناس في المال والعلم قد قسموهم الى أربعة أقسام ، منهم من رُزق المال والعلم ، ومنهم من رزق المال من دون العلم ، ومنهم من رزق العلم من دون المال ، ومنهم من حرم من المال والعلم ، وحددوا لكل منهم خصالاً يجب عليهم التمسك بها ، نأخذ منها الخصال الواجب توافرها بمن رزق العلم من دون المال ، وهي أن على صاحب العلم أن لا يحسد أخاً ذا مال ، ولا يستحقره لجهلة ، ولا يفتخر عليه بعلمه ، ولا يطلب منه عوضاً فيما يعلمه (2) وخصال أخرى سنتطرق إليها في حديثنا عن مواضيع أخرى تتعلق بالمعلم وهذا جانب من بعض الخصال اللازم على المعلم الأخذ بها ، فضلاُ عن الأخلاق المذمومة التي يجب عليه تجنبها ، فمتى ما عمل بذلك حصل على هذه المكانة الكبيرة التي تُعد امتيازاً له ، ولكن أمام كل امتياز مسؤولية ، فمن مسؤوليات المعلم أن يتفطن لتلاميذه وأحوالهم والانتباه الى أخلاقهم وسجاياهم واحداً واحداً ، حتى يعرف كل واحد منهم ما اسمه وما صناعته وما هو بسبيلة في أمر معاشه وما هو الغالب عليه من الطبع الجيد والرديء ، وحتى يثق بهم علماً ويتبين منازلهم ، ويستعين بكل واحداً منهم في العمل المشاكل له ويستخدمه في الأمر اللائق به (3) عندما نقرأ هذا القول يخيل للقارئ أن إخوان الصفاء مطلعون على فلسفة التربية الحديثة التي تصر على وجوب دراسة الطلاب دراسة دقيقة منظمة تقضي الى فهم كفايات كل طالب ليعطى من الدروس والأعمال ما يتلاءم وأعظم هذه الكفايات بروزاً وأكثرها خيراً مأمولاً (4)
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 340 0
(2) ينظر رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، من ص 52 – 56 0
(3) ينظر الرسالة الجامعة للحكيم المجريطي ، ج 2 ، تحقيق جميل صليبا ، ص 396 – 399 0
(4) أديب عباسي ، علم النفس والتربية والأخلاق عند إخوان الصفا ، مجلة الرسالة السنة الثانية ، العدد 26 يناير 1934 ، ص 13 – 14 0(1/249)
ومن أهم المهام التي يقوم بها المعلم هي تقسيم المنهج وفقاً لمستوى المتعلم واستعداده ومدى رغبته ومحبته لهذا العلم إذا قالوا ( ثم أعلم أن الله تعالى خلق لكل نوع من هذه العلوم والآداب أمة من الناس ، وجعل في جبلة نفوسهم محبة معرفتها ومكنهم من طلبها وتعلمها والبحث عنها ، والنظر فيها ، لتكون العلوم والآداب محفوظة عليهم لا تنقرض ، كما خلق لكل صناعة وتجارة أمة من الناس وجعلها سبب معاشهم طول حياتهم في دنياهم ، لتكون كلها محفوظة باقية لحاجة الإنسان إليها في الدين والدنيا جميعاً 0 ثم أعلم أن العلوم والآداب تتفاضل كما أن الصنائع و التجارات والأعمال تتفاضل ، وأن أهلها يتفاضلون فيها 0 وأفضل أهل كل علم هم الراسخون في العلم ، العارفون بأصوله وفروعه ، كما أن أفضل أهل الصناعة والتجارة هم الحذاق بها والأستاذون فيها 0 ثم أعلم أنه ليس كل علم وأدب يليق بكل إنسان أن يتعلمه ويتعاطاه ، ولكن أولى العلوم بكل إنسان أن يتعلم ما لا يسعه جهلة ، وواجب عليه طلبة 0 فأنظر يا أخي بعقلك وميزّ ببصرك ، واختر من العلوم والآداب ما لابد لك منه ، كما تختار من الأعمال والصنائع والتجارات ما لابد لك منها ) (1)
__________
(1)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 510 – 511 0(1/250)
يُفهم من هذا النص المتقدم فضلاً عن ذلك التوجيه العلمي السليم حسب استعداد الطالب ، أنه على الرغم من تفاضل العلوم والآداب فإتقان أي علم والرسوخ فيه يكسب صاحبة فضلاً بين أهل هذا العلم والمشتغلين به ، ويكون أستاذاً يعرف أصول هذا العلم وفروعه ، بينما لو اشتغل بغير هذا العلم ، وليس عنده الاستعداد لتحصيله ، والتفوق فيه ، فلن يكون إلا مضيعاً للوقت مغموراً بين الناس غير منتج الإنتاج الذين يرجى من العلماء 0 كما يفهم من هذا النص شيء آخر وهو أن هناك قدراً مشتركاً من المعلومات لابد أن يحصلها كل إنسان (1) ، وقد فصلوا هذا الكلام المجمل في موضوع آخر حيث قالوا ( ومنهم من تكون محبته في لقاء أهل العلم ، واستماع كلام العلماء ، وطلب العلوم والآداب ومعرفة الأخبار والروايات والآثار ، ومنهم من تشتهي نفسه علم النحو والشعر والخطب والفصاحة والأقاويل والكلام وما شاكل هذه ، ويتلذذ بها 0 ومنهم من يشتهي علم الحساب والهندسة والنجوم والطب والمنطق والرياضيات الحكمية ... ومنهم من تشتهي نفسه علم العزائم والرقى والسحر والكيمياء والحيل وما شاكلها ، ويلتذ بها 0 ومنهم من يشتهي النظر في علوم الطبيعيات والإلهيات والبحث عنها وعن حقائق الموجودات الكائنات الفاسدات ، الباقيات المخلدات ... فأنظر يا أخي بعقلك وميزّ ببصيرتك وأختر لنفسك من هذه المشتهيات ما يليق بها وترضى لها به ) (2) 0 وبين الإخوان ، أن العلوم كثيرة ولكن منها ما يصلح للعامة من النساء والصبيان والجهال ، ومنها ما يصلح للخاصة من العلماء والحكماء البالغين الراسخين فيها ، ومن العلوم ما يصلح للمتوسطين بين ذلك 0 فما يصلح للخاصّ لا يصلح للعام ، وما يصلح للعامة لا يصلح للخاصة ، ولكن الذي يصلح للخاص والعام وما بينهما من سائر الطبقات جميعاً ، من العلوم والمعارف
__________
(1) عمر الدسوقي ، إخوان الصفاء ، ص 263 – 264 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 533 0(1/251)
والآداب هو علم الدين وما يتعلق به من الأعمال (1) 0 هذا فيما يتعلق بتقسيم العلوم وفقاً لمستوى الطلاب أو المتعلمين واتضح لنا كيف راعا الإخوان ، هذه المسألة المهمة 0 وبعد أن تكلمنا عن هذا الموضوع ، نود أن نبين حقيقة جديرة بالذكر وهي أن إخوان الصفاء ، مثلما ربطوا التربية بالدين فأنهم أقاموا التعليم على أسس دينية وهذا ما سنتكلم عنه 0
4- الجانب الديني في التعليم
أتضح لنا أن إخوان الصفاء ، أكدوا إن ما يصلح للخاصّ والعام وما بينهما ، من العلوم هو علم الدين وما يتعلق به من الأعمال 0 ولا يخفى على من قرأ رسائلهم أن من أبرز الأعمال التي تتعلق بالدين هي وضع الشرائع الإلهية ، إذ يعد هذا العلم من أشرف العلوم وأكثرها ثواباً في الآخرة وأشدها تشبهاً بالملائكة فقد قالوا ( وأعلم يا أخي أنه ليس من علم ولا عمل ولا صناعة ولا تدبير ولا سياسة مما يتعاطاه البشر هو أعلى منزلة ولا أسنى درجة ، ولا في الآخرة أكثر ثواباً ، ولا بأفعال الملائكة أشد تشبهاً ولا الى الله ، أقرب قربةً ، ولا لرضاه أبلغ طلباً من وضع الشرائع الإلهية ) (2) ، ويضع هذه الشرائع أصحاب الناموس الذين يعدون معلمين ومؤدبين وأساتذة للبشر كلهم حيث قالوا ( ثم أعلم أن أصحاب الناموس هم المعلمون والمؤدبون والأُستاذون للبشر كلهم ، ومعلمو أصحاب النواميس هم الملائكة 0 ومعلم الملائكة هو النفس الكلية ومعلمها العقل الفعال ، والله تعالى ، مُعّلم الكل ) (3) ، ومثلما حدد الإخوان ، للمعلم خصالاً لابد من توافرها فيه وهذا ما بيناه في صفحات سابقة فإنهم اشترطوا في واضع الشريعة الذي يُعدّ معلماً للبشر جميعاً عدداً من الخصال يجب توافرها فيه ، إذ حددوها باثنتي عشرة خصلة يجب أن يكون قد فُطر عليها وهي :-
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 511 0
(2)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 128 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 3 ، ص 480 0(1/252)
1- أن يكون تام الأعضاء ، قوية قوائمه على الأعمال التي من شأنها أن تكون بها ومنها ، ومتى هم أن يقضي عملاً أتى عليه بسهولة 0
2- أن يكون جيد الفهم سريع التصور لكل ما يقال له ويلقاه لفهمه على من يقصد القائل به حسب الأمر في نفسه 0
3- أن يكون جيد الحفظ لما يفهمه ولما يسمعه ولما يذكره ، وبالجملة لا يكاد ينسى شيئاً منها (1) 0
4- أن يكون فطناً ذكياً ذا رأي يكفيه لتبيين أدنى دليل ، حتى إذا رأى على شيء أدنى الدليل فطن له على الجهة التي يدل عليها الدليل 0
5- أن يكون حسن العبارة يواتيه لسانه على ما في قلبه وضميره بأوجز الألفاظ 0
6- أن يكون محباً للعلم والاستفادة منقاداً له سهل القبول ، لا يؤلمه تعب العلم ولا يؤذيه الكد الذي يلحقه (2) 0
7- أن يكون محباً للصدق وحسن المعاملة مقرباً لأهله 0
8- أن يكون غير شره في الأكل والشرب والنكاح ، متجنباً للعيب ، مبغضاً للذات الكائنة على هذه 0
9- أن يكون كبير النفس عالي الهمة محباً للكرامة ، تكبر نفسه الطبع عن كل ما يشين من الأمور ويشنع وتسمو همة نفسه الى أرفع الأمور رتبةً وأعلاها درجة 0
10- أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده زاهداً فيها 0
11- أن يكون محباً للعدل وأهله ، مبغضاً للجور والظلم وأهله ، يعطي النصفة لأهلها ، ويرثي لمن حل به الجور ، ويكون مواتياً لكل ما يرى حسناً جميلاً عدلاً ، غير صعب القياد ولا جموح ، وإن دعي الى الجور والقبيح لا يجيب 0
12- أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل ، جسوراً مقداماً غير خائف ولا ضعيف النفس (3) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 129 0
(2) المصدر والصفحة نفسهما 0
(3)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 4 ، ص 130 0(1/253)
هذه هي أبرز الخصال الفطرية التي يجب توافرها بواضع الشريعة صاحب أحكام الناموس (1) الذي يأخذ منه المتمسكون بأحكام الناموس علمهم ويعلمونه للآخرين ، فهؤلاء معلمون للناس أيضاً بعد صاحب الناموس ، وقد قسم الإخوان ، المتمسكين بأحكام الناموس الى ثمانية أصناف (2) وجعلوا لكل صنف أخلاقاً وخصالاً يجب أن يتسم بها ، وهذه الأصناف هي :-
1- قراء تنزيله وكتبه وحفاظ ألفاظه على رسومها ومعلموها لمن بعدهم من ذراريهم ، ليؤدوا الى من بعدهم من أتباعهم ما أخذوا عمن قبلهم ، كل ذلك لكيلا يجهلها من يجيء بعدهم فتندرس معالم الدين ، وتضمحل وتبطل أحكام الناموس (3) 0 أما عن الخصال والأخلاق التي يجب توافرها في هؤلاء ، فأولها فصاحة الألفاظ ، وتقويم اللسان ، وطيب النغمة ، وجودة العبارة ، وسرعة الحفظ ، وجودة الفهم ، ودوام الدرس والنشاط في القراءة ، والتواضع لمن يتعلم منه والتعظيم له ، ومعرفة حقه وحرمته والرفق بمن يعلمه ، والشفقة عليه ، وقلة الضجر من إبطاء فهمه وحفظة وترك ضيق الصدر من تلقينه ، وقلة الطمع في أخذ العوض منه ، وقلة المنة عليه بما يعلمه (4) 0
__________
(1) أن هذه الخصال هي نفسها التي أكد الفارابي ضرورة توافرها برئيس المدينة الفاضلة ، ينظر أبو نصر الفارابي ، آراء أهل المدينة الفاضلة ، تقديم وشرح إبراهيم جزيني 0 ص 103 – 104 0
(2) هناك تقسيمات أخرى لأصناف الناس عند الإخوان ، فتارة يقولون أنهم تسعة أصناف ، وتارة يقولون سبعة أصناف ، ناهيك عن الأصناف الثمانية المتمسكين بأحكام الناموس 0 عن هذه التقسيمات ينظر د0 ناجي التكريتي ، د0 صالح الشماع ، رسائل فلسفية ، ص 117 – 118 ، كذلك ينظر مجيد مخلف طراد ، العدالة عند فلاسفة الإسلام من الكندي الى ابن سينا ، ص 224- 225 0
(3) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 322 0
(4) المصدر نفسه ، ص 324 0(1/254)
2- رواة الأخبار وناقلو الأحاديث وحافظوا السيرة ، وهؤلاء المؤدبون الى من بعدهم ، ليبلغوها الى أخرهم كي لا تجهل و تنسى فتندرس آثارها وتموت أخبارهم فلا تعرف (1) ، أما الخصال والأخلاق التي يحتاجها هؤلاء فهي ، جودة الاستماع ، واستيفاء الكلام ، وضبط الألفاظ على رسمها ، وتقييدها بالكتابة ، والتحرز
والتخرج والحذر من الزيادة فيها والنقصان عن تمامها ، والصدق وحسن الأداء ، وتجنب الكذب ثم الحكاية عنها بهيئاتها ، وبذلها ونشرها لمن سأل عنها أو يصلح له الأخبار عنها ، وطيها وصونها عمن لا تصلح له ولا تليق به 0 كل ذلك كما يرى الإخوان ، نصرة للدين ولواضع الناموس ، وابتغاء وجه الله ، وجزيل ثوابه في الآخرة (2) 0
3- فقهاء أحكام الناموس وعلماء سُننه ، وحفاظ حدوده ، كيلا لا تُجهل فلا تُستعمل ، أو تُنسى فتندرس معالم الدين وتضمحل ويبطل الناموس (3) ، أما عن الأخلاق التي يحتاج لها هؤلاء ، فأولها معرفة الرتب التي رتبها واضع الناموس من الأوامر والنواهي والفرائض والسُنن والنوافل والحلال والحرام والحدود والأحكام ، ثم معرفة القياس وكيفية استخراج الفروع من الأصول في الفتاوى والمسائل الواردة التي ليس لها ذكر في الأصول ، والتثبت والتأني في الفتيا والاستقصاء في استفهام السؤال بجميع شروطه ، ثم قلة الترخيص في الشبهات وقلة الخلاف مع أبناء الجنس ، وترك الحسد للأقران ، وبذل النصيحة للإخوان ، والشفقة على العلماء بزلاتهم ، والاحتمال لأذية الجيران ، وقلة الرغبة في حطام الدنيا وعفة الفرج ، وترك الطمع ، والقيام بواجب قيام الناموس وأن لا يكون قوله مخالفاً لعلمه (4) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 322 0
(2) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 325 0
(3) المصدر نفسه ، ص 322 0
(4) المصدر نفسه ، ص 325 0(1/255)
4- المفسرون ألفاظ تنزيله الظاهرة ، وأقاويله المروية والمعبرون عن وجوه معانيه المختلفة ، لمن قصّر فهمه عنها ، وقلة معرفته بها ، كل ذلك كيلا يجهلها من يجيء من بعدهم من ذريتهم واتباعهم في أحكام الناموس أو تنسى أو تندرس معالم الدين وتضمحل وتبطل أحكام الناموس (1) ، أما الأخلاق والخصال والشروط التي يحتاجها هؤلاء ، معرفة غرض صاحب الناموس في إيراده التنزيل ، واستعمال الألفاظ المشتركة المعاني ثم أن يكون له أتساع في معرفة تصاريف الكلام والأقاويل ، وما تحملها من معاني تؤكد غرض واضع الناموس ، وأن يكون له جودة بحثٍ وبُعد غورٍ في استخراج المعاني ولطف العبارة منها حسب ما تحتمله عقول المستمعين ، ويقرب من فهم المتعلمين ، وأن يكون له من يقظة القلب ما لا يناقض في أقاويله وعباراته ولا في المعاني التي يشير إليها في تفسيره لألفاظ تنزيل واضع الناموس وأقاويله وكلامه وبيانه (2) على أن الشرط الأساس الذي يجب توافره في المفسرين ، هو أن يكونوا عارفين بغرض واضع الناموس في إيراده الألفاظ المشتركة المعاني في تنزيله وأقاويله وعباراته وبيانه ، فمتى كان المفسرون أو المفسر غير عالم بهذه الأشياء فعندها يتخيل له من تلك الألفاظ من المعاني غير ما أشار إليه واضع الناموس ، وتوهم سوى ما أراد فيها ، فعندها سيفهم المستمعون من تفسيره ما تخيله له ويعلم المتعلمون خطأً ، فيصبح
له ذلك ديناً ومذهباً بخلاف دين واضع الناموس وطريقته ، ويكون عند ذلك مخالفاً له في اعتقاده في الشريعة وهو لا يشعر بكون ذلك مفسداً للناموس ، وهكذا إنسان أكد إخوان الصفاء ضرورة تجنبه(1) 0
5- أنصار واضع الناموس ، المجاهدون وغزاة أعدائه ، الحافظون ثغور بلاد أتباع صاحب الناموس وأنصاره كيلا يغلب عليهم عدوهم ويفسد أمر دينهم عليهم (3) ،
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 322 0
(2) المصدر نفسه ، ص 326 0
(3)
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 323 0(1/256)
ومن الخصال والأخلاق اللازم توافرها في هؤلاء أن يكون لهم تعصب للدين وغيره على حرمة الناموس ، وحمية من أجل فسادٍ يدخل عليه ، وحنق على الأعداء المجاهرين بالعداوة لواضع الناموس ودينة المريدون فساد أحكامه ، وقلة الهيبة منهم ، وشجاعة النفس عند البراز ، وخفة الحركة عند الجولان ، وتيقظ القلب من غدر العدو ، والحذر في أوقات الغفلة ، وقلة الاغترار بقلتّهم ، وطلب الحيلة للظفر بهم ما استوى من غير قتال ومخادعة في الحروب ، ومبادرة في البراز الى الأقران والأكفاء ، وصبر عند اللقاء ، وكثرة الذكر لله وترك الإفساد عند هزيمة العدو ورحمة الأسير وقبول الصلح عند الهدنة ، والوفاء بالعهد ، وترك الإعجاب عند كثرة عدد الأعوان والأنصار (1) 0
6- خلفاء صاحب الناموس في أُمته ، ورؤساء الجماعات والحارسون شريعته على أُمته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، المانعون لهم أن يسيروا بغير سيرة الناموس ، الحافظون أطراف المملكة كيلا يخرج خارجي سرّاً أو علانية ، فيفسد أحكام الناموس بتمويهه وزوره على قلوب العامة والجهَّال (2) ، وخلفاء واضع الناموس طائفتان ، إحداهما خلفائه في الملك والرياسة في أُمور الدنيا والتدبير والسياسة في حفظ ظاهر أحكام الناموس على أهله ، والطائفة الأُخرى هم خلفاؤه في أسرار أحكام الناموس الذين هم الأئمة المهديون والخلفاء الراشدون (3) 0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 326 – 327 0
(2) المصدر نفسه ، ص 323 0
(3) المصدر نفسه ، ص 327 0(1/257)
7- الزهاد والعباد في المساجد ، والرهبان والقوام في الهياكل ، والخطباء على المنابر الواعظون للناس والمحذرون لهم من ترك استعمال أحكام الناموس الذامون أمور الدنيا ، المحذرون للناس من الاغترار بأمانيها ، المزهدون للمنهمكين في الشهوات ، المذكرون أمر المعاد وأحوال القيامة للغافلين عنها المشوقون الى نعيم الآخرة ، المقرون بها 0 كل ذلك كيلا يجهل أمر المعاد ولا ينسى ذكر الآخرة ، والاستعداد للرحلة إليها ، إذ كان هذا هو الغرض الأقصى والغاية والمطلب من وضع الرياضيات الفلسفية0 أما عن الأخلاق والخصال والشروط اللازم توافرها فيهم ، فأول هذه الخصال التي تعد أساس الدين كما يقول الإخوان وملاك الأمر ، القناعة باليسير من حطام الدنيا والرضى بالقليل من متاعها ولذاتها وصيانة النفس عن الانهماك في شهواتها ولذاتها وترك طلب المنزلة والجلالة والكرامة وقلة الحرص في طلب الحاجات فيها ، والاشتغال بطلب العلم ، والعبادة بالصوم والصلاة مع أبناء الجنس ، وترك الاختلاط
مع الراغبين فيها من أبنائها والتفرد في الخلوات وكثرة ذكر الموت وفناء نعيم الدنيا وزوال ملكها ، ومن الخصال اللازم توافرها في الزهاد والعباد أيضاً الاعتبار بعد النظر الى آثار القرون الماضية والدور الخربة والمنازل الدارسة للأمم الخالية ، فضلاً عن النظر في كتب الحكماء وأخبار سَير الملوك الماضية والتفكر في الأمثال المضروبة على ألسنة الحكماء ، ذوي التجربة في وصفهم الدنيا واعتبارهم تصاريف الزمان ونوائب الحدثان والتيقن بأمر المعاد وشدة الاشتياق الى نعيم الآخرة ، دار القرار مع الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين (1) 0
__________
(1) إخوان الصفاء ، رسائل إخوان الصفاء ، ج 1 ، ص 327 0(1/258)
8- علماء تأويل تنزيله والراسخون في العلوم الإلهية والمعارف الربانية العارفون خفيات أسرار الناموس الذين هم الأئمة المهديون والخلفاء الراشدون الذين يقضون بالحق وبه يعدلون (1) 0
هذه الأصناف الثمانية للمتمسكين بأحكام الناموس والذين يعدون معلمين للناس كل حسب وظيفته فينقل بدوره ما تعلمه ، للآخرين بأدق وجه وأتم صورة ، ففي تأدية ما عليهم نصر للناموس وصاحبه وفي التقصير في أداء واجباتهم مضرة للناموس وللآخرين الذين يتعلمون منهم ، ويعرفون الناموس وحقيقته كون هؤلاء قد سبقوهم في تعلم الناموس وأحكامه وأغراض صاحب الناموس وواضع الشريعة ، إذ يعتبر واضع الشريعة معلماً للبشر كافة بما يُمد به من العلم الإلهي عن طريق الملائكة0
__________
(1) المصدر نفسه ، ص 323 0(1/259)
يتضح من كل ما ذكرنا أن إخوان الصفاء ، ربطوا التعليم بالدين والأخلاق ، كما ربطوا التربية بالدين والأخلاق فكونوا مذهباً تربوياً وتعليمياً جمع الدين والأخلاق فضلاً عن مراعاتهم الجوانب الاجتماعية التي تناولوها ، كتحديد مكانة المعلم والمتعلم في المجتمع ، وتقسيمهم الناس الى مراتب حسب صفاء جوهر نفوسهم وحسب أهمية الأعمال التي يؤدونها للآخرين ، من حيث الحرف والصنائع ومن حيث الوظائف المختلفة التي يقدمونها للآخرين ، ومدى تأكيد الإخوان ضرورة التعاون فيما بينهم على أُمور الدين والدنيا ، وأن الإنسان لا يستطيع بمفردة أن يسد احتياجاته ما لم يعتمد على مساعدة الآخرين ، فضلاً عن تأكيدهم ضرورة توافر بيئة اجتماعية صحيحة ليكون لها الدور البارز في تربية الأفراد وتعليمهم القيم الأخلاقية بعيداً عن الجهالات والمفاسد والضلالات ، بيئة اجتماعية صحيحة تشجع أبنائها على طلب العلم والمعرفة ، بيئة تجمع بين الدين والفلسفة والعلوم المختلفة مع التركيز على العلوم الإلهية ومن ثم بناء مجتمع فاضل ومدينة روحانية فاضلة0 وبعد أن تكلمنا عن التربية والتعليم وكيف نظر الإخوان ، لها نود أن نبين ما استنتجناه من حديث التربية والتعليم 0(1/260)
أن الذي تنطبق عليه التربية والتعليم هو الإنسان ، هذا الكائن الحي الذي يمر بمراحل عديدة من الحياة ، منها حياة الرحم فإذا أنهى هذه المرحلة وخرج الى الحياة الدنيا سليم الأعضاء فأول وسيلة للمعرفة ، هي معرفة العالم الخارجي عن طريق الحواس الخمس ومع مرور الزمن والتدرج في العمر حتى سن الرابعة يبدأ في هذه المرحلة بإدراك القيم الدينية والأخلاقية ، فيعرف معنى حلال وحرام ، وهذا صحيح وهذا خطأ ، وهو في هذه المرحلة بأمس الحاجة الى من يربيه ويغرس القيم الصحيحة في نفسه ، لأن عقله في هذه المرحلة كصحيفة بيضاء لم يغرس فيها بعد من الاعتقادات والعلوم شيئاً ، فمتى ما قام المربي بتنشئته على القيم الأخلاقية الصحيحة وتوجيهه وجهة دينية فسوف تنغرس هذه المسائل في نفسه ، ومتى ما رباه الأبوان تربية سيئة على الجهالات ، فتنغرس بلا شك هذه الجهالات في نفسه 0 فالطفل إذا تربى تربية صحيحة وأُعطي الأساسيات التي يجب أن يجعل كل تصرفاته عليها ، بعد ذلك تأتي مرحلة التعليم أي القراءة والكتابة والتحفيظ فيتعلم العلوم التي تعرف عن طريق التحفيظ واستخدام القلم والدوات والألواح ويكون ذلك في المكاتب ، وبعد هذه المرحلة تأتي مرحلة جديدة في التعليم وهي مرحلة الخامسة عشرة من عمر المتعلم ، إذ يقوم المعلم عند ذلك بعرض أجناس العلوم وأقسامها ، وبعد معرفته استعداد المتعلمين وقدرتهم على تعلم العلوم ، يعطي المتعلمين من العلوم ما يتلاءم ومستواهم العلمي ومدى استعدادهم وميلهم لهذا العلم ، لأن المتعلمين يختلفون في ميلهم للعلوم ، فمنهم من يحب تعلم علم معين في أنه لا يرغب في تعلم غير هذا العلم وربما يبغض باقي العلوم ، فهكذا متعلم يعطى من العلوم ما يناسبه ، أما المتعلم الذي يبدي ميلاً لتعلم مختلف العلوم ، بحيث لا يتعصب لعلم من العلوم كما لا يتعصب لمذهب من المذاهب فمتعلم كهذا جدير باهتمام إخوان الصفاء ، إذ يعطى منهجاً جديداً من مناهج التربية(1/261)
العالية عندهم ، ويشمل هذا المنهج علم النفس ، والحس والمحسوس ، والعقل والمعقول ، والنظر والبحث عن أسرار الكتب الإلهية ، والتزيلات النبوية ، ومعاني ما تضمنتها موضوعات الشريعة فضلاً عن العلوم الرياضية الأربعة وهي العدد والهندسة والتنجيم والتأليف ، على أن جُلّ الاهتمام يجب أن يكون بالعلوم الإلهية 0 فهذه العلوم تُدرس للمتعلم بمجالسهم الخاصة التي تعقد كل اثنتي عشر يوماً 0 فضلاً عن ذلك يقوم من يترأس المجلس الذي يُعد معلماً له أهميته الكبرى ، أو أن له درجة علمية أهلته لهذا المنصب المهم ، وهو على ما يبدو من أصحاب واضعي الناموس المتمسكين بأحكامه وبالتحديد من ذرية إسماعيل بن جعفر الصادق فيقوم رئيس المجلس بحث المتعلمين على طلب العلم والتعاون فيما بينهم وعلى ضرورة تخلقهم بأخلاق الأنبياء عليهم السلام ، وفي أثناء هذه المجالس يقوم بعرض الرسائل عليهم ( رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ) فيقوم بشرحها رسالة رسالة ومقالة مقالة ، في أثناء شرحه للرسائل يعرف أيهم قد فهم هذه الرسائل ، وعندها يستخلص الذين فهموها ، ويدخلهم بامتحانٍ من نوعٍ خاص ، ألا وهو امتحانهم بموطن المحبوبات عندهم ، كأن يأمرهم بترك الأوطان ومفارقة الأحباب وما يلحقها من أيتام الأولاد وترميل النساء ، وقد يأمرهم بإنفاق الأموال والجهاد في النفس ، فمتى ما امتثلوا لأمره عند ذلك سيعطيهم منهجاً جديداً مؤداه ، أنه سيشرح لهم ما غمض من مواضيع الرسائل ويشرح لهم ما في الرسالة الجامعة ، فضلاً عن إدخال مواد جديدة ويقوم بشرحها وهي المدارس الأربع والكتب السبعة والجفران والرسائل الخمس والعشرون ، ونجد أن هذه المصنفات الثلاث الأخيرة لا يعرف محتواها وإنما ذكروا أسماءها من دون تحديد مضمونها 0 هذا ما استطعنا استنتاجه من حديث الإخوان ، عن التربية والتعليم 0
الخاتمة(1/262)
أن مدار المعرفة هو الإنسان بوصفه ذاتاً عارفةٍ وهذا الإنسان خلقة الله بأحسن تقويم ، فزوده بقوى عديدة زوده بالحواس الظاهرة والحواس الباطنة فضلاً عن العقل الذي يُعد الأساس في التمييز بين الإنسان وسائر الحيوانات 0 فعن طريق الحواس الخمس يعرف الإنسان العالم الخارجي وما فيه من حقائق مشخصة ، فلكل واحدة من هذه الحواس الخمس نوع معين من المحسوسات ووسط تعتمد عليه في إدراك محسوساتها ، فالحاسة السامعة تدرك الأصوات والنغمات معتمدة في ذلك على الهواء الذي يعد الوسط في نقل الأصوات ، كذلك حاسة الشم تعتمد على الهواء في نقل الروائح 0 أما حاسة البصر فتعتمد على الضوء الواقع على الأجسام المحسوسة فتنعكس صورتها على العين 0 أما حاسة اللمس فتعتمد على المماسة المباشرة للأجسام المحسوسة 0 وكل هذه الحواس تنقل محسوساتها الى القوة المتخيلة التي مسكنها في مقدمة الدماغ ، إذ ينتشر في هذه المقدمة عصبات لطيفة لينة تتصل بأصول الحواس وتتفرق وتنسج في أجزاء الدماغ مثل نسيج العنكبوت ، فعند انتقال أثر المحسوسات في الحواس وتغير مزاج الحواس ، يصل ذلك التغيير الى الأعصاب التي في مقدمة الدماغ ، فتتجمع آثار المحسوسات كلها عند القوة المتخيلة فتدرك رسوم المحسوسات إدراكاً روحانياً ، أي مجردة من المادة وتنتقل هذه الأفكار المجردة الى القوة المفكرة التي مكانها وسط الدماغ ، فتقوم هذه القوة بتحديد معاني هذه المحسوسات وتحديد منافعها ومضارها 0 وتنقل هذه المفاهيم المجردة للأشياء المحسوسة ، الى القوة الحافظة لتحفظها الى وقت التذكار ، وإذا أراد الإنسان أن يعبر عن هذه المفاهيم التي عرفها عن طريق الإدراك الحسي سيعبر عنها عن طريق القوة الناطقة باستخدام الكلام الذي هو عبارة عن أصوات منطوقة يفهمها الآخرون ، وقد يلجأ الى استخدام القوة الصانعة فيستخدم اليد التي تمسك بقلم فتكتب معاني هذه الأشياء0 وبعد المعرفة الحسية يأتي دور المعرفة العقلية ،(1/263)
فالعقل له أهميته الكبيرة في المعرفة مثلما للحواس أهميتها 0 والإخوان جعلوا من العقل رئيساً ترجع إليه الأمور التي فيها صلاح الدين والدنيا وكلما كان الإنسان أكثر محسوسات ولها أكثر تأملاً وللمتخيلات أجود اعتباراً ، فأن الأشياء المعقولة تكون عنده أكثر عدداً ، وأن كل ما لا تدركه الحواس بوجهٍ من الوجوه لا تتخيله الأوهام ، وما لا تتخيله الأوهام لا تتصوره العقول ، فالعقل على الرغم من أهميته عند الإخوان ، إلا أنهم جعلوا من الحقائق التي في أوائل العقول ، إنما هي كليات أنواع وأجناس أُخذت من أشخاص جزئية بطريق الحواس 0 وبعد العقل يأتي كما يرى إخوان الصفاء ، دور البرهان في المعرفة وأن هذا البرهان وإن كان يعرفنا بحقائق التي لا تدرك بالحس ولا يمكن للأوهام تصورها إلا أن الدليل والبرهان الصادق هما الباعثان للعقول الى الإقرار بها ، وهذا ما ينطبق على الأُمور الرياضية والمنطقية ، بل طبقوه حتى على الأُمور الروحانية 0 وعلى الرغم من قولهم إن البرهان سواء أكان هندسياً أم منطقياً يعرفنا بهكذا حقائق لا تدرك بالحس ولا يتصورها الوهم ، نجدهم يؤكدون أن البرهان يعتمد على مقدمات مأخوذة مما في أوائل العقول ، التي أُخذت بدورها من الحواس 0 وحتى يتجنب الإخوان هذا التناقض بينوا أن هذه الأُمور وإن كانت لا تُدرك بالحس ولا يتصورها الوهم إلا أن مثالات هذه الأشياء محسوسة فينتج من هذه المقدمات نتائج تجبر العقول على الإقرار بها ، ولهذا السبب قدموا البراهين الهندسية على البراهين المنطقية 0 ولم تقف المعرفة عند هذه الطرق أي المعرفة الحسية والعقلية والبرهانية فحسب وإنما تكلموا عن المعرفة القلبية ، والتي من خلالها يجب الإيمان بكل ما قاله الرسل والأنبياء عليهم السلام 0(1/264)
فضلاً عن أن العلوم تُعد من المصادر المهمة لرفد الإنسان بضروب المعرفة شتى ، فأكد الإخوان ، أهمية العلم وفضيلة طلبه وتكلموا عن كل علوم زمانهم والعلوم السابقة على زمانهم ، فقسموا العلوم الى شرعية وضعية وعلوم رياضية ، وعلوم فلسفية حقيقية ، وأكدوا العلوم الفلسفية التي من خلالها يعرف الحكيم حقيقة الدين ويفهمه فهماً عميقاً ، ومن خلال هذه العلوم يرتقي الإنسان لمعرفة الحقائق الإلهية التي تُعد الغرض الأقصى من وراء الخوض في هذه العلوم 0 وأكدوا ضرورة عدم التعصب لعلم معين من دون سائر العلوم أو لمذهب من دون سائر المذاهب ، وإنما مذهبهم قائم على أساس الشمولية لكل العلوم ولكل الأديان والمذاهب ما داموا يرون أن مصدر الأديان واحداً ومصدر العلوم واحداً أيضاً ، وهو الله تبارك وتعالى ، فالأديان جوهرها واحد ومن الاختلافات الظاهرة سوى اختلاف في الشرائع سببها اختلاف علاج كل نبي لمرض أبناء زمانه 0 فضلاً عن ذلك فأن الإخوان ، قد ربطوا الفلسفة بالدين مادامت العلوم الشرعية والعلوم الحكمية كما يرى الإخوان تؤدي الى معرفة الله سبحانه وتعالى 0
كما أكد إخوان الصفاء ، على الدور البارز للمعلم الذي يعد له الدور الفعال في تقديم معرفة منظمة للمتعلم فيقدم المعرفة للمتعلمين وفقاً لمستوياتهم الفكرية وطبقاً لرغباتهم في نوع العلوم على أن الأساس في التربية والتعليم هو الجانب الديني 0
المصادر والمراجع
أولاً - العربية 0
- القرآن الكريم 0
إبراهيم مذكور
- في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه ، ج 2 ، دار المعارف بمصر ، القاهرة ، بدون تاريخ 0
أبو نصر الفارابي
- إحصاء العلوم ، تحقيق ، عثمان أمين ، مطبعة السعادة ، مصر ، 1931 0
- أراء أهل المدينة الفاضلة ، تقديم وشرح ، إبراهيم جزني ، دار القاموس الحديث ، بيروت ، بدون تاريخ0
البير نصري نادر
من رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ 0(1/265)
أبي حنيفة النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد التميمي المغربي 0
- دعائم الإسلام وذكر الحرام والحلال والقضايا والأحكام ، ج 1 ، تحقيق ، آصف علي بن أصغر فيضي دار المعارف بمصر ، القاهرة ، 1963 0
أبي حيان التوحيدي 0
- المقابسات ، تحقيق ، محمد توفيق حسين ، مطبعة الإرشاد ، بغداد ، 1970 0
- الأمتاع والمؤانسة ، ج 2 ، تصحيح وشرح ، أحمد أمين ، أحمد الزين ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ، 1942 0
أبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري
- الفصل في الملل والأهواء والنحل ، وبهامشه الملل والنحل للشهرستاني ، ترجمة ، ابن حزم ملخصة ابن خلكان ، ج 1 ، المطبعة الأدبية ، في سوق الخضارة القديم بمصر ، ط1 ، 1317 هـ 0
أجناس جولد تسهير
- العقيدة والشريعة في الإسلام ، تأريخ التطور العقيدي والتشريعي في الدين الإسلامي ، ترجمة ، د0 محمد يوسف موسى ، د0 علي حسن عبدالقادر ، الأستاذ عبدالعزيز عبدالحق ، دار الكتب الحديثة بمصر ، الكتاب العربي ، ط 3 ، 1959 0
أحمد حميد الدين الكرماني
- راحة العقل ، تحقيق وتقديم ، د0 محمد كامل حسين ، د0 محمد مصطفى حلمي ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، مصر ، بدون تأريخ 0
أحمد خورشيد النوره جي
- مفاهيم في الفلسفة والاجتماع ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، ط 1 ، 1990 0
أحمد فؤاد عبدالباقي
- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ، مسند أحمد بن حنبل ، ج 4 ، مطبعة برلين ، 1962 0
أحمد فؤاد الأهواني
- التربية في الإسلام ، دار المعارف بمصر ، 1967 0
أحمد محمود صبحي
- الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي ، العقليون والذوقيون ، دار المعارف بمصر ، بدون تاريخ 0
إخوان الصفاء وخلان الوفاء 0
- رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، ج1 ، تحقيق وتقديم ، بطرس البستاني ، دار صادر ، دار بيروت لبنان 1957 0
- رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، ج 2، دار صادر ، دار بيروت ، لبنان 1957 0(1/266)
- رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، ج 3 ، دار صادر ، دار بيروت ، لبنان 1957 0
- رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، ج 4 ، دار صادر ، دار بيروت ، لبنان 1957 0
- الرسالة الجامعة ، للحكيم المجريطي ، ج 1 ، تحقيق وتقديم ، جميل صليبا ، مطبعة الترقي بدمشق ، 1949 0
- الرسالة الجامعة ، للحكيم المجريطي ، ج 2 ، تحقيق وتقديم ، جميل صليبا ، مطبعة الترقي بدمشق ، 1949 0
الرسالة الجامعة ، تأليف الإمام المستور أحمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ، تحقيق وتقديم ، مصطفى غالب ، دار صادر ، بيروت ، 1974 0
إدريس عماد الدين الداعي المُطلق 0
- عيون الأخبار وفنون الآثار ، السبع الرابع ، تحقيق ، د0 مصطفى غالب ، دار التراث الفاطمي ، بيروت 1973 0
أديب عباسي
- مذهب النشوء وإخوان الصفاء ، بحث في مجلة الرسالة ، السنة الأولى ، العدد 23 ، ديسمبر ، 1933 0
- من هم إخوان الصفاء ، بحث في مجلة الرسالة ، السنة الثانية ، العدد 34 ، فبراير ، 1934 0
- علم النفس والتربية والأخلاق عند إخوان الصفا ، بحث في مجلة الرسالة ، السنة الثانية ، العدد 26، يناير 1934 0
ارسطو طاليس
- علم الأخلاق الى نيقو ماخوس ، ج 2 ، نقله من اليونانية الى الفرنسية ، بارتملي سانتهلير ، نقله الى العربية ، أحمد لطفي السيد ، مطبعة دار الكتب المصرية ، القاهرة ، 1924 0
أ . س . رابوبرت
- مبادئ الفلسفة ، ترجمة ، أحمد أمين ، مطبعة لجنة التأليف والنشر ، القاهرة ، 1949 0
أفلاطون
- جمهورية أفلاطون ، ترجمة ، حنا خباز ، دار القلم ، بيروت ، لبنان ، ط 2 ، 1980 0
افلوطين
- التساعية الرابعة في النفس ، ترجمة ، د0 فؤاد زكريا ، مراجعة ، سليم سالم ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، 1970 0
أميرة حلمي مطر
- دراسات في الفلسفة اليونانية ، دار الثقافة للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1980 0
أوليري(1/267)
- مسالك الثقافة الإغريقية الى العرب ، ترجمة ، د0 تمام حسان ، مكتبة الأنجلو المصرية ، بدون تاريخ 0
ت . ج . دي بور
- تأريخ الفلسفة في الإسلام ، ترجمة محمد عبدالهادي ، أبو ريدة ، مطبعة التأليف والترجمة والنشر القاهرة ، بدون تاريخ 0
تشارلز داروين
- أصل الأنواع ، ترجمة ، إسماعيل مظهر ، منشورات مكتبة النهضة ، بيروت ، بغداد ، 1973 0
جبور عبدالنور
- إخوان الصفاء ، دار المعارف بمصر ، 1961 0
- معالم الوثنية في رسائل إخوان الصفاء ، بحث في مجلة الكاتب المصري ، المجلد السادس ، العدد 21 يوليو ، 1947 0
د0 جعفر آل ياسين
- فلاسفة يونانيون من طاليس الى سقراط ، منشورات عويدات ، بيروت ، لبنان ، ط 1 ، بغداد ،1971 0
- في رحاب إخوان الصفاء ،
جمال الدين علي بن يوسف القفطي
- تأريخ الحكماء ، مؤسسة الخانجي بمصر ، مكتبة المثنى ، بغداد ، بدون تاريخ 0
د0 جميل صليبا
- المعجم الفلسفي ، بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية ، ج2 ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت بدون تاريخ 0
جورج طرابيشي
- معجم الفلاسفة ، دار الطليعة ، بيروت ، ط 1 ، 1987 0
د0 حسام محيي الدين الآلوسي
- دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط 1، 1980 0
حسين مروه
- النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ، ج2 ، دار الفارابي ، بيروت ، 1978 0
د0 زيدون عبدالباقي
- التفكير الاجتماعي نشأته وتطوره ، مطبعة السعادة ، مصر ، ط 2 ، 1974 0
سعيد زايد
- معجم أعلام الفكر الإنساني ، تصدير ، إبراهيم مذكور ، المجلد الأول ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1984 0
- رسائل إخوان الصفا ، بحث في مجلة تراث الإنسانية ، العدد الأول ، المجلد السابع ، 1969 0
د0 طه حسين
- من تأريخ الأدب العباسي الثاني ، ج 3 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ 0
عارف تامر(1/268)
- جامعة الجامعة ، منشورات مكتبة الحياة للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان ، ط 2 ، بدون تاريخ 0
- خمس رسائل إسماعيلية ، دار سلمية ، سوريا ، منشورات دار الإنصاف للطباعة ، 1956 0
- حقيقة إخوان الصفاء وخلان الوفاء ، منشورات المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، لبنان ، ط2 ، 1966 0
د0 عبدالجليل الطاهر
- المشكلات الاجتماعية في حضارة متبدلة ، مطبعة دار المعرفة ، بغداد ، 1953 0
د0 عبدالله عبدالدايم
- التربية عبر التأريخ من العصور القديمة حتى أوائل القرن العشرين ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ط3 ، 1973 0
د0 عبدالرحمن بدوي
- ربيع الفكر اليوناني ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، دار القلم ، بيروت ، لبنان ، ط 5 ، 1979 0
- خريف الفكر اليوناني ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، دار القلم ، بيروت ، لبنان ، ط 5 ، 1979 0
عبدالرحمن بن أبي بكر السويطي
- التدريب ، تحقيق ، عبدالوهاب عبداللطيف ، مكتب الرياض للحديث ، الرياض ، بدون تاريخ 0
د0 عبدالرزاق مسلم الماجد
- مذاهب ومفاهيم في الفلسفة والاجتماع ، منشورات دار الكتب العصرية ، صيدا ، بيروت ، بدون تاريخ 0
عبدالغني الملاح
- من أثر إخوان الصفاء في الحضارات الأوربية ، بحث في مجلة آفاق عربية ، العدد الخامس ، كانون الثاني ، 1980 0
د0 عبداللطيف محمد العبد
- الإنسان في فكر إخوان الصفاء ، مكتبة الأنجلو المصرية ، بدون تاريخ 0
د0 عبدالمنعم الحفني
- الموسوعة الفلسفية ، دار ابن زيدون ، بيروت ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، ط 1 ، بدون تاريخ 0
عبده الشمالي
- دراسات في تأريخ الفلسفة العربية الإسلامية وآثار رجالها ، دار صادر ، بيروت ، ط 4 ، 1965 0
د0 عرفان عبدالحميد
- المدخل الى معاني الفلسفة ، دار الجيل ، بيروت ، دار عمار ، عمان ، ط 1 ، 1989 0
د0 علي سامي النشار
- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ، ج1 ، دار المعارف بمصر ، ط 2 ، 1964 0(1/269)
- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ، ج2 ، دار المعارف بمصر ، ط 2 ، 1964 0
عمر الدسوقي
- إخوان الصفاء ، دار نهضة مصر للطبع والنشر ، الفجالة ، القاهرة ، بدون تاريخ 0
عمر فروخ
- تأريخ الفكر العربي الى أيام ابن خلدون ، دار العلم للملايين ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ 0
- عبقرية العرب في العلم والفلسفة ، منشورات المكتبة العلمية ومطابعها ، بيروت ، 1952 0
فراير ، هنري ، سباركس
- علم النفس العام ، ترجمة ، د0 إبراهيم يوسف المنصور ، مطبعة المعارف ، بغداد ، 1968 0
فؤاد البعلي
- فلسفة إخوان الصفاء الاجتماعية والأخلاقية ، دار المعارف ، بغداد ، 1958 0
- مدينة إخوان الصفاء الفاضلة ، بحث في مجلة الأقلام ، السنة الثالثة ، العدد الثاني ، 1966 0
فؤاد كامل وآخران
- الموسوعة الفلسفية المختصرة ، دار القلم ، بيروت ، منشورات دار النهضة ، بدون تاريخ 0
قدري حافظ طوقان
- مقام العقل عند إخوان الصفاء ، بحث في مجلة الأديب ، السنة الرابعة ، المجلد الخامس ، 1945 0
كريم متّى
- الفلسفة اليونانية ، مطبعة الإرشاد ، بغداد ، 1971 0
د0 كمال اليازجي
- أعلام الفلسفة العربية ، بالاشتراك مع أنطوان غطاس كرم ، بيروت ، لبنان ، آب ، 1957 0
- معالم الفكر العربي في العصر الوسيط ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ط 3 ، 1961 0
د0 ماجد فخري
- تأريخ الفلسفة الإسلامية ، وضعه بالإنجليزية ، ونقله الى العربية ، د0 كمال اليازجي ، الجامعة الأمريكية بيروت ، 1974 0
- مختصر تأريخ الفلسفة الإسلامية ، دار الشورى ، بيروت ، ط 1 ، 1981 0
مجيد مخلف طراد
- العدالة عند فلاسفة الإسلام من الكندي الى ابن سينا ، رسالة ماجستير ، جامعة بغداد ، كلية الآداب ، قسم الفلسفة ، آذار ، 1985 0
د0 محمد علي أبو ريان
- تأريخ الفكر الفلسفي ، من طاليس الى أفلاطون ، ج 1، دار المعارف بمصر ، ط3 ، 1968 0
محمد علي هدو(1/270)
- أسلوب رسائل إخوان الصفاء ، بحث في مجلة البلاغ ، العدد الثاني ، 1974 0
د0 محمد غلاب
- إخوان الصفا ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، مصر ، 1968 0
محمد كامل حسين
- وثنية إخوان الصفاء ، بحث في مجلة الكاتب المصري ، المجلد السادس ، العدد 24 ، سبتمبر ، 1947 0
محمد لطفي جمعة
- تأريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب ، القاهرة ، 1927 0
د0 محمد ناصر
- الفكر التربوي العربي الإسلامي ، ج 2 ، من قراءات في الفكر التربوي ، الناشر وكالة المطبوعات الكويت ، ط 1 ، 1977 0
مصطفى الخشاب
- الفلسفة وعلم الاجتماع ، بحث في مجلة عالم الفكر ، المجلد الثاني ، العدد الثاني ، سبتمبر ، 1971 0
مصطفى عبدالرزاق
- تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ، ط3 ، 1966 0
مصطفى غالب
- في سبيل موسوعة فلسفية ، إخوان الصفاء ، منشورات دار ومكتبة الهلال ، بيروت ، بدون تاريخ 0
- فلاسفة من الشرق والغرب ، مشورات حمد ، بيروت ، ط 1 ، بدون تاريخ 0
د0 موسى الموسوي
- من الكندي الى ابن رشد ، منشورات عويدات ، بيروت ، لبنان ، ط3 ، 1982 0
د0 ناجي التكريتي
- الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية وأثرها في مفكري الإسلام ، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت لبنان ، ط2 ، 1980 0
- رسائل فلسفية ، بالاشتراك مع د0 صالح الشماع ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، بدون تاريخ 0
د0 نوري جعفر
- الإبداع وآليات الدماغ في التراث السايكلوجي عند العرب كما ورد في رسائل إخوان الصفا ، بحث في مجلة آفاق عربية ، السنة الثانية ، العدد السادس ، شباط ، 1978 0
- آراء ومواقف تربوية ونفسية صائبة في التراث العربي الإسلامي ، دار الرشيد للنشر ، دار الحرية للطباعة بغداد ، 1982 0
هنري كوربان(1/271)
- تأريخ الفلسفة الإسلامية ، بالتعاون مع السيد حسين نصر وعثمان يحيى ، ترجمة ، حسين مروة ، حسن قبسي ، منشورات عويدات ، بيروت ، لبنان ، ط 1 ، حزيران ، 1966 0
و . م . أوميل
- بدايات علم النفس الحديث ، ترجمة ، د0 شاكر عبدالحميد ، مراجعة ، د0 عاهد حسني العاني ، دار الشؤون الثقافية العامة ، ط1 ، 1987 0
يوحنا قمير
- إخوان الصفاء ، منشورات دار المشرق ، بيروت ، لبنان ، 1986 0
يوسف كرم
- تأريخ الفلسفة اليونانية ، دار القلم ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ 0
- تأريخ الفلسفة الحديثة ، دار المعارف بمصر ، ط 5 ، بدون تاريخ 0
ثانياً – الأجنبية
- Watt – M – Islam and the Integration of Society , London , 1960.
- Dwicht – M – Donaladson – Studies in Muslim Ethics , London , 1953 .
- Promac Donald – Muslim theology – London , 1903 .
illusion of such sensory perception, ... .etc. Second, the inner senses and their role in knowledge Such senses are five according to Ikhwan Al –Safa' imagination, memory, thought, speaking, and they add “ creation “ that renders thoughts in to visual symbols understandable for the readers. Also, I talked about mental and demonstrative knowledge. Section two touches upon the limits of Man's ability concerning outer and inner senses and mind. This section is rounded with the dogmatic aspect of knowledge.(1/272)
Chapter three is about education and pedagogy and how they are related to knowledge. So, section one is dedicated to education and ethics: I speak about the importance of education in philosophical thought beginning with Greek philosophers, Muslim, and them Ikhwan Al–Safa where I deal with the educational aspects, I touch upon how they look at such a topic and the main issues they talked about like the division of people upon ethics, categories of ethics, and others. Section two of this chapter speaks about education, the corner stone of this section, the learner – what he is required to know and prerequisites he must have – and tasks he may shoulder in schematizing the syllabus according to the students level and other topics. After that, the religious aspect is discussed through dealing with the law giver in his capacity as a teacher for humanity and the requirements he must have. Then, the legislators are laid out, being teachers for human beings and come after the possessor of legislation. So, I show their types and features they may manifest. This chapter is rounded off with some conclusions I can make out. And may Almighty God help.
Abstract
Knowledge . Education , and Pedagogy of Ikhwan Al – Safa'(1/273)
Ikhwan Al –Safa' (Purity Brothren), like any other Muslim Philosophers, were greatly interested in knowledge, education, and pedagogy. What had been written down by them testifies, high keenness on knowledge and sciences to the extent that their letters stood as encyclopedia covering all sciences whether at their time or before. They are viewed as the first bulky volume encompassing, through stylistically clear way, all sciences. Such is the dominant feature of most those letters. Others are not stamped with such a feature owing to their own purposes which are salient to all those who read meticulously their letters. Ikhwan Al–Safa' stressed the importance of knowledge – seeking, let alone the lofty status they gave to both teacher and learner. It is worth to mention that they put down a complete theory of information. Thus, they talked about means whereby Man can acquire knowledge, and resources he depends on to gain concerted knowledge to whom he seeks. All these topics have been touched upon throughout this thesis of three chapters.
Chapter one deals with the theory of information of Ikhwan Al–Safa.Section one of which is concerned with ways of knowledge beginning with sensory knowledge that they divide it in to two: first, the outer senses namely (touch, taste, smell, hearing, and sight) where I explain the sensory perception , the conditions required by senses to perceive their perceptible, in addition to the
KNOWLEDGE, EDUCATION, ANDPEDAGOGY
OF
IKHWAN AL- SAFA’
A THESIS SUBMITTED BY ALI HADI TAHIR
TO THE COUNCIL OF THE COLLAGE OF ARTS(1/274)
University of Baghdad as a partial Fulfillment for the requirements of M.A degree in Philosophy
Super Vised by
Assist. Prof. Dr. Majeed M. tarrad Al- Dulaimi
2002 ... ... ... ... ... ... ... ... 1423 H(1/275)