والمسلم الذي يعبد الإله الواحد الحق، له منهج يهديه إلى ما ينفعه في دنياه وأخراه، ويمنعه من الظلم والإضرار بمن سواه...
أما الذي يخرج من دين يعبد فيه ربا واحدا، إلى دين يعبد فيه آلهة شتى، لا يمكن أن يكون حرا، بل هو عبد تتنازعه تلك الآلهة، فهو يعبد مخلوقات الله من أشجار وأحجار وحيوان، وملائكة وأنبياء، بدلا من عبادة خالق تلك المخلوقات.
كما يعبد هواه الذي لا يقف به عند حد من المتناقضات التي تحرمه الحياة المطمئنة، لأنه كلما تعاطى شيئا من الشهوات التي دفعه إلى تعاطيها هواه، تاقت نفسه لغيره فتتعدد شهواته بتعدد ما يميل إليه هواه، فلا يقنع بطعام ولا شراب ولا مسكن ولا مركب، ولا حلال ولا حرام.
وليس له منهج يعبد الله به، يمنعه من ظلم غيره من البشر والحيوانات والإفساد في الأرض، ولا يغنيه جاه ولا منصب ولا وظيفة.
ولقد نبه الله تعالى على خطر الهوى الذي يتبعه صاحبه على غير هدى من الله، فسماه بسبب اتباعه إياه إلها يعبده من دون الله، كما قال تعالى: ((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)) [الفرقان:43].
فأيهما الحر الذي يعبد إلها واحدا، يأمره بالخير الذي يجمع له بين مصالح الدنيا والآخرة، و ينهاه عن الشر الذي يدفع عنه مفاسد الدنيا والآخرة و مضارهما، أم الذي يعبد آلهة شتى تتعدد أوامرها المتناقضة له، كما تتعدد نواهيها المتضادة كذلك، فتضطرب حياته في الدنيا، وينال أشد العذاب في الآخرة؟
أيهما الحر الذي يستغل خيرات الدنيا في طاعة ربه، دون أن تسترقه وتستعبده، أم الذي يكون عبدا لدنياه؟
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطيَ رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثَ رأسُه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع له) [البخاري(3/1057)]
لقد ضرب الله لحرية من يعبد إلها واحدا، وعبودية من يعبد آلهة متعددة بهذا المثل الواضح البين:
?ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ? [الزمر (29)]
وكم من ناس نالوا من الدنيا ما نالوا من مال وسلطان وجاه وملك، وهم في حقيقة أمرهم عبيد أسرى، وكم من ناس حرموا ذلك بل قد يقعون أسرى مستعبدين تحت قهر الأعداء، وهم أعزة أحرار؟!
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله:
(.. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب-الذي هو الملك-رقيقا مستعبدا لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض...فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب.....-إلى أن قال-: وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم ... فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم..) [مجموع الفتاوى: (10/186-189)]
الأمر الثاني: أن منع المسلم من تغيير دينه إلى دين آخر، ليس إكراها له على الدخول في دين الإسلام، بل هو إعانة له على بقائه على الحق ومنعه من الانضمام إلى أهل الباطل، وفي ذلك تحقيق أعظم مصلحة له في الدنيا والآخرة، وحفظ له من خسارة محققة، وأي خسارة أعظم من خسارة المسلم دينه الذي لا يوجد في الأرض دين يقبله الله ويرضاه غيره:
?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ? [آل عمران (19)]
?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ? [آل عمران (85)]
?وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)? [سورة العصر]
إن الذي ينعم الله تعالى عليه بالإسلام، فيتمتع بما فيه من خير وحرية وعدل ومساواة وطمأنينة قلب وراحة بال، ثم يكفر بتلك النعمة التي لا تعقبها إلا خسارة الدارين، إنما هو أشد ممن يحجر عليه بسبب سفهه الذي يبذر بسببه أمواله تبذيرا لا تجيزه الأديان ولا العقول السليمة.
قال تعالى: ?وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ...? [النساء (5،6)]
فأيهما أولى بالحجر والمنع الصغير والسفيه اللذان يبذران أموالهما، وكذلك الحجر الذي تطبقه الحكومات على أملاك المفلسين من الأفراد والشركات، أهؤلاء أولى بالحجر أم الذين يتبدلون الكفر بالإيمان: ?وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ? [البقرة (108)]
وسبحان الله الذي وصف من رغب عن ملة الإسلام بسفه النفس، فقال تعالى:
?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ? (130)
قال ابن كثير رحمه الله "قال تعالى: ?ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه?: أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره، بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطُفي في الدنيا للهداية والرشاد، من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طرق الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا أم أي ظلم أكبر من هذا، كما قال تعالى: ?إن الشرك لظلم عظيم?" [تفسير القرآن العظيم تفسير (1/ص186)]
الأمر الثالث: أن ما قد يخشى من بعث حكم الردة على النفاق، فسيكون عدد الواقعين في النفاق قليلا جدا، لأن عامة المسلمين راضون بدينهم مطمئنون، لا يبغون به بديلا، وكونه قد يوجد عدد قليل يظهر الإيمان ويبطن الكفر، أهون من إظهار الكفر بعد إظهار الإيمان.
ولو ترك للمسلمين الخروج من دينهم إلى غيره من الأديان، لكثر المرتدون كثرة تضعف بها الأمة تذهب هيبتها وهيبة دينها، لأن كل من ضعف إيمانه قد يعلن ردته.
وبقاء ضعيف الإيمان على إيمانه، خير له وللأمة من تركه دينه، لأنه يرجى له بما معه من الإيمان أن يقوى إيمانه ويموت على الإسلام، فينجو من الخلود في جهنم، ويبقى مكثرا لسواد المسلمين، مشاركا لهم في تعاونه معهم على البر والتقوى بمقدار إيمانه، ولو فرض أنه لم يتعاون مع المسلمين، فإنه بحكم انتمائه إليهم يتورع عن التعاون مع أعدائهم عليهم.
والذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر وهو المنافق، يبقى ملتزما أمام قانون الشرع بالشرع، ومما يجب عليه التزامه النصح للمسلمين، وعدم التعاون مع عدوهم ضدهم ولو في الظاهر، ويؤاخذ على مخالفته شرعا...(3/64)
وقد وجد المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاملهم معاملة من سواهم من المسلمين، بناء على الظاهر كما مضى...
وعندما استأذن منه بعض أصحابه أن يقتل من ظهر منهم النفاق ومنهم عمر رضي الله عنه، الذي استأذنه في قتل رأس المنافقين "عبد الله بن أبي" لم يأذن له بل قال له: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) والصحبة هنا هي الصحبة الظاهرية التي يعاشر بها المنافق معاشرة سائر المسلمين.
وما أظهروا الإسلام إلا ليتقوا به ما قد ينزل بهم من معاملة الكفار، كما قال تعالى عنهم: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً...? [المنافقون (1، 2)]
حماية الأفراد والأسر والأمة من خطر الردة
إن أول ما يتعرض لخطر الردة، نظام الأمة العام، ثم أسرة المرتد، من زوج وأولاد، وأقارب، ثم استشراء ذلك في ضعاف الإيمان من الأمة...
ومن هنا نعلم شيئا من حكمة الله تعالى في منع المسلم من الارتداد عن دينه إلى دين آخر، لأن في ترك المسلمين لدينهم هدما لهذا الدين الحق الذي يجب أن يحفظ، وتوهينا لأهله الذين يجب أن يعتصموا بحبل الله، ليكونوا قدوة للعالمين في سلوك صراط الله المستقيم: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه? [آل عمران(110)]
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما المرتد فالمبيح عنده - أي المبيح للقتل عند الإمام أحمد - هو الكفر بعد الإيمان، وهو نوع من الكفر، فإنه لو لم يقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنعهم من النقص ويمنعهم من الخروج بخلاف من لم يدخل فيه". [مجموع الفتاوى (20/9-103)، (28/413) راجع أيضاً المبسوط (10/98)، وبدائع الصنائع (59/438)].
وقال أحمد فتحي بهنسي:
"جريمة الردة في الفقه الإسلامي فيها شيء من المماثلة لجريمة تغيير النظام الاجتماعي في الفقه الغربي.. كالفوضوية.. وغيرها من المذاهب الهدامة". [المسؤولية الجنائية (18)].
وقال سيد سابق رحمه الله:
"الإسلام منهج كامل للحياة فهو..
دين ودولة..
وعبادة وقيادة..
ومصحف وسيف..
وروح ومادة..
ودنيا وآخرة..
وهو مبني على العقل والمنطق..
وقائم على الدليل والبرهان..
وليس في عقيدته ولا شريعته ما يصادم فطرة الإنسان، أو يقف حائلاً دون الوصول إلى كماله المادي والأدبي..
ومن دخل فيه وعرف حقيقته، وذاق حلاوته، فإذا خرج منه وارتد عنه بعد دخوله فيه وإدراكه له، كان في الواقع خارجاً على الحق والمنطق ومنكرا للدليل والبرهان وحائداً عن الحق السليم والفطرة المستقيمة.
والإنسان حين يصل إلى هذا المستوى، يكون قد ارتد إلى أقصى دركات الانحطاط.
ومثل هذا الإنسان لا ينبغي الحفاظ على حياته، ولا الحرص على بقائه لأن حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل؟.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الإسلام وهو منهج عام للحياة ونظام شامل للسلوك الإنساني لا غنى له من سياج يحميه، ودرع يقيه..
فإن أي نظام لا قيام له إلا بالحماية والوقاية والحفاظ عليه من كل ما يهز أركانه ويزعزع بنيانه، ولا شيء أقوى في حماية النظام ووقايته من منع الخارجين عليه، لأن الخروج عليه يهدد كيانه، ويعرضه للسقوط والتداعي..
إن الخروج على الإسلام والارتداد عنه، إنما هو ثورة عليه والثورة عليه ليس لها من جزاء إلا الجزاء الذي اتفقت عليه القوانين الوضعية فيمن خرج على نظام الدولة وأوضاعها المقررة.
إن أي إنسان سواء كان في الدول الشيوعية أم الدول الرأسمالية، إذا خرج على نظام الدولة، فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده والخيانة العظمى جزاؤها الإعدام.
فالإسلام في تقرير عقوبة الإعدام للمرتدين منطقي مع نفسه ومتلاق مع غيره من النظم". [فقه السنة (2/457)].
راجع أيضا [كتاب الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي (2/101، 188)]
وخلاصة القول أن الارتداد عن الإسلام تمرد على النظام، وإضعاف للجماعة، وتكثير لسواد الأعداء وإفشاء لأسرار المسلمين الخطيرة، وغير ذلك مما لا يتسع له المقام..
شبهة من جعل المرتد كالكافر الأصلي في حرية الاعتقاد
وما زعمه بعض المعاصرين، من المساواة بين المسلم المرتد والكافر الأصلي، في أن لكل منهما حرية الاعتقاد، ودخولهما في النهي عن الإكراه في الدين، الوارد في كتاب الله، مثل قوله تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيّ? [آل عمران: (256)]هو زعم باطل، من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: ما سبق من المفاسد المترتبة على ارتداد المسلمين، وتأثيره الخطير على الأمة ودينها...
الوجه الثاني: أن النهي عن الإكراه في الدين، حكم عام أريد به الخاص، وهو الكافر الأصلي الذي لم يدخل في الإسلام، بدليل ما ورد من السنة في حكم المرتد، ولو فرض أن المرتد يدخل في عموم النهي عن الإكراه في الدين، فإنه يجب تخصيصه بما ورد في السنة من حكم المرتد، لأن الخاص مقدم على العام.
الوجه الثالث: إجماع علماء الأمة على القول بحكم المرتد الذي ورد في السنة الصحيحة، وكذلك عمل الصحابة وغيرهم من ولاة الأمور به.
ولا يجوز أن يساوى بين المسلم المرتد عن الإسلام، والكافر الأصلي، لأن الداخل في الإسلام، لا يخلو من أحد شخصين: شخص نشأ مسلما في أسرة مسلمة وشعب مسلم، وهذا لعمر الله جدير بشكر نعمة الله عليه، حيث هيأ الله تعالى له بيئة لم تتلوث برجس الكفر الذي لا يتمكن كثير من أهله من الاهتداء إلى هذا الدين والدخول فيه.
وشخص آخر لم يكن مسلما، ولكنه دخل في الإسلام مختارا حرا لم يكرهه على الدخول فيه أحد، بل دخله بسبب قيام حججه وبراهينه التي تضطر العقل على الاعتراف بأنه الدين الحق الذي لم يعد في الأرض دين حق سواه.
وهو يعلم كذلك أنه لا يجوز لمن دخل في الإسلام الخروج منه إلى غيره
ويعلم أنه بنطقه بالشهادتين، قد أسلم وجهه لله، وأصبح بذلك خاضعا لشرعه الكامل وحكمه العادل الذي إذا ثبت أي حكم من أحكامه، وجب تطبيقه عليه رضيه أو كرهه.
تشكيك يجب رفضه
ومع هذه الأدلة الصحيحة الصريحة في قتل المرتد، والعمل بها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين، وعهود أخرى تلت ذلك، ومع ما نقل من انعقاد إجماع العلماء على العمل بها، نجد من يشكك في تطبيق هذا الحكم في هذا العصر.
وهؤلاء قسمان:
القسم الأول: بعض المنتسبين إلى الإسلام من تلاميذ المستشرقين الذين انبروا لمهاجمة أصول هذا الدين وفروعه، وغالب هؤلاء التلاميذ يفقدون الفقه في دين الله، مع فقدهم الولاء الصادق لله ولرسوله وللمؤمنين.
ولهذا تأثروا بآراء أساتذتهم وقلدوهم في الحق وفي الباطل على غير هدى من الله، ونصبوا أنفسهم وكلاء لهم في البلدان الإسلامية، ناشرين أفكارهم مدافعين عنها، مشككين في كتاب الله وسنة رسوله، وفي صلاحية تطبيق شرع الله في هذه العصور.
القسم الثاني: بعض العلماء الأفاضل وبعض الكتاب، هالتهم الهجمات الشديدة، التي يشنها أعداء الإسلام الذين لم يزالوا ولا زالوا ولن يزالوا، يحاربون أصول الإسلام و فروعه، حربا شاملة لكتابه وسنة رسوله، ومناهجه وشريعته ودعاته وعلمائه، ووسائل انتشاره، من مال واقتصاد وتعليم وإعلام وغير ذلك مما لا يخفى على أحد اليوم.(3/65)
حاربوا هذا الدين بكل وسيلة أتيحت لهم، وعلى رأس هذه الوسائل القوة العسكرية التي احتلوا بها بعض بلدان المسلمين، وهددوا بها بعضها الآخر، متذرعين بحقوق الإنسان التي تحوي موادها حرية الاعتقاد الشاملة للخروج من دين إلى دين آخر، سواء كان الخارج فردا أو جماعة.
ومما لا شك فيه أن إخراج المسلمين من دينهم هو الهدف الأساسي عند اليهود والصليبيين والوثنيين، ولم نر هجوما شنوه في الماضي، ويشنونه في الحاضر، وسيشنونه في المستقبل، على أي دين وجد في الأرض مثل هجومهم على دين الإسلام، فهو هدفهم الرئيس من حملاتهم الظالمة اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم، كما قال تعالى:
?وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ? [البقرة (120)]
وقال تعالى:
?وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [البقرة (217) البقرة]
ولقد تدخل أعداء الله في كل شأن من شئون هذا الدين، وبخاصة في أصول ديننا وشريعتنا، وهاهي مؤسساتهم التي تدعمها الدول الغربية، تلح على الأمم المتحدة - التي تسيرها الدولة المعتدية على أمتنا - لحماية المرتدين عن الإسلام مما تسميه اضطهادا - هذا مع العلم أن كثيرا من المرتدين لا يقام عليهم حكم الشرع، في غالب حكومات الشعوب الإسلامية:
"هيئة تنصيرية تطالب بحرية الردة "
وجهت منظمة تنصيرية إنجليزية نداءً للأمم المتحدة يوم الأربعاء 29 يوليو؛ كي تتصدى لاضطهاد المرتدين عن الدين في البلدان الإسلامية على حد زعمهم.
وجاء ذلك في الوقت الذي أشادت فيه جماعات حقوقية بما ورد في تقرير التنمية البشرية لعام 2004 الصادر عن الأمم المتحدة من التأكيد على أن "الأفراد يجب أن يكونوا أحراراً لا في انتقاد الدين الذي ولدوا عليه فحسب، بل وفي التحول عنه أيضاً إلى دين آخر أو البقاء بلا دين".
وجاء نداء الأربعاء طبقاً لموقع الإسلام اليوم في شكل التماس أعدته جماعة نصرانية بريطانية اسمها صندوق برنابا "Barnaba Fund" دعت فيه مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والحكومات والهيئات الدولية، إلى رفع أصواتها وإثارة هذه القضية "كأمر ملح" مع التجمعات الإسلامية.
وقال مدير الدعاية بالصندوق بول كوك الذي رحب بما ورد في تقرير التنمية البشرية باعتباره "تأكيداً مشجعاً جدّاً" على "حق الردة" إن جهود جماعته من أجل الدخول في حوار مع الهيئات الإسلامية بشأن هذا الأمر قوبلت بالصمت..
يذكر أن حد الردة غير مطبق في معظم الدول الإسلامية خاصة أن أحكام الشريعة الإسلامية كلها معطلة."
[مجلة المجتمع، عدد: 1613، تاريخ 7/8/2004م المجتمع الإسلامي]
أقول: إن هذا الهجوم الشديد وهذه الحملات الظالمة التي ما فتئ أعداء الإسلام يشنونها عليه، جعلت بعض العلماء الأفاضل الغيورين وبعض الكتاب في هذا العصر، يتحفزون لرد الشبهات التي أُطْلِقت سهامها إلى صميم هذا الدين واتهام نصوصه بالتعارض والتناقض، ومن ذلك ما زعموه من تعارض بين قوله تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ? [البقرة (256)] وما ورد من النصوص في قتل المرتد.
ومن هؤلاء العلماء والكتاب من نفى قتل المرتد مطلقا، ومنهم من نفى قتل بعض المرتدين دون بعض.
ألسنا نرى ونسمع بعض المرتدين عن الإسلام يجاهرون في وسائل الإعلام كلها: الفضائيات والإذاعات، والصحف والمجلات، والشبكة العالمية للمعلومات "الإنترنت" وينصبون أنفسهم مفتين يهاجمون ما علم من الدين بالضرورة؟
أما تعليل إسقاط عقوبة المرتد بأنه "لا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين!".
فنقول: إن مناط عقوبة الردة هو وقوعها مستوفية شروطها، فإذا خرج من دخل في الإسلام منه، فقد استحق هذه العقوبة الشرعية، ولسنا مكلفين بالتنقيب عن قصده من ردته...
ثم نقول كيف سيكون شعور أبوي المرتد عن الإسلام، وشعور إخوانه وأبنائه وزوجه، وأسرته وجيرانه وأصدقائه، وشعور كل مسلم عَلِم بخروج عضو من أعضاء أمته من عقيدتها ودينها؟ هل سيقيمون له احتفالا يحتفون بردته؟
وإذا لم تكن الردة عن الإسلام استهزاء بدين الله، فما هو الاستهزاء؟ هل الإسلام ملعب كرة أو صالة عرض سينمائي، يحق لكل إنسان أن يحمل على صدره بطاقة للدخول فيهما والخروج منهما متى شاء؟
ثم نقول مرة أخرى: إننا لم نر مرتدا عن الإسلام، خرج منه بهدوء كما قال الكاتب، مع استثناء الجهال الذين يضلهم المنصرون في أدغال أفريقيا أو غابات بورنيو، وحتى هؤلاء إذا ارتد منهم كبير الأسرة أو كبير القبيلة لحق به أتباعه.
بل إن الذين يعلنون ردتهم وكفرهم بالإسلام، يصبحون مع ردتهم دعاةً إلى ما انتقلوا إليه من دين محرف، أو منحازين إلى مؤسساته مستهزئين بالإسلام وأهله وشعائره وعلمائه، متخذين كل وسيلة متاحة لنشر أفكارهم وهجومهم على هذا الدين.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
==============
تغيير مناهجنا الدراسية إلى أين؟
د.سليمان بن حمد العودة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره...
بوأ الله لإبراهيم مكان البيت، وأراده الله قلعة للتوحيد "ألا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً" (الحج: من الآية26)، واستجاب الله دعاء إبراهيم وبعث في أمة العرب رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
وكانت بلاد العرب وأرضُ الحرمين جزيرة الإسلام، منها شعّ نوره ومن بطاحها بُعث نبيه _صلى الله عليه وسلم_، ومنها انطلقت قوافل المجاهدين يفتحون البلاد ويدعون العباد إلى الحق، وكان الإسلام قدرَ الجزيرة، وكان فضل الله عظيماً على أهلها إذ جعلهم حملة الإسلام الأول، وأهلَ السابقة والفضل "بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (الحجرات: من الآية17)، "وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ" (الأعراف: من الآية43).
وظلت الجزيرة - عبر القرون - تحظى بالأهمية والرعاية، فهي مهوى الأفئدة وقبلة المسلمين، ومنها ابتدأ تاريخ الإسلام، وفيها أعظمُ مقدسات المسلمين، ولا غرو أن تحتفظ بخاصيتها وتميزها الحضاري والقيمي وإن مرّت بمراحل ضعف أو تهميش في جوانبها السياسية والمادية.
ولا تزال بلاد الحرمين تحتفظ بمكانتها ولها سَمْتُها وخصائصها المميزة عن غيرها، ولكن هذا التميُّز لم يكن مرضياً لأعداء الملة والدين في قديم الزمان وحديثه، وكانت حملات المشركين والمنافقين في مواجهاتها الأولى مع خير القرون شرسة حادة، استُخدمت فيها كل أنواع السلاح، وشعار المشركين قولهم: "أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ" (صّ:5)، ومنهج القوم "أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ" (صّ: من الآية6)، وشعار المنافقين "لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ" (المنافقون: من الآية8)، ومنهجهم في التضييق "يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا" (المنافقون: من الآية7).(3/66)
واستمرت ولا تزال حملاتُ المواجهة والإرهاب يصطلي المسلمون عموماً بنارها ولبلاد الحرمين نصيب وافرٌ منها، وما الهجوم الكاسح في وسائل الإعلام الغربية وفي دوائرهم السياسية وهيئاتهم ومنظماتهم إلا نموذج من نماذج العدوان والظلم، فلم تسلم البلاد ولا العباد من تطاولهم وظلمهم ولم يُستثن الإسلام الحق، ولا النبي الأكرم، ولا الكتاب المهيمن من هذه الهجمة الشرسة، وأنى لغيرهم أن يسلموا؟
ولا غرابة في ذلك فالهدف واضح "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" (البقرة: من الآية120) والنفس الطويل "وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا" (البقرة: من الآية217).
ولكن المستغرب حقاً أن يستجيب المسلمون لهذه الاستفزازات، وأن يضعفوا أمام هذه المكيدة ويتأثروا بهذه الحملات، والأخطر من ذلك أن يتّجهوا إلى أغلى ما يملكون بالتغيير لا بالتطوير، وأن تكون قيم الأمة وأصولها في مهب الريح، وأن تُخترق حصونها الأخيرة في سبيل إرضاء الآخرين، أو لنوع من الهزيمة النفسية عند ثلة من المثقفين، فيحذف أو يحور (الولاء والبراء) من المناهج الدراسية، ويستحيا من ذكر الجهاد، وهو ذروة سنام الإسلام أو يغض الطرف عن الكافر وترقق العبارة معه فيُسمى بالآخر بدل الكافر، وهو مصطلح الشرع حتى وإن قاتلونا في الدين وأخرجونا من ديارنا مستعمرين غاصبين، وكأنه لم ينزل في كتابنا " وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً" (التوبة: من الآية123)، "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (المائدة: من الآية51)، "لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ" (الممتحنة: من الآية1).
وعلى حين غفلة من الناس جرى في هذه الأيام تغييرٌ في مناهجنا الدراسية، وفوجئت المدارس بسحب كتب مدرسية طبعت هذا العام 1424هـ، لتُستبدل بكتبٍ أحدث منها، وكان التغيير على مستوى كتبٍ بجملتها، أو إبقاء كتب مع تعديل في بعض مضامينها، أو توحيد المنهج للبنين والبنات في كتاب واحد أو تغيير الرسوم والصور والتعليقات القديمة إلى صور وتعليقات محدثة تظهر فيها صورة الفتاة إلى جانب صورة الفتى، وفيها إيحاءات لا تخفى على اللبيب..
ولنا على هذا التغيير وقفات وتعليقات:
1- هذا التغيير العاجل والمفاجئ كان مُركزاً على مواد الدين، ولا سيما (التوحيد)، ويُعنى التغيير بقضايا أساسية في العقيدة كالولاء والبراء، وما يتبع ذلك من حكم الاحتفال بأعيادهم ومشاركتهم أفراحهم، وحكم الاستعانة بالمشركين والعمل عندهم والإقامة بين أظهرهم وحكم تقليدهم ونحو ذلك، وقد طالعت بنفسي كتاب التوحيد الجديد للصف الأول الثانوي، فرأيت حذفاً كاملاً لباب الولاء والبراء، وتغييرات أخرى في الأبواب الأخرى يدركها بجلاء من قارن بين المنهج القديم والجديد.
فلماذا تكون البداية بمواد الدين وبهذه الموضوعات على وجه الخصوص؟ ومن المسؤول عن الهدر المادي حين تطبع كتب هذا العام ثم تسحب بعد أسابيع لتوزع كتب بديلة عنها؟
2- لم يُستفت العلماء وفي مقدمتهم هيئة كبار العلماء في هذا التغيير، وفي ذلك خرق وتجاوز للأمر الملكي القاضي بإحالة أي تغيير في المناهج الشرعية إلى هيئة كبار العلماء، بل صدرت فتوى لأحدهم، وهو فضيلة الشيخ صالح الفوزان باستنكار التغيير في المناهج، ومما قاله: لا يجوز التغيير في الكتب المؤلفة القديمة بحذف شيء أو زيادة أو شطب شيء أو تقديم أو تأخير ولا حذف أسماء مؤلفيها؛ لأن ذلك خيانة للأمانة العلمية، وهو من جنس تحريف أهل الكتاب لكتبهم... إلخ، بل ذلك خرق لسياسة التعليم في المملكة، والتي نصت أهدافها الإسلامية العامة على: 1- تنمية روح الولاء لشريعة الإسلام، وذلك بالبراءة من كل نظام أو مبدأ يخالف هذه الشريعة... إلخ (ص 10)، كما نصت سياسة التعليم في المملكة في أهداف المرحلة الثانوية (وهي المرحلة التي حذف منها باب الولاء والبراء) على: متابعة تحقيق الولاء لله وحده، وجعل الأعمال خالصة لوجهه ومستقيمة في كافة جوانبها على شرعه (ص12)، ونصت كذلك على أن غاية التعليم في المملكة فهمُ الإسلام فهماً صحيحاً متكاملاً، وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها (ص10) الطبعة الرابعة.
وإذا نصت هذه الوثيقة المعتبرة على الولاء والبراء وعلى فهم الإسلام فهماً متكاملاً في أكثر من بند فكيف يحذف هذا الباب برمته من المنهج؟ وإذا كان يخطط لتعديل سياسة التعليم برمتها فالأمر أدهى وأمر ويحتاج إلى وقفة حازمة وعلى مستوى أعلى، وهل يلام من قام بمرافعة للتجاوزات على سياسة التعليم؟
3- إن أمر المناهج الدراسية عظيم فعليها تتربى أجيال الأمة في كافة المراحل، ومن خلالها تصاغ عقول الطلاب والطالبات، المناهج الدراسية ذات صلة بمشروع الأمة الحضاري، ومحددة لقيمها وأسلوب تعاملها مع الآخرين، هي عامل من عوامل الوحدة والبقاء، وهي لون من ألوان التميز، ومرتكزٌ للصمود أمام التحديات العالمية.
وإذا كانت تلك بعض قيم المناهج، فالتغيير فيها لا ينبغي أن ينفرد بالقرار فيه امرؤٌ أو فئة معينة، بل هو حق للمجتمع كله بدءاً من الطالب ومروراً بالمعلم، ثم ولي أمر الطالب، وانتهاءً بولاة الأمر، ومنهم العلماء، فهل يليق أن تصادر آراء هؤلاء جميعاً، ويصدر القرار بشكل أحادي أو فتوى؟ أين الدعاوى بتقدير وجهة نظر الآخرين؟ ألسنا ننتقد سياسة الإقصاء، أولسنا نعيب احتكار الآراء، وما بالنا نمارس ذلك في أخطر القضايا؟
ومهما قيل إن التغيير بسبب الأحداث والتفجيرات الأخيرة، فالحديث عن التغيير في المناهج سابق لذلك، ومهما استنكرنا حوادث التفجير في بلادنا فلا ينبغي أن نعالج الخطأ بخطأ آخر.
4- إن قضيتنا مع المناهج، بل مع التعليم برمته قصة طويلة، ومنذ زمن والمستغربون وأهل العلمنة يدندنون حول التعليم مرة بالدعوة إلى الاختلاط ومرة بتغيير المناهج، وثالثة بإدخال التربية الرياضية في مدارس البنات... وهكذا، ومع الإصرار ومستجدات الأحداث بدأت الخطوات الأولى لتنفيذ المخطط، وينبغي أن يصرَّ الخيِّرون وأصحاب الفكر السليم على وقف التنفيذ، والتنبه للخطوات المستقبلية، وأين القول بأن (الدمج) مجرد قرار إداري؟ وهل لنا أن نقول: إن هذه أول ثماره المرة؟
5- وثمة طرفٌ آخر يصر على التدخل في مناهجنا، ولكنه يُسِرُّ بذلك من قبل، ثم بات يجهر ويعلنها صراحة وتهديداً، واصفاً إياها بالتطرف، وناسباً لها تدمير حضارتهم، والحق أن مناهجنا لم تدمر منشآت الغرب، وإنما دمّر الغربُ أنفسهم بأنفسهم، وذلك بظلمهم وطغيانهم وتدميرهم للآخرين، ولقد شهد شاهد منهم بذلك، فقد قال (أحدُ) أصحاب مدرسة المخابرات المركزية الأمريكية (بيل كريستان): إن الهدف الحقيقي للمتطرفين هو تخليص العالم الإسلامي من الهيمنة الأمريكية، إنهم لم يسعوا إلى تدمير أمريكا بقدر ما سعوا إلى إخراجها من أرضهم، [مستقبل العالم الإسلامي وتحديات في عالم متغير (كتاب البيان) 1424هـ ص563-564].(3/67)
6- إننا حين نستجيب لهذا الاستفزاز ونغيِّر في المناهج لا عن قناعة وإنما لإقناع الآخرين، فنحن بهذا التصرف نصدِّق التهمة، وسيظل القوم يتهمون، ونحن نغير، حتى لا يبقى لنا من مناهجنا شيء نتميز به، وأعداؤنا في الغرب والشرق يدركون أن التأثير على التعليم مدخلٌ للسيطرة على الفرد والأمة، وهو أسلوب لتدجين المجتمعات الإسلامية وسلخها من هويتها المسلمة، وهو نوع من الإرهاب الفكري والاستعمار الثقافي لا يتورع الغرب عنه، ومن العجب أن هؤلاء الذين يمارسون التدخل في مناهج الآخرين يرون التدخل في مناهجهم نوعاً من الحرب عليهم، وأمريكا وقبل عشرين عاماً تقول: لو قامت قوة بفرض نظام تعليمي علينا لكان ذلك مدعاة لإعلان حرب علينا. (الدويش، البيان/173)، وعلى المجتمع والأمة أن تدرك آثاره ومخاطره المستقبلية، وأن تتبصر في المخطط والأدوات ووسائل التنفيذ، وتسعى جاهدة لإيقاف صلاحيته وسريانه.
7- وسؤال مهم يطرح نفسه، وماذا عن مناهج القوم التعليمية، وما هي رؤية المسؤولين في التعليم عندهم؟ ودعونا نُمثِّل بأقرب نموذج يجاورنا في البلاد المحتلة (فلسطين) – عجَّل الله بتحريرها من أيدي الصهاينة الغاصبين – حيث يُحدد وزير المعارف والثقافة الإسرائيلي السابق (زبولون هامر) أهمية التربية في المجتمع اليهودي بقوله: "إن صمودنا أمام التحدي الكبير الذي يواجهنا يتمثل في مقدرتنا على تربية قومية مرتبطة بالتعاليم الروحية اليهودية تربيةً يتقبلها الطفل راغباً وليس مكرهاً، ولهذا فإن على جهاز التعليم الرسمي والشعبي أن يتحمل التبعية الكبيرة للصمود أمام التحديات التي تواجه إسرائيل..".
ويعمم التربية وأثرها على كل أفراد المجتمع اليهودي أولُ رئيس وزراء لإسرائيل (ابن غوريون) حين يقول: إنه لن يكون للحركة الصهيونية مستقبلٌ بدون تربية وثقافة عبرية لكل يهودي بوصفه واجباً ذاتياً (انظر: هكذا يربي اليهود أبناءهم في إسرائيل، مقال في مجلة البيان عدد 173/1423هـ).
هكذا ينظر المسؤولون في دولة اليهود إلى قيمة التعليم وتأصيل المناهج بنظرتهم المرتبطة بتعاليم التوراة المحرفة، ومصيبة حين يتشبث أهل الباطل بباطلهم، ويتوارى أو يستحي أصحاب الحق من إظهار حقّهم.
وفي أمريكا وبريطانيا وبقية الدول الغربية تبرز المدارس اليهودية كنموذج متطرف في الحفاظ على الهوية والتميز الديني، وذلك من خلال فتح مدارس منظمة ينخرط فيها مُربون ومعلمون متمكنون في مجال التربية والتعليم، ومختصون بدراسة الأبعاد النفسية والاجتماعية للجالية اليهودية في المجتمعات الغربية (الجمهور: التعليم الإسلامي في الغرب، ملف مجلة البيان).
بل تقول الدراسات التربوية وتشهد الإحصاءات الرقمية على تنامي وزيادة المدارس الدينية في الغرب، حتى وصلت إلى ثمانية عشر ألف مدرسة تضم أكثر من مليوني تلميذ في عام 1980م، والأهم من ذلك أن في مناهج الغرب بشكل عام تطرفاً وإساءة للعرب والمسلمين ولم نسمع من يطالب بتغييرها (محمد الدويش: هل لمناهجنا صلة بالتطرف والإرهاب؟) إننا في زمن العودة للهويات، فالأصولية الإنجيلية، واليمين المتطرف، والتوراتيون ونحوها من مسميات القوم شاهد على ذلك، والتطرف بضاعة القوم إن رموا غيرهم بها.
وسؤالٌ أيضاً يضاف إلى سابقه: مناهجنا الدراسية إلى أين؟
ومدارسنا الدينية ما حالها؟ وما حجمها؟ مع الاعتبار بأن ديننا الإسلام هو الحق المُنزّل من عند لله، وغيرُنا "شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ" (الشورى: من الآية21).
8- وثمة ملحظٌ تربوي قيمي على التغيير في المناهج، فالولاء والبراء وإن حذف أو أُضعف في المناهج المدرسية فهو محفوظ بنصوص الكتاب والسنة، وبماذا نجيب الطالب في مادة التفسير عن آيات الولاء والبراء ومدلولاتها، أو ليس عيباً أن نحذف في المنهج ما يقرأه الطالب صباح مساء في كتاب الله؟ ومثل ذلك يُقال عن آيات الجهاد وهي تملأ القرآن الكريم عرضاً وبياناً وإرهاباً للعدو، وغلظة ومقاتلة للذين يلونكم من الكفار، هل من حقنا أن نتدخل فيما أنزل الله، أو نغيِّر فيما شرع الله؟ وهل نريد أن نوقع الناشئة في نوع من الاضطراب، بل وفي نوع من عدم الثقة والشك في تراث الأمة ومدونات العلماء، وهي حافلة بالحديث المفصل عن هذه القضايا الحية والأصيلة في عقيدتنا وتراثنا؟
9- إننا – وحسب سنة الله في التدافع – قد نضعف في زمن من الأزمان أمام عدونا، وقد نُهزم في معركة السلاح العسكري، وهذا ضعفٌ وتقصير، ولكن المذل أن ننهزم في تحقيق قيمنا وفي الجهر بإسلامنا.. المصيبة حين نُهزم من داخل أنفسنا، وأخطر من ذلك حين نعمق الهزيمة لتصل إلى أبنائنا وأحفادنا، وذلك بالعبث بأي مفردة أصيلة من مفردات مناهجنا التي يتربى عليها أبناؤنا وبناتنا وهي تعمق فيهم العزة بالإسلام والنصرة للمسلمين، وجهاد الأعداء والانتصار للمظلومين.
إن الأمانة توجب علينا أن نعلم الأجيال أمرَ الإسلام – كما أنزله الله – مهما كان واقعنا، ومهما خطف العدو من مكاسبنا واستباح من أرضنا وخدش من كرامتنا، ونخون الأمانة إن خرَّجنا أجيالاً يلتبس عليها الحق بالباطل، وتفهم العدو صديقاً حليفاً، والماكرَ المستعمر رجلاً مهذباً محترماً؟
إنه خليق بالعقلاء والمفكرين والنبلاء وقادة الفكر ورجال التربية – من باب أولى – ألا يتورطوا في تربية جيل ضعيف في انتمائه لأمته ووطنه متذبذب في نظرته، حائر في منهجه، متشكك في شيء من مسلمات دينه.
إنها أمانة العلم ومسؤولية التعليم عَهِد بها إلينا من سبقنا بيضاءَ نقية، وينبغي أن نُسلمها لمن بعدنا كذلك، وليس من لوازم ذلك أن نجمد ولا نُطور، لكنه التطوير المدروس والنافع الذي يجمع بين الثبات والمرونة، والأصالة والمعاصرة، ولا يكتب في ظروف الانكسار والهزيمة، وهل نحن راضون عن تطويرنا في العلوم التجريبية، ونحوها من المعارف المادية التي قصّرنا فيها وسبقنا إليها الآخرون، ولم يبق لنا إلا أن نغيّر في قيمنا وثوابتنا.
10- ومفارقات عجيبة يدركها العامة فضلاً عن العاملين والمتابعين للأحداث، فهل يليق أن نُهمش (الولاء والبراء) أو نستحي من ذكر (الجهاد) في زمن أعلن الأعداء حربهم علينا، ولم يرقبوا في مؤمن إلاً ولا ذمة، قُصفت بلاد المسلمين بأحدث أسلحتهم، ودُمرت المنشآت والبُنى (الفوقية والتحتية) بطائراتهم وقنابلهم ومدفعياتهم، تيتم الأطفال، وترملت النساء، واستبيحت الأموال، وعُبث بالأعراض، وضاقت الأرض وشكت السماء من ظلمهم، وترسخ في عقول المسلمين وقلوبهم ناشئتهم وكبارهم، بل وفي عقول غير المسلمين الكره لهؤلاء الغزاة المستعمرين، ودرسوا ذلك من الواقع المشاهد قبل أن يقرؤوه في المناهج، وفقد الأمل من كان يرجوا الإصلاح على أيدي هؤلاء المفسدين، وخيمت سحابة من الغضب والسب لهؤلاء المجرمين المستكبرين، ونقلت وسائل الإعلام المختلفة شيئاً من مظاهر الغضب والاستياء لهذه الممارسات الظالمة التي تجاوزت مواثيق الأمم، واستهجنت بكرامة الشعوب، ووأدت ما بقي من خداع الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة التي طالما تشدق بها القوم، وهي اليوم رِممٌ مُحنطة تضاف إلى ما في متاحفهم من دُمى عفا عليها الزمن.
أفيليق بنا والحال تلك – في كره العالم للغرب المعتدي – أن نحجب عن أبنائنا وبناتنا هدي الإسلام ومنهج القرآن في أسلوب التعامل وطبيعة العلاقة مع هؤلاء؟ إن مناهجنا ينبغي أن تكون مواكبة للأحداث واعية للمتغيرات.(3/68)
ومن الخطأ أن يشعر الطالب والطالبة بشيء من التناقض لما يدرس وما يرى على صعيد الواقع.
11- وهنا حقيقة لا بد أن تدرك وهو أن المخطط كبير لتطويق العالم الإسلامي فكره وحضارته واقتصاده، ويظلم نفسه ويسيء إلى أمته من ساهم في تنفيذ شيء من مخطط القوم في بلاد المسلمين من حيث يدري أو لا يدري، ومن لم يمنعه دينه ولا كرامته وإباؤه من الضيم والهوان وسوء المنقلب، فما لجرحٍ بميت إيلامُ، ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا وإخواننا المسلمين، فالتغيير للمناهج بدأ، وستتلوه خطوات أخرى إذا لم يتوقف، وثمة لجان جديدة مشكلة، وثمة وعود بتغيير وطباعة كتب مدرسية جديدة، بل الأمر يتجاوز المناهج والتعليم إلى قضايا وملفات أخرى كالمرأة ومحاولات إفسادها، والمؤسسات الدينية ومحاولة تقليصها، وتحديد مناشطها والهيئات والمؤسسات الإغاثية الإسلامية ومحاولة تطويقها ومحاصرة مناشطها... إلى غير ذلك من نشاط المسلمين ودعوتهم، ولو كانت سلمية هادئة فهي محل غضب الأعداء ويودون إلغاءها أو إضعافها، بل هي في النهاية، وكما أخبرنا الله عنهم "وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ" (النساء: من الآية89)، ألا فلننتبه جميعاً لهذه المخططات والأهداف، وليستشعر كلٌّ منا الخطر، وليساهم في النصرة لدين الله والدعوة للإسلام، أنى كان موقعه ومهما كان حجم مسؤوليته، ورفقاً بأمتكم ومجتمعكم يا مهرولون، ومزيداً من الثقة بإسلامكم وقيمكم يا مسلمون، والقصد القصد تبلغوا، والسكينة السكينة تفلحوا.
12- وبعدُ فهذا هو المأزق فكيف المخرج؟ وما هو الدور المطلوب؟
إنني حين أؤكد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة، أؤكد معها على الحكمة والتعقل والصبر والاحتساب، وأن يقوم كل أحد منا بما يستطيعه، بالكتابة للمسؤولين، ومقابلتهم والنصح لهم، وبزيارة اللجان العاملة في المناهج وتذكيرهم بمسؤوليتهم، ونتائج قراراتهم على البلاد والعباد - حاضراً ومستقبلاً - ومناشدة الكتبة في وسائل الإعلام بالكتابة بما يدينون الله به، واستنهاض همم التربويين خاصة وأساتذة الجامعات بعامة على الكتابة وإبداء رأيهم في تغيير المناهج، ومعلمي المراحل المختلفة في التعليم من باب أولى، ولا سيما من كانوا يدرسون هذه المواد من قبلُ ومن بعدُ أن يكتبوا مرئياتهم وملاحظاتهم، وإذا كان المنهج المدرسي مهماً، فلا تقل عنه أهمية أثر المعلم والمعلمة في تفعيل هذا المنهج، ولذا يوصي المعلمون والمعلمات بتفعيل مناهجهم ويذكّرون بأمانة العلم ومسؤولية التعليم.
أما أنت يا ولي الأمر فبإمكانك أن تقوم بدورك في تربية أسرتك على هدي الإسلام بشموله وتوازنه في وقت يحتدم الصراع وتختل الموازين، ولا بد أن تُسأل الوزارة ما مصير القرارات السابقة؟ ولماذا نُحيت بعض اللجان المختصة العاملة؟ وهل من مبرر لإبعاد البعض عن المناهج؟ وما نوعية اللجان الجديدة؟ وكيف يُتخذ القرار فيها؟ وإذا عُرف أناس بالصلاح والنزاهة في هذه اللجان والمجالس الجديدة، فما مدى تأثيرهم في القرار؟ وهل يصدر شيء باسمهم وهم غير مقتنعين به؟ إنها حمل وأمانة فليتقوا الله فيها، ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ونعيذهم من الأخرى.
يا علماء الأمة مسؤوليتكم في البلاغ والدعوة أعظم من غيركم، فما هو موقفكم تجاه تغيير المناهج الواقع والمتوقع؟ وما هو بيانكم الناصح للراعي والرعية؟
أيها المسؤولون والرعية أمانة في أعناقكم مسيرة البلد وقيادة السفينة إلى بر الأمان، والحفاظ على وحدة المجتمع وخصائص البلد ذمة وعهد عاهدتم الله عليه، فالعهد العهد تُفلحوا، والصدق الصدق تنجوا وتسعدوا وتُسعدوا، ولا يستفزنكم الذين لا يوقنون.
أيها المسلمون جميعاً ومهما فعلتم من أسباب فلله الأمر من قبل ومن بعد، فأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له، وادعوه خوفاً وطمعاً، فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض.
للاستماع لخطبة تغيير مناهجنا الدراسية إلى أين ؟ اضغط هنا
المصدر : موقع المسلم
=============
نداء إلى شبابنا المسلم وحكومات شعوبنا الإسلامية
للجهاد هدفان رئيسان:
الهدف الأول: نشر الدعوة الإسلامية لإخراج الناس مكن الظلمات إلى النور... وإزالة العقبات التي تعترض الدعوة، ويطلق العلماء على الجهاد لتحقيق هذا الهدف جهاد الطلب، وهو فرض كفاية.
الهدف الثاني: الدفاع عن المسلمين وبلدانهم، عندما يعتدي عليهم عدوهم، ويطلق على هذا النوع من الجهاد جهاد الدفع، وهو فرض عين على أهل البلد الذي يحصل الاعتداء عليه، فإذا لم يكف أهل البلد وجب على من يليهم....
الهدف الأول يصعب اليوم تحقيقه بالقتال اليوم، لأن حال المسلمين في تفرقهم وعدم ثقة بعض دولهم في بعض، وقلة الانسجام بين كثر من الدول وشعوبها، وعد الإعداد المادي الكافي لمحاربة الأعداء، وعدم الاستغناء عن الأعداء في كثير من مرافق الحياة... ومنها على سبيل المثال السلاح بكل أنواعه وقطع غياره، كل ذلك لا يتيح للمسلمين هذا النوع من الجهاد.
ومع ذلك فإن وسائل نشر الدعوة اليوم متوفرة توفرا لم يسبق له نظير في تاريخ البشرية، من جريدة ومجلة ونشرة مكتوبة وكتاب، وأشرطة كاسيت وأشرطة فيديو، وإذاعة وتلفاز محلي وفضائي، وبريد عادي، وهاتف واتصال مباشر بكل بلدان العالم، وبكل فئاته ومؤسساته، وبريد إلكتروني، ومواقع إنترنت،،،، وبكل لغات الأمم...
ولو تم التعاون بين المسلمين، كل فيما يجيده ويقدر عليه، لنشر الدعوة بهذه الوسائل وغيرها، لما بقيت بقعة في الأرض خلية من بلوغ هذا الدين... والمقصر في اتخاذ هذه الوسائل مع قدرته وحاجة الناس إلى نشاطه آثم، مالم تقم بذلك طائفة كافية تسقط الإثم عن غيرها.
والأصل في الجهاد إذا توافرت شروطه، ومنها العدد الكافي والعدة، أن يكون للمجاهدين قيادة شرعية منبثقة من أهل الحل والعقد، جامعة للفقه في الدين ومعرفة الواقع الذي يتيح لها قرار الإقدام أو الإحجام، مراعاة لجلب المصالح للأمة ودفع المفاسد عنها.
هذا ما كان يحصل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي كان يقود الجيش الإسلامي في الغزوات، وهو الذي كان يرسل السرايا ويؤمر عليها الأمراء، وهو الذي كان يرسل العيون لجمع المعلومات عن الأعداء...
وهو الذي كان يمنع أًصحابه من القتال عندما تكون المصلحة في ذلك، حتى ولو كان للدفاع عن أنفسهم، كما كان الحال في مكة، فقد كان بعض الصحابة يتحرقون شوقا إلى مجاهدة المشركين الذين اشتد أذاهم عليهم، فلم يأذن الله تعالى لهم بالقتال، وهو العليم الحكيم.
قال تعالى: ((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا [النساء (77)]
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: "كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة..... وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم.
ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة، منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار.(3/69)
عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: (إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله ((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم)) الآية. ورواه النسائي كبرى 11112 والحاكم 2307 وابن مردويه من حديث علي بن الحسن بن شقيق به" [تفسير القرآن العظيم (2/349) تحقيق سامي بن محمد السلامة، دار طيبة]
وفي هذا درس للمسلمين الذين يستوطنون البلدان الغربية، فإن وضعهم يشبه وضع المسلمين عندما كانوا في مكة، لأن أهل الحل والعقد والمالكين للقوة المادية الشاملة هم غير المسلمين، فقيام بعض المسلمين [وهم قلة مستضعفة] بالهجوم على أهل البلد، قتالا أو اغتيالا أو تخريبا لمؤسسات، تترتب عليه مفاسد يصعب حصرها، وما قد يظن فيه من مصلحة لا يسوغ الإقدام عليه، لأن مصلحته ضئيلة جدا بجانب المفاسد المترتبة عليه.
فقد سوغ ما حصل في 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن، لليهود والصليبيين التعجيل بعدوانهم على المسلمين الموجودين في الغرب [إن ثبت أن بعض المسلمين قاموا به] وفي العالم الإسلامي كله، وبخاصة البلدان العربية، وبالأخص فلسطين وأفغانستان والعراق، وتخطيطهم الماكر للسيطرة على بقية دول المنطقة والعدوان على ثوابتها وإذلال أهلها، أمر غير خاف على من يتتبع تصريحاتهم، وما يخفون أشد.
[وإنما قلت: "التعجيل بعدوانهم" لأن العدوان كان مقررا قبل حدث سبتمبر بفترة طويلة، حيث تم لهم انهيار "العدو الأحمر" وهو الاتحاد السوفييتي بشيوعيته، فالتفتوا إلى عدو أقدم من الاتحاد السوفييتي، وهو ا"الإسلام" فسموه "العدو الأخضر"
http://www.alhayatalmasria.com/30122001/68099news.htm
http://www.plofm.com/new_page_674.htm
http://www.islamonline.net/arabic/politics/2001/10/article27.shtml
http://www.islamonline.net/Arabic/daawa/2002/09/article04.shtml ]
ومما لا شك فيه أن لليهود أصابعهم الخفية في هذه الأحداث الخطيرة [أحداث سبتمبر وما تلاها]
http://www.saaid.net/Doat/ahdal/40.htm
وزاد إغراء العدوِّ على عدوانه، الهجمات التي حصلت على مؤسساته ومصالحه في بعض البلدان الإسلامية وغيرها، فلم يبق بلد من بلدان المسلمين وغيرهم، خليا من القوات الأمريكية ومخابراتها التي تتدخل في شئون دول تلك البلدان، وتكره حكوماتها على تنفيذ ما تريد.
ومن المفاسد التي ترتبت على ذلك ما يأتي:
المفسدة الأولى: احتلال بعض البلدان الإسلامية، وما ترتب عليه من إزهاق للأرواح، والاعتداء على الأعراض والنهب للأموال والاستيلاء على الخيرات والهدم للمؤسسات والقضاء على ما بقي من القوة العسكرية.
المفسدة الثانية: أسر شباب الأمة ورجالها، الذين تحتاج الأمة إلى استغلال طاقاتهم في مشروعات تعود عليها بالخير في ضرورات حياتها، وجميع مصالحها، والزج بهم في معسكراتهم الظالمة في غوانتنامو وغيرها، والمبالغة في إذلالهم و تعذيبهم...
ولو حصل الاهتمام بهذا الشباب وأعد إعدادا مناسبا في المجالات النافعة، من التفقه في الدين والدعوة إلى الله، والعمل في مؤسسات التعلم والتعليم والإعلام، والإغاثة الشاملة للمسلمين في كل أنحاء الأرض... ومنها القيام بالدعوة إلى الله باللغات الممكنة، وبالوسائل المتاحة التي هيأها الله تعالى، في هذا العصر، كما هو معلوم.
ومن ذلك إدماج كثير منهم في جيوش شعوبهم ودربوا تدريبا عاليا على أنواع السلاح، ليكونوا عونا لها على الدفاع عن أرض المسلمين ومقدساتهم...
أقول: لو حصل ذلك لكان لهذا الشباب شأنه العظيم في عزة هذه الأمة ونجدتها وبناء نهضتها...
المفسد الثالثة: محاربة الاقتصاد الإسلامي، المتمثل في إغلاق البنوك والمصارف الإسلامية، وتجميد أموا الناس فيها....بحجة أنها تمول الإرهاب.
المفسدة الرابعة: التضييق على المؤسسات الخيرية وتجميد أموالها، بل حظر نشاطها، وحرمان الفقراء والمساكين، والمرضى والأئمة والمؤذنين، والمدارس والدعاة الذين يبينون للناس حقائق الإسلام.
المفسدة الخامسة: التدخل السافر في مناهج التعليم في البلدان الإسلامية، إذ يراد لها أن تخلو من كل ما يُفَقِّه الأجيالَ المسلمة، بوسائل قوتها وعزتها، وأسباب ضعفها وذلتها، ويربطها بكتاب ربها وسنة نبيها، ويظهر لها سيرة أئمة الهدى من سلفها من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ويجعلها على علم بأوليائها من عباد الله المؤمنين، وأعدائها من اليهود والصليبيين.
ويبقيها ذات غيرة على ضرورات حياتها، فتبذل كل ما تملك من غال ونفيس لحفظ نفسها و دينها وعرضها ومالها وعقلها، ويبقيها متمسكة بأخوتها وأواصر وحدتها، واضعة أمام أعينها خريطة أرضها التي يجب عليها حمايتها، من جاكرتا شرقا إلى نواكشوط غربا، ومن عدن جنوبا إلى البلدان الإسلامية في آسيا الوسطى شمالا.
ويغرس في نفوسها الشهامة والنجدة التي تدفعها إلى حفظ الأرض المباركة، وثالث مساجدها "الأقصى" الذي دنسه اليهود واليهوديات ردهاته وسطوحه جميع جوانبه، بأقدامهم القذرة، وأهانوا أئمته وعلماءه، حرموا خيرة شباب الأمة المسلمة من ارتياده وهم يشاهدون مآذنه ويسمعون نداء مؤذنه...
المفسدة السادسة: عزم الأمريكان على إنشاء قواعد عسكرية في البلدان الإسلامية ذات التاريخ العريق، في "كابل" و "بغداد" و "دمشق" وفي بلدان آسيا الوسطى، بل في بعض بلدان الجزيرة العربية... إضافة إلى القواعد التي أقاموها ولا زالوا يقيمونها في بعض البلدان الإفريقية، ليتمكنوا من السيطرة الكاملة على بلدان المسلمين، من حدود الصين شرقا، إلى موريتانيا غربا، مع العلم أن كثيرا من قادة الجيوش الأمريكية وجنودها هم من اليهود...
المفسدة السابعة: تمزيق البلدان الإسلامية وتجزئتها، وجعل الدولة الواحدة دويلات، والدويلة الصغيرة أحياء، وإيقاد نار العداوة والبغضاء بين أبناء البلد الواحد، ليمزقهم التنازع ويجعل بعضهم يصوب رصاصه إلى صدور بعض، ليخلو لهم الجو فيتصرفون في شئون الأمة بعد إضعافها كما يريدون
المفسدة الثامنة: القضاء على الحركات الجهادية، وبخاصة في الأرض المباركة، بحشد الدول الغربية، وبخاصة أمريكا والدول الأوربية وغيرها، و من العملاء في فلسطين وغيرها من ".....!" ويترتب على القضاء على الحركة الجهادية استتباب الأمن لليهود وتفرغهم لإحداث القلاقل والاضطرابات في البلدان الإسلامية، وبخاصة العربية منها.
المفسدة التاسعة: تقوية اليهود وتثبيت دولتهم وتوسيعها، بحيث تصل حدودها إلى النيل والفرات، وهذه المفسدة مترتبة على المفسدتين السابقتين، لأن إضعاف المسلمين والقضاء على الحركة الجهادية التي لا يوجد لها بديل يشغل اليهود، من أعظم الوسائل لتقوية اليهود، وهذه المفسدة لا تتم إلا بتغير شامل لخارطة المنطقة، ومن أولاها طرد من بقي من الفلسطينيين من الأرض المباركة إلى خارج أرضهم.
وقادة اليهود يصرحون اليوم في كتبهم وأبحاثهم بالخطوة الأولى لهذا الطرد، وهي طرد الفلسطينيين إلى الأردن، كما صرح بذلك رئيس وزرائهم الأسبق نتنياهو في كتابه: "بلدة تحت الشمس"...(3/70)
المفسدة العاشرة: السيطرة اليهودية على المنطقة كلها، اقتصادا وإعلاما وتجارة ومالا وصناعة وزراعة وحربا، لأن لليهود في كل تلك المجالات مؤسسات منظمة مدعومة دعما قويا منهم في الأراضي الفلسطينية، ومن إخوانهم في العالم كله، ومن أعوانهم في الغرب... بخلاف ما عليه البلدان العربية من الضعف في ذلك كله...
والذي يقرأ كتاب "نحو شر أوسط جديد" لرئيس الوزراء الأسبق "شمعون بيريز" يظهر له هذا الأمر ظهورا جليا لا شك فيه.... وكثير من الناس لا يعرفون سبب تسمية المنطقة بهذا الاسم: "الشرق الأوسط" فهو من ابتكارات اليهود والصليبيين، وتلقفه منهم ببغاوات الإعلاميين وكثير من المثقفين البلدان الإسلامية، وبخاصة في الدول العربية
والمقصود من هذه التسمية استبعاد معنى الشرق الإسلامي، أو الشرق العربي، وهما اللفظان اللذان كانا متداولين قبل هذه التسمية، والهدف من ذلك أن تكون الدولة اليهودية عضوا في جامعة تسمى جامعة "الشرق الأوسط" بدلا من "الجامعة العربية" التي يرى اليهود أن هذه التسمية "الجامعة العربية" عنصرية، لأنها تستبعد عضوية اليهود.
اقرأ النص الآتي:
[ومن الغريب أن مصطلح الـ «شرق أوسطية» بات مقبولاً لدى الساسة والمفكرين على طول العالم العربي وعرضه، بوعي أو دون وعي، على الرغم من أنه مصطلح يُقصد من ورائه أن يكون بديلاً عن مصطلح «العالم العربي»، وهو ما حدث بالفعل.
ونشير هنا إشارات سريعة لتطور استخدام المصطلح، فقد وصفت حرب عام 1948م بـ (الصراع العربي الإسرائيلي)، وحرب عام 1956م بـ (العدوان الثلاثي على مصر)، ومنذ حرب 1967م بدأ وصف الصراع بـ (الصراع في الشرق الأوسط)، ووُثِّق ذلك في وثائق الأمم المتحدة، ومنظمة الوحدة الإفريقية، والجامعة العربية... إلخ، وظهر هذا الوصف في الكتابات الأكاديمية والصحفية العربية، بل وعلى لسان المسؤولين الرسميين العرب!
ومنذ حرب الخليج الثانية بدأ بث برنامج في إذاعة صوت أمريكا يحمل عنوان: (الشرق الأوسط والمغرب العربي بين العناوين والأخبار)، وهنا لم تضف كلمة «العربي» إلا ملحقة بالمغرب فقط، وكأنما عز على أولئك الذين صاغوا توجه الـ «شرق أوسطية» مجرد ذكر كلمة «العربي» حتى لو كانت ملحقة فقط بالمغرب! فإذا بهم يلغونها كلية من اسم «المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا ـ مينا»، والذي كان يعقد تحت مظلة المفاوضات الجماعية الـ «شرق أوسطية».
هكذا تحالف الغرب الصليبي تحت قيادة الولايات المتحدة مع الصهيونية، وتحت راية الـ «شرق أوسطية» لمحو الهوية العربية ـ الإسلامية كلية لعالمنا العربي؛ تمهيداً لفرض الهيمنة عليه وإقامة (إسرائيل الكبرى).]
افتح هذا الرابط http://www.khayma.com/hedaya/news/fat-his.html
هذا مع العلم أن اليهود يطالبون بإلحاح أن تسمى دولتهم بـ"الدولة اليهودية" لتكون خالصة لهم، يطردون منها من بقي من عرب فلسطين بعد الاحتلال في عام 1948مـ وإذا بقي أحد منهم إنما يكون من المقيمين الأجانب، كما صرح بذلك رئيس وزرائهم "شارون" في "قمة العقبة"، وتبعه على الرئيس الأمريكي "بوش".
إن اليهود يطلبون من 22 دولة عربية إلغاء كلمة "عربية" من جامعتهم، لأن في ذلك عنصرية! وهم يصرون على تسمية دولته بـ"اليهودية" وقد كانت هيئة الأمم المتحدة تصنف الصهيونية أنها عنصرية، فشمر اليهود بعون من أمريكا على إلغاء هذا التصنيف.
وليت الفلسطينيين يسمون دولتهم التي يناضلون لإقامتها بـ"جمهورية فلسطين العربية الإسلامية" لينظروا هل يقبل اليهود والصليبيون ذلك؟ بل هل يقبلون تسميتها بـ"جمهورية فلسطين العربية"؟
المفسدة الحادية عشرة: اغتنام غلاة العلمانيين في البلدان الإسلامية فرصة الحملة الأمريكية اليهودية الظالمة على الإسلام باسم الإرهاب، وإلحاحها على تغيير ما بقي من مناهجه في المدارس، ودعوى أن تلك المناهج هي التي أخرجت الإرهابيين.
أقول: اغتنام بعض الناس هذه الفرصة، وتجريد أقلامهم للهجوم المباشر أحيانا، وغير المباشر أحيانا أخرى على مراجع وكتب إسلامية، وعلى مشايخ مشهورين بالعلم والفضل، بعيدين كل البعد عن العنف والتحريض عليه، بحجة أن بعض من تتلمذوا على تلك الكتب أو المشايخ، صدر منهم ما يحرض على العنف.
مع العلم أن أجيالا كثيرة من طلاب العلم تتلمذوا على تلك الكتب وعلى أولئك المشايخ، لم يصدر منهم عنف ولا تحريض عليه، ومعلوم أن العبرة بالغالب، وأن النادر لا يجوز أن يحكم به على الغالب....
المفسدة الثانية عشرة: الحرب السافرة على الجهاد الذي هو فرض في القرآن والسنة، وعلى فرضيته إجماع الأمة، و يعتبر مشروعا في القوانين الدولية، باسم "مقاومة الاحتلال" كما هو الحال اليوم في فلسطين، حيث اعتبرته أمريكا وبعض دول أوربا إرهابا، استجابة لرغبة اليهود، ودعموا قيام حكومة فلسطينية مختارة آملين منها القضاء على المجاهدين المقاومين للاحتلال اليهودي لأرضهم.
وتضغط أمريكا على الدول العربية وغيرها لتحارب المجاهدين الفلسطينيين، وتقطع مساعداتها المالية لأسر الشهداء من أرامل وأيتام وغيرهم...
إن على شبابنا المسلم الذي يتحرق لنصرة هذا الدين، أن يفكر مليا في تصرفاته التي يظن أنه ينصر بها الإسلام، ويدفع عنه عدوان أعدائه من النيل منه ومن أهله، وأن يوازن بين المصالح التي تجلبها تصرفاته، والمصالح التي تفوت بسبب تلك التصرفات، ويوزن كذلك بين المفاسد التي تندفع بتصرفاته، والمفاسد التي تترتب على تلك التصرفات.
فإذا فكر في ذلك تفكرا متأنيا، ووازن موازنة تعقل، فسيبين له الأمر جليا، ويعلم متى يقدم على الفعل ومتى يحجم؟
فلا يظن بعاقل يفكر في عواقب الأمور، أن يقدم على فعل يفوت به مصلحة كبرى، ليجلب به مصلحة صغرى، أو يقدم على فعل يجلب به مفسدة كبرى ليدفع به مفسدة صغرى.
فإذا أقدم على ذلك أحد فإقدامه يدل على جهله بتلك الموازنة الضرورية، وجهله بحقيقة مشروعية تصرفاته في الإسلام....
ولهذا فإننا ننصح شبابنا المسلم الذي يرغب في نصر دين الله، أن يجتهد في طلب العلم الشرعية على يد علمائه المتخصصين فيه، فيتفقه في دين الله بأخذ أدوات العلوم وآلاتها، [اللغة العربية وقواعدها] وفي علوم القرآن [التفسير وأصوله] وعلوم الحديث [الحديث وشروحه ومصطلحه] وعلوم الفقه[الفقه وأصوله] وأن يدرس قواعد الأحكام ليتعرف منها على فقه المصالح والمفاسد، وفقه الموازنات...حتى يكون على علم يما يغلب على ظنه بأن يرضي ربه، ويحقق لأمته الخير ويدفع عنها الشر.
فإذا عجز بعض شبابنا المسلم عن الاجتهاد في تلك العلوم على يد أهلها المتخصصين فيها، ولم يحرز منها ما يهيئه لمعرفة ذلك، فعليه أن يصون نفسه من الاستجابة لعواطفه أو عواطف من لم يكن أهلا للتلقي عنه، فإن الإقدام على الفعل أو الترك لأي أمر من الأمور، هو حكم يحتاج المسلم على معرفته في الشرع.
وكثيرا ما يقع مريد الصواب في الخطأ، بسبب جهله بحقيقة حكم الله في فعله، وكثير من الشباب يصابون بالغرور بقليل العلم الذي حصلوا عليه، أوبتوجيه متعالم متحمس لم يتمكن من التفقه الصحيح في الدين...ولم يميز بين المصالح والمفاسد.
جهاد الدعوة وجهاد القتال(3/71)
إن لأفراد المسلمين وجماعاتهم، أن يقوموا بدعوة الناس إلى الله، وتبليغهم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، لإخراجهم من الظلمات إلى النور... وأن الواجب على الناس كلهم الدخول في هذا الدين الذي لم يبق دين حق سواه، إذا توافرت في أولئك الأفراد وتلك الجماعات الشروط الواجب إحرازها للدعاة، ومن أهمها العلم والحكمة والصبر على الأذى واللين.....
أما جهاد الكفار بمعنى قتالهم في بلدانهم، فليس من حق الأفراد والجماعات القيام به، بل لا بد من أمير للأمة يتولى أمرها ويقود جيشها بنفسه، أو يؤمر عليها من يقودها، كما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ومن تبعهم، فلم يعرف أن فردا أو مجموعة من المسلمين [بعد قيام الدولة الإسلامية] غزوا الكفار في بلدانهم بدون أمير يقودهم وينظم شئونهم.
ويمكن تعليل ذلك بالأسباب الآتية:
السبب الأول: أن المصالح والمفاسد المترتبة على هذا النوع من الجهاد تعود إلى الأمة كلها، ولا تختص بمن يباشر الجهاد... فلا يحق لفرد أو جماعة مباشرة عمل لا تتحمل الأمة كلها ما يترتب عليه من آثار، بدون مشورتها واستعدادها له.
السبب الثاني: أن الفرد أو الجماعة التي تباشر هذا النوع من الجهاد، لا يستطيعون حماية الأمة من الآثار المترتبة على تصرفاتهم، بخلاف ولي الأمر الذي بيده مقاليد الأمور، ومعه أهل الحل والعقد، فإنهم لا يقدمون على القتال، إلا بعد أن يتشاوروا ويتدبروا أمورهم، ويغلب على ظنهم أنهم قادرون على مواجهة عدوهم.
ثم إذا فرض أنهم غلبوا على أمرهم تحملوا تبعة قرارهم جميعا، وحشدوا طاقاتهم، وأعدوا العدة لحماية أنفسهم....
والذي يترتب على عمله الذي يستبد به من دون الأمة، ضرر يلحق بها، ولا يستطيع هو دفع ذلك الضرر عنها، لا يحق له ذلك العمل...
السبب الثالث: ما يترتب على الأعمال الانفرادية من الفوضى والانفلات، وعدم القدرة على ضبط الأمور، وفي ذلك ما فيه من المفاسد...
ولقد بينت رأيي في حدث نيويورك وواشنطن، الحاصل بتاريخ 23/6/1422هـ 11/9/2001م وتوقعت ما سيترتب عليه من المفاسد العظام على هذه الأمة، عندما حاورني بعض الإخوة فيما رأيتُ.
ولقد فاقت المفاسد ما توقعتُه وتوقعه كثير من الناس، ولا زالت تتوالى على المسلمين، وأكرر مرة أخرى، أن ذلك الحدث وما تبعه، إنما عجل بالحملة الأمريكية الظالمة، التي اتخذتها مسوغات لحملتها، وإلا فالحرب على الإسلام قد تقررت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، كما سبق قريبا.
[رابطان لما كتبته وجرى الحوار فيه عن الحدث في حينه]:
http://www.saaid.net/Doat/ahdal/23.htm
http://www.saaid.net/Doat/ahdal/5.htm
شؤم الأحداث الأخيرة في المملكة العربية السعودية
إن ما حصل من تفجيرات في الرياض، في الحادي عشر من شهر ربيع الأول، 1424هـ ـ 12 من شهر مايو 2003م وما تم اكتشافه بعد ذلك في كل من المدينة ومكة، أمر خطير لا يليق أن يتعاطاه المسلمون، وذلك للأمور الآتية:
الأمر الأول: أن فيه إخلالا بأمن بلد إسلامي، وإخافةً لسكانه الذين لم يألفوا هذا العنف في منازلهم وأسواقهم وسبلهم...
الأمر الثاني: أن فيه إزهاقَ دماءِ مسلمين معصومين بغير حق، ومعلوم هو تحريم قتل المسلم بغير حق، في القرآن والسنة وعليه إجماع المسلمين، ومعلوم كذلك إثمه العظيم، الذي قال الله تعالى فيه: ((ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)) [النساء (93)]
الأمر الثالث: أن الله تعالى شرع حرمة بيته الحرام الذي دعاه خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، أن يجعله موضعا يأمن الناس فيه فلا يخيفهم عدوان معتد، كما قال تعالى: ((وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا ءامنا وارزق أهله من الثمرات من ءامن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير)) [البقرة (126)]
وقد استجاب الله دعاءه، كما قال تعالى: ((فيه ءايات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)) [آل عمران (97)]
وامتن تعالى على المشركين بتمكينهم من العيش في المسجد الحرام، آمنين من الاعتداء عليهم، لما خصه به من الاحترام والهيبة في نفوس الناس، وقد كان مَن حولهم من العرب لا يأمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
كما قال تعالى: ((وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما ءامنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون)) [القصص (57)]
وقال تعالى: ((أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون)) [العنكبوت (67)]
ويجب أن يعلم الشباب المسلم الذي يقوم بهذه التفجيرات في البلدان الإسلامية، وبخاصة أرض الحرمين الشريفين، أن أعداء الإسلام وأعداء هذه البلدان من داخلها وخارجها، قد يغتنمون الفرصة، ويشعلون نار الفتنة، بالتفجيرات والاغتيالات، للإخلال بأمن الأمة وتشويه الإسلام، بنسبة فسادهم إلى الشباب المسلم، وهذا يوجب على الشباب المسلم الحذر، وسد باب الفتن.
ولقد تسببت التصرفات التي لم تستند إلى دليل شرعي ومشورة موفقة في كوارث ومصائب عادت على الدعوة الإسلامية بخسائر فادحة، ومن أمثلة ذلك ما حصل قبل عشرين عاما في المسجد الحرام من انتهاك لحرمته، واعتداء على نفوس مسلمة محرمة، بناء على تخرصات كاذبة ادعى فيها بعض الناس أنه المهدي المنتظر، وشاعت الدعوى بين الشباب المسلم الذي سارع في تصديقها.
وانتشرت أخبار رُؤىً شيطانية تؤيد تلك الدعوى، كانت عواقبها وخيمة، في داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، حيث وقفت أمام الدعوة الإسلامية ودعاتها عقبات جديدة أضيفت إلى ما سبقها من عقبات لم يخل طريق الدعوة منها منذ نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم...
وإن الأمر ليهون عندما تقف العقبات أمام هذه الدعوة، بغير تسبب ممن ينتسب إليها، بخلاف ما إذا حدثت من قِبَل هؤلاء، فإن ذلك يُجِّرئ عليها أعداءها من الكفار خارج الصف الإسلامي، ومن المنافقين الذين يندسون في هذا الصف في الداخل مخادعين بذلك الله ورسوله والمؤمنين، ويتخذون ذلك مسوغا للمزيد من محاربتها، كما هو الحال اليوم كما هو بين واضح.
ست مسائل يجب على الشباب المسلم فقهها
المسألة الأولى: عندما يقال: إن جهاد الطلب فرض كفاية، فإذا لم تقم به طائفة كافية أصبح فرض عين على جميع المسلمين، حتى يوجدوا طائفة كافية للقيام به.
هذا حق، وهو الذي قرره جماهير علماء الإسلام في تفسير القرآن الكريم، وفي شروح الحديث الشريف، وفي كتب الفقه... وقد فصلت ذلك في كتاب "الجهاد في سبيل الله – حقيقته وغايته"
ولكن هذا الحكم وغيره من أحكام الشريعة متوقف على "القدرة الشرعية" فإذا عجز المسلم أو المسلمون عن القيام بالحكم الذي هو فرض عين عليهم، سقط عنهم القيام به مؤقتا، لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها... ويجب عليهم في مسألة الجهاد أن يعدوا العدة التي تمكنهم من إرهاب عدو الله وعدوهم...
وإنما قلت: "القدرة الشرعية" للتنبيه على فهم ـ نظريٍّ أو عملي ـ منتشرٍ بين الشباب المسلم، وهو أن مجرد حصول القدرة على الفعل يجعلها شرعية يترتب عليها القيام بالفعل، بدون دراسة وتأمل لما قد يترتب على ذلك، من فوات مصالح أو جلب مفاسد، وهذا فهم غير صحيح يجب بيانه.(3/72)
فليست "القدرة الشرعية" هي مجرد القدرة على الفعل، لأن مجرد القدرة على الفعل، قد يترتب عليه تفويت مصالح أعظم من مصلحة الفعل، أو حصول مفاسد أعظم من المفسدة التي تحققت بالفعل، وهذا يجعل الفعل محظورا في الشرع، وتكون القدرة عليه غير شرعية في الحقيقة.
فقد كان المسلمون في مكة قادرين ـ من حيث مجرد الفعل ـ على رد عدوان المشركين عليهم، بالمقاتلة والاغتيالات ونحوها، ولكنهم لو فعلوا ذلك لترتب على فعلهم من المفاسد ما لا يحصى، ومن ذلك على سبيل المثال:
1- وجود مجازر في كل حي وفي كل منزل من أحياء مكة ومنازلها، لأن المسلمين كانوا – مع قلتهم - مختلطين بأقاربهم وسادتهم، وقد يقف بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم بعض عشيرته، فتقوم معارك بينهم وبين بقية القبائل القرشية، فيصبح القتال والأخذ بالثأر، هو شغل أهل مكة الشاغل، وستتوقف الدعوة...
وفي ذلك تنفير للناس من دعوة غريبة محاربة، بزغ ضياء شمسها في الأفق، إذ سيقول أعداؤها - إضافة إلى ما اتهموها به واتهموا به رسولها وأصحابه -: إنها دعوة حرب وعنف وسفك دماء، وفي ذلك ما فيه من التنفير عن هذه الدعوة.
2- القضاء على الدعوة الإسلامية العالمية في مهدها، بالقضاء على العصبة المؤمنة القليلة العدد، الفاقدة القوة، بين الكثرة الكاثرة من المشركين، الذين يملكون مع كثرة عددهم القوة التي تتيح لهم استئصال المسلمين.
ومعلوم أن لله تعالى سننا شرعية مربوطة بسنن كونية طبيعة، فمن سننه الشرعية الجهاد في سبيل الله، ومن سننه الكونية الطبيعة التي يرتبط بها الجهاد، وجود القدرة، وهي تتمثل في العدد المكافئ من المجاهدين، وفي العُدَّة المؤهِّلة للقيام بالجهاد.
ولهذا كان للعدد وللعدة اعتبارهما في حكم الجهاد، كما قال تعالى في العدد: ((ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (65) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين)) (66) [الأنفال]
وكان للقوة اعتبارها كذلك، كما قال تعالى: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) [الأنفال (60) ]
فإذا قل عدد المسلمين أمام عدوهم قلة تتيح للعدو استئصالهم، سقط عنهم جهاده مؤقتا، حتى يكون عددهم مناسبا لتكليفهم بقتاله، وإذا لم تكن عُدَّتهم مناسبة لوقوفهم أمام عدته، سقط عنهم جهاده حتى يعدوا له العدة التي تتيح لهم الوقوف أمامه.
ولهذا شرع الله لهم التحيز إلى فئة منهم كما قال تعالى: ((ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير)) [الأنفال (16)]
ولا يشترط أن تكون الفئة التي يتحيز إليها المجاهدون المسلمون قريبة منهم في أرض المعركة، بل قد تكون فئتهم الإمام الأعظم ومن معه من مسلمين، ولو بعدوا عن أرض المعركة.
كما في عبد الله بن عمر قال: "كنت في سرية من سرايا رسول الله ، فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله ، فإن كانت له توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: (من القوم)؟ قال فقلنا: نحن الفرارون. قال: (لا بل أنتم العكارون، أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين) قال فأتيناه حتى قبلنا يده" [مسند الإمام أحمد، برقم (5384) وسنن أبي داود، برقم (2647) وسنن الترمذي، يرقم (1716) وحسنه.ومعنى "العكارون: العطافون" ]
[يراجع تفسير الآيتين في كتب التفسير، ومنها "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (4/27) دار طيبة للنشر والتوزيع)]
وقد كان بعض الصحابة يتحرقون شوقا إلى مجاهدة المشركين الذين اشتد أذاهم عليهم، فلم يأذن الله تعالى لهم بالقتال، وهو العليم الحكيم.
قال تعالى: ((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا [النساء (77)]
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: "كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة..... وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم.
ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة، منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار.
عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: (إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله ((ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم)) الآية. ورواه النسائي كبرى 11112 والحاكم 2307 وابن مردويه من حديث علي بن الحسن بن شقيق به" [تفسير القرآن العظيم (2/349) تحقيق سامي بن محمد السلامة، دار طيبة]
فكانت مصلحة الإسلام والمسلمين العليا آنذاك، في الكف عن القتال، وكانت مصلحة قتالهم للمشركين دفاعا عن أنفسهم، مغمورة مهدرة شرعا، وكانت المفسدة المترتبة على القتال، أعظم من مفسدة الأذى الذي أمرهم الله تعالى بالصبر عليه.
وفي هذا دلالة واضحة على عدم اعتبار مجرد القدرة على الفعل، إذا غلب على الظن فوات أعظم المصلحتين، أو جلب أكبر المفسدتين.
3- وكان سيترتب على القتال بين المؤمنين والمشركين في مكة، عدم تعاطف الآخرين مع المسلمين، مثل نجاشي الحبشة، وقبائل الأوس والخزرج في المدينة، لأنهم سينظرون إلى المسلمين وهم قلة مستضعفة غير معترف بها، أنهم مغامرون يستخدمون العنف مع السلطة الشرعية، لإكراه الناس على الدخول في دينهم الذي لم يتبين لهم بعدُ أنه حق، وأنهم لو أذن لهم بالهجرة إلى تلك البلدان، لفعلوا فيها ما فعلوا في مكة، ومعلوم هو الأثر العظيم الذي ترتب على الهجرتين.
وقد يقول قائل: إن تلك الفترة كانت فترة مكية، ولسنا الآن في مثل تلك الفترة، لأن لنا بلداننا الخاصة ودولنا وأموالنا وجيوشنا...
والجواب: أن المرحلة المكية هي إحدى مراحل الدعوة التي قد تكرر في بعض البلدان، حيث يكون المسلمون فيها أقلية ضعفاء تحت دولة كافرة قوية، لا يستطيعون أن يظهروا دينهم ولو في حده الأدنى، ولا يستطيعون الدعوة إليه، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، وفي الدول التي سارت في فلكه، كالصين وألبانيا ونحوها.
ولا زالت بعض المناطق في الصين ينال فيها المسلمون "في بلدهم المحتل" أشد أنواع القهر والإذلال، كما هو الحال في "التركستان الشرقية" وكذلك في "بورما".
وغالب بلدان المسلمين التي ظاهرها الاستقلال بحكوماتها وحدودها، أصبحت في هذا الزمن شبيهة بالأسرى لدى الدول القوية التي تملك ما ترهب به غيرها، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.(3/73)
والسبب في ذلك ضعف تلك الدول لأنها لا تملك استقلالها في الاقتصاد والزراعة والمواد الخام، والمواصلات البرية والجوية والبحرية، والعسكرية، لأن الحصول على جميع تلك المرافق مرهون بموافقة تلك الدول.
فهي التي تعين ما يجوز تصديره للدول المستضعفة وما لا يجوز، وهي التي تتحكم في قطع الغيار، وهي التي تستطيع حصار أي دولة اقتصاديا وتجاريا ودبلوماسيا وعسكريا، ومواصلات واتصالات، تمنع عنها ضرورات حياتها من الغذاء والدواء وغيرهما، ولا يغيب عنا ما فعلوه مع العراق وليبيا والسودان...
ثم إن عند الدول القوية المهيمنة القدرة على أن يحتلوا الدول التي لا تستجيب لمطالبهم، ولا تجد تلك الدول ناصرا من دول أخرى، وما حصل في أفغانستان والعراق شاهد.
فإذا كانت قريش تملك لإيذاء أفراد المسلمين، السيف والحربة والعصا، والحبس والتقليب على الصخور الشديدة الحرارة، فإن الدول القوية اليوم تملك الصواريخ عابرة القارات، وحاملة الطائرات والغواصات النووية، والمقاتلات الجوية التي لا تنالها الصواريخ العادية إن وجدت، والقنابل المدمرة وأسلحة الدمار الشامل، وهي لا تكتفي بالعدوان على الأفراد، وإنما تدمر بتلك الأسلحة الفتاكة الشعوب ومرافقها...
هذه الدول الضعيفة أمام تلك الدول القوية، لا قدرة لها على إقامة الجهاد العسكري، لتحقيق الهدف الأول، وهو ما يسمى بجهاد الطلب، لأنها مهددة بسبب ضعفها باحتلال بلدانها...
وإنما ذكرت هذا الأمر، لأنبه كثيرا من الشباب الذين يظنون أن حكومات الشعوب الإسلامية، بوضعها الحالي الذي لا يخفى على أحد، قادرة على القيام بهذا النوع من الجهاد، بل اعتقد كثير من الشباب أنهم يملكون القدرة على جهاد الطلب، لأنهم لم يفهموا حقيقة القدرة الشرعية، بل جعلوا مجرد قدرتهم على الفعل مسوغا لقيامهم بالجهاد، وإن ترتب على ذلك ما يعود على هدف الجهاد بالنقض، كما هو الواقع اليوم.
المسألة الثانية: فهم كثير من الشباب أن الفرد أو المجموعة من المسلمين، لهم الحق - أو يجب عليهم – أن يقوموا بجهاد الطلب، ولو لم يكن ذلك بإذن من ولاة الأمر، وبدون تفكير فيما يترتب على فعلهم من الأضرار التي تعود على عامة المسلمين...
سبق أن جهاد الطلب، يجب أن تكون له "قيادة شرعية منبثقة من أهل الحل والعقد، جامعة للفقه في الدين ومعرفة الواقع الذي يتيح لها قرار الإقدام أو الإحجام، مراعاة لجلب المصالح للأمة ودفع المفاسد عنها."
وسبق ذكر بعض المفاسد التي ترتبت على بعض التصرفات التي ظن القائمون بها أن فيها مصالح للمسلمين، ولم يفطنوا لتفويت مصالح أعظم منها، وظنهم أن فيها دفع مفاسد عن المسلمين، ولم يفطنوا لحصول مفاسد أعظم منها...
المسألة الثالثة: التنبيه على أن الذي يحق له القيام بجهاد الطلب، هو الذي عنده – في الغالب - قدرة أن يتحمل مسئولية دفع الأخطار المترتبة على ذلك عن الأمة، وهذا لا يتاح إلا لولي الأمر الذي له سلطة على الأمة تجعله قويا على دفع تلك الأخطار بأهل الحل والعقد فيها...
والأفراد أو المجموعات الذين يقومون بما يعتقدون أن لهم الحق فيما يقومون به من جهاد الطلب، لم تعد الأضرار المترتبة على تصرفاتهم عليهم وحدهم [مع أن تلك الأضرار العائدة عليهم وحدهم، مفاسدها أعظم من مصالحها] بل عادت الأضرار على الأمة الإسلامية في كل أنحاء الأرض.
ومعلوم أن إلحاق الإنسان الضرر بأخيه الإنسان، محرم في الإسلام، وهو أمر متفق عليه، فكيف إذا لحق الضرر الأمة الإسلامية كلها.
وقد روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن الرسول صلى الله عليه وسلم: قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) [البخاري، برقم (10) ومسلم، برقم (40) بلفظ "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده)"
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله قال: (لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاقَّ شاق الله عليه) [الحاكم في المستدرك، برقم (2345) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه" ورواه الدارقطني، برقم (288) و ابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت، برقم (2340)]
وقد يقال: إن جهاد الطلب الذي يقوم به بعض الشباب، ليس موجها ضد المسلمين، وإنما هو موجه ضد أعداء المسلمين الظالمين.
والجواب أن التسبب في إلحاق الضرر كالمباشرة، يلام صاحبه، كما في حديث عبد الله بن عمر بن العاص، رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه) قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: (نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه) [مسلم، برقم (90)]
ولهذا يجب على من بقي من هؤلاء الشباب عاقدا النية على السير في هذا الطريق، أن يتقي الله ويفكر مليا في هذه الأمة التي أصابها ما أصابها من الكوارث، وأن يثوبوا إلى رشدهم، ويقلعوا عن هذه التصرفات التي هذا شأنها...
فهم مع إخوانهم المسلمين في سفينة واحدة، إذا غرقت غرقوا جميعا، وإذا نجت نجوا جميعا...
كما يجب على حكومات الشعوب الإسلامية، أن تعامل هؤلاء الشباب، عندما يرجعون عن هذه التصرفات، أن يقبلوا عودتهم، وأن يعاملوهم المعاملة اللائقة بهم، لتحصل بذلك الوقاية من الأضرار المترتبة على الاستمرار في هذا السبيل ، وهو العنف وعنف العنف، الذي قد لا تكون له نهاية...
وسيأتي أن لهذا الشباب مندوحة أخرى في جهاد الدفع في بعض البلدان الإسلامية....
المسألة الرابعة: فهم المنكر وفهم معنى إنكاره باليد، فقد فهم كثير من الشباب المسلم، أن مجرد القدرة على تغيير المنكر باليد يوجب على القادر القيام به، بصرف النظر عما يترتب على ذلك من فوات مصالح وحصول مفاسد.
فقد يوجد منكر لا غبار عليه، مثل شخص يعلن ردته عن الإسلام، أو يصرح بأن الشريعة الإسلامية لم تعد صالحة للتطبيق في هذا العصر، أو حاكم لا يطبق شريعة الله ولكنه لا يصرح بعدم صلاحيتها للتطبيق، أو شخص أو أشخاص يشربون المسكر...
هذا منكر واضح، ولكن من له حق تغييره وكيف يغير؟
إن الواجب على كل مسلم أن يكره هذا المنكر بقلبه ويكره صاحبه بسبب فعله أو قوله، وأن يصرح بلسانه أن ذلك منكر وينهى صاحبه عنه، ولا يجوز لأحد السكوت عن هذا الإنكار، إلا إذا خاف أذى محققا يلحقه في نفسه أو أهله أو ماله، بحيث لا يطيق تحمل ذلك الأذى، فإنه عندئذ مخير في الإنكار باللسان أو عدم الإنكار، لأنه معذور في عدم الإنكار، و قام بكلمة حق عند سلطان جائر... عند الإنكار... واقتدى بمن سبقه في ذلك من السلف الصالح.
كما هو شأن أبي ذر عندما صرخ بـ(لا إله إلا الله) بين ظهراني المشركين، فنال ما نال من أذاهم، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نصحه بأن يكتم إيمانه، وكقصة الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في قضية القول بخلق القرآن....
أما الإنكار باليد فليس من حق الأفراد أو المجموعات التي لا سلطان لها على الأمة، لما يترتب على ذلك من المفاسد وأهمها انتشار الفوضى والتقاتل بين الناس، اللذين تكون مفاسدهما أعظم بكثير من مفاسد المنكر نفسه الذي غير باليد.
ويعتبر رب الأسرة ونحوه من أولياء الأمور الذين يجب عليهم إنكار المنكر باليد على من يدخل في ولايتهم عليه، في غير ما هو من حق ولاة الأمر من الحدود والقصاص وما في معناهما، كما فصلت ذلك في كتاب "الحدود والسلطان"(3/74)
ومن هنا كان ذلك من حق ولاة الأمر، بل هو من واجباتهم، وهم الآثمون إذا لم يقوموا بذلك، ويكون غير ولي الأمر الذي لا سلطان له، فاقدا القدرة الشرعية في هذه الحال.
ولقد بالغ بعض الشباب المسلم في فهمه للمنكر وفهمه لإزالته باليد، إلى أن أصدر حكمه على بعض الأشخاص بالردة، ثم أعطى نفسه الحق في إقامة الحد على أولئك الأشخاص، و سمى حكمه وفعله بـ"الجهاد الفردي الحل الممكن"
http://www.alsahwa-yemen.net/exp_news.asp?sub_no=4027
هذا مع العلم أن إصدار الحكم بالردة يحتاج إلى الرجوع إلى علماء الإسلام، ليصدروا في ذلك فتواهم التي تبين صحة الحكم بالردة على الفرد المعين أو فسادها، لأن إخراج المسلم المعين من الإسلام لا يجوز إلا بيقين.
ولا بد للحكم بالردة على الشخص المعين من توافر شروط وانتفاء موانع.
وغالب طلاب العلم الصغار لا يحيطون بتلك الشروط والموانع، ولو حفظوها عن ظهر قلب، فقد تخفى عليهم من الناحية العملية، ولأن الأمور المترتبة على الحكم بالردة خطيرة كذلك.
فالمرتد لا يرث ولا يورث، ولا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وحده القتل كما ورد في الأحاديث الصحيحة، وإن شكك في ذلك بعض الناس في هذا الزمان.... فهل يجوز لفرد أو أفراد من طلاب العلم الصغار، أن يصدروا في مثل هذا الأمر الفتاوى، وينفذوا ما يترتب على فتاواهم فيما سبق، بدون الرجوع إلى علماء الأمة الأكفاء؟!
وقد اشتهر عند علماء الأمة قديما وحديثا، أنه لا يجوز الإقدام على إنكار منكر محقق، إذا كان يترتب على إنكاره حصول ما هو أنكر منه.
قال العز بن عبد السلام السلمي رحمه الله:
"إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن دفع المفاسد وتحصيل المصالح فعلنا ذلك، وإن تعذر الجمع، فإن رجحت المصالح حصلناها ولا نبالي بارتكاب المفاسد، وإن رجحت المفاسد دفعناها ولا نبالي بفوات المصالح" [الفوائد في اختصار المقاصد:(1/:47) دار الفكر المعاصر 1416هـ مدينة النشر دمشق]
وقال ابن تيمية رحمه الله: " فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإتمامه بالجهاد، هو من أعظم المعروف الذى أمرنا به، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لابد ان تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر الله به فهو صلاح وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين.
فحيث كانت مفسدة الأمر والنهى أعظم من مصلحته، لم تكن مما أمر الله به، وإن كان قد تُرِك واجبٌ وفُعِل مُحرمٌ، إذ المؤمن عليه أن يتقى الله فى عباده وليس عليه هداهم" [مجموع الفتاوى (8/126)]
وقال في موضع آخر: "وَجِمَاعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي "الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ": فِيمَا إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ، وَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ أَوْ تَزَاحَمَتْ ; فَإِنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ مِنْهَا فِيمَا إذَا ازْدَحَمَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ، وَتَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ.
فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ، فَيُنْظَرُ فِي الْمُعَارِضِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرَ، لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ; بَلْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ" [مجموع الفتاوى(28/129)]
وذكر ابن القيم رحمه الله: أن لإنكار المنكر أربع درجات، فقال:
"فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان
والثالثة موضع اجتهاد
والرابعة محرمة" [إعلام الموقعين (3/4)]
وقال الشوكاني رحمه الله في تفسير الآية الكريمة: ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون)) [الأنعام (108)]:
"وفى هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل، إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ما هو أشد منه، من انتهاك حُرَمٍ ومخالفةِ حقٍّ ووقوعٍ فى باطل أشدَّ، كان الترك أولى به، بل كان واجبا عليه..." [تفسير فتح القدير (2/150)]
وقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم مصلحة شرعية، خشية من وقوع مفسدة أعظم منها، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي قال له:ا (يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم) [صحيح البخاري، برقم (1509) وصحيح مسلم، برقم ولفظه (حديثو عهد بشرك) (1333)]
وكلام العلماء في هذه المسألة قد يصعب حصره، في كتب التفسير وشروح الحديث، وأصول الفقه، وقواعد الفقه... وكتب السياسة الشرعية و الفتاوى وغيرها... فينبغي لطلاب العلم أن يهتموا بها، وأن يتلقوها على أيدي فقهاء الإسلام، وألا يغتروا بقراءاتهم التي لم يصقل عقولهم وأفهامهم فيها من تحققوا بفقهها وفهمها، استنادا على أخذها من أهلها قبلهم.
فإن الطالب الذي يأخذ علمه من الكتب، ولم يتتلمذ على مخصصين في العلم الذي يأخذه، يكون أشد ضررا في أحكامه الشرعية، من طالب طب استقل بقراءته في الجرائد والمجلات دون أن يأخذ علم الطب على يد المهر من الأطباء، ثم أخذ يحلل ويصف الأمراض والعلاج لمرضى البشر...
ولهذا كان سبب وجود الفرق الضالة استقلالها عن علماء الشريعة الذين تلقوا علومهم كابرا عن كابر على أيدي من سبقهم ممن سلكوا مسلك الصحابة والتابعين، في طلب العلم....
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به، أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام.. وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات:
إحداها: العمل بما علم، حتى يكون قوله مطابقاً لفعله، فإن كان مخالفاً له، فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم..
والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم، وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك، وهكذا شأن السلف الصالح.
فأول ذلك ملازمة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذهم بأقواله وأفعاله واعتمادهم على ما يرد منه، كائناً ما كان، وعلى أي وجه صدر..
وصار مثلُ ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالماً اشتهر في الناس الأخذ عنه، إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك، وقلما وجدت فرقة زائفة ولا أحدا مخالفا للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف".
[من كتاب الموافقات في أصول الشريعة (1/91ـ95) بتحقيق الأستاذ محمد عبد الله دراز، باختصار]
فليعرف طالب العلم قدر نفسه، ولينزلها منزلتها، وليتواضع ويأخذ العلم عن أهله، ولا يغتر بما التقطه من صفحات الكتب بنفسه، دون تلقي العلم على يد أهله، فإن فوق كل ذي علم عليم، وفي قصة موسى عليه السلام، عندما "جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا خضر"(3/75)
[صحيح البخاري، برقم(74،78) وقصته مبسوطة في سورة الكهف وفي الأحاديث الواردة فيها عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم]
المسألة الخامسة: سهولة نشر الدعوة الإسلامية في هذا العصر، إلى كل صقع من أصقاع الأرض، نشرا عاما لكل الناس، ونشرا خاصا إلى أشخاص بأعيانهم
فالوسائل المتاحة اليوم، من المواصلات والاتصالات... عن طريق الفضائيات والإذاعات والصحف والكتب والمنشورات، والشبكة العالمية [الإنترنت] والبريد الإلكتروني، والبريد العادي، والأشرطة [أشرطة الفيديو والكاسيت] والهاتف الثابت والمتنقل، إضافة إلى وسائل التعليم، كإنشاء المدارس والمعاهد والكليات والجامعات، كل هذه الوسائل يمكن أن تقام بها الحجة على غالب الناس، وتنشر بها الدعوة الإسلامية بجميع لغات العالم.
ولهذا يجب على جميع الحكومات في الشعوب الإسلامية، وأغنيائها وعلمائها والمتخصصين في كل وسيلة من تلك الوسائل، أن تتخذ كل وسيلة ممكنة للقيام بذلك، ويأثم كل من تأخر عن القيام بذلك، وهو قادر عليه، مادام لم تقم بذلك طوائف كافية للقيام بالبلاغ المبين.
هذه الوسائل تقوم اليوم مقام جهاد الطلب الذي يعجز المسلمون اليوم عن القيام به، فاتخاذها والقيام بها فرض كفاية، يسقط عن المسلمين، إذا قامت بها طوائف كافية منهم.
ولو أن حكومات الشعوب الإسلامية استغلت الشباب المسلم، في هذا المجال، كل فيما يجيده ويقدر على أدائه، لكان في ذلك ملءٌ لفراغهم وتشغيلٌ لهم فيما يعود عليهم وعلى أمتهم، وعلى العالم كله بالخير العميم والنفع العظيم، وهذا ما نشاهده في الشباب الذي سلك هذا المسلك، فقام بالدعوة إلى الله أو تعليم الجاهلين بدين الله، أو بإغاثة المحتاجين من المسلمين.
المسألة السادسة: حكم العسكريين الأجانب الذين يدخلون بلدان المسلمين باتفاق مع دولها.
لا بد هنا من التنبيه على هذه المسألة، لأن كثيرا من الشباب المسلم اتخذها ذريعة للتفجيرات في بعض البلدان الإسلامية، غيرة منهم على هذه البلدان وحرصا على حمايتها من بقاء غير المسلمين من العسكريين فيها.
ونحن نقول: إن الأصل ألا يمكن العسكريون غير المسلمين، من دخول بلدان المسلمين والبقاء فيها، ولكن هذا الأصل في غاية الصعوبة على حكومات الشعوب الإسلامية اليوم، لأمرين:
الأمر الأول: أنها مضطرة إلى الحصول على السلاح الذي لا تملكه، ولا تستطيع الاستغناء عنه، لعدم وجود مصانع سلاح مستقلة لهذه الحكومات، وعدم قدرتها على إيجاد تلك المصانع التي تمكنها من صنع السلاح المطلوب، لأن الدول القوية، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت اليوم قادرة على كشف السلاح ومادته، ومصانعه في بلدان العالم كله، فهي تراقب الأجواء والبحار والبراري، ولا يخلو بلد من بلدان العالم من آلات تجسسها وجواسيسها...
الأمر الثاني: احتكار الدول القوية للسلاح ومصانعه وصناعته، فرضها شروطا مجحفة على الدول الضعيفة، ومن تلك الشروط قبول الدول المشترية لخبراء عسكريين من الدول البائعة يشرفون على ترتيب السلاح ويقومون بتدريب جيش الدول المشترية، وقد يشترطون الاشتراك في مناورات معينة...
فالدول التي تحتاج لهذا السلاح، لا تخلو من أحد أمرين: الأمر الأول شراء السلاح مع قبول الشروط الظالمة، والأمر الثاني: الحرمان من السلاح، وهو أمر يعرضها للتهديد من أي دولة تريد العدوان عليها وعلى شعبها.
ومع اعترافنا بهذه الضرورة التي أخضعت هذه الدول لقبول الشروط المجحفة من الدول التي تبيع السلاح، فإننا نحمل حكومات الشعوب الإسلامية مسئوليتها عن التقصير الذي حصل منها، في الأوقات التي كان في استطاعتها إنشاء مصانع للسلاح وكل ما يقتضيه من أدوات، وبخاصة الدول العربية التي فوتت فرصا مواتية لإنشاء مصانع للسلاح، قبل أكثر من خمسين عاما، عندما وقعوا في الجامعة العربية اتفاقية الدفاع العربي المشترك،التي قبرت بعد توقيعها مباشرة، بسبب خلافاتها وعدم ثقة بعضها في بعض.
http://www.omandaily.com/MONDAY/articles/art8.htm
http://www.arableagueonline.org/arableague/arabic/details_ar.jsp?art_id=135&level_id=121
وقد تمكنت بعض الدول من إنشاء مصانع أسلحة متقدمة، ومنها السلاح النووي، لأنها شمرت عن ساعد الجد من وقت مبكر واغتنمت أي فرصة أتيحت لها، لتتمكن من إعداد عدتها لأعدائها، كما هو الحال في الهند وتلتها الباكستان، ويبدو أن لإيران من ذلك نصيب.
أما اليوم فإن حربا شعواء تشنها الصليبية الأمريكية واليهود، على هذه الدول وغيرها من حكومات الشعوب الإسلامية، للسيطرة عليها وعلى سيادتها.
ولهذا تصر على الحَوْل بينها وبين كل ما يمكن أن يقويها من المصانع، وبخاصة مصانع السلاح.
ولو أن حكومات الشعوب الإسلامية، وبخاصة العربية منها، اعتصمت بحبل الله واجتمعت كلمتها على التعاون على ما يحقق مصالح شعوبها، ويدفع المفاسد عنها، ووقفت وقفة واحدة في التعامل مع الحكومات الغربية ومنها أمريكا، مصلحة بمصلحة، فإنها هذه الدول ستحصل على كثير من حاجاتها من السلاح وغيره، لأن المصالح التي تملكها الدول العربية وغيرها، وتحتاج إليها الدول الغربية ولا تستغني عنها، كثيرة جدا يمكنها أن تحقق للمسلمين كثيرا من المصالح.
ولكن تنازع هذه الدول الذي أثلج صدور الدول الغربية التي تتحقق به لها من المصالح ما لا يمكن تحقيقه بدونها، ولهذا نراها تصر على المزيد من هذا التنازع والتمزق، فتتدخل في شئون كل دولة على انفراد لتسلط بعض أحزابها على بعض، وتسلط الأحزاب على الدولة باسم المعارضة، حتى يصل الأمر إلى الانقلابات والاقتتال.
كما تتدخل في المنظمات الإقليمية، كشأنها مع جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، والمنظمات الدولية، كمنظمة المؤتمر الإسلامي، ودول عدم الانحياز، وكذلك تفعل مع الدول غير الإسلامية، فلم يوجد أي تجمع لم تدس الولايات المتحدة أنفها في شئونه، وتحول بينه وبين اتخاذ وسائل قوته....
ومع هذا الظلم والاستبداد اللذين تتعامل بهما الولايات المتحدة الأمريكية، مع الدول العربية وغيرها من حكومات الشعوب الإسلامية، يجب أن لا تيأس هذه الدول من تتدارك أمرها، فتتخذ كل وسيلة متاحة للاجتماع على مصالحها المشتركة، والتعاون على تحقيقها، وعمل الأسباب التي تجعل كل دولة تثق في الأخرى، لأن عدم الثقة هو السبب في الْحَوْل بينها وبين تعاونها.
وإذا وجدت هذه الثقة وتم التعاون بين هذه الدول، فإن كثيرا من أمورها سيسهل بإذن الله، لأن اقتصادها سيقوى، وموقفها الموحد في التعامل مع الدول الغربية، سيمنحها الاحترام، وستأخذ من تلك الدول مثل ما تعطيها.
وستتسابق الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية وأستراليا واليابان وروسيا إلى التعامل بالمثل مع حكومات الشعوب الإسلامية وبخاصة الدول العربية، وعندئذ ستكون عندهذه خيارات متنوعة مع الدول الأجنبية، وستكون شروط بعضها في بيع السلاح أخف من بعض، وقد تتمكن الأمة الإسلامية ببركة اجتماع كلمتها وأخوتها التي أمرها الله بها، من إعداد عدتها بمصانع تنشئها هي:
((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم ءاياته لعلكم تهتدون)) [(103)]
((وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)) [الأنفال (46)](3/76)
أما الهدف الثاني: وهو جهاد الدفاع عن المسلمين وبلدانهم، فهذا الجهاد فرض عين يجب على الحكومات والشعوب الإسلامية التي يعتدي عليها الكفار القيام به، مهما كانت التضحيات في الأموال والأرواح، لأن في ترك العدو يحتل أرضهم، تمكينا له من السيطرة على المسلمين وإذلالهم وفقدهم العزة التي اختارها الله تعالى لهم، و مما يدل على وجوب ذلك، ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في غزوتي أحد والأحزاب، اللتين ابتلى الله فيهما المسلمين ابتلاء شديدا...
وإذا اضطر المسلمون لقلتهم وضعفهم، إلى مصالحة المعتدين مدة محددة أو مطلقة، حتى يعدوا العدة التي تمكنهم من طرد العدو عن بلادهم، فذلك أمر مشروع، بل إذا اضطروا إلى مصالحة عدوهم على مال يدفعونه له، ليرحل عن بلادهم، جاز ذلك عند الضرورة.
فقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعله مع الأعداء في غزوة الأحزاب، ولكنه استشار زعماء أهل الحل والعقد في المدينة، فرفضوا ذلك بعد أن تبينوا أنه إنما فعل ذلك رأفة بهم، وليس عن وحي نزل عليه بذلك، وغلب على ظنهم القدرة على حرب العدو ودفعه.
فإذا فرض أن الأعداء احتلوا أرض المسلمين لعجزهم عن دفعهم عنها، فعلى المسلمين أن يتخذوا كل وسيلة متاحة مشروعة لطردهم منها، ويكون ذلك بأمرين:
الأمر الأول: عاجل لا مهلة فيه إلا لترتيبه، وهو القيام بالحرب الفدائية، وهي ما تسمى بحرب العصابات، أو حرب المقاومة التي يقوم بها اليوم المجاهدون في فلسطين والعراق وغيرهما... وهذا من أعظم ما يرهب العدو ويقض مضجعه، لأنه لا يدري من أين يأتيه الموت ومتى يأتيه؟ ولأن أهل البلد يتعاونون على القيام بذلك، فمنهم من يحضر للمجاهد الطعام والشراب والدواء والكساء، ومنهم من يحضر له المواد التي يحتاج إليها للقيام بمهمته، ومنهم من يؤيه ويكنه إذا احتاج إلى ذلك....
الأمر الثاني: آجل يحتاج إلى تخطيط وإعداد لمدى أبعد، يترتب عليه طرد العدو من البلد، بالجهاد المسلح الواضح....وهذا لا يتم إلا بالتعاون التام بين فئات أهل البلد كلهم، حاكمين ومحكومين، رجالا ونساء شبابا وشيبا، أغنياء وفقراء، كل فيما يملكه ويجيده....وكل من تأخر عما يقدر عليه في هذا المجال، هو آثم عند الله.
قال تعال: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) [الأنفال (60)]
وقال تعالى: ((ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)) [التوبة(38)]
وعلى الشباب المسلم الذي يرغب في الجهاد في سبيل الله، أن يفعل ما يقدر عليه من أنواع الجهاد كالجهاد بالمال، ينفقه من ماله للمجاهدين في سبيل الله دفاعا عن أوطانهم التي اعتدى عليها الأعداء، ولأسر الشهداء من الأيتام والأرامل، والمرضى في المستشفيات، وبخاصة أهل الأرض المباركة "فلسطين" التي دنسها اليهود ودنسوا مساجدها الطاهرة، وبخاصة المسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبلتنا الأولى.
وقتلوا أهلها رجالا ونساء، شبابا وشيبا، وأخرجوهم من ديارهم، وخربوا كل ما أتت عليه آلاتهم الحربية من منازل ومزارع ومصانع وغيرها، والذي عنده قدرة شرعية من شباب الإسلام الجهاد بنفسه، فعليه أن يفعل، لأن الجهاد هنا فرض عين، إذا توفرت القدرة الشرعية...
قال تعالى: ((وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا)) [التوبة(75)]
والذي يغلب على الظن أن القدرة الشرعية هنا قد لا تتوافر لكثير من الراغبين في مباشرة قتال العدو، لأن حدود الأرض المباركة مغلقة، بجيوش العدو وأسلحته الجوية والبرية والبحرية، وبالجيوش العربية التي لدولها حدود مع اليهود، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها...
خاتمة:
أذكر شبابنا المسلم، كما أذكر حكومات شعوبنا الإسلامية، أننا جميعا ركاب سفينة تتقاذفها أمواج محيطات الفتن، ويحيط بها الأعداء من كل جانب، لإغراقها وإهلاكنا جميعا، وأن واجبنا أن ننقذ سفينتنا من أمواج الفتن، ومخططات الأعداء، لتنجو سفينتنا فننجو بنجاتها، وإلا غرقنا بغرقها.
وقد حذرنا الله تعالى من الفتنة العامة التي لا تصيب الظالمين وحدهم، وإنما تصيب الظالم والراضي أو الساكت القادر على الإنكار القدرة الشرعية...
فقال تعالى: ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)) [الأنفال (25)]
وأمرنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، أن نسرع بالأعمال التي ترضي ربنا سبحانه، ونسبق بها الفتن التي تتوالى على هذه الأمة في ظلمات الجهل والمعاصي، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا) [صحيح البخاري، برقم (118)
وحذرنا صلى الله عليه وسلم، من التقصير في حماية سفينة حياتنا من المفسدين الذين يودون إغراقها لإهلاكنا، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال.
(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) [صحيح البخاري، برقم (2361)]
وإن حماية سفينتنا من الغرق وحماية أنفسنا من الهلاك، لا يتمان إلا باعتصامنا بحبل الله، واجتماع كلمتنا على الحق، وتحقيق الأخوة الإسلامية التي تثمر المحبة والتعاون على البر والتقوى، وأن يحب كل منا لأخيه ما يحب لنفسه من الخير....
فعلى علمائنا الأفاضل أن يجتمعوا، ويتدارسوا أسباب الفرقة والنزاع، وعوامل المنكر والفساد، والأحداث الجديدة التي أقلقت الأمة الإسلامية وأفقدتها توازنها، وهددت أمنها واستقرارها.
وأن يفتحوا صدورهم لشاب هذه الأمة، ويسمعوا منهم ما يدور بخواطرهم والأسباب التي دفعت بعضهم إلى ما قاموا به من التفجيرات في البلدان الإسلامية، وبخاصة هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين، ويحاوروهم محاورة الأب الحنون لأبنائه، مع الصبر عليهم والحكمة في محاورتهم، واللين في مخاطبتهم، وليس حوار الغلظة والقسوة والتأنيب.
فإن إظهار المحبة لهم والعطف عليهم، والحكمة في محاورتهم ولين الجانب لهم، كل ذلك جدير بقبولهم ما قد يظهر لهم من الحق الذي أخطأوه، والشبهات التي لبست عليهم.... إنهم أبناؤنا ونحن آباؤهم وكما نطلب منهم البر بنا، فحقهم علينا الشفقة عليهم وإشعارهم بالأبوة الحانية...
ثم عليكم يا شبابنا المسلم، ويا أبناءنا البررة أن تقتربوا من آبائكم العلماء وإخوانكم المثقفين الذين يحبونكم ويدعون الله أن يحفظكم لخدمة دينه وأمته، والذود عن أوطانكم التي يهددها الأعداء من كل مكان...
ثم إن على حكامنا في الشعوب الإسلامية، وبخاصة حكام هذا البلد العظيم، بلد الوحي والرسالة والدعوة إلى الله تعالى، أن يضعوا خطة مرنة لكيفية التعامل مع هذا الشباب الذي حصلت منه التفجيرات....(3/77)
فإذا جاء أحد منهم تائبا قبل القدرة عليه، فقد يكون العفو عنه في الحق العام أنفع من مؤاخذته به، لقوله تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم)) (34) [المائدة]
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية في الآية الأخيرة:
"أما على قوله من قال: إنها في أهل الشرك فظاهر، وأما المحاربون المسلمون، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا فيه قولان للعلماء وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة...." [تفسير القرآن العظيم (3/102)]
قال تعالى: ((والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئةٍ سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين، ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم، ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)). [الشورى: 39ـ43].
كما قال تعالى: ((وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)) [آل عمران: 133ـ134].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوة الأمة في العفو والسماحة فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه، فقالت: "لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخَّاباً بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح" [الترمذي (4/369) وقال: هذا حديث حسن صحيح "الصخب كالسخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصام"].
وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). [مسلم (4/2001) والترمذي (4/376)].
فقد يكون العفو عن التائبين في الحق العام سببا في عودة غيرهم من زملائهم، وفي ذلك نوع من المعالجة الحكيمة المؤدية إلى استتباب الأمن والتخفيف من التوترات وسفك الدماء. ((ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)) [فصلت (34)]
أما الحقوق الخاصة، فمرجعها إلى القضاء، ليتخذ فيها الحكم الشرعي العادل، ما لم يعف صاحب الحق: ((ياأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم))[البقرة (178)]
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
============
حتى يميز الخبيث من الطيب
[الكاتب: سيف الدين الأنصاري]
بسم الله الرحمن الرحيم
من أهم ما يجب على الجماعة المسلمة اعتقاده هو أن صراعها مع الأعداء يخضع لنظام من السنن الإلهية التي لا تتبدل بتبدل الأشخاص والوجوه، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، وإنما هي ثابتة على امتداد حركة الإنسان في الحياة، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23]، وكلما كانت الجماعة المسلمة أكثر استحضارا لهذه السنن - وعيا وممارسة - كانت أقرب إلى إدراك الصواب في رؤيتها التصورية ومواقفها العملية.
وقد سبقت الإشارة إلى أن من أهم هذه السنن سنة المداولة، وقلنا حينها إن الله تعالى قد بث في هذه السنة الكثير من الحكم، وأن من بين أهم هذه الحِكم تمييز الصف الإسلامي، أي التفريق بين المؤمنين والمنافقين، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:141].
قال القرطبي: (معناه وإنما كانت هذه المداولة ليرى المؤمن من المنافق فيميز بعضهم من بعض) [التفسير:4/218].
وطبعا فإن الله تعالى عليم بحال كل واحد داخل الصف الإسلامي، يعلم المؤمن منهم ويعلم المنافق، والتمييز بينهم بالنسبة إلى علمه الذي يحيط بالغيب حاصل منذ القدم، ولكنه سبحانه يريد أن يكون علمه بما هم عليه من الإيمان أو النفاق من باب علم الشهادة لا علم الغيب فقط، فتظهر الحقائق في عالم المشاهدة وتكون واقعا في حياة الناس، وذلك لكي تتحقق حكم الله في خلقه، ومنها حكمته في الجماعة المسلمة، والتي من أهمها أن يحصل التمييز بين المؤمنين والمنافقين في عالم الشهادة وليس في عالم الغيب فقط، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، فليس من مقتضى حكمته، ولا من فعل سنته أن يترك الصف الإسلامي (أنتم) مختلطا لا يعرف فيه المؤمن من المنافق، بحيث يتوارى فيه الأعداء تحت ستار بعض المظاهر السهلة من مظاهر الإسلام بينما هم في الحقيقة أعداء ينخرون في الجسم من الداخل، ولذلك اقتضت سنته أن يميز الخبيث (المنافق) من الطيب (المؤمن)، لأن الجماعة المسلمة لا يمكن أن تؤدي دورها على الوجه المطلوب ولا أن تحقق أهدافها بالكيف المرغوب وهي لا تزال تعيش في أجواء الغبش التصوري الذي لا يُمَيز معه بين من ينتمي إلى هذا الإسلام وهو صادق ومن ينتسب إليه وهو في الحقيقة كاذب.
والتمييز يعني في معناه العام التفريق بين العناصر التي تكون متشابهة في بعض المظاهر ولكنها مختلفة في الحقيقة، فيقع الفرز بينها تبعا لما يتكشف من الحقائق التي تكون مستورة عندما تكون الأجواء راكدة والارتباط غير مكلف، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:167].
قد يندس إلى داخل الصف الإسلامي - ولأسباب ومقاصدَ متعددة - أناس غير صادقين في إقبالهم عليه ولا في ارتباطهم به، أي أنهم في الحقيقة كاذبون، إما دائما وإما مترددون، ولكنهم يتخذون من بعض المظاهر الإسلامية ستارا يخفون وراءه حقيقتهم، ويحققون به أغراضهم، فيتحركون داخل الصف الإسلامي حركة هي في الحقيقة عملية هدم من الداخل، فيكون وقْع ذلك وتأثيره على الجماعة المسلمة أشد من كيد العدو الظاهر.
وهذا بالضبط ما يقتضي كشف هذه العناصر، وإظهارها على حقيقتها أمام الجميع ليقع التمييز بين المؤمنين والمنافقين، في عملية فرز داخلي تستهدف التفريق بين العناصر الطيبة والعناصر الخبيثة التي تنتسب إلى الصف بينما الحقيقة خلاف ذلك، وإذا كان لابد من التعامل مع المنافقين على أنهم مسلمون في الظاهر - ما داموا لم يرتكبوا ما يخرجهم من الإسلام الحكمي - فعلى الأقل يجب أن يكونوا معروفين عند الجماعة المسلمة، يجب أن يكونوا معروفين كما كانوا معروفين عند جماعة الجيل الأول، لأن هذه هي السبيل إلى اتقاء شرهم، والدافع إلىاتخاذ الإجراءات الكفيلة بإبطال مفعول كيدهم.
لكن نظام السنن يأبى أن تتحقق النتائج بعيدا عن مقدماتها المناسبة، أي أنه لابد لتحقق هذا التمييز من السبب الذي يؤدي إليه، فيكون كالمقدمة بالنسبة له، ولهذا كانت المداولة، لأنها تحمل الابتلاء الذي يعد سببا في التمييز، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:141].(3/78)
وبمجرد ما تأخذ الجماعة المسلمة سيرها في طريق العبادة يبدأ هذا الابتلاء، يبدأ لكنه لا يبقى مستقرا على مستوى واحد، وإنما يأخذ في الارتفاع كلما ارتفعت الجماعة في مقامات العبادة، ويتقدم في نوعية التأثير كلما تقدمت الجماعة في مواقع إقامة الدين، وعلى قدر الدين يكون الابتلاء.
والابتلاء في حقيقته هو الواقع (الحدث) الذي يتطلب نوعا من مخالفة الهوى لتقف فيه النفس مواقف الحق، فهو إذن الحدث الذي يقع بالامتحان، ليُرى هل سيقدِّم الإنسان مقتضى الحق فيستجيب للأمر، أم يقدم مقتضى الهوى فيتخلف عن الاستجابة. ومن المعلوم أن هذا الامتحان متحقق بالخير والشر سواء، فكلاهما حدث تختبر به النفس، أو بعبارة مغايرة، إن الرخاء بعد الشدة يحقق معنى الابتلاء، كما أن الشدة بعد الرخاء تحقق معنى الابتلاء، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، فكلاهما فتنة تكشف الحقيقة وتبين الصادق من الكاذب، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]، وكم من النفوس تصبر على الاستجابة عند الشدة التي تأتي بعد الرخاء ولكنها تفقد تماسكها فتنتكس عندما تمتحن بالرخاء بعد الشدة.
لكن - في الحقيقة - ليس كالمحنة سببا فعالا في كشف حقائق الناس وإخراج مكنونهم النفسي، لأنها تشكل أجواء الضغط الذي يصعب معه التصنع، فتكون بمثابة الأحداث الساخنة التي تصهر تحت تأثير حرارتها عناصر الصف الإسلامي فيفرز الخبث الدخيل، ويتميز هؤلاء من هؤلاء.
ولعل هذا ما جعل طريق الجهاد - على امتداد مراحله - هو الطريق الذي يشكل الظرف الصحيح لاكتشاف حقائق الناس، والسبب الأساسي الذي يميز به الله بين المؤمنين والمنافقين، وليس كالحرب محك لمعرفة حقائق الناس.
خذ غزوة الأحزاب - مثلا - وتأمل كيف كشفت أحداثُها عن العناصر الدخيلة في الصف الإسلامي، فميزت المؤمنين من المنافقين، وفاء كل واحد إلى الصنف الذي يعبر عن حقيقته، قال تعالى يصف الجو العام للميدان: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]، فتحت تأثير هذه الأحداث التي زلزلت القلوب وأدهشت الأعين انقسم الناس إلى قسمين، قسم كشف عن خبث المرض الذي يخالط قلبه فقال: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الأحزاب:12]، وقسم آخر أبان عن صدق ارتباطه بهذا الدين فقال: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]، فأنت ترى أن الحدث واحد، والجميع قد خضع له في نفس الأجواء، ولكن بين موقف المؤمنين وموقف المنافقين من التباين كما بين الصدق والكذب.
وفي معركة أُحُد خرجت الجماعة المسلمة للجهاد.. فماذا كان؟
لقد انكشفت حقائق الناس، وانقسموا كذلك إلى قسمين، قسم استجاب لنداء الجهاد، وقسم تخلف ليخذل الجماعة المسلمة في أحرج الظروف وأشدها صعوبة، حتى إذا قيل لهم في ذلك، {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُم} [آل عمران:167]، وليس هذا فحسب، ولكن عندما ترجع الجماعة المسلمة من المعركة يقولون في شأن الشهداء الذين أرخصوا دمائهم في سبيل الله {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168]، فكأنهم يريدون أن يشوشوا بهذه الشبهات على التصور الإسلامي للحياة والموت، ويقلبون بهذه الكلمات الحقائق، ليحدثوا الفتنة في الصف الإسلامي.
وهكذا هم دائما، لا يكتفون بالمواقف الباطلة، وإنما يحاولون قراءة الحدث قراءة تتناسب مع هذه المواقف الباطلة، فيتمنطقون في الطرح ليبرروا سلوكهم، ويتقعرون في الكلام ليضفوا العقلانية على أفعالهم، ولكن هيهات.. لقد غاص القرآن إلى أعماق نفوسهم فكشف حقيقة تعليلاتهم، وحلل مضمون كلامهم فبين تهافت تفسيراتهم، فأقام للمؤمنين البرهان على أنها لا تعدو أن تكون مجرد شبهات باهتة قد أفرزتها الأهواء تحت ضغط الشهوات.
واقرأ كمثال على المتابعة القرآنية لهذا الصنف من الناس قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَة،ٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيراً} [الأحزاب:14].
نعم هؤلاء المنافقون ليسوا صنفا واحدا، وإنما هم أصناف، قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال:49]، كما أن المؤمنين ليسوا على درجة واحدة وإنما هم درجات، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر} [الأحزاب:23]، ولكن المهم هو أن هؤلاء فريق وهؤلاء فريق آخر، وعندما نتكلم عن التمييز فإننا نتكلم عن التفريق بين الفرقين بغض النظر عن الأصناف أو الدرجات الموجودة داخل كل فريق، فللحديث عن ذلك مقام آخر.
لقد انجلت غزوة أحد وغزوة الأحزاب عن فريقين من الناس، كلاهما كان يعتبر داخلا تحت الصف الإسلامي، فريق المؤمنين وفريق المنافقين، وتميز هؤلاء عن هؤلاء بالأعمال والمواقف الظاهرة، وتلك من أهم حكم الله المبثوثة في الابتلاء، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:167]، وليست "الأحزاب" ولا "أحد" إلاّ نموجا للحدث الذي يختبر به الناس فتنكشف حقائقهم، ويظهر ما كان مستورا منهم، ويفيئ كل واحد إلى الفريق الذي يعبر عن حقيقته.
ومن يتتبع حديث القرآن الكريم عن أصناف الناس يجد أن التفريق بين المؤمنين والمنافقين يأخذ مساحة واسعة من الوحي الرباني، في عملية إثارة واضحة للفواصل التي تمنع التداخل والاختلاط الذي تضيع فيه الهوية تحت ستار الوحدة الشكلية، وما كان هذا الأمر ليأخذ هذه المساحة لولا أهمية الموضوع وقيمة هذه السنة (التمييز) في حياة الجماعة المسلمة، مما يفرض ضرورة الاهتمام بالدلالات التي تحملها لتتحقق الاستفادة بالكيف الذي يساعد على التقدم في المواقع.
ولعل أبسط ما يمكن أن نخرج به من الدلالات في هذا الباب ثلاثة أمور:
أولاً: إن المنافقين أناس موجودون في داخل الصف الإسلامي وليس خارجه، فهم مسلمون حسب الظاهر، ويصعب أن تقعَ لهم على ما يخرجهم من دائرة الإسلام الحكمي، لأنهم إن فعلوا صاروا داخلين تحت دائرة الكفر، ولم نعد نتعامل معهم على أنهم منافقون، ولهذا لا ينبغي أن نبحث عن النفاق في غير محله، أو بعبارة أدق لا ينبغي أن نبحث عن النفاق داخل دائرة الكفر، لأنه يوجد داخل دائرة الإسلام الحكمي.(3/79)
ثانياً: إن من السذاجة التي لا يريد الإسلام أن تكون في أهله أن نعتبر أن كل من يدخل الصف الإسلامي هو مسلم صادق، بل ينبغي أن نفترض - وهذا هو الواقع - أن هذا الصف فيه من يتنمي إليه بصدق، وفيه من ينتسب إليه بالكذب، أي فيه المؤمن وفيه المنافق، فلا ينبغي أن تكون المشاركة في بعض المظاهر الشكلية كافية لاشتراك جميع المواضيع، بحيث يغيب التفريق بين دائرة الساحة العامة التي يستوعبها الإسلام الحكمي ودائرة الساحة الخاصة التي دلت بعض الأحداث على أنها تشكل فريق المؤمنين. فغياب هذا التفريق يؤثر تأثيرا بالغا على صياغة المشروع الحركي للجماعة المسلمة.
ثالثاً: إن التمييز بين المنافقين والمؤمنين داخل الصف الإسلامي أمر مقصود للرب جل وعلا، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب} [آل عمران:179]، فهو يريد أن يفرق بين المؤمنين (الطيب) والمنافقين (الخبيث)، ولا يريد أن يبقى الاختلاط الذي لا يعرف معه أين الصادق من الكاذب، وهي إشارة واضحة إلى ضرورة الحرص على طهارة الجسم الداخلي للجماعة المسلمة، وعدم التساهل في الضم التنظيمي للأفراد تحت دعوى أن الكل يشمله وصف الإسلام، قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43].
لكن ما هو الهدف من تمييز المؤمنين عن المنافقين؟ هل هو أن نقول هؤلاء مؤمنون ما شاء الله، وهؤلاء منافقون أعوذ بالله، فلا يتعدى سقف الاستفادة من هذه السنة مجرد الكلام؟ أم أن المقصود من هذا التمييز هو شيء آخر يجب أن يستعلي عن الانحصار في الظاهرة الصوتية؟
==============
العلمانية وخديعة استبعاد الدين
[الكاتب: يحيى هاشم حسن فرغل]
زعموا أن العلمانية سر التقدم في العالم المعاصر الذي ما حدث إلا بخلع الدين.. ولقد زيفوا فيما زعموا.. ثم كذبوا..
أما أنهم زيفوا فذلك أنهم - ضمن " حرب المصطلحات " كما بينا في المقال الأسبق - أدخلوا إلى البيئة الإسلامية مصطلح العلمانية، لغير مشكلة فيها، ثم استوردوا له المشكلة، ونادوا بدوره في حلها!!
وأما أنهم كذبوا فلأن الدولة الدينية مازالت في صلب الدولة الحديثة شديدة التطور في أوربا وأمريكا
وقد بينا في مقال سابق أنه في علاقة الغرب بنا كانت حروبهم معنا دينية، ليس ذلك فحسب في حروبهم التاريخية المتقادمة ضدنا في الحروب الصليبية، أوفي حروبهم ضد المسلمين في الأندلس ولكن في حروبهم ضد المسلمين في عقر دار العصر الحديث عصر التنوير والحداثة لإبعاد المسلمين عن دينهم أولا ثم لتنصيرهم من بعد ذلك وهاهو التنصير في فرصته التاريخية ومرحلته الجديدة بدءا من العراق.
وسوف نبين في مقال قادم نشاط كنائس الغرب في مجال السياسة نشاطا يلقى الاحتفال والاحترام والاعتراف والتقدير من الجماهير والرأي العام وأصحاب النفوذ على السواء إلى حد اشتراك العلمانيين أنفسهم في " زفة " هذا التقدير.
وسنبين هنا تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية مما يلقي على دعاة العلمانية بتهمة خداع الرأي العام الإسلامي في دعوتهم إياه إلى استبعاد الدين بحجة التقدم!!
ونهتم بأن نذكر من ذلك كله ما كان قبل ظهور مجموعة بوش والمحافظين الجدد قبيل الحادي عشر من سبتمبر 2001 رفعا لتوهم أنها حالة عابرة.. كما أننا لم نقتصر على ملابسات خاصة بأحزاب المحافظين أو المتشددين رفعا لتوهم أنها حالة حزبية معزولة.. كما أننا لن نذهب بعيدا في التاريخ رفعا لتوهم أنها حالة ماضوية كما يود العلمانيون لنا أن نفهم.
وإذا كان من المشهور اليوم ظهور التلاحم بين السياسة والدين في مجال البروتستنت - في نموذج المحافظين الجدد - فسوف نهتم هنا بإبراز ذلك التلاحم في مجال الكاثوليك.. وإذا كان من المشهور اليوم اشتغال رجال السياسة بالدين فسوف نهتم هنا غالبا بإبراز اشتغال رجال الدين بالسياسة.
وفيما يختص ببيان تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية:
يقول الأمير شكيب أرسلان: (هل يظن الناس عندنا في الشرق أن نهضة من نهضات أوربا جرت دون تربية دينية؟ أفلم يقل رئيس نظار ألمانيا في الرايستاغ منذ ثلاث سنوات - نشر الأمير كتابه عام 1930 -: إن ثقافتنا مبنية على الدين المسيحي؟) [أنظر لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم: طبعة 1965 / ص 147].
وفي ألمانيا الديموقراطية قبل الاتحاد الذي تم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي - وقد كانت تقوم على تعاليم ماركس وإنجلز ولينين أصبح مارتن لوثر - بالرغم من ذلك - أحد آبائها الأيديولوجيين، حيث اعتبرته المدرسة الماركسية من خلال إنجلز رائدا لثورة اجتماعية سياسية لم يكن عنده الجرأة على استيعاب ما يترتب عليها!!
أما في ألمانيا الاتحادية - وأيضا بعد اندماج الألمانيتين بالطبع - فإن الدين ملتصق بالدولة تحمي مؤسساته ومصالح هذه المؤسسات سواء كانت لوثرية أو كاثوليكية، والكنائس في ألمانيا تعتبر أغنى كنائس العالم، والتعليم الديني إجباري في المدارس إلى سن الرابعة عشرة، إذ يفرض على الطالب البروتستانتي تعلم اللوثرية، وعلى الطالب الكاثوليكي تعلم الكاثوليكية.
وفي بريطانيا: أين هو الفصل بين الكنيسة والدولة؟ أليس ملك بريطانيا هو رئيس الكنيسة في الوقت نفسه؟
وإذا كان العلماني المعروف الأستاذ أحمد بهاء الدين أراد أن يخفف عنا هذه الحقيقة بقوله: (ملكة انجلترا هي رئيسة الكنيسة الإنجليزية ولكنها لا تأمر أو توجه ناقلة رأي الكنيسة إلى البرلمان المنتخب من الشعب)، فإن الحقيقة لا تنتهي عند هذه النقطة كما يريد لنا الكاتب أن نفهم، لأن السؤال هو: وما دور البرلمان المنتخب من الشعب بعد أن تنقل إليه الملكة رأي الكنيسة؟
واقرءوا معنا قصة الإفخاريستا... يقول الأمير شكيب أرسلان: (لم يحدث في التاريخ أن مسألة من مسائل انجلترا الداخلية أخذت في الأهمية الدور الذي أخذته قصة " الأفخاريستا " وهي قصة تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح..
وأصل هذه العقيدة ما رواه الإنجيل من أن السيد المسيح عليه السلام قبل صعوده إلى السماء تمشى مع تلاميذه وودعهم، وبينما هو على المائدة تناول لقمة من الخبز وقال: كلوا هذا جسدي، وشرب جرعة من الخمر وقال: اشربوا هذا دمي، فتكونت من هذه الكلمات في النصرانية عقيدة معناها أن الخبز والخمر يستحيلان إلى جسد الرب تماما حقيقة لا مجازا، ولما كان القسيس هو خليفة المسيح كان لابد له كل يوم عند التقديس في الكنيسة أن يتناول لقمة من الخبز ويشرب رشفة من الخمر وهو يتلفظ الكلمات التي تفوه بها السيد المسيح عليه السلام في أثناء عشائه مع الحواريين. فمتى فعل ذلك تحول هذا الخبز وهذا الخمر إلى جسد الرب حقيقة لا مجازا، ولذلك يوضع هذا الخبز ويسمونه القربان في حُق ثمين فوق المذبح من الكنيسة، ويسجدون له، وذلك باعتبار أن هذا القربان هو الإله نفسه، ويسمون وجود الله فيه بالحضور الحقيقي.
وقد كانت هذه العقيدة هي عقيدة المسيحيين جميعا ولا يزال عقيدة أكثرهم إلى اليوم، إلا أنه عندما جرى الإصلاح البروتستانتي تغير الاعتقاد عند أتباعه بقضية الحضور الحقيقي، وقالوا: إن هذا مجاز لا حقيقة، وأنه مجرد رمز وتذكار، وعدلوا عن وضع القربان فوق المذبح والسجود له باعتبار أنه هو الإله بذاته، وصاروا في كنائس البروتستانت يجعلون هذا القربان في تجويف خاص به من الحائط.(3/80)
ولكن الكنيسة الإنجليكانية - الكنيسة العليا في انجلترا - لم يتفق رأيها في قضية القربان: أن يكون التحول فيه حقيقيا أو مجازيا؟ وأصبحت مسألة خلافية بين اليمين والوسط واليسار، وخيف فيها من انشقاق عام. عندئذ أمرت الحكومة البريطانية بتأليف مجمع من الأساقفة تحت رياسة أسقف كانتربري لحل المشكلة، فانعقد المجمع زمنا طويلا ولم يوفق إلى حل. وأخيرا ألحت الحكومة على هؤلاء الأساقفة بأن يبتوا في القضية، فحكموا بالأكثرية - مع مخالفة ستة من المطارنة - بأن الخبز والخمر يستحيلان في قداس الكاهن إلى جسد المسيح ودمه، وعليه يجب عبادتهما والسجود لهما ووضعهما في أعلى المذبح لا في كوة حائط الكنيسة، يعني انهم رجعوا في ذلك إلى العقيدة الكاثوليكية.
هذا ولما كان القانون الأساسي لبريطانيا يوجب القول بالفصل في جميع القضايا الدينية لمجلس اللوردات ولمجلس العموم، عملا بكتاب الصلاة الذي هو مرجع الأمة الإنجليزية أحيل حكم المطارنة هذا إلى مجلس اللوردات، وكانت للمناقشات فيه جلسات متعددة بلغت من اهتمام الملأ ما لم تبلغه المناقشات في أية مسألة.. وأخيرا؛ أيد مجلس اللوردات بالأكثرية قرار مجمع الأساقفة، فلما جاءت القضية إلى مجلس العموم نقضوا قرار مجلس اللوردات وحكم مجمع الأساقفة، وقرروا أن الخبز والخمر لا يستحيلان بداهة إلى جسد السيد المسيح ودمه، واستندوا في ذلك إلى كتاب الصلاة المشار إليه سابقا، وعلى إثر هذا القرار من مجلس العموم استعفى رئيس أساقفة كنتربري من منصبه!!).
ويعلق الأمير شكيب ارسلان فيقول: (أين فصل الدين عن السياسة وأنت ترى أن مسالة دينية بحتة تطرح في مجلس اللوردات ومجلس النواب ويفصلان فيها، فإن لم تكن هاته المسألة دينية فما الديني إذن؟ وإن لم يكن مجلسا الشيوخ والنواب مختصين بالسياسة فما المجالس التي تختص بالسياسة بعدهما؟ فليتأمل القارئ المنصف مدى التضليل الذي يقوم به المضللون من المسلمين.. إما جهلا وتعاميا عن الحقيقة وإما خدمة للاستعمار الأوربي الذي ليس له غرض أعز عليه من أن يأتي على بنيان الإسلام من القواعد) [أنظر كتاب " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم": للأمير شكيب أرسلان / ط 1965 / الهامش ص 97 - 101].
ولنستمع إلى شهادة الشاعر والفيلسوف الإنجليزي الشهير ت. س. إليوت في كتابه " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " إذ يقرر أن الثقافة الأوربية العلمانية لم تقتلع المسيحية من جذورها ولكنها تعايشت معها وليس ذلك راجعا إلى مصالحة بين المسيحية والعلمانية ولكنه راجع إلى تملك الدين لناصية الثقافة في أي شعب إذ أن (تكوين دين هو تكوين ثقافة أيضا) أما عن أوربا المسيحية بالذات فإنه يقول: (إن سنن المسيحية المشترك هو الذي جعل أوربا ما هي)، وإذ يقول: (حين ندافع عن ديننا فلا بد لنا في معظم الأمر من أن نكون مدافعين عن ثقافتنا في الوقت نفسه والعكس بالعكس)، ويقول: (في المسيحية نمت فنونا وفي المسيحية تأصلت قوانين أوربا، وليس لتفكيرنا كله معنى أو دلالة خارج الإطار المسيحي)، (وقد لا يؤمن فرد أوربي بأن الإيمان المسيحي حق، ولكن ما يقوله ويصنعه ويأتيه كله من تراثه في الثقافة المسيحية ويعتمد في معناه على تلك الثقافة)، ويقول: (نحن مدينون لتراثنا المسيحي بأشياء كثيرة إلى جانب الإيمان المسيحي، فمن خلال ذلك التراث تنبع فنوننا، ومن خلاله نلقي مفهومنا للقانون الروماني الذي فعل ما فعل في تشكيل العالم الغربي، ومن خلاله نلقى مفاهيمنا عن الأخلاق الخاصة والعامة) [أنظر كتابه " ملاحظات نحو تعريف الثقافة ": ص 80، 145، 146].
ومن هنا يمكننا القول بأن أوربا مسيحية حتى في علمانيتها.
وفي هذا المعنى يقول الدكتور محمد عصفور: (إن عديدين من الفقهاء لا يترددون في أن يضفوا على الديموقراطية نفسها الطابع الديني، فمنهم من ردها إلى أصول مسيحية، ومنهم من اعتبر الديموقراطية العلمانية ذات طبيعة دينية، أو متعصبة دينيا حتى إن زعمت الفصل بين الدين والدولة) [جريدة الوفد: في 17\ 7\1987].
وكأنه يشير في هذا إلى القاعدة العلمانية المأخوذة من الكتاب المقدس: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وكأن العلمانية هي الأقرب إلى المسيحية من الكنيسة عندما كانت الكنيسة تمارس السلطة السياسية انحرافا منها وشهوة دنيوية ، وكأن العلمانية في بلادنا لا تصادم الإسلام فحسب ولكنها أحد أوجه النشاط التبشيري التابع للكنيسة، ومن ثم كان لابد للعلمانية من أن تبدي الاحترام إلى حد الانحناء أمام الكنيسة والفاتيكان على الخصوص.
أما في الولايات المتحدة فقد أوضح الدكتور يوسف الحسن الدبلوماسي بدولة الإمارات أن الدين يهيمن على أخطر القرارات السياسية والدولية وذلك في رسالته للدكتوراة بعنوان "الاتجاهات الصهيونية في الحركة الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة"، التي قدمها لكلية الاقتصاد والعلوم السياسة بجامعة القاهرة بإشراف الأستاذ الدكتور إبراهيم درويش ومشاركة الأستاذ الدكتور كمال أبو المجد والدكتور محمد عصفور وقد أجيزت الرسالة بامتياز ومرتبة الشرف مع تبادل الرسالة مع الجامعات الأجنبية.
وتبين الرسالة أن أخطر معتقدات هذه المسيحية الصهيونية تلك النبوءة التوراتية عن عودة اليهود إلى فلسطين، وإقامة دولتهم وملكهم فيها، وترتبط هذه النبوءة بشطر آخر يربط بين إقامة دولة إسرائيل وبين التبشير بعودة المسيح ليحكم باسم النصرانية ألف عام قبل أن تقوم القيامة. كذلك ترتبط بنبوءة لاهوتية عن قرب نهاية العالم حينما تغزو جيوش " السوفييت " وإيران والعرب والأفارقة والصين!! دولة إسرائيل.. عندئذ يعود المسيح إلى الأرض بجيش من القديسين لمعاقبة غير المؤمنين وتحطيمهم في معركة تقع بسهل المجدل بفلسطين.
ولقد كسبت الصهيونية اليهودية الكثير من وراء سيطرة هذه النبوءات على عقول الساسة الأمريكيين والإنجليز والبروتسانت والرؤساء الأمريكان: ويلسون، وروزفلت، وكارتر، وريجان، والرؤساء الإنجليز: بالمرستون وبلفور وتشرشل وغيرهم - هكذا قبل أن يظهر على المسرح " محافظون جدد " ولا يحزنون، كما يحاول بعضهم أن يقزم القضية ويحصرها في أمثال بوش، ورامسفيلد، وولفوفتز وبيرد وأمثالهم.
وتستخدم الحركة الأصولية الصهيونية المسيحية نفس الأساليب والوسائل التي تستخدمها المنظمات والمؤسسات غير الدينية للتأثير في السياسة العامة، وقد ملكت في العقود الأخير وأدارت احدث أدوات الاتصال الجماهيري من محطات مسموعة ومرئية، وصارت لها مؤسساتها ولجانها وقنواتها،وقدرت ثرواتها بالمليارات، وبلغ مجموع ما قدمه الأمريكيون من تبرعات ومساهمات لهذه الكنائس في عام واحد هو 1982 حوالي واحد وستين مليارا من الدولارات. وقدرت نسبة الأمريكيين المستمعين والمشاهدين لبرامجها عام 1980 بحوالي 47% من مجمل السكان.(3/81)
ويواصل الدكتور محمد عصفور تلخيصه لنتائج الرسالة المشار إليها فيقول: (وحتى ندرك ما تملكه الحركة الأصولية المسيحية الصهيونية من قوة اقتصادية هائلة يكفي أن نعلم أن ما أنفقته إحدى منظماتها على الدعاية في محطات التليفزيون وكذلك على التنظيم والتعبئة السياسية خلال انتخابات 1984 حوالي مائة مليون دولار، وهو يفوق ما أنفقه ريجان ومنافسه مونديل معا خلال الانتخابات، ولا تقتصر اهتمامات الحركة بمساندة إسرائيل وإن كانت تستحوذ على جانب كبير من نشاطها - فهي بالإضافة لذلك لها اهتمامها بصياغة السياسة الأمريكية الخارجية سواء بالنسبة لبرامج المساعدات الدولية وبخاصة في العالم الثالث، أو طبع السياسة الخارجية بطابع العداء للشيوعية (!!)، وزرع هذا العداء في العقل الشعبي وفي فلسفة المجتمع وتسخيره دوليا لإقرار سياسة دولية إرهابية).
هذه السياسة الدولية الإرهابية ضد المدنيين التي تمتد منذ إسقاط الأسطول الأمريكي في الخليج في عام 1988 أثناء حرب الخليج طائرة مدنية أغلبها مسلمون أهلكت ركابها الثلاثمائة إلى سلسلة المذابح والدمار الذي يتساقط فوق رءوس المسلمين في بيوتهم وشوارعهم ونواديهم ابتداء من فلسطين وأفغانستان والعراق وهلم جرا!
فهل قرأت عقول ساستنا ودعاتنا وعلمانيينا وأبناء جلدتنا من عرب المهجر ومسلميهم مثل هذه الدراسة الجادة قبل أن تلتصق رقابنا بمذبح هذه العقيدة الصهيونية المسيحية بعقود، أم أنها انتظرت حتى تكتشف ببلاهة شماعة رامسفيلد وولفوفيتز كأنهم " أمسكوا الديب من ديله " وإذا بهم لا يمسكون غير ديل صناعي مقطوع؟ مع الاعتذار للمثل الشعبي، أم أنهم علموا وتعاموا بفعل التماهي العلماني بينهم وبين هذه الصهيونية المسيحية " الدينية "؟
ويعلق الدكتور محمد عصفور فيقول: (إنه من الشاذ أن تكون أقوى الأحزاب الأوربية هي الأحزاب المسيحية وأن تكون أقوى الحركات السياسية هي الحركة الأصولية المسيحية ثم تحظر في بلادنا الأحزاب الدينية؟)
ولنقطع هنا سياق هذا التعليق الذي كتبه الدكتور محمد عصفور منذ عشرين عاما لنسوق ردا على مثل سؤاله صدر منذ أيام قلائل من الدكتور بلتاجي وزير السياحة - سابقا - والإعلام حاليا بمصر في قناة فضائية وهو يبرر عدم السماح بإنشاء حزب إسلامي في مصر بحجة أن إنشاء هذا الحزب رسميا - بالرغم من الاعتراف بوجوده فعليا - يعني أن غير المنتمين إليه ليسوا مسلمين، متجاهلا أن مثل هذه الحجة لو صحت فإنها تعني عدم السماح بإنشاء أي حزب في أي مكان في العالم، لأن أي حزب من الأحزاب في جميع أنحاء العالم سوف توجه إليه التهمة الساذجة نفسها، في حين أنه لا يضم ولا يدعي أنه يضم جميع الأفراد الذين ينتمون إلى عقيدة الحزب، وإنما هو على أقصى تقدير يدعي أنه يضم من " يتبرع للعمل الحركي لهذا الحزب " أو ذاك، والمحاكمة أوالمحاسبة في هذا ترجع لبرنامج الحزب المسموح به قانونا: إن كان يدعي هذا الأمر أو ذاك، ولو طبقنا هذا المقياس على إنشاء الحزب " الوطني الديموقراطي " الذي ينتمي إليه الوزير نفسه لكان معنى ذلك أن في قيامه اتهاما لغير من ينتمي إليه باللاوطنية واللاديموقراطية، وهو ادعاء ظاهر البطلان.
كما ادعى الوزير أن السماح بإنشاء حزب إسلامي يعني السماح بإنشاء حزب مسيحي؟ ولم لا؟ وحجة الوزير في عدم السماح بذلك أن إنشاء أحزاب إسلامية وأخرى مسيحية يعني إثارة الفرقة الطائفية منطلقا من عقيدة الحزب الواحد الأحد، متناسيا أن للمسيحيين - دون غيرهم - في مصر مؤسستهم الأقوى من أي حزب، وهي الكنيسة بما لها من صلاحيات صارمة في جميع المجالات، فإنشاء حزب لهم لا يعنيهم كثيرا، وهو ليس إلا تحصيل حاصل من درجة اقل في حال قيامه، متجاهلا في الوقت نفسه فلسفة إنشاء الأحزاب نفسها - في الفكر الديموقراطي الذي اصبح الجميع يدعيه - وأنها تقوم على فلسفة الاعتراف بواقع التعددية والممارسة السلمية مختلفة تماما عن الفلسفة الإستئصالية للحزب الواحد الذي أخذ يتوارى عن الساحة السياسية في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي
لكنها العقلية العلمانية التي تتكشف من رماد بيئة استئصالية لازالت تداعب عقول الكثيرين.
ولنرجع إلى تعليق الدكتور محمد عصفور إذ يقول موجها كلامه إلى العلمانيين: (أن يسائلوا أنفسهم: كيف تسيطر المعتقدات بل والأساطير الدينية إلى هذا الحد على مصائر الشعوب؟ وعليهم أن يستمعوا إلى ما يقوله القس الأمريكي " بريان هيهيو " من أن الكنائس الأمريكية مؤسسات رئيسية، وأنها وإن لم تكن أحزابا سياسية إلا أن دورها واضح في تشكيل وتعبئة جمهور من الأنصار الملتزمين بمنهجها في المسائل السياسية الخارجية).
ويقول الدكتور محمد عصفور في تعليقه على رسالة الدكتور يوسف الحسن: (على الرغم من أن مبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة مبدأ دستوري مقرر بالتعديل الدستوري الأمريكي الأول إلا أن للكنيسة والدين هيمنتهما على الحياة الأمريكية في شتى مناحيها، وارتكازا على هذا الواقع أعلنت الحركة المسيحية الأصولية عن أهدافها السياسية بصراحة شديدة، ولذلك قال قادتها: (إن حركتهم تعني الاستيلاء على الولايات المتحدة الأمريكية ومؤسساتها).
وقال أحد زعمائها: (نحن ثوريون، نعمل على قلب التركيبة الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية.. نحن نتحدث عن مسحنة الولايات المتحدة الأمريكية) ولهذا السبب فإنه - وإن بدا أن السلطة السياسية يتقاسمها الحزبان الديموقراطي والجمهوري إلا أن الحركة الأصولية المسيحية والمسيحية السياسية عامة تكون القوة السياسية الغالبة، ليس فقط من خلال التحالف مع اليمين الرجعي في الحزب الجمهوري -!! - وإنما كذلك من خلال التحكم في العملية الانتخابية والتأثير الشديد في ملايين الناخبين الذي تجندهم الحركة لمؤازرة هذا المرشح للرياسة أو ذاك، ولم يكن من المبالغة أن تعتبر الحركة المسيحية الأصولية: " أهم ظاهرة سياسية في القرن العشرين "، وأن يتوقع لها اللاهوتي الإنجليزي " جيمس بار " أن تستمر خمسمائة عام على الأقل " ولم تبق هذه الظاهرة الدينية السياسية مقصورة أو محصورة في نطاق ما تبشر به هذه الحركة، وإنما هي امتدت إلى انتخابات الرياسة الأمريكية بل وانتخابات الكونجرس الأمريكي، فقد لوحظ - وبحق - أن الشعب الأمريكي انتخب في العقد الأخير رئيسين يؤمنان بأهمية الدين في المجتمع الأمريكي وبحلول عام 1980 كان ثلاثة من المرشحين لرياسة الجمهورية يرفعون نفس الشعار، كما كان واضحا أن مسألة الدين قد احتلت الصدارة في مناقشات الحملات لعام 1984 سواء على شكل التغطية الصحفية، أو التعليقات الإعلامية، أو في تأثير ذلك في المجتمع نفسه، وبينما أعلن كارتر عام 1976 عن شعاره وإيمانه بعقيدة الولادة الثانية كمسيحي Bron Aqain عبر ريجان في 23 أغسطس 1984 في خطاب له بمدينة كنساس عن إيمانه بدور الدين في المجتمع الأمريكي رغم تأكيد التعديل الدستوري الأول لمبدأ الفصل بين الدين والسياسة أو الفصل بين الكنيسة والدولة، ومما جاء في خطابه قوله: " يلعب الدين دورا حاسما في الحياة السياسية لأمتنا) [أنظر سلسلة مقالات للدكتور محمد عصفور بجريدة الوفد حوالي 17\7\1988].
وأخيرا ليقل لنا العلمانيون في بلادنا: هل يسمحون بوضع شعار ديني على ورق البنكنوت كما هو الحال في أوراق البنكنوت الأمريكية؟(3/82)
ويقول الأستاذ الدكتور محمد البهي عن العلمانية في أوربا بوجه عام: (إن الموطن الذي ولد فيه الفكر العلماني - وهو إنجلترا وفرنسا وألمانيا - لم يأخذ بالاتجاه العلماني في التطبيق في الحياة العملية: التاج البريطاني لم يزل حاميا للبروتستنت، وفرنسا لم تزل حامية للكثلكة في صورة عملية، والدولة في انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا رغم إعلان أنها علمانية تساعد المدارس الدينية من ضرائبها التي تجبيها من المواطنين مع علمها باستقلال هذه المدارس في برامجها التعليمية، وببعدها عما تجريه الدولة من تفتيش على النفقات التي تنفقها) [ص: 30]
وعندما كتب الدكتور البهي ثلاث مقالات بمجلة الأزهر عام 1985 عن المستشرقين والمبشرين واعتبرت بعض دوائر الفاتيكان أنها تنطوي على بعض الإحراج لشئون التبشير الكاثوليكي كان أول احتجاج وصل إلى وزارة الخارجية المصرية هو احتجاج سفارة الولايات المتحدة الأمريكية تلاه احتجاجات أخرى عديدة من السفارات الغربية التي تمثل في بلادها أكثرية بروتستنتية أو كاثوليكية على السواء، مما يدل على أن الدولة العلمانية الغربية لم تزل ترعى المسيحية كدين والكنيسة الأوربية كسلطة دينية وتحرص على تمكينها من مباشرة رسالتها، كحرصها على حماية أملاك الكنيسة الأوربية وكحرصها على جباية الضرائب الخاصة بالكنيسة الأوربية عن طريق أجهزتها الإدارية.
وحتى رجال الدولة أنفسهم في ممارستهم السياسية العامة للمجتمع يخضعون في ظروف معينة لملاءمة أنفسهم مع تقاليد الكنيسة الأوربية، وعلى سبيل المثال: دوق أوف وندسور وأنتوني إيدن في انجلترا: كلاهما اضطر إلى ترك الوظيفة العامة أو عدم السعي إليها لأن سلوك كل منهما في حياته الزوجية لا يتفق مع ما تراه الكنيسة الأوربية من تقاليد في الزواج.
والجنرال ديجول في فرنسا أقال وزير التربية الاشتراكي في وزارته بعد أن عاد للحكم في المرة الثانية بسبب عدم موافقة الوزير على مساعدة المدارس الدينية في فرنسا من مدارس الجيزويت والفرير بمبلغ ستين مليونا من الجنيهات الاسترلينية في ميزانية 1963 من غير حق التفتيش عليها من قبل وزارة التربية.
ودولة الفاتيكان لم تزل تقوم من جانبها بدور كبير في سياسة البلاد ذات الأغلبية الكاثوليكية عن طريق الأحزاب السياسية التي تسمى بالديموقراطية المسيحية وكذلك في السياسة الدولية العالمية، فالأحزاب الديموقراطية المسيحية هي أجهزة للعمل على رسم الخطة لتنفيذ اتجاه الفاتيكان بالدرجة الأولى وعن طريقها حالت الكنيسة الأوربية دون أن تتطرف العلمانية إلى النوع الثاني الذي يقيم البلشفية دينا بدل المسيحية أو عملت على إسقاطها بعد قيامها [أنظر العلمانية والإسلام بين الفكر والتطبيق" للأستاذ الدكتور محمد البهي نشرة مجمع البحوث الإسلامية ص 44 وما بعدها].
وجاك شيراك عندما سعى لمنع المحجبات المسلمات من المدارس العامة بدعوى العلمانية الفرنسية كان حريصا على تمرير الصليب والطاقية حصرا عندما استثنى الرموز ذات الحجم الصغير.
وفي بلد مثل فرنسا لعبت دورا بارزا في تاريخ الفكر العلماني ينص مشروع دستور الاتحاد الاوربي الجديد على أن المسيحية هي الإطار الثقافي الذي يتميز به الاتحاد ويشكل أساس الهوية الأوربية، ومعروف أن الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان هو الذي أشرف على أو تولى صياغة مشروع هذا الدستور، وكان هو أحد المعترضين على قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي لأنها دولة إسلامية سوف تخل بالهوية الاوروبية.. [من مقال أحمد عباس صالح بجريدة الشعب الألكترونية بتاريخ 5\7\2003].
ومن هنا تتبين المغالطة الخبيثة التي تروجها العلمانية في بلادنا: في القول بأن التقدم الأوربي تحقق عن طريق استبعاد الدين أو فصله عن الدولة، وتتبين دلالة الصرخة التي انفلق عنها رأس العلماني الذي عاين مكانة البابا في الولايات المتحدة الأمريكية عندما قال: (هل وقعنا نحن المسلمين ضحية لعبة شديدة الخبث خرجنا منها بلا صواريخ ولا دين، بل بالفقر والكفر، بينما احتفظ الآخرون بدينهم ووضعوا أعلامهم فوق القمر).
ولا نريد أن نذهب بعيدا فالصلة القائمة هناك بين الدين والدولة لا تعني انفصالا كما لا تعني اندماجا وهي في الوضعية نفسها للصلة بين السلطات المختلفة في كيان الدولة: وهو فصل يتم تحت مظلة الدولة الواحدة ويظهر لنا أن الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من الفصل بين السلطات: سلطة التشريع، وسلطة القضاء، وسلطة التنفيذ، وسلطة رجال الدين، مع إعطاء كل سلطة حقها الكامل في التأثير على الحياة الدنيا، وهو نموذج لا يمكن نقله إلينا أيضا لأنه لا سلطة في الدين الإسلامي لما يسمى رجال الدين، ولن الدين الإسلامي لا يسمح بان يكون له مكان دون مكان المشروعية العليا.
وبهذا بينا قوة تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية مما يعني انه على العلمانيين في بلادنا أن يراجعوا أنفسهم ويكفوا عن الزعم بان التقدم مرتبط باستبعاد الدين عن تنظيم شئون الحياة الدنيا اللهم إلا إن كانوا بقايا فلول العلمانية الماركسية.
وسنبين في المقال القادم - إن شاء الله - أنه في علاقة الغرب بنا كانت حروبهم معنا دينية، ليس ذلك فحسب في حروبهم التاريخية المتقادمة ضدنا في الحروب الصليبية، أوفي حروبهم ضد المسلمين في الأندلس ولكن في حروبهم ضد المسلمين في عقر دار العصر الحديث عصر التنويروالحداثة!!
كما نبين إن شاء الله نشاط كنائس الغرب في مجال السياسة نشاطا يلقى الاحترام والاعتراف والتقدير من الجماهير والرأي العام وأصحاب النفوذ على السواء
===============
البعث.. ما هو الدور الجديد؟!!
لقد عاش المشرق العربي حالة من الضياع وعدم الاتزان بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ومن ثم سقوط الخلافة الإسلامية؛ فقد انسحبت القوات العثمانية من العراق والشام متراجعة أمام قوات الإنجليز والثوار العرب، ومفسحة المجال لبريطانيا وفرنسا لتنفيذ اتفاقية سايكس ـ بيكو السرية لتقاسم أراضي الدولة العثمانية؛ بحيث تكون الشام من نصيب فرنسا لإنشاء كيان نصراني في لبنان، وتكون فلسطين وشرق الأردن والعراق من نصيب الإنجليز الذين كان همهم الأساس هو إقامة كيان يهودي في فلسطين.
ويلاحظ أن الجهد الأساسي في هذه المنطقة قامت به بريطانيا وبدون مشاركة فرنسية، حيث تم الاتفاق مع الشريف حسين وأولاده على الثورة والمشاركة في العمليات العسكرية في بلاد الشام والحجاز الذي شاركت فيه قوات الإنجليز مع قوات المستعمرات من أستراليا وجنوب أفريقيا، أما بخصوص الحملة على العراق فقد شاركت فيها قوات إنجليزية وهندية. وقد حاولت بريطانيا نتيجة لذلك حكم معظم بلاد الشام عن طريق تنصيب فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا وأخيه عبد الله اميراً على شرق الأردن، وفرض حكم مباشر على فلسطين والعراق. وقد تعرقل المشروع بسبب الثورات العراقية المتتالية ضد الإنجليز، وبسبب التدخل العسكري الفرنسي لأخذ نصيبهم من المنطقة وفقاً لاتفاقية سايكس ـ بيكو.(3/83)
لقد تعرضت قوات الإنجليز في العراق للعديد من الثورات، ولاقت الإدارة البريطانية في العراق صعوبات جمة في السيطرة على العراق وخصوصاً بعد ثورة آب 1920م والتي أجبرت الحكومة البريطانية على تغيير سياستها بالتحول من استعمار مباشر إلى حكومة إدارة وطنية تحت الانتداب، وكان الملك فيصل بن الحسين، الذي طردته القوات الفرنسية من الحكم في سوريا بعد هزيمة القوات السورية في معركة ميسلون هو أقوى المرشحين لمنصب ملك العراق، وأخيراً توج ملكاً على العراق في يوم 23/8/1921م بعد استفتاء أجري من قِبَل الإدارة الإنجليزية، وهكذا تم نقل خدماته من دمشق إلى بغداد آخذاً معه دعاة القومية العربية الذين التفوا حوله في سوريا ومن أشهرهم ساطع الحصري الذي تولى حقيبة التربية والتعليم في العراق.
لقد تميزت فترة الانتداب بقيام نظام جمهوري برلماني في سوريا، وملكية دستورية في العراق والسماح بمظاهر ديمقراطية؛ ولكن نقطة الضعف الأساسية هو عدم وضوح الهوية؛ فقد نجح الاحتلال في إسقاط فكرة الجامعة الإسلامية، وحاول جاهداً تشجيع كل راية جاهلية مما أوجد حالة من الصراع العنيف بين اتجاهات كثيرة لسد الفراغ، وكانت الشعارات غير الإسلامية، تتفاوت بين الفينيقية والآشورية والقومية الوطنية والشيوعية. ومن جانب آخر ظهرت في المنطقة شعارات مشكَّلة من خليط مما سبق؛ فمثلاً تيار الناصرية يعتمد على الفكر القومي الوطني مع اشتراكية اقتصادية؛ أما التيار البعثي فهو يشبهه ولكن يتميز عنه ببروز البعد اللاديني؛ لأن قادته التاريخيين هم في الأساس من غير المسلمين، وقد سيطر على المنطقة حالة صراع دامٍ وعنيف بين هذين الاتجاهين؛ ولما كان الاتجاه البعثي هو الأقدم وأيضاً هو الموجود على الساحة بصفته التنظيمية فإنني في هذه العجالة سأقدم للقارئ الكريم فكرة مبسطة عن التيار البعثي تعينه في فهم الأحداث الحالية.
لقد ظهرت فكرة الحزب في اواسط الثلاثينيات الميلادية، وأُشهِر رسمياً في أواخر الأربعينيات في سوريا، وشارك في الحكم في كل من سوريا والعراق ابتداءً من 1958م، وانفرد بحكم كل من سوريا والعراق في أواخر الستينيات إلى الوقت الحاضر:
- في سنة 1932م عاد من باريس قادماً إلى دمشق كل من ميشيل عفلق (نصراني ينتمي إلى الكنيسة الشرقية) وصلاح البيطار (سني) وذلك بعد دراستهم العالية محملين بأفكار قومية وثقافة أجنبية.
- أصدر التجمع الذي أنشأه عفلق والبيطار مجلة الطليعة مع الماركسيين سنة 1934م، وكانوا يطلقون على أنفسهم اسم: (جماعة الإحياء العربي) .
- في نيسان 1947م تم تأسيس الحزب تحت اسم: (حزب البعث العربي)، وقد كان من المؤسسين: ميشيل عفلق، صلاح البيطار ، جلال السيد، زكي الأرسوزي، كما قرروا إصدار مجلة باسم البعث .
- كان لهم دور في حكومة شكري القوتلي الذي حكم مرتين ووقع اتفاقية الوحدة مع مصر سنة 1958م.
- أيدوا الوحدة مع مصر، واشتركوا في حكومتها برئاسة جمال عبد الناصر: 1958 ـ 1961م .
- وقفوا بقوة مع الانفصال عن مصر: وقد دام الانفصال من 28/9/1961م وحتى 8/3/1963م. وقد قاد حركة الانفصال عبد الكريم النحلاوي.
- منذ 8/3/1963م وإلى اليوم فقد سيطر البعثيون على الحكم في سوريا عن طريق عدة حكومات برز فيها الصراع الطائفي بين النصارى والدروز والإسماعيليين والنصيريين، واستقر الحكم للنصيريين مع واجهات سنية في كل مرحلة مثل صلاح البيطار وأمين الحافظ (1963م - 1966م) و نور الدين الأتاسي (1966م ـ1970م) ومصطفى طلاس وعبد الحليم خدام، وغيرهم.
- أما عن الجناح العراقي من حزب البعث فقد استولى على السلطة في العراق بعد أحداث دامية سارت على النحو التالي:
استيلاء حزب البعث على ناصية الحكم في العراق:
- في الرابع عشر من شهر يوليو عام 1958م دخل أحد أولوية الجيش بقيادة عبد السلام عارف إلى بغداد واستولى على محطة الإذاعة، وأعلن الثورة على النظام الملكي، وقتل الملك فيصل الثاني وولي عهده عبد الإله ونوري السعيد رئيس وزرائه، وأعوانه، وأسقط النظام الملكي؛ وبذلك انتهى عهد الملك فيصل، ودخل العراق دوامة الانقلابات العسكرية. وقامت حكومة يُمَثَّل فيها حزب البعث فقط بشخص امينه العام فؤاد الركابي مما يدل على المشاركة البعثية المحدودة.
- وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر يوليو عام 1958م أي بعد عشرة أيام من نشوب الثورة وصل ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث وزعيمه إلى بغداد وحاول إقناع أركان النظام الجديد بالانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة (سوريا ومصر) وذلك حتى يمكنهم الوقوف في وجه زعامة عبد الناصر في ذلك الوقت؛ ومن ثم السيطرة على مقاليد الحكم؛ ولكن الحزب الشيوعي العراقي أحبط مساعيه ونادى بعبد الكريم قاسم زعيماً أوحد للعراق.
- وفي اليوم الثامن من شهر فبراير لعام سنة 1963م قام حزب البعث بانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم، وقد شهد هذا الانقلاب قتالاً شرساً دار في شوارع بغداد، وبعد نجاح هذا الانقلاب تشكلت أول حكومة بعثية، وسرعان ما نشب خلاف بين الجناح المعتدل والجناح المتطرف من حزب البعث فاغتنم عبد السلام عارف هذه الفرصة وأسقط أول حكومة بعثية في تاريخ العراق في 18/11/1963م، وعين عبد السلام عارف أحمد حسن البكر أحد الضباط البعثيين المعتدلين نائباً لرئيس الجمهورية، ثم لم يلبث أن أبعد عن النيابة إلى العمل كسفير في وزارة الخارجية في سنة (1384هـ - 1964م).
ثم تعرض للاعتقال والإقامة الجبرية في منزله، ثم أطلق سراحه بعد ذلك، وبدأ في العودة إلى نشاطه السياسي.
- في شهر فبراير سنة 1964م أوصى ميشيل عفلق بتعيين صدام حسين عضواً في القيادة القطرية لفرع حزب البعث العراقي.
- وفاة عبد السلام عارف في حادث طائرة سنة (1385هـ ـ 1966م) وتولي أخيه عبد الرحمن عارف الحكم في العراق.
- قام حزب البعث العراقي بالتحالف مع ضباط غير بعثيين بانقلاب ناجح أسقط نظام عبد الرحمن عارف في (20/4/1388هـ - 17/7/1968م)، وأعلن أحمد حسن البكر رئيساً.
- وفي اليوم الثلاثين من شهر يوليو عام 1968م طرد حزب البعث كافة من تعاونوا معه في انقلابه الناجح على عبد الرحمن عارف، وعين أحمد حسن البكر رئيساً لمجلس قيادة الثورة ورئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للجيش، وأصبح صدام حسين نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة ومسؤولاً عن الأمن الداخلي .
- وفي 8 يوليو سنة 1973م جرى إعدام ناظم كزار رئيس الحكومة وجهاز الأمن الداخلي وخمسة وثلاثين شخصاً من أنصاره؛ وذلك في أعقاب إخفاق الانقلاب الذي حاولوا القيام به بالتنسيق مع البعث السوري.
- وفي شهر يونيو عام 1979م أصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية العراقية بعد إعفاء البكر من جميع مناصبه وفرض الإقامة الجبرية عليه في منزله.
- في يوليو سنة 1979م قام صدام حسين بحملة إعدامات واسعة طالت ثلث أعضاء مجلس قيادة الثورة، ولم يبق على قد الحياة من الذين شاركوا في انقلاب عام 1968م سوى عزت إبراهيم الدوري، وطه ياسين رمضان، وطارق حنا عزيز.
وعند استعراض تاريخ البعث نتوقف عند بعض القضايا الأساسية في نظري وهي:
1- ان الحزب وُجِدَ في فترة صراع سياسي اثناء فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي.
2 - كانت الأنظمة الدستورية الموالية للغرب ضحية لهذا الصراع.(3/84)
3 - يلاحظ ان البديل كان أنظمة عسكرية سواء كانت ذات خلفية حزبية مثل البعث، أو ليس لها خلفية حزبية مثل نظام حسني الزعيم وجمال عبد الناصر الذي حاول تشكيل إطار تنظيمي لنظامه (الاتحاد الاشتراكي).
4 - كانت سياسة الحزب تقوم على أساس التحالف مع الأقوياء والتقوي بهم ثم الانقلاب عليهم؛ وعلى هذا يُفهَم تحالفهم مع عبد الناصر وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف.
5 - ان الشعارات الاشتراكية للأنظمة الجديدة لم يمنعها من استبعاد الشيوعيين عن المشاركة في الحكم بل وتصفية الأحزاب الشيوعية او تطويعها، وأيضاً لم يمنعها من علاقات وثيقة مع الغرب في الجانب السياسي.
6 - هناك شكوك كبيرة حول الدور الأمريكي في الانقلابات العسكرية الأولى في مصر وسوريا.
7 - دخول أمريكا بوضوح في دوامة الانقلابات المتتالية التي دمرت الجيوش العربية، وأفرزت أنظمة متسلطة.
8 - اتهام أمريكا أن لها دوراً في مساعدة البعثيين في الإطاحة بعبد الكريم قاسم الذي اضطر للاعتماد على الشيوعيين في صراعه من اجل البقاء في الحكم بعد رفضه العرض البعثي للانضمام للاتحاد السوري المصري. فقد قال الملك حسين: (إنني أعلم بكل تأكيد بأن ما حدث في العراق يوم 8/2/1963م كان بدعم المخابرات الأمريكية C.I.A. لقد عقدت عدة لقاءات بين حزب البعث والمخابرات الأمريكية، ومنها اجتماعات عقدت في الكويت)، وكان علي صالح السعدي أحد رموز الانقلاب يصرح أمام الصحافة اللبنانية بعد اختلافه مع الرفاق: (لقد جئنا إلى السلطة بقطار أمريكي).
وكشفت وثائق وزارة الخارجية البريطانية عن التوجه الغربي لدعم انقلاب بعث العراق؛ ففي برقية سرية مرسلة من السفارة البريطانية في بغداد إلى لندن مؤرخة في 28/1/1963م، أي قبل عشرة أيام من الانقلاب، أن روي ملبورن القائم بأعمال الولايات المتحدة قال للسفير البريطاني: (إن وزارة الخارجية [الأمريكية] تفكر أنه حان الوقت لترد على تهجم قاسم المستمر.. وأن الوقت قد حان للبدء في بناء رصيد مع معارضي قاسم، من أجل اليوم الذي سيحدث فيه تغيير في الحكومة في بغداد).
وتكشف برقية من السفارة البريطانية في واشنطن إلى وزارة الخارجية يوم 8/2/1963م أن مدير قسم الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأمريكية السيد سترونغ قال: (إن إنقلاب 8 شباط لو أنتج نظاماً ذا طبيعة بعثية فإن سياساته سوف تكون مقبولة على الأرجح من قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية.
إن استعراض بعض الأحداث يؤكد على أن حزب البعث لم يكن يوماً ما ضد المصالح العليا للغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية؛ فمثلاً لم يشارك العراق في حظر النفط أثناء حرب رمضان 1393هـ، وبروز التحالف الغربي مع العراق في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، واعتبار أمريكا للعراق السد المنيع ضد المد الشيعي في المنطقة؛ وكان ذلك سبباً في حصول العراق على قدرات تسليحية وتقنية لم يكن مسموحاً بها في الظروف العادية وكان تسليم بعض هذه الأسلحة يتم بإشراف رسمي. ومن الغريب أن الذين يحكمون في أمريكا الآن مثل رامسفيلد هم الذين يمثلون قناة الاتصال الشخصي مع الرئيس صدام حسين، وقد كشف عن زيارات لرامسفيلد لبغداد تتزامن مع استخدام الأسلحة الكيميائية ضد الأكراد والإيرانيين.
إن التركيز الأمريكي على شخص صدام وتجاهل الحزب الحاكم الذي يمثل ذراع البطش الطويلة داخلياً وتركيزه على إضعاف الجيش العراقي وشله ومحاولة تفريغ العراق من الطاقات العلمية بتصفية أو شراء العلماء كما حدث للعلماء الألمان بعد الحرب العالمية الثانية يؤكد أن الهدف هو البلد بثروته وطاقاته المتميزة علمياً، أما الطاقات الأمنية والحزبية الفاعلة في ترويض الشعب فسيتم الاستفادة منها في مستقبل الأيام إذا تمكنت أمريكا من إزاحة رأس النظام وإقامة نظام موالٍ مجرد من أسباب القوة والبقاء الذاتي.
إن حزب البعث بصورته الحالية يعتبر من بقايا أدوات الصراع أيام الحرب الباردة؛ وحيث الحاجة إليه قد قلَّت أو انتهت فيجب أن يتأقلم مع الأوضاع الجديدة ويحاول تلمس أسباب البقاء. وإذا كان القذافي يحاول التشبث بقشة قدرته على محاربة المتطرفين والبعث السوري قنع أخيراً بوظيفة المبعوث الرسمي للغرب لدى إيران؛ فما هي المهمة اللائقة ببعث العراق الذي يبدو حائراْ بين جحود الأصدقاء القدامى (الأمريكان) وبين عدم ثقة الإسلاميين باللافتات الإسلامية التي يحاول استغلالها في تغيير العَلَم العراقي والسماح للمظاهر الإسلامية بالظهور بعد طول غياب، بل وتشجيع تعليم القرآن وبعض العلوم الشرعية وفرضها على أعضاء الحزب؛ فهل هي توبة متأخرة أم هي اكتشاف حقيقة أن القوة الوحيدة القادرة على حماية الأمة هي العقيدة المنبثقة من ذاتها، وأن كل من يحارب الأمة في عقيدتها وشعائرها وأخلاقها سيدفع ثمن ذلك ولو بعد حين؟
ِ
[بقلم؛ يوسف بن صالح الصغير / عن مجلة البيان]
===============
لا جهاد بلا إرهاب
بسم الله الرحمن الرحيم
بين الجهاد والارهاب تلازم وتكامل إذ هما عنصران لا يقوم احدهما من دون الاخر في تحقيق الهدف منه وهو التصدي للمعتدي وانزال الهزيمة به بكل وسيلة مشروعة متاحة بما في ذلك استخدام السلاح، وليس لاكراهه على قبول الإسلام، بدليل قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)، وقوله تعالى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، وقوله تعالى، (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين) [1]، وقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين).
أما الإرهاب فيعني قذف الرعب في نفوس المعتدين لكي تسهل السيطرة عليهم وانزال الهزيمة بهم.
والارهاب بهذا المعنى حق مشروع بكل المقاييس العقلية والشرائع السماوية والمواثيق الدولية.
فإذا كان الجهاد بهذا المعنى حقاً مشروعاً وامراً الهياً على المسلمين، فان الارهاب الذي يمارسه المُعتدى عليه دفاعاً عن العرض أو الوطن أو المال أو الدين أو الكرامة يكون حقاً مشروعاً ايضاً بالضرورة والبداهة لان ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أما إذا صدر من المعتدي على المعتدى عليه فهو عدوان مرفوض تبعاً لذلك.
إن هذا المفهوم الإسلامي الانساني للارهاب يتعرض الان اكثر من اي وقت مضى لحملة تشويه مركزة يقوم بها الحلف الصليبي الصهيوني، بعد ان عجز عن انتزاع عقيدة الجهاد من نفوس المسلمين، فأراد تفريغها من مضمونها لكي تتحول إلى نظرية بلا ممارسة وشعار من دون مضمون، إذ أن هذا الحلف العدواني توصل من خلال استقرائه لتاريخ المسلمين أن العقيدة الإسلامية مهما بلغت من الوضوح والصفاء ومهما تمكنت من نفوس المؤمنين بها تبقى غير قادرة على الصمود أمام مؤامرات الاعداء، إذا لم تستند على جهاد يحميها وارهاب يقذف الرعب في نفوس المعتدين.
وهذا الحلف الان بصدد مشروع عدواني يهدف تغيير الخارطة السياسية والهوية الحضارية والعقدية للعالم الإسلامي وذلك بتفتيته وتجزئته إلى كيانات طائفية وعنصرية أكثر عدداً واضعف من الكيانات القائمة فيه الان لكي تسهل السيطرة عليها سيطرة مباشرة لتحويلها إلى اسواق لبضائعه ولنهب ثرواته.(3/85)
وفي مقدمتها النفط الذي استودعه الله في أراضيها، حيث يبلغ أكثر من 85% من الاحتياطي العالمي من نفط العالم، علماً بان أمريكا مهددة بنضوب نفطها الذي يقدره الخبراء ببضعة عقود، فضلاً عن ذلك أنها تسعى جاهدة لحرمان الدول الصناعية الكبرى منه بقصد تدمير صناعتها، وهي الان تخوض ضدها حرباً تجارية خفية قد تتحول إلى حرب اشد سخونة واكثر تهديداً للبشرية من الحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي قبل تفكك الاتحاد السوفياتي.
إن أمريكا لم تخفٍ أهدافها هذه، فقد صرح بذلك وزير خارجيتها المستقيل كولن باول بقوله: "ان احتلال العراق والسيطرة على نفطه سيمكننا من تغيير الخارطة السياسية في العالم الإسلامي"، كما صرحت كوندليزا رايز عندما كانت مسؤولة الامن القومي وصاحبة النفوذ الواسع على الرئيس بوش: "ان امريكا خلال العشر سنوات المقبلة ستفرض الديمقراطية على الطريقة الأمريكية على العالم الاسلامي"، وقبل باول وكوندليزا رايز كتب الرئيس كارتر في مذكراته: "ان من يملك نفط الشرق الأوسط يمسك مفتاح السيطرة على العالم".
فلا غرابة إذاً من تركيز التحالف الصهيوني الصليبي حملته على الارهاب بمفهومه الإسلامي الإنساني وتشويه طبيعته، في الوقت الذي يشجع الحكومات المستبدة العميلة على ممارسة الارهاب العدواني غير المشروع ضد شعوبها، لان الارهاب الذي يمارسه المجاهدون في العراق الان قد أوجع امريكا وأوجد لها مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية في داخلها، وعرّض مصالحها وامتيازاتها وسمعتها للاهتزاز، وشجع ضحاياها المستضعفين الذين أنهكهم المرض والجوع على التململ والتحرك تحدياً لها اقتداء بالمجاهدين في العراق.
ولا غرابة ايضاً في ان ينبري عملاؤها في العراق وفي غير العراق لترديد مفترياتها بشأن الارهاب الإسلامي، ترديد الببغاوات وتقليدها تقليد القردة.
وهؤلاء الساقطون لم يَخلُ من أمثالهم أمة من الامم ولا شعب من الشعوب على امتداد التاريخ.. إلا ان الغرابة في ان ينبري المتأسلمون ادعياء الدين وأعداء الفضيلة من أصحاب العمائم الكبيرة واللحى الطويلة على ترديد اتهامات المحتلين وشبهاتهم والوقوف مع عملاءهم في خندق الخيانة والعمالة بفتاوي سلطانية ما انزل الله بها من سلطان، يصفون المجاهدين بالقتلة الخارجين على الدين وينعتون الاستشهاديين بالانتحاريين المتمردين، الذين ليس لهم من الاسلام حظ ولا نصيب.. إذ ان خطورة هؤلاء تكمن في انتسابهم إلى الاسلام وفضائله.. والتحدث باسمه وتسترهم بمصطلحات العقلانية والوسطية.
ويطلبون وجوب الانتظار حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود لكي تستبين الحقيقة المحجوبة عن بصائرهم وابصارهم وعندها يصدر الحكم الشرعي، أما قبل ذلك فيكون التحرك في الدائرة الرمادية امر جائز، شرعاً مع ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من ذلك بقوله: (الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، ثم دعوتهم إلى التفرغ إلى الزهد والعزلة في الكهوف والمغارات المظلمة والدهاليز المتعفنة لتطهير النفوس بالجهاد الأكبر بعيداً عن مشاكل الامة ومطالبها المشروعة، إلى أمثال ذلك من الدعاوي والمعاذير التي يريدون بها ان يجعلوا الدين مخدراً للشعوب وافيوناً للجماهير وخدمة الطغاة والمحتلين، بدلاً من ان يكون حركة تحرير للإنسان.
ان هذا النفر الذي أصبح خارج حركة التاريخ بعد ان تكشفت حقيقته ومواقفه الجبانة نسي أو تناسى ان الجهاد الأكبر اذا اجتاح الأعداء أي بلد إسلامي يجب ان يُمارس تحت صليل السيوف ومدافع الهاون تصب حممها على رؤوس المحتلين وعملائهم. وإن على المسلمين جميعاً وفي مقدمتهم العلماء ان يرفعوا راية الجهاد نساء ورجالاً ينهضُ به البر والفاجر، لأنه أفضل من الصوم والصلاة والحج والاعتكاف في المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى، وانه يأتي في الأفضلية بعد الايمان بالله لقوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين).
وهذا الجهاد اذا تعين أي اذا اصبح فرض عين لا يشترط لقيامه وجود الإمام الشرعي ولا اجازته ولا فتوى مُفت، إذ ان المدين يجب عليه ان يلتحق بالمجاهدين حتى من دون اجازة الدائن - غريمة - وللولد ان يلتحق بالمجاهدين مجاهداً حتى ولو لم يوافق والداه على ذلك، والمرأة تشارك في الجهاد من دون إذن زوجها أو وليها، وإن من يتخلف عن ذلك يكون قد ارتكب اثماً عظيماً.
وان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخر صلاة الظهر والعصر والمغرب حتى فات وقتها لانه قد فَضّل عليها حفر الخندق يوم الأحزاب دفاعاً عن المدينة.
واذا منع ولي الأمر المجاهدين من الجهاد يكون قد ارتكب ظلماً عظيماً ، فاذا اصر على موقفه يصار إلى عزله واختيار القوي الأمين ليكون أميراً على المجاهدين، إذ (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، أما اذ ثبت لديها تواطئه مع العدو فقد وجب قتله حداً أو تعزيراً.
وان على المسلمين ان ينفروا لنصرة إخوانهم في اي بلد وقع في نير الإحتلال سواء في البلد المحتل أو في غيره لمواجهة العدو حتى في عقر داره، لان المسلمين امة واحدة كما قال الله تعالى: (إِن هذه أمتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون)، ويجب ان يكونوا متكافلين متضامنين في السراء والضراء، وحين البأس؛ كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
وان عليهم ان يلاحقوا العدو على اي ارض له وجود فيها فيقذفوا الرعب في نفسه، ويدمروا مصانعه وطرق مواصلاته وتمويناته، وملاحقة اعوانه من أهل البلد أو من غيرهم التزاماً بقوله تعالى: (ذلك بانهم لا يصبهم ظماً ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئاً يَغيضُ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كُتب لهم به عمل صالح، ولايُنفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً الا كتب لهم ليجزيهم الله احسن ما كانوا يعملون).
[بقلم الشيخ؛ محمد الألوسي]
1) القسط يعني العدل، والبر يعني الإحسان
==============
ولا يزالون يقاتلونكم
مقالات؛ تحت ظلال السيوف
[الكاتب: سيف الدين الأنصاري]
بسم الله الرحمن الرحيم
تتحكم طبيعة العلاقة بين الناس في صياغة وتحديد نوع السلوك والمواقف المتبادلة بينهم، فالولاء مثلا يستوجب النصرة، والبراء يولد الصراع، وهكذا... إلى أن تأخذ الحياة شكلا معينا يقرب أو يبعد من الصواب على حسب قربه أو بعده من المبادئ الصحيحة التي يجب أن تعتمد لتحديد هذه الطبيعة.
ومن هنا كان اهتمام المسلم بتحديد طبيعة العلاقة بينه وبين الكافر ضروريا لامتلاك أدوات القراءة الصحيحة للأحداث أولاً، وثانياً؛ لصياغة الموقف المطلوب من الطرف الآخر ونوع السلوك المبدئي الذي يجب أن يحكم التفاعل ويصوغ متطلباته، خصوصا أن عملية الاحتكاك المستمر من موقع الأجواء الهادئة قد تؤثر على محددات هذا الموقف، وربما أوقعت في سلسلة من التنازلات يشكل تراكمها تهديدا حقيقيا لقضية الهوية!(3/86)
وحتى لا تخضع عملية التحديد هذه لتأثيرات الضعف البشري الذي يتجسد على المستوى الفكري في الاعتماد على الظن، وعلى المستوى النفسي في الانطلاق من الهوى، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم: 23]، حتى لا يقع هذا، يجب أن يكون المستند الثابت والأصلي لتحديد طبيعة هذه العلاقة هو الوحي، قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، فهو من جهةٍ أحكامٌ شرعية من شأن الاستجابة لها أن تحقق العصمة من الضلال، ومن جهة أخرى رسالة تحمل في طياتها محددات الفهم الصحيح للقدر، وباعتبار كونهما معا من عند الله، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [لأعراف: 54]، تجتمع للناظر من خلالهما مقومات التوازن المطلوب للحكم على الأشياء.
ولا شك أن الاستحضار الجدي للافتراق الحاصل بين الناس - كسنة قدرية - إلى مسلم وكافر يسهّل إدراك طبيعة هذه العلاقة، فإن الافتراق بين المعسكرين قائم على أساس الاختلاف في المعبود {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يّس: 60]، ومن الطبيعي أن يتولد عن هذا النوع من الافتراق عداء عميق من شأنه أن يؤسس لطبيعة معينة من العلاقة، قال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101].
قال الطبري: (بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله وترككم عبادة ما يعبدون) [5/243].
فهذا العداء ليس حالة عرضية خاضعة لاعتبارات شخصية، أو مواقف مؤقتة لا يتحكم فيها إلاّّ ميزان المصلحة والمفسدة الدنيوية التي تستدعيها طبيعة التفاعل البشري في معترك الحياة، وإنما هي هيئة راسخة في نفوس الكافرين اتجاه المسلمين، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 217].
قال أبو السعود: (بيان لاستحكام عداوتهم) [التفسير].
وهي - وقبل أي شيء آخر - نتيجة حتمية للاختلاف في المعبود.
ثم إن الوجود الفعلي للشيطان كطرف ثالث في هذه العلاقة يساهم في صياغة طبيعتها، ولذلك يصبح من الضروري استحضاره عند إرادة تحديدها، فهو من جهة عدو للمسلمين {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]، ومن جهة ثانية هو للكافرين - دائما - ولي حميم، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121]، ولابد من ملاحظة التأثير الواضح على أوليائه، {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم: 83]، وهذه المعطيات كلها تفرض أن النتيجة الحتمية هي استحكام العداء بين معسكري الإسلام والكفر، واستمرارية هذا العداء مادام هناك شيطان يوحي إلى أوليائه.
وبما أن هذه العداوة المستحكِمة هي المحرك الأساسي لعجلة الصراع، فمن الطبيعي جداً أن تترجم إلى أعمال تجسد في النهاية حقيقته.
قال أبو السعود عند قوله تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}؛ (فإن كمال عداوتهم للمؤمنين من موجبات التعرض لهم بسوء) [التفسير: 2/226].
ولابد لهذا الصراع أن يظهر في مفردات تعبر عن وجوده، فيقع الجدال بين الفريقين، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]، ويقع الخصام؛ {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45]، ويقع القتال؛ {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم} [البقرة: 217]، يقع كل هذا ويستمر مادام هناك حق قائم وباطل موجود، وتلك سنة الله القدرية، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62]، ولله الحكمة البالغة؛ {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149].
ولكي تكتمل صورة الأسباب الحقيقية للصراع الموجود بين الطرفين لابد من استحضار طبيعة العلاقة بين الحق والباطل، فالحق لابد أن يتحرك لإثبات ذاته، فهو الذي يعلو، ولا يكون ذلك إلاّ بزوال الباطل، فهما شيئان متناقضان لا يوجد أحدهما إلاّ بانتفاء الآخر، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِل} [الإسراء: 81]، فمجيء الحق إزهاق لروح الباطل واجتثات لأركان وجوده، ولن يكون إلاّ بتوجيه القذائف المركزة التي تستهدفه في الصميم، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]، وتلك - ولا شك - ليست أجواء للصراع فحسب، وإنما هي أجواؤه حين يكون على أشده، وهي بالذات طبيعة العلاقة بين المؤمنين والكافرين، {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 3].
بل لو أراد الحق أن يملك - فقط - حقه في الوجود، دون السعي إلى اجتثات الباطل والهجوم عليه في عقر داره لما تُرك وشأنه، فإن الباطل يحرجه أن يكون الحق بجانبه، لأن أمره حينئذ سينكشف، وسحره سيبطل، فهذا نبي الله شعيب عليه السلام يقول لقومه: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} [الأعراف: 87]، يا قوم، أنتم وشأنَكم، ونحن وشأننا، اتركونا وحالنا، ونحن نترككم وحالكم حتى يقع أمر قدري يفصل بيننا، فهل تركوه؟ لقد قال الملأ: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88]، فهي القاعدة المطردة، لابد لوجود الإيمان أن يحرك العداوة في الكافرين، لا مناص، ولا خيار، ولابد للصراع أن يكون، ولن يهدأ من جهتهم إلاّ حين يرجع المؤمن عن ملته، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة].
إن الصراع هو الطبيعة الحقيقية للعلاقة بين الجماعة المسلمة وأولياء الشيطان، بل هو الوضع الطبيعي لهذه العلاقة، وأي محاولة لتحريف هذه الطبيعة، وتمييع هذه العلاقة ستحدث الفساد ولاشك، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْض} [البقرة: 251]، وما أهلك الأمة الإسلامية إلاّ هذه المحاولات المشبوهة التي تتحرك - من موقع الانهزام النفسي أمام انتفاخ الباطل - للتشويش على الطبيعة الحقيقية للعلاقة بين الكفار وأهل الإسلام، فبنظرة سطحية واستعارة واضحة لأدوات التحليل الجاهلي تُقدم العدو في ثوب الصديق الذي لا مشكلة معه إلاّ سوء الفهم أو ضعف التواصل، ولولا ذلك لكان لنا محبا، بل وعنا مدافعا.
وهي دعوة عطلت - ولاشك - الكثير من طاقات الأمة وجعلتها تتحرك في دائرة المشروع الجاهلي، بل وأصبحت أداة من أدواته وجزءا من بنيته، فتخلى البعض عن المبادئ في سبيل الوآم المدني، وتميعت القضية العقدية باسم الوحدة الوطنية، بل لقد رضي آخرون بالاصطفاف وراء قائد الحملة الصليبية لكي لا يقال إنهم جماعات إرهابية، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون} [القلم: 9].(3/87)
والحقيقة أن المتتبع لتاريخ الصراع بين المعسكرين يجزم أنه غير مرتبط بزمن معين ولا بمكان معين، وإنما هو سلسلة حلقات كانت لا تزال قائمة، بل إن معركة الحاضر لا تختلف في أكثر مفرداتها الجزئية عن معركة الأمس فضلا عن ثوابتها الفكرية والنفسية، فقائد الحملة الصليبية على الأمة الإسلامية يعلنها صليبية وبأسماء معارك الأمس؛ "النسر النبيل" و "العدالة المطلقة".
وهكذا من قبله نكسون عندما رجع من أفغانستان عقد مؤتمرا صحفيا على التلفاز يسألونه عن المشاكل، المشكلة بعد الأخرى، وهو يقول: "This is easy" - هذه سهلة - قالوا: (ما هي المشكلة إذن؟)، قال: (الإسلام، الإسلام هو المشكلة، لقد آن الأوان لأمريكا أن تتناسى خلافاتها مع روسيا لكي تقف أمام الزحف الإسلامي الذي بدأ يتحرك)، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [ البقرة: 217]
كما أن هذا الصراع ليس مرتبطا بشخص معين، يستهدفه دون غيره، وإنما يتناول كل مسلم لا يريد أن يتبع ملتهم، لأنه كما قال جل وعلا: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ} [البقرة: 217]، فكل من يسعه ضمير المخاطَب فهو مستهدف، ومن أغفلته لائحة المطلوبين للعدالة الدولية وقائمة الأسماء التي تضم المنظمات الإرهابية فإن ملفات المحالون على ذمة التحقيق لمجرد الاشتباه قادرة على استيعابه، حتى إذا أفلتته هذه - جميعُها - فإن أخطاء الصواريخ الذكية كفيلة بتدارك الضعف الحاصل في عمل أجهزة المخابرات المحلية والدولية!
وقد قال قائد الحملة الصليبية بعد أحداث "ثلاثاء الفتح": (ليس هذا أوان ترف البحث عن أماكن المتورطين بالعمليات الإرهابية, المسؤولون عن هذه العمليات هم كل من ارتسمت على وجهه ابتسامة عندما سمع بالهجمات على نيويورك و واشنطن).
فالمستهدف إذن كل مؤمن، لأن الله قد أخبر في حال هلاك الأعداء بأيدي الأعداء {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُون بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 5]، فما بالك بـ {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14].
نعم عداوة هؤلاء الأعداء على مراتب، فبعضهم أشد عداوة من بعض، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]، فعداوة اليهود والمشركين أشد من عداوة النصارى، لكن العداوة هي العداوة، وهي موجودة فيهم جميعا، فإن التاريخ قد حفظ للنصارى الصليبيين من العداء والاعتداء ما يعرف بالحملات الصليبية المشهورة التي استمرت قرنين من الزمان، وحروب الإبادة الجماعية في الأندلس، وحملات الاستعمار والتنصير على العالم الإسلامي كله، وباختصار فإنه باستثناء حالات محدودة - وأكثرها مواقف فردية - ظل النصارى أعداء، وظلوا جنبا إلى جنب مع اليهود عندما يكون المستهدف هو الإسلام، قال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [المائدة: 51]، فالعداوة هي العداوة، والصراع دائما قائم لا محالة.
طبعا مجالات هذا الصراع ليست محصورة في القتال وحده، فساحة الصراع أعم من ميدان المعركة العسكرية، ولكنّ المنهج الصحيح لإدارة الصراع هو المنهج الذي يستحضر القتال كأداة لابد منها لتحقيق المقصود، والحقيقة أنه كلما تقدم المسلم في إقامة الدين اقتربت لحظات المعركة مع أولياء الشيطان، خصوصا أئمة الكفر فيهم، {إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} [الممتحنة: 2].
ولا يكون تحاشي الكفر للصدام المسلح إلاّ مناورة تكتيكية تدفع إليها معطيات ذاتية أو موضوعية تفرض عليه الانتظار، أو لأنه استشف من واقع المسلمين رعونة في التدين جعلته يطمع في تحقيق الهدف بأقل الخسائر، وإلاّ فقد قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة: 217].
(والمقصود الإخبار بدوام عداوة الكفار... تحذيرا للمؤمنين منهم، وإيقاظا لهم إلى عدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور) [روح المعاني: 2/110].
ومن شأن الاستحضار الدائم لهذه السنة القدرية؛ أن يعطي للصراع بُعدا عمليا يتجسد في مفردات الحركة اليومية، فيوجِد حالة من اليقظة الإيمانية التي تمكّن من القراءة الصحيحة لواقع الأحداث، وتوجب أخذ الحذر مهما بدت الأجواء هادئة.
ومن شأن الرعاية التامة للشكل القتالي؛ أن يفرض الارتفاع بالصراع عن الشعور السطحي الذي لا يتحرك إلاّ في دائرة المعرفة الذهنية، وأن يستدعي كذلك الرفض التام لحالة الاسترخاء التي خيمت على الكثير من أبناء الأمة المسلمة هذه الأيام.
وتبقى الآية تحمل في طياتها مطلبا شرعيا يعد بمثابة التجاوب الإيجابي مع هذه السنة القدرية، وهو مقاتلة العدو والاستعلاء عن الاستسلام له أو الرضوخ لإرادته، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم}، فإن المقاتلة لا تكون إلاّ بوجود القتال من الطرفين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} [التوبة: 111]، فالصراع دائم، والحرب قائمة، والجهاد ماض، ولا محيد عن المقاتلة، ولن ينطفئ أوَار المعارك مادام هناك حق قائم، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].
فاختر لنفسك من أي المعسكرين أنت، فليس بعد الحق إلاّ الضلال
===============
العراق ما بين سوء الاحتلال وأذنابه وسوأة "الحزب الإسلامي العراقي"
[الكاتب: محمد بسام يوسف]
في المشهد العراقي، لا يحتاج المرء إلى مزيدٍ من الحصافة، ليحكم على أنّ البلاد محتلَّة تخضع لأضخم مؤامرةٍ وأقذر عملية محوٍ منظمةٍ شرسةٍ لمعالم الإسلام والعروبة، عبر سلسلةٍ من الإجراءات التآمرية، تنفيذاً لمخططٍ صهيونيٍ غربيٍ صليبيٍ خبيث، لإحياء أمجاد السيطرة والتسلّط الغربيّ الصليبيّ على أوطان العرب والمسلمين، التي انتهت خلال النصف الأول وأوائل النصف الثاني من القرن الماضي.
كل عراقيٍ شريفٍ يملك بعضاً من الحس الوطني أو الإسلامي، يمكنه أن يعيَ بأن أميركة لم تأتِ إلى العراق بِقَضِّها وقَضيضها لسواد عيون العراقيين، ولا لتحقيقِ أي هدفٍ سوى الأهداف المرتبطة بمصالح الصهاينة وأصحاب الحملة الصليبية السافرة على العالم الإسلامي.
وقد احتلّت أميركة العراق ساعيةً إلى أهدافها الخبيثة عبر سلسلةٍ من الخطوات...
بدأت بمجلس "بريمر"، ثم بحكومة علاوي سيئة الصيت، ثم بمهزلة الانتخابات وتنصيب حكومةٍ غارقةٍ في العمالة والخيانة، ليس لأميركة وحدها، بل لبلاد فارس المجوسية... هي حكومة الجعفري العميلة... ثم أخيراً بصياغة ما يسمى بدستور العراق الجديد، الذي يكرّس الاحتلال، ويبذر بذور العنصرية والتجزئة والنعرات الطائفية والحرب الأهلية.
الاحتلال هو الاحتلال، لا يمكن أن يكون غير ذلك، والمحتل هو المحتل والعدو، الذي لا يمكن أن يعمل إلا وفق أجندته في التسلّط والسيطرة والنهب والإذلال والتخريب والتجزئة والتآمر وغير ذلك... وقد سعت أميركة - وما تزال - إلى توطيد دعائم احتلالها، عبر سلسلة الإجراءات المذكورة آنفاً.(3/88)
ولما فوجئ الأميركيون بالمقاومة العراقية القوية، فقدوا صوابهم، فسرّعوا خطواتهم، ليصلوا إلى مرحلة شرعنةٍ نهائيةٍ لكل أمرٍ شاذٍ صنعه المحتل للعراق وللعراقيين، بَدءاً بالسيطرة والإخضاع العسكريّ... وانتهاءً بطمسٍ شاملٍ لهوية العراق العربية الإسلامية، ومحوٍ كاملٍ لعقيدته المسلمة، ولانتمائه العربي الإسلامي الأصيل... والخطوة الأخيرة تجسّدت في ما يسمى بدستور العراق الجديد، الذي يحقق كل الأهداف الصهيونية والصليبية والفارسية دفعةً واحدة.
المسلم الشريف الذي يقع وطنه تحت وطأة الاحتلال، لا يجد أمامه سوى طريقٍ واحدٍ لدفع الباطل، هو طريق الجهاد حتى طرد المحتل صاغراً ذليلاً من أرضه وبلاده، وهذا الأمر ليس خاضعاً لفلسفاتٍ سياسيةٍ أو حذلقاتٍ مبهَمة، فالأمر هنا شديد الوضوح؛ من احتُلَّت أرضه يجاهد ويقاوم، إلى درجة أن المرأة تخرج بغير إذن زوجها أو وليّها، لأن المقاومة والجهاد عندئذٍ مطلوبان من كل فردٍ فرضَ عينٍ على كل مسلمٍ حتى تحرير الأرض والعِرض.
لقد حاول العدوّ الأميركي وأذنابه المتواطؤون، أن يُقنِعوا الناس؛ بأنهم فعلاً لم يأتوا إلا لتحقيق مصلحة العراق ومصالح العراقيين بالديمقراطية وحقوق الإنسان والرخاء والأمن والبناء... مع أنّ كل الذي يجري على الأرض هو عكس ذلك تماماً، يكذّب هذه الدعاوى الزائفة تكذيباً صارخاً، وذلك في كل لحظةٍ تمر من لحظات الاحتلال، إلى أن أصبح رجل الشارع العادي العراقي يميّز ما لم يستطع أدعياء السياسة والفهم أن يميّزوه، فحكم المواطن الشريف على الدستور المزعوم حكمه القاطع الواضح، بأنه دستور المحتل الذي لا يحقق إلا مآربه الخسيسة، وأهدافه القذرة.
لقد دخل "الحزب الإسلامي" مع المحتل وأذنابه في لعبةٍ قذرة، منذ الخطوة الأولى في سلسلة خطوات توطيد الاحتلال وطمس الهوية العراقية الأصيلة، فدخل الحزبُ مجلس "بريمر"، ثم حكومة علاوي، التي مارس خلالها ممارساتٍ لا تنسجم مع توجّهاته أو عقيدته أو أيديولوجيته الإسلامية المعلَنة، ولا مع أهداف الإسلام العظيم الذي يزعم تبنّيه.
وقد شاهدنا ذلك ولمسناه بوضوحٍ مندهشين، في الفلوجة أثناء اجتياحها أكثر من مرة، وفي سامراء أثناء العدوان عليها أكثر من مرة، وفي غيرها من الوقائع والحادثات... إلى أن أسفرت اللعبة عن وجهٍ بالغ السوء لهذا الحزب، الذي خرج مؤخراً عن الإجماع الوطني الشريف، وشذّ عن توجهات الشرفاء، وانحاز إلى العدو المحتل وأذنابه من الحكومة الفارسية وتشكيلاتها ومؤسساتها، التي تُهلِك الحرث والنسل في العراق، وتَسحق الزرع والضرع على رؤوس الأشهاد... فقام الحزب المذكور بالانحياز إلى الباطل والظلم والعدوان، ضد الحق والعدل والإنصاف، فأعلن عن تأييده لما يسمى بدستور العراق، ودعا الشعب العراقي لتأييده.
لا نعلم كيف يسير "الحزب الإسلامي" من غير أي ضماناتٍ على مبدأ؛ "ادفع الثمن الآن واحصل على البضاعة بعد أربعة أشهر"؟!... ومن المثير للسخرية بأنّ الجهة المفترَضة التي ستسلّم البضاعة بعد أربعة أشهر، ليست هي نفس الجهة التي قبضت الثمن حالياً!... فأي حصافةٍ سياسيةٍ هذه؟!... وهل هي عملية غَفْلةٍ أم استغفال... أم أبشع من ذلك؟!
لن نطيل في مناقشة البدهيات التي أتينا على بعضها أعلاه، لكننا نسأل قيادة هذا الحزب الذي يسمي نفسه بـ "الحزب الإسلامي"، ويتبنى الإسلام منهجاً ودستوراً، ويزعم العمل على تحقيق ذلك... نسأله؛ هل الدستور الاحتلالي الذي انحزتم إليه هو الدستور الإسلامي الذي تزعمون السعي إلى تحقيقه للأمة؟!... انطلاقاً من الثوابت الشرعية الإسلامية التي شرّعها الله عز وجل ورسم طريقها في قوله الكريم...
{... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية 44].
{... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: من الآية 45].
{... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: من الآية 47].
العراق محتَلّ، وما يقوم به الاحتلال باطل، لأنه لا يسعى إلا لتكريس احتلاله وتوطيده، وكل ما يُبنى على باطلٍ هو باطل مثله، فالاحتلال باطل، ومجلس "بريمر" باطل، وحكومة علاوي باطل، والانتخابات المزعومة باطل، وحكومة الجعفري وقراصنتها وتشكيلاتها ومؤسساتها وجمعيتها الوطنية باطل، والدستور المزعوم باطل... وانحياز "الحزب الإسلامي" لكل ما سبق... باطل واضح مكشوف، ينبغي دحضه وسحقه والدوس عليه، بالجهاد والمقاومة والثبات على الثوابت والمبادئ... حتى التحرير الكامل.
لقد شارك "الحزب الإسلامي" في معظم الخطوات الاحتلالية للعدو الأميركي، وتعامل مع الاحتلال مُبرِّراً مسيرته الشاذة، بأنه لا يفعل كل ذلك إلا لتحقيق مصالح أهل السنة العراقيين... فماذا سيقول الآن وقد وقف منفرداً على النقيض تماماً من موقف أهل السنة كلهم، ليس في العراق وحده، بل في كل العالَمين العربي والإسلامي؟!
هل كل أهل السنة في العراق وقواهم الوطنية وحركاتهم وأحزابهم السياسية والمجاهِدة، على رأسهم "هيئة علماء المسلمين"... هل كل هؤلاء لا يملكون الوعي الكافي لفهم ألاعيب المحتل وأعوانه وأذنابه، ولا يَعُون مصالحهم ولا يستوعبون طريقة انتزاعها... إلا قيادة "الحزب الإسلامي"، الذي غرق سابقاً بلعبته السياسية غير الحكيمة، وها هو ذا يحكم على نفسه أخيراً بالشركِ بالله عز وجل، لتأييده دستوراً وضعياً صاغه المحتل، وصاغته الأيدي الفارسية المدسوسة التي تناصب العراق والعرب والمسلمين العداء؟!
ليس أمام "الحزب الإسلامي" إلا أن يتراجع عن خطوته الغادرة الشاذة عن الإجماع الوطني لشرفاء العراق... أو أن يكرّس اصطفافه إلى جانب المحتل الصليبي الصهيوني الفارسي، الذي لن ينال من ورائه إلا سخط الله عز وجل، وغضب الشرفاء، ثم تخلي العدو الذي اصطف إلى جانبه عنه، ورَكْله إلى حيث يُركَلُ العملاء والمغفَّلون بعد استثمار أدوارهم المرسومة.
أما المحتل ودستوره وأذنابه وتشكيلاته وديكوراته؛ فكلها إلى زوالٍ بإذن الله، فهذه سنة الله عز وجل في أرضه، وما يبقى في ذاكرة التاريخ والناس والأمة، هي المواقف، فإما أن تكون مواقف الرجال، المتألّقين رجولةً وشهامةً وشموخاً وثباتاً... أو أن تكون مواقف العابثين الغافلين الجُناة على وطنهم وشعبهم وأمّتهم، والتاريخ لن يرحمَ المفرّطين بثوابت الدين والوطن والأمة... لن يرحمهم أبداً من حُكمه وقصاصه!
14/تشرين الاول/2005م
=================
لماذا لا يجوز للمسلم أن يحتفل بالميلاد؟
من مظاهر التغريب التي تنخر جسم الأمة، وتهددها في شخصيتها وتميزها، تقليد الغربيين في الاحتفال برأس السنة الميلادية ومجاراتهم في طقوس هذا الحفل.. فترى بعض المسلمين يُعِدُّون له بجد وحماس، فيتسابقون إلى محلات الحلويات لشراء كعكة الميلاد، ويزينون منازلهم بالأضواء، ويحرصون على اقتناء الشجرة المعروفة، ويهدون إلى أطفالهم لعباً نفيسة.. وربما أوهموهم أنها من "بابا نويل"!
وقد عمّت بهذا البلوى في ديار الإسلام، وساهمت وسائل إعلامنا في نشرها.. بل أصبح فاتح السنة الميلادية النصرانية عطلة رسمية في بلاد إسلامية ليس فيها الكثير من النصارى من أهل البلد.(3/89)
ولا يدري هؤلاء المساكين الذين يهللون ويرقصون لمقدم السنة الجديدة أنهم - لو تدبروا - إنما يحتفلون بمضي سنة قد خُصمت من عمر قصير.. لعلَّهم لم يقوموا أثناءها بعبادة أو عمل صالح ينفعهم يوم ينادي المنادي: {وَقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24].
النهي عن موالاة المشركين:
ولعلهم أيضاً لا يدرون أن ذلك يدخل في موالاة النصارى باتباعهم في عاداتهم، وتعظيم شعائرهم، ومشاركتهم في خصائصهم؛ وذلك منهي عنه بصريح قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
قال ابن عطية: (نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: {فَإنَّهُ مِنْهُمْ}. وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي. وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودياً ورهنه درعه) [1].
وفي هذا المعنى أيضاً قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]، {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].
قال القرطبي: (نهاهم الله أن يتخذوا اليهود والمشركين أولياء، وأعلمهم أن الفريقين اتخذوا دين المؤمنين هزواً ولعباً…) [2].
وذكر العلامة ابن عاشور أن (موقع هذه الجملة - يعني {إنما وليكم الله ورسوله..} - موقع التعليل للنهي؛ لأن ولايتهم لله ورسوله مقررة عندهم؛ فمن كان الله وليَّه لا تكون أعداء الله أولياءه. وتفيد هذه الجملة تأكيداً للنهي عن ولاية اليهود والنصارى) [3].
فهؤلاء الذين يسخرون من ديننا لا يستحقون مودتنا؛ لأن (الذي يتخذ دين امرئ هزؤاً فقد اتخذ ذلك المتدين هزؤاً، ورمقه بعين الاحتقار… والذي يرمق بهذا الاعتبار ليس جديراً بالموالاة؛ لأن شرط الموالاة التماثل في التفكير، ولأن الاستهزاء والاستخفاف احتقار، والمودة تستدعي تعظيم المودود) [4].
ولا يحسبنَّ المرء أن الموالاة شكل واحد هو التحالف معهم والسير في ركابهم وخدمتهم، بل الموالاة صور متعددة، كما أشار إلى ذلك الشيخ شلتوت: (ولموالاة الأعداء صور وألوان: المعونة الفكرية بالرأي والتدبير موالاة للأعداء، والمعونة المادية بالبذل والإنفاق موالاة للأعداء... والاغترار بزخرف ثقافاتهم، وأن فيها ماء الحياة، وتوجيه النشء إليها، وغرس عظمتها في نفسه، موالاة للأعداء...) [5].
وهذا لا ينفي أن الموالاة درجات، وأن من مراتبها ما لا يصل إلى مستوى الكفر بحال.
قال ابن عاشور: (قد اتفق علماء السنة على أن ما دون الرضا بالكفر وممالأتهم عليه - من الولاية - لا يوجب الخروج من الربقة الإسلامية، ولكنه ضلال عظيم. وهو مراتب في القوة بحسب قوة الموالاة، وباختلاف أحوال المسلمين) [6].
والخلاصة - كما قال ابن تيمية - أن (من كان من هذه الأمة موالياً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة ونحوها، مثل: إتيانه أهل الباطل، واتباعهم في شيء من مقالهم وفعالهم الباطل كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك، ومثل متابعتهم في آرائهم وأعمالهم المخالفة للكتاب والسنة...) [7].
فتوى قديمة في الاحتفال بالميلاد:
ومن جملة هذه الأعمال التي لا يحل متابعتهم عليها وتقليدهم فيها: الاحتفال بسنة الميلاد. بهذا أفتى الفقهاء منذ قرون.
فقد أورد الونشريسي في (موسوعته) في النوازل أنه قد (سئل أبو الأصبغ عيسى بن محمد التميلي عن ليلة يناير التي يسميها الناس الميلاد، ويجتهدون لها في الاستعداد، ويجعلونها كأحد الأعياد، ويتهادون بينهم صنوف الأطعمة، وأنواع التحف والطرف المثوبة لوجه الصلة، ويترك الرجال والنساء أعمالهم صبيحتها تعظيماً لليوم، ويعدونه رأس السنة، أترى ذلك - أكرمك الله - بدعة محرمة لا يحل لمسلم أن يفعل ذلك، ولا أن يجيب أحداً من أقاربه وأصهاره إلى شيء من ذلك الطعام الذي أعده لها، أم هو مكروه ليس بالحرام الصراح؟
فأجاب: قرأت كتابك هذا، ووقفت على ما عنه سألت، وكل ما ذكرته في كتابك فمحرم فعله عند أهل العلم، وقد رويت الأحاديث التي ذكرتها من التشديد في ذلك، ورويت أيضاً أن يحيى بن يحيى الليثي قال: لا تجوز الهدايا في الميلاد من نصراني، ولا من مسلم، ولا إجابة الدعوة فيه، ولا استعداد له، وينبغي أن يجعل كسائر الأيام. ورفع فيه حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوماً لأصحابه: "إنكم مستنزلون بين ظهراني عجم؛ فمن تشبه بهم في نيروزهم ومهرجانهم حشر معهم") [8].
وقال الفقيه المالكي سحنون التنوخي صاحب المدونة: (لا تجوز الهدايا في الميلاد من مسلم ولا نصراني، ولا إجابة الدعوة فيه ولا الاستعداد له) [9].
والحكمة من هذا النهي هي أن يحافظ المسلمون على هويتهم وشخصيتهم المستقلة، فلا يذوبوا في غيرهم من الأمم.
من مقاصد الشريعة تميز الأمة عن غيرها:
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم). وروي عنه أيضاً أنه قال: (ليس منَّا من تشبه بغيرنا، لا تشبَّهوا باليهود ولا بالنصارى) [10].
قال العزيزي: قيل في زيهم، وقيل في بعض أفعالهم [11]، والظاهر عندي أن المعنى على العموم، أي من تشبه بهم في سلوكهم وطرائق حياتهم .. مما هو خاص بهم، دال على هويتهم وشخصيتهم.
فهذا الحديث - كما يقول ابن تيمية -: (أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم، كما في قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]) [12].
ولهذا أيضاً كره بعض العلماء أن يفرد المسلم بالصيام الأيام التي يعظمها غير المسلمين.. حتى لو لم يكن إلى ذلك قاصداً.
قال ابن قدامة: (ويكره إفراد يوم النيروز ويوم المهرجان بالصوم؛ لأنهما يومان يعظمهما الكفار، فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما، فكُره كيوم السبت، وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم) [13].
وذكر ابن قدامة أيضاً أن ابن عمر كان إذا رأى الناس وما يعدُّونه لرجب كرهه، وذلك أن الجاهلية كانت تعظم هذا الشهر [14].
إذن؛ فمن مقاصد الدين وغاياته أن تتميز جماعة المسلمين عن الأمم الأخرى... باعتقاداتها وشعائرها وعاداتها وأخلاقها... وكذلك بأعيادها.
لكل أمة أعيادها:
فالعيد هو شعار كل قوم أو شعب، فإذا أمكن لنا أن نستورد من أمة ما أشياء نحن بأمس الحاجة إليها، كبعض السلع والصناعات مثلاً فلا يمكن أن نستورد أيضاً أعيادها وطقوسها في الاحتفال.(3/90)
إن العيد ليس فقط عبارة عن تزاور وأكل وفرح، بل هو دليل على الانتماء الحضاري أو الديني، وهو يشعرك بأنك جزء من الجماعة التي تحتفل به، تفرح إذا فرحت وتحزن إذا أصيبت، ولذلك (حين زجر أبو بكر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة صرفه عن ذلك النبي الكريم، وقال له: يا أبا بكر! إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا) [15].
لقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم للمجتمع الوليد الذي أسسه أعياده الخاصة به، وأسقط أيامه الجاهلية، وكان ذلك جزءاً من بناء الأمة الجديدة.
يروي الحفاظ أنه حين قدم النبي المدينة وجد لأهلها يومين يلعبون فيهما، فسألهم: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر) [16].
إن الناس يحتاجون إلى العيد والاحتفال؛ فتلك طبيعة بشرية قديمة، ولهذا كان الشارع حكيماً حين وضع للمسلمين أياماً خاصة يعيِّدون فيها، فيأكلون ويفرحون ويتزاورون.. وذلك إشباعاً لغريزة إنسانية هي الاحتفال بأيام استثنائية ليست كسائر أيام السنة. ولذا يجب أن نعتني أكثر بأعيادنا، ونعظمها ونستعد لها، ولا بأس أن نبدع فيها طرائق متعددة للاحتفال، كمختلف لعب الأطفال مثلاً، مما يتغير بتغير العصر والزمان.
الاحتفال بالميلاد من الزور:
لقد اعتبر العلماء أن مشاركة أهل الملل الأخرى في أعيادهم نوع من الزور والباطل، واستنبطوا ذلك من وصف الله تعالى لعباده: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].
قال القرطبي: (أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه. والزور كل باطل زُوِّر وزُخرف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد. وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين. وقال عكرمة: لعب كان في الجاهلية يسمى بالزور) [17].
وذكر ابن العربي أن في قوله تعالى: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ستة أقوال: الشرك، والكذب، وأعياد أهل الذمة، والغناء، ولعب كان في الجاهلية، والمجلس الذي يسب فيه النبي الأكرم. ثم قال القاضي معلقاً: (أما القول بأنه الكذب فهو الصحيح؛ لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع. وأما من قال: إنه أعياد أهل الذمة؛ فإنَّ فِصْحَ النصارى وسبت اليهود يذكر فيه الكفر؛ فمشاهدته مشاهدة كفر، إلا لما يقتضي ذلك من المعاني الدينية، أو على جهل من المشاهد له) [18].
ولذلك يقول ابن تيمية: (وأما أعياد المشركين فجمعت الشبهة والشهوة والباطل، ولا منفعة فيها في الدين، وما فيها من اللذة العاجلة فعاقبتها إلى ألم، فصارت زوراً، وحضورها؛ شهودها) [19].
وفي أعياد الميلاد وجه آخر من الزور، وهو ما يذكره المؤرخون من أن تاريخ ميلاد عيسى - عليه السلام - غير معروف على وجه الدقة واليقين، وإنما هو تخرص وظن.
السفر للاحتفال … معصية أخرى:
ويعظم الإثم بما يفعله بعض المسلمين اليوم من السفر إليهم في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر لمشاركة النصارى حفلاتهم، وفي هذا مفاسد أخرى؛ كإقرارهم على هذا الباطل، وصرف المال في ديارهم على ما لا يفيد بل يضر.. إضافة إلى ما يشوب هذه الأيام من شرب الخمور والاختلاط والرقص.
والسفر عند الفقهاء - كأي عمل بشري - تجري عليه الأحكام الخمسة، ولا شك أن هذا - سفر معصية - يأثم صاحبه.
ونقل ابن تيمية عن عبد الرحمن بن القاسم - صاحب مالك وأحد كبار المجتهدين في مذهبه - أنه سئل عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم؟ فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه [20].
ولعل قارئاً يعترض عليَّ بالكتابة في هذا الموضوع "الجزئي الهامشي"، وترك ما هو أعم وأهم... والجواب؛ أن التغريب يضرب بأطنابه في كل شيء، ولا يريد أن يستبقي لنا شيئاً خاصاً بنا ومن صميم حضارتنا، فهو ينفذ إلى طرائق التفكير ومناهج السلوك وأساليب العلم وأشكال تخطيط المدن وأنواع اللباس والمأكل... حتى الأعياد التي هي شعار الأمم وأعلامها لم تنجُ من أثره.
فهذا من مظاهر العولمة الضارة والغزو الفكري... أن صارت الأعياد المسيحية تزاحم أعيادنا... وفي عقر ديارنا... إن من حقنا أن ندافع عن قيمنا وهويتنا في زمن أصبحت فيه حتى فرنسا تخاف على تميزها من طغيان العولمة الجارف [21]... وما الهوية والشخصية الذاتية إن لم تكن مجموع الدين واللغة والتقاليد والأعياد؟
ثم أترى النصارى يشاركوننا أعيادنا؟ إنهم - حتى - لا يعترفون بها، ويعتبرون بعضها - خاصة عيد الأضحى - نوعاً من الهمجية، وها هي الممثلة الفرنسية العجوز؛ "بريجيت باردو" تطلع على العالم عشية كل أضحى فتسب الإسلام والمسلمين، وتصفهم بالقسوة والبدائية؛ لأنهم يتقربون إلى الله تعالى بالذبيحة.
فهل هانت علينا أنفسنا إلى هذا الحد؟
[بقلم؛ إلياس بلكا]
1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للقاضي ابن عطية، نشر وزارة الأوقاف بالرباط طبعة أولى، 1979، 5/126.
2) الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، 6/145.
3) التحرير والتنوير من التفسير، للطاهر ابن عاشور، الدار التونسية، 6/239.
4) التحرير والتنوير، 6/241.
5) من توجيهات الإسلام، لمحمود شلتوت، دار القلم، القاهرة، ص 264.
6) التحرير والتنوير، 6/230.
7) مجموع الفتاوى لتقي الدين ابن تيمية، نشر المكتب السعودي بالرباط، 28/201.
8) المعيار المعرب والجامع المغرب، لأحمد الونشريسي، نشر وزارة الأوقاف بالمغرب، وطبع دار الغرب، 1981، 11/150 - 151.
9) عن: المعيار، 11/154.
10) الحديث الأول رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر، والطبراني في المعجم الأوسط عن حذيفة، وحسنه السيوطي كما في: الجامع الصغير بشرحه السراج المنير، 3/348. والثاني رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص بإسناد ضعَّفه، لكن يقويه ويشهد له غيره من الأحاديث كهذا الحديث الأول.
11) السراج المنير شرح الجامع الصغير، لعلي العزيزي، دار الفكر، 3/348.
12) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، دار الفكر، ص 83.
13) المغني لموفق الدين ابن قدامة، دار الفكر، ط 1، 1984، 3/106.
14) المغني، 3/106.
15) رواه البخاري.
16) رواه النسائي وأبو داود في السنن، وأحمد في المسند.
17) الجامع لأحكام القرآن، 13/54.
18) أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، دار الفكر، 3/1432.
19) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 183.
20) مجموع الفتاوى، 25/326.
21) راجع مقالة المفكر الفرنسي آلان مانك بصحيفة (لوموند): Alain Mainc: in: le Monde, -13-01 -1996
================
الحوار الوطني
[الكاتب: سمير بن خليل المالكي]
مهما قيل عن عداوة البعيد والغريب، فإنها ليست كعداوة المجاورالقريب الذي هومن جلدتك ويتكلم بلسانك ويساكنك في بلدك وقريتك وربما بجوار بيتك فهو أخبر بمواطن الضعف والقوة فيك، وأخبر بما يؤذيك ويرديك.
ولقد قضى الله عز وجل - ولا راد لقضائه - أن يوجد في الأمة تلك الفئة التي سماها في كتابه باسم لم يكن يطلق من قبل على فئة بعينها وهم "المنافقون"، وحذر منهم أشد تحذير، وحكى من أقوالهم وأفعالهم الكثير الكثير.. وقضى كذلك بأن تفترق هذه الأمة في دينها فرقاً كثيرة، بعضها أخبث من بعض في النحلة وأشد في العداوة والتأثير.(3/91)
فأما المنافقون فقد ظهروا في المدينة النبوية بعد غزوة بدر وعانى منهم النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ما عانوا، ونزلت في فضحهم آيات وسور، وبصرتنا كيف نتعامل معهم في الحرب والسلم. وأما الفرق الضالة عن الدين الخارجة على جماعة المسلمين فقد ظهرت أصولها في عهد الخلفاء الراشدين، ولم تزل في تشعب وتفرق إلى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله رب العالمين.
وقد خط لنا السلف الصالح الطريق الأقوم في التعامل معهم، بحسب نوع البدعة وخبثها وبعدها عن سبيل المؤمنين أوقربها، وبحسب قوة المسلمين وضعفهم، وبحسب ما تقتضيه المصلحة التي توافق أصول الشرع ولا تخالفه.
وأقل درجات المعاملة مع المنافقين والمبتدعة المارقين، هو هجرهم وإقصاؤهم وتحذير الأمة من شرورهم وضلالاتهم. وربما اقتضى الأمر - أحياناً - إظهار اللين معهم دون أن يتخذوا بطانة أو يلتمس منهم نصرة أو إعانة.
* * *
الطريق المعوجّ:
ولقد ظهر في الأمة من ينادي بتمييع قضايا الدين والعقيدة وإلغاء الفروق بين الناس فيها، تحت شعارات "قومية" أو "وطنية"، ونعرات جاهلية عرقية.
ومما أحدث اليوم ما يسمى "الحوار الوطني"، وهو مجموعة لقاءات ومجالس تعقد هنا وهناك، ويشارك فيها ممثلوا فرق وأحزاب متناحرة، ونحل ومذاهب متنافرة، للبحث في شئون الأمة وسياستها ومشكلاتها الداخلية.
فهاهو ذا " العلماني " الموغل في " العلمنة " والذي أظهر ولم يبطن وأعلن ولم يسر، عن رأيه وموقفه من الدين بما لا يبقى معه شك أو بعض شك أنه عدو لله وعدو للمسلمين، ولا ينفك في كل مناسبة من طرح تلك الآراء الشاذة تنضح بكل ما يسيء للدين ويثير حفيظة المؤمنين.
وهاهو ذا داعية الشرك والضلال ومؤلف الكتب المشهورة التي دار فيها "حوار" قديم من نحو ربع قرن، ولا يزال مجتهداً في إحياء "مفاهيم" الوثنية الجاهلية وغيرها من المحدثات القولية والعملية.
وهاهو ذا رأس من رؤوس "الرافضة" التي رفضت الدين والملة منذ أن نشأت الفتنة، والذي يتبجح بتكفير الصحابة وسبِّ سلف هذه الأمة الخيرة، مظهراً خبثه وبدعته وولاءه، فقبلته "كربلاء" وكعبته "النجف" وإمامه "الحاضر" هناك، وأما "الغائب" فهو حبيس السرداب "عج"!!
فما هي تلكم المصالح "الوطنية" المشتركة التي يمكن أن يجتمع لتحقيقها وتحصيلها أمثال هؤلاء مع علماء الأمة ودعاتها وولاة أمورها؟
وما هي "المحاور" التي يمكن أن يناقشها مثل هذا الخليط "المتنافر" في العقائد والأصول "المتباعد" في المذاهب والمشارب "المتناقض" في الهداف والغاية؟
* * *
شبهة وجوابها:
قد يقال إننا إن عجزنا عن جمع الكلمة في الدين والملة، فلا أقل من أن يلم الشمل لما فيه صلاح الوطن، وفق المقولة السائرة (الدين لله والوطن للجميع).
والجواب عن هذه الشبهة بإجمال من غير تفصيل؛ هو في قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)، وقوله: (هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون)، وقوله: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم).
وقد أمر الله بالاعتصام بحبل الله والاستمساك بالعروة الوثقى لا بغيرها من العرى. وأقول لدعاة هذا الحوار "المسخي"، كيف غُبِّيت مصلحة كهذه عن خيار هذه الأمة، من عهد الخلفاء الراشدين والتابعين ومن تبعهم من الأئمة المهديين، من مثل؛ مالك والأوزاعي وابن المبارك والسفيانين... ثم أحمد والبخاري والدارمي وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين... إلى عصر ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم شمس الدين... إلى عصر أئمة الدعوة النجديين والعلماء الربانيين من مثل ابن إبراهيم وابن باز والعثيمين... إلى غيرهم من علماء الأمة السلفيين. ولا ريب أن هؤلاء الأئمة الأعلام ممن سميت، وألوفاً غيرهم، هم أحرص الناس على جمع كلمة المسلمين، وأعلم بما يصلحهم في الدارين، ومع ذلك لم يدعوا يوماً من الدهر إلى مثل هذا الحوار.
* * *
الطريق القويم:
وكان أحرى بأهل الحل والعقد، وهم يرون واقع الأمة المزري، وما وصلوا إليه من ضعف وشتات وجهل بالدين، وبعد عن سنن الأئمة المتقدمين، أن يدعوا الناس كافة إلى الاعتصام بحبل الله المتين، وتوحيد كلمة المسلمين على توحيد رب العالمين، وهدي سيد المرسلين ومن بعده من الأئمة المهديين، وتحكيم الشريعة وحدها دون ما سواها، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أوله
===============
القومية العربية ضيعت العراق
العراق .. ودورة الاستعمار
في ظل العدوان الأمريكي البريطاني على العراق ارتفعت أصوات عالية تتحدث عن العروبة والقومية العربية، وأنها سبيل النصر للعراق في ظل محنته الحالية. وتعامت تلك الأصوات العالية عن الحقيقة الناصعة والسبيل الوحيد للنصر ألا وهو التمسك بالإسلام؛ ولعل هذا يدفعنا إلى توضيح حقيقة القومية العربية.
البداية:
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت أول بوادر ما سمي بالقومية العربية، وقيل إن الذي انزلق إلى لفت الانتباه إلى العصبية العربية هو الشريف حسين، ولكن الحقيقة أن الرجل لم يَعِ خطورة هذا الانزالق بخلاف ابنه فيصل الذي وجد الإنجليز ضالتهم فيه في إرساء هذا التيار؛ لذلك توجه لورانس إليه بدلاً من أبيه في بحثه عن ذلك الزعيم؛ فهو يقول: (وأخذت طول الطريق أفكر في سوريا وفي الحج وأتساءل: هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني الاعتقاد الديني؟ وبمعنى أوضح: هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام، وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني؟ هذا ما كان يجول بخاطري طوال الطريق)، وقد كوفئ فيصل وعينه الإنجليز حاكماً للعراق؛ لذلك كان لورانس الضابط الإنجليزي هو مؤسس القومية العربية التي ما لبث أن حمل لواءها نصارى الشام، وأسسوا كثيراً من الجمعيات الأدبية والعلمية في دمشق وبيروت والقاهرة.
وهذا يدفعنا إلى التأكيد على أن ظهور القومية العربية لم يكن كما قيل نتيجة ظهور القومية الطورانية في تركيا، ولكن هذا يؤكد أنه مخطط استعماري لتضيع الهوية الإسلامية قبل القضاء على الخلافة الإسلامية نهائياً؛ ففي نفس الوقت ظهرت أيضاً القومية الكردية.
وانطلت الحيلة والمخطط على كثير من أبناء المسلمين المغفلين خاصة الذين تأثروا بالفكر الغربي الذين آمنوا بالعلمانية وإقامة الرابط القومي بدلاً من رابط الدين الإسلامي.
كما أراد الغرب أن تكون القومية رابطاً لتكوين أمة بديلاً للدين، وبرزت أفكار عديدة من أهمها:
1) وحدة الأصل والعرق.
2) وحدة اللغة.
3) وحدة التاريخ.
4) وحدة الثقافة.
5) المصالح المشتركة.
ولكنهم لما أرادوا تصدير وإرساء فكرة القومية في البلاد العربية الإسلامية جعلوا القومية العربية ترتكز على عنصرين اثنين فقط لا غير:
1) وحدة اللغة: فبغض النظر عن التدقيق في عناصر القومية الأخرى؛ فكل من يتكلم العربية فهو عربي، ولو لم تكن أصوله عربية ومن كانت لغة آبائه العربية فهو عربي.
2) وحدة التاريخ: يقول ساطع الحصري أحد أهم وأبرز مؤسسي ومفكري القومية العربية: (إن وحدة التاريخ هي التي تلعب أهم الأدوار في تكوين القرابة المعنوية).(3/92)
ويلاحظ أنه لدى تطبيق القوميين العرب عنصر وحدة التاريخ على واقع الشعوب العربية نجدهم يقفزون عن تاريخ العرب المسلمين؛ لأنه لا يمثل وحدة تاريخ بين كل العرب مسلميهم، وغير مسلميهم، بل قد يحقدون عليه وهم لا يعترفون بأنه تاريخ لهم؛ إنما هو تاريخ خصومهم، بل أعدائهم؛ فكيف يكون عنصراً يربطهم بالأمة العربية؛ فهؤلاء لهم تاريخ خاص بهم غير تاريخ العرب المسلمين ولو عاشوا بينهم أقلية.
والعجيب أنهم حين يقفزون عن تاريخ العرب المسلمين يسقطون على تاريخ عصور الجاهلية العربية البائدة والعاربة والمستعربة، ويبرزونه أدبياً وثقافياً على أنه تاريخ العرب. أما بعد الإسلام فلا يظهرون إلا ما كان فيه نقائض في التاريخ الإسلامي أو لا تأثير واضح للإسلام فيه، أو مراحل الضعف، أو ما يتعلق بتاريخ غير المسلمين وتزيينه؛ لذلك نجدهم في عنصر وحدة التاريخ ينحُّون كل ما هو إسلامي مجيد ويسلطون الأضواء على غيره.
ولا يهمل مفكرو ومفلسفو القومية العربية العناصر التالية:
أ) وحدة المشاعر والمنازع.
ب) وحدة الآلام والآمال.
ج) وحدة الثقافة.
ولكنهم يجعلونها نتائج طبيعية لوحدة اللغة ووحدة التاريخ.
وفي ذلك يقول ساطع الحصري إمام القومية العربية: (إن أسس الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو وحدة اللغة ووحدة التاريخ؛ لأن الوحدة في هذين الميدانين هي التي تؤدي إلى وحدة المشاعر، وحدة الآلام والآمال ووحدة الثقافة؛ وبكل ذلك تجعل الناس يشعرون بأنهم أمة واحدة متميزة عن الأمم الأخرى. ولكن لا وحدة الدين ولا وحدة الدولة ولا وحدة الحياة الاقتصادية تدخل بين مقومات الأمة الأساسية.. كما أن الاشتراك في الرقعة الجغرافية أيضاً لا يمكن أن يعتبر من مقومات الأمة الأساسية، وإذا أردنا أن نعين عمل كل من اللغة والتاريخ في تكوين الأمة قلنا: اللغة: تكوِّن روح الأمة وحياتها، والتاريخ: يكوِّن ذاكرة الأمة وشعورها).
واستناداً إلى ما سبق فالقومية العربية تجمع كل من يتكلم العربية وينتسب إلى البلاد العربية مهما كان دينه أو بلده أو مذهبه أو أصله، والعروبة تشمل المصري، والعراقي، والمغربي المسلم، والمسيحي، والسني، والشيعي، والدرزي، والنصيري، والكاثوليكي، والأرثوذكسي، والبروتستانتي فهم أبناء العروبة.
وهكذا استطاعت القومية العربية أن تسلب المسلمين العرب أصحاب الدين الحق والأرض والسيادة، بل والأكثرية العددية من حقهم في السيادة على أرضهم لصالح الأقليات غير المسلمة التي دافعت عن القومية العربية بكل ما تستطيع، ومع ذلك لم تتنازل عن عصبياتها الطائفية المضادة للإسلام والمسلمين مرة واحدة، ووقائع الأحداث في كثير من البلاد العربية تؤكد ذلك في لبنان وسوريا والعراق؛ ليظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن شعار القومية العربية لم يستطع أن يوحد بين أتباع الأديان المختلفة والمذاهب المتعارضة ليثبت سقوط الفكرة من أساسها؛ لأن عناصر القومية غير صالحة لتكوين أمة متحدة؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يكون خالياً على الدوام من مبدأ أو عقيدة يعمل له، ويعطي له ويبذل من أجله، ويستظل بفكره، وينطلق نحو أهدافه.
فساد وضعف رابطة اللغة والتاريخ:
فالرابط اللغوي وذكريات التاريخ بطبيعة مكوناتهما لا يشبعان نهمة العقول حول معرفة كثير من أسرار الحياة والغيب والبعث والنشور والعبادة ولا منهج حياة مستقيم فيه العدل والخير؛ وأجمع جامع للناس في هذا دين رباني حق تدفعهم للأخذ به والاجتماع عليه عدالته وكماله، والرغبة بالثواب العظيم، والرهبة من عذاب أليم أعدهما الرب الخالق منزل الدين.
الجامعة العربية:
لقد سعى أولئك القوميون إلى تقويض كل اتحاد باسم الإسلام، وأخذوا يبذلون كل ما لديهم لاتحاد باسم العروبة.. رفضوا فكرة الجامعة الإسلامية في بداية القرن العشرين، وسعوا إلى الجامعة العربية؛ فماذا صنعت الجامعة العربية التي كانت أهم الصعاب التي تواجهها الاحتلال اليهودي لفلسطين؟ جعلوا القضية عربية وأعدوا الجيوش العربية عام 1948م، فكانت النكبة والهزيمة والخسران، وكان ترسيخ الاحتلال؛ لأنها لم تكن لله ولا جهاداً في سبيل الله، ولا من أجل الإسلام والمسلمين ولا أرض إسلامية، وقالوا: فلسطين عربية، والصراع العربي الإسرائيلي، ثم ما لبثوا أن قالوا: القضية الفلسطينية.
لقد حافظوا على الجامعة العربية للمحافظة على الشكل بدون أي مضمون أو عمل حقيقي؛ لأن الإسلام بعيد عن أساس وأهداف عملهم.
شعراء القومية العربية:
قال أحدهم:
يا مسلمون ويا نصارى دينكم ... ... دين العروبة واحد لا اثنان
وقال الآخر:
سلام على كفر يوحد بيننا ... ... وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
وقال ثالثهم:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له ... ... وبالعروبة ديناً ما له ثان
القومية في ثوبها الجديد:
ما قدمناه كشف لثوابت وأسس القومية العربية، ولقد سيطرت القومية العربية بتلك الأفكار والأسس على المنطقة العربية فترة الخمسينيات، وتمكنت من السيطرة على بعض نظم الحكم في البلاد العربية، وسيطرت على الإعلام والثقافة لتضمن التحكم في التوجيه الفكري للشعوب.
وظهر حزب البعث العربي الذي أسسه النصراني ميشيل عفلق القائل في كتابه: (سبيل البعث): «إن الأمة العربية تفصح عن نفسها بأشكال متنوعة في تشريع حمورابي، وتارة في الشعر الجاهلي، وتارة بدين محمد (!!) وأخرى بعصر المأمون».
وانقسم حزب البعث إلى شقين: واحد في العراق، وآخر في سوريا، وبينهما عداوة وصراع وبغضاء لا تنتهي.
وتبنى الرئيس المصري جمال عبد الناصر فكرة القومية العربية وعلا صوته بها في الستينيات، وكان من نتائج القومية العربية على مصر أن ذهب الجنود المصريون إلى اليمن لقتال اليمنيين، ثم هزيمة 1967م النكراء، وانقسم القوميون ما بين الشيوعية والرأسمالية والفوضوية والإباحية، ومنهم من عاد للإسلام، ومنهم من ظل تائهاً يتخبط.
ولكن في الآونة الأخيرة ونظراً لظهور المد الإسلامي مع بداية السبعينيات حاول بعض القوميين ارتداء عباءة الإسلام مع القومية العربية كما فعل بداية الشريف حسين، والبعض ظل على موقفه مع الاعتراف بالتواجد الإسلامي، والآخر ـ وهم كثيرون ـ ظلوا يناصبون التيار الإسلامي العداء علانية وخفية.
ولكن المشكلة الحقيقية أن بعض الإسلاميين نظراً لظروف سياسية معقدة يتنازل عن وضوح فكره الإسلامي وعقيدته من أجل العمل السياسي المشترك الذي ظهر باسم العمل أو اللجان القومية، ولقد ظهر ذلك بوضوح في مواجهة الاحتلال اليهودي لفلسطين وانتفاضة الأقصى، والعدوان الأمريكي البريطاني على العراق.
فلقد انبرى القوميون ليعلو صوتهم في الأمرين في شتى المحافل ليظهر على السطح العمل القومي الذي لا يتميز فيه الإسلاميون بفكرهم في تجمع يجمع اليساري الشيوعي العلماني القومي النصراني والناصري؛ والإسلامي مطلوب منه أن ينسجم في تلك البوتقة بدون تمييز ولو حتى بشعار ملفت للنظر لنجد من يخرج من الأزهر الشريف يهتف: يحيا الهلال مع الصليب في مظاهرات تندد بالعدوان على العراق.
ولقد خفف القوميون خطابهم المعادي للإسلام تحت ضغط ارتفاع المد الإسلامي في شتى بقاع الأراضي العربية، ولكنهم استطاعوا أن ينفذوا ببعض المصطلحات على الساحة الإعلامية مثل: العدو الأجنبي، وأعداء العروبة، وشهداء الوطن، والمؤتمر القومي ـ الإسلامي.
موقف الإسلام والعصبية للقومية العربية:
لقد قاوم الإسلام العصبية القومية ورفضها واعتبرها نزعة جاهلية منتنة، وأقام بين المسلمين الأخوة الإيمانية الإسلامية.(3/93)
فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول في كتابه الكريم: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
فعقد الله بهذه الآية الأخوة بين كل المؤمنين دون استثناء منهم أخوة برابطة وحدة الإيمان بالله الواحد الأحد وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمسلمون في الصين أخوة للمسلمين في المغرب العربي، وكذلك المسلمون في إفريقيا أخوة للمسلمين في أمريكا.. الكل ارتبط بعضه ببعض بوحدة الإسلام التي أوجبت عليهم حقوقاً لبعضهم على الآخر.
فقد روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (1).
فالمسلم في ماليزيا يألم لمصاب إخوته في فلسطين، والمسلم في إفريقيا يحزن لما أصاب إخوانه في العراق.
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمجحفة: فلما خرج ولم يجد مناخاً تنزل على أيدي الرجال فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «الحمد لله الذي أذهب عنكم عصبية الجاهلية وتكبرها بآبائها. الناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله؛ والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب. قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13]، ثم قال: «أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم» (2).
وفي خطبة الوداع:
عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: «يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى. إن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فليبلغ الشاهد الغائب» (3) فالإسلام بكل وضوح يرفض التعصب للانتماء إلى جنس أو لون؛ فلا تاريخ ولا جغرافية ولا لغة ولا جنس ولا لون.
فبلال الحبشي مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلمان الفارسي قال عنه صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا آل البيت» (4).
والبخاري والترمذي أئمة الحديث، وطارق بين زياد قائد لجيوش المسلمين.
العراق ما كان لينتصر إلا بالإسلام:
لقد فرضت الحرب على العراق جدية الاهتمام بالبحث عن أسباب النصر، وبعدما قدمنا عن القومية العربية ونشأتها وأفكارها يتضح لنا كم هي مناقضة ومعادية للإسلام. ولقد بسط الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله الحديث عن ذلك في كتابه: (نقد القومية العربية) ولكننا إزاء ما حدث في العراق ينبغي أن نتوقف عند عدة نقاط هامة وحيوية:
أولاً: العراق كنظام وحكومة تدين بالقومية العربية وبأفكار ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث.
ثانياً: الشعب العراقي ينقسم إلى شيعة وسنة، وأكراد. أهل السنة في الأصل بعضهم ينتمي إلى أحزاب علمانية ويسارية موالية للكفار أعداء الإسلام من الأمريكان، وأهل السنة مثل جماعة أنصار الإسلام أو الجماعة الإسلامية وعوام الأكراد.
أما الشيعة فهم يسيطرون على مناطق النجف، وكربلاء. ومعلوم فساد عقيدتهم وبدعتهم، غير أنهم موالون لنظام الحكم في إيران.
وبالنظر لأهل السنة في العراق لا يخفى سيطرة الأفكار البعثية على البعض، والآخر يسيطر عليه شرك القبور وهو شر مستطير منتشر في العراق، ولا يخلو العراق من أقلية من النصارى، وأيضاً فيه قلة من الصابنة، ولكن الإسلام هو دين أغلبية الشعب العراقي.
والنظام االعراقي كم حارب التوجهات الإسلامية الداعية إلى الالتزام بشريعة الإسلام والأخلاق والفضائل، وكان نتيجة ابتعاد الدعاة المخلصين عن توعية الشعب أن انتشرت المنكرات والكبائر والمعاصي؛ غير أن كثيراً من الشعب اكتوى بنار الظلم والاستبداد، ورغم أن الحكومة العراقية عدلت من خطابها السياسي، وأضافت إليه بعض العبارات الإسلامية والاستدلال بآيات القرآن والإفراج عن كل المسجونين قبل سقوطها إلا أن العقيدة البعثية القومية ظلت هي المسيطرة.
هذه نظرة سريعة لشكل العراق من الداخل كجبهة أمام جبهة الكفر الصليبي الحاقد التي استعدت لتلك الحرب بكل الإمكانيات المتاحة لها من أرقى أنواع الأسلحة المتنوعة في زيادة القوة التدميرية غير تعبئة الأفراد والتمويل المالي؛ يضاف إلى ذلك السيطرة العسكرية على المناطق المحيطة بالعراق فضلاً عن وضوح الهدف الذي أعلنته الإدارة الأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر أنها حرب صليبية بدأت بأفغانستان المسلمة وهو عنوان لم يضعه المسلمون لتلك الحرب، بل تتحمل تبعته الإدارة الأمريكية؛ وذلك بأسلوبها المعادي لكل نشاط إسلامي على مستوى العالم، وملاحقتها بكافة السبل الجماعات الإسلامية المجاهدة في كشمير، والشيشان، وفلسطين المقطوعة الصلة تماماً بأحداث 11 سبتمبر، وكان اختيار العراق هدفاً للحرب ليس من أجل إسقاط نظام استبدادي، ولا من أجل أسلحة الدمار الشامل أو البترول فقط، ولكن العراق كان هدفاً لما يمثله من تاريخ إسلامي وعاصمة للخلافة في أزهى عصور الخلافة الإسلامية، والعراق كان هدفاً؛ لأنها في تقدير الإدارة الأمريكية هدف ضعيف يسهل التغلب عليه بأقل الخسائر لما يلي:
1) الخلافات والانقسامات الموجودة داخل العراق: سنة، وشيعة، أكراد.
2) الاعتماد على ظلم النظام للشعب مما جعلهم يتوقعون أن يتعاون مع القوات الغازية تحت زعم التخلص من الاستبداد.
3) كثرة الحروب التي خاضها النظام العراقي أضعفت قدراته العسكرية.
4) طول مدة الحصار الاقتصادي الذي أنهك العراق في كل النواحي، وأثر تأثيراً بالغاً على قدراته العسكرية.
كل ذلك يجعل العراق هدفاً سهلاً يسهل على أمريكا أن تجعل منه نموذجاً في التغريب الأمريكي وإقامة نظام حكم موالٍ للأمريكان يعمل على مسح هوية الشعب تماماً، وتغريب أفكاره ومبادئه، وتنحية االفهم الإسلامي الصحيح عن الحياة تماماً، ثم يتجهون بعد ذلك إلى بلد عربي آخر.
[بقلم؛ ممدوح إسماعيل/ عن مجلة البيان]
1) البخاري، كتاب الأدب، حديث، رقم (5552).
2) أخرجه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان.
3) مسند الإمام أحمد، رقم (22391).
4) رواه ابن سعد في الطبقات، 4/ 83، 7 / 319، وصححه الألباني موقوفاً على علي رضي الله عنه برقم (3272).
ِ===============
حماس ما بين فريق "أوسلو" وفِرق الرافضة؛ ماذا تجني؟!
لم ينكر أحد من المسلمين معارضة حماس لفريق "أوسلو"، لتفريطه بالديار، ولما جلب على الأمة من عار، ولذلك كوفئت حماس باختيارها لقيادة المرحلة، ولتأتي بالأفضل، أو تقوم بدور الرقيب الحافظ لحقوق الأمة في كرامتها وعقيدتها.
ولكن المتابع لا يرى إلا الجنوح والتيه عما كان يُرتجى، ولا سيما أن هناك مؤشرات تؤكد أن في حماس بعض النفوس المستعدة للتعامل مع فريق "أوسلو" بذات القيم والعقلية، مما يثير تساؤل؛ أين التمايز إذا كان الكل يتعامل بروح الفصيلة والحزب على حساب الهوية والأمة؟!
وعلى كل حال فإن "أوسلو" المحتضرة - بكل أبعادها ومعطياتها - أضحت معروفة للجميع، ومن أراد أن يأتي بالأفضل فلا بد أن يترفع.
وقديما قال معاوية الحليم رضي الله عنه: (من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال قلوب العباد).(3/94)
وصفحات "أوسلو" أُعيدت قراءتها مرات ومرات، حتى أصبحت مفهومة لدى الكثير، وأصبح أعضاؤها يكتفون بإعاقة أي تقدم يخدم أهل فلسطين لكي لا يظهر عورهم على حقيقته، وهذا كله معلوم وقد فقهه عقلاء الأمة في كل مراحله...
ولكن عندما تتقلب حماس بين "حزب الله الإيراني" المهيمن في لبنان، و "حزب البعث" النصيري الحاكم في سوريا، وحزب الخميني الرافضي الحاكم في إيران؟! و "حزب المجلس الأعلى للثورة الشيعية" الصفوي وما يسمى بـ "حزب المهدي" الرافضي وإخوانهم من حكام العراق - حلفاء الغزاة وخدم المحتلين من الصليبيين واليهود - فماذا تريد حماس من ذلك، وماذا تجني وتحصد؟! ولا سيما إذا اعتقدوا أن مبدأ "عدو عدوي؛ صديقي" تنطبق مفاهيمه على الرافضة، وأسقطوا العقيدة!
ألا يحق بعد ذلك أن يتساءل أهل السنة عن أمور مفصلية في مسيرة حماس، فيقولون:
ما هذه العقيدة التي تدين بها فتبيح لها في تحالفاتها المساواة بين السنة والردة؟!
وما هي هويتها التي تساوي بين العروبية والشعوبية؟!
وما هي أهدافها التي ترجو ممن دمر العراق والشام وغيرهما أن يعيد القدس ويبنيها؟!
وما هي مرجعيتها التي تساوي بين مصحف محمد صلى الله عليه وسلم ومصحف فاطمة المزعوم رضي الله عنها؟!...
إلى غير ذلك من تساؤلات كثيرة كلها ظاهرة فيما يجتره كثير من ساستها.
وكما هو معتاد؛ سيتصدر الغوغاء لتسويغ ذلك والدفاع عن دين قتلة عمر وعثمان وعلي ومكذبي القرآن والسنة وقاذفي أمهات المؤمنين وتسويغ جرائم الرافضة في سوريا والعراق ولبنان وإيران ضد السنة وأهلها، وسيدافعون عن عقيدتهم المحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، المكفرة لأصحابه، المستبيحة لدماء وأعراض وأملاك أهل السنة في كل عصر ومصر إن أصبح لهم شوكة، وبطريقة التقية وتنفيذ الجرائم وإنكارها، والبراءة منها ومن تبعاتها.... وسيتسترون على كل ما يعلمه العالم أجمع من صفقات النخاسة والغدر التي تجري بين حلفاء حماس وأعدائها...
وسيقولون؛ إذا لم تتحالف حماس مع رافضي القرآن وقتلة السنة، فمع من يتحالفون؟!
وهذا ما زين لهم الوقوع في الهاوية، فماذا قدم لهم هؤلاء سوى الكلام الكاذب المعسول، مقابل أن يجملوهم أمام عامة أهل السنة ويسلخوهم من هويتهم وأمتهم، لكي ينفذوا مشاريعهم الهدامة بتقية وهدوء، وتبوء حماس بإثم التستر على الرفض وتجميله لأهل السنة حتى يُبعث أبو لؤلؤة المجوسي من جديد...
فحماس ارتضت أن تكون لهم "حصان طروادة"، مقابل ما تطبل به إذاعاتهم الماكرة بالتحرير وإزالة إسرائيل.
بينما الحقيقة تقول؛ أن حلفاء حماس هؤلاء هم أقرب الناس لليهود في العقيدة وفي المصالح، فمن يحمي حدود فلسطين من جهة سوريا سواهم؟! ومن يقتل إخوان حماس السنة في سوريا سواهم؟! ومن ينشر التشيع الرافض للسنة والحاقد على العرب في سوريا وغيرها سواهم؟! ومن سلم كابول وبغداد للصليبيين واليهود سواهم؟!
فبأي وجه يقابل من يقود هذه السياسة في حماس؛ ضميره ودينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟!
وحليفهم الرافضي يصرح على الملأ بما يناقض أحلام حماس، وبما يمكن أن يجعلها يوماً معروضة للبيع في سوق الغدر الرافضي.
وهذه اعترافاتهم في غدرهم بإخوانهم:
قال محمد على أبطحي - نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية - حين وقف في ختام أعمال "مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل"، الذي ينظمه "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية" سنويا، بإمارة أبو ظبي مساء، الثلاثاء 15/1/2004م ليعلن أن بلاده: "قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربيهم ضد أفغانستان والعراق"، ومؤكدا أنه؛ "لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بيد الأمريكان بهذه السهولة"!
وستبقى الحقيقة الصارخة والواقع المرير يثبتان أن كل من يتحالف مع الرافضة؛ فإنما يجمع الغباء والعقوق والرفض والردة والغدر بالسنة وأهلها، ولن يحصد سوى الندم والحسرة والخزي والتشتت والهوان.
وأنه سيشارك بجدارة بلعق دماء أهل السنة وبدوس أعراضهم واحتقار عقيدتهم وتمزيق هويتهم وبلعن أئمتهم، وسيسهم إسهاماً مباشراً في التستر على لصوص العقيدة وأنصار الردة وموقدي الفتن وبائعي الأوطان...
ولا يستطيع عاقل أن ينكر أن التفاهم مع الرافضة والتحالف معهم يبيح التحالف والتفاهم حتى مع الشيطان، لأن تقديس قاتل "فاتح القدس" والتحالف مع ذلك القاتل، يبيح التفاهم والتحالف مع جميع الناس والأجناس وبكل ما فيهم من جرائم، لأنها أقل من جرائم رافضي الكتاب والسنة وطموحاتهم الهادفة إلى إزالة السنة من الوجود.
بل إن هذا الصنف الذي يقر التحالف مع إخوان اليهود؛ هو المتآمر على إخراج "حماس الكتاب والسنة" من بيئتها ومواطن نصرتها، إلى غربتها وبيئة رفض الكتاب والسنة، وتسليمها إلى قاتل أبيها وهاتك أمتها، فيزعم أنه يقوم برعايتها وتوجيهها.
فأي عاقل يقر هذا ولا تذهب نفسه حسرات على هذا التيه واليتم الذي تعيشه حماس عندما ارتضت أن تعيش في أحضان الغدر، يداهنها ويغازلها حتى يمتطيها لتكون جسراً لعبور الرفض والردة واغتيال الفاروق وأمته والقدس من جديد.
فإن كان اليهود استباحوا فلسطين، فإن الرافضة استباحت سوريا والعراق ولبنان، وهذا "المجلس الشيعي الأعلى الفلسطيني" ترعاه حماس بسياستها الرعناء هذه.
ولولا تسلط حلفاء حماس على سوريا والعراق؛ لما عانت فلسطين ما تعانيه، وما فعله اليهود ويفعلونه في فلسطين؛ لا يقارن بوجه من الوجوه مع ما يفعله الرافضة في سوريا والعراق وإيران ولبنان - سواء كان في قتل أهل السنة أو تدمير مساجدهم أو حرق مصاحفهم أو منعهم من أداء شعائرهم أو العمل المستمر على تغيير دينهم إلى دين الرفض وما يتبع ذلك من موبقات -
ولم تكن الأرض تقارن في يوم من الأيام بالعقيدة، فمن يسرق العقيدة أشد خطراً وضراً على الأمة...
فهذه حماس تعيش تحت ظلال اليهود الذين اغتصبوا الأرض، ولها مؤسساتها، ويحاكم قادتها ويسجنون فيزارون، ويفرج عنهم، بينما السنة يخطفون ويعذبون ويقتلون في سوريا والعراق وإيران، ولا يفرج عنهم ولا يحاكمون! لأن سرّاق العقيدة لا دين لهم.
ومع ذلك؛ فإن الكثير من قادة حماس يُقبلون أيدي قتلة السنة، ويزعمون أنهم يخدمون الدين والأخوة وثوابت الأمة!
بل إن التيه الذي يسير به بعض من يقود حماس يجعلها تطمح إلى أن تكون مع المجاهدين وتدافع عن فلسطين، وبذات الوقت تعمل في السياسة وتقود حكومة آمنة، لها فخامة الوزراء وسمو السلاطين ومراكبهم ومساكنهم وسفرهم وسياحتهم!
بينما خالد رضي الله عنه؛ كان لا ينام ولا يُنيم!
وقيادة حماس تريد مقاتلة اليهود، وتريد الأمن والسلام، وتعانق الرافضة وتغرق في أوحالهم، وتريد من أهل السنة أن يكونوا معها دائماً، فيبيحوا لها أن تكون ماسحة أقذار الرافضة وساترة سوءاتهم، ليراهم ضحاياهم من أهل السنة على غير صورتهم التي يعرفون مرارتها ويكشفون عوراتها... وهذا في القياس عجيب!
إن من يزعم؛ أنه يقاتل اليهود، لا يسالم صنيعتهم الرافضة ولا يثق بها، وإن من يغار على الإسلام في فلسطين؛ يجب أن يغار عليه في سوريا التي أصبحت مرتعا للرافضة ودار قرار لأعداء العرب والسنة، وعليه أن يتألم لدماء أهل السنة وأعراضهم في العراق بما فيهم الفلسطينيين هناك.(3/95)
وأن يعلم أن هذا التحالف الحماسي الرافضي يتحمل القائمون به في حماس وزراً أكبر من أوزار من يتحالف مع اليهود، لأن من يسالم اليهود لم يقل أنه من المؤمنين أو المجاهدين، بل هو علماني وهويته معلنه وأعذاره معروفة، لكن ما هو عذر من يزعم أنه يدافع عن الكتاب والسنة وهو يلثم الأيدي التي تحرق الكتاب وتهتك السنة، دون أي مقابل، سوى سراب الباطل ووحل الزيف والخداع... والرائد لا يكذب أهله.
وكل هذه التساؤلات تشير إلى أن المسار مشوب وجانح عن النهج السوي، وأنه لا بد من وقفة مراجعة صادقة مع الله تعالى ثم مع الذات، وغسل عار التعلق بأعداء السنة أو الرجاء منهم، وأن المكابر لا يحصد سوى الهوان، وأنه ليس بعد الحق إلا الضلال.
وقديماً قال العرب: "تجوع الحرة ولا تأكل بأثدائها".
والعقيدة أسمى من المصلحة الحقيقية، بل هي الحامية للمصلحة، فكيف إذا كانت مصلحة حماس بتحالفها مع الرفض؛ زائف ومنساق وراء آراء قاصرة أو جاهلة.
وكل أهل السنة تحت المعاناة والكبت، وقد تكون حماس أخف حملاً من غيرها في كثير من زوايا وخبايا العالم الإسلامي، فلا عذر للانحراف ومهادنة الردة، فضلاً عن مساندتها لقتلة الفاروق، ليجوسوا بحقدهم وبغضهم في بلاد السنة وأهلها.
"والكبر؛ غمط الحق وسفه الناس".
و "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
و "العاقل؛ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت".
والعود أحمد.
والله من وراء القصد.
{واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: من الآية 86].
بقلم؛ راشد أمية عباس العثماني
===============
فقاتلوا أولياء الشيطان
مقالات تحت ظلال السيوف
[الكاتب: سيف الدين الأنصاري]
تفرز حتمية الصراع بين الجماعة المسلمة وأولياء الشيطان - كسنة قدرية - ضرورة الصدام المسلح بين هذين المعسكرين، ليس لأن الجانب العسكري هو الجانب الوحيد لمجالات الصراع، فإننا نسلم أن هذه العملية اختزالٌ مخالف للواقع القائم قدرا، وأمر مرفوض في الدين شرعا، ولكن لأن القتال هو الأداة الأساسية التي تتحكم في صياغة المنهج الذي يدار به هذا الصراع.
ولكي لا نمضي بعيدا عن الموقف المطلوب في ساحة هذه المعركة القائمة - كسنة قدرية - بين المعسكرين، لابد من الاستحضار الجدي للسنن الشرعية التي يجب أن تضبط عملية التفاعل مع هذا القدر، فإن من شأن الاعتصام بشرع الله جل وعلا أن يقودنا إلى التجاوب الإيجابي مع قدره، فكلاهما حكمه في خلقه، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وبينهما من التوافق والانسجام ما يمكّن المؤمن بهما من صياغة الموقف الصحيح في متطلبات حركة الحياة.
قال ابن القيم رحمه الله: (لكن الموفقون المهديون آمنوا بقدر الله وشرعه، ولم يعارضوا أحدهما بالآخر بل صدق كل منهما الآخر عندهم وقررّه، فكان الأمر تفصيلا للقدر وكاشفا عنه وحاكما عليه) [مفتاح دار السعادة: 566].
وبما أن الأمر كذلك فإن من الضروري جدا للجماعة المسلمة أن تمتلك رؤية واضحة للصراع من موقع الأمر بعد أن أدركته على حقيقته من موقع القدر، فإن هذه الرؤية هي الكفيلة بالاستعلاء عن تلك النظرة السطحية التي انطبعت في أذهان كثير من الناس عن الجهاد، إذ يرى المراقب أن الجهاد لا يخرج عندهم عن الظاهرة الاجتماعية التي تتحرك من موقع الضغط الذي يولد الانفجار، ولذلك لا تعدو أن تكون عندهم ردا انفعاليا شبيهاً في إطاره الزمني بالومضات الضوئية التي لا تمتلك البعد التاريخي ولا القدرة على الاستمرار.
على أن امتلاك هذه الرؤية من شأنه كذلك أن يساعد بشكل فعال على تحرير إرادة الجماعة المسلمة من تلك القيود التي تعوق عملية الانطلاق في المسار الصحيح للعمل الإسلامي.
ومن المعلوم أن من موجبات الشرع والعقل أن يقابَل الاعتداء بالرد، بل من متطلبات النقل الصريح والعقل الصحيح أن يكون هذا الرد من جنس العمل، أي أنه إذا أخذ الاعتداء شكله القتالي فإنه لا يفُل الحديد إلاّ الحديد، قال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]، ويكون من الصعب على المسلم الحر أن يركن إلى الاستسلام إذا بدأه عدوه بالحرب، قال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13]، بل إن استحضار الغاية الحقيقية لهذا الاعتداء، والطبيعة الراسخة التي تشكل محركاته الأساسية يجعل من الصعب التسليم بجدية أي وسيلة لا تتخذ من القتال الأداة الأساسية للدفع، قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84].
قال ابن كثير: (أي بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله) [التفسير].
أما سياسة البيانات الاستنكارية والوقفات الاحتجاجية، فلن تكون كافية لتشكيل الدرع الذي يقي من رصاص الاعتداء، فضلا عن أن تكون أداة للضغط على الأعداء تدفعهم إلى إيقاف القتل ورد الحقوق، فإن ما أخذ بالقوة لا يرد بالضعف.
ثم إن صدق الانتماء إلى الإسلام يفرض على أهله التفاني في الانتصار له عندما يقع عليه الاعتداء، فإن هذا الدين هو الهوية الحقيقية للمسلم الصادق، ويستحيل على من باشرت قلبه بشاشة الإيمان أن يستسيغ الاعتداء عليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف: 14]، وجدية هذه النصرة تضع الخيارات العسكرية واحدة من بين أهم الحلول الناجعة في الدب عن المقدسات، قال تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12]، قال ابن كثير: (أي عابوه وانتقصوه) [ التفسير]، فإن هذا النوع من التطاول لا يمكن أن يصدر إلاّ من أصحاب المواقع المتقدمة في الكفر، وعندها لن يكون كالجهاد حلا أنسب للحد من هذا التجرؤ، قال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12].
بل إن هذا الرد الذي يحمل في طياته مقومات العزة بهذا الدين، وصدق الارتباط به، سوف يقود الكثير من الناس إلى الإقبال عليه، والحرص على الدخول فيه، ويشجعهم على التمسك به، لأنهم ينظرون بأعينهم إلى دلائل الصدق المتجلية في علوه على غيره، كما يحسون أنهم آمنون عند الدخول فيه من فتنة أعدائه، وعندها يقبلون عليه أفواجا، قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 2]، فظهور هذا الدين بمظهر القوة والقدرة على حماية نفسه هو الذي يشكل الدافع الأساسي إلى اهتداء هذه الأفواج من الناس.(3/96)
وباستحضار حقيقة الدولة الإسلامية من جهة، وطبيعة الموقف التقليدي لأولياء الشيطان من هذه الدولة من جهة أخرى، يصبح الجهاد مطلبا لا محيد عنه للجماعة المسلمة حين تتحرك بجد لإقامتها، فإن هذه الدولة - التي لا يقام الدين كما أُنزل إلاّ بإقامتها - هي واقع التمكين الذي وعد الله به أولياءه المؤمنين، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55]، ومادام هذا الواقع - أي واقع التمكين - هو واقع القهر للكفر والعلوِ عليه، فمن الضروري في منطق ارتباط النتائج بمقدماتها المناسبة أن لا يكون هذا العلو إلاّ بعد الغلبة على الكفر بقوة الجهاد، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه} [لأنفال: 39]، ولذلك كان الوعد بالتمكين دليلا عليه، وملزما للأخذ به، إذ من المعلوم أن الوعد الإلهي يحمل في طياته أمرا شرعيا يطلب تحقيق الأسباب الكفيلة بإدراكه. وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة التناقض الكامل بين دولة الإسلام ودولة الكفر، لأن الأولى تمثل واقع التمكين لشريعة الله، والثانية تمثل واقع التمكين لشريعة الطاغوت، يصبح القتال مسَلمة من مسلمات الصراع بين المعسكرين، فإن دولة الإسلام هي الحق الذي لا يمكن انتزاعه إلاّ في أجواء الصراع المسلح مهما كانت ديموقراطية الأعداء، بل إن دين الديمقراطية يفرض على أتباعه أن تكون هذه الدولة هي الخط الأحمر الذي يوجب الشكل القتالي للصراع ولو انهزمت الديمقراطية عبر صناديق الاقتراع!
ولكي تكتمل صورة الدوافع الحقيقية لقتال أولياء الشيطان لابد من استحضار حقيقة الوظيفية الدعوية للجماعة المسلمة، فإن هذه الأمة ما أخرجت للناس إلاّ لأداء هذه المهمة، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وهذه الدعوة حين تكون إلى ما أراد الله من غير تلبيس ولا تدليس، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} [النحل: 36]، حين تكون كذلك، فإنها سوف تصطدم - ولاشك - بكل سلطة تستعبد الناس من دون الله، فهي سنة جارية أن يكون في كل قوم طواغيت تتأذى مطامعهم الشخصية بهذه الدعوة، لأنها تجردهم من صلاحيات الألوهية التي أعطوها لأنفسهم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} [الأنعام: 123]، فيعترضون طريقها، ويحولون بينها وبين الناس، وعندها لابد للجماعة المسلمة من التدخل للدفاع عن حرية الدعوة، وأن تقاتل أولياء الشيطان الذين يقفون في وجهها للتأكد من ضمان وصولها - كاملة من غير تحريف - إلى الناس أجمعين، فإن من حق الناس جميعاً أن تصلهم هذه الدعوة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28].
ثم إن من حق الناس بعد وصول الدعوة إليهم أن يملكوا الحرية الحقيقية للاختيار، فيعتنقون الإسلام - إن شاءوا - في جو خال من التهديد والإرهاب الذي تمارسه كل سلطة كافرة على من أراد أن يسلم لله من دونها، والحقيقة أن هذا النوع من الحرية لا يتحقق إلاّ بأن تتحرك الجماعة المسلمة لإزالة تلك السلطة الكافرة الجاثمة على صدور الناس، أو على الأقل أن تفرض عليها من القيود والالتزامات ما يشعر الناس بالأمن من بطشها إن هم اختاروا الإسلام لله وكفروا بما يعبد من دونه، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فتنكسر شوكة هذه السلطة، ويصغر شأنها، ويحس الناس - كل الناس - أنهم في مأمن من إرهابها، وفي حمى آمن من فتنتها.
وإذا كنا نؤمن أن الأرض لله سبحانه، وأن الناس خلقه وعبيده، وأنه يريد - شرعا - أن يعلوَ حكمه الشرعي في ملكه، كما علا حكمُه القدري، فإن من حقه جل وعلا على أوليائه أن يقاتلوا أولياء الشيطان لتكون كلمة الله هي العليا، فيكون الدين كله لله، ويظهر الإسلام على الكفر، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
قال ابن القيم: (فإن من كون الدين كله لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق في رقابهم، فهذا من دين الله، ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم وإقامة دينهم كما يحبون بحيث تكون لهم الشومة والكلمة) [أحكام أهل الذمة: 1/18].
صحيح أن الإسلام لم يكره الناس على الدخول فيه بقوة السيف، قال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، فلا إكراه لأي أحد على الدخول في الدين، لكنّ هذا لا يعني أن تقعد الجماعة المسلمة عن التحرك لإزالة سلطان أئمة الكفر الذين يسيطرون على واقع الناس ويحولون بينهم وبين حرية الاختيار، كما لا يعني القعود عن قتال هؤلاء الكفار ليكون الحكم للإسلام فيعلو دين الله ولا يُعلى عليه، قال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
إن الجهاد ليس هو السلوك المطلوب اتجاه أولياء الشيطان فحسب، وإنما هو الموقف الذي يعبر عن الشكل الأصلي الذي ينبغي أن تأخذه العلاقة بين الجماعة المسلمة وأولياء الشيطان، وأي موقف يدعو إلى خلافه لابد أن يكون حالة استثنائية تدعو إليها مصالح معتبرة شرعا وقدرا، ومعلوم أن الاستثناء ضيق لا توسع فيه، قال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35].
قال ابن كثير: (أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عددكم وعدتكم) [التفسير].
نعم هناك أولويات في القتال، فبعض أولياء الشيطان أولى بالقتال من بعض، قال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12]، إما لأنهم تمادوا في الكفر بحيث صاروا أئمة فيه، فكانوا كما قال أبو السعود: (أحقاء بالقتل والقتال) [التفسير: 4/47]، أو لأنهم يحتلون موقع الرئاسة في الكفار بحيث صاروا أئمة فيهم.
قال أبو السعود: (وتخصيصهم بالذكر إما لأهمية قتلهم، أو للمنع من مراقبتهم لكونهم مظنة لها، أو للدلالة على استئصالهم فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم) [التفسير: 4/47].
والمهم أن يكون هناك تصنيف للأعداء، فرغم أن الكفر ملة واحدة إلاّ أنه ليس مرتبة واحدة! وهذا بدوره يفرض على الجماعة المسلمة ترتيب أولويات المواجهة حسب ضوابط المصلحة والمفسدة شرعا وقدرا، كما يفرض التعامل مع كل صنف من هؤلاء الأعداء حسب قواعد وأحكام الفقه الإسلامي المعروفة عند الفقهاء.(3/97)
طبعاً يبقى الجهاد بنوعيه - جهاد الدفع وجهاد الطلب- خاضعا عند التنزيل لمستوى المعطيات الذاتية، إذ لابد لكل عمل من إرادة عازمة وقدرة كافية، ولكن مادامت التربية الإسلامية الصحيحة كفيلة بامتلاك إرادة الجهاد والاستعلاء عن الوهن، فإن من شأن هذه الإرادة نفسها أن تحرك كل الإمكانيات المتاحة نحو تحقيق مقومات القدرة على الجهاد، قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46].
قال ابن تيمية: (كما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) [الفتاوى: 28/259].
وباستحضار استمرارية الصراع العسكري كسنة قدرية قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 217]، يسهل الاطمئنان إلى استمرارية الجهاد وبقائه إلى يوم القيامة، ليس باعتباره مطلبا شرعيا فحسب، ولكن كسنة قدرية تتوقف استمرارية الصراع على دوامها.
وهذه العقيدة حين تكون حية في قلوب المسلمين كفيلة بتحرير الإرادة من آثار الحرب النفسية التي تستهدف بثّ اليأس والقنوط من النصر القريب، فإن كل الجهود التي تحاول اقتلاع جذور الجهاد آيلة حتماً إلى الفشل الذريع، قال تعالى: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36].
إن هذه الأمة أمة مجاهدة، ومن شأن هذه الحقيقة أن تفرض الاستعلاء عن الاستجابة لنعيق المنهزمين الذين يحاولون أن يسوغوا ضعفهم بالترويج لثقافة السلام مع أولياء الشيطان، كما أن الاستحضار الجدي للشق التكليفي في هذه الحقيقة كفيل بتحريك الشوق إلى لذة العبادة، فيكون الثبات رغم صعوبة الطريق.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54].
================
مشروع محمد عبده "الإصلاحي" وزرع الشوك
لا زالت شريحة كبيرة من المثقفين تتكلم عن محمد عبده على أنه إمام ورائد للنهضة الحديثة، ويدعوا نفر من المحسوبين على التيار الإسلامي إلى إعادة نموذج محمد عبده الإصلاحي ثانية؛ للنهوض بالأمة الإسلامية من جديد... لذا رأيت أنه من الضروري إلقاء الضوء على نموذج محمد عبده الإصلاحي، وبيان كيف أنه كان البذرة التي أثمرت الشوك فيما بعد.
من هو محمد عبده [1849 - 1905م]؟!
بعد فشل الحملات الصليبية على البلدان الإسلامية، وأسر "لويس التاسع" في دار بن لقمان بالمنصورة وفِديته، كان هذا الرجل فطنا، عاد يحدث قومه: "لن تستطيعوا التغلب على هذه الشعوب وأنتم تحملون الصليب، هذه الشعوب تهب حين تُأْتَى من قبل دينها".
فتعلم الصليبيون الدرس، وعادوا إلينا يدَّعون أنها أهداف اقتصادية، وأنهم علمانيون لا دينيون، والحقيقة أنهم يحملون ذات الثارات القديمة، والفارق بينهم وبين أجدادهم أنهم لا يجملون الصليب.
وكان الاحتلال البريطاني لمصر جزء من هذه الحملة الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي، فمنذ قدومهم عملوا على نزع الهوية الإسلامية عن شعب مصر، وإعادة قراءة النصوص الشرعية بما يتفق مع مطالبهم، وقد عملوا على إيجاد جيل كامل من أصحاب الشذوذ الفكري والطموح السياسي - كما يقول الدكتور محمد محمد حسين - ليتولى هو مخاطبة الشعب وتغيير هويته.
وقد وجد القوم بغيتهم في "الشيخ" محمد عبده...
لماذا؟
يرجع هذا إلى نشأة "الشيخ" وطبيعة أفكاره، فقد "كان الشيخ اعتزالياً متتطرفاً، هذا أقرب ما يمكن أن يوصف به الشيخ من الانتماءات المذهبية وإن كان في الواقع له اتجاه مستقل أحياناً، وتظهر إعتزاليته في تفسيره للملائكة والجن والطير الأبابيل وخلق آدم، وربما كانت هذه التأويلات هي التي دفعت كرومر إلى قوله؛ أشك أن صديقي عبده كان في الحقيقة لا إدرياً - نقلها عنه جب [دراسات في حضارة الإسلام: ص399]" [1].
تأثر "الشيخ" محمد عبده بجمال الدين الأسد أبادي "الأفغاني"، والذي نفي إلى مصر لفكره الاعتزالي وأرائه الغريبة، إذ أنه كان منبهراً - هو الآخر - بالغرب وقوانينهم، فنادي بأن الأمة هي مصدر الحكم، ونادى بوحدة الأديان، والسلام العالمي، وأن الاشتراكية من الإسلام، ورحل إلى أمريكا مستنصرا [2].
وحمل محمد عبده ذات الأفكار، وأفسح الإنجليز له المجال ليتكلم إلى الشعب من أعلى المنابر في مصر وأكثرها قبولا لدى العامة، وهو منبر الإفتاء، وليكون لسانه لسان الشرع.
أما كونه حمل ذات الأفكار ودعى إليها؛ فقد جاء في مقدمة "رسالة التوحيد" لمحمد أبو ريّة - وهو من أحباء الشيخ - نقلا عن "مستر بلنت" في كتابه "التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر" [ص: 76]، وهو يتحدث عن الشيخ جمال الدين الأفغاني ورسالته في الشرق وإصلاحه، يقول: (أما عباءة المصلح نفسه - يعني جمال الدين - فقد ألقيت على عاتق أقوى من عاتق صاحبها الأصيل "الشيخ" محمد عبده، وقد خلف جمال الدين في زعامة "حزب الإصلاح الحر" في الأزهر).
أما كون الإنجليز أفسحوا له المجال؛ فهذه حقيقة لا يماري فيها من له أدنى دراية بـ "الشيخ"، والذي يتضح لي؛ أن شخصية محمد عبده اتفقت مع هوى الإنجليز، فحدث بينهما التقاء وتعاون، وثقة متبادلة، يصفها البعض بالعمالة، ويشتد البعض في اللفظ فيصفها بالخيانة، والمحصلة واحدة، وما يعنيني؛ هو أن الشيخ كان على علاقة قوية بالإنجليز.
لم ينكر هذا أحبابه، فهذا يوسف الغزال في تقديمه لـ "رسالة التوحيد" يفسر سوء العلاقة بين الشيخ والخديوي عباس بقوة علاقة الشيخ بالإنجليز وكثرة تردده عليهم [3] وعلانية امتدحه الإنجليز، ورضوا عن أقواله وأفعاله، ووقفوا ورائه يغدقون عليه الألقاب، ويرسلون فتواه في كل مكان.
واقرأ هذا النص، وهو من قول مستشار القضاء الإنجليزي بمصر في تقريره عن المحاكم لسنة 1905م، وهو العام الذي توفى فيه الشيخ، يقول: (ولا يسعني ختم ملاحظتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر يوليو الفائت، وأن أبدي أسفي الشديد على الخسارة الفادحة التي أصابت هذه النظارة بفقده...)، إلى أن يقول: (وفوق ذلك، فقد قام لنا بخدمة جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم ما أحدثناه أخيراً من القوانين المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات القضائية...) [4].
معذرةً أرجو قراءة النص مرة أخرى!
ومعروف أن المندوب السامي البريطاني "اللورد كرومر"؛ كان صديقا للشيخ محمد عبده، وأنشأ سويا كلية لتخريج قضاة الشرع المسلمين، يدرس فيها مجموعة من العلماء ذوي الطابع التحرري.
والتي يقول عنها: (أنها كلية أثبتت نجاحها من كل الوجوه).
ويتحدث عن ذلك في تقريره لحكومته عام 1905م، فيقول: (وقد وضعت هذه المعلومات تحت تصرف لجنة ذات كفاية ممتازة يرأسها المفتي الأكبر السابق محمد عبده، بقصد وضع خطة مشابهة تلائم ظروف مصر وحاجاتها، وقد أتمت اللجنة في شهر يونيو السابق ـ والشيخ توفى في الشهر الذي بعده، وهذا له دلالته ـ ووضعت النظم المقترحة تحت تصرف الحكومة... وهذه النظم تذود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري ولا تحصر الطالب في الدراسات الخاصة) [5].(3/98)
ولم يكن الشيخ مقرباً عند الإنكليز الكفرة وفقط، بل "كان بين الطوائف الراقية من المصريين والأجانب محبوباً معظماً معترفاً له بمقام الإمام" [6].
وأيضاً نال الشيخ احترام الكاثوليك العرب؛ فهذا بشر الخوري صاحب "معجم الموارد"، يقول بعد سلسلة من المدائح: "... والخلاصة أنك آية من آيات الله" [7].
بهذا تعلم أن محمد عبده نشأ في بيت مشبوه، ورباه شيخ مشبوه - هو جمال الدين "الأفغاني" - وقام الإنجليز بزرعه في أعلى منصب في مصر، وأخلوا بينه وبين الشعوب ليتكلم إليها كيف شاء.
أسس محمد عبده أثناء فترة تواجده في لبنان جمعية سرية مع أحد دعاة التنصير تدعوا إلى الحوار بين الأديان [8].
دعوة الشيخ محمد عبده:
اشتهر الشيخ محمد عبده بدعوته إلى الإصلاح، والإصلاح الذي كان يهدف إليه الشيخ ثلاثة أنواع؛ إصلاح الدين، وإصلاح اللغة والأدب، وإصلاح السياسة [9].
"وكل الذين قاموا بالإصلاح في الميادين الثلاثة كانوا من تلاميذه وأصدقائه ممن صاروا على خطاه وتأثروا بطريقته، منهم سعد زغلول، وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين وغيرهم" [10].
والشيخ "أعظم من تجرأ على مفهوم الولاء والبراء ودار الحرب ودار الإسلام من المنتسبين للعلماء، بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة، ودعوته إلى التعامل مع الإنجليز وغيرهم، بحجة أن التعامل مع الكافر ليس محرماً من كل وجه" [11].
والشيخ هو صاحب الفتوى "الترنسفالية"، التي أباح فيها التشبه بالخواجات في لبس القبعة [12].
والشيخ أول من أفتى بإباحة الربا في شكل صناديق التوفير معتمداً ـ كما يرى العقاد ـ على مفهوم الآية من أنه لم يحرم من الربا إلا الأضعاف المضاعفة فقط [13].
والشيخ كان ظهيراً لقاسم أمين في كتابه "تحرير المرأة"، فعندما أصدر قاسم أمين كتابه "تحرير المرأة"؛ شك كثيرون في كونه كاتبه، لما حواه الكتاب من عرض ومناقشة للأقوال الفقهية والأدلة الشرعية، التي كان مثل قاسم قليل البضاعة منها، ولكنهم لم يشكوا في أن الذي دفعه إلى الفكرة هو أحد رجلين، إما محمد عبده وإما "كرومر".
ويحل لطفي السيد الإشكال في كتابه "قصة حياتي"، إذ يقول: (إن قاسم أمين قرأ عليه وعلى الشيخ محمد عبده فصول كتاب "تحرير المرأة" في جنيف عام 1897م، قبل أن ينشره على الناس) [14].
وقال ذلك نصا الشيخ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله في محاضرة له بعنوان "المؤامرة على المرأة المسلمة"، وعلل ذلك؛ بان الكتاب مليء بالمسائل الفقهية التي لا علم لقاسم أمين بها.
والشيخ نادى بتحريم تعدد الزوجات، عملاً بحديث: (لا ضرر ولا ضرار)! [15].
"وجملةً، يمكن أن يقال؛ أن ما من عملٍ من أعمال الخدمة الاجتماعية تم بعد وفاته إلا كان من مشروعاته التي هيأ لها الأذهان ومهد لها الطريق، وبدأ فعلاً بالاستعداد لتنفيذها، ومنها الجامعة المصرية التي كان يعني بها أن تقوم بتعليم العلوم وفقاً للمناهج الحديثة، وتسهم في تجديد الحضارة العربية القديمة" [16].
ومن المعلوم؛ أن هذه الجامعة كانت مختلطة، وأنشأت فيها معاهد للرقص والفنون الجميلة، وهذه هي الأخرى كانت من بنات أفكار الإمام محمد عبده - كما يخبر العقاد في فصل "الفنون الجميلة" -
وتدبر؛التعامل مع الكفار - قبول الآخر - التشبه بهم، إباحة الربا، تحرير المرأة، تحريم تعدد الزوجات، أليست هي ذات المطالب القائمة اليوم؟!
لمن كانت ثمار دعوته؟
بعد هذا العرض لأفكار الشيخ ودعوته، يمكننا القول؛ أن الذي جنى ثمار دعوة الشيخ هم الإنجليز، وذلك على مستويين.
الأول: على مستوى عوام الناس، حيث اتخذت الشعوب أفكار الشيخ وفتاويه مبرراً نفسياً لتقبلها للتغير العلماني المتدرج في الدول العربية.
وقد صور محمد المويلحي في عمله الرائع حديث "عيسى بن هشام" شيئا من ذلك على لسان أبطال الرواية، إذ يسأل أحدهم متعجبا: (كيف صاغ للمصريين أن يأخذوا بقانون نابليون المخالف للشريعة الإسلامية؟)، فيجيب الآخر: (بأن المفتي أقسم بالله أنه موافق للشريعة).
الثاني: كانت أفكار الشيخ محمد عبده ـ كما يقول سفر الحوالي ـ حلقة وصل بين العلمانية الأوروبية والعالم الإسلامي، ومن ثم باركها المخطط الصهيوني الصليبي العالمي واتخذها جسراً عبر عليها إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة الإسلامية والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، واستوراد النظريات الاجتماعية الغربية وهو ما تم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً [17].
نعم كان محمد عبده مخلصا وجادا فيما يفعل، وأراد محمد عبده الوقوف في وجهة الجمود العقلي الموجود في هذه الأيام، وأن يجاري العقل الأوروبي - صاحب الاختراعات والاكتشافات العلمية يومها - فبالغ في إعمال العقل، وصار تحت ردود الأفعال، فأحدث انحرافا جديدا [18].
ونعم، أراد محمد عبده أن يقيم سدا في وجه الاستعمار الغربي والغزو الفكري يومها، فأقام قنطرة عبر عليها العدو إلى ثوابتنا الإسلامية، فكان ما كان - كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم -
ومن يقرأ عن حياة محمد عبده ويأخذ شخصيته من كل جوانبها، يجد أن الشيخ كان شغله الشاغل؛ هو تحسين صورة الإسلام في أعين الغربيين، والنهوض بالأمة، نهضة مادية كالتي كانت في أوروبا يومها، وربما هذا هو القاسم المشترك بينه وبين من يحاولون إحياء دعوته اليوم.
من المهم جدا؛ تحديد المنطلق، ومن المهم جدا؛ وضوح الهدف بدقة.
وثلة غير قليلة من مثقفي اليوم، تريد تحسين صورة الإسلام أمام الغرب، وتريد الرقي المادي بالأمة الإسلامية، وتجد أقلامهم تأن من كل فعل "يشوه" صورة الإسلام أمام الغرب، وهم يصرحون بهذا في أكثر من مقام.
هذا هو هدفهم الذي يظهر لي، وهذا هو منطلقهم الذي يخرجون منهم.
والذي أفهمه؛ هو أن رسالتنا هي تعبيد الناس لله، وليس الرقي المادي بحياتهم، وأن الخطاب الأخروي لا ينبغي أن يغيب عن البال، فالشرع جاء أساسا لإنقاذ الناس من نار جهنم، {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}، وإصلاح الدنيا يأتي تبعا، لا أصلا؛ {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}.
والذي أفهمه أنه مر مائة عام على وفاة محمد عبده، ولم نجن من مشروعه الإصلاحي إلا الشوك - حرية المرأة، والجامعات المختلطة، والسخرية من التيارات السلفية الملتزمة بالهدي النبوي... الخ -
نعم لم نجن من مشروع محمد عبده إلا الشوك، والعجب كل العجب أن يأتينا آخر يريد منا اليوم بذر الشوك ثانية للأجيال القادمة!
محمد جلال القصاص
18 /5 /1426 هـ
[1] راجع إن شئت العلمانية للدكتور سفر الحوالي: ص575.
[2] ومن أراد المزيد فليقرأ "خاطرات جمال الدين الأفغاني"، اختيار عبد العزيز سيد الأهل: ص: 14، والاتجاهات الفكرية والسياسية والإجتماعية، علي الحوافظة: 102، 181 - 182، وكان للأفغاني نشاط ماسوني، وكان يشرب "الكونياك" - وهو نوع من الخمر - كما ذكر ذلك محمد رشيد رضا في "تاريخ الأستاذ": ج1/ص49.
[3] رسالة التوحيد، للشيخ محمد عبده، تقديم حسين يوسف الغزال، ص: 15، 20.
[4] نقلا عن العلمانية، للشيخ الدكتور سفر الحوالي، ص: 575.
[5] المصدر السابق، ص: 576 - 577.
[6] رسالة التوحيد، محمد عبده، تقديم محمد أبو رية: ص8.
[7] المصدر السابق: ص10.
[8] ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتاب "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير"، الدكتور فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي، ص124 - 169.(3/99)
[9] رسالة التوحيد، تقديم حسين الغزال: ص18، قلت: وهذا يشي بانفصال الدين عن السياسة في رأس الرجل.
[10] سلسلة أعلام العرب: ص20.
[11] العلمانية: ص578.
[12] أعلام العرب: ص176.
[13] أعلام العرب: ص176.
[14] أحمد لطفي السيد: ص132، وجاء مثل هذا في كتاب قاسم أمين: ص158 - 159.
[15] أورد هذا الكلام خالد محمد خالد في كتابه "الديمقراطية أبداً": ص164 - 165.
[16] العقاد، أعلام العرب: ص176.
[17] العلمانية: ص579.
[18] راجع - إن شئت - مقدمة كتاب مقومات التصور القرآني، للأستاذ سيد قطب.
==============
شبهة؛ التحالف مع الكفار لارتكاب أخف الضررين
[الكاتب: حامد بن عبد الله العلي]
ما قولكم في أناس ينتسبون إلى العلم الشرعي والدعوة الإسلامية، يقولون؛ إن المسلمين يجوز له أن يدخلوا في تحالفات دائمة مع الكفار، وأي كفار؟! كفار يحاربون الإسلام في كل مكان، ويقتلون المسلمين، وتحكمهم طائفة متعصبة صهيونية، ويحمون الصهاينة جهارا نهارا، ويقول هؤلاء المنتسبون إلى العلم إن ذلك من باب ارتكاب أخف الضررين، وأنه من باب درء المفاسد، مقدم على جلب المصالح، وأن المسلمين في الدول الصغيرة يجوز لهم أن يدءوا مفسدة الخوف من ذهاب الأمن، على كل ضرر، وهذا لايحدث إلا بالدخول في تحالفات استراتيجية مع الكفار حتى لو كان ذلك على أساس القانون الدولي العلماني فلا حرج فيه، وقد لبسوا على عامة المسلمين، وينسبون كلامهم إلى شريعة الإسلام.
فما قولكم فيما يقولون؟
الجواب:
الحمد لله.
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد:
ننقل هنا مارد به العلامة سيدي المهدي الوزاني من علماء فاس المتوفى عام 1342ه، على من أفتى بجواز الإحتماء بالكفار، مستدلا باحتماء الصديق بمشرك.
قال الوزاني في النوازل الكبرى [3/7278]: (قلت؛ فتح هذا الباب فيه حرج وشطط، مع أن هذا الكلام كله غلط...).
إلى أن قال: (وأيضا الاحتماء بالكفار اليوم هو خروج من الإسلام، والتزام بطاعة الكفار، بحيث إذا أمره الكافر بشيء يسارع إلى امتثال أمره كيفما كان، وإن أمره كبير المسلمين بشيء، ولو طاعة، لا يساعده ولا يرضى به، ولا يعتبره حتى يأذن له الكافر، ولم يصدر هذا من أبي بكر قط، ولايتوهم في حقه، وحاشاه من ذلك.
وأيضا؛ احتماء أبي بكر كان لتحصين دينه وتتميم إيمانه، ولم يكن لتحصين بدنه أو ماله، فكيف يقاس أمر الدنيا عل الدين؟! وقد قتل الحجاج وغيره ألوفا من الأفاضل، صحابة وغيرهم، ولم يرض واحد منهم بهذا الفعل الشنيع الذي هو الاحتماء بالكفار.
وأيضا؛ هؤلاء المحتمون تراهم يضحكون على المسلمين، ويحقرون أمورهم، ويتمنون لهم أموار قبيحة كي يكونوا مثلهم {ودوا لو تكفرون ما كفروا فتكونون سواء}.
وأيضا؛ تراهم لأجل أنهم منعوهم من ولاة المسلمين يحبونهم ويتمنون الغلبة لهم، إلى غير ذلك من الأمور الشنيعة التي لا يرضى بها مسلم.
فقوله؛ " أنا صدرت مني فتوى بجواز الاحتماء بغير أهل الملة إذ لا محظور فيه من الشرع... إلخ "؛ كلام باطل، وعن طريق الحق عاطل، لايحل كتبه إلا بقصد أن يرد، كالحديث الموضوع).
ثم قال: (ثم رأيت نحو ما قلته في "الأجوبة الكاملية"، وذلك أنه سئل العلامة سيدي محمد بن مصطفى الطرابلسي، لما شاع وكثر في هذه الأزمنة من احتماء المسلمين بالكفار بعد نقضهم البيعة الإسلامية، بحيث يكون حكمهم كحكم رعاياهم الأصليين، إذا وقعت لهم حادثة التجأوا إليهم، واشتكوا إليهم، وإذا طلبوا أمراء الإسلام يمتنعون، ويقولون؛ نحن تحت حماية الدولة الفلانية، وإذا جلب إلى محكمة أهل الإسلام، يحضر معه رجل من طرف الحكومة الأجنبية، هل يجوز هذا في الشرع الشريف؟
فأجاب؛ لا يجوز هذا الصنيع القبيح السيء في الشريعة المنورة، بل هو حرام، بل قيل: إنه كفر، وشهد له ظاهر قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بضعهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، وكذا ما بعد هذه الآية من قوله تعالى {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}، فهي صريحة في أنه لا يفعل ذلك إلا من كان في قلبه مرض ونفاق والعياذ بالله، وكذلك ظاهر قوله ر ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}، أي فليس من ولاية الله في شيء، فظاهره أنه انسلخ من ولاية الله رأسا.
وقد قال تعالى في حق المؤمنين؛ {الله ولي الذين آمنوا}، فمن انسلخ من ولايته تعالى فلا يكون الله وليه، فلا يكون مؤمنا.
وكذلك قوله تعالى؛ {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما}، ثم بين المنافقين بقوله تعالى {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}، ثم قال؛ {أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}.
والآيات والأحاديث في هذا الشأن كثيرة، وهؤلاء المحتمون أشد ضررا على المسلمين من الكفار الأصليين).
ثم قال: (فهذا وقد ألف في هذه الحادثة، سيدي علي الميلي رسالة شدد فيها النكير على من يفعل هذا الفعل، قال: فلا يجوز القدوم عليه ولو خاف على ماله أو بدنه، لأن المحافظة على الدين مقدمة عليهما.
ومن القواعد الأصولية: (إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما)، ومنها قولهم؛ مصيبة في الأموال ولا مصيبة في الأبدان، ومصيبة في الأبدان ولا مصيبة في الأديان، فالمؤمن رأس ماله، وأعز شيء عنده دينه، فهو مقدم على كل شيء) انتهى النقل عن "النوازل الكبرى".
ومن يتأمل كلام هؤلاء المتخبطين بغير علم، يرى أنهم يعكسون تماما دلالة قوله تعالى {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
فالله تعالى جعل الكفر والصد عن سبيل الله، هو الفتنة، وهي أشد من القتل، وهؤلاء يجعلون حتى الأذى، ونقص الرزق، وذهاب الأمن، وليس القتل، أشد عليهم من الفتنة في الدين. وهم مع ذلك لم يتدبروا حقا قوله تعالى " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا "، أي أن الكفار إنما يجعلون قوتهم العسكرية، وسيلة يتوسلون بها إلى ارتداد المسلمين عن دينهم، لأن الشيطان هو الذي يقودهم ويأزهم على المؤمنين.
والعجب أنهم كأنهم يظنون ظن السوء بربهم، أنهم إن هم أطاعوه لم يرزقهم على طاعته، وإن عصوه فصاروا تحت حماية الكفار رزقهم على معصيته! فتأمل كيف لبس عليهم الشيطان، فظنوا أن في تحالفهم مع أشد الناس كفرا وعداوة للمؤمنين، أمنا واستقرارا ورفاها.
كما حكى الله تعالى عن الذين في قلوبهم مرض قولهم: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}.
وصار مثلهم كما وصف الله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}. فهؤلاء الذين يعبدون الله على حرف، إنما يريدون نصر الدين بشرط أن لا يصيب دنياهم شيء، فإن خافوا على دنياهم، لجأوا إلى الكافر فارتموا في أحضانه، وإن علموا أن في ذلك فسادا عظيما في دينهم، قد فتنهم حب الدنيا، فأوردهم هذه المهلكة.(3/100)
وهم يتذرعون بأن هؤلاء الكفار الصليبيين يتركون المسلمين يصلون، ويصومون، ويحجون، ويزكون، فليس في موالاتهم ضرر على الدين، وينسون، أو يتناسون أن في استعلاء الكفار بثقافتهم، وأخلاقهم، وسياساتهم، واقتصادهم، فساد عام عريض دائم يجتث الأجيال، ويوقعهم تحت تأثير استلاب الكفار للشخصية الإسلامية في أبناء المسلمين، وتحطيم الهوية الإسلامية، وتغيير جذري في معالم الإيمان، واستبدال الثقافة والقيم الغربية التائهة المنحلة بعقيدة الإسلام وأخلاقه، وأن هذا واقع لا محالة وضرره شامل مستمر وبالغ الخطورة على عموم الأمة.
لكنهم مع ذلك يستروحون إلى طلب الراحة، والرفاه، والتوسع في الأموال والتجارات، تحت ظل الكافر، على حساب عقيدتهم ودينهم.
ويتذرعون أحيانا بالخوف والخطر على الوطن، وقد حولوه إلى صنم، يحلون من أجله الحرام، ويحرمون الحلال، ويعقدون الولاء والبراء عليه، ويقدمون توفير دنياهم فيه، على صلاح دينهم.
وفي هذه الفتنة أنزل الله تعالى: {ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}. وإنما هم في هذه الفتنة: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
وهؤلاء بدل أن يجعلوا هذه الفتنة أشد من القتل، فيفروا منها ولو إلى الموت، ليرزقهم الله تعالى حياة الشهداء، بدل أن يفعلوا ذلك، ليسلكوا سبيل المؤمنين من قبلهم، فروا من مجرد الأذى وليس من الموت إلى الفتنة، فاركسوا فيها، واستعملهم الله تعالى في أشد مساخطه وهو تسخير أشد أعداءه الذين يبغضهم، وهم اليهود والنصارى، تسخيرهم لهؤلاء المفتونين، يؤيدون خطط الأمريكيين الصليبين في بلاد الإسلام، ويفتون الناس بأن هؤلاء الصليبين إنما هو مصلحون، فيضلون، ويضلون الخلق، فنعوذ بالله تعالى أن يستعملنا في مساخطه.
أما قولهم: إنهم متبعون للمصالح الشرعية الراجحة، أو أنهم يدرءون المفاسد والمضار، فهو من تلبيس الشيطان، فمفسدة تأييد استعلاء الكفار على بلاد المسلمين، من أعظم المفاسد على الدين، غير أن هؤلاء جعلوا أهواءهم هي المعيار الذي يرجحون به بين المفاسد والمصالح.
كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (المصالح المجتلبة شرعا، والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور:
أحدها؛ ما سيأتي ذكره - إن شاء الله - أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم، حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، طلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}.
الثاني؛ ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع، كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة الإحياء، بحيث إذا دار الأمر بين أحياءها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال، كان إحياؤها أولى، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين، كان إحياء الدين أولى، وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار، وقتل المرتد ، وغير ذلك، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى) [الموافقات 2/39].
والعجب أن هؤلاء المفتونين، عكسوا ما أراده الله منهم، فقد أمرهم بالتزام شريعته، وتكفل لهم برزقهم وقدر آجالهم، فكان همهم أرزاقهم، وآجالهم، التي تكفل الله بها، فلا تزيد ولاتنقص، وأهملوا دينهم الذي أمرهم الله تعالى بحفظه، وظنوا أن رضاهم بعلو الكافر عليهم، وتحالفهم معه، سيكون سببا في انبساط الدنيا لهم، وحلول الأمن عليهم.
ونسوا أن الله تعالى يملي للكافر الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وأن الله تعالى مهلك هذه الدولة الكافرة الطاغية أمريكا، كما أهلك الذين من قبلهم، ولهذا حذر من اتخاذ الكافرين أولياء،
كما قال تعالى بعدما ذكر إهلاك الأمم في سورة العنكبوت: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون}، وقد فتنتهم هذه الدولة الكافرة الطاغية أمريكا، وهالهم تقلبها في الأرض، ونسوا قوله تعالى {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد}.
ونسوا سنة الله تعالى في الطغاة، وأنها سنة لا تتبدل ولا تتغير: كما قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون}.
اللهم إن هذه الدولة الكافرة أمريكا قد طغت، وتجبرت، وكفرت بك، وصدت عن سبيلك، وقاتلت أولياءك، وكذبت رسلك، اللهم وإنهم لا يعجزونك، اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اللهم اهزمها، وأرنا فيها مثل أيام الذين خلوا من قبل، اللهم أرنا فيها سنتك في المستكبرين، اللهم أهلكها كما أهلكت عادا وثمود، واقصمها كما قصمت فرعون والنمرود، واجعلها نكالا، وعبرة في الآخرين، اللهم وانصر كل المجاهدين الذين يقاتلونها في سبيلك، في أفغانستان، والعراق، وفلسطين، وكل بقاع الأرض، اللهم كن معهم لا عليهم، وانصرهم ولاتنصر عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم، اللهم واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وسدد رميهم، وفرج كربهم، وفك أسراهم، وتقبل شهداءهم، وارفع قدرهم، وأعل درجتهم، وانزل عليهم ملائكتك، قاتل أعداءك بهم، واجعلهم من جنودك الموحدين، وأنصارك المخلصين، واجعلنا معهم إنك أنت العزيز الوهاب، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين... آمين.
[7-02-2004]
================
شؤون داخلية
[الكاتب: أحمد مطر]
وطني ثوب مرقع
كل جزءٍ فيه مصنوع بمصنع
وعلى الثوب نقوش دموية
فرقت أشكالها الأهواء
لكن
وحدت ما بينها نفس الهوية :
عفة واسعة تشقى
وعهر يتمتع !
وطني : عشرون جزاراً
يسوقون إلى المسلخ
قطعان خرافٍ آدمية !
وإذا القطعان راحت تتضرع
لم تجد عيناً ترى
أو أذنا من خارج المسلخ .. تسمع
فطقوس الذبح شأن داخلي
والأصول الدولية
تمنع المس بأوضاع البلاد الداخلية
إنما تسمح أن تدخل أمريكا علينا
في شؤون السلم والحرب
وفي السلب وفي النهب
وفي البيت وفي الدرب
وفي الكتب
وفي النوم وفي الأكل وفي الشرب
وحتى في الثياب الداخلية !
فإذا ما ظلت التيجان تلمع
وإذا ظلت جياع الكوخ
تستجدي بأثداء عذاراها لتدفع
وكلاب القصر تبلع
وإذا لم يبق من كل أراضينا
سوى مترٍ مربع
يسع الكرسي والوالي
فإن الوضع في خيرٍ ..
وأمريكا سخية !
فرقتنا وحدة الصف
على طبلٍ ودف
وتوحدنا بتقبيل الأيادي الأجنبية
عرب نحن .. ولكن
أرضنا عادت بلا أرضٍ
وعدنا فوقها دون هوية
فبحق البيت
.. والبيت المقنع(3/101)
وبجاه التبعية
أعطنا يا رب جنسية أمريكا
لكي نحيا كراماً
في البلاد العربية
============
العولمة من خلال رؤية إسلامية
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدهُ ونَستعينُهُ ونستغفره، ونعوذ بالله مِنْ شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مِنْ يَهدِه اللهُ فَلَا مُضل لَهُ، وَمَنْ يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ? [آل عمران: 102].
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا? [النساء: 1].
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا? [الأحزاب: 70، 71].
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهداهم، واقتفى أثرَهم إلى يوم الدين.
أما بعد :
فالحديثُ في السنوات الأخيرة تكرر حول عنوان كثيرًا ما يظهر؛ إما في عناوين الكتب، أو في الطُّرُوحات الأخرى؛ كالمجلات والصحف والوسائل الإعلامية، وهذه الطُّرُوحات المتنوعة المتعددة كثيرًا ما تتحدث عن هذه القضية التي سنعرض لجانب منها؛ ألا وهي: " العولمة "، وسنُرَكِّز عليها في إطار "نَظراتُنا لها من خلال المنهج الإسلامي".
تعريف العَوْلَمة
إنَّ العولمة من خلال تعريف سهل ميسر هي : جَعْلُ العالَم واحدًا.
فهي مُشتقَّة من العالَم؛ فهي تَفاعُل وانْفِعالٌ يقصد إلى جَعْل العالَم واحدًا في تَوَجُّهاتِه وأحواله الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وهذه الدعوة التي اتَّخَذت اسم " العولمة " لا تقتصر على الطَّرْح الفكري أو الإعلامي فقط، وإنما تُمَارس الطَّرْح العملي في حياة الأمم والشعوب، ويُهِمُّنا نحن المسلمين أثرها ومؤثراتها علينا وعلى ديننا وعقيدتنا وأخلاقنا.
ونحن نعلم بادئ ذي بَدْء أَنَّ الإسلام نفسَه دِينٌ عالَمي، فلو استَعَرْنا المصطلح لَقُلْنا: إنَّ دِين الله سبحانه وتعالى يسعى إلى عولَمةِ العالَم، لكنْ من خلال أصول تُسْعِد الإنسانَ في الدنيا والآخرة، من خلال منهج رباني دَعَت إليه رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومِن ثَمَّ فتاريخ الرُّسل وعقيدتهم ومنطلقاتهم واحدة، فَلَمَّا خُتِمت الرسالات بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم جعلها الله للعالمين جميعًا: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا? [سبأ: 28]؛ ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ? [الأنبياء: 107].
وبالفِعْلِ انْطَلَق الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم مَشْرقًا ومَغرِبًا، ينشرون دين الله سبحانه وتعالى، حتى إنهم لَمَّا قابلتهم البحار قال قائلهم: لو أنني أعلم أن بلادًا خَلْف هذا البحر لركبتُ إليها ؛ ماذا يقصد؟!!
إِنَّه نشرٌ لدين الله سبحانه وتعالى، وإخراجٌ لهم من النَّار إلى الجنة، ومن عبودية العباد إلى عبودية رب العباد تبارك وتعالى، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ومِنْ ثَمَّ فمِثل هذه الدعوة بمجردها تَطْمَح إليها جميع الأمم؛ فالشيوعية حاولت أن تكون عالمية ولكنها جُوبِهت، والاستعمار الحديث - وأعني به في القرن الماضي - حاول أن يَفرض نفسه على العالم كله، لكنه واجَهَ مقاومات وفشل إلى حد كبير، فالمحاولة الأخيرة التي نعيشها في السنوات الأخيرة هي محاولة ضمن تاريخ ونُسُق عاشته قوى وأمم أرادت أن تفرض فِكْرَها وعقيدتها وأخلاقها ونظام حياتها فيمن تستطيع أن تفرضها عليه.
خُطُورةُ العَوْلَمة في وَاقِعِنا المُعَاصِر
وأَخْطَرُ ما في العولمة التي نعايشها في هذه السنوات الأخيرة أنها قامت على خمسة أَذْرُع، وهذه الأذرع في الحقيقة أدَّتْ إلى ما نعايشه اليوم من خطر أحسَّتْ به غالبيةُ الدول؛ إسلاميةً كانت أو غير إسلامية، لكنَّ الإحساس بالخطر كان من جانب المسلمين أكبر لأمر؛ وهو أن هذه العولمة وإنْ وُجِّهت إلى دول العالم كلها؛ إلا أنها موجهة إلى العالم الإسلامي بشكل واضح وصريح.
العَوْلَمة وأَذْرُعُها الخَمْسة!!
الأول : " الذراع العسكري ".
ويُقْصَد به القوة العسكرية الضاربة التي تريد أنْ تَفرض العولمة من خلال هذه القوة، وقد سمَّاها بعض رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية من عشر سنين بـ" العصا الغليظة ".
وسمى شَعْبَه هناك بـ" شعب الله المختار" الذي أرسله الله إلى العالمين؛ ليبثوا وينشروا فيهم الديمقراطيةَ أو الحريةَ، وحقوقَ الإنسان والرخاءَ الاقتصادي ونحو ذلك، فهذه العصا الغليظة بمنجزاتها العسكرية المتنوعة - سواء منها ما يتعلق بالسلاح النووي والبيولوجي، أو بأسلحتها المتنوعة المختلفة الأخرى المعروفة - هم يَسعَوْن بهذه القوى العسكرية إلى أنْ يفرضوا عولَمتهم.
الثاني : " الذراع السياسي " .
ويكون استخدامه من خلال السيطرة على المنظمات السياسية العالمية وتوجيهها الوجهة التي يريدونها، ومن ثَمَّ نجد أن هذه التوجهات والمنظمات السياسية العالمية تسير وتُقَاد بطريقة معينة، وتفرض من خلال ضغوطها وشروطها ونظمها ومواثيقها على دول العالم الأخرى السير في الركب؛ شاءوا أم أبوا !!
ومن ثَمَّ استخدم الغرب هذه الذراع لفرض هذه العولمة مع الأذرع الأخرى التي سنوردها هاهنا.
الثالث : " الذراع الاقتصادي".
ويستخدم أيضًا من خلال المنظمات العالمية، وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية والبنوك العالمية الكبرى، والشركات العالمية، ومن خلالها يحاولون أن يُعَوْلِموا العالم، ويسيطروا عليه اقتصاديًّا، ونَعْلَم أهمية القضية الاقتصادية فيما يتعلق بحياة الأمم والشعوب؛ فتَجِدُ مثلًا بعض هذه القوى الاقتصادية أو الشركات تستطيع بقدرتها المالية أن تبتلع دولًا، وهذا الابتلاع مقتضاه أن هذه الدول تصبح مدينة خاضعة تُمْلِي عليها النظم والحياة، وتسير من خلال استعمار اقتصادي، والتجارب متعددة، وما جرى لشرق آسيا حين حاولوا أن ينهضوا اقتصاديًّا - بما سُمُّوا بالنُّمور هناك - جَعَلَتْ أعداء الله - سبحانه وتعالى - يتدخلون في أمور هذه الدول من خلال الناحية الاقتصادية، ويخترقون شركاتها وأسسها الاقتصادية، ثم بطُرُق معينة يلعبون بالاقتصاد لينهار السوق في ساعات محدودة!!
كيف سار هذا؟!
إِنَّه استخدام لهذه الذراع الاقتصادية؛ لأجل إخضاع كل من لا يسير على الطريق الذي لا يريدونه، وإذا ما برزت قوة اقتصادية حاولوا تدميرها بقواهم الاقتصادية الأخرى.
الرابع : " الذراع التقني والعلمي ".(3/102)
ونستطيع أن نعتبرها من أهم هذه الأذرع؛ لأنَّ أثرها كان كبيرًا، فأعداءُ الله في السابق حاولوا عولمة العالم واستعمار العالم الإسلامي، لكنْ ما كانت التقنية العلمية - المتمثلة في الاتصالات ووسائل الإعلام والشبكات العنكبوتية والمحطات الفضائية وغيرها من الوسائل - ما كانت مؤثرةً وبالغةَ الدقة كما هو الحال في السنوات المتأخرة؛ فهذه التقنية العالية عند الغرب جعلته بالفعل يستخدم هذه الذراع بكل ما يملك من قوة لِفَرض العولمة على غيره من دول العالم الثالث ومنها العالم الإسلامي، وهي قضية واضحة مثل الشمس؛ لأنَّ هذه التقنيات فعلًا قد اخترقت الحُجُبَ، وأصبحت الدول التي كانت تَظن أنها تحيط نفسها بسُور من الجمارك مثلًا أو من غيرها؛ لتمنع وصول ما لا تريده إليها، أصبحت من خلال هذه التقنية تَرِد إلى بلادها وبيوتها، ومن خلال هذه الوسائل التقنية الدقيقة؛ لتخترق الحواجز والحجب، وتَنْفُذ لتنشر ما تريده من فكر وعقيدة وأخلاق ونظم .. إلى آخره.
فهذه الذراع التقنية المتطورة، والتي تتطور بسرعة، استطاعوا أن ينفذوا من خلالها، وهذا النفوذ الخطير هو الذي عَجَّل بالمتغيرات الكبيرة في كثير من بلاد العالم، ومنها بلاد العالم الإسلامي.
الخامس : " الذراع العقدي والثقافي والفكري ".
وهي من أخطر هذه الأذرع، وما الأذرع السابقة إلا لأجل أن تُمَكِّن هذا الذراع من أن يصل إلى الدول الأخرى، ويَنْفُذ في داخل المجتمعات من خلال وسائل متعددة، لينشر فيها عقيدة الغرب، ومنطلقاته الفكرية وثقافته، وحضارته ونظمه وأخلاقه وحياته، وهذا هو الخطر الأكبر .
هذه العولمة الثقافية والفكرية والعقدية حاولت أن تَنْفُذ، وتَنْقُل ما عند الغرب من حياة على مختَلف وجوهها إلى تلك الدول؛ مُعَوْلِمة لها، وفارضة عليها ما تريد؛ لتحقق بذلك جميع أهدافها، ومن ثَمَّ فإن هذه الذراع الخطيرة التي نعيشها نحن المسلمين بشكل أوضح؛ لأنَّ عقيدتَنا وإسلامَنا ودينَنا وشريعتَنا متميزةٌ، لها خصوصيتها الدقيقة الواضحة، أي أنه عند شعوب أخرى ربما لا يُهِمُّها أن تَنْتَقل من إلحادٍ إلى إلحاد، أو من كُفرٍ إلى كفر؛ لا يُهمها أن تَنْتَقل من مظاهر حضارية إلى مظاهر حضارية أخرى مختلفة، لا يهمها أن تنتقل مِن نظام وتشريع إلى نُظُمٍ أخرى مختلفة عنها، أما نحن المسلمين فلا؛ فالأمر عندنا خطير وكبير ومُهِمٌّ جدًّا.
آثَارُ العَوْلَمة في الجَانِب العَقَدي والثَّقافي والفِكْري
ومِنْ ثَمَّ فإن التفصيل في هذه الذراع وأثرها مهم جدًّا؛ ونحن نَقِف مع بعض آثارها باختصار:
[1] الانْحِراف العَقَدي
إنَّ من الآثار المتعلِّقة بهذه الذراع العقدية والفكرية والثقافية هو ما يتعلق بالعقيدة ، ونعني بها: أَنَّ حضارة الغرب أصلًا تقوم على الإلحاد، فهي حضارة مادية كافرة، وهي في ظل العولمة تَنْقُل إلينا نحن المسلمين عقيدتها، وإلحادها وماديتها، وهذا أمر واضح المعالم؛ فبلاد أوروبا اليوم تعيش على أصل كبير جدًّا يقوم على ركيزتين:
الركيزة الأولى: هي العلمانية الشاملة.
فهذه هي حياة الغرب، حتى وهُمْ يُدَعِّمون التنصير، ويدعمون الخدمات التي تقدمها الجهات الدينية وغيرها، لكنها حضارة قائمة بأصلها على العلمانية الشاملة.
الركيزة الثانية: أنها تنطلق من الحياة المادية، فالحياة عندهم هي أكل وشرب واقتصاد ?مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا? [الجاثية: 24].
هذانِ الركيزتان يَبرز من خلالهما - بصورة كبيرة جدًّا - الهدف من كون الغرب يريد أن يُعَوْلِمَ العالمَ الآخر، ومنه العالم الإسلامي؛ فإِنَّه ينقل إليه هذه الأصول الإلحادية الكبرى.
ولكَ أَنْ تتصور حياة الغرب القائمة على الكفر بالله ، سواء كان إلحاداً أو ودينٌ محرَّف..
عبادة المسيح..! عبادة العُزَيْر..! أديان إلحادية أخرى وَثَنِية..!
فهذه هي التشكيلة الغربية سواء ما كان منها فلسفة معاصرة من اشتراكية أو شيوعية، أو من يكون منها مرتبطًا بِنَزَعات دينيةٍ سابقةٍ، لكنها تقوم على الكفر بالله سبحانه وتعالى ، وهي بِمُجْملها يريد العالم أن ينقلها إلينا نحن المسلمين عن طريق العولمة.
[2] الانْحِراف في النُّظُم والتَّشْرِيع
ومما أثر ت فيها العولمة أيضًا: نُظُم الحياة التي نسميها نحن بالشريعة، فالعدو يريد أيضًا من خلال هذه الذراع أن يفرض علينا نُظُمَهُ وحياته، فحياة الغرب ونظمه تختلف تمامًا عن حياتنا نحن المسلمين القائمة على أساس العقيدة التي تَنْبَثِق منها شريعة متكاملة تشمل جميع شئون الحياة، أي أَنَّ الْمُسلم لا يمكن أن يخرج في أي شأنٍ مِنْ شئونه عن شريعة الله سبحانه وتعالى الكاملة: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا? [المائدة: 3].
والحقيقةُ أنَّ هذا المظهر من أخطر المظاهر؛ لأنَّ مظهر الحياة الغربية بنظمه لَمَّا تَعَوْلَم وانتشر في العالم - ونحن من هذا العالم - فإِنَّنَا نحن المسلمين نكون في هذه الحالة ممن يرتضي نظمًا غربية ونتخلى عن دينه وشريعته، وكما قال علماء السلف الصالح قديمًا: (مَا مِنْ بِدْعَةٍ تَحْيَا إِلَّا وَتَمُوتُ فِي مُقَابِلَهَا سُنَّةٌ) ، فكذلك أيضًا: مَا مِنْ نُظُم حياة تُسْتَوْرَد إلا ويقابِلُها انحسارٌ في شريعة الإسلام بالنسبة لنا نحن المسلمين؛ وبالطبع فنلاحظ أننا نَفْصِل تمام الفصل بين الشريعة المبنية على أصول عندنا نحن المسلمين وبين القضايا الإدارية البَحْتة، فنحن نتكلم اليوم عن الْأُوْلَى بشكلٍ أساسي، ونتكلم عن الثانية التي تَقْدُم إلينا بأصولها وجذورها.
[3] الانْحِراف الأخْلاقِي
كذلك أيضًا بالنسبة للأخلاق ومعرفة الآثار الأخلاقية للعولمة في بلاد العالم الإسلامي؛ فالفسادُ الأخلاقي المتنوِّع تجد أن هذه الذراع الثقافية بالفعل تؤثِّر وبشكل مباشر، وأظن أن هذا الأمر واضح تمام الوضوح، وأمثلتها كثيرة جدًّا، ونذكر منها :
• المرأة :
وخَصَّصْناها لأنَّها - فِعْلًا - مِيدانٌ ضخم لحرب الإسلام والمسلمين وتَغْيِير أحوالهم؛ فجاءت العولمة بالنسبة للمرأة لتؤَثِّر على كثير مما يتعلق بحياة المرأة المسلمة، سواء ما يتعلق منها بدينها، وأهدافها، وغاياتها، أو بمظاهر الأخلاق والتصرفات، أو بالألبسة والأزياء وغيرها.
• اللغة العربية :
إِنَّ اللغة العربية هي لغة القرآن، فالعولمة الآن تحاول أن تطغى لتجعل لغة العالم هي اللغة الأجنبية، وبالأخص اللغة الإنجليزية، وكثيرٌ من شبابنا اليوم بدأت طموحاته متأثرة بعوامل عِدَّة، يرى أَنَّ النمو الحضاري لن يكون إِلَّا بأنْ يكون صاحب لغة أجنبية يُتْقِنها!!
وإتقانها - والحالة هذه - سيكون على حساب لغته العربية، فكيف إذا تطور الأمر ليكون منهج المدارس الابتدائية وما بعدها؟!
كيف إذا تطور الأمر لتنشأ المدارس العالمية التي تُدَرِّس أحيانا باللغة الأجنبية؟!
كيف إذا تطور الأمر إذا صار الخطاب الإعلامي في كثير من أحواله لا يكون إلا باللغة الأجنبية؟!
ونحن نعلم أَنَّه في الشبكة العنكبوتية لا تكاد تَذْكُر اللغة العربية، أما المواقع التي تُعَدُّ بالملايين باللغات الأخرى وعلى رأسها اللغة الإنجليزية، فهذا التَّصَلُّب اللغوي هو مظهر خطير جدًّا من مظاهر العولمة الفكرية والثقافية.(3/103)
وينتج عن ذلك بالفعل عدةُ مؤثرات تتعلق بالأسرة وبالشباب وبالتعليم، تتعلق بحياة الإنسان وخصوصياته؛ هذه الأمور وغيرها هي من المظاهر الخطيرة بالنسبة للعولمة، وكثير من الناس - وإِنْ طُرِحَت عليه العولمة الاقتصادية أو السياسية أو غيرها - إِلَّا أَنَّه يرى أن الخطر الأكبر حين تكون العولمة فكرية ثقافية أخلاقية؛ لأن الأمم إذا دُمِّرَت من الداخل فإنها ستكون قد انتهت، إذا خَرِبت قلوبُها وعقيدتها وأخلاقها وأهدافها في الحياة، فإنها ستكون غنيمةً سهلة لأعدائها.
إنَّ الأَذْرُع الْأُوْلَى كافَّةً؛ السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والتقني، كلها جاء لتُسْتَخدم لفرض هذا المظهر والذراع الخطير، ألا وهو الخطر العقدي والفكري والثقافي على العالم الإسلامي.
العَوْلَمة والدَّعَوات البَاطِلة
هناك مظاهر عالمية أحيانًا تجدها تُقَادُ مِنْ قِبَل الغرب القوي المسيطر، والعالم الإسلامي يعاني ما يعاني منها؛ ومن أمثلة ذلك:
دعوى " حقوق الإنسان " :
فهي في المنهج الإسلامي منضبطة بالضابط الشرعي.
أما اليوم فانظر كيف تدور قضايَا حقوق الإنسان عالميًا ليُفرض المنهج الغربي؛ حتى وهو يَكيل بمكيالين مَفْضوحَيْنِ أمام العالم كله، إنها قضية تُطرح عالميًّا وتتعلق بحقوق الإنسان، والعالم الإسلامي يتلقى مثل هذه الطروحات ولا يدري كيف يتعامل معها؛ طُرُوحات لحقوق إنسان مبنية على المنهج الغربي والإلحاد الغربي، بالرغم من أنَّ لدينا منهج مُؤصِّل ونظيف في حقوق الإنسان، ثم تأتي حقوق الإنسان أو المنظمات العالمية لتبني منطلقاتها على المساواة التامة ، ومقتضى هذا أنه لا فَرْقَ بين دِين ودِين، لا فرق بين من يعبد الأحجار، وبين من يَعبد الواحد القهار؛ فكل هؤلاء سواسِية، وفي منهج الإسلام العظيم لا يمكن أن يستوي هؤلاء: ?لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ?[الحشر: 20].
?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[ القلم: 35، 36].
وهكذا عندما تأتي الطُّروحات العالمية، مثل: المساواة بين المرأة والرجل، وهي قضية تخالف الطبيعة؛ فربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: ?وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى - وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى - وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى? [الليل: 1-3].
فالليلُ ليلٌ والنهار نهارٌ؛ هذا له طبيعته، وهذا له طبيعته، كذلك أيضًا الذَّكر له طبيعته والأُنْثى لها طبيعتها، فعندما تأتي مثل هذه الدعوات لتنادي بالمساواة، يأتي المنهج الإسلامي ليقول: لا.
فالبديل هو العدل، والعدل أحيانًا يكون بالمساواة، وأحياناً يكون بعدم المساواة، ولو قال قائل: تجب المساواة بين المجرم وغير المجرم!! لكان جميع الناس يعترضون على مثل هذا الطرح، وهل هناك أعظم إجرامًا ممن يكفر بالله سبحانه وتعالى ويلحد لنساويه بالمؤمن العابد لله تبارك وتعالى؟!
دعوى " تقارب الأديان العالمية " :
والمقصودُ بها عولمة هذه الأديان؛ ليخضع الإسلام لها، فعندما تأتي المؤتمرات العالمية كمؤتمر " السكان "، أو " المرأة "، أو غيره .. تجد أَنَّ هذه المؤتمرات تفرض حياة الغرب وثقافته، ونظمه.
والعالم الأخر أو الثالث، ومنه العالم الإسلامي يستجيب ويُوَقِّع ولا يعترض، وليس هذا للجميع، بل فيهم من يعتذر عن مثل ذلك، لكنَّ الغاية لِمِثل هؤلاء هي أن يتحول هذا المؤتمر المنبثق من قضايا غريبة ليفرض على المسلمين في حياتهم ودينهم وتعليمهم وأخلاقهم.
هذه الأذرع الخمسة للعولمة قد أَوْجَدت حالةً في العالم كله ومنه العالم الإسلامي، هذه الحالة سارت مسار نقاش وطروحات متعددة؛ لأن الكل يَحس بها ويراها ويعايشها..
مَوْقِفُ المُجتَمَعَات مِنْ العَوْلَمَة؟!
لقد بَرَزَت مواقف عِدَّة لِفِئَاتٍ عِدَّة مِنْ هَذِهِ العَوْلَمة نُشِير إِلَيها باختصار، ونُفَصِّل فيما نراه أصولًا ومنطلقات في الموقف من العولمة .
الفئة الأولى : وقفت بالنسبة للعالم الإسلامي من العولمة موقفَ المرحِّب بها الداعي إليها؛ ففَتَحَتْ لها ذراعيها، وهَلَّلَتْ لها، وصارت تنتظر سرعةَ تأثيرها في بلاد المسلمين، وهذا النوع يشمل غالبية أصحاب الأفكار المنحرفة في داخل العالم الإسلامي؛ كأصحاب التوجهات الاشتراكية، واليسارية، والقومية، والعلمانية، وأصحاب الحداثة الفكرية على مختلف مدارسها..
فكُلُّ هؤلاء يرحبون بالعولمة، ورأوا أنها ستكون وسيلةً لتحديث بلاد العالم الإسلامي وتغييرها، وهؤلاءِ إنما رحَّبوا بها لأنهم يَعيشون غربةً في بلاد المسلمين، يَعيشون صراعَ نُخَبٍ عربية ترى أنها هي الأعلى فكرًا وثقافةً .. إلى آخره.
لكنها تَصطدم مع أصول المجتمع وقضاياه وأُسُسه الإسلامية والعقدية، وهذا الصراع برزت مظاهرُه أكبرَ فأكبرَ من خلال المرحلة الماضية بالنسبة للصحوة الإسلامية التي بدأت بعد هزيمة (67)(1)، ومِن ثَمَّ فإن أصحاب هذه الأفكار لَمَّا أقبلَتْ هذه العولمة بأَذْرُعتها وجدوها مخرجًا له، وهذا المخرَج جعلهم يُرحِّبون بهذه الحضارة وعولمتها وفسادها وإفسادها، وتَبِعَهم على ذلك جمهرةٌ من العامة أصحاب الشهوات والفجور؛ فهم يريدون هذه العولمة ليأخذوا منها ما يشاءون بحسب ما تريده شهواتهم.
فهذا النوع من المفكرين والمثقفين رحَّبوا بالغرب، وبكل ما يأتي من الغرب، وليسوا بِدْعًا؛ فقد سَبَقهم قبل سبعين وثمانين سنة مِن أساتذتهم مَن أتى بنفس الفكرة لَمَّا استعمر الغرب العالم الإسلامي بعد سقوط الدولة العثمانية ، فكانت هناك دعوات لأدباء ومفكرين في ذلك الوقت تنادي بأن نكون قطعة من أوروبا، وبأن نتحول إلى جزء من الحضارة الغربية؛ رافضين لدينهم وإسلامهم وعقيدتهم وتراثهم.
الفئة الثانية : هي الفئة التي رَفضت العولمة، وهذه الفئة رأَتْ أَنَّ العولمة مظهر من مظاهر الاستعمار والاستعباد، وأنها خطر على الأمة، فرفضتها واعتزلتها اعتزالًا تامًّا؛ وهذا النوع من العجيب أنه انقسم – وإن كانوا قلةً – نوعانِ متضادانِ:
النوع الأول: من الأخيار الذين رأوا أن خطر هذه العولمة يقتضي العزلة؛ عليكَ بخاصة نفسك.
وهذا بلا شك إنِ اسْتطاعه فردٌ أو فردانِ، لكنْ من الناحية العملية؛ ففيه صعوبات كبيرة جدًّا، خاصَّةً في هذه الأحوال التي نعيشها .
النوع الثاني: هو فئات من أصحاب التوجهات اليسارية وغيرها الذين رأوا في العولمة استعمارًا رأسماليًّا ؛ فرفضوها من منطلقات يسارية إلحادية.
الفئة الثالثة : وَهُم بعض الذين طرحوا هذه القضية ، وحاولوا أن يعالجوا وضعها؛ فانتهوا إلى حلٍّ هم يسمونه وسطًا ؛ وأعني به الحلَّ الْمُلَفَّق بين " الحضارة الغربية والإسلام "!!
بمعنى : أن هؤلاء رأوا أَنَّه لا يمكن أن نقاوم العولمة بالقرآن والسنة، أو بكتب الفقهاء المتقدمين، وقال هؤلاء: لا يمكن أن نواجه حضارة المحطات الفضائية والإنترنت والاتصالات والإعلام والسرعة .. إلى آخره بتلك!!
إذًا؛ فما هو الحل عندهم؟
جاء في أُطْرُوحاتِهم أَنْ لَا نَتَخلى عن أصولنا، لكنْ أيضًا يمكن أن نواكب هذه المتغيرات لنجد لها مساحات معينة في المنهج والفكر الإسلامي وفي الفتاوى الإسلامية، في كلام الفقهاء، وأحيانًا في شذوذات الفقهاء، في رخصهم وهكذا..
عملوا نوعًا من الدمج والجمع بين هذينِ؛ ليتَوَصَّلوا إلى منهج عصراني يتواكب مع الحالة المعاصرة والعولمة التي نصطلي بنارها في هذه السنوات الأخيرة.(3/104)
إنَّ هذا النموذج أيضًا ليس بِدْعًا؛ فقد سَبَقه إليه أيضًا نموذجٌ آخرُ قبلَ سبعين أو ثمانين سنة لَمَّا جاء الاستعمار إلى العالم الإسلامي، فهناك فئات أرادت أن تجمع بين الإسلام والحضارة الغربية، وأن تخضع لكثير من الأمور الحضارية الغربية بعض الأصول والقواعد الإسلامية والشرعية، وجمعوا بينهما بما يسمى بـ" المدرسة العقلية الحديثة "، لكنها في النهاية لم تنجح، والسببُ في ذلك هو أن هذا الطَّرْح المبني على تنازلاتٍ، وإخضاع أصول الدين وقواعده لتلك الأحوال المعاصرة من باب مجاملتها.
كل ذلك يؤدي في النهاية إلى أن يَعتَزَّ الغرب بطرحه، ويؤدي إلى أن يكون المسلم المتبَنِّي لذلك أن يَضْعُف انتماؤُه لأصولِه، فهو بذلك يشبه إلى حد كبير علماءَ الكلام الذين كانوا في الزمن الأول.
كان في الزمن الأول وفق الكتاب والسنة والعقيدة الصافية، ثم تُرْجِمت الفلسفة اليونانية، فاطلعوا عليها وأُعْجِبوا بها، فلمَّا أُعْجِبوا بها أرادوا أن يجمعوا بين أصولهم الإسلامية وبين الفلسفة اليونانية الإلحادية، فحدث الخَلْط بينهما، ونَتَج ما سُمِّي بـ" علم الكلام "، الذي أصوله فلسفية، ومُزَيَّن ومُزَرْكَش بما يوافقه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وما الذي أنتجه علم الكلام هذا؟
كان أحد أسباب تأخُّر العالم الإسلامي؛ لأنه شغلهم في مناقشات لا مساس لها بالواقع والحياة العملية، فأصبح علماء الكلام كما قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا للفلاسفة كسروا، ولا للإسلام نصروا)(2).
فانتبهوا إلى العبارة!! لأن الفلاسفة تسلطوا عليهم لَمَّا وافقوهم على بعض أصولهم.
كذلك أيضًا التوجهات العصرية في هذه الأيام؛ فلو أنها – واللهِ- كَسَرَتِ الغربَ وأَحْرَجَتْه، واستطاعت أن تنتج لنا - فعلًا - توجهاتٍ فيها الاستقلال، ولو أنه فيه ما فيه؛ لقلنا واللهِ: نعم .. هذه جهود لها ثمرتها ونحترمها؛ لكنها طُرُوحات أَطْمَعت فينا الغرب مرةً ثانيةً؛ وأيما دولة إسلامية أو عالِم أو مفكر إسلامي قدِّم تنازلاته بهذه الطريقة إلا وجعل أعداءَ الله سبحانه وتعالى يطمعون فيه وفي دينه؛ ليقوم بتنازلات أكثر فأكثر.
الطَّرْحُ المُعاصِر " اسْتِسْلام المَغْلُوب "!!
ومِنْ هنا فإنَّ هذا الطَّرْح - الذي نسميه نحن بالطرح المعاصر - خطورَتُه تأتي مِنْ أَنَّه ينظر إلى القضية من خلال تنازلاتٍ يجب أَنْ يُقَدِّمها لعدوٍ غَالبٍ ظالِم مُسَيْطِر، أي: أَنَّه استسلام المغلوب؛ هذا الوضع سيجعل هذا الطاغي الظالم يطالب بتنازلاتٍ أكثرَ فأكثرَ؛ مع أنه في دين الله سبحانه وتعالى الأمر واضح تمام الوضوح؛ يقول الله - تبارك وتعالى- فيه ? وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ?[البقرة: 120].
البلاد العَلْمانية اليوم في كثير من العالم الإسلامي، أليست بعلمانيتها قد لَحِقت برَكْب علمانية الغرب؟!
الجواب: بلى.
وهل الغرب اليوم يحترمها ويُقَدِّرها؟!
الجواب: لا؛ فهو لا يزال يعتبرها شرقيةً، ويطلب منها المزيد من الخضوع، لا يزال يَسْخر منها ويحتقرها، لا يزال يقول بصوت عالٍ: إن الديمقراطية وحقوق الإنسان هي للغرب وليست لهؤلاء؛ إذا كنا قَدَّمْنا لأعدائنا وتنازلنا لهم إلى حد أن نُقَدِّم لهم العلمانية ونفرضها ونحارب دين الله من أجل ذلك، ومع ذلك فالغرب لا يرضاه، وإنما يريد المزيد من التبعية والتبعية حتى يكون الدهس بالأقدام؛ أي: إلغاء الهوية من جميع جوانبها، فكذلك أيضًا نقوله لمن يريد أن يَطْرح طُرُوحات معاصرة؛ فنقول له: إنَّ هذا الطرح في النهاية لن يُرْضِي الغرب، ولن تكون - والحالة هذه - ممن ثبت وبَقِيتَ على منهجك وعلى أصول دينك.
مَوَاقِفُنا تِجاهَ " العَوْلَمَة "
إنَّ مَوْقِفنا من هذه العولمة اليوم ينبغي أن يكون موقفًا مدروسًا، واسمحوا لي في هذه الفقرة الأخيرة أن أطرح جملة من المنطلقات التي يجب أن ننطلق منها في موقفنا من العولمة:
أولا : أن نحدد منذ البداية طبيعة الدين الإسلامي في موقفه من " الجديد " :
بمعنى: أننا لا يجوز لنا أن ننظر إلى قضية العلم والإسلام على أنها صراع، فقد وُجِد الصراع نعم في الغرب بين الدين والعلم؛ لأن الدين محرَّف، أما عندنا نحن المسلمين فلا يمكن من أن يوجد صراع، لا يمكن أن يكون في دين الله من كتاب الله والسنة الصحيحة ما يخالف نظرية غربية صحيحة أبدًا، فلا صراع بين الدين والعلم، ولا تَعارُض بين العقل والنقل في المنهج الإسلامي؛ لأن كليهما من الله ?أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأمْرُ?[الأعراف: 54].
فالحضارةُ المعاصرة هل هي التي اخترعت؟!
بالطبع لا؛ فهي تعمل في مخلوقات الله عز وجل، واللهُ هو الذي جعل في هذه المواد القابليةَ للتصنيع وليس الغربُ، ولهذا فَإِنَّ غاية الغرب أَنَّه يكتشف، حتى الإنسان خلقه اللهُ، غاية ما عنده من العلم أَنَّه يكتشف طبيًّا خليةً كان جاهلًا بها آلاف السنين، لكنَّ الخلقَ خَلْقُ اللهِ.
وكذلك كتابُ الله وسنةُ النبي صلى الله عليه وسلم التي هي وحيٌ، فهما عندنا يجب ألا نوجِد الصراع بينهما؛ لأنه لا يوجد في المنهج الإسلامي.
فهذا المنطَلق من هذه القضية مهم جدًّا؛ حتى نعلم كيف يتميز الإسلام عن غيره في نظرته للحياة؟
الإسلام دين الله الحقُّ، فالقضيةُ فيه منفصلة، فهو ليس دين يقول لك: اجلس في المسجد إذا أردت العبادة وانتهى الأمر؛ فهو ليس دين رهبنة، ولا صوفية ولا غيرها من المناهج التي تريد أن تعزل الإنسان عن الحياة، بل بالعكس، فديننا دين علم يبني حضارة، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
ثانيا : أن نواجه عولمة الغرب بالعودة إلى الذات :
العودة إلى ما عندنا من أصول ؛ إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما يَنْبَثِق عنهما من عقيدة وشريعة.
وقد يقول قائل: وهل هذه العودة ممكنة مع هذه العولمة الطاغية؟!
فأقول: هناك دول أخرى كافرة مثل اليابان؛ دولة وثنية ومتطورة صناعيًّا، وبالفعل واجهت العولمة كغيرها، أتدرون كيف واجهتها؟!
واجهتها بأن عادت إلى أصولها وجذورها وهي كافرة؛ حتى لُغَتها، ويخبرني أحد الأطباء ويقول لي: " جاء فريق طبي ياباني ليُجري عملية في مستشفى الملك فهد في الرياض، وجلسنا نحن معه في أثناء العملية، وأشدُّ ما أَحْرَجَنا أنه في أثناء العملية لا يعرف اللغة الإنجليزية؛ حتى المِقص والقطن كنا نحاول أن نُفْهِمه إياها بالإنجليزية، فكان لا يعرفها ".
فسبحان الله!! فلاحظ كيف يعتزُّ بلُغَته، وكيف يبني حضارة من خلال لُغَته.
ويقول لي هذا الأستاذ: " واللهِ في الجامعة في اليابان كنتُ قد بحثتُ عن كتاب بالإنجليزية لأقرأ فيه وما وجدتُ؛ بل كلها مترجمة إلى اللغة اليابانية ".
فأقول: سبحان الله!! دولة وثنية تواجه العولمة وتعود إلى أصولها وتؤصل. فأين نحن منها؟!
ونحن المسلمون لدينا دين وعقيدة وشريعة، بل بعض دول أوروبا مثل فرنسا وألمانيا ترفض عولمة أمريكا، وترفض عولمة اللغة الإنجليزية وحضارة أمريكا؛ لأنها لها أصولها وتراثها ولغتها، فإذا كانت هذه الدول نفسها تعود إلى أصولها وجذورها مواجِهةً لهذه العولمة، فما بالُنا نحن المسلمين؟!
إنَّ المنطلق الثاني الأساسي حقيقةً بالنسبة لنا نحن المسلمين في مواجهة هذه العولمة هو فعلًا أنْ نسارِع إلى أن نواجه عولمة الغرب بالتأصيل، والعودة إلى أصولنا وجذورنا وإلى ديننا، وليس بالانسياح أمام ثقافة هؤلاء الأعداء وفكرهم وعقائدهم.(3/105)
ثالثًا : الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية في مواجهة هذه العولمة :
ونحن نَعْلَم علم اليقين أن قوة العدو مهما كبرت وكثر عددها وعدتها، إلا أنها في ميزان الصراع بين الحق والباطل حين يكون المسلمون حاملين لدينهم الحق لا يمكن أن يُنظر إليها على ميزان المساواة، فتاريخُ المسلمين من أوله إلى آخره وانتصاراتهم كلها مبنيَّة على قلة المسلمين وضعفهم في العدد والعُدَّة وعلى كثرة عدوهم؛ فكذلك أيضًا بالنسبة لقوة هذه العولمة وتأثيرها؛ فإننا نستطيع أن نواجهها بأمرينِ:
• الأخذ بالأسباب الشرعية. • الأخذ بالأسباب المادية.
فربُّنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: ?وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ? [الأنفال: 60]، وبالإمكان أن نحول تقنية هذه العولمة بضوابط إلى أن تكون وسيلةً لنا نحن؛ لنقاوم هذه العولمة، ونعيد تأصيل حياتنا ومناهجنا.
رابعًا : مواجهة عولمة الغرب بعالمية الإسلام :
والحقيقةُ أنَّ هذا خيارٌ عالمي بالنسبة لنا نحن المسلمين؛ أَنْ نواجه عولمة الغرب بِأنْ نَنْشُر وندعو بكل الوسائل إلى عالمية الإسلام.
وهذه الدعوة يجب أن يُلاحَظ فيها الأمور التالية :
1- أنه لا مكان للقوميات والجاهليات في بلاد المسلمين :
فإنَّ أمةٌ الإسلام، أمةٌ واحدة، وهي لا يمكن أن تدعو إلى عالمية الإسلام في الغرب ما لم تكن أيضًا بلاد المسلمين يجمعها فقط رابطٌ واحد؛ هو رابط الإسلام، ومن هنا فإن الدعوات القومية والوطنية والمادية الجاهلية وغيرها هي بالفعل بالنسبة لنا نحن المسلمين تنتهي إلى أن يتفرد الغرب بعولمته من هذه الدولة إلى تلك الدولة؛ لتكون في النهاية أشتاتًا ممزَّقة بين أنياب الغرب الذي لا يَرْحم.
2- نحن ندعو إلى عالمية الإسلام في مقابل عولمة الغرب :
نُقَدِّمه ونحن نَثِق بهذا الإسلام وبهذا الدين، والإنسان الذي لا يَثِق بدينه لا يمكن أن يُقَدِّمه؛ فالمهزومُ الذي يرى عدوَّه هو الأقوى والمنتَصِر، ويُعْجب به وبحضارته وفِكْرِه لا يمكن أن يقاوِم أبدًا، فضلًا أن يقدِّم البديل.
ومِن هنا فلا بُدَّ أن ننطَلِق من الثقة في الذات؛ ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم تَحزَّبت الأحزاب على المسلمين من كل ناحية، فماذا فعل المسلمون؟ قال الله تعالى: ?وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا?[الأحزاب: 22]؛ فانظر إلى المنهج! فعولمة الغرب يجب أن تَزِيدكَ ثقةً في إسلامِكَ، وليس رَكْضًا ولَهْثًا أمام الزُّبالات من أفكار الغرب.
3- أن نقدم النموذج لتطبيق الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة :
ومِنْ ثَمَّ فلا مكانَ للعلمانية في بلاد العالم الإسلامي، فإذا أردنا أن نواجه هذه العولمة فعلينا أن نقدِّم النموذج الصحيح، وإذا صَدَقْنا - وأعني بذلك جميع فئات الأمة - في العودة لديننا وتحكيمه، فسَنُقدِّم - فعلًا – النموذج؛ لأن دين الله لا يمكن إلا أن يكون صالحًا لكل زمان ومكان.
4- اليقين بأن المستقبل للإسلام :
فالإسلامُ ينتشرُ وينتصر؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب وهم ينتظرون الأحزاب مُقْبِلين على المسلمين لِيدمِّرُوهم في ساعةٍ كان صلى الله عليه وسلم في أثناء حَفْر الخندق في قصة الصخرة يُبشِّرُهم بفتح كنوز كِسْرى وقيصر واليمن ، إنه يبيِّن لهم أنه مهما حُورِب الإسلام، ومهما تَحزَّب عليه أعداؤُه؛ إلا أن المستقبل للإسلام.
وواللهِ؛ إِنَّ هذا لَيُرَى اليوم رَأْيَ العين، فالإسلام يَنْتشر ويَقوَى في كل مكان.
ووالله؛ إنكَ لتَعْجب أنكَ لَتَجِدُ في بعض المسلمين ضعفًا وخَورًا وتنازلاتٍ في نفس اللحظة التي ينتصر فيها الإسلام وينتشر هنا وهناك. لِمَ؟!
لأنه دين الله الحق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث الصحيح أَنَّ رُوما ستُفْتَح(3)؛ روما عاصمة النصرانية سيَفْتَحُها المسلمون، وهذا خبرُ مَن لا يَنطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وقال في الحديث الآخر: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)(4).
إِذًا؛ ننطلقُ من خلال إدراكنا أَنَّ المستقبل للإسلام، وأَنَّه لا مستقبل للبشرية حقيقيًّا وحياةً حقيقيةً إلا بالإسلام.
5- أن نقدم عالمية الإسلام ونحن نُوقِن أنه هو البديل لعولمة الغرب وحضارته الزائفة:
إِنَّ حضارة الغرب هي حضارة تحمل في طَيَّاتها عواملَ انهيارها وفسادها، وما رأيُكم بحضارةٍ تقوم على الإلحاد، وعبادة الإنسان؟!
ما رأيكم بحضارة تقوم على الأخلاق النفعية؟!
فمُنْذُ خمسين أو ستين سنة يُطَنْطِن الغرب بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فلمَّا تعارضت مع مصالحه صار يَدْهَسُها بالأقدام!!
فهل هذه حضارة تقدِّم للعالم ؟!
لا يمكن.
ما رأيكم بحضارة الانحراف الخُلُقي والإيدز؟!
حضارة يُقِرُّ البرلمان - الذي يُمَثِّل الشعبَ - الشذوذَ الجنسي، ويضع له نظامه، ويحترم أصحابه!!
حضارة تُقِرُّ بقضية الخيانة الزوجية بين الطرفين!!
حضارة عُرْي!!
حضارة مادة!!
صحيحٌ أنَّ لها عنوانًا مظهرِيًّا وهو: (القوة سياسيةً كانت أو عسكريةً)؛ لكنها في داخلها يَنخر فيها الفسادُ، ولا أَسْتثني من ذلك دول أوروبا كلها، ولهذا لا يَشْعر بهذه الحقيقة إلا المسلمُ الذي أَسْلَم من بلاد أوروبا؛ هو الذي يُحِس بالفارق الكبير بين ما يقرأه ويُحِسُّه ويشعره عن الإسلام، وبين الحضارة الغربية بكل ما فيها من مظاهر جوفاء خَدَّاعة.
يُخْبِرني أحدُ الإخوة ويقول:
" بعضُ البَعثات الدَّعَوية في فرنسَا كان لهم جهودٌ، فأَسْلَم على يديهم رجلٌ مفكِّرٌ فرنسيٌّ، ويقول بأنه رجلٌ فاضلٌ وأَسْلم، فيقول: دَعَوْناه إلى إحدى دول الخليج للزيارة، فزَارَنا، ووَضَعْنا له حفلةً ضخمةً في إحدى الصالات حتى نلتقي به ونسأله، فجَهَّزْناها وحَضَر الحاضرون، وجاء هذا الأخُ على المنَصَّة وبجانبه المقدِّم، وإذا به يقول للمُتَرْجِم: قل لهؤلاء الحاضرين لا سلامَ عليكم ولا رحمةً ولا بركةً، فتَلَعْثَم المترجِم!!
فالأخوة قد فَرِحوا به ويريدون أن يسمعوا منه ويسمع منهم، وإذا به يُجابِهُ بهذه الكلمة الغريبة!!
فأعاد عليه مرةً ثانيةً وقال له: قل لهم أقول لكم لا سلامَ عليكم ولا بركةً ولا رحمةً، فتَلَعْثَم، فقال: قُلْهَا؛ لا تتردد، أنا أعني ما أقول، فقال : أخوكم في الله يقولُ لا سلامَ عليكم ولا بركةً ولا رحمةً، فضَجَّت القاعة؛ كيف يحدث هذا؟!
ولكنه سُرْعانَ ما تكلَّم وقال لهم: اسمعوني، أنا جِئْتُكم من بلاد الغرب وهداني الله للإسلام، أين أنتم منذ عشرين وثلاثين سنة وأربعين سنة؟!
أين أنتم ومعكم هذا النور المبين؟! لماذا لا تقدموه لنا؟!
أنا ماتت أمي، وماتت أختي وأقاربي على غير الإسلام، فأين أنتم من هذا النور؟
لماذا لا تقدِّمُونه لنا في بلاد الغرب؟! "
إِنَّ حَرْبَ الغرب للمسلمين وتشويههم، يمكن أن نَنْفذ من خلالها، لكن بشرط أن نُقَدِّم هذا الإسلام للناس حضارةً ليس لها بديل.
في عالم اليوم حضارة قابلة للانهيار؛ لأنها منهارة من الداخل، فالبديل ما هو؟
البديل لن يكون إلا بالإسلام؛ لأنه - فعلًا - دِينُ الله الذي ارتضاهُ، دينُ العبودية للواحد القهار، دين السعادة للإنسان في الدنيا وفي الآخرة.(3/106)
وهو - واللهِ - لَدَوْرٌ عظيم بالنسبة لنا نحن المسلمين، يجب أن يُنَبِّه له العلماء والدعاة ورجال الصحوة وطلاب العلم، وكلُّ مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة يدرك ويعلم أنه على ثَغْرة من ثغور الإسلام.
فاللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبَلِك في ظل عولمةٍ طاغية لا تَرْحم.
أسأل الله تعالى أن يُعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأنْ يجعلنا من أنصار هذا الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المحتويات
الموضوع الصفحة
مقدمة ........................................................................
تعريف العولمة .................................................................
خطورة العولمة في واقعنا المعاصر ................................................
العولمة وأذرعها الخمسة ........................................................
الأول : الذراع العسكري .....................................................
الثاني : الذراع السياسي .......................................................
الثالث : الذراع الاقتصادي ....................................................
الرابع : التقني العلمي .........................................................
الخامس : العقدي والثقافي والفكري ............................................
آثَارُ العَوْلَمة في الجَانِب العَقَدي والثَّقافي والفِكْري ...............................
1- الانْحِراف العَقَدي ........................................................
2 - الانْحِراف في النُّظُم والتَّشْرِيع ............................................
3- الانْحِراف الأخْلاقِي .......................................................
العَوْلَمة والدَّعَوات البَاطِلة .....................................................
دعوى " حقوق الإنسان " ....................................................
دعوى " تقارب الأديان العالمية " ...............................................
موْقِف المجتمعات مِنْ هَذِهِ العَوْلَمَة؟! ............................................
الطَّرْحُ المُعاصِر " اسْتِسْلام المَغْلُوب "!! .........................................
مَوَاقِفُنا تِجاهَ " العَوْلَمَة " ......................................................
المحتويات .....................................................................
(1) يُقْصَد : حرب (5 / يونيو / 1967) .
(2) مجموع الفتاوى( 16/300) ، ودرء التعارض(3/345) .
(3) [صحيح] أخرجه أحمد [2/176]، والدارمي [1/126]، وابن أبي شيبة في المصنف [2 /47/ 153] وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة [1/33/4] .
(4) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند (4 / 103) ، والحاكم في المستدرك (4/ 477) وغيرهما من حديث تميم الداري رضي الله عنه ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي بقوله : على شرط البخاري ومسلم .
=============
تونس ..والحرب الشرسة ضد الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
تونس ذلك البلد الجميل الهادئ الساكن في غرب أفريقيا , تطل برأسها داخلة في البحر المتوسط لتقول للناس تعالوا تأملوا في خلق الله هنا , فهناك بيئة من أجمل ما خلق الله .
عاصمتها في نقطة وصل رئيسة بين أوروبا وأفريقيا في مسالك الطرق البحرية , فالنتؤ الذي تقع عليه تونس ويطل على جزيرة صقلية يفصل البحر المتوسط إلى شرق وغرب .
تلك البقعة الجميلة التي تعرف عند المؤرخين المسلمين باسم أفريقيا , فإذا قيل فتحت أفريقيا ( مجردة هكذا ) فمعناه تونس .
في سنة خمسين من الهجرة دخل الإسلام هناك على يد عقبة بن نافع ثم حملة حسان بن النعمان سنة ( 84) الذي وطد الحكم بافريقية وجعلها مستقلة عن مصر , مع أن مصر فتحت قبلها بسنين .
تميزت تونس بتاريخ عريق جداً يعو لحوالي ثلاثة الآف سنة وتنازع عليها الرومان في روما مع أهلها الأصليين , وفعلا كانت الحرب بينهم سجالاً ( فيوم لك ويوم عليك ) .
كانت المدينة العريقة هناك هي ( قرطاج ), وكانت من الشهرة بحيث أنهم استولوا على البحر الأبيض المتوسط وأحكموا نفوذهم عليه , مما أثار روما وقامت بسبب ذلك الحروب الطويلة التي عرفت في التاريخ باسم ( الحروب البونية) والتي حاول الرمان الرحماء !! بتدمير تلك المدينة العريقة .
مرت الليالي والدهور وإذا تونس تدخل تحت الحكم الإسلامي في وقت مبكر بل وتصبح منطلقاً لجيوش الإسلام ومنبعاً علمياً رئيساً بعد إنشاء مدينة القيروان التي أسسها عقبة بن نافع الفهري , وتصبح بعدها القيروان من أهم مدن الإسلام في تلك النواحي علماً وحضارة وتجارة , كل ذلك بعد منتصف القرن الأول الهجري .
عرفت تونس الجوامع العلمية مبكراً مثل جامع الزيتونة الشهير الذي بني في حوالي سنة ثمانين هجرية أي في القرن الأول ( قيل أنه نسبة لشجر الزيتون ) وأصبح أهلها من أكثر الناس نفعاً في مجال العلوم الشرعية , فظهر منها علماء الشريعة مثل الطاهر بن عاشور من المتأخرين , بل إن علم الإجماع كان ابرز علمائه في العالم هو التونسي ابن خلدون الذي لا يخفى على باحث .
فتونس إذاً إسلامية أولاً عربية ثانيا ً , مهد بطولات , ومنبع فضلاء , ودوحة فاضلة من الجامعات العريقة التي نشرت النور في العالم بأسره .
مثل أي بقعة في العالم تداول السلطة أقوام وممالك هناك فقامت حكومات ودويلات , منها دولة الأغالبة التي حكمت حوالي مئة وعشر سنوات (184- 296)ثم الدولة الفاطمية ( 296- 362) وهكذا تعاقبت الحكومات الصنهاجية ثم الحفصية حتى الخلافة العثمانية (981- 1298)
ثم قدر الله أن تضعف الدول الإسلامية عموماً وتدخل تونس تحت الحكم الفرنسي والحماية المقيتة (هـ 1398- م1881) بغطاء من ملوك ضعفاء لايملكون شيئاً لنفوسهم فضلاً عن أن يستطيعوا نفع أمة بأكملها !!, عرف هؤلاء الملوك باسم البايات مفرد باي .
بعد أكثر من ثمانية وسبعين سنة وبحيلة ذكية خرج الكافر الأصلي ليحل محلة الكافر المرتد ( كما أفتى بذلك جمع من علماء الإسلام فيه ) وهو المدعو الحبيب بورقيبة .
رضيت فرنسا أن يكون بورقيبة حاكماً بتمثيلية صدقها السذج من العرب سنة (1956_1375) دخلت بعدها البلد الإسلامية في موجة عارمة من التغيير والتزييف والعبث بمقدرات الأمة و الاستهتار بالشريعة الإسلامية , بل ونبذها ومحاربتها بكل وسيلة .
في تمسك ( عادي طبعاً لحكام العرب ) بالسلطة الإنتخابية التي ينص دستورها الانتخابي على أن يتولى السلطة رئيس ينتخب لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرتين !!!, بعد سنوات معدودة قرر بورقيبة أن ينصب نفسه رئيساً مدى الحياة بدستور جديد ينسخ القديم وذلك سنة ( 1975).
أعلن أبو رقيبة أنه لابد من وجوب إلغاء الصيام عن العمال لأنه يقلل الإنتاجية !! وأنه لابد من خلع الحجاب في تونس لأنه يؤخر التنمية بزعمه , وفعلاً قام ( كما هو موجود في شريط فيديو بث على الشعب المقهور) بنزع الحجاب بيده القذرة أمام الملأ وهتاف المجرمين وقهر المظلومين .
منع بورقيبة الهالك صلاة الفجر للشباب , وبدأت المخابرات تلاحق من يصلي باستمرار واعتبار ذلك من الإرهاب الذي ينبغي قمعه ومحاربته .(3/107)
من أخطر ما فعل أن تكلم في مؤتمر عام في سنة (1394)هـ زعم فيه أن القران متناقض ومشتمل على بعض الخرافات مع وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إنسان بسيط يسافر في الصحراء كثيراً ويستمع للخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت .
كان هذا الخطاب الذي نشر على سلسلة مقالات بعد ذلك كارثة بكل المعاني المعروفة .
حتى قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في ذلك : ( وقد أفزع هذا المقال كل مسلم قرأه أو سمعه , لما اشتمل عليه من الكفر الصريح , والجرأة على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله من مسؤل دولة تنتسب إلى الإسلام ) الفتاوى (1/84).
بعدها أرسل عدد من علماء العالم الإسلامي برقية يطلبونه الإعتذار والدخول في الإسلام مجدداً لكنه رفض وأصر على ردته وعناده وكفره وكانت الرسالة موجهة من المشايخ :
ابو الحسن الندوي أمين العلماء في الهند ,
وعبد العزيز بن باز العالم المعروف ,
وحسنين مخلوف مفتي مصر ,
وابوبكر جومي رئيس قضاة نيجيريا ,
ومحمد أمين المصري .
ومما جاء فيها ( فالواجب عليكم المبادرة إلى التوبة والعودة للإسلام , وإلا وجب عليكم المبادرة إلى التكذيب الصريح , ونشره في العالم بجميع وسائل النشر , وإعلان عقيدتكم الإسلامية ....وإن عدم التكذيب دليل على الإصرار على الردة ومثار فتن لايعلم عواقبها إلا رب العالمين ..).
وهكذا كأن لم يسمع شيئاً مع اشتعال نار الردود في صحف العالم الإسلامي , ولم يبارك مقالته إلا الشيوعيون العرب والمنافقون والمنافقات كما قال الله تعالى ( والمنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض) .
في عهد هذا المأفون الهالك إمتلأت السجون بالعلماء والمصلحين ( ولازالت ), وبدأت رياح الإلحاد الصارخ تدب على وجه الأرض , وتطاولت أعناق المفسدين و وبدأت الحملة على كل ما هو شرعي وديني .
يرى بورقيبة أن سبب التخلف هو التمسك بالإسلام , ولما حارب الإسلام لم يحدث أي تقدم أصلاً , فكم دولة تقدمت مثل ماليزيا وأندونيسيا , لم تفعل مثل ما فعل . لم تحرز تونس إلى اليوم أي تميز في ناحية المخترعات والصناعات , بل على العكس تزداد الحالة سوء بسبب القهر والحصار الفكري والشرعي على الناس .
بعد هذا العناد وبسفن حربية فرنسية حملت الفارس الجديد وصل الرئيس الجديد ( علي بن زين العابدين ) وهو النائب السابق ورئيس الإستخبارات في حكومة بورقيبة , ليعلن عزل بورقيبة وطرده من الحكم لكبر سنه وعجزه عن إدارة شئون الدولة , وذلك سنة ( 1987م ) .
وبذلك بدأت مرحلة الحرب العظمى على الهوية المسلمة من جديد , وبأسلوب استخباراتي أكثر صرامة وأكثر ضراوة .
عشرات الآلاف من المساجين بحجة حب الإسلام أو تدريس الدين !!! مما جعل كثيراً منهم يخرج للدول الأخرى هرباً بدينه .
منع الحجاب وفصل كل طالبة أو معلمة في مراحل التعليم العام والعالي ترتدي الحجاب وبقوة القانون !!!.
توحيد الأذان عن طريق المسجل .!!!
توحيد خطبة الجمعة !! وتكون من الدولة !!.
الاستهتار بشعائر الدين علناً والسماح لكل شيوعي واشتراكي وملحد بقول ما يريد بحجة الحرية التي يستحقها كل أحد سوى أهل الدين الإسلامي !!.
شتم الإسلام والمسلمين , وعدم السماح بالرد على تلك التهم الفظيعة !!.
يوم الجمعة لا يوجد إجازة عمل والصلاة لا تكون إلا بعد نهاية الدوام قبل صلاة العصر بقليل .
منع صلاة الفجر للشباب إلا ببطاقة ممغنطة وتصريح من الحكومة .
بل ومن المفارقات أن الحكومة التونسية تمنع وتشدد على الحجاج بعدم سماع مواعظ الخطباء في موسم الحج في مكة وتجند الإستخبارات لذلك , وتمنع دخول الواعظين إلى مخيمات الحج التونسية , وتمنع نشر أي كتاب أو نشرة إرشادية لهم مهما كان عنوانها أو موضوعها !!!.
يسكن تونس حوالي عشرة ملايين من البشر يتمتعون بغاية الحرب على دينهم وعقيدتهم , الصلاة ممنوعة اليوم إلا ببطاقة ممغنطة !!! ( أي تدخل سافر في الحريات مثل هذا (.
السؤال المطروح الآن :
أين منظمة الدول العربية ؟؟.
أين منظمة المؤتمر الإسلامي ؟؟ وجهودها في إيقاف هذه الحرب السافرة .
أين علماء العالم الإسلامي الذين تحركوا لقضية فتاتين في فرنسا منعا من دخول المدرسة بحجاب !!؟؟؟ .
ووزير ما يسمى بالشؤون الدينية في تونس يقول : (إن الحجاب دخيل ونشاز وغير مألوف على المجتمع التونسي ) وقد توعد قاتله الله باجتثاثه من جذوره واصفاً إياه بلباس طائفي وبغيض ... كبرت كلمة تخرج من أفواههم .
أين خطباؤنا عن نصرة المسلمين هناك ؟؟.
أين البيانات التي تستنكر وتشجب ما يحصل هناك ؟؟.
أين المسيرات التي نراها وتحركها الجماعات الإسلامية هنا وهناك لنزع حجاب فتاتين , وأمة بأكملها تتعرض لنزع الحجاب قسراً .؟؟
هل حقاً نحن أدوات للعب السياسية !!!!! .
هل نستطيع كتابة بيانات استنكار توقع من العلماء والكتاب والوجهاء قبل أن يعمنا الله بغضبه , هل نستطيع أن نبلغ سفارات دولهم استنكارنا وغضبنا من ذلك !!!!!!..... هل سيتحرك علماؤنا وخطباؤنا وكتابنا وشعراؤنا لذلك ......!!.
هل ستلحق تونس بأسبانيا وتسقط كما سقطت الأندلس ؟؟ ( أسأل الله أن يحيها ويحمي أهلها ) ...
هل سيستمر سكوتنا عن كل هذه الأمور الفظيعة هناك ..... اللهم لا تفضحنا ولا تؤاخذانا يا رب بسكوتنا عن ذلك .....
===============
غزوٌ من الخارج أم من الداخل ؟
لا غرابة أن نرى أو نسمع أو نشاهد شيئاً من عداوة الكفار، تختلف أديانهم وأهدافهم، ولكن المستغرب حقاً أن نُهدد من داخل بيوتنا، وأن تُشن حملات ظالمة وجائرة على ديننا وقيمنا من أبناءِ جلدتنا، وممن ينتسبون إلى إسلامِنا، أولئك لا بد من الحذرِ منهم والوعي بمخططهم وأهدافهم، ومعرفة منطلقاتِهم، والتعرفِ على أساليبهم في المكرِ والمخادعة، ورسم معالم للموقف منهم، وحماية البلاد والعباد من آثارهم، أجل، لقد بليت الأمةُ بالمنافقين في سالِف تاريخها وعزِّ سلطانها، ونجح المسلمون حينها في كشفِ هؤلاء وتجاوزوا محنتهم، حتى عاد هؤلاء والمنافقون يعتذرون ويحلفون وهم كاذبون، واليوم تتجدد النازلةُ بالمسلمين بهؤلاء، وتتسعُ دائرةُ العداوةِ، ويكثر الإرجافُ والاستهزاء، وتُبلى الأمةُ بهؤلاء المعوِّقين، ويتكرر الموقفُ المسارعُ للكفار، (( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ )) (المائدة:52).
ويكثرُ اللمزُ بالمطوعين والسخريةُ بهم وبإسلامهم، وهؤلاء الصنفُ من الناس يركبون كلَّ موجة وكلَّ وسيلة تُحقق لهم أهدافَهم، فهم قوميون - مع ضيق عطن القومية- حين يشتد عودُ القومية، ثم تراهم ينقلبون على القومية- ولو كانت في سبيل الدفاع عن الحدود والحرمات - وينسلخون منها كما تنسلخ الحيَّة من جلدها، وربما بلغ بهم التخلي عن ( الهوية ) حداً مجَّدوا معه الغُزاة ورحبوا بالمستعمرين، أيُعقل هذا من مربي ؟!!
أفا يقبل هذا الترحيب بالمستعمر الكافر من مسلم ؟!!(3/108)
ولولا كلماتُ القوم ما صدّقنا، وهذا أحد المحسوبين علينا ودون خجل يقول: ( إنني من أكثر الناس تفاؤلاً بقدوم أمريكا إلى العراق، وعندي أسبابٌ عديدةٌ، أولها إن أمريكا لم تدخل بلداً إلا وحسَّنت من أوضاعِه، إلى أن يقول: إنني واثقٌ أن أمريكا ستلعب في منطقتنا دورَ المعلمِ الحازم الذي يريد النجاحَ لتلاميذه حتى لو تطلب ذلك درساً قاسياً، إن العالم العربي لن يتغيَّر من تلقاءِ نفسِه، لذلك أقول: أهلاً بالنموذج الأمريكي الحرّ، (( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) ( البقرة:216) .
جريدة الشرق الأوسط 3 / 4 / 2002 م ، عبد العزيز الدخيل ) ..
لست أدري كيف تجرأ الكاتب هذه الجرأة، وكيف تجرأت الشرق الأوسطُ على نقل مقال المسوّق للاستعمار ؟
إننا أمام شريحةٍ في المجتمع غريبةٍ في فِكرها، متطرفةٍ في طرحها، جريئةٍ في استفزازها، ومهما تعددت مُسمياتُ هؤلاء أو اختلف الناسُ في تصنيفهم بين عَلماني وعَصراني ، وعقلاني أو حداثي أو مستغرب، فالمهم أن نعرف انتماءَهم وجذورَهم الفكرية، ومن اعترافاتهم نَدينهم، وحتى لا نتجنى عليهم هذا أحد أصحابِ هذه المدرسةِ يربط بين ثقافتهم وثقافة الغرب وتاريخهم، ويقول: إن الحديث عن حَداثةٍِ عربية مشروطٌ تاريخياً بوجود سابق للحداثة الغربية، وبامتداد قنواتِ للتواصل بين الثقافتين » [ القائل : محمد برادة، والمصدر د. عبد الرحمن الزنيدي: العصرانية في حياتنا الاجتماعية ص 27 ] ..
و( العلمانية ) التي يُوصفون بها أحياناً، لا يكتفون بالانتماء إليها، بل ويبلغ الهوسُ بهم وبها حداً يتهمون ( القرآن الكريم ) بالعلمنة ؟ ويقول قائلهم: إن الدراسة المُعمّقةَ للقرآن الكريم تُبين أنه عَلماني المنحى، وإنما حوَّله المسلمون إلى وجهة دينية ؟! [ القائل : حسن حنفي ، انظر د. الزنيدي : العصرانية ص 44 ]
وهؤلاء القوم لا يكتفون بالانخداع والمخادعةِ لمنهج التغريب بل يصرون - مع ذلك - على نقد المناهج التي قام عليها التراثُ الإسلامي ويقول أحدُ كُبرائِهم:
« كي نؤمن بفعالية المنهج العلمي الغربي لا بد أن ننقد المناهجَ التي قام عليها التراثُ عند المسلمينَ قيمتَها في دائرة المنهجية القائمةِ اليوم » ؟ [ محمد عابد الجابري ، نقل العقل العربي ، د. الزنيدي ، العصرانية ص 44 ]
إن نظرتَهم تلك للإسلام والقرآن، وارتباطَهم بحضارةِ الغرب وثقافتهِ، وتسويقَهم لفكرِه وترحيبَهم بغزوه - كلُ ذلك يجعلنا نتبين هويّة القوم وجذورَهم التاريخية، فلا ننخدع بطروحاتِهم الزاعمة للإصلاح، ولا نُغَرَّ بمقدماتِهم القائلة « في ضوء شريعتنا الإسلامية » أو « وفيما لا يتعارض مع ثوابتنا وقيمنا » أو من مثل قولهم « في إطار قيمِ المجتمعِ ومبادئه » إنها عبارات خادعة، وذرٌ للرماد في العيون ، واستغفالٌ للبسطاء !
أجل لا بد أن نعيَ وندرك ونتدارك الأمرَ قبل فواتِ الأوان، ففي مجتمعنا ناقوسُ خطر، وحصونُنا تُهدد من داخلها، وفينا سما عون لهم، بل ومروِّجون لبضاعتهم ومستبشرون بغزوهم، فهل بعد هذا من خطر !!
إنَّ هذه الشريحةَ في مجتمعنا- وإن قلَّ عددُها- لها امتدادٌ خارجي، ولذا تراهم ينشطون أثر حينما يقترب أسيادُهم من بلاد المسلمين، وتراهم يرقصون على الجراح النازفة ويتلذذون بالمآسي النازلة ، وبالتالي فهم لا يهددون هويتنا الإسلامية فحسب، بل ويهددون كياننَا الاجتماعي والسياسي، ويطمع الغرب ويُراهن على استخدام هؤلاء في فرصِ سلسلاتهم في الشرق الأوسط ، فقد ذكر مسؤولٌ في أحد مراكزِ البحث في ( واشنطن ) أن المركزَ يعمل لاختيار عددٍ من الشخصيات الإصلاحية، ودعوتها إلى واشنطن للتعاون معها - في سبيل الترويج لمبادرة أمريكا لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط خلال الأشهر القادمة، وأن تلك الشخصيات ستحصل على حمايةٍ ضمنية من خلال حصولها على دعمٍ سياسي وإعلامي سيفرضها على الساحةِ السياسية
( جريدة الحياة ) .
وهؤلاء ومرةً أخرى بلا حياءٍ ولا خوفٍ يقولون مستبشرين ومبشرين بالحملة الأمريكية على بلاد المسلمين: « وإذا كانت الحملة الفرنسية على مصر ومشرقِ العرب، أو الصدمة الأولى قبل قرنين من الزمان تقريباً - قد قدمت العرب للحداثة، وقدمت الحداثة للعرب، فإن الحملة الأمريكية سوف تقدم العرب للعولمة، وتقدم العولمة للعرب على أوسع نطاق »
( تركي الحمد ، الشرق الأوسط ) ..
إنهم باختصار خطرٌ يتهددنا من الداخل، وخَطرٌ يُهيئ السبلَ للمستعمر، ويبشرَ ويمهد الطريق للغزو الخارجي، ولا غرابة بعد هذا أن تكون حملاتُهم الشعواءُ ضد مناهِجنا الدراسية، ومطالباتُهم المتكررة بالتغيير، وإذا حققوا شيئاً من نجاحاتهم على حين غفلةٍ منا فهل يستطيعون تحقيقَ نجاحاتٍ أخرى ؟ .
إنهم لا يحملون على علماء الأمة ورموزِ الصحوةِ الإسلامية، بل يهددون المجتمعَ بأسره، فإذا صدرت فتوى معتبرةٌ شنَّوا على المفتي حرباً لا هوادةَ فيها كما حصل مع المفتي في بيانه عن فتوى جده الاقتصادي، وإذا نجح نشاط إسلامي أجلبوا عليه، واتهموا القائمين به - كما حصل في تعليقهم على مخيم جُدّه الرسمي .
المرأة لم تسلم من مكرهم، فهم يريدونها سافرةً مختلطة، وغايةُ أمانيهم أن تكون المرأة المسلمة كالمرأة الغربية في ضياعها وحيرتها وشقائها ؟
والإعلام في بلادنا خرجوا به عن حدود السياسة المرسومة، وتجاوزوا بنودَه وموادَه المقررةَ، وتربعوا على ناصيته فلا يُتيحون الفرصةَ إلا قليلاً لمن يخالفهم وينقدُ مسارَهم، أو يطرح طرحاً معتدلاً ونزيهاً.
بل زادوا وتجرؤا على نقدِ السياسات العليا للدولة ليخلخلوها ويطرحوا البديلَ عنها، كما حصل من أحدهم في نقد السياسة العليا للتعليم، حينما استغرب أن يكون من أهداف ( المرحلة المتوسطة ) : حفزُ همةِ الطالب لاستعادة أمجادِ أمتِه المسلمة التي ينتمي إليها ؟ واستغرب كذلك أن تُخصص سبعة أهداف ( في المرحلة الثانوية ) للجوانب الإسلامية ؟ [ جريدة الوطن 17 شوال 1424 هـ عدد 1168 ] ..
غريب هذا الطرح في زمنٍ باتت الأممُ تعتزَّ بهويتها - وتُعمق الانتماء لفكرها في مناهج أبنائها، ولكن الأغربَ أن يُسمح لهذا الطرح الفجَّ - وأن يُغفل عن الأهدافِ من ورائه ؟ وأن تزيد لهجةَ هؤلاء ليسوِّق للفكرِ العفن القادم من الغرب، وحين لا يخفى أن الغرب باشر غزوَ العرب والمسلمين إعلامياً عبر إذاعة ( سوا ) ومجلة ( أهلاً )، وأخيراً أطلقت الإدارة الأمريكية قناة ( الحرّة ) الفضائية الإخبارية وباللغة العربية - فقد يخفى على البعض أن بعضَ هؤلاء المرجفين المطبلين سَخر في مقالةِ له باللذين يرفضون ( قناة الحرّة )، وقال : أمةٍ تخشى من محطةٍ فضائية مهما كان لونَها ومصدرها هي أمة خائفةٌ ومترددة ، ودعا إلى النظر إلى هذه القناة باعتبارها إضافةً جديدةً للحرية التي نحتاجها مثل حاجتنا للهواء النقي، وفي المقابل يرفضُ هذا المُطبل كلَّ ما تبثه القنوات الفضائية إذا كانت ضد الهيمنة الأمريكية .
أليس هذا بذلٍ وهوان وانتكاس في المفاهيم والقيم ؟! [ د.نورة السعد ، الرياض ، 28/12/ 1424 هـ ](3/109)
إذاَ نحن أمام هجمةٍ شرسة على ثقافتنا وقيمنا، وأمام تسويقٍ مفضوح للبضاعة المزجاةِ لأعدائنا، تتكئ هذه الهجمة على الإعلام، وتسخر من مناهجِ التعليم، وتسعى جاهدةً لإفسادِ المرأة ، وترشق بسهامها الموتورة أهلَ الخير، ولا يسلم من نقدها المسؤولون والمنظرون للسياسات العليا في البلاد ، إنها خلخلةً للكيانِ كله، واستهدافٌ للمؤسسات التربوية والدعوية، وتمهيدٌ للغزاة، ومجاهرةٌ بالفسوق وإعلان للتطرف، وتلويحٌ للإرهاب .
فكيف يكون الموقف، وبماذا يُنقذ العباد، وتسلم البِلاد ؟
1- لا بد أولاً من الوعي واستشعار هذهِ المخاطر، ومعرفة أصحابِ اللحن في القول، ورصد التوجهات، والتعرف على الصِّلات والارتباطات.
2- ولا بد ثانياً من النصح والمصارحة لهؤلاء، فقد يكون من بين هؤلاء مُغترٌ فيعود إلى رشده، أو جاهلٌ مستغرق في خيالاته، وتجاربُ من سبقه توقفه على الحقيقة، وهذه تجربةٌ شجاعةٌ يقول صاحبها - بعد أن هداه الله - « اندفع الفكرُ المتغرب يُشهر حرباً شاملةً على الإسلامِ وأهله ، ظاناً أن في ذلك تحريراً للشعب وللمرأة ، وإطلاقاً للعقل، ولكنَّه ما درى أن تلكَ الحربَ تأتي بنتائج عكسيةٍ تماماً، إذا بالشعب يُحطِّم ويُشل، وإذا بالمرأة تتيه وتضيع، وإذا بالعائلة تتمزق وتتخبط، وإذا بالعقل يصبح مغلولاً إلى الغرب، وإذا بالاستقلال تبعيةً ، وإذا بالتقدم الاجتماعي مزيداً من التخلف ، ثم وصلت الأمور إلى أن يُعلن ذلك الفِكرُ نفسَه أننا نعيش زمنَ الانحطاطِ العربي ؟! [ منير شفيق ، الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر ص 148، 149 / عن د.الزنيدي ، العصرانية س 47 ]
3- ولا بد من تكاتف الجهود مع كل مخلص لحماية البلاد والعباد من خطرِ هؤلاء، مع اعتبار أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن » واعتبار أن المركبة واحدة والسلامةُ للجميع .
4- لا بد من مشاريع عمليةٍ، ومثابرة في الإعلام والتعليم والتربية والتوجيه والدعوة، وأن تكون شاملةً للمرأة والرجل، والطفل والكبير والمثقف والعادي.
5- لا بد من وضع حدٍ للنقد الصارخ لسياسات الدولة العليا، وفي مقدمتها السياسةُ التعليمية والإعلامية، وإن الإصلاحَ مطلب ولكن تجريدها من عمقها الإسلامي وأهدافها العليا أمرٌ مرفوض .
6- الارتقاء بمستوى وعي الناس عموماً والخيرين خصوصاً، والجرأة في تصحيح الأخطاء وتطوير الأعمال والمؤسسات حتى تكون المشاريع الإسلامية على مستوى التحدي والقدرة على الجذب والتأثير.
7- ربط الجسور مع كل جهدٍ خيِّر ، والتعاون مع كل عاملٍ مخلص، وأهمية التواصل مع الآخرين، وعدم الانكفاء على الذات، فمظلة الدين واسعة، وهاجسُ حماية الوطن من المؤثرات الخارجية والداخلية هدف يشمل شريحةً كبرى في المجتمع .
8- تعميم توعيةِ الناس بالانحرافات الفكرية والأخلاقية في وسائلِ الإعلام عموماً، والتنبيه إلى مخاطرِها الواقعة والمستقبلية، واستنهاض الجميع للاحتساب على المنكر والأمر بالمعروف، فليس أضرَّ على الناس من قومٍ يُلبسون عليهم دينهم ويزيفون وعيهم ؟
9- التواصل مع ولاة الأمرِ من الأمراء والعلماء وأهل الفكر، وأصحاب المال والجاه والمسؤولية، والتشاور معهم في وضعِ حدٍ للمبطلين .
10- التعامل مع الأحداث والمستفزات بحكمةٍ وعمق، فلا نُخدع ولا نُستفز، ولا نتعرف بردود الأفعال، ولا نقابل الخطأ بخطأٍ آخر.
==============
موجة التقليد والتشبه التي أصابت المسلمين
مع ظاهرة التدين العالمية التي لم تعد قصراً على المسلمين وحدهم تجتاح العالم الإسلامي موجةٌ من التقليد الأبله والتشبه المذموم، ويكادُ أفرادٌ وجماعاتٌ من المسلمين أن يفقدوا هويتهم الإسلامية، وتذوب شخصياتُهم في شخصيات الآخرين فالهيئة يُداخلها التشبهُ بالكافرين إذ يُحلق ما حقُّهُ الإعفاءُ ويُعفى ما حقه الإحفاء في الشرع المطهر، قال عليه الصلاة والسلام: (( أَعْفُوا اللِّحَى ، وجزوا الشَّوَارِبَ ، وَغَيِّرُوا شَيْبَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَالنَّصَارَى )) [1]
والملبسُ يطغى عليه الإسبالُ المحرم، أو تبدوا لقصرِه العورةُ المأمور بسترها، أو يُفصَّلُ على هيئة لباس غير المسلمين فتدعو المشابهة شكلاً إلى عدم المخالفة في الأمور الأخرى، والزينة فيها تعدٍ وتجاوزٌ فالذهبُ يتختم به بعض أبناء المسلمين، ومعلومٌ نصوصُ الشرع في تحريم لبس الذهب للرجال وإباحته للنساء بشكل عام ، وفيما يخص التختم: (( رَأَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ وَطَرَحَهُ وَقَال : يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ ، فَقِيل لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ ، قَال : لا وَاللهِ لا آخُذُهُ أَبَداً وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)) [2].
وهكذا يكون التأسي وكذلك يكون الإتباع .
والأمرُ أدهى وأمر .. وفي مضمار التميع وغياب العزِّة والهوية الإسلامية حين يُحتفي بالكفار ويُقدّر الفُجَّار ويُستهانُ بالمسلمين ويُتهم الأخيار ، وكل ذلك خلافُ هدي الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام : ((لا تَبْدَءُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلامِ، وَإِذَا لقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُ إِلى أَضْيَقِهِ)) [3].
وأخطرُ من ذلك مشاركتهم في أعيادهم وحضورُ احتفالاتهم وتهانيهم بمناسباتهم التي لم يُنْزل الله بها من سلطان، قال تعالى في صفات عباد الرحمن : (( وَالذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) (الفرقان: من الآية72).
قال مجاهدٌ والربيعُ بن أنسٍ والقاضي أبو يعلى والضحاك -في تفسيرها- : إنها أعيادُ المشركين(ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم ص181).
وعن أنس رضي الله عنه قال: (( قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وَلهُمْ يَوْمَانِ يَلعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَال : مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ ؟ قَالُوا : كُنَّا نَلعَبُ فِيهِمَا فِي الجَاهِلِيَّةِ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلكُمْ بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الفِطْرِ )) [4].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله-: ( والمحذورُ في أعياد أهل الكتابين التي نقرّهم عليها أشدُّ من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها، فإن الأمة قد حُذِّروا مشابهة اليهود والنصارى وأُخبروا أن سيفعلُ قومٌ منهم هذا المحذور بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلاّ في آخر الدهر عند اخترامِ أنفسِ المؤمنين عموماً، ولو لم يكن أشدَّ منه فإنه مثلُه على ما لا يخفى، إذ الشرُّ الذي له فاعلٌ موجود يُخافُ على الناس منه أكثرُ من شرٍّ لا مُقتضى له قوي) [5] .
أما الفاروق عمرُ رضي الله عنه فقد قال: ((إياكم ورطانة الأعاجم ، وأن تدخلوا على المشركين يومَ عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تنْزل عليهم)) [6]
وفي سبيل التشبه الظاهري بالكافرين تأكلُ وتشربُ فئامٌ من المسلمين بالشمال وكأن الأمر عادةٌ من العوائد ليس فيها ملام، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يُحذر من هذا ويقول: (( لا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ)) [7].(3/110)
وتُستبدل تحيةُ الإسلام (السلامُ عليكم) بأنواع من التحايا لا تبلغُ في كمالها ولا في حسنها مبلغَ تحيةِ أهلِ الإسلام هذا فضلاً عن أجر هذه، ووزر تلك إذا قُصد بها التشبهُ بالكافرين بل ويُنهى المسلمون عن مشابهة غير المسلمين في هيئة السلام .
ومع خطورة هذه المشابهات الظاهرية ومثيلاتها وما فيها من تبعية للكفار، فالأمرُ أعظمُ وأخطرُ حين يتجاوز ذلك إلى التشبه في الباطن، فلا يقف الأمرُ عند حدود المحسوسات مع خطورتها بل ويشمل المعنويات، ويأتي على القيم وأنماط التفكير، ويشيع التقليدُ في القضايا الخطرة، وجوانب الحياة الأساسية، فثمة مسلمون يفكرون بعقلية غير إسلامية، وثمة كُتابٌ منتسبون إلى الإسلام وكتابتهم ليست من الإسلام في شيء !!
وما أخطرَ التعليم حين تجري مناهجهُ في بلاد المسلمين على وفق مناهج غير المسلمين، فتنشأ ناشئة المسلمين ضائعة الهوية مسلوخة العقيدة الحقة مفتونةً بقيم وحضارات الكافرين .
وليس أقلَّ خطراً منه الإعلامُ حين تُسير قنواتهُ المختلفة محاكيةً لإعلام غير المسلمين، فتضيُع الحقيقة وتُرتهنُ الكلمة الصادقة، ويروجُ الخداعُ والنفاق، ويغيبُ فيه الدفاعُ عن قضايا المسلمين، ويُمجد من لا يستحق التمجيد، وتسوّدُ الصفحات بتوافه الأمور وسواقط الأخبار، وما أعظم الخطبُ في مجال الاقتصاد إذا نسي المسلمون أو تناسوا زواجر القرآن عن أكل المال الحرام فساد الربا وانتشر الاحتكار ومورس القمار وكان الغشُّ في البيع والشراء، وشابه المسلمون الكفار في سياساتهم الاقتصادية المحرمة ، وأعلنوا الحرب صراحةً مع الله إذ لم يسمحوا بانتشار الاقتصاد الإسلامي النَزيه أو ضيقوا عليه الخناق وكم هو مصابٌ إذا نحيت شريعةُ السماء عن الحكم في الأرض واستبدلت بالقوانين البشرية المستوردة من الكافرين .
[1] رواه أحمد بسند صحيح ( صحيح الجامع الصغير 1/352).
[2] أخرجه مسلم (2090) ، جامع الأصول 4/716).
[3] (رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، انظر: صحيح الجامع الصغير 6/128).
[4] رواه أبو داود وأحمد والنسائي على شرط مسلم ، أبو داود كتاب الصلاة 675ح 1134، الولاء والبراء للقحطاني / 331).
[5] (الاقتضاء 1/435-436).
[6] رواه أبو الشيخ الأصبهاني، والبيهقي بإسناد صحيح، الولاء و البراء 332، والاقتضاء 1/428 بدون لفظة: ( فإن السخطة تنْزل عليهم).
[7] رواه ابن ماجة بسند صحيح، صحيح الجامع الصغير( 6/126).
=============
موجة التقليد والتشبه وأصالة المسلمين وصحوتهم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آل محمد الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فأوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله استجابة لأمر ربكم ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) (التوبة:119)
(( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102).
إخوة الإسلام : ومع ظاهرة التدين العالمية التي لم تعد قصراً على المسلمين وحدهم تجتاح العالم الإسلامي موجةٌ من التقليد الأبله والتشبه المذموم، ويكادُ أفرادٌ وجماعاتٌ من المسلمين أن يفقدوا هويتهم الإسلامية، وتذوب شخصياتُهم في شخصيات الآخرين فالهيئة يُداخلها التشبهُ بالكافرين إذ يُحلق ما حقُّهُ الإعفاءُ ويُعفى ما حقه الإحفاء في الشرع المطهر، قال عليه الصلاة والسلام: (( أَعْفُوا اللِّحَى، وجزوا الشَّوَارِبَ ، وَغَيِّرُوا شَيْبَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَالنَّصَارَى))[1].
والملبسُ يطغى عليه الإسبالُ المحرم، أو تبدوا لقصرِه العورةُ المأمور بسترها، أو يُفصَّلُ على هيئة لباس غير المسلمين فتدعو المشابهة شكلاً إلى عدم المخالفة في الأمور الأخرى، والزينة فيها تعدٍ وتجاوزٌ فالذهبُ يتختم به بعض أبناء المسلمين، ومعلومٌ نصوصُ الشرع في تحريم لبس الذهب للرجال وإباحته للنساء بشكل عام، وفيما يخص التختم: (( رَأَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ وَطَرَحَهُ وَقَال : يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ ، فَقِيل لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ ، قَال : لا وَاللهِ لا آخُذُهُ أَبَداً وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ))[2].
وهكذا يكون التأسي وكذلك يكون الإتباع .
والأمرُ أدهى وأمر .. وفي مضمار التميع وغياب العزِّة والهوية الإسلامية حين يُحتفي بالكفار ويُقدّر الفُجَّار ويُستهانُ بالمسلمين ويُتهم الأخيار ، وكل ذلك خلافُ هدي الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام : ((لا تَبْدَءُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلامِ ، وَإِذَا لقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُ إِلى أَضْيَقِهِ))[3].
وأخطرُ من ذلك مشاركتهم في أعيادهم وحضورُ احتفالاتهم وتهانيهم بمناسباتهم التي لم يُنْزل الله بها من سلطان، قال تعالى في صفات عباد الرحمن :((وَالذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) (الفرقان: من الآية72).
قال مجاهدٌ والربيعُ بن أنسٍ والقاضي أبو يعلى والضحاك -في تفسيرها- : إنها أعيادُ المشركين [4].
وعن أنس رضي الله عنه قال: (( قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ( المَدِينَةَ ) وَلهُمْ يَوْمَانِ يَلعَبُونَ فِيهِمَا ، فَقَال : مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ؟ قَالُوا : كُنَّا نَلعَبُ فِيهِمَا فِي الجَاهِلِيَّةِ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلكُمْ بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الفِطْرِ ))(رواه أبو داود وأحمد والنسائي على شرط مسلم ) [5]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله-: ((والمحذورُ في أعياد أهل الكتابين التي نقرّهم عليها أشدُّ من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها، فإن الأمة قد حُذِّروا مشابهة اليهود والنصارى وأُخبروا أن سيفعلُ قومٌ منهم هذا المحذور بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلاّ في آخر الدهر عند اخترامِ أنفسِ المؤمنين عموماً، ولو لم يكن أشدَّ منه فإنه مثلُه على ما لا يخفى، إذ الشرُّ الذي له فاعلٌ موجود يُخافُ على الناس منه أكثرُ من شرٍّ لا مُقتضى له قوي )) [6]
أما الفاروق عمرُ رضي الله عنه فقد قال: (( إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يومَ عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تنْزل عليهم))[7].
وفي سبيل التشبه الظاهري بالكافرين تأكلُ وتشربُ فئامٌ من المسلمين بالشمال وكأن الأمر عادةٌ من العوائد ليس فيها ملام، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يُحذر من هذا ويقول: ((لا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ)) [8].
وتُستبدل تحيةُ الإسلام ( السلامُ عليكم ) بأنواع من التحايا لا تبلغُ في كمالها ولا في حسنها مبلغَ تحيةِ أهلِ الإسلام هذا فضلاً عن أجر هذه، ووزر تلك إذا قُصد بها التشبهُ بالكافرين بل ويُنهى المسلمون عن مشابهة غير المسلمين في هيئة السلام .(3/111)
أمة الإسلام : ومع خطورة هذه المشابهات الظاهرية ومثيلاتها وما فيها من تبعية للكفار، فالأمرُ أعظمُ وأخطرُ حين يتجاوز ذلك إلى التشبه في الباطن، فلا يقف الأمرُ عند حدود المحسوسات مع خطورتها بل ويشمل المعنويات، ويأتي على القيم وأنماط التفكير، ويشيع التقليدُ في القضايا الخطرة، وجوانب الحياة الأساسية، فثمة مسلمون يفكرون بعقلية غير إسلامية، وثمة كُتابٌ منتسبون إلى الإسلام وكتابتهم ليست من الإسلام في شيء !!
وما أخطرَ التعليم حين تجري مناهجهُ في بلاد المسلمين على وفق مناهج غير المسلمين، فتنشأ ناشئة المسلمين ضائعة الهوية مسلوخة العقيدة الحقة مفتونةً بقيم وحضارات الكافرين .
وليس أقلَّ خطراً منه الإعلامُ حين تُسير قنواتهُ المختلفة محاكيةً لإعلام غير المسلمين، فتضيُع الحقيقة وتُرتهنُ الكلمة الصادقة، ويروجُ الخداعُ والنفاق، ويغيبُ فيه الدفاعُ عن قضايا المسلمين، ويُمجد من لا يستحق التمجيد، وتسوّدُ الصفحات بتوافه الأمور وسواقط الأخبار، وما أعظم الخطبُ في مجال الاقتصاد إذا نسي المسلمون أو تناسوا زواجر القرآن عن أكل المال الحرام فساد الربا وانتشر الاحتكار ومورس القمار وكان الغشُّ في البيع والشراء، وشابه المسلمون الكفار في سياساتهم الاقتصادية المحرمة، وأعلنوا الحرب صراحةً مع الله إذ لم يسمحوا بانتشار الاقتصاد الإسلامي النَزيه أو ضيقوا عليه الخناق وكم هو مصابٌ إذا نحيت شريعةُ السماء عن الحكم في الأرض واستبدلت بالقوانين البشرية المستوردة من الكافرين .
وما أشدَّ البلية حين يُقلّدُ المسلمون غيرهم في بناء المساجد والقباب على القبور أو يُطاف بها أو يستشفع بأصحابها، وتلك من عوائد اليهود والنصارى التي نُهي عنها المسلمون قال عليه الصلاة والسلام : (( لعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) [9]
وفي الحديث الآخر: ((أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ ))[10].
عباد الله : ولم تكن المرأة المسلمة بمعزل عن هذا التقليد الأبله والتشبِّه المذموم وإن شابك شكٌّ فألق نظرةً فاحصةً على عدد من حواضر العالم الإسلامي، ومسيرة المرأة ونمطِ حياتها، وسيهولك الأمر في الشكل والهندام وسيقضُّ مضجعك الاختلاطُ المحموم، والسفورُ المستهتر وتنفطر أكبادُ الغيورين لركض المرأة وراء أحدث الموديلات والموضات، ومسارعتِها الخطا لتقليد الكافرات، وأصبحت المرأة هدفاً لتوصيات المؤتمرات العالمية وضحية تخطيط المنظمات المعادية، ولم يعد في الأمر سرُّ أو استحيا، وكأن المسلمين كلٌّ مباحٌ ورعايا سائبة يحتاجون إلى رعاةٍ وتُفرض عليهم الوصايةُ، ويتنازع الغربُ والشرقُ في الإشراف على برامجهم وتصدير البضائع إليهم ؟!
أجل لقد صدقت فينا معاشر المسلمين نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: (( لتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ شِبْراً شِبْراً ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ حَتَّى لوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلنَا يَا رَسُول اللهِ : اليَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَال : فَمَنْ )) [11]
يا ويح أمة محمد صلى الله عليه وسلم كيف استساغت التبعية بعد القيادة ؟ وكيف رضيت بمحاكاة التائهين وهي المؤهلةُ لإصلاح فساد الأمم أجمعين ؟ وكيف قبلت أن تشهد عليها الأممُ بذلِّ التبعية وضحالة التفكير، وضعف الانتماء، والارتماء في أحضانِ الآخرين، وهي الأمةُ الوسطُ التي جعلها الله شاهدةً على الناس بمحكم التنْزيل: (( وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَليْكُمْ شَهِيداً )) (البقرة: من الآية143).
وتستمر عدالتُها وتقبل شهادتُها على الأمم المكذبة يوم الدين تأملوا هذا النصَّ وما فيه من العبرة لعلكم تذكرون، أخرج الإمام البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالى : هَل بَلغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ أَيْ رَبِّ ، فَيَقُولُ لأُمَّتِهِ : هَل بَلغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : لا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لكَ : فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتُهُ فَتشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلغَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَل ذِكْرُهُ : (( وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ))))[12].
فهل تدركُ الأمةُ حقيقة موقعها وطبيعة تميزها، وضخامة دورها وتفيء إلى أصالتها وتعتِّز بقيمها ؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (( وَلا تَرْكَنُوا إِلى الذِينَ ظَلمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)) (هود:113).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين أحمده تعالى وأشكره وهو للحمد أهل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صلِ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين .
أما بعد : فعباد الله: فحتى تتضح الصورةُ وتتبين الحكمةُ من مخالفة أصحاب الجحيم، وعدم التشبه بالكافرين أسوق لكم عدداً من أدلةِ الكتاب والسنةِ ومدلولاتِها في النهي والتحذير من ذلك، إذ كان ذلك من تكاليف هذه العقيدة الربانية التي ندينُ بها ونؤمن بمنْزلها .
يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغ أمته: (( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لا يَعْلمُونَ* إِنَّهُمْ لنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )) (الجاثية:18-19).
يقول في تفسيرها شيخُ الإسلام ابنُ تيمية - رحمه الله -: (( جعل اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمرِ شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، ويدخل في الذين لا يعلمون كلُّ من خالف شريعتَه، وأهواءهم: هي ما يهوونه ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسمُ لمادة متابعتهم في أهوائهم، وأعونُ على حصولِ مرضاةِ الله في تركها [13]
وقال تعالى: ((وَلنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ))(البقرة:120).
فانظر كيف قال في الخبر ((ملتهم)) وقال في النهي: ((أهواءهم)) لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملةِ مطلقاً، والزجرُ وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير [14](3/112)
معاشر المسلمين : وتأملوا في حادثة تغيير القبلة حينما هاجر النبيُ صلى الله عليه وسلم وصحبهُ من المدينة - وكان بها يهود - وتوجيه القرآن للمسلمين في قوله تعالى: ((وَلئِنْ أَتَيْتَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلةَ بَعْضٍ وَلئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لمِنَ الظَّالِمِينَ)) إلى قوله تعالى: ((وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَليْكُمْ حُجَّةٌ...) (البقرة: 145-150).
فلقد استمر النبيُ صلى الله عليه وسلم في الاتجاه بصلاته نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً )) [15]
ولاشك أن هذا التوجيه لقي رغبةً وترحيباً من اليهود إذ يوافقهم النبيُ صلى الله عليه وسلم في قبلتهم، وربما استغلوا ذلك وقالوا: (يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا) [16]
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى الوحي ويرغب التوجه إلى الكعبة عودة إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، ورغبةً في تميز المسلمين بقبلتهم عن اليهود، فنَزل الوحيُّ مبيناً هذه الرغبة ومحقاً للحق ومستجيباً لنبيه ومميزاً للمسلمين عن غيرهم وكاشفاً لأهواء واعتراض السفهاء من الناس: ((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ليَعْلمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)) (البقرة:144).
قال غيرُ واحد من السلف في حكمة تغير القبلة : لئلا يحتج عليكم اليهودُ بالموافقةُ في القبلة فيقولوا: قد وافقونا في قبلتنا فيوشكُ أن يوافقونا في ديننا فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، قال العلماء: ((وهذا المعنى ثابتٌ في كل مخالفة وموافقة فإن الكافر إذا أُتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان - أو قريبٌ مما كان - لليهود من الحجة في القبلة )) [17].
ولم يقف الأمر عند حدود النهي بل أشارت آياتُ القرآن وأحاديثُ المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أن من اتبع الكافرين وقلدهم فهو منهم ومصيرُهم مصيرهم قال تعالى: (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً )) (النساء:115).
((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))(المائدة:51).
وقال عليه الصلاةُ والسلام: (( من تشبه بقوم فهو منهم )) [18]،
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( إسناده جيد، وأقلُّ أحواله أنه يقتضي تحريم التشبِّه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم كما في قوله تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)).
إخوة الإيمان : إن من لوازم العقيدة الحقة الولاء والبراء، ويكون الولاءُ للمؤمنين والبراءُ من الكافرين، قال تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آمَنُوا)) (المائدة: من الآية55).
ولا حجة لمن قال: إن الولاء في القلب ولا تضرُ المشابهة في الظاهر مع الكره لهم باطنا ً.
قال شيخ الإسلام في كتابه القيم: (( اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم،وهو كتاب قيمٌ نافعٌ في هذا الباب: والموالاةُ والمودة وإن كانت متعلقةً بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعونُ على مقاطعة الكافرين ومبايينهم)) . [19].
إلى أن قال: ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بالكافرين في الولايات، فروى الإمامُ أحمدُ بإسناد صحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه : إن لي كاتباً نصرانياً، قال مالك: قاتلك الله، أما سمعتَ الله يقول: ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) (المائدة:51).
ألا اتخذت حنيفاً ؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين: لي كتابتهُ وله دينهُ، قال ( عمر ): لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزّهم إذا ذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله [20]، وأشار المحقق إلى عدم وجوده له في المسند ( أبي موسى ).
ويقول ابن القيم - رحمه الله - : (( إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، وسرُّ ذلك إن المشابهة في الهدْي الظاهر ذريعةٌ إلى الموافقة في القصد والعمل )) [21]
معاشر المسلمين : والنصوص في هذا كثيرة، وتعليلاتُ العلماء في النهي عن التشبه بالكافرين مقنعة ومبسوطةٌ ومن رام المزيد فليرجع إليها في مظانها، وإنما أردت الذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد .
ومع هذه الموجة العارمة في التشبه بالكافرين في عالمنا الإسلامي في معظم مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية والإعلامية وسلوكيات الناس وعوائدهم الاجتماعية إلا أن من الإنصاف أن نقول: إن هذه وتلك من ركام الماضي ومن مخلفات الاستعمار والمستعمرين، ولئن بقي في المسلمين من لا يزال سادراً في غيِّه مخدوعاً بمشابهة الكافرين وتقليدهم وموالاتهم، فثمة صحوةٌ إسلاميةٌ نشطةٌ تسري في أوساط المسلمين، وثمة وعي وشعور بالعزة الإيمانية لدى الشعوب المسلمة تنتظم الرجال والنساء، لقد بدأ الإسلام يستيقظ في النفوس وبات واضحاً تململ المسلمين من واقعهم المشين وكرههم لأعداء الدين ومعرفتهم بمخططات المستعمرين، ولم تقف حدودُ هذه الصحوة عند قطر دون آخر، ولم تكن في العرب دون العجم، ولا في الشرق دون الغرب، إنها شمسُ الحقيقة بدأ إشراقها وسيعم الخافقين بإذن الله نورُها.
ليس هذا كلاماً عاطفياً يقال، ولا مجرد أحلام لا يرى الناسُ لها مقاماً بل هي الحقيقة يشهد بها العدوُّ قبل الصديق، ويتآمر الكافرون ويخططون لاقتلاع الشجرة قبل أن توتي ثمارها... فتعقد المؤتمرات، وتفتح الملفات وتقترح الوسائل والخطط لمكافحة ما يسمى بالإرهاب والتطرف والأصولية، ونورُ الله قادمٌ لا محالة، والإسلام الحقُّ هو الديانة المؤهلة لقيادة العالم قيادةً عادلة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ولو كره المشركون .(3/113)
ومن أواخر ما سمع العالمُ ما يحدث اليوم في تركيا ربيبة الاستعمار، ورائدةُ العلمنة في ديار المسلمين، والتي مكث المجرمون في تغيير هويتها ردحاً من الزمن، حتى أعلن استبدال العربية بحروف لاتينية، ومنع الحجاب رسمياً، وأعلنت القوانين الكافرة لتحكم في البلاد قسراً... ومع هذا التغريب والتحدي السافر، بقي الإسلامُ محفوظاً في قلوب الأتراك المسلمين، وبقيت الأصالة رصيداً مدفوناً في الصدور، حتى إذا أُتيحت الفرصة تفاجأ العالمُ كلُّه بالتصويت لحكم الإسلام، وفوز حزب الرفاة الإسلامي وسحقه للأحزاب العلمانية الأخرى، وعادت العلمانية تندب حظهَّا، والكفارُ العلمانيون يجرون أذيال الهزيمة وتهاوي الصنم الوهمي، وأُحبطت القوى العالمية وزادت من تخوفها من الإسلام والمسلمين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون اللهم هيئ للمسلمين من أمرهم رشداً، اللهم وأجمع كلمتهم على الحقِّ والهدى، اللهم عليك بأعداء الدين اللهم وأحصهم عدداً وأقتلهم بدداً ولا تبقِ على الأرض منهم أحداً، هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين .
[1] رواه أحمد بسند صحيح ( صحيح الجامع الصغير 1/352).
[2] أخرجه مسلم (2090)، جامع الأصول 4/716).
[3] رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، انظر: صحيح الجامع الصغير 6/128).
[4] ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم ص181
[5] أبو داود كتاب الصلاة 675ح 1134، الولاء والبراء للقحطاني / 331 .
[6] الاقتضاء 1/435-436 .
[7] رواه أبو الشيخ الأصبهاني، والبيهقي بإسناد صحيح، الولاء والبراء 332، والاقتضاء 1/428 بدون لفظة: "فإن السخطة تنْزل عليهم .
[8] رواه ابن ماجة بسند صحيح، صحيح الجامع الصغير 6/126
[9] رواه مسلم 1/377، الاقتضاء 1/298 .
[10] رواه مسلم، السابق 1/297
[11] رواه البخاري 13/300 ح7320، ومسلم 4/2054، ح2669 .
[12] الصحيح مع الفتح 6/371
[13] اقتضاء الصراط المستقيم 1/85، 86 .
[14] الاقتضاء 1/87 .
[15] صحيح البخاري مع الفتح 1/95، ومسلم 1/374، السيرة النبوية الصحيحة للعمري 2/349
[16] نسبه العمري إلى مجاهد ومال إلى تصحيحه، السيرة النبوية الصحيحة 2/351
[17] ابن تيمية الاقتضاء 1/88 .
[18] رواه أحمدُ وأبو داود .
[19] 1 / 163.
[20] الاقتضاء 1/164، 165
[21] إعلام الموقعين 3/140 .
===============
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة بين حديث القرآن والواقع (1- 3)
فإنّ هناك نماذج من التحديات التي تتعرض لها المجتمعات المسلمة في هذا العصر، وهناك أفكارٌ تُطرح وتمثّل تلوثاً فكرياً خطير الأثر على مجتمعات المسلمين، ذلك أن الإنسان مجهز لاستقبال المؤثرات من حوله والإنفعال بها والاستجابة لها، وكمّا أنّه مستعد بحسب تكوينه الذاتي للرقي والارتفاع، فإنه مستعد كذلك لأن ينحطّ إلى أدنى من دركات الحيوان البهيم، يقول الله تعالى فيمن حادوا عن طريق الهدى وتنكبوا الصراط المستقيم: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ). الأعراف 179.
ومن العوامل المؤثرة في ارتفاع أو هبوط الإنسان ما يتلقى من تربية، وما تشيع البيئة حوله من مؤثرات، وما يشتغل به، ويوجه عبره غرائزه.
ومن أخطر ما يواجهنا في هذا العصر هذه الملوثات الفكرية التي تشكّك في الدين، وتهز الثوابت، وتفسد الأخلاق، وتنشر الرذيلة عبر وسائل الاتصال في وقتنا الحاضر، والتي أُسئ استخدامها أيما إساءة.
وما الحديث عن قضية المرأة التي تثار هنا وهناك، والمطالبة بحريتها المزعومة ونفيها عن أسباب الصيانة إلا أحد الأبواب الواسعة لإشاعة الرذيلة في المجتمع.
المرأة أمام التحديات:
إنّ المرأة تمثّل ثغراً من ثغور الفضيلة؛ ففي حفظها حفظٌ للفضيلة، وصيانة للنشء، وفي إفسادها إفسادٌ وتضييعٌ للمجتمع.
وإن مما يؤسف له أن كثيراً من هذه الدعوات صار يحمل لواءها بعضُ أبناء المسلمين، وهذا نتيجة للغزو المبكر لبلاد المسلمين، والذي سعى منذ البداية إلى تخريج جيل بعيد عن الدين، قد أُشربَ الولاء للغرب وقيمه وأنماط حياته، وذلك عن طريق المدارس الأجنبية (التنصيرية) التي تفتح في بلاد المسلمين.
جاء في تقرير إحدى اللجان التابعة للمؤتمر التبشيري الذي عقد عام 1910م:
"إن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثيراً على حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوروبا كلها".
وفي هذه المدارس تخرجت أجيال من أبناء المسلمين أو بالأحرى من متعلميهم ومثقفيهم متأثرة بضرب هذا الغزو المنظم، متطلعة إلى الأفق الغربي تستلهمه الرشد وترى فيه النموذج والمثل الأعلى، وتتشرب في نهم أنماط حياته سلوكاً وفكراً، بلا فحص، ولا بصيرة، ولا رأي سديد" .
وإذا أضفنا إلى ذلك البعثات التي كانت تتقاطر على الدول الأوروبية من أبناء المسلمين الذين يستكملون تعليمهم العالي، كانت هذه نهاية المطاف في الإجهاز على بقايا الإسلام في نفوسهم وطباع الشرق وعاداته، حيث لا يرجعون في الغالب إلا وقد تأثروا بوجهة الغرب وفلسفته، وبذلك أصبحوا رصيداً في حساب أعداء الإسلام بالسلوك والتربية والعادات الجديدة.
وقاسم أمين يُعدُّ واحداً من رواد تحرير المرأة في مصر، وهو نموذج لهذا الغزو، يقول د. عبدالستار فتح الله: "قاسم أمين كان نموذجاً لما يمكن للغزو الفكري وللتعليم الأجنبي أن يفعلاه في النفوس من خلع ولائها لأصلها، وفصل مشاعرها عن ظروف أمتها".
والتعليم كان أحد أخطر ميادين الغزو الفكري وأعمقها أثراً، إلا أن ميادين الغزو الفكري تعددت بأسلحته المتنوعة: "الفكرة والكلمة، والرأي والحيلة، والشبهات والنظريات، وخلابة المنطق، وبراعة العرض، وشدة الجدل، ولدادة الخصومة، وتحريف الكلام عن مواضعه" والقصة والصورة والقيم.
ولقد كان لهذا الغزو من الآثار السيئة في زعزعة المسلمين عن دينهم ما لم يستطعه الغزو العسكري على مدى قرون عديدة. وقال سبحانه: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).البقرة 217 .
ومعنى الفتنة في الآية على ما نقل القرطبي عن الجمهور: "فتنة المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا". "وكان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات وبما علم من الإيذاء والتعذيب" .
ولهذا عقّب تعالى على هذا بقاعدة تمثل قانوناً من قوانين الصراع بين الإسلام والجاهلية على مر العصور فقال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).البقرة217.
والقتال المذكور هنا عام يراد به ما وقع فعلاً من أساليب المشركين في محاولة صد المسلمين عن دينهم بالتعذيب والإيذاء أو التضييق عليهم في أرزاقهم أو تشريدهم في البلاد أو ضربهم بالشبهات وأنواع التشكيك، وما هو محقّق الوقوع في الغد القريب من الحرب المسلحة التي شنها المشركون على المسلمين بعد نزول الآيات، ثم ما يشابه ذلك ويشاكله إلى يوم القيامة .
فهذه التحديات التي يُجابه بها المسلمون في هذا العصر طرف من المعركة التي تركت آثار في بلاد المسلمين.
بعض آثار التحديات التي تواجه المرأة المسلمة:
وسأقف هنا مع بعض الآثار البارزة لتلك التحديات:
1- فقدان الهوية:
لكل أمة شخصيتها المميزة التي تتفرد بها عن غيرها، وهذه الشخصية تنبع من العقيدة التي تدين بها الأمة وما يتبع ذلك من خلق ومنهج وسلوك. وكل أمة واعية تحرص على هذا التفرد، وتنأى بنفسها عن أن تكون عرضة لفقد عناصر تميزها، وأن تصير تابعاً ذليلاً لغيرها.(3/114)
والغزو الفكري وعملية التغريب هدفها أن تستسلم الأمة المسلمة للثقافة والحضارة الغربية، فتذوب الشخصية المسلمة وتقبل الفناء والتلاشي في بوتقة أعدائها "بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي، ولا تعجب إلا بما يعجب به الغرب، ولا تعتنق من الأفكار والمناهج إلا ما هو مستورد من الغرب، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام وتتنق هذه الديانة الجديد التغريبية" .
والناظر إلى حال المجتمعات المسلمة يجد وللأسف أن عملية التغريب والغزو الفكري الموجه إلى المجتمعات المسلمة نجحت إلى حد بعيد في محو ملامح تلك الشخصية والعبث بمقوماتها.
والناظر في حال المرأة المسلمة - خاصة - مربية الأجيال وحصن الفضيلة يروعه "فقدان المرأة المسلمة لهويتها الإسلامية وتمييز شخصيتها، وسحب قدر كبير من انتمائها لدينها" . حتى ضمر الفارق في الاهتمامات والممارسات في كثير من بلاد المسلمين بين المرأة المسلمة والمرأة الغربية . ولو أردنا أن نعقد مقارنة بين الملامح البارزة لشخصية المرأة المسلمة في ضوء الضوابط الشرعية، وبين ما آل إليه حال المرأة المسلمة في كثير من بلاد المسلمين لهالنا الفرق وبعد الشقة بين المثال والواقع.
فشعار المرأة المسلمة الظاهر هو الحجاب بالصفة التي حددها الشرع، يقول الله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ). النور 31.
وهذا أمر من الله لنساء المؤمنين أن يلقين بالخمار إلقاءاً محكماً على المواضع المكشوفة؛ وهي الرأس والوجه والعنق والنحر والصدر، خلافاً لما كان عليه نساء الجاهلية من سدل الخمار من ورائها وتكشف ما هو قدامها.
ونهاها تعالى - لكمال الاستتار - عن الضرب بالارجل حتى لا يصوّت ما عليها من حلى فتعلم زينتاه بذلك فيكون سبباً للفتنة بها. قال تعالى: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ). النور: 31. ونهاها الله تعالى عن التبرج فقال سبحانه: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).الأحزاب 33.
والتبرج يكون بعدة أمور:
• يكون التبرج بخلع الحجاب، وإظهار المرأة شيئاً من بدنها أمام الرجال الأجانب عنها.
• ويكون التبرج بأن تبدي المرأة شيئاً من زينتها المكتسبة.
• ويكون التبرج بتثنّى المرأة في مشيتها وتبخترها وترفّلها وتكسّرها أمام الرجال.
• ويكون التبرج بالخضوع بالقول والملاينة بالكلام.
• ويكون التبرج بالاختلاط بالرجال وملامسة أبدانهن أبدان الرجال، بالمصافحة والتزاحم في المراكب والممرات الضيقة ونحوها .
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخلوة والسفر بغير محرم: "لا يخلونّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم" . "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم لها" .
فما نصيب المرأة المسلمة من هذه الضوابط التي أوجبها الله تعالى عليها؟!.
إن أكثر النساء المسلمات بعيدات كل البعد عما شرع الله تعالى وأوجب عليهن.
لقد صارت المرأة تخرج في كثير من بلاد المسلمين حاسرة الرأس، مكشوفة الصدر والساقين، متزينة متعطرة متبرجة، تخالط الرجال، وتزاحمهم في كل مكان وميدان.
بل قد بلغ ببعضهن النأي عن أوامر الله سبحانه والإمعان في تقليد المرأة الغربية الكافرة إلى حدّ العري على الشواطئ بلا حياء، والأعتى من ذلك والأمرُّ أن بعض النساء تفخر بهذه التبعية والانسلاخ عن أوامر الله وتعدّه تقدماً ومدنية، تقول إحداهن - وهي فتاة تركية - في بعض الموانئ الإنجليزية: "إننا نعيش اليوم مثل نساءكم الإنجليزيات، نلبس أحدث الأزياء الأوروبية، ونرقص وندخن ونسافر وننتقل بغير أزواجنا".
ومن لم تصل إلى هذه الدرجة ولا يزال المكر بها في أول الطريق فقد تدخلت الموضة في عباءتها وحجابها حتى أفقدتها غايتها من الستر والحشمة "وأصبحت العباءة رمز لإبداء الزينة وإظهار الفتنة وإبراز المفاتن والمحاسن. فهناك تفنن في إدخال بعض النقوش والزخارف والتطريزات، وهناك شفافية في نوع القماش وظهور ألوان متعددة على جوانب العباءة وأطرافها، وهكذا أصبحت العباءة رمزاً للموضة والفتنة" . وهذا التدرج في الإخلال بشروط الحجاب طريق إلى نزع الحجاب كما حدث في كثير من بلاد المسلمين، حتى انسلخت المرأة عن دينها وفقدت هويتها الإسلامية.
سئل حذيفة رضي اله عنه: "في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم؟! قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء ركبوه حتى انسلخوا عن دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه).
إن الحجاب جاء ستراً وشعاراً للمرأة المسلمة، وهو أوضح مظاهر الطاعة والتسليم لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار؛ أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل؛ ولقد أنزلت سورة النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته، وابنته، وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها(1) المرحل فاعتجرت(2) به، تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجرات كأن على رؤسهن من الغربان"(3).
وعنها رضي الله عنها قالت: "يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن أكثف مروطهن فأختمرن به" (4).
هذا حال المسلمات الأُوَل، أمّا اليوم فقد وصلت كثير من المسلمات إلى حال يرثى لها في فقد الصلة بدينها، فلم يعد هو الموجه لما تمارسه، بل إنها تتلقف كل ما يأتيها من الغرب الكافر، وكأنه ليس لها مرجع ترد إليه أمورها، وإليك هذه الصورة المزرية من التقليد الأعمى وفقدان الهوية:
نشرت مجلة الأسرة (عدد 81 ذو الحجة 1420هـ) ما يلي: "لفيف من البنات دخلن قاعات المحاضرات يوم 14 فبراير وقد ارتدت كل واحدة منهن ثوباً أحمر، وألصقت على وجهها رسوماً لقلوب حمراء بعد أن وضعت مساحيق التجميل الحمراء على وجهها، وبدأن يتبادلن الهدايا ذات اللون الأحمر مع القبلات الحارة، هذا ما حدث في أكثر من جامعة في بلد إسلامي، بل وفي جامعة إسلامية احتفالاً بعيد الحب، أو بالأحرى عيد القديس فالنتاين" .أ.هـ.
إن التقليد وفي هذه الأمور - فضلاً عن تحريمه - فهو صورة للتبعية الذليلة التي ينبغي أن يرغب عنها.
وملامح التبعية في أقطار كثيرة من أقطار المسلمين واضحة جليّة سواءاً في ملايين المسلمات الكاسيات العاريات ومحترفات اللهو والمجون وفي الألوف المؤلفة الذين يعبون عبئاً من فكر الحضارة المادية الملحدة ويستقون من مستنقعات ثقافتها وتصوراتها، ثم يقذفون بها أمتهم في كل ميدان (5).
"وإذا كانت الأمم تحرص على استقلالها الفكري والاجتماعي بدافع من العزة القومية أو الكرامة الوطنية أو غيرهما فإن المسألة عندنا تختلف تماماً، لأن استقلالنا في هذه الأمور هو قضية عقيدة ودين، ومسألة وجود ومصير، ومسئولية رسالة ودعوة، وضرورة بعث وإنقاذ لأنفسنا وللعالمين، ثم هي مهمة قيادة وهداية، وتمكين لخط الوعي المشرق، وتمييز له عن المناهج والنماذج البشرية التي سيطرت على الأرض وملأتها ضلالاً وإلحاداً وعناداً.
وهذا كله يأبى علينا التبعية كل الإباء، بل إن التبعية هنا تصبح خيانة لرسالتنا وجناية على أمتنا، وشروداً بالقافلة عن طريق ربها الواحد القهار" (6).(3/115)
2- الفراغ الفكري والروحي والإغراق في التوافه:
لقد اعتنى الإسلام بما يقود النفوس إلى الخير ويعمل على تزكيتها من العلم النافع والأدب الحسن، يقول الشيخ السعدي في تفسير قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً).] التحريم: 6 :"وقاية الأهل والأولاد بتأديبهم وتعليمهم وإجبارهم على أمر على أمر الله" (7).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم العلم فريضة على كل مسلم(8). وأرشد إلى فضيلة تعليم المرأة: "أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم اعتقها وتزوجها فله أجران"(9).
وخصّ النساء بالحديث "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، فقال صلى الله عليه وسلم : اجتمعن يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا. فاجتمعن فأتاهن فعلمهن مما علمه الله" (10).
وفي هذا الجو حرصت النساء المسلمات على التفقه في الدين، فعن أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعن الحياء من التفقه في الدين" (11).
ولا شك أن تربية المرأة هو مجال إصلاح الأسرة وإنشاء جيل صالح، ولذا حرص الإسلام على تعليمها وتأديبها لما لها من دور عظيم في بناء الأسرة، إلا أن المرأة في ظل هذه الدعوات الفاسدة والإعلام الموجه للمرأة أبعدت كثيراً من أن تكون محضناً صالحاً للأجيال، حيث مارست هذه الوسائل تهميشاً واضحاً لفكر المرأة وتعاملت معها على أنها جسد وحسب، سيل من البرامج الترفيهية التافهة وصفحات تعج بالغث من الموضوعات التي تحصر اهتمامات المرأة بالشكل والجمال وكيفية جذب الأنظار إليها(12).
"وهذا كله جعل المرأة نفسها تعيش خواء فكرياً وفراغاً روحياً، وخلجاً عجيباً بين الغايات والوسائل" (13). "ففي الوقت الذي يتبلور المفهوم الإسلامي المعتدل للجمال على أنه وسيلة تأخذ من المرأة قدراً معيناً تحقق به أنوثتها، يزرع الإعلام في حسّ المرأة أن الجمال المظهري غاية تستحق أن تبدد المرأة جهدها ووقتها ومالها لأجله"(14).
وفي حين نجد النماذج الحرية بالأسوة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين كان لهن قصب السبق في العلم والعمل، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عالمة عاملة.
عن أبي موسى قال: "ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما"(15).
وعن عروة قال: "لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنّة، ولا بشِعر، ولا بقضاء، ولا طبّ منها" (16).
وتقول عائشة عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: "ولم أرَ امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي يتصدق به ويتقرب إلى الله عز وجل" (17).
إلا أن المرأة في وقتنا الحاضر قُدم لها نموذجٌ للأسوة من الفارغين والفارغات، بل في أحيان كثيرة من الساقطين والساقطات من أعلام الفن ورائدات السفور.
ولذا صار من المألوف في هذا الوقت أن تجد المرأة والفتاة – خاصة – تعرف من أسماء ماركات الأزياء العالمية وأسماء الفنانين والفنانات، بل تفاصيل حياتهم الخاصة الشيء الكثير، لكن لو سئلت عن بعض أحكام الطهارة والصلاة لوجدت جهلاً فاضحاً، فضلاً عن أن تعرف سير الصحابيات ومعالم نهجهن، ولا يقتصر هذا الفراغ والخواء على الفتيات بل يشمل الشباب من الجنسين.
وفي بحث قامت به مجلة الأسرة (العدد 83، صفر 1421هـ) عن طريق استبانة وزعت على (1000) شاب وفتاة من طلاب الجامعات في الرياض، والدمام، وجدة، حول ما هو معلوم بالضرورة من الدين والجغرافيا والتاريخ والأدب والفن والرياضة، كانت أعلى نسبة في معدل الإجابات الصحيحة هي:للفن 88%، ثم الرياضة 87%.
وفي أدنى القائمة كانت الثقافة الإسلامية، فالتاريخ، بنسبة 58% للثقافة الإسلامية، و57% للتاريخ!.
وأشارت المجلة في العدد نفسه إلى استطلاع قامت به صحيفة الرأي العام الكويتية على (100) طالب وطالبة من كليات مختلفة عُرضت عليهم قائمة تضم 32 اسماً لشخصيات وأحداث عامة، كانت الشخصية الوحيدة التي عرفها الجميع ولم يخطئ فيها أحد مطربةٌ إماراتية تُدعى (أحلام).
إنّ هذا الخواء وتفاهة الاهتمامات للأسرة دورٌ فيه، وهو يدل على مدى قصور المرأة علميا ودينياً عن الوفاء بتوجيه الأبناء إلى ما يدلهم على الخير ويرفعهم فكرياً وروحياً، حتى يكاد ينطبق على كثير من أبناء المسلمين اليوم قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ). ]الروم:7 [.
ولا شك أن كثيراً من انحرافات ومشكلات الشباب والفتيات تتصل بهذا الجانب وتنبع منه، فافتقاد العلم النافع، والموعظة التي توقظ القلوب والتوجيه إلى النماذج الحرية بالاقتداء يفرغ معه القلب عن ما يعين على الخير.
3- الجرأة على الدين:
أصل الدين يقوم على تعظيم الله وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم، والتسليم لحكم الله وحكم رسوله، يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم). ]الأحزاب: 36[.
يقول ابن كثير: "فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفيه ولا اختيار لأحد ها هنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)" (18). ] النساء: 65 [.
... يُتبَع إن شاء الله تعالى،،،،،،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرط: كساء.
(2) الاعتجار: أن يلف الكساء على الرأس ويرد طرفه على الوجه.
(3) رواه أرو داود.
(4) رواد أبو داود.
(5) انظر الغزو الفكري ص272.
(6) المرجع السابق ص270 باختصار وتيسير.
(7) تفسير السعدي ص809.
(8) في حديث رواه ابن ماجه.
(9) متفق عليه.
(10) رواه البخاري.
(11) رواه البخاري.
(12) انظر البيان ع149 ص79.
(13) المرجع السابق.
(14) المرجع السابق.
(15) الترمذي عن سير أعلام النبلاء (2/179).
(16) أبو نعيم في الحلية. عن سير أعلام النبلاء (2/183).
(17) رواه مسلم. ش
(18) تفسر ابن كثير (6/423).
إنّ مما ابتلى به كثيرٌ من الناس في هذا العصر اقتحام كثير منهم لسياج الدين وحرماته، وتعدّيهم على قاعدة التسليم لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فالسمة البارزة لكثير من الكتابات والأقوال التي تناولت موضوع المرأة مثلاً؛ السمة البارزة لها: الجرأة على النصوص، والتطاول على أحكام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستخفاف بالدين القيّم، هذه حال كثير ممن يسمون المتنورين (المستغربين) الذين تتلمذوا على مدارس الفكر الغربي وعبوا من مناهجه وأصوله.
ولو لا الحاجة من جهة لمعرفة الخطر الذي يتهدد المجتمعات المسلمة – وفئة الناشئة خاصة – من مثل هذا المنهج، ثم من جهة أخرى تلمس ما أحدثه التغريب في أبناء المسلمين لكنت أربأ عن نقل أقوالهم لما فيها من جرأة صارخة على الدين، واستهانة برموزه.(3/116)
فهذا باحث مغربي يُدعى (عبد الصمد الديميالي) يقول في مؤتمر نسوي عقد في اليمن وأشارت لما ورد في هذا المؤتمر مجلة الأسرة (العدد 81 ذو الحجة 1420هـ): " إن الدين ظلمَ المرأة حينما لم يسوّ صراحة بينها وبين الرجل ". ويقول وبكل صفاقة ما نصه: " إذا لم تكن النصوص القرآنية صريحة وواضحة في المساواة بين الرجل والمرأة فلنلق بها في مزبلة الأيدلوجية ".
واختتم ورقته التي أثارت غضب المسلمين في اليمن بالدعوة صراحة إلى الحرية الجنسية بعيداً عن نظام الأسرة التي وصفها بأنها نظام برجوازي.أ.هـ.
وتتضح علة هذا الرجل عندما ننظر إلى الثقافة التي استقاها حيث يقول عن نفسه: " إنني شخصياً وحينما كنت في الثالثة والعشرين من عمري تأثرت بكتاب (الحرية الجنسية) لريشين الذي يهاجم نظام الأسرة ".أ.هـ.
وطالبت نوال السعداوي في مؤتمر صحفي عقدته ودعت إليه الوكالات الغربية العاملة في مصر وحدها مطلع هذا العام طالبت: " بتشريعات نسوية علمانية لا يكون فيها أي سلطان أو حق على حد تعبيرها " (1).
وسبحان الله ما أحلمه على خلقه!.
وينقل عبد السلام بسيوني في كتابه (ماذا يريدون من المرأة)، ينقل عن إحداهن مناقشتها ربها – عز وجل – وردّ أحكامه، ودفعها لأراء الفقهاء الذين عمقوا – كما تقول – دونية المرأة، منطلقين من تركيبها البيولوجي، وينقل عنها قولها: " لا أفهم – كامرأة – علاقة الحيض والإنجاب أو عدمه بتخصيص، أو عدم تخصيص جنس دون آخر بالرسالات والتنبؤات، وقيادة الحروب، ولا سبب نقصان الثواب ".(2).
وللمزيد من هذه الأقوال الفجة يُراجع ما نقله البسيوني عن أمثال هؤلاء، وكذلك ما نقله المقدم في (عودة الحجاب) وغيرهما.
إنّ هؤلاء المتطاولين الناقمين على الدين وأهله هم ثمرة من ثمار التغريب، وحملات التشكيك والهجوم على الدين وأحكامه، وهذه السموم والأقوال التي يبثونها في الصحف والندوات والمنابر الإعلامية المختلفة لها أثرها السيئ الظاهر في المجتمعات الإسلامية.
فها نرى أكثرهم يسلّم بكلام الطبيب والفيزيائي وغيرهم، أمّا أحكام الشرع وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فتناقش وترد ويتطاول عليها.
4- ضعف عقيدة الولاء والبراء
إنّ الحب في الله والبغض في الله هو أوثق عرى الإيمان كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حيث قال: " يا أبا ذر، أيّ عرى الإيمان أوثق؟! قال: الله ورسوله أعلم: قال: الموالاة في الله والحب في الله والبغض في الله " (3).
إنّ هذه الشعيرة التي لها هذا القدر العظيم في ميزان الإيمان ذابت ملامحها في حس كثير من المسلمين في هذا الوقت، وسأعرض هنا لمظاهر بارزة من ذلك عبر النقاط التالية:
أ- هذا التمجيد للنموذج الغربي وعرضه عرضاً مغرياً عبر وسائل الإعلام المختلفة قربه إلى النفوس وكسر حاجز الشعور بفوارق العقيدة وعداوة الكفار.
تقول د. زينت حسن أستاذة الاجتماع بكلية البنات بجامعة عين شمس وهي تتحدث عن أثر السينما في مصر خلال فترة الاحتلال الإنجليزي:
" من ناحية فقد سعت إلى كسر حاجز الرفض الشعبي ضد الاحتلال الإنجليزي وضد الدول ذات الأطماع الاستعمارية الأخرى مثل فرنسا وأمريكا، وبناء علاقة أخرى تقوم على أساس القبول والإعجاب، وهي علاقة كانت تجد رفضاً من بعض المشتغلين بالسياسة باعتبار أن هذا القبول يعد نوعاً من التطبيع مع المستعمر، وبذلك أفادت السينما هذه الدول الاستعمارية، فيكفي أن يحب الجمهور ممثلة إنجليزية أو ممثلاً فرنسياً لتنكسر حدة العداء المستحكم بينه وبين هذه الدول "(4).
هذه وسيلة واحدة أثرت هذا التأثير في فترة احتلال، فما بالك بأنواع الوسائل المبثوثة في هذا الوقت؟!.
ب- من آثار هذا التمجيد والفرض للنموذج الغربي مع عقدة النقص التي يستشعرها المغلوب دائماً دفعاً للتقليد والمشابهة، فالمغلوب "مولع أبداً بالاقتداء بالغالب" كما يقول ابن خلدون.
ومعلوم أن المشابهة تورث التقارب والمودة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ( المشاركة في الهدى توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً بعد المكان والزمان)(5). ويقول أيضاً: ( المشابهة في الظاهر تورث نوع ومودة، ومحبة، وموالاة في الباطن ) (6).
ت- ربط قضية المرأة بالمرأة، وهذا فيما يمكن أن يسمى قومية نسائية لا تفرق بين يهودية ولا نصرانية ولا وثنية، فلا عجب أن نجد امرأة مسلمة ممن تولين إدارة تحرير مجلة سيدتي في فترة مضت تجري مقابلة مع الهندوسية أنديراً غاندي في إجلال وإعظام، وتذكر أنها سعت لهذه المقابلة العظيمة شهوراً حتى قابلتها، وتقول هذه الدكتورة المسلمة: " بدأ اختيار مدخل الحديث عن السيدة إنديراً غاندي أمراً محيراً وليس سهلاً "(7).
وكل هذا الإعظام لهندوسية تعبد البقر وقتلت آلافاً مؤلفة من المسلمين!.
لكن ليست هذه قضيتهم! فجُل ما يعنيهم أنها رئيسة وزراء (امرأة)!.
5- الانحلال الأخلاقي
يقول الله تعالى: (يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً).
العفة وطهارة المجتمع يمزقهما الاختلاط والسفور، وهذا أمرٌ ظاهر في حياة المجتمعات، فمنهج الله تعالى سبيل حفظ المجتمع من الانحلال والفساد الأخلاقي، ومنهج دعاة التحرير هدم الأخلاق والأعراض.
يقول محمد فريد وجدي : " إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعاً في الآداب العامة، وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة، أصبحت المحاكم غاصّة بقضايا الأعراض، وهربت الشابات من دور أهلهن " (8).
ولو نظرنا إلى حال المجتمعات الغربية - التي هي النموذج الأعلى للمستغربين، والتي يسعون سعياً حثيثاً إلى أن تحذو المرأة المسلمة حذو نسائها - لوجدنا فساداً أخلاقياً مريعاً، وهذه نظرة عجلى على بعض الشواهد من واقع تلك المجتمعات، وعبر بعض الإحصائيات والدراسات المنشورة عن أحوال تلك المجتمعات، والصادرة عن مؤسسات عالمية أو جهات محلية في تلك البلاد، وهي بهذا تكسب قيمة خاصة، لأنها تنبع من معاناة هؤلاء القوم أنفسهم، وليست انطباعات لدى من يخالفهم الاعتقاد والمنهج.
** هناك دراسة علمية أجراها باحثان أمريكيان حول المجتمع الأمريكي وشملت الدراسة عينة كبيرة من المواطنين الأمريكيين الذين شاركوا بآرائهم في القضايا المطروحة للدراسة ونشر الكتاب عام 1991م تحت عنوان: (يوم أن أعترفت أمريكا بالحقيقة).
وردت في هذا الكتاب حقائق خطيرة عن واقع هذا المجتمع، ومن ذلك مشكلة الاغتصاب المنتشرة هناك، فقد ذكر الكاتبان ما نصه: "20% من النساء اللاتي تحدثنا معهن أخبرتنا بأنهن قد اغتصبن في لقاء مع أحد أصدقائهن!، وعندما نتصور هذا الرقم على المستوى الوطني فإنّ هذه المسألة تعني ما يقارب من تسعة عشر مليونا من النساء في أنحاء الولايات المتحدة كن ضحايا الاغتصاب ".
ويشير الكاتبان إلى أن الإحصاء الرسمي لا يعبر عن حجم المشكلة، لأن 3% من ضحايا الاغتصاب يبلغن الشرطة ويسجل الحادث رسمياً وفق ما ورد في دراسة قامت بها إحدى الجامعات الأمريكية.
وفي إيطاليا ذكر تقرير حديث صدر هناك، وأشارت إليه مجلة الأسرة في (العدد 7، محرم 1420هـ) أن:" 40% من نساء إيطاليا من أعمار (14) إلى (59) من ضحايا الاغتصاب." .
وتوصل التقرير إلى: إن 14 مليون امرأة في إيطاليا يخشين السير بغير رفقة في الشوارع المظلمة، أو في الأماكن المهجورة، في أي وقت من أوقات النهار، وأن عمليات الاغتصاب تجري في المنازل وأماكن العمل بلا تمييز، وأن كثير من عمليات الاغتصاب تمر دون الإبلاغ عنها.(3/117)
وفي جنوب أفريقيا ذكرت صحافية جنوب أفريقية أنه في كل نصف دقيقة تغتصب امرأة في ذلك البلد.
وتقدر الجهات الأمنية عدد حالات الاغتصاب التي يتم البلاغ عنها بأنه لا يتجاوز (2,8%) من إجمالي حالات الاغتصاب التي تحدث بالفعل في جنوب أفريقيا مما يرفع العدد الإجمالي للنساء المغتصبات كل سنة إلى مليون امرأة. وقد نشرت ذلك مجلة الأسرة (العدد 73، ربيع الآخر 1420هـ).
أما عن المضايقات غير الأخلاقية:
فقد ذكرت التقارير إن: " 42% من النساء الأمريكيات يتعرضن لتحرشات غير أخلاقية في أماكن العمل والدراسة، والمنتديات، وفي الشوارع.
أما في بريطانيا فالنسبة (4,7%) " .
وفي ألمانيا اضطرت 6% من النساء الألمانيات سنة 1990م إلى هجر وظائفهن بسبب تطاول زملائهن عليهن، والتحرش بهن جنسياً. نشر ذلك في مجلة الأسرة (العدد 80، ذو القعدة 1420هـ).
ونشرت جريدة الرياض في عدد الجمعة 29 صفر 1421هـ خبراً حول تفاقم مشكلة التحرش بالنساء في اليابان والذي بلغ درجة القتل، وأن القضية أثيرت بقوة بعد مقتل فتاتين من قبل صديقين سابقين أصرّا على ملاحقة الفتاتين. وقالت: هيرومي شيراهاما خبيرة القضايا القانونية في الحزب الديمقراطي: " إن حوادث التحرش تكاثرت جداً في السنوات الأخيرة، وبات من الضروري وضع قانون وطني لمكافحتها ". أ.هـ.
وجاء في الخبر أن التحرش في القطارات متفاقم إلى درجة أن المسئولين في شركة القطارات الأرضية يفكرون بتخصيص عربات خاصة بالنساء.أ.هـ.
وسبحان الله، صيانة المرأة وإبعادها عن أن تكون موطن فتنة أمرٌ شرعه الله العالم بطبيعة النفوس، وها هو الواقع يضطرهم إلى إبعادها عن مخالطة الرجال. هذا حال المجتمعات المتحللة. والعاقل يبدأ من حيث انتهى الآخرون.
6- انقلاب قائمة الأولويات عند المرأة
إنّ هذه الدعوات التي لا تقيم وزناً لدور المرأة العظيم في المنزل - أمّا وزوجة ومربية أجيال - أثّرت في حس المرأة، وقلصت من اهتمامها بذلك ولم تعد رسالتها الأولى لها الأولوية في حياتها، وصارت تبحث عن نفسها - كما يقولون - خارج المنزل وتلقي بكثير من مسئوليات المنزل على عاملة مستقدمة غير مؤهلة لهذه المهمة، بل قد تكون سبباً لإفساد الأسرة والأولاد.
والتهاون بهذا الدور - دور المرأة داخل المنزل - يمثّل أثراً واضحاً لهذه الدعوات التي صورت البيت على أنه سجن ظلمت المرأة بقرارها وبقائها فيه، وأنّه تعطيل لنفعها، فهي عضو غير منتج ، وغاب عن شعور الكثيرات عظم هذا الدور في حياة المجتمعات، ثم عظم الأجر الذي تناله المرأة بالإحسان في هذا الجانب.
أتت أسماء بنت يزيد رضي اله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: " إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين، فهن يقلن بقولي، وعلى مثل رأيي: إن الله تعالى بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنا بك، واتبعناك، ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات قواعد بيوت، وإن الرجال فضلوا بالجمعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا أولادهم، أفنشاركهم الأجر يا رسول الله؟. فألتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال: " هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالاً عن دينها؟! فقالوا: بلى يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم : " انصرفي يا أسماء، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال "(9).
هذا ما تيسّرت الإشارة إليه من آثار هذه الهجمة الشرسة على المرأة المسلمة والمجتمع المسلم في هذا الزمن.
وهذا الحديث محاولة لتلمس جوانب الداء، لندرك الأثر السيئ لمثل هذه الدعوات، فنسعى للنأي بمجتمعنا عن تلك المنزلقات.
والله أسأل أن يحفظ علينا - في بلدنا هذا خاصة وفي بلاد المسلمين عامة - ديننا وأمتنا وعفافنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تمّ بحمد الله تعالى،،،،،،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البيام العدد 149 ص60.
(2) ماذا يريدون ص21، والقاتلة هي سلوى حماش.
(3) حسن بشوهده كما نقل المقدم في عودة الحجاب من محقق شرح السنة للبغوي.
(4) الأسرة عدد 72 ربيع الأول 1420هـ.
(5) اقتضاء السراط المستقيم ص220.
(6) المرجع السابق ص221.
(7) عن المرأة المسلمة أما التحديات ص322-323.
(8) عن المرأة المسلمة أمام التحديات ص294.
(9) رواه أحمد وصحح الألباني إسناده
===============
الليبراليون والدعوة إلى نقد الثوابت...
الليبرالية، العقلانية، التنوير، النهضة، الإصلاح، الحداثة، الإنسانية.. الخ، أسماء برّاقة لفكر واحد منحرف هو امتداد للفكر الإعتزالي القديم ولكن بوجه عصري جديد، هذا الفكر بصورته العصرية ظهر قبل أربعة عقود من الزمان، ثم اندثر، وها هو الآن يطل بوجهه القبيح مستغلاً تراجع الصحوة الإسلامية المباركة التي تمّ التآمر الدولي لإيقاف مدها الكاسِح، باسم مكافحة الإرهاب، دون تفريق بين مُحقّ ومُبطل، ومُصلح ومُفسد..
ولمّا كانت هذه الصحوة المُباركة بثوبها السَّلفي الطَّاهر النَّقي هي العدوّ التقليدي لهذا الفِكر الإعتزالي القديم والحديث، فلا غرابة أن يكون أصحاب هذا الفِكر جُزءاً من تلك المؤامرة كطابور خامس للأعداء.
ومنذ تراجع هذه الصحوة المباركة ـ وهو تراجع مؤقت للتمييز والتمحيص ـ وأصحاب هذا الفِكر يشنّون حرباً شعواء على السَّلفية، وينعِتونها بأقبح الصِّفات مستقوين بالعدوّ الخارجي، وقد بدأوا أوّلاً بنقد الفروع والجزئيات، ثم انتهى الأمر بهم إلى الدعوة إلى نقد الثوابت، والتي يعبّرون عنها تارة بالمسلّمات، وتارة بالحتميات، وتارة بالمعرفة الأولى.. الخ وهي دعوة خطيرة تكشف عن حقيقة ما يطرحونه من فكر..
يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم بلاهة وفِتنة بالغرب ـ في مقال له بعنوان: (ظهور الفِكر النَّقدي شرارة الإنطلاق الحضاري ) الرياض: 14083: " إنَّ النقد للأفكار والرُؤى والأوضاع والأعراف والتَّقاليد والمواضعات والمسلّمات هو محرِّك الحضارة وهو صانع التَّقدم في كل مجالات الفِكر والفِعل وهو الشَّرارة التي فجَّرت طاقات الإنسان وصَنَعت له أمجاد الفِكر والعِلم ووفَّرت له أسباب الإزدهار فالأُمم التي اعتمدت هذه الآلية الرائعة حقَّقت طُموحاتها وأنجزَت إثبات ذاتِها ووقفت شامخة بين الشُّعوب في سِباقات الفِكر والفِعل أمَّا الأُمم التي أخمدت هذا المُحرك الأكبر أو تجهله أو لا تُحسن استخدامه فقد بقيت عاجزة عن مُبارحة خنادِق التَّخلُّف بل بقيت رافضة بأن تتجاوز هذه الخنادق لأنَّ حِرمانها من النَّقد والمُراجعة حرّمها من اكتشاف نقائِصها كما حرّمها من التَّعرف على ما في الدنيا من آفاق وبدائِل فبقيت تتوهَّم أنَّها الأفضل والأرقى وظلَّت رهينة هذا الوهم .."(3/118)
فهو قد ساوى بين الأفكار والرُؤى والأوضاع والأعراف والتَّقاليد.. وبين المُسلّمات التي هي الثوابت، ولم يستثن من ذلك شيئاً.. فكلّها يجب أن تكون خاضعة للنّقد حسب رأيه، وهو يستشهد على ذلك بالحضارة اليونانية ووريثتها الحضارة الغربية حسب تعبيره، فيساوي بين دينهم وثوابتهم المُحرّفة الباطلة، وثوابتنا وديننا الصَّحيح الذي لا يقبل النَّقد، بل يعدّ هذا التّفريق بين الدِّينين وثوابتهما ضرباً لما أسماه بامتلاك الحقيقة المطلقة، بمعنى أنّك حين تعتقد أيُّها المسلم بأنّ دين الإسلام هو وحده الحقّ وما سِواه باطل، فإنّك حينئذِ تدّعي امتلاك الحقيقة المُطلقة!!! هذا ما يفهم من إطلاقه حيث يقول: "ولكن لن نُدرك عَظَمة هذا السبق المُذهل إلا إذا تذكَّرنا أنَّ أصعب معضلة واجهت الإنسانيَّة وسبَّبت لها الفظائِع والشُّرور وعرقلَت مسيرتَها الحضاريَّة هي الإنغلاق الثَّقافي الناتج عن توهُّم الكمَال واعتِقاد كل طرف من المختلفين أنَّه هو وحده الذي يملك الحقيقة النهائية المُطلقة وأنَّ كل الأطراف الأخرى غارِقة في الأباطيل والحماقات والعمى والضلال وانحلال الأخلاق وأن كل المخالفين يستحقون الاقصاء والاستئصال لأنهم في نظره خطر على الحقيقة وعلى الوجود ولأن هذا الوهم يجري من الناس مجرى الدم ومحتجب عن الوعي خصوصاً في الثقافات المغلقة [ ويقصد بها ثقافتنا ] فإنه قد بقي ويبقى محصناً عن أضواء العقل وغير متأثر بفتوحات العلم ومحمياً من عمليات التحليل والفحص والمراجعة فتوهّم الانفراد بامتلاك الحقيقة يؤدي إلى الانغلاق الثقافي ومعاداة كل المغايرين وتوهّم الخطر من أي مخالف . إن ادعاءات كل طرف سواء بين الأمم المختلفة أو بين المذاهب والطوائف والاتجاهات داخل الأمة الواحدة بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة وأن الآخر ليس لديه سوى الضلال والعمى كانت وما زالت من أقوى أسباب البؤس الإنساني والفرقة والإقتتال والعداوات وحجب الحقائق وتزييف الوقائع وإفساد الأخلاق وملء النفوس بالأحقاد وتلويث العقول وإعاقة المعرفة وعرقلة الحضارة ومنع الانسجام الإنساني لذلك كان تأسيس الفكر النقدي وتقويض أوهام الانفراد بامتلاك الحقيقة النهائية المطلقة من أعظم الاختراقات الإنسانية.."
وهذا الكلام تضمن حقّاً وباطلاً، وخلطاً عجيباً يدلّ على غبش في التصور، أو ضلال في الفكر.
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرادة الإنسانية.. المستقبل يصنعه الإنسان ) الرياض: 14073، هاجم فيه ما أسماه بالحتميات التي هي الثوابت، يقول: " لا أريد أن أتحيز إلى تهميش الحتميات؛ بقدر ما أريد التأكيد على قدرة الإرادة الإنسانية على تجاوزها، والتحرر منها؛ مع الإقرار بنسبية هذا التحرر. بل إن حضورها الطاغي أحيانا هو ما يبعث روح التحدي إزاءها، ويجعل من التحرر منها تحقيقا لتحرر الإرادة الإنسانية مما سوى الإنساني ". فهو يرى في مقاله الطويل الذي يكتنفه الغُموض أنّ الحتميات التي هي الثوابت ـ ويعني بها ثوابتنا نحن لكنّه لم يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها ـ هي العائق عن تحقيق التقدّم والإرادة الإنسانية، في الوقت الذي يثني فيه على الإنسان الغربي الذي يمثل في نظره مقدمة الوعي الإنساني، ومثال الإرادة الحرة الواعية بذاتها. لأنّه الإنسان الأقل خضوعا للحتميات، والأشد تحرراً من أسرها !!!!!. إنّها قمّة الإنهزامية والتبعية والإنحراف الفِكري، أو بتعبير بعض الفضلاء: ( الأدمغة المفخخة ). وفي مقال بعنوان: ( ثقافة معاقة )(!) الوطن: 2252 كتبت إحداهنّ داعية إلى الشك في الثوابت، والتشكيك فيها، تقول بكلّ جرأة: " يقال إنَّ الفرد قد حقق هويته عندما تكون سلوكياته العملية في جميع جوانب حياته نتاجاً لمفاهيم وقناعات اختبرت صحتها بعقلية حرة مستقلة ولم تكن نتاج وراثة أو برمجة بطريقة الترديد الببغائي لما يقوله الوالدان والمدرسة ووسائل الإعلام كالمسجد والتلفزيون والكتيبات، وليصل الإنسان لهذا المستوى فلابد أن يمر بمرحلتين الأولى وفيها يتم وضع كل ما تم تلقينه إياه في فترة طفولة الفكر وهي مرحلة الطفولة وحتى نهاية المراهقة موضع الشك والإختبار دون النظر إلى ما يسميه مجتمعه أعرافاً أو ثوابت فيبدأ المراهق بالتساؤل حول مصداقية التعليمات التي جاءت من قبل الكبار وتشكيكه فيها بالبحث والقراءة والإستطلاع بهدف الغربلة والتصحيح فيدخل سن الشباب وقد كوّن فكره المستقل الذي يعكس ما يدل عليه ثم يظهر الالتزام بالمعرفة الجديدة وتطبيقها عملياً كمؤشر ملموس على تحقق الهوية ".(3/119)
فهي تدعو الشاب الغض بعد سنّ المراهقة أن يختبر قناعاته ـ حتى الثوابت(!)بعقلية حرة مستقلة كما تقول(!!!) وهي لا تعلّم أنّ ثوابتنا لا سيَّما العقدية لا تخضع للعقل، ولا مدخل للعقل فيها، فهي تعتمد على الإيمان والتسليم المطلق {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [ البقرة: 2]، ولو كانت الكاتبة تتحدث عن مجتمع غير مجتمعنا، ثوابته من وضع البشر لكان لكلامها وجاهة، أمّا وهي تتحدّث عن مجتمعنا السلفي المسلم بمناهجه النقية التي تولّى إعدادها علماء أجلاء، فلا وجه لهذه النزعة التشكيكية المتلقّاة من الغرب الكافر الذي لا ثوابت له سوى ما وضعه البشر.. ثم كيف لشاب غضّ في مقتبل العمر أن يختبر تلك القناعات والثوابت التي وضعها له علماؤه ومشايخه، وهي مما اتفق عليه سلف الأمة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا ؟!! ثم تقول: " وقد يظن أي معاق الهوية أنَّ الأخلاق والقيم والمبادئ غير قابلة للتطور ويجب أن تبقى ثابتة وأننا نعني بهذا المقال التأثير على شبابنا ودفعه للتخلي عن قيمنا وأخلاقنا العظيمة ونقول له بل هي قابلة للتطور والتحسن ويجب أن تعامل بمرونة أكثر وسأعطي مثالاً على نمو المبادئ وتطورها ففي ثقافتنا الإسلامية الجميلة كنا من رواد الدعوة لحقوق العبيد ولتضييق موارد الاستعباد ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساسا ومن هذا المنطلق يمكن حتى أن نطور مفاهيمنا حول حقوق المرأة والطفل ". وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانهزامية بائسة، فديننا ولله الحمد قد أكمله الله وأتمّه { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } [ المائدة: 3] فلسنا بحاجة لنطور ثوابتنا وقيمنا عن طريق أمم لا قيم لها ولا أخلاق أصلاً إلاَّ الأخلاق التجارية إن صحّ التعبير، والمثال الذي ضربته دليل صارخ على جهلها فإنّ إلغاء الرقّ الذي أقرّه الإسلام ليس تطويراً وإنّما هو مضادة لحكم الله وشرعه، فالرق باق ما توفّرت أسبابه، وقولها: ( ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والإتجار به أساساً ) كلام خطير حيث جعلت هذا النقض لحكم الله مستوى أعلى مما شرعه الله وأقرّه.. فجعلت حكم الطاغوت أعلى من حكم الله، ولا أظنّها لجهلها تدرك ذلك، فإلى الله المشتكى من جهل هؤلاء وجرأتهم وتعالمهم.. ثم أي استعباد أعظم مما تفعله الدول الكبرى اليوم من استعباد الدول والشعوب وإذلالها والضغط عليها لتنفيذ أجنداتها، والسير في ركابها، والاستيلاء على ثرواتها ومقدّراتها ؟!! ومن يخالف ذلك فإنّ مصيره إلى الإقصاء والإبعاد والاتهام بالإرهاب، وتسليط المرتزقة عليه وغير ذلك من الأساليب الماكرة. وتختم مقالها بما لا يقل خطورة عما سبق، فتقول: " وأخيرا تحت شعار حماية ثقافتنا خوفا من المتربصين وهذا الخوف الذي ينادي إلى التقهقر ومحاولة إحياء عصر ما قبل ألف سنة بحذافيره وهذا الفكر خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية وجعل عقولنا راكدة متوقفة عن العطاء نعيش عالة ولا نساهم في أي إضافة للمجتمعات لا تقنيا ولا ثقافيا بالرغم من أننا نشكل خمس سكان العالم".
فتأملوا قولها: ( إحياء عصر ما قبل ألف سنة ) وهو عصر النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه والتابعين، أي القرون الأولى المفضّلة التي قال عنها النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: (( خير القرون قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم.. )) وجعلت إحياء مثل هذا العصر المجيد سبباً من أسباب خلق مجتمعات بأكملها معاقة العوية... ألا يعدّ هذا الكلام من الكفر الصريح، أم أنّ هذه الكاتبة تردّد ببغائية ما لا تدرك معناه ؟! وفي ذات السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( التفكير في المعرفة الأولى) الوطن: 2259: "يعتبر كثير من الباحثين في الفكر العلمي، باشلار من أبرزهم، أن المعرفة الناتجة عن التجربة الأولى، أي الاتصال الأول بالموضوع، تعتبر عائقاً معرفياً أمام الحصول على معرفة علمية موضوعية. وبالتالي فإن المعرفة العلمية الحقيقية تأتي لتواجه وتتجاوز هذه المعرفة الأولى ".
إلى أن يقول: " هذا المفهوم يمكن توسعته أيضاً إلى معارفنا الأولى عن الكون والحياة والأفكار والثقافات وعن أنفسنا ومحيطنا الصغير والكبير. خصوصاً أنَّ أغلب معارفنا في هذا الإطار اكتسبناها ونحن صغار في فترات التعلم الأولى. تعلمنا في البيت وفي المدرسة ومن خلال التفاعل الإجتماعي أشياء كثيرة. تعتبر كلها معارف أولى تبقى متأثرة بثقتنا بمن علمنا إياها وبالهالة التي لهم عندنا...." إلى أن يقول: " يمكن سحب هذا الفهم على المعرفة الأولى التي اكتسبناها في المدرسة من المعلم وتلك التي اكتسبناها من إمام المسجد وتستمر حتى إلى المعرفة الأولى التي تحصلنا عليها من الجامعة أو أي مصدر معرفي آخر ". وهذا هو مربط الفرس عندهم: المعلم، المسجد....وهكذا تستمر الدعوة إلى التشكيك في ثوابتنا ومسلّماتنا الشرعية بحجّة النقد والتمحيص، وهم يقيسون مجتمعنا المسلم على المجتمعات العلمانية الكافرة التي لا ثوابت لها إلا ما صنعه البشر كما سبق ضاربين بثوابتنا الشرعية عرض الحائط.
فمن يوقف هؤلاء عند حدّهم..
==============
حقيقة الأرهاب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
فهل توقفَ الأعداءُ عن حربِ الإسلام ؟ هل تقاعست هممهُم في المكيدةِ لأمةِ الإسلام ؟ هل ضعفت عزائمهُم ؟ هل فترت قواهُم ؟ هل توقفت عقولهُم في ابتكارِ حيلٍ جديدة ..وأساليبُ حديثة ..لضربِ الإسلام ..والقضاءِ على المسلمين ؟ كلا ..كلا ..فهم على قدم وساق ..ويعملون ليل نهار ..للقضاءِ على العملاقِ النائمِ حتى لا يستفيق ..ومن أساليبهم في القضاءِ على المسلمين عامةً ..والمتمسكين بمنهاجِ النبوةِ خاصةً التلاعبُ بالمصطلحات ..فهناك الكثيرُ من المصطلحاتِ التي تُثارُ في وسائلِ الإعلامِ لا تفهمُ على المفهومِ الشرعي ..ومن تلك المصطلحات ..مصطلحُ الإرهاب ..الذي أعلن العالمُ الحربَ عليه ..واقتلاع جذوره ، ونسفَ قواعده ..وإنك لتعجبُ أشدَ العجبِ من إجماعِ العالمِ على حربهِ ..مع عدم امتلاكِ أي من هذه الدولِ ..تعريفاً واضحاً ومقبولاً لهذا المصطلح ..حتى ذكر أحدُ الكتاب مائةَ تعريفٍ لهذه الكلمةِ من قبلِ المتخصصين .. والسؤالُ الذي يطرحُ نفسَه بنفسِه .. : ألا تستطيعُ هذه الدولُ أن تقللَ من غموضِ هذا المصطلحِ ،وتظفرَ بتعريفٍ أكثرَ دقةً وقبولاً، وأقربَ إلى تحقيقِ العدلِ والإنصاف؟
بلى! تستطيع... ولكنهم يهدفون ..إلى ممارسة الإذلالِ والاضطهادِ لأعدائهم .. من خلال المصطلحِ ذاته ، فأصبحت هذه الدولُ لا تتكلفُ إذا أرادت أن تقضي على أعدائِها (أياً كانوا: شخصاً، جماعةً، حزباً، نظاماً، شعباً) أكثرَ من أن تُشير ببنانهِا إلى هذا العدو واصمةً إياه بالإرهاب؛ لتنطلقَ بعد ذلك نحوه بخيلِها ورجلِها ..جيوشُ العالم التي سبق تجييشها ضدَّ (الإرهاب) دونما تروٍ ولا تثبتْ، بل حتى ولا سماعٍ لشاهدٍ آخر!!(3/120)
إنهم يهدفون من خلالِه إلى صد الجماهيرِ عن المصلحينِ الناصحين ..وذلك بواسطةِ الإعلامِ الذي يُخدرُ الشعوبَ ، ويقلبُ الحقائقَ ، ويفرقُ بين القلوب؛ فهو السحرُ الحديثُ الذي أفرزَه الفكرُ الغربي، وهو المصيدةُ التي يمكن أن تؤدي الدورَ بالوجهِ المطلوبِ بعد أن ترفعَ رايةَ الإرهابِ وتلوِّحَ بها وتناديَ الجميع للمشاركةِ في زوبعتِها ليجعلُوها دعوى يطعنون من خلالهِا في الدعوةِ الإسلامية،ومعولاً يضربون به حصونها، وسيفاً مصلتاً على رقابِ الدعاةِ والمخلصين،وتهمةً جاهزةً تُطرحُ على المجاهدين الصادقين.
إن هذا المصطلحَ ـ أعني الإرهابَ ـ مصطلحٌ مخيفٌ يهزُ قلوبَ الجبناء، ويُسيطرُ على أفئدةِ ضعفاءِ العقول؛ لأنه لفظٌ يوحي بالنفرةِ والوحشيةِ لسامعِه ومن خلالِ وصمِ الدعاةِ بهذا اللقبِ يمكنُ الطعنُ في الجهادِ الإسلامي والتشكيكِ في حكمته.
ويهتبلُ الإعلامُ الكاذبُ والمزورُ للحقائق فرصةَ كلِ حركةٍ نشازٍ وكلِ حادثٍ شاذٍ يقعُ من بعضِ الجهلةِ أو المتعجلين من المسلمين ـ أو من غيرِ المسلمين أحياناً ـ فيضخمُه ويستغلُ الحدثَ اليسيرَ أبشعَ استغلال، من أجل الكيدِ للدعوةِ ودعاةِ الإسلام، وشن الهجومِ الكاسحِ عليهم، والطعنُ في نياتهِم؛ حيثُ يتهم دعاةُ المسلمين زوراً وبهتاناً، وظلماً وعدواناً بأنهم وراءَ كلِ عمل إجرامي، وكلِ حادثٍ تخريبي يحدث في أي مكان من الأرضِ حتى تثبتَ براءتهُم إن كان لذلك من سبيل.
لقد جعل الأعداءُ شبحَ هذا المصطلح يطاردُ كلَ مسلم مستقيمٍ ،يحافظُ على أصولِ دينِه أو يفكرُ في الدعوةِ إليه، وجعلوا هذا المصطلحَ مرادفاً للتعصب المذمومِ والتشددِ في الدين والغلوِ والتنطعِ والبعد عن حقيقةِ الإسلام وصفائِه، واتهموا من وصموهم بهذا المصطلحِ بكرهِ الشعوبِ وعامةِ الناسِ والانتقامِ من المصالحِ العامةِ وتدميرِ مقدراتِ الأمةِ والعبثِ بها.
وبعد أن عرفنا هذه التهمةَ المعلبةَ الجاهزة ..لننتقلَ إلى صورةٍ أخرى لنرى نوعاً من الممارساتِ والسياساتِ للدولِ ذاتِ النفوذِ في المنطقةِ ..ونسألُ أذلك من الإرهابِ أم لا ؟
فماذا يقالُ عن قتل الأبرياءِ في مسجدِ الخليل ، وتبييتِهِم وهم ركعٌ سجدٌ لله ..والمذبحةُ التي حصلت في دير ياسين ..حيث قتلت العصاباتُ الصهيونيةُ أكثرَ من مئتين وخمسين شخصا ..منهم مائةُ امرأةٍ وطفل ؟!! ومجزرةُ كفر قاسم ..حيث قُتلَ أكثرُ من سبعةٍ وأربعين شخصا ؟!! وماذا يقالُ عن المجازرِ التي جرت في صبرا وشاتيلا ؟!! أليس إرهاباً تجويعُ الملايين من الأبرياءِ في أفغانستان..أليس إرهاباً قتلُ أكثرَ من خمسمائةِ ألفِ طفلٍ عراقي بسبب الحصار!! ويا ترى ماذا جرى في الجنوب اللبناني من القذائفِ والراجمات ..ولما فر المدنيون في فزعٍ صوب الشمال،وبعضهم فر إلى معسكر قانا الذي كان من المفترض أنه مكانٌ آمن تابعٌ للأممِ المتحدة .غيرَ أن صواريخَ وقذائفَ مدفعية، قصفتِ المعسكرَ وقتلت ما يقربُ من مئتين امرأةٍ وطفلٍ وكهلٍ.. لقد كان موقعُُ الهجومِ في قانا بحراً من الجثثِ والدماء ..فماذا نسمي هذا ؟ هل نسميه إرهابا ؟
ثم هل ننسى المجازرَ الجماعيةَ في البوسنةِ والهرسك ..هل ننسى المجازرَ الجماعيةَ في كوسوفا ..وحاميةُ السلام ..صامتةٌ لا تتكلم ..وليت الأمرَ توقفَ عند هذا ..لهان الأمرُ وما هو بهينٍ وربِ الكعبة ..ولكن أن يكون هناك دعمٌ للعدو الغاشم ..ويُطالبُ منه بالإسراعِ على القضاءِ على الأصوليةِ بأسرعِ وقت ..ويسحبُ السلاحُ من الطرفِ المقابل ..زيادةً في الظلمِ والطغيان ..وهل ننسى شعبَ فلسطين ..الذي لا يزالُ يعاني من الويلاتِ من إخوان القردةِ والخنازير..وقد أظهرت بلا استحياءٍ التأييدَ الكاملَ وبكلِ إسفافٍ في الرأي العامِ ليهود ..والضربِ بعرض الحائطِ بكلِ القيمِ والموازينِ فماذا يسمى هذا ؟ أليس هذا قمةُ الإرهاب؟
ثم أليس من الإرهابِ يا مسلمون ضربُ مصنعٍ كاملٍ للأدويةِ بلا مبرراتٍ شرعية ؟!! وهبوا أنه كان مصنعاً لنوعٍ من الأسلحةِ كما زعموا ..فهل يبرر ذلك ضربُه ..وهل يجوزُ إقامةُ المصانعِ العملاقةِ الحربية في مكانٍ ويُحضرُ في مكان آخر ؟ وهل كُتبَ على العربِ والمسلمينَ تحريمُ الصناعات ، وهو حلٌ للغربِ وحليفتِهم إسرائيل ؟!! .
إننا نعجب والله حينما نسمعُ صيحاتِ التهديدِ بالانتقامِ المدمر، ونحن نرى سفاحي صبرا وَ شاتيلا قد صاروا قادةَ دول ! وكلُ ما فعلتُه المحكمةُ الدوليةُ هو حفظُ القضية.
فأين محاربةُ الإرهابيين ؟!!
وسفاحو البوسنةِ يحاكمون محاكمةً باردةً بطيئة، ربما تنقرضُ الأجيالُ ولم تصدر فيهم الأحكام ؟؟ فلماذا يكيلون بمكيالين ؟!!
إنها الحربُ الصليبيةُ الجديدةُ لهذا القرنِ الجديد ..فهل نستيقظُ من رقدتنا ..ونفيقُ من غفلتنا ..ونعرف عدوَنا من صديقَنا ..وندركُ صدقا و حقا قول الله تعالى : ] كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ [(التوبة: من الآية8)
ومن منطلق الإنصاف في القول فإننا لا نتنصل مما يقع من بعض المسلمين من تخريب وقتل وتفجير وتدمير وإفساد بغير حق فما هو إلا صورة من صور الإفساد الممقوت والذي جاءت الشريعة بتحريمه ، فإن الله جل جلاله عظّم الأنفس والأموال والعهود والمواثيق أن تنتهك أو يُعتدى عليها، كما حمت الشريعة الضرورات الخمس ضرورة الدين والعرض والعقل والمال والنفس.. ويجب علينا أن نقف صفاً واحداً ضد كل من دعته نفسه إلى أن يفسد في الأرض أو أن يشيع الفوضى والخوف والرعب في البلاد.
و بقدر ما يستهينُ اليهودُ والنصارى والشيوعيون بدماءِ المسلمين، تراهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا تعرضَ فردٌ منهم للقتل ، وكلما زاد عددُ القتلى تعاظمَ الأمرُ عندهم ..فهل دماءُ المسلمين بهذه المنزلةِ المهينةِ عند القوم ؟ وهل كُتب القتلُ علينا والسلامةُ لغيرنا ؟ إنها نوعٌ من الغطرسة والكبرياء ..لا مبرر لها إلا شعورُهم الكاذب بالتميز علينا ..وقديماً قال أسلافُهم وكذبهَم القرآن : ] لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[(آل عمران: من الآية75) .
و من خلالِ الوقائعِ والأحداثِ التي جرت تَبرزُ عدةُ دروس ..حريٌ بالمسلمين أن يعوها ومنها :
أولاً : أن الحربَ قائمةٌ بين الإسلام وملل الكفر ..وقد صرحوا بذلك ..وأنها بدايةٌ للحربِ الصليبية ..إذن لابد من الاستعدادِ لها والشعورِ الحي بأسبابِ الهزيمةِ ومقوماتِ النصر ..ومن لم يستطيعْ أن يجاهدَ بنفسِه فلا أقلَ أن يجاهدَ بماله، يقولُ النبي صلى الله عليه وسلم : " من جهز غازياً في سبيلِ الله فقد غزا ، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا "[1] رواه البخاري.(3/121)
ثانيا : لابد من الوعي التامِ بتحويرِ المصطلحات ..ومعرفةِ الهدف من تصديرِها وإلصاقِها بالمنتمين الصادقين للإسلام ..ولذا لا يسوغُ استخدامُ مصطلحِ الإرهابِ من وجهة نظري لأسبابٍ من أهمِها: أن الله (عز وجل)يقول: ] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ وأجزمُ بأن الآثارَ السيئةَ ..المترتبةَ على إقرارِ هذا المصطلحِ واستخدامِه ..أكثرُ وأخطرُ من تلك التي قد ترتبت على قولِ بعض المؤمنين ] رَاعِنَا] فإننا بإقرارِ هذا المصطلحِ واستخدامِه ..قد نمكّنُ للحاقدين من تنفيذِ مخططاتهِم العدوانية..وقد يفيدُ استخدامُ المصطلحِ دون تبيينٍ لماهيةِ الإرهابِ المُدانِ من الناحيةِ الشرعية ..بأننا نحكمُ على بعضِ الأعمالِ الجهاديةِ بأنها من الإرهابِ! ولقد تقرر معنى الإرهابِ في كثيرٍ من الأحيان عند أولئك بأنه الإسلامُ! فهل نُدينه نحن بدورنا!!
والمصطلحُ الشرعي للإرهابِ الذي جاء به القرآنُ قوله تعالى : ] وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ] ولغتُنا العربيةُ، لغةٌ ثريةٌ في كلماتهِا، دقيقةٌ في معانيها، واسعةٌ في مصطلحاتها، واضحةٌ في لوازمِها، وهي مع ذلك لغةٌ تواكبُ تطوراتِ العصرِ وتفي باحتياجاتِه..وعليه فإن المصطلحاتِ التي يمكن استخدامُها كبديلٍ لمصطلحِ (الإرهابِ) كثيرةٌ في عددِها ومتنوعةٌ في أغراضِها، فمنها على سبيلِ المثالِ .:العنفُ و الإجرامُ و العدوانُ..فهل يتفضلُ أصحابُ الأقلامِ إلى استخدامِ هذا المصطلحاتِ أم لا ؟
ثالثاً :إذا اتحد الأعداءُ ـ رغم خلافاتهِم ـ على حربِ المسلمين تحت شعاراتٍ خادعة .. أفلا يدعو ذلك المسلمينَ إلى اجتماعِ الكلمة ، وتوحيدِ الصفوف ، فهم بالاجتماعِ أحرى وأولى ، والله تعالى يأمرهمُ بالوحدةِ على شرعِ الله تعالى : ] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا[ (آل عمران: من الآية103) وينهاهم عن الفرقةِ والاختلاف ] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ (آل عمران:105) .
رابعاً :ينبغي أن يعلمَ أن العدو اتخذَ من ضعفِ المسلمين ..وتفككِهم ..وتفرقِ كلمتهم .. مناخاً مناسباً لكيلِ الضرباتِ هنا وهناك ..وتصديرُ الأفكارِ الهزيلةِ في عددٍ من القضايا . وتلك واحدةٌ من ضرائبِ الفرقةِ والشتاتِ في العالمِ الإسلامي والعربي.
خامساً : للإعلامِ دورٌ كبيرٌ وفعالٌ في توضيحِ الصورة ..دونَ مخادعةٍ ..وعلى الإعلاميين كفلٌ كبيرٌ في كشفِ الحقائقِ لعامةِ الأمة ..وفي مثلِ هذه الظروفِ تبرزُ الهويةُ ..ويتحددُ نوعُ الفكرِ ..ويتبين الصادقون ومن يتحملون أمانةَ الكلمة ، والموتورون ومن في قلوبهِم مرض ، ولسانُ حالهِم يقول : نخشى أن تصيبَنا دائرةُ ..ويقول غيرُهم : ] فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ[(المائدة: من الآية52) .
وفرقٌ بين من يأوون إلى ركنٍ شديد فيتوكلون على الله ، ويستمدون النصرَ منه وحده ، وبين من يعلقون آمالهَم على بشرٍ لا يملكون لأنفسِهم نفعا ولا ضرا ، ومثلُ هؤلاءِ : ] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[ (العنكبوت:41) .
سادسا : و في الأحداثِ الجاريةِ إيحاءٌ ظاهرٌ بتخوفِ الغربِ رغم قواهم ..وإذا أخافتُهم قوى صغيرة ..فماذا لو اجتمعَ المسلمون واتحدتْ كلمتُهم وقواهم ؟!!فهل ينتهز المسلمون هذه الفرصة؟
سابعاً : وعلى صعيد الواقعِ تنكشفُ الحقيقيةُ في دعوى الغربِ محاربةَ الإرهاب ..فإن كانوا صادقين في محاربةِ الإرهاب ..فقد ثبت للعالمِ تغطرسُ الصهاينةُ في الأراضي المحتلة ..بتدنيس المقدساتِ والاعتداءِ على حرماتهِا ..وقتلِ الأبرياء ..والاستمرارِ في بناءِ المستوطنات ..واحتضانِ أنواعِ الأسلحةِ الكيماوية وغيرِها ..وكلُ ذلك من الإرهاب ..فماذا صنعت الدولُ الغربيةُ ـ وفي مقدمتِها أمريكا ـ لإيقافِ هذا المدِّ الإرهابي الصهيوني المتنامي ؟ إنها ألعوبةٌ مكشوفةٌ يُغضُ الطرفُ فيها عن إرهابِ اليهودِ والنصارى ، وتتركزُ التهمُ وتضخمُ القضايا على المسلمين وإذا كان الذئبُ لا يلامُ في عدوانه ، فالمأساةُ أن تروجَ الشائعاتُ على بعضِ أبناءِ المسلمين .
ومع ذلك كلِه فعسى أن تكون هذه الأحداثُ موقظةً للمسلمين وباعثةً لهممِهم وموحدةً لصفوفهم ، وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعلَ اللهُ فيه خيرا كثيرا .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
[1] - ورقمه (2843) من حديث زيد بن خالد
==============
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ).
الحرب على السلفيّة..!
( نقد الفكر "الليبرالي" السعودي )
فئة ضالة جديدة
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنّ من المعلوم أنّ هذه الدولة السعوديّة منذ نشأتها على يد الإمامين الجليلين محمّد بن عبد الوهّاب ومحمّد بن سعود ـ رحمهما الله تعالى ـ قد قامت على العقيدة السلفيّة النقيّة التي كان عليها السلف الصالح منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم.. والإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله لم يأت بجديد فيما دعا إليه، وإنّما جدّد ما اندرس من معالم هذا الدين لا سيّما ما يتعلّق بالتوحيد ونبذ الشرك، فكانت دعوته تحريراً للعقول من الجهل والخرافات والخزعبلات، وجرى على ذلك أتباعه من بعده حكاماً ومحكومين، ولقد تعرّضت هذه الدولة السلفيّة المباركة منذ نشأتها للكثير من الأذى والمواجهات والتحديات من قبل جهات عدّة، لكنّها ـ بفضل الله تعالى ثم بفضل تمسّك أهلها بهذه العقيدة السلفيّة النقية ـ صمدت في وجه أعدائها، وعاودت الظهور كلّما ظنّ أعداؤها أنّها قد زالت إلى الأبد..(3/122)
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثمّ الأحداث التي وقعت في هذه البلاد من تفجيرات آثمة، مع ما صاحب ذلك من وفاة كبار أئمّة هذه الدعوة السلفيّة المعاصرين الذين كان لهم كبير الأثر في حمايتها والذود عنها؛ وجد الأعداء فرصتهم في النيل من هذه الدعوة السلفية ممثلّة في أهلها والقائمين عليها، ولم يكن عدوّها الخارجي بأخطر من عدوّها الداخلي المتمثلّ في بعض أبنائها العاقّين الذين تشرّبوا مبادىء وأفكاراً منحرفة، كان منهم طائفة تبنت الفكر الاعتزالي القديم، وراحت تدعو إليه وتنافح عنه، وترى في السلفيّة عدوّاً لدوداً له، وهم بذلك يسعون إلى إعادة فتنة سلفهم القديمة مع إمام أهل السنة في وقته الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكن بوجه عصري جديد يتماشى مع ما يريده العدو الخارجي المتمكن، هذا الوجه يتلخص في اتهام هذه السلفية النقيّة بأنّها هي مصدر الإرهاب ـ الذي لم يتم الاتفاق على تعريفه إلى هذه اللحظة ـ، ومصدّرته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فجعلوا السلفية المسكينة هي السبب الرئيس في جميع النكبات التي حلّت بالأمّة من تخلّف وتأخر وتفرّق(!)، وأنّه لا سبيل إلى التقدم والازدهار إلا بنبذ هذه السلفية النقية التي تدعو إلى اتّباع منهج السلف الصالح ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ومروراً بأئمّة الإسلام العظام كسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير والأئمّة الأربعة وابن تيمية وانتهاء بأئمة السلفية المعاصرين كابن باديس وابن باز وابن عثيمين وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، وفي الوقت نفسه راحوا يبشّرون بمشروعهم التغريبي الجديد المتمثّل في إحياء الفكر الاعتزالي العقلاني، بدعوى الإنسانية والتعددية.. وقد رأيت أن أقصر الحديث على هذه الطائفة الاعتزالية دون غيرها لأسباب أهمّها:
1. أنّهم من أبناء جلدتنا اللصيقين، ويتكلّمون بألسنتنا..
2. تمكنهم من بعض وسائل الإعلام المحلية، وإعطاؤهم الضوء الأخضر من قبل القائمين على تلك الوسائل ليقولوا جلّ ما يريدون، وعدم السماح بنشر الردود عليهم إلا بشكل ضئيل جداً.
3. أنّهم يتحدّثون باسم الدين ويلبسّون على الناس بخلط الحقّ بالباطل، وإثارة الشبه القديمة التي أثارها الأعداء من قبل.
4. تمكنهم من بعض المنابر الجامعية في بلادنا، وبلبلة أفكار الطلاب وتشكيكهم في دينهم وعلمائهم بل وفي أقرب الناس إليهم وفي هذا يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13709: " ما أؤكّده لطلابي دائماً، ويقع منهم موقع الغرابة أنّ الفكر الخارجي حالة ليست ببعيدة عنا، الحالة الخارجية لها نسبتها الخاصة، وقد تنمو داخل الفرد ببطء دون أن يشعر، وقد تتسرب إليه من أقرب الأقربين، بل قد يكون أقرب الناس إليه ـ والداه أو إخوته مثلاً ـ من غلاة الخوارج، ولكنه يستبعد أن يكون هذا القريب الذي يطمئن إليه غاية الاطمئنان من الخوارج الغلاة الذين يقرأ عنهم وعن تكفيرهم ووحشيتهم.. لا يكادون يصدقون هذا، مع أنهم يعرفون تمام المعرفة أن الخوارج القدامى خرجوا من صميم المجتمع... "، بهذه الطريقة الماكرة يشكك الأستاذ الجامعي تلاميذه في والدِيهم وإخوانهم، بل العجيب أن يتحوّل مدرس العربية، إلى أستاذ في العقيدة، ليلقنهم درساً في الفِرَق، وهذا الذي طالما استنكروه في صحفهم، وعدّوه من أسباب تدني التعليم عندنا كما يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( دعاة لا معلمون ) الوطن: 921.
ثم يقول الأول في مقاله: إن الطلاب لا يكادون يصدقون ما يقوله..!!، وكيف يصدقون هذا الهراء من كاتب يعلمون خبثه وانحرافه العقدي والفكري، وقد قابلت بعض طلابه فأبدوا استياءهم من فكره المنحرف الذي يبثه في قاعة الدرس..
ولقد كنت منذ زمن أتتبع كتاباتهم التي يسوّدون بها الصحف والمجلات، فجمعت منها كمّاً هائلاً مليئاً بالجهالات والمغالطات والتلبيس والدسّ الرخيص، وتقرير العقائد الباطلة، وغير ذلك من أنواع الباطل، وما فاتني منها ربما أضعاف ما جمعته، مما يصعب معه نقد هذا الفكر نقداً شاملاً دقيقاً، إذ يحتاج ذلك إلى مجلدات ضخمة ربما فني العمر قبل الفراغ منها.. ولا أقول ذلك مبالغة وإنّما هي الحقيقة، لذا سأحاول نقد ما تيسر لي من هذا الفكر بحسب ما يتسع له الوقت، وهو كاف ـ بإذن الله ـ لفضحه وبيان فساده وخطله..
وسيكون الحديث عنهم في النقاط التالية:
أوّلاً: سماتهم الشكلية الظاهرة..
ثانياً: سماتهم الفكرية والثقافية من خلال كتاباتهم المعلنة..
ولن أحرص على ذكر الأسماء، لأنّ الأسماء تتغيّر وتتبدّل، بخلاف السمات فإنّها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان إلا قليلاً، وهذا هو منهج القرآن في الحديث عن مثل هذه الطائفة..
هذا؛ ومن الملاحظ من خلال كتاباتهم أنّهم يتبادلون الأدوار، فبعضهم متخصّص في الطعن في السلفية وتشويهها وتنفير الناس منها، وبعض آخر متخصّص في التقليل من خطورة المذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة، بل الدعوة إلى بعضها وتلميعها وخصوصاً الفكر الاعتزالي كما سيأتي بإذن الله، وهكذا، وبعض ثالث متخصّص في النيل من حضارتنا الإسلامية، وتشويهها، والثناء المغالي على الحضارة الغربية، وتمجيدها إلى حدّ الهوس، وهلمّ جرّاً..
أمّا مصادرهم التي ينهلون منها، فهي بعض الكتب الفكريّة لبعض الكُتّاب المنحرفين من تلامذة المستشرقين الحاقدين، ومن أصحاب التوجّهات العلمانية المشبوهة، الذين يجيدون بثّ الشبه، والتشكيك في أصول الدين ومصادره، وتاريخ المسلمين، بطريقة ماكرة، وغير منهجية، قد تخفى على كثير من الشباب الغضّ الذي ليس له حظّ وافر من العلم الشرعي، ومن أبرز هؤلاء المفكّرين، وأكثرهم حضوراً في كتاباتهم: المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري، ففي الوقت الذي يطعنون فيه بأئمّة السلف وعلماء الأمّة كما سيأتي؛ نجدهم يسبغون أوصاف التعظيم والتبجيل لهذا المفكر وأمثاله، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401: " فلسطين والنهضة العربية، أيّهما الوسيلة، وأيّهما الهدف؟ تاه العربي في هذا السياق وغمّ عليه! وأصبحت الحيرة في هذا من الإشكاليات المزمنة في الوعي العربي ذي البعد الوحدويّ؛ كما يرى ذلك المفكّر المغربيّ الكبير: محمد عابد الجابريّ.. "!!! .
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد، وتقرير مذهب الاعتزال ـ في مقال له بعنوان ( غرس المفاهيم من خلال الطرح غير العقلاني ) الرياض: 13477: " يرى الدكتور محمد عابد الجابري أنّه لكي يتمّ غرس المفاهيم الحداثية في الذاكرة الجمعية لمجتمع معين مثل مفاهيم الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان والمجتمع المدني فلا بدّ من تجذيرها تراثياً.. " ويستمر الكاتب في شرح وجهة نظر الجابري، وعلى الرغم من أنّه أبدى شيئاً من التحفظ المؤدب تجاه تلك الوجهة، إلا أنّه يختم مقاله بقوله: " وهذه على الأقلّ تظلّ مجالاً للتساؤلات التي على المفكّرين الكبار من طراز الجابري بالذات أن يولونها ( هكذا ) اهتمامهم.."، وأضع تحت كلمتي ( طراز ) و( بالذات ) عدّة خطوط.
وفي مقال آخر بعنوان ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551، يقول الكاتب نفسه: " مفكرون عرب كبار وعلى رأسهم الجابري.. ".
أمّا ترديد أفكار الجابريّ، وحتى ألفاظه ومصطلحاته، فهو كثير في كتاباتهم، ومن ذلك:(3/123)
• ( بنية العقل العربي) من مقال بعنوان: (بائعو الكلام) الرياض: 13490.
• ( الإيبيستيمولوجيا، النظام البياني والعرفاني والبرهاني ) من مقال بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551.
• ( التاريخ السياسي المتدثّر برداء الدين، والمحافظ على أيدلوجيته القبليّة، ومكاسبه الغنائميّة.. ) من مقال بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667.
• ( المخيال الجمعي ) من مقال بعنوان: ( مفهوم الحاكمية ) الرياض: 13716، وغيرها من العبارات.
بل إنّ أحد كبرائهم ـ وهو أشدّهم افتتاناً بالحضارة الغربيّة وتمجيدًا لها ـ صرّح في مقال له بعنوان: ( أسباب التباس مفهوم الثقافة ) الرياض: 13789 بمنهجهم في التلقّي، يقول: " أمّا التوغّل الفردي في اكتساب المعرفة المقروءة، والتحليق في آفاق المعارف الإنسانيّة؛ فهو من التغيّرات التي طرأت على الحياة البشريّة، وهو عالميّ المصدر، فرديّ الاهتمام، فهو لا يكون جماعياً، ولا يمثّل سياقاً عامّاً، أو نسقًا سائدًا، وإنّما هو عمل فرديّ يقتصر مداه على صاحبه ومن يتأثّرون به، ويستجيبون له [ يقصد حزبه الليبراليّ ]، وتكون مرجعيّته المعرفيّة من خارج النسق الثقافي المحلّي المغلق(!)، إنّه يعتمد على المصادر المكتوبة الممحصّة(!)، وهي مصادر مجلوبة من خارج الثقافة السائدة "
هذه هي مرجعيّتهم، إنّها مجلوبة من خارج الثقافة السائدة(!) وهي كتب المستشرقين الحاقدين، وأذنابهم من الزنادقة الملحدين، والمفكّرين المنحرفين كما تدلّ على ذلك كتاباتهم!!!.
ثمّ يواصل: " فالفرد المهتّم يكوّن ذاته بذاته منفردًا، ويفتح ذهنه لكلّ المتاح من الإنتاج العالميّ، من الأفكار والمعارف والآداب(!) والفنون حيث يتجاوز الفرد بهذا التحليق(!) الثقافة السائدة تجاوزًا موغلاً(!) معتمدًا في ذلك على التأمّل العميق والاستقصاء الدقيق، والبحث الدائم، والمعايشة المنفردة(!) ".
فهو يرى أنّ مجرّد القراءة الفرديّة، والجهد الفرديّ في التلقّي، ومن مصادر خارج النسق الإسلاميّ المنضبط، هو سرّ التميّز والتثقيف والتقدّم المنشود، وهو إذ يقول ذلك ـ بهذه السذاجة الغريبة ـ لا يخاطب جمعًا من المثقّفين والنخب الذين لديهم التمحيص والتمييز بين الغثّ والسمين، والنافع والضارّ، وإنّما يخاطب الناس جميعًا في صحيفة سيّارة، فكيف يصدر مثل هذا من كاتب يعدّ نفسه من نخبة النخبة(!)، وقد حذّر سلفنا الصالح من هذا النوع من التلقّي، وشاعت بينهم المقولة الشهيرة: ( من كان شيخه كتابه، كثر خطؤه، وقلّ صوابه )، وهي مقولة صحيحة يؤكّدها الواقع القديم والحديث، فإنّك لا تجد رجلاً تفقّه وتعلّم وتتلمذ على الكتب إلا وتجد له من الأخطاء والشذوذ ما يفوق الحصر.
ثمّ إنّ هؤلاء وهم يتّهمون السلفية بالتقليدية، ويلمزونها بذلك، وهي من أشدّ المذاهب حرصاً على اتّباع الدليل، ونبذ التقليد؛ نراهم يقلّدون هذا الجابري وأمثاله، ويردّدون ذات الأفكار، بل ذات الألفاظ التي يردّدونها، والتي صدرت ـ أوّل ما صدرت ـ من المستشرقين الحاقدين، وأخذها عنهم هؤلاء المقلّدون، فعاد الأمر إلى تقليد المستشرقين، وترديد شبههم..، وإذا كان ولا بدّ من التقليد، فتقليد السلف الصالح خير من تقليد المنصّرين، من المستشرقين، وأذنابهم من المفكّرين بعقول غيرهم(!!!).
وبعد، فهذا أوان البدء بالمقصود:
أوّلاً: السمات الظاهرة: فأمّا سماتهم الشكلية الظاهرة ـ التي يتستّرون بها على أفكارهم ـ، فأبرزها إعفاء اللحى مع الأخذ منها، أو على حدّ تعبير أحد مشايخنا الأجلاء ـ اللحى الليبرالية ـ، حتى إنّ أشدّهم تطرّفاً لو رأيت صورته لحسبته من الصالحين، بينما كتاباته تمتليء حقداً وغلاً على الصالحين والمصلحين لا سيما أصحاب المنهج السلفي القويم من الأوّلين والآخرين كما سيأتي.. وليس ذلك خاصّاً بهم، فقد يشترك معهم في ذلك بعض العامّة ممن لا يحمل فكرهم المنحرف..
ومع ذلك، فقد تقتضي مرحلة من المراحل الظهور بغير لحى، فهي ليست ضرورية عندهم..
كما أنّ من سماتهم الظاهرة حضور الجمع والجماعات، مع انتقادهم الشديد ـ غير الموضوعي ـ لأئمّة المساجد واحتقارهم وكراهيتهم، إلى درجة الطعن والتشكيك في دينهم أحياناً، والتأليب عليهم، وأحياناً السخرية منهم والتندّر بهم لا سيما إذا خالفوهم في الأفكار المطروحة.. ويظهر ذلك جليّاً في مواقعهم على الأنترنت، فما لا يقدرون على بثه في صحفهم ومجلاتهم بأسمائهم الصريحة، يبثونه عبر تلك المواقع بأسماء مستعارة.. بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً وبذاءة ـ دعا في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، إلى فرض الوصاية على الخطباء ـ الذين هم في الغالب من طلاب العلم وأساتذة الجامعات ـ وكتابة الخطب لهم بل حتى الأدعية، فلا يكون لهم دور إلا مجرد قراءة الخطب المكتوبة فقط(!)، هذا مع طنطنة هذا الكاتب وغيره من هذه الفئة على ضرورة رفع الوصاية المفروضة على عامة الناس من قِبل العلماء، والتي تحول بينهم وبين الاقتناع بالأفكار المضللة التي تدعو إليها هذه الفئة الضالة وغيرها، وهذه من أعجب تناقضاتهم كما سيأتي إن شاء الله..
يقول أحدهم ـ وهو من أكثرهم حديثاً عن السياسة والدعوة إلى الفكر الاعتزالي ـ في مقال له تفوح منه رائحة العلمنة بعنوان: ( التجييش الطائفي على المنابر ) الرياض: 13770، ـ وكلّ من يدعو إلى الدين والعقيدة عندهم فهو طائفي ـ، يقول: " أدركتني صلاة الجمعة الماضية مع أحد الخطباء ذي الباع الطويل في التسييس المنبري(!) ومنذ قد غادرت مسجده منذ مدّة ليست بالقصيرة عندما أدركت حينها أنني لا أكاد أسمع وأنا منصت لخطبته إلا تحاليل(!) سياسية رديئة المضمون(!) رائجة السوق لدى الخطاب الديماغوغي(!) القابل للتجييش بطبيعته.. " إلى آخر ما ذكر بأسلوبه الركيك المتهالك، أمّا الخطاب الديماغوغي!!! فهذا الذي لم أفهمه إلى هذه الساعة، ولعلّه مشتق من الدماغ، والله تعالى أعلم، أما (التحاليل)، فذكرتني بالمستشفيات، والدماء المسحوبة للتحليل، ولعله اختار هذا اللفظ لمناسبته للإرهاب وسفك الدماء..
وفي مقال بعنوان: ( نجاحات الأمن قدوة كيف نبرر قتلنا المجاني ) الوطن: 1156، يلمز أحدهم خطيب العيد الذي صلى خلفه، لأنّه ـ كما يقول ـ ذكر أنّ للتطرف وجهين، وجه محسوس وهو الذي يؤدي إلى التفجير والتخريب، والوجه الآخر تطرف فكري وهو تطرف العلمانيين والمنحرفين من كتّاب ومثقفين... وذِكْرُ هذا الوجه الأخير هو الذي أقضّ مضجع هذا الكاتب، واغتاظ منه ( كاد المريب أن يقول خذوني )، فما كان منه إلا أن اتهم الخطيب بالتبرير للإرهاب المحسوس، مع أنّه لم يقل ذلك، لكنه الصيد في الماء العكر، والدفاع عن وجودهم، حيث استغلوا الأحداث الأخيرة لتصفية الحساب مع خصومهم التقليديين.
هذه مجمل سماتهم الظاهرة..
أمّا سماتهم الفكرية العامّة التي ظهرت من خلال كتاباتهم المعلنة، فهي كثيرة جداً، أذكرها أوّلاً بإجمال، ثمّ بتفصيل:
أوّلاً: الإجمال:
1. محاربة السلفية.
2. الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم.
3. الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة ).
4. العزف على وتر الإنسانية.
5. الدعوة إلى علمنة الحياة، وإقصاء الدين ( وهو لبّ مشروعهم الذين يدعون إليه ).
6. الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )، ومدحه، وكيل الثناء عليه.
7. الجهل.(3/124)
8. تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم!!.
9. عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، والتشهير بهم.
10. المزايدة على حبّ الوطن، وهم أشدّ الناس خطرًا على الوطن.
11. الطعن في أئمّة السلف قديمًا وحديثًا، والتقليل من شأنهم، مع إجلال الزنادقة والملحدين والمارقين والمبتدعة.
12. الغرور والكبر واعتقاد امتلاك الصواب..
13. الهجوم الشديد على المؤسسات الدينية والمناشط الدعوية والأشرطة والكتيّبات النافعة.
هذه بعض سماتهم بإجمال، أمّا التفصيل:
السمة الأولى:
محاربة السلفية
وهذه سمة ظاهرة في كتاباتهم، بل هي أبرز سماتهم، يبدونها أحياناً، ويخفونها أحياناً كثيراً، وليس المراد بالسلفية هنا: المدّعاة من قبل بعض النوابت الذين شوّهوا السلفية الحقّة ما بين إفراط أو تفريط، فهؤلاء أمرهم مكشوف لكل ذي بصيرة، بل العجب إنّ بعضهم قد وضعوا أيديهم في أيدي هؤلاء الاعتزاليين المارقين لمحاربة السلفية الحقّة ممثّلة في أهلها العاملين بها.. ومع هذا فإنّ هؤلاء الاعتزاليين يسخرون منهم، ومن سلفيتهم بل من السلفية كلّها أيّاً كانت، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً ـ بأسلوب ماكر لا يخلو من السخرية في مقال له بعنوان: ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، وعلامات التعجب من عندي: " السلفيات وإن تنوعت، بل وإن وقف بعضها من بعض موقف التضادّ؛ إلا أن الوعي الماضوي(!) يجمعها. إن السباق فيما بينها ليس سباقاً في ميدان الحاضر أو المستقبل، وإنّما هو سباق في ميدان الماضي، والسابق هو الذي يصل ـ بأقصى سرعة ـ إلى الماضي السحيق(!).." إلى أن يقول: " وهكذا نجد أنّ كلّ سلفية ـ أيّاً كان نوعها ودعواها وتمظهرها ـ تدعم الوعي السلفي(!) وترسّخ للماضوية، وتكافح في سبيل التقليد، بدعوى أنّه الحصن المنيع ضدّ الابتداع، وهي بهذا تقف ضدّ أي حراك تقدّمي، تقف ضدّ التقدّم كوعي(!)، وإن تهادنت معه في هذا الموقف أو ذاك. إنّ هذه الهدنة من قبل السلفي فعل تكتيكي لا يرقى إلى الاستراتيجي ولا يقاربه، حتى في مداه النسبي، لأنّ السلفية ـ دائماً(!) ـ في صف الماضي على حساب الحاضر(!) ". والماضي السحيق الذي أشار إليه هذا الكاتب، هو رسول الله r وأصحابه الكرام، إذ إن هذا هو أقصى ما يرجع إليه السلفي المتبع، فهو تعبير آثم يدلّ على شناعة هذا الفكر التغريبي وقبحه، واستهانته بسلف الأمّة.. وأما اتهام السلفية بأنّها في صف الماضي على حساب الحاضر! فهو محض افتراء وكذب، فلا تعارض بين الماضي السحيق ـ على حدّ تعبير الكاتب ـ الذي منتهاه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وبين الحاضر والمستقبل في الفكر السلفي الصحيح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
وقبل الحديث عن هذه الحرب القذرة، لا بد من بيان بعض المصطلحات التي تتردد في كتاباتهم، حتى يتفهم القارىء ما يهدفون إليه.
فمن هذه المصطلحات:
• ( السلفية التقليدية ) ويريدون بها المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة التي تتمثّل فيها هذه السلفية، كهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وسائر علمائنا الكبار..
• ( الفكر الصحوي ) ويريدون به طلبة العلم والدعاة النشطين، وهو الذي يعدونه ـ كما يقول أحدهم ـ " النشاط الحركي العصري للسلفية التقليدية وأنّ العلاقة بينهما علاقة عضوية يستحيل تمايزها " الرياض:13436.
• ( الإسلام الحركي ) أو ( الحراك المتأسلم!! )، ويريدون به أيضاً الدعاة النشطين في الدعوة... فهم لا يريدون إسلاماً نشطاً متحرّكاً، وإنّما يريدون إسلاماً جامداً خاملاً لا يتحرك، حتى يتمكنوا من تنفيذ مشروعهم التغريبي دون مقاومة تذكر!!!.
• ( الإسلام السياسي ) ويريدون به العلماء والدعاة الذين يشاركون في الشأن العام، لا سيما القضايا السياسية، ولهم دور فاعل فيها... وهم يريدون إسلاماً "دراويشياً" لا يفقه شيئاً في القضايا العامة حتى تخلو لهم الساحة..
• ( التنميط ) ويريدون به تربية الناس على منهج أهل السنة والجماعة، وعقيدة السلف الصالح، وحمايتهم من المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة..
• ( الأيديولوجيا )، وهو مصطلح وافد غير عربي يتردد كثيراً في كتاباتهم ـ بل يكاد يكون ترداده سمة لهم ـ ويريدون به المعتقد الديني أو الثقافي الذي يؤمن به الفرد ويترجمه سلوكاً في الواقع المعاش. والأدلجة عندهم فيما يتعلّق بالسلفية: تشبه التنميط، فهي دعوة الناس إلى الدين والمعتقد الصحيح وتربيتهم عليه ليكون واقعاً معاشاً، وهذا هو الذي يقضّ مضاجعهم، ويحول بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي.
وقد سلك هؤلاء المارقون في حربهم للسلفية مسالك عدّة، من أبرزها:
1. محاولة تشويه السلفية، والتنفير منها، وتصويرها بصورة مقزّزة لصرف الناس عنها، وذلك للتمهيد لطرح مشروعهم التغريبي العفن المتقنّع بقناع العقلانية والتنوير!! وهم وإن كانوا كلّهم يعملون في هذا السياق؛ إلا أنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وأكثرهم بذاءة ـ قد تخصّص في ذلك كما سبق، فلم يترك شتيمة، ولا نقيصة إلا رمى بها هذه السلفية التي يدين بها عامّة أهل هذه البلاد وغيرهم، وكلّ ما تقاطع معها من "الإسلامويين" ـ كما يعبّرون استهزاء ـ ولو من بعيد، وحتى لا أكون متجنّياً، فإنّي سأذكر بعض هذه الشتائم، ليعلم القارىء مدى الإسفاف الذي وصلوا إليه، مع دعواتهم المتكرّرة للتسامح مع "الآخر" واحترامه وتقديره!!!. فمن هذه الشتائم:(3/125)
( السلفية العتيقة ) الرياض: 12953، ( السلفية التقليدية ) الرياض: 13065، (الانغلاق السلفي ) الرياض: 13338، ( قوى التقليد والجمود والظلام ) الرياض: 13485، ( قوى التقليد والظلام والإرهاب ) الرياض: 13331، ( قوى التأسلم ) الرياض: 13359، ( قوى التخلف والتوحش والانغلاق ) الرياض: 13352، ( قوى التطرف ) الرياض: 13331، ( قوى تخلف وتقليد ) الرياض: 13331، ( التقليدية البلهاء ) الرياض: 13065،( التقليدية الميتة ) الرياض: 13331 ، ( الثقافة الميتة ) الرياض: 13072، ( الثقافة التي تصنع الغباء ) الرياض: 13072، ( الثقافة التقليدية البائسة ) الرياض: 13065، ( ثقافة الانغلاق ) الرياض: 13065، ( ثقافة تقتل الوعي ) الرياض: 13065، ( ثقافة التجميع واللا عقل ) الرياض: 13072، ( ثقافة الموت الوعظية الحمقاء ) الرياض: 13072، ( ثقافة كسيحة ) الرياض: 13156، ( الوعي الكسيح ) الرياض: 13002، ( الوعي المتسطّح الكسيح ) الرياض: 13072، ( الوعي المأزوم ) الرياض: 13380، ( وعي غارق في مخلّفات عصور الانحطاط ) الرياض: 13156، ( القراءة التراثية المبعثرة ) الرياض: 13331، ( الطرح المتسطّح ثقافياً ) الرياض: 13163، ( رؤى الانغلاق وتيارات الكره ودعاة النفي ) الرياض: 13128، ( براثن التنميط والمحافظة والتقليد ) الرياض: 13128، ( الاحتيال اللا معرفي وجرثومة الوصاية ) الرياض: 13065، ( الدروشة الوعظية التي تفتقد الحكمة ) الرياض: 13072، ( الإفلاس المعرفي ) الرياض: 13072، ( الاستغفال المعرفي ) الرياض: 13121، ( الترنح المعرفي ) الرياض: 13282، ( تيار الجمود والارتياب ) الرياض: 13282، ( الاختطاف الثقافي والاجتماعي ) الرياض: 13128، ( قصور معرفي حاد ) الرياض: 13163، ( البلاهة السياسية ) الرياض: 13191، ( الغباء السياسي ) الرياض: ، ( ضمور الوعي السياسي ) الرياض: 13380، ( الجماعات المتأسلمة ) الرياض: 13247، ( نمطية بلهاء ) الرياض: 13338، ( المتأسلمون )، ( تيارات التأسلم ) الرياض: 13282، ( فكر الإقصاء والنفي ) الرياض: 13282، ( اللا وعي بالتاريخ ) الرياض: 13002، ( الفهم القاصر ) الرياض: 13002، ( جماهير الغوغاء ) الرياض: 13002، ( المنزل القديم المتداعي بوحشيته المعتمة ) الرياض: 13002، ( سيكولوجية البدائي ) الرياض: 13002، ( خطاب موعظة لا معرفة ) الرياض: 12953 ، ( ألاعيب الحواة ) الرياض: 13436، ( ممارسة خرقاء ) الرياض: 13436، ( الحراك المتأسلم ) الرياض: 13478، ( الخرافة والتقليد والخداع ) الرياض: 13485 ، ( طمر الحقائق ) الرياض: 13485، ( حراك سلبي ) الرياض: 13485، ( الأيدلوجي المنمط ) الرياض: 13499، ( المجتمعات المحافظة الأصولية ) الرياض: 13499، ( حركات الأدلجة ) الرياض: 13499 ، ( الأدلجة الماكرة ) الرياض: 13324 ، ( تجهيل الجماهير ) الرياض: 13499، ( الجماهير البائسة الظامئة ) الرياض: 13506، ( الجماهير الغائبة المغيّبة ) الرياض: 13338، ( الحواشي وحواشي الحواشي ) الرياض: 13506، ( الإسلام الحركي السياسي ) الرياض: 13506، ( المراهقة الصحوية ) الرياض: 13303، ( أوهام التقليدية الميتة ) الرياض: 13065، ( مفرقعات صحوية ) الرياض: 13289، ( شريط الكاسيت الغبي ) الرياض: 13289، ( الهراء الإعلامي والسطحية ) الرياض: 13289، ( المتأسلمون ) الرياض: 13303، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) الرياض: 13359، ( دعوى النقاء الأخلاقي المزعوم ) الرياض: 13331..
هذه بعض الشتائم المقذعة التي قمت بإحصائها من مقالات كاتب واحد منهم فقط، ودون استقصاء تام(!) ويلاحظ على هذه الشتائم ما يلي:
أ- كثرتها، حتّى إنّها لتصل إلى الخمس والستّ في المقال الواحد!!!!، وفي هذا دليل واضح على افتقاد الحجّة الصحيحة المقنعة، فإنّ المبطل إذا عجز عن الإقناع بالحجّة؛ لجأ إلى السباب والشتائم للنيل من خصمه.
نعم؛ قد يضطر الإنسان أحياناً إلى توجيه بعض الشتائم إلى خصمه اللدود، لكن أن تكون بهذه الكثرة المفرطة، ومن أناس " أكاديميين" يدّعون الفكر والعقل المستنير؛ فهو أمر يدعو إلى التأمّل والعجب!!.
ب- تضمنّها العديد من التهم ذات العيار الثقيل بلا دليل ولا برهان صحيح، وما أسهل أن يطلق المرء على خصومه التهم جزافاً بلا بيّنة صحيحة، والتي قد يصل بعضها إلى الإخراج من الدين والإسلام، كقولهم: ( المتأسلمون )، ( قوى التأسلم ) ، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) ونحوها من الشتائم، فالمتأسلم هو الذي يدعي الإسلام وهو ليس كذلك كما يُفهم من هذا الوصف، ولطالما دندن هؤلاء حول خطورة التكفير، والإخراج من الدين، حتى وإن كان بحقّ، فما بالهم يصفون خصومهم المسلمين بالضد من ذلك !!!.
ج- أنّ هذه الشتائم لم تقتصر على أهل العلم والفكر والدعوة من السلفيين من الأوّلين والآخرين، بل تجاوزت ذلك إلى عامّة الناس المقتنعين بهذه العقيدة، والذين يطلقون عليهم وصف ( الجماهير ): فهم ( الجماهير البائسة الظامئة )، و( جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و( الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، لا لشيء إلا لأنّ هذه الجماهير المسلمة اختارت هذه العقيدة النقية، ولم تستجب لدعواتهم التغريبية المضللة، ولن تستجيب بإذن الله تعالى..
د- أنّ الكثير من هذه الأوصاف ( الشتائم ) هم الأقرب إلى الاتصاف بها، والتخلّق بها لمن تأمل ذلك، لكنهم يقلبون الأمور، ويلبّسون على الناس على قول المثل السائر: ( رمتني بدائها وانسلّت )!!.
ه- أنّ مثل هذه الشتائم لا تصدر إلا من نفس موتورة حاقدة، قد تشبّعت بالشبهات، فاستقرّت فيها وتمكّنت منها، وداء الشبهات أعظم أثراً في النفوس والقلوب من داء الشهوات، فكيف إذا اجتمع الأمران، نسأل الله السلامة والعافية.
والعجيب أنّهم يرون أنّ مثل هذه الشتائم القبيحة التي يسمونها نقداً؛ ضرورية لإيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره(!!!)، يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتانناً بالحضارة الغربية ـ في مقال له بعنوان: ( تخصّص في الطب وأبدع في الفكر والمسرح) الرياض: 13502: " وبذلك أدرك ( بريخت ) بأنّ مواجهة الطوفان بالنقد الحادّ، والتهكّم الموجع من أهمّ وسائل إيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره للمصير المظلم الذي يساق إليه ". وبريخت هذا مبدع عالمي عند الكاتب ترك تخصصه في الطب(!)، واشتغل بالمسرح(!)، وهو حين يذكر قول هذا المبدع(!) لسان قلمه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة، كما يدل على ذلك باقي المقال، ومقالاته الأخرى. وقد فهم تلميذه السابق الرسالة ـ وبئست التربية ـ، فأطلق تلك الشتائم والتهكّم الموجع بذلك الكمّ الهائل لمواجهة (طوفان) السلفية، وإيقاظ الفتنة النائمة.. وحتماً سيغرقه هذا الطوفان بإذن الله تعالى.(3/126)
وأعجب من ذلك أنّ هذا الكاتب نفسه ـ صاحب الشتائم السابقة ـ حينما تحدّث عن بعض الكُتّاب المنحرفين في مقال له بعنوان ( قراءة الإسلام بين العلمية والإيديولوجيا 2/2 ) الرياض: 14185 وصفه بوصف هو أجدر أن يوصف به فقال: " لا غرابة في أن تصدر هذه الشتائم عن إنسان مريض يعاني من عقد الاضطهاد، وربما مر بمواقف زادت من تأزمه واضطرابه، أو ربما كان خاضعاً لتربية غير سوية، قادته إلى استخدام هذه اللغة السوقية التي لا تجد من يلوكها إلا في الحواري الخلفية، وعند الحشاشين والقوادين، وإنما العجب أن تحتفي بعض الصحف المحترمة، كأخبار الأدب، وأدب ونقد، ودور النشر العلمية.. بمثل هذا العابث، والذي لا يمتلك سوى هذا الكلام الذي يراه صاحبه علماً. الجهالة من ناحيتين، جهالة أولية، وجهالة جراء عدم إدراك مستوى ضحالة الذات معرفياً ".
وهو في مقاله هذا نصّب نفسه مدافعاً عن الإسلام والدين، وهو الذي كان يكيل الشتائم لأهل الدين كما سبق، ويرميهم بكل نقيصة، فلم يسلم منه حتى الأئمّة الكبار كابن القيّم وغيره، ولا فرق بين من يطعن في الدين نفسه، ومن يطعن في حملته وأهله، سوى أنّ الأوّل طعن صريح، والثاني خبث مغلّف بتلميح..
وفي مقال له بعنوان ( متطرفون في الزمن الليبرالي ) الرياض: 14220 دعا فيه صراحة إلى اعتناق الفكر الليبرالي وبشّر فيه بها!!! قال: " والمجتمع الليبرالي مجتمع راشد، يتجاوز هذا السباب الطفولي، وإن اضطر في سياق الخطاب اللاهوتي إلى شيء من ذلك - كحق في التعبير عن الرؤية - فإنه يطرحه في سياق موضوعية صارمة، لا يسمح لها بالإساءة المباشرة إلى أحد ". هذا هو نصّ ما قاله: سباب طفولي في سياق موضوعية صارمة !!! ودون إساءة إلى أحد !! وهل بعد ذلك الكمّ الهائل من الشتائم الطفولية السابقة من إساءة تطال كلّ سلفي موحد في هذه البلاد السلفية ؟. أهذه هي الليبرالية التي يدعون إليها ويبشّرون بها؟..
2. ربط السلفية بالإرهاب ـ الذي لم يُتفق على تعريفه إلى هذه الساعة ـ والاستماتة في ذلك، ونسبة بعض المارقين إليها وهو ما يطلقون عليه: ( السلفيّة الجهادية ).. فكلما خالفهم مخالف، أو حاجّهم محاجّ، أو احتسب عليهم محتسب من أهل الدين والعلم والدعوة رموه بالإرهاب بجرة قلم، والعامة يروون في هذا المقام قصة رمزية طريفة، وهي أن امرأة أراد زوجها أن يتزوج عليها، ففكرت في حيلة لمنعه من الزواج، فما كان منها إلا أن اتصلت برجال الأمن، وذكرت لهم ارتيابها من زوجها، وأن له صلة بـ ( الإرهابيين )، وقبيل ليلة الزواج تم القبض عليه بهذه التهمة، واعتذر أهل الزوجة عن تزويجه، وبهذا نجحت الخطة..
يقول أحدهم ـ وهو مقيم في لندن ـ في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية..هل تستمر القاعدة بتجنيد السعوديين ) الوطن: 1139 : " ما هي وضعية الحالة الدينية اليوم في السعودية؟.. لا يمكن القول إنّها متسامحة وعصرية، فالأحداث الإرهابية هي نتاج غلو ديني اشترك بعض أفراد المذهبيّة الدينية السلفية السائدة، والأيديولوجيا الصحوية في صنعها في المقام الأوّل بغض النظر عن المسببات الأخرى التي وضعتها في موضع التنفيذ. ومظاهر التشدد الديني التي تلمس كل يوم في خطب الجوامع وأدعية القنوت، والفتاوى المتشددة، والخطاب الديني بمجمله مغرق في التزمت بعيد كل البعد عن حال التسامح واليسر المنتظرة منه "، وهكذا تطلق التهم جزافاً بلا بيّنة سوى أنّ الذين قاموا بالتفجيرات يستشهدون ببعض أقوال السلف، ولو أننا أخذنا بهذا المنطق المعوج لحكمنا على القرآن نفسه بأنّه سبب الإرهاب، لأنّ الخوارج الأوّلين استدلوا به على مذهبهم، وكذلك سائر الفرق الضالة.
ثم، ومن أجل حلّ هذه الأزمة يرى الكاتب أنّ الحل يكمن في: " تغيير الطريقة التي يتم التعامل بها مع الأفكار والطوائف أو الأديان بوصفها كافرة أو مبتدعة أو علمانية، وينبغي أن ينظر إلى نقد وتقييم المناهج والمؤسسات الدينية، وإصلاحها(!) بالطريقة العصرية، والحدّ(!) من تضخّم الأدلجة الإسلاموية.." وهو كلام في غاية الخطورة والضلال، والغلو المضاد، حيث يدعو الكاتب إلى عدم وصف الأديان ـ ويريد بها بطبيعة الحال أصحابها المتدينين بها اليوم ـ بالوصف الذي وصفها الله به في كتابه الكريم، ووصفها به رسوله الأمين كما في قوله تعالى: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.. }، وقوله: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ..}، وقول النبيّ r: " والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " أخرجه مسلم. ولا خلاف عند أهل الإسلام في كفر اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الملل الأخرى، فمن لم يكفرهم فهو مكذب للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وكذلك يدعو الكاتب إلى عدم تبديع أهل البدع وأهل العلمنة، وفي ذلك مضادة لقول نبينا r: " كل بدعة ضلالة"، وهذا في نظر الكاتب يعدّ إصلاحاً بالطريقة العصرية، وصدق الله إذ يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنترنت والخطاب الديني) الرياض: 13247: " .. كما أظهر هذا الخطاب [ يعني خطاب التطرّف ] أنّ مرجعيّة التطرّف والغلو، ومن ثم الإرهاب، ليس الفكر القطبي، ولا طرح الجماعات المتأسلمة(!) وإنّما مصدر الاستدلال ـ في الغالب العام ـ: السلفية التقليدية، بمرجعيّاتها المشهورة التي لها اعتبارها في الخطاب السلفي ".
إذن، السلفية بمرجعياتها المشهورة هي مصدر الإرهاب، فيجب محاربتها، والقضاء عليها، هذا ما يهدف إليه الكاتب. والردّ عليه كالرد على الذي قبله.
أمّا المرجعيات المشهورة فيريدون بها: أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب رحمهم الله..، وقد صرّح أحدهم بذلك ـ وهو أكثرهم تعالماً، وأشدّهم جهلاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنسان والوطن أهمّ من ابن تيمية) الوطن: (965 )، زعم فيه ـ زوراً وبهتاناً ـ أنّ ابن تيمية هو منظّر الجهاديين، وأنه سبب الإرهاب، معتمداً على نص لابن تيمية مبتور من سياقه، وهو إذ يعيب على من أسماهم بالجهاديين سوء الفهم؛ يقع في الخطأ نفسه وهو لا يشعر.(3/127)
وأخطر من ذلك، ما سطّره الكاتب الأوّل في مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، يتحدّث فيه عمّا أسماه بالفرادة، يقول منظرّاً لهذه الفرادة: " إنّ الأصل في الكائن الإنساني خاصّة هو الاختلاف والتنوّع والتفرّد، وليس التشابه والتماثل كما يحاول دعاة المحافظة والتقليد ترويجه ـ تطبيقاً ـ في بيئتنا الاجتماعيّة، وإن ادّعوا تنظيراً غير ذلك".. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فالفرادة إن كانت فيما لا يتعارض مع أصل الدين وثوابته، ونصوصه القاطعة، فهي مطلوبة، وإلا فإنّها ابتداع وخروج عن الدين، وحقّها ـ لفظاً ـ أن تكون بالمثنّاة ( قرادة )، لكنّ الكاتب تعمد الإطلاق للوصول إلى ما يهدف إليه، لذا فهو يواصل مقاله قائلاً ـ بعد أن قرّر أنّ إلغاء هذه الفرادة المطلقة جريمة ـ: " ويبقى السؤال الأهم في هذا الطرح: إذا كان إلغاء معالم التفرد في الإنسان جريمة، فهل تمارس هذه الجريمة في محيطنا الثقافي والاجتماعي؟، وإذا كانت تمارس، فهل هي مقصودة أم أنها جزء من الحراك الاجتماعي التلقائي؟، وعلى أية صورة تمارس هذه الجريمة؟، هل هي فردية أم جريمة منظمة؟، وما مدى انتشارها وذيوعها؟ ومن الفاعل؟، وأين؟، ومتى؟. وإذا كان بعض هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها تفصيلاً؛ لهذا السبب أو ذاك، فإن الإجابة العامة التي ينطق بها الواقع (الثقافي/ الاجتماعي) لدينا إجابة لا تدعو للتفاؤل، من حيث الوقوع المتعين لهذه الجريمة المعنوية ".
ثم تبدأ معركته مع السلفية، أو على حدّ تعبيره: ( الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا)، وهذا هو المقصود، فيقول: " إن ما فعله - ويفعله - الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا إنما هو عملية قتل متعمد لكل معالم الفرادة الطبيعية، إنه في الحقيقة (اغتيال للعقل) على نحو تدريجي، وبأساليب قد لا تكون واضحة في كل الأحيان، وفي كل الحالات. لا أستطيع أن أقول: إن عملية المسخ الاختياري (والقسر في بعض الأحيان) التي يمتزج بها الاجتماعي بالديني ( وفق رؤية خاصة يتم تعميمها)، بالثقافي، بالواقعي، وبطريقة لا تبقي أي خيار، لا أظن أن لها مثيلاً على مستوى التجمعات الإنسانية المعاصرة كافة..".
وبعد الطعن في السلفية ـ خصمه اللدود ـ بإجمال، يبدأ في التفصيل، فيستعرض المراحل الدراسية جميعها إلى مرحلة الدراسات العليا، فيقرّر أنّ هذه المراحل كلّها عندنا تقضي على هذه الفرادة المزعومة، والسبب أنّها تلتزم بمذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأّمة، أو على حدّ تعبيره: " نمط التربية المستمد من موروث اجتماعي موغل في القدم يبدأ عمله منذ السنوات الأولى للطفولة؛ لكون القائم على التربية الأولى ابناً باراً لثقافة التقليد والمحافظة في الغالب " أو بتعبير آخر له: " أفكار مغرقة في محافظتها وسلفيتها وتزمتها.. "، أو بتعبير ثالث عن النشاط اللا منهجي: " وفق المنطلقات ذات الزوايا الحادة للمنظومة السلفية التقليدية التي تجتهد في التنميط؛ فضلاً عن أن التنميط كامن في البنية العامة للمناهج "..
ثم يتحدث عن المرحلة الجامعية، فيصفها بأنّها: " أكبر (ورشة) للتنميط، وقتل ما أبقته المراحل الأولى من الفرادة العقلية، وترسيخ قيم المحافظة والتقليد، فتمارس بين أروقة الجامعة أكبر عملية اجترار للتراث، بكل ما يحمله من إيجاب وسلب، وبكل ما تعنيه هذه العملية في ذاتها ( من حيث هي اجترار) من نكوص إلى وعي قد طواه الزمن في مقبرته الأبدية، ولكننا نأبى إلا نبش تلك القبور، والبحث في تلك العظام النخرة عن مصدر للحياة!.. ". وهو يريد بذلك الأقسام الشرعية في الجامعات ذات التوجه السلفي خصمه اللدود، أمّا كليات الطب والهندسة والعلوم وغيرها، فلا يتحدّث عنها.
ثم يتحدّث عن مرحلة الدراسات العليا، فيصفها بأسلوب مسفّ ينم عن حقد دفين على المنهج السلفي القويم، مدعم بالافتراء والكذب وكيل التهم الجائرة فيقول: " إن الدارس لا يمكن أن يقبل في هذه الدراسات ابتداء، ولا يمكن أن يتقبل فيما بعد، ما لم يكن ذا مهارة في النسخ، مع قدر لا يستهان به من عدم الأمانة في النقل والاجتزاء؛ لخدمة الفكرة الموروثة في التيار المندغم فيه، فليست الحقيقة هي الغاية، وإنما الإبقاء على ما يؤيده تيار المحافظة من مخلفات القرون الوسطى هو الغاية، وفي سبيلها فليتم الإجهاز على الحقيقة بسيف العلمية!، وبهذا لا يمكن أن يعترف بالدارس باحثاً علمياً في مؤسسات التقليد ما لم يتنكر لبدهيات البحث العلمي. وهذا هو الشرط الأولي لقبوله (باحثاً!) في المنظومة التقليدية ".. إنّها تهم شنيعة، في غاية البشاعة والشناعة لجامعاتنا الإسلامية العريقة التي خرّجت الكثير من العلماء والدعاة والمفكّرين حتى من غير أبناء هذا البلد، ولكن الحقد الدفين يعمي ويصم..
فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة كما أنّ عين السخط تبدي المساويا
ثم يدلل هذا الكاتب الموتور على ما ذهب إليه من حقد دفين وفق طريقته السابقة من الافتراء والكذب والتلبيس والألفاظ النابية فيقول: " ومما يدل على مستوى هيمنة هذا النمط الببغاوي في المؤسسات العلمية التي تهيمن عليها الاتجاهات المحافظة، أن الحكم بموضوعية على شخصيات أو تيارات في القديم أو الحديث، بما يخالف رؤية هذه الاتجاهات، وما يسود في أروقتها من مسلمات يودي بصاحبه، ويعرضه للنفي خارج المؤسسة العلمية، فضلاً عن الإقصاء الديني، يشهد على ذلك أن كل دراسة لشخصية أو فكرة أو تيار، تتم في هذه الأقسام تعرف النتيجة فيها سلفا، بل لا يمكن أن تكون النتيجة إلا ما قررته المنظومة في أدبياتها، فمهما حاول (هذا إذا حاول) الباحث الاستقلال فهو لا يستطيع، وموقفه البحثي في النهاية دفاعي عن الأفكار العامة لمؤسسته العلمية التي تحتويه. هذا هو الواقع، وإلا فدلوني على رسالة واحدة طعن(!) صاحبها في فكرة أو شخصية لها وزنها في المنظومة الفكرية لمؤسسته العلمية، أو أثنى على تيار مخالف أو شخصية ليست محل القبول في هذه المؤسسة، فقبلت المؤسسة المحافظة بذلك ".. إنّ هذا الكاتب يريد من الباحث الملتزم بعقيدة أهل السنّة والجماعة أن يطعن في أئمّة السلف أو مذهب السلف، أو يثني على أهل البدع، والفرق الضالة وخاصة المعتزلة(!) ، ويريد من الجامعات الإسلامية أن تفتح المجال لكلّ من أراد ذلك باسم الاستقلال والفرادة كما يزعم، وإلا فإنّ ذلك ضرب من الإقصاء والنفي والقضاء على الفرادة المزعومة، أمّا أن يبتكر الباحث موضوعاً في تخصّصه ـ مع التزامه بثوابت الأمة ومنهج أهل السنّة ـ فذلك ليس من الفرادة في شيء في مفهوم الكاتب، الفرادة عنده هي الخروج عن مذهب السلف، والطعن فيهم ـ كما يفعل هو مراراً في مقالاته كما سيأتي ـ ، إنّ هذا لهو عين الضلال وانتكاس المفاهيم..
ثمّ إني أوجه سؤالاً لهذا الكاتب ولن يستطيع الإجابة عليه فأقول: هل صحيفتك التي تكتب فيها، وتهاجم مِنْ على منبرها مذهب السلف الصالح تسمح بمثل ما ذكرت من نقد لفكرة أو شخص ينتمي إليها أو إلى الفكر الذي تتبناه ؟؟ الجواب: لا وألف لا، لأني قد جربت ذلك، وجربّه غيري، فلم نجد إلا الإقصاء والنفي والتجاهل إلا في حدود ضيقة، فهل من معتبر..؟(3/128)
ثم يواصل الكاتب بذاءته وافتراءاته وشتائمه المعتادة ـ سأضع تحتها خطاً ـ قائلاً: "بهذا يتضح أن كل مرحلة علمية، وكل تناغم مع المجتمع في تياره المحافظ خاصة، تفقد المرء جزءاً من فرادته، مما يعني أنه كلما قطع مرحلة من ذلك، وظن أنه قد تحقق له شيء من العلم، فإنه لم يزدد بذلك إلا جهلاً. وبمقدار حظه من هذا التنميط والاختطاف الثقافي والاجتماعي يكون حظه من الجهل المركب؛ لأنه بهذا يفقد التفرد في الرؤى والأفكار، بمقدار ما يندغم في تيارات المحافظة، وبقدر ما يتناغم مع المؤسسات العلمية التي تهيمن المحافظة عليها. ويزداد الأمر سوءا ومأساوية، عندما ندرك أن هذا الاغتيال للفرادة، وهنا التنميط الذي يتم في هذه المراحل العمرية لا يجري لصالح رؤى الانفتاح - مع أن اغتيال الفرادة جريمة، أيا كانت مبرراته - وفي سبيل الرقي بالإنسان، وإنما هو لصالح رؤى الانغلاق، وتيارات الكره، ودعاة نفي الآخر، كل ذلك بالإيحاءات الخاصة للسلفية التقليدية التي لا تني عن إنتاج نفسها كلما أشرفت على الهلاك "..
ويختم مقاله بهذا التحذير: " وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول لكل قارئ: احذرهم.. احذرهم (وأنت تعرفهم) أن يفتنوك. قد تكون نجوت منهم كليا أو جزئيا، قد تكون ممن هلك بفتنتهم التي ظاهرها الرحمة، لكن أدرك من نفسك ما يمكن إدراكه، مارس إنسانيتك(!) على أكمل وجه، كن ابن نفسك في كل شيء(!)، حاول قدر الاستطاعة، مهما كلفك ذلك، هذا بالنسبة لك، ولكن، تبقى المهمة الصعبة: استنقاذ الأجيال الناشئة من براثن التنميط والمحافظة(!) والتقليد، وهي مهمة لابد أن ينهض بها كل (إنسان) لتحقيق أكبر قدر من الفرادة (من الإنسانية)(!) قبل أن تغتال في مهدها ".. وهكذا تصبح المحافظة على العقيدة السلفية النقيّة ـ حسب رأي هذا الكاتب ـ فتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويحذّر منها في معقلها ومهدها، فإلى الله المشتكى.
أمّا دندنة الكاتب ـ بل سائر المنتمين إلى هذا الفكر الاعتزالي الليبرالي التغريبي ـ حول ( الإنسانية ) فذلك موضوع آخر سأفرد له سمة مستقلة بإذن الله تعالى.
كما أنّ من الملاحظ أنّ الكاتب(!) جعل عنوان مقالته هذه جزءاً من آية كريمة نزلت في جماعة من اليهود(!)، وهو ها هنا ينزلها على خصومه السلفيين المسلمين المحافظين(!!)، وهذه سمة متكرّرة في مقالات هذا الكاتب وأصحابه، سأفرد لها أيضاً سمة خاصّة بإذن الله تعالى. وهي جريمة نكراء في حقّ كلام الله تعالى، وحقّ إخوانه المسلمين.
وحتى يعرف القاريء حقيقة هذه الفرادة التي تحدث عنها هذه الكاتب وغيره من أصحاب هذا الفكر، وحقيقة موقفهم من عقيدة السلف والعقائد الأخرى المنحرفة وخاصّة المعتزلة؛ أسوق لكم هذه الأقوال لبعضهم:
فهذا أحدهم ـ وهو الكاتب السابق نفسه ـ في مقال له بعنوان ( ثقافة تصنع الغباء ) الرياض: 13072، وهذا العنوان من جملة شتائمه المعتادة للسلفية، يقول عن السلفية التي يسميها تقليدية بأنّها: " لا تعدو كونها تأويلاً خاصّاً للإسلام، محلّه متاحف الفكر، لا الحراك الاجتماعي "، فهل رأيتم إقصاء ونفياً أشدّ من هذا الإقصاء والنفي؟!!!
والغريب أنّ هذا الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( من التطرف إلى الإرهاب ) الرياض: 12953،يصف بعض الأقسام في بعض جامعاتنا أنّها " ما زالت معاقل للفكر الذي ينفي الآخر، وما زالت تقتات على الترسيخ لثقافة الإقصاء ونفي الآخر، وتروج لها في أطروحاتها "، ويريد بهذه الأقسام التي في جامعاتنا ـ كما هو ظاهر ـ: الأقسام الشرعية، والعقدية على وجه الخصوص، ويريد بثقافة الإقصاء والنفي ثقافتنا الإسلامية السلفية، أمّا الآخر المنفي فهي الفرق الضالة المنحرفة من معتزلة وحرورية ومرجئة وصوفية وغيرها.
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأكثرهم خلطاً بين النصوص ـ في مقال له بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667: " ومما يجدر التنبيه عليه أنّ مصطلح ( العقيدة ) أمر تواضع عليه العلماء الذين تبنوا مجال البحث في مجال الغيبيات فيما بعد الصدر الأوّل، إذ لم يكن لذلك لمصطلح أساس من النصوص الوحييه سواء من القرآن أو السنة، إذ إنّ المصطلح الأساسي الشرعي الذي جاء به القرآن والسنة النبوية هو مصطلح ( الإيمان ).. " وكأنّ مصطلح ( الديمقراطية) و( الليبرالية ) و(الإيبيستيمولوجيا ) و( الأيديولوجيا ) وغيرها من المصطلحات التي يرددونها في مقالاتهم ليل نهار، لها أصل في الكتاب والسنة !!!
ثمّ يمضي الكاتب في تقريره لحقيقة الإيمان ومن هو المؤمن فيقول: " وهو [ أي الإيمان ] عبارة عن مفهوم بسيط ( هكذا ) يرمز إلى ستة أمور، من آمن بها أصبح مسلماً ومؤمناً كامل الإيمان لا يحتاج معه إلى امتحانات قلبية أو مماحكات لفظية، أو حفظ مدونات عقدية لإثبات إيمان المرء ودخوله حظيرة الإسلام "..
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانحراف واضح عن المنهج القويم والفهم السليم لدين الإسلام.. فإنّ لفظ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا صار لفظ الإيمان مراداً به الاعتقاد الباطن، ولفظ الإسلام العمل الظاهر كالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، كما قال الله تعالى عن الأعراب: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا..} ففرق بين الإيمان والإسلام، وهذا أمر بدهي عند أطفال المسلمين، فمن لم يأت بأركان الإسلام الظاهرة لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، حتى وإن ادّعى الإيمان والإسلام، ولهذا قاتل أبو بكر الصديق t مانعي الزكاة، مع أنّهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ولما أنكر عليه عمر t كما جاء في الصحيح، قال له: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة.. أمّا الامتحان، فقد قال الله تعالى في سورة الممتحنة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..}، وهي تسمى ( آية الامتحان )، وقد سئل ابن عباس t كيف كان امتحان رسول الله r النساء؟ قال: كان يمتحنهنّ: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله.. وهذا خلاف ما قرره الكاتب، بل إنّ ما قرّره هو مذهب المرجئة القائلين بأنّ الإيمان مجرّد الاعتقاد بالقلب، وأنّ العمل غير داخل في مسمّى الإيمان، وأنّه لا يضر مع الإيمان ذنب.. فكلّ من ادّعى الإيمان ـ حسب زعمهم ـ صار مؤمناً مسلماً.. وقد صدرت عدة فتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء في هذه البلاد في التحذير من هذا الفكر الإرجائي الخطير.(3/129)
ثم يقرر الكاتب مذهبه الفاسد مؤكّداً فيقول: " وبالتالي فليس هناك من الوجهة الشرعية(!) ما يعرف بأصول العقائد مقابل فروعها، بل هو أصل واحد هو الإيمان، وكلّ ما جاء بعد ذلك مما أصطلح عليه أصول العقائد وفروعها، وهي التي ألحقت بالعقائد وفقاً لأيديولوجية الجماعة أو المذهب القائلة بها؛ فهي مما تواضع عليه من امتهنوا ما اصطلح عليه لاحقاً بعلم العقائد، ومن الطبيعي أن يضطر الباحث إلى مسايرة هذه المواضعة عند البحث عن أي من مفرداتها بعد أن أصبحت واقعاً تراثياً في حياة المسلمين ".. ، وفي موضع آخر يصفها الكاتب بأنّها: " مماحكات ومجادلات سفسطائية، أدخلت في العقيدة قسراً بمؤثرات أيديولوجية" الرياض: 13561، وهكذا يلغي الكاتب بجرّة قلم كلّ ما قرره سلفنا الصالح من العقائد والأصول المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة، مما هو مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، والتي يتميز بها أهل السنة والجماعة عن أهل البدعة ، ليفتح الباب على مصراعيه لكلّ مبتدع وضال ليكونوا جميعاً على درجة واحدة من الإيمان والاعتقاد الصحيح، ولعمر الله إنّ هذا لهو الضلال المبين.
ويقول هذا الكاتب في مقال له آخر بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، بعد أنّ قرر حق ( الآخر )(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد ـ يريد مذهب السلف ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج التعليمية، خاصّة المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرّس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسّس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصّة الفرق الإسلاميّة الماضية المنظور لها على أنّها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي ينظر لها على أنّها ذات أهداف خاصّة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه، بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حقّ وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحقّ حصري لمبادىء مذهبه وقواعد مرجعيته " يريد مذهب أهل السنة والجماعة، ثم يذكر المذهب الاعتزالي على وجه الخصوص ويدافع عنه، وهذا هو مربط الفرس عنده، لتقرير مذهب الاعتزال، فيقول: " ومن ثم فإنّ الحاجة ماسّة لتأسيسٍ جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجردة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة باستصحاب كامل لتاريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً، بدل أن تقدّم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة.."، وهكذا يريدون تمييع العقيدة السلفية الصحيحة، باسم التجرّد والفرادة. وتلميع الفرق الضالة المنحرفة، ومن ضمنها المعتزلة والرافضة والخوارج وغيرها من الفرق التي شوهت الدين، وآذى أصحابها عباد الله المؤمنين، ويلاحظ فيما ختم الكاتب مقاله ملاحظتين، إحداهما: التفسير السياسي للتاريخ والأحداث بشكل عام، وسأتحدث عن هذه المسألة بإذن الله في فصل مستقل. والثانية: التعريض بالحديث النبوي الشريف، حديث الفرقة الناجية، والاعتراض عليه(!)، بحجّة أنّه يخالف العقل، وهذا بناء على مذهبهم العقلي الفاسد.
وفي مقال آخر للكاتب نفسه بعنوان: ( أصالة التعدد في الطبيعة البشرية ) الرياض: 13160، يحاول الكاتب تأصيل مبدأ الاختلاف بين الناس ( التعددية ) وأنّها {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. }، ويستدل بالآية الكريمة الأخرى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم }، واستشهاده بهاتين الآيتين على ما ذهب إليه خطأ فادح يدل على جهل فاضح، فأمّا الآية الأولى فإن من المعلوم ـ بلا خلاف أعلمه ـ أنّ المراد بالفطرة: الإسلام وليس الاختلاف، كما جاء في الحديث الشريف: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه..".. وأمّا الآية الثانية فهي في سياق الحديث عن اليهود، ولا علاقة بالاختلاف الذي بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، بل إنّ نصوص الكتاب تدل على عكس ما أراد الكاتب تأصيله، فالله تعالى يقول: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، وقوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ.. }، فجعل الرحمة في مقابل الاختلاف، فدل ذلك على أنّ الاختلاف ليس برحمة، بل هو شرّ ونقمة، وإن كان الله قد أراده كوناً، لا شرعاً، وأنّ الحقّ واحد لا يتعدد، وتأويل الآيات على غير ما جاءت له سمة بارزة من سمات أصحاب هذا الفكر الاعتزالي كما سيأتي في مبحث جهلهم.
ثمّ يواصل الكاتب جهله فيقول مقلداً للجابري: " كان فيروس الضيق قد تحدد سلفاً في الفكر العربي حيث دشّن الخوارج ومباينوهم في الطرف القصيّ من المعادلة ( الأمويون وشيعتهم ) مبدأ ثنائبة القيم الذي يقول عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري إنّه مبدأ (إمّا وإمّا ) ولا مجال لحطّ الركاب بينهما، إمّا مع وإّما ضدّ، إمّا مسلماً وإمّا كافراً، وإمّا ناجياً وإمّا هالكاً، وإمّا مقتفياً وإمّا مبتدعاً.."
إنّ هذه الثنائية التي ذكرها مقلداً الجابري، قد نصّ الله عليها في كتابه الكريم، فقال سبحانه: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ.. }، وقال سبحانه: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }، فهي ذات الثنائية ( إمّا وإمّا ).. والذي أراده الجابري ولم يتفطّن له الكاتب أو تفطّن له ووافق عليه، هو تقرير مذهب الاعتزال القائل بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ( لا مؤمن ولا كافر )، ولهذا قال: ( ولا مجال لحطّ الركاب بينهما )، وهو تقرير في غاية الخفاء والخبث، ويشبه فعل صاحب تفسير الكشّاف المعتزلي في تقريره لمذهب الاعتزال في تفسيره، حتى قال البلقيني رحمه الله: " استخرجت من الكشّاف اعتزاليات بالمناقيش ".. وهذا يحدث في صحيفة سيّارة تصدر في بلاد التوحيد التي قامت على العقيدة السلفية النقيّة، وفي ظني أنّ ولاة أمرنا ـ وفقهم الله لطاعته ـ لو تنبهوا لذلك لما رضوا به..
ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يختم مقاله بتوجيه بعض الشتائم، والانتقاص لأهل السنة وسلف الأمّة، ويضيف إلى ذلك بعض النصوص الحديثية، بطريقة فاضحة لا تدلّ على مقصوده، وما أقبح الجهل والتعالم إذا اجتمعا..
يقول ـ وتأمّلوا ما تحته خط ـ: " إنّ أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي حين مواجهته مشكلة التعددية، وبالذات من النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري، وهي ظن أولئك المتحذلقين والمتقوقعين حول فهومهم الخاصّة أنّهم بنفيهم وإقصائهم لخصومهم إنّما هم آخذون بحجزهم عن النار، وهؤلاء المخالفون ما فتئوا يتفلّتون منهم ويقعون فيها في تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقيّة الأفهام المباينة والمقاربة... ".(3/130)
فهو يعدّ تصدي سلفنا الصالح لأصحاب الفرق الضالة، والردّ عليهم، أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي، ويخصّ النصف الأّوّل من القرن الثالث الهجري، لأنّه وقت نشوء فرقة المعتزلة التي جنّد نفسه للدفاع عنها، ويلاحظ شتائمه التي وصف بها أهل السنة وسلف الأمّة: ( المتحذلقين المتقوقعين حول فهومهم الخاصّة )، والتهم التي وجهها (النفي والإقصاء للخصوم )، والتعريض بالحديث النبوي الشريف الذي يُشبّه فيه النبي r المتهافتين على الباطل ـ كهذا الكاتب وأمثاله ـ كالفراش المتهافت على النار.. وتعريضٌ آخر بحديث الفرقة الناجية الوحيدة دون سائر فرق الضلال، ويصف ذلك ساخراً بلفظ سوقي فضائي بأنّه: ( تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقية الأفهام.. ) ويريد بذلك فهم السلف الصالح!!!، فما حكم من استهزأ بالنصوص الشرعية ؟!.
ثم يستشهد على ما ذهب إليه من التعددية بقوله: " ومن ثمّ يتساءل الإنسان كيف حاص أولئك [ يعني السلف الصالح ] عن حياض المنهج النبويّ الكريم حين كان r يقرّ أصحابه على تباين أفهامهم لما كان يلقي عليهم من نصوص ( قصّة الصلاة في بني قريظة مثلاً ) وعن مسار الصحابة بعده على هذا المنهج المتفرّد في قراءة النصوص، وامتثال مكنوناتها ( اختلاف عمر بن الخطّاب وأبي بكر حول الكيفية التي ينبغي بواسطتها مجابهة مانعي الزكاة فكلاهما انطلق في تفسيره من ذات النصّ ) .. " ا. هـ واستشهاد الكاتب بهاتين الواقعتين فيه جهل عظيم، وتلبيس واضح، وبعد كبير جداً عما أراد التوصل إليه، وهذه هي طريقة هذا الفكر الاعتزالي في التعامل مع النصوص، فأمّا الحادثة الأولى، فهي اختلاف في مسألة فقهية فرعية لا تعلّق لها بمسألة الاعتقاد والإيمان، لذا أقرّ النبي r الفريقين على اجتهادهما.. ومثل هذا الاختلاف لم يزل موجوداً عند أهل السنة حتى وقتنا الحاضر، وليس فيه تثريب إذا صدر من مؤهل.. وأمّا اختلاف عمر مع الصديق y في قضية مانعي الزكاة، فهو ليس اختلافاً، وإنّما هو إشكال وقع في نفس عمر، فما لبث أن زال بعد ذلك وحصل الاتفاق على ذلك الأصل، والكاتب ـ للتلبيس ـ لم يذكر تمام القصّة، وهو قول عمر بعد أن زال عنه الإشكال: " فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنّه الحقّ "، فأين في هذين الحادثتين ما يدلّ على ما أراد أن يقرره الكاتب من التعددية في أصول الدين والإيمان والاعتقاد ؟!!
ومن قبيل هذا الخلط والتلبيس المتعمّد بين الأصول والفروع، يذكر أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وخبثاً ـ في مقال له بعنوان ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، بعد الخلط المتعمّد بين السلفية الحقّة ، والسلفية المدّعاة أنّ " السلف لم يتفقوا إلا على القليل(!)، واختلفوا على الكثير، فعن أيّهم يأخذ ؟ " يعني السلفي، ثم يذكر مسألة واحدة ـ واحدة فقط ـ اختلف فيها السلف، وهي خروج الحسين بن عليّ على الحاكم، ومخالفة بعض الصحابة له في هذا الخروج رضي الله عنهم جميعاً، وهذا الاختلاف ليس في أصل المسألة، وإنّما هو في بعض تطبيقاتها مع ما صاحب تلك الحادثة من ظروف وملابسات خاصّة، والقول بأنّ السلف لم يتفقوا إلا على القليل ـ من مسائل الاعتقاد ـ قول في غاية التجني والجهل بأحوال السلف ومنهجهم وعقيدتهم، وهو من أعظم التلبيس على عامة الناس، بل المعروف عند صغار أهل العلم، أنّ السلف الصالح في مسائل الاعتقاد الكبرى لم يختلفوا إلا في مسألة واحدة أو مسألتين، وبعض العلماء يعدها من قبيل الخلاف اللفظي لا الحقيقي، وإنّما وقع الخلاف بينهم في الفروع.
وفي سياق الحديث عن الفرق الضالة، يتباكى أحدهم على إقصاء تلك الفرق المارقة بل ـ وحتى الإلحادية منها(!) ـ في مقال له بعنوان ( تلاشي الفكر العربي ) الوطن: 980، فيقول: " نحن حتى اليوم(!) لم نقف على قراءة صحيحة للقضايا الكبرى أو حتّى الصغرى(!) في فكرنا، ولا للحركات الدينية التي مارست أشكالاً متعدّدة من حركات النقد للموروث بطريقة أو بأخرى، سواء الحركات الإلحادية أو الصوفية أو المعتزلية أو حتى الحركات الشعرية، فمن التجنّي إقصاء كلّ هذا الموروث وعدم الإفادة منه(!!!).."، ولا أدري ما الذي يريد بالقراءة الصحيحة التي لم نقف عليها حتى اليوم، ووقف عليها هو وأضرابه؟! وليست القضايا الكبرى فقط، بل حتى الصغرى !!!!. كما لا أدري ما الذي سنفيده من الحركات الإلحادية، والصوفية والمعتزلية الضالة ؟!!.
3. الطعن في مذهب السلف، والتندّر به، وكيل التهم له بلا حساب..
ففي مقال بعنوان: ( التاريخ وأزمة الفكر الإسلامي ) الرياض: 13688، كتب أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ مقالاً تحدّث فيه عن مسألة عقدية، وهي الكف عما شجر بين الأصحاب، وترك الخوض في ذلك، لأن الله U أثنى عليهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب فله أجران، ومجتهد مخطيء فله أجر واحد، وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، ولذا يذكر في كتب العقائد، وقد عدّ الكاتب هذه العقيدة المتفق عليها عقبة تقف ـ حسب زعمه ـ دون تحقيق الحدّ الأدنى من الموضوعية العلمية(!)، ثم يقول بأسلوب ماكر خفي: " دراسة طبيعة الفكر الديني، وتتبع مراحل تشكله في فتراته الحاسمة تواجه الرفض في مجتمعات تقليدية لا تزال تستعصي على العلمية، وتتماهى مع الأسطرة(!)، بل والخرافة بوعي منها بهذا التماهي وما يتضمنه من مدلولات في الفكر والواقع أو بلا وعي. وهذا الرفض إما أن يكون رفضاً للدراسة ذاتها أي للمراجعة الفاحصة باعتبارها تتناول ميداناً مقدّساً لا يجوز الاقتراب منه، وإما أن يكون رفضاً للآلية ( المنهج النقدي) التي تجري مقاربة الموضوع بواسطتها، وفي أكثر الأحيان يجتمع السببان كمبرر للرفض"، أستاذ اللغة العربية، وصاحب الفكر الاعتزالي المنحرف، الحاقد على منهج السلف، يريد أن يخضع تاريخ الصحابة الأطهار y للفحص والمراجعة!!!، أمّا الآلية التي يريد أن يسلكها فهي آلية شيخه الجابري تلميذ المستشرقين والتي تتلخص في انتقاء بعض الصور القاتمة من بعض المصادر المشبوهة التي لا تميز بين الغث والسمين، وجعلها مناطاً للأحكام والنتائج، هذه هي الموضوعية التي يتحدّث عنها(!).
ثم يقول: " لا شيء يزعج البنى التقليدية الراسخة في الأعماق الوجدانية [ يريد عقيدة أهل السنة ] سوى إعادة فحص الحدث التاريخي، والنظر إليه من خلال أبعاد أخرى(!) غير التي اعتادت التقليدية أن تقدمه بها "، إنه يريد منا أن نسلك منهجاً آخر غير منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد، ليفتح الباب على مصراعيه لكل مبتدع وحاقد وموتور ليقرر ما يريد، وتالله ذلك هو الضلال البعيد..
ثم يواصل: " مما يعني أن الأشخاص ( الذوات المقدسة صراحة أو ضمناً ) ستكون على المحك، ولن تبقى كما هي عليه من قبل في تراتبيتها التي تتغيا الفكرة ـ براجماتياً(!) ـ في النهاية "، وهذا هو مربط الفرس عنده: النيل من الصحابة، على حد قول أهل الاعتزال: (هم رجال ونحن رجال ) وشتان بين أولئك الرجال وهؤلاء أشباه الرجال ولا رجال..(3/131)
ثم يضرب مثالاً للذوات التي يصفها بالمقدّسة بالخلفاء الراشدين y ومذهب أهل السنة في ذلك أن التفاضل بينهم على حسب ترتيبهم في الخلافة، لكنّ هذا الكاتب لا يروق له ذلك، ويعده أمراً مبيتاً في الضمائر قبل وجوده(!!!)، يقول: " جرى الحدث التاريخي فيما يخص السلطة على التراتبية المعروفة بالنسبة للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومع أنه ـ أي الترتيب التاريخي للخلفاء ـ كان حدثاً تاريخياً مجرداً إلا أنه قد جرى تحميله معنى دينياً في تراتبية الأفضلية لهؤلاء، وهنا يظهر أثر الحدث التاريخي الواقعي ـ بأقصى حدود الواقعية الصريحة ـ على الفكري، وكيف جرى ضمه إلى مجمل المنظومة العقائدية بوصفه معبراً عن مضمر عقائدي كان موجوداً قبل وجوده المتعين في الواقع "، فهو لجهله ـ أو خبثه ـ يرى أن ترتيب الخلفاء كان حدثاً تاريخياً مجرداً..!! ولم يكن الأمر كذلك، بل إن الصحابة y اجتهدوا في تعيين الأفضل، بدليل أنهم توقفوا طويلاً بعد موت عمر t أيهما الأحق والأفضل عثمان أم علي، وكان عبد الرحمن ابن عوف t يطوف حتى على العذارى في خدورهن يسألهن حتى انتهى الأمر إلى تقديم عثمان t. ولهذا يقول أحد السلف: " من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار "، فكيف يقال إن ترتيب الخلفاء الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة كان حدثاً تاريخياً مجرداً ؟! لكنه الجهل والهوى، وإذا كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي، فإنهم لم يختلفوا في أبي بكر وعمر.. .
ولا يفوته في مقاله هذا أن يعرج على الصحابي الجليل، وكاتب الوحي معاوية t ويتهمه ببعض التهم الجائرة التي تنال من عدالته ونزاهته بناء على ما قرره سابقاً من الفحص والمراجعة(!)، ثم في نهاية مقاله يتباكى على مذهبه الاعتزالي العقلاني فيقول: " لا شك أن هذا يفسر كيف أن تيار العقلانية لا يظهر في مكان من العالم الإسلامي إلا ريثما يندثر، لا يتم هذا بقرار سلطوي في الغالب، وإنما بإرادة جماهيرية لا تزال تتدثر بلحاف الخرافة الصريحة أو الخرافة التي تؤسس على هذا القول أو ذاك "، وشتم الجماهير سمة بارزة من سماتهم كلما عجزوا عن بث فكرهم المنحرف، وستستمر الجماهير المسلمة التي تتدثر بلحاف أهل السنة والجماعة في رفض هذا الفكر الضال الذي ينال من ثوابتها وعقيدتها الراسخة ورموزها الشامخة ولو كره أدعياء العقلانية والتنوير بل التزوير.
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله y كما وصفهم الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[الحشر:10]، وطاعة النبي r في قوله: " لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم .." إلى أن قال: " ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، والصحيح أنهم معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم.. " إلى آخر ما ذكر.
هذا مثال واحد على طعنهم في عقيدة السلف والتشكيك فيها بطريقة ماكرة خفية، لا تخلو من مسلك التقية، مع ما فيها من التصريح ببعض ما تكنه نفوسهم، ومع هذا فهم يشتكون من عدم تمكنهم من قول كل ما يريدون. كفانا الله شرهم.
وفي مقال بعنوان: ( هيمنة الخرافة ) الرياض: 13566، يسخر آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً(!) ـ من عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي إثبات كرامات الأولياء، ـ وهي عقيدة ثابتة بالكتاب والسنة ـ، فيعدّها من الخرافة، ثم يقرر(!!) أنّ الخرافة والعقل ضدان لا يجتمعان!! ولا أدري أي عقل يقصد، فعقله يرى أنها خرافة، وعقول أئمة أهل السنة والجماعة بناء على ما جاء في الكتاب والسنة يرون أنها عقيدة ثابتة، فإلى أي عقل نتحاكم ؟ ثم يخلط الكاتب ـ وهذه عادتهم في الخلط والتلبيس ـ بين هذه العقيدة الثابتة وبين بعض الاجتهادات البشرية من بعض المجاهدين أو بعض المنحرفين فكرياً، وهذا الخلط منهج فاسد يدل إما على الجهل الفاضح، وإما على الهوى الواضح، للتوصل إلى أغراض في نفس الكاتب..
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات.. "..
السمة الثانية:
الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم
وذلك ناتج عن تلوث المصادر الفكرية التي ينهلون منها، وهل تلد الحيّة إلا الحية!..وقد سبق شيء من انحرافاتهم العقدية، ويضاف إليها:
1. نسبة الإعطاء والمنح والضرب للطبيعة(!)..
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الثقافة والإرهاب علاقة تضادّ ) الرياض: 13772، عازفاً على وتر الإرهاب والإنسانية: " والإرهاب تنكّر للبعد الإنساني في الإنسان، ومحاولة جنونية للرجوع إلى ما قبل الفطري والإنساني، أي أنّه محاولة رجعية ليست للقضاء على مكتسبات الأنسنة(!) فحسب، بل وللقضاء على ما منحته الطبيعة فطرياً للإنسان "، وسيأتي الحديث عن موضوع الأنسنة لاحقاً بإذن الله تعالى.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، يكرر هذا الخلل العقدي مع عزفه المعتاد على وتر الإنسانية، وشتم السلفية، يقول: " ربّما كان من قدر المرأة لدينا أن تواجه أكثر من سور منيع يحول بينها وبين الحصول على أقلّ القليل من حقوقها الفطرية، تلك الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة ابتداء.. "، وهكذا تصبح الطبيعة الجامدة هي المانحة ابتداء(!!!)، أليس هذا هو منطق الإلحاد ؟.
وفي السياق نفسه يقول آخر في مقال له بعنوان: ( إعصار كاترينا وعصارة الكره ) الرياض: 13607، وهو يتحدّث عن الإعصار الذي ضرب أمريكا: " ما ذنب أطفال وشيوخ وعجائز وأبرياء ضربتهم قوى الطبيعة(!) حتى غدوا كأنهم أعجاز نخل خاوية أن نحملهم وزر حكوماتهم في أخف المبررات(!) أو نربط بين ما حل بهم وبين ما مارسوا فيه حقهم المضمون(!) من رب العالمين في اختيار المعتقد الذي يريدونه في أسوأ المبررات.."، فربنا جل وعلا يقول: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ }[سبأ:17 ]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، والكاتب يقول: لا تسمعوا لكلام الله بل إنّ الضارب والمهلك هي قوى الطبيعة!!!. أمّا الكفر الذي هو ظلم للنفس قبل أن يكون جريمة يستحق صاحبها العذاب، فهو عند الكاتب حق مضمون من رب العالمين لأولئك الكفرة..!! فأي خلل أعظم من هذا الخلل العقدي الصارخ.(3/132)
ثم يضيف إلى هذه الخلل خللاً آخر أطم فيقول: " لماذا لا نجيد إلا التشفّي والتمني بالمزيد بعد أن قصرت بنا الثقافة المنغلقة عن إشاعة ثقافة العون والمساعدة المنبثقة من روح الأخوّة الإنسانية التي تشكل أصلاً من أصول الإنسان العظيم الإسلام في صفائه ونقائه وعزته وإنسانيته قبل أن تختطفه قوى الظلام والكراهية لتجعل منه أيديولوجية ساخطة على العالم كله.." ، والأخوّة الإنسانية التي يتحدث عنها سيأتي الحديث عنها بشكل مفصل بإذن الله، أمّا التشفي فلا أعلم قوماً أشدّ تشفياً من هؤلاء القوم، لا سيما مع خصومهم السلفيين، وقد رأينا قمة هذا التشفي في حادثة حريق الرئاسة، نثراً وشعراً ورسماً، وبكائيات عجيبة لوفاة بضع فتيات من آثار التدافع والهلع، لا بسبب الحريق.. ولم يقتصر الأمر على هذا بل حاولوا الزج بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه القضية زوراً وبهتاناً، وبطريقة قذرة، لولا تصريحات المسؤولين المبرئة للهيئة.. ثم هم ينكرون تشفي (بعض) المسلمين المظلومين الذين فقدوا الكثير من أولادهم وأعزائهم والكثير من أموالهم وممتلكاتهم بسبب الجبروت الأمريكي المدمر في كثير من بلاد المسلمين.. ثم أي أخوّة إنسانية مع قوم يمتهنون المصحف الشريف في سجونهم، ويسخرون من سيد الخلق وخاتم المرسلين عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
2. الدفاع عن القبوريين وأصحاب المذاهب الكفرية..
ففي مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، يقول الكاتب السابق، بعد أن قرر أن مرجعية من وصفهم بالخوارج هي السلفية ( التقليدية ): "إننا نريد أن نعرف من هؤلاء الخوارج القعدة هل نحن أي كدولة ومجتمع في نظرهم مسلمون أم لا؟ "
إلى أن يقول: " أنا هنا لا أقصد موقفهم من عموم المجتمعات الإسلامية، لأنها في تصنيفهم العام غير المفصّل كافرة إمّا لأنها لا تحكم بما أنزل الله أو تسكت عن الحاكم في هذا الأمر وإمّا لأنها بدعية أو مذهبية أو قبورية أو حزبية.. إلخ هذا الهراء وإما لا تنكر كل ذلك "..
والقبوريّون هم عبّاد القبور، المعظّمون لها بالذبح والنذر والسجود وغير ذلك من أنواع الشرك الأكبر، وهؤلاء لا شكّ في كفرهم، والكاتب يجعل ذلك من الهراء، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فإنّه إذا كان تكفير المسلم الموحّد لا يجوز، فكذلك عدم تكفير الكافر هو أيضاً لا يجوز، وهو تطرّف مضادّ للتطرف الأوّل الذي أراد أن يحذّر منه..
وأمّا حديثه عن الدولة والمجتمع، وتمسّحه بذلك، فهو من باب التقيّة التي يشتركون فيها مع الرافضة، وذلك أنّهم أصلاً لا يرون شرعية هذه الدولة السلفيّة (الوهابيّة في نظرهم) لأنّها غير ديموقراطية، أي غير منتخبة من الشعب، وهم يسعون لتحقيق مشروعهم التغريبي الغربي إلى إزاحة هذه الدولة، لإقامة دولتهم ( الإنسانية ) المرتقبة التي لا دين لها ولا مذهب ولا طعم ولا لون ولا رائحة.!!!.
وأمّا المجتمع الذي يزعمون تكفيره من قبل الخوارج القعدة، فهو المجتمع الذي استعصى عليهم ولذا فهم يرمونه ـ على سبيل الشتم ـ بالتجهيل، أو على حدّ تعبيرهم كما سبق: (الجماهير البائسة الظامئة )، و(جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و(الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، وهي الآن بعد هذه الشتائم أصبحت متّهمة بالكفر من قِبَل من يزعمون أنّهم قد اختطفوها، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض الحادّ ؟!!.
3. الخلل في مفهوم الولاء والبراء..
وقد كتب أحدهم ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأشدّهم جهلاً ـ مقالاً بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، وقرر مفهوماً غريباً للولاء والبراء، يفرّغه من مضمونه الشرعي الذي أراده الله U ، بل يضادّه ويخالفه، يقول: " وهو يشي بعلاقات سلمية قوامها الصلة والإحسان والبرّ ودعم ممكنات السلام الاجتماعي الذي أتى الإسلام ليجعلها الأصل في حياة الناس قبل أن تختطفها جماعات الإسلام السياسي لتجعل بدلاً منها العنف والقتل والدمار هو الأساس في علاقة الإسلام بغير من الديانات الأخرى افتئاتاً على الله تعالى ورسوله ومكراً للسوء ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ".. فهو يخلط بجهل فاضح بين عقيدة الولاء والبراء التي قوامها ولبّها وروحها: الحب والبغض وموالاة المسلم أيّاً كان، والتبرّي من الكافر ومعاداته أيّاً كان، وبين معاملة الكفّار والتفريق بين من كان منهم محارباً، ومن كان منهم مسالماً.. وبغض الكافر ومعاداته كما قال الله عن الخليل إبراهيم u: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، فنحن نبغض الكافر ونعاديه بقلوبنا من أجل كفره، لكن ذلك لا يمنعنا من بره إذا كان قريباً مسالماً كالوالدين ونحوهما، وكذلك لا نظلمه بل نقسط إليه، ونحسن معاملته ترغيباً له في ديننا، ومن أجل إنقاذه من الكفر الذي هو فيه، بل إنّ عقيدة الولاء والبراء لا تختص بالكافر، بل تشمل حتى العاصي، فنبغضه لمعصيته، لكن نحبه من وجه آخر لما عنده من الإيمان والإسلام، فمن لم يبغض الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، فلديه خلل في هذه العقيدة العظيمة، وما تأخر المسلمون، ولا تسلط عليهم العدو، إلا لتخليهم عن هذه العقيدة، أو اختلال مفهومها لديهم.
ولم يقف الأمر عند هؤلاء على مجرد الاختلال في المفهوم، بل تجاوزه إلى ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو إلغاء هذه العقيدة من أصلها(!)، يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني وضرورة التجديد ) الجزيرة: 11595، عن مفهوم الولاء والبراء: "هذا المفهوم كان في الماضي، وفي زمن عدم وجود ( الدولة ) بمعناها وشكلها الحالي، ضرورة احترازية، ودفاعية وقائية مهمة، فقد كان بمثابة آلية عالية الفعالية آنذاك لمنع ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم ( منع اختراق مجتمعاتنا من الآخر ) في حقبة كان الصراع والتطاحن فيها بين الأمم والثقافات هو السمة الطاغية على العلاقات الدولية، أما اليوم فقد تغير الوضع حيث أصبح التعاون بين الأمم(!!!) وتكريس كل ما من شأنه إثراء هذا التعاون، هو الثقافة السائدة بين شعوب الدنيا، لهذا فإن التغير النوعي في العلاقات الدولية الذي نعايشه اليوم كان يجب أن يتبعه تغير مواكب في مفهومنا للولاء والبراء بالشكل الذي يحافظ على فعالية هذا المفهوم.."، وقد ذكرني قوله ( ضرورة احترازية ودفاعية وقائية ) بالحرب الاستباقية الوقائية التي دشّنها ( الآخر ) في ظل التعاون الدولي بين الأمم(!) دفاعاً عن نفسه، ولو كان ذلك مبنياً على استخبارات خاطئة أو مبالغ فيها، وهي ليست مجرّد عقيدة في القلب، أو بغض باللسان، وإنما حرب بالأسلحة المدمرة وربما المحرمة دولياً التي لا تفرق بين المحارب والمدني، ويبدو أن مفهوم هذه العقيدة قد انتقل إلى ذلك الآخر في حين غفلة منا، فكان علينا التخلي عنه.. أما التعاون بين الأمم! فصحيح لكنه ضد الإسلام وأهله، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها مما يطمع فيه ( الآخر )..(3/133)
ويستشهد الكاتب المذكور على ما ذهب إليه من تعطيل مفهوم الولاء والبراء، بقول كبيرهم الجابري الذي يقول: " إذا تعارضت المصلحة مع النصّ، روعيت المصلحة(!) باعتبار أنّ المصلحة هي السبب في ورود النصّ، واعتبار المصلحة قد يكون تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف(!)".
فتأمّلوا هذا القول العجيب الذي يفترض تعارض المصلحة مع النصّ، ثمّ من الذي يحدّد المصلحة ؟، وكيف يكون اعتبار المصلحة تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف؟ فما قيمة الدين حينئذ، إذا كانت ثوابته عرضة للاعتداء والإلغاء بحجّة المصلحة المزعومة ؟.. نعم قد يتخلّى المسلم عن عقيدة الولاء والبراء ظاهراً في حالات استثنائية خاصّة جداً، لكنّها تبقى عقيدة قلبية لا يجوز له أن يتخلّى عنها: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[النحل:106].
4. الثناء على الفرق الضالّة، وخصوصاً المعتزلة ـ التي تتّخذ من السلفية خصماً تقليدياً لها ـ والدفاع عنها، بل الدعوة إليها !!...
ففي مقال بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، كتب أحدهم يستنكر فزع خصومه السلفيين عند شتم مذهب السلف، وكيل التهم للسلفية بلا حساب ولا برهان، والذي يعدّونه من النقد!!. ويقرّر بفهم مغلوط ومنقوص للآية الكريمة: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }[هود:118]، أنّ الاختلاف بين البشر أمر جبلّي قد فُطر عليه البشر، وليس بمذموم، ولو أتمّ الآية لتبين له خطأ ما ذهب إليه، فإنّ الله قال بعدها: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[هود:119]، فجعل الله الاختلاف مقابل الرحمة. وقوله: ( ولذلك خلقهم ) قيل للاختلاف. وقيل للرحمة. وقيل للأمرين: فريق في الجنّة وفريق في السعير، وهو الصحيح. ولذا ختم الآية بتوعّد الكافرين من الجنّ والإنس بنار جهنّم، ولم يعذرهم بكفرهم بحجّة أنّ الاختلاف أمر جبلّي فطريّ كما يقول هذا الكاتب الجاهل، ويدلّ على أنّ الأصل هو الاجتماع والاتفاق على التوحيد والإيمان الصحيح قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً..}[البقرة:213]، وقد روي عن ابن عباس t أنّ الناس قبل نوح كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم حدث الاختلاف والتفرق بعد أن زين الشيطان لقوم نوح عبادة الأصنام وتعظيم الصور..فكان نوح u هو أوّل الرسل لمحو الشرك.
ثم يقرر هذا الكاتب " حق الآخر (الكافر)(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد!! أياً كان هذا الجانب... "..
ثم يقول مدافعاً عن المذهب الاعتزالي ـ وهذا هو مربط الفرس لديه ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصة الفرق الإسلامية الماضية المنظور لها على أنها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي يُنظر لها على أنها ذات أهداف خاصة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حق وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحق حصري لمباديء مذهبه وقواعد مرجعيته "، وبعد هذا التلميح غير المليح، ينتقل إلى التصريح فيقول: " المذهب الاعتزالي مثلاً عندما أسس للنظرة العقلية في الإشراقات(!) المبكرة من تألق الحضارة الإسلامية كان له هدف نبيل واضح وهو محاربة الهجمة الشعوبية على الإسلام آنذاك المتخذة من مذهب الشك أساساً لإتيان بنيان الإسلام من قواعده، فكان أن قام المعتزلة بالتأسيس للمذهب العقلي القاضي بتقديم العقل(!!!!) على النقل كسلاح مماثل ووحيد لردّ تلك الهجمة على الإسلام... " إلى آخر ما ذكر من التلبيس وقلب الحقائق، فأما الشك الذي يتحدث عنه فهم أهله والداعون إليه كما سبق من دندنتهم حول أنّ أحداً ما ـ أيّاً كان دينه ومذهبه ـ لا يمتلك الحقيقة المطلقة، فأي شك بعد هذا الشك ؟!، وأما تقديم العقل على النقل فهو الضلال المبين، فكيف تكون السيئة حسنة يُمدح صاحبها ؟!، إن هذا من انقلاب المفاهيم..
ثم يختم مقاله بالتعريض بالحديث الشريف ـ حديث الافتراق والفرقة الناجية ـ، وهو مخالف للعقل عندهم(!)، فيقول: " ومن ثم فإن الحاجة ماسّة لتأسيس جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجرّدة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة(!) باستصحاب كامل لتأريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً بدل أن تقدم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة... "، أما التفسير السياسي للتاريخ والأحداث، واستبعاد الدين والعقيدة كمؤثّر رئيس، فذلك من أبرز سماتهم كما سيأتي، للتوصّل إلى ما يهدفون إليه من العلمنة.
وفي مقال لهذا الكاتب بعنوان: ( العقل قبل ورود السمع ) الرياض: 13688، الذي هو أصل من أصول المعتزلة، يثني الكاتب على هذا الأصل، الذي يعلي من شأن الفلسفة والمنطق وعلم الكلام المذموم، ويصف موقف السلف من ذلك بالركام الظلامي الراكد على ثقافتنا منذ قرون... أمّا تراجع بعض كبار أساطين الفلاسفة عنها، وتسجيل اعترافاتهم في ذمّها، وأنّها لا تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، فيعدّه الكاتب في مقال له ساخر بعنوان: ( التراجعات المذهبية ) الرياض: 13572، مجرّد دعوى لا حقيقة لها، وأنّ ما قالوه، معظمه منحول عليهم، ولا يخفى ما في قوله هذا من اتّهام للسلف بالكذب والافتراء على أولئك المتراجعين، ودفاع عن تلك الفلسفة البائسة العقيمة باعتراف أساطينها.
وفي هذا السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( تعميق التعددية الفكرية... تأسيس لتطور المجتمعات ) الوطن: 2305، مثنياً على مذهب الاعتزال، ولامزاً مذهب السلف: " ويزخر تاريخنا القديم بمدارسَ فكرية متعددة شاركت في زمانها في حراكٍ فكري ثقافي في قضايا فلسفية متعددة كثيرة شغلت تلك المدارس بالتأليف والردود, وأفرز ذلك الحراك الفكري الثقافي مدرسةً فلسفيةً عقلية وهي فكر الاعتزال بيد أننا لم نستفد من تلك المدرسة العقلية التي كانت تُحاكي عقل الإنسان ولم نحاول أن نبرز الأدوات والوسائل التي كانت أساساً لتلك المدرسة, بل قد أُبرزت تلك المدرسة على أنها ضارة وغير نافعة وهذه إشكاليةُ فكرٍ تفردَ بمجتمعٍ فأصبح يملي عليه ما يجوز التفكير فيه وما لا يجوز وساهم في ترسيخ منظور ومنهج واحد تدرسُ من خلاله تلك المدارس الفكرية العقلية التي تزخرُ بالثقافة, فهل سوف تتغير طريقة طرحنا للمدارس الفكرية المتعددة كي نوظفها في خدمة الحراك الفكري الثقافي لكي يمارسه أفراد مجتمعنا ويتفاعلوا معه والذي هو مطلب أساسي للإصلاح والتطوير أم إننا سوف نبني سداً يحول بين عقولنا وآليات تفعيلها كي تبقى على القديم ؟ وكيف سوف نغير طريقة طرحنا؟ ومتى؟".
أنّها دعوة صريحة إلى تبنّي مذهب الاعتزال ، ونبذ منهج السلف الذي يصفه بأنّه ( فكر تفرّد بمجتمع )، فهو لا يفرّق بين الفكر والعقيدة التي لا مجال للمساومة عليها، بل إنّه يعدّ الأخذ بمذهب الاعتزال المنحرف مطلباً أساسياً للإصلاح والتطوير !!!!!..(3/134)
5. الدعوة إلى نقد الثوابت(!) والتشكيك فيها، والتي يعبّرون عنها تارة بالمسلّمات، وتارة بالحتميات، وتارة بالمعرفة الأولى... الخ ..وهي دعوة خطيرة تكشف عن حقيقة ما يطرحونه من فكر..
يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتاناً بالغرب ـ في مقال له بعنوان: (ظهور الفكر النقدي شرارة الانطلاق الحضاري ) الرياض: 14083: " إن إخفاق العرب والمسلمين في تحقيق الإفلات من قبضة التخلف وعجزهم عن إحراز النهوض وعدم القدرة على التفاهم وغياب تبادل الاحترام واستمرار التمركزات المتنافرة بين الأقطاب المختلفة داخل الأمة والاحتكام إلى القوة والعجز عن الاتفاق عند أي اختلاف ان هذه كلها وغيرها من المعضلات المزمنة تعود بشكل أساسي إلى حرمانهم من آليات النقد التي كانت المفتاح الذي اهتدت إليه بعض الأمم وأحسنت استخدامه فحقق لها الوئام المنتظم والتكامل المكتظ والنمو المطرد ومكنها من الازدهار المتجدد.. أجل إن النقد للأفكار والرؤى والأوضاع والأعراف والتقاليد والمواضعات والمسلّمات هو محرك الحضارة وهو صانع التقدم في كل مجالات الفكر والفعل وهو الشرارة التي فجرت طاقات الإنسان وصنعت له أمجاد الفكر والعلم ووفرت له أسباب الازدهار فالأمم التي اعتمدت هذه الآلية الرائعة حققت طموحاتها وأنجزت إثبات ذاتها ووقفت شامخة بين الشعوب في سباقات الفكر والفعل أما الأمم التي أخمدت هذا المحرك الأكبر أو تجهله أو لا تحسن استخدامه فقد بقيت عاجزة عن مبارحة خنادق التخلف بل بقيت رافضة بأن تتجاوز هذه الخنادق لأن حرمانها من النقد والمراجعة حرمها من اكتشاف نقائصها كما حرمها من التعرف على ما في الدنيا من آفاق وبدائل فبقيت تتوهم أنها الأفضل والأرقى وظلت رهينة هذا الوهم .."
فهو قد ساوى بين الأفكار والرؤى والأوضاع والأعراف والتقاليد.. وبين المسلّمات التي هي الثوابت، ولم يستثن من ذلك شيئاً.. فكلّها يجب أن تكون خاضعة للنقد حسب رأيه، وهو يستشهد على ذلك بالحضارة اليونانية ووريثتها الحضارة الغربية حسب تعبيره، فيساوي بين دينهم وثوابتهم المحرّفة الباطلة، وثوابتنا وديننا الصحيح الذي لا يقبل النقد، بل يعدّ هذا التفريق بين الدينين وثوابتهما ضرباً لما أسماه بامتلاك الحقيقة المطلقة، بمعنى أنّك حين تعتقد أيها المسلم بأنّ دين الإسلام هو وحده الحقّ وما سواه باطل، فإنّك حينئذ تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة!!! هذا ما يفهم من إطلاقه حيث يقول: "ولكن لن ندرك عظمة هذا السبق المذهل الا إذا تذكرنا أن أصعب معضلة واجهت الإنسانية وسببت لها الفظائع والشرور وعرقلت مسيرتها الحضارية هي الانغلاق الثقافي الناتج عن توهم الكمال واعتقاد كل طرف من المختلفين أنه هو وحده الذي يملك الحقيقة النهائية المطلقة وأن كل الأطراف الأخرى غارقة في الأباطيل والحماقات والعمى والضلال وانحلال الأخلاق وأن كل المخالفين يستحقون الاقصاء والاستئصال لأنهم في نظره خطر على الحقيقة وعلى الوجود ولأن هذا الوهم يجري من الناس مجرى الدم ومحتجب عن الوعي خصوصاً في الثقافات المغلقة [ ويقصد بها ثقافتنا ] فإنه قد بقي ويبقى محصنا عن أضواء العقل وغير متأثر بفتوحات العلم ومحمياً من عمليات التحليل والفحص والمراجعة فتوهّم الانفراد بامتلاك الحقيقة يؤدي إلى الانغلاق الثقافي ومعاداة كل المغايرين وتوهّم الخطر من أي مخالف . إن ادعاءات كل طرف سواء بين الأمم المختلفة أو بين المذاهب والطوائف والاتجاهات داخل الأمة الواحدة بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة وأن الآخر ليس لديه سوى الضلال والعمى كانت وما زالت من أقوى أسباب البؤس الإنساني والفرقة والاقتتال والعداوات وحجب الحقائق وتزييف الوقائع وإفساد الأخلاق وملء النفوس بالأحقاد وتلويث العقول وإعاقة المعرفة وعرقلة الحضارة ومنع الانسجام الإنساني لذلك كان تأسيس الفكر النقدي وتقويض أوهام الانفراد بامتلاك الحقيقة النهائية المطلقة من أعظم الاختراقات الإنسانية.."
وهذا الكلام تضمن حقّاً وباطلاً، وخلطاً عجيباً يدلّ على غبش في التصور، أو ضلال في الفكر، وسيأتي قريباً إن شاء الله الحديث عما يسمّى بامتلاك الحقيقة المطلقة..
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرادة الإنسانية.. المستقبل يصنعه الإنسان ) الرياض: 14073، هاجم فيه ما أسماه بالحتميات التي هي الثوابت، يقول: " لا أريد أن أتحيز إلى تهميش الحتميات؛ بقدر ما أريد التأكيد على قدرة الإرادة الإنسانية على تجاوزها، والتحرر منها؛ مع الإقرار بنسبية هذا التحرر. بل إن حضورها الطاغي أحيانا هو ما يبعث روح التحدي إزاءها، ويجعل من التحرر منها تحقيقا لتحرر الإرادة الإنسانية مما سوى الإنساني ".
فهو يرى في مقاله الطويل الذي يكتنفه الغموض أنّ الحتميات التي هي الثوابت ـ ويعني بها ثوابتنا نحن لكنّه لم يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها ـ هي العائق عن تحقيق التقدّم والإرادة الإنسانية، في الوقت الذي يثني فيه على الإنسان الغربي الذي يمثل في نظره مقدمة الوعي الإنساني، ومثال الإرادة الحرة الواعية بذاتها. لأنّه الإنسان الأقل خضوعا للحتميات، والأشد تحررا من أسرها !!!!!. إنّها قمّة الانهزامية والتبعية والانحراف الفكري، أو بتعبير بعض الفضلاء: ( الأدمغة المفخخة ).
وفي مقال بعنوان: ( ثقافة معاقة )(!) الوطن: 2252 كتبت إحداهنّ داعية إلى الشك في الثوابت، والتشكيك فيها، تقول بكلّ جرأة: " يقال إن الفرد قد حقق هويته عندما تكون سلوكياته العملية في جميع جوانب حياته نتاجاً لمفاهيم وقناعات اختبرت صحتها بعقلية حرة مستقلة ولم تكن نتاج وراثة أو برمجة بطريقة الترديد الببغائي لما يقوله الوالدان والمدرسة ووسائل الإعلام كالمسجد والتلفزيون والكتيبات، وليصل الإنسان لهذا المستوى فلابد أن يمر بمرحلتين الأولى وفيها يتم وضع كل ما تم تلقينه إياه في فترة طفولة الفكر وهي مرحلة الطفولة وحتى نهاية المراهقة موضع الشك والاختبار دون النظر إلى ما يسميه مجتمعه أعرافاً أو ثوابت فيبدأ المراهق بالتساؤل حول مصداقية التعليمات التي جاءت من قبل الكبار وتشكيكه فيها بالبحث والقراءة والاستطلاع بهدف الغربلة والتصحيح فيدخل سن الشباب وقد كوّن فكره المستقل الذي يعكس ما يدل عليه ثم يظهر الالتزام بالمعرفة الجديدة وتطبيقها عملياً كمؤشر ملموس على تحقق الهوية ".
فهي تدعو الشاب الغض بعد سنّ المراهقة أن يختبر قناعاته ـ حتى الثوابت(!) ـ بعقلية حرة مستقلة كما تقول(!!!) وهي لا تعلّم أنّ ثوابتنا لا سيما العقدية لا تخضع للعقل، ولا مدخل للعقل فيها، فهي تعتمد على الإيمان والتسليم المطلق { الذين يؤمنون بالغيب }[ البقرة: 2]، ولو كانت الكاتبة تتحدث عن مجتمع غير مجتمعنا، ثوابته من وضع البشر لكان لكلامها وجاهة، أمّا وهي تتحدّث عن مجتمعنا السلفي المسلم بمناهجه النقية التي تولّى إعدادها علماء أجلاء، فلا وجه لهذه النزعة التشكيكية المتلقّاة من الغرب الكافر الذي لا ثوابت له سوى ما وضعه البشر..
ثم كيف لشاب غضّ في مقتبل العمر أن يختبر تلك القناعات والثوابت التي وضعها له علماؤه ومشايخه، وهي مما اتفق عليه سلف الأمة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا ؟!!(3/135)
ثم تقول: " وقد يظن أي معاق الهوية أن الأخلاق والقيم والمبادئ غير قابلة للتطور ويجب أن تبقى ثابتة وأننا نعني بهذا المقال التأثير على شبابنا ودفعه للتخلي عن قيمنا وأخلاقنا العظيمة ونقول له بل هي قابلة للتطور والتحسن ويجب أن تعامل بمرونة أكثر وسأعطي مثالاً على نمو المبادئ وتطورها ففي ثقافتنا الإسلامية الجميلة كنا من رواد الدعوة لحقوق العبيد ولتضييق موارد الاستعباد ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساسا ومن هذا المنطلق يمكن حتى أن نطور مفاهيمنا حول حقوق المرأة والطفل ".
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانهزامية بائسة، فديننا ولله الحمد قد أكمله الله وأتمّه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }[ المائدة: 3] فلسنا بحاجة لنطور ثوابتنا وقيمنا عن طريق أمم لا قيم لها ولا أخلاق أصلاً إلا الأخلاق التجارية إن صحّ التعبير، والمثال الذي ضربته دليل صارخ على جهلها فإنّ إلغاء الرقّ الذي أقرّه الإسلام ليس تطويراً وإنّما هو مضادة لحكم الله وشرعه، فالرق باق ما توفّرت أسبابه، وقولها: ( ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساساً ) كلام خطير حيث جعلت هذا النقض لحكم الله مستوى أعلى مما شرعه الله وأقرّه.. فجعلت حكم الطاغوت أعلى من حكم الله، ولا أظنّها لجهلها تدرك ذلك، فإلى الله المشتكى من جهل هؤلاء وجرأتهم وتعالمهم..
ثم أي استعباد أعظم مما تفعله الدول الكبرى اليوم من استعباد الدول والشعوب وإذلالها والضغط عليها لتنفيذ أجنداتها، والسير في ركابها، والاستيلاء على ثرواتها ومقدّراتها ؟!! ومن يخالف ذلك فإنّ مصيره إلى الإقصاء والإبعاد والاتهام بالإرهاب، وتسليط المرتزقة عليه وغير ذلك من الأساليب الماكرة.
وتختم مقالها بما لا يقل خطورة عما سبق، فتقول: " وأخيرا تحت شعار حماية ثقافتنا خوفا من المتربصين وهذا الخوف الذي ينادي إلى التقهقر ومحاولة إحياء عصر ما قبل ألف سنة بحذافيره وهذا الفكر خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية وجعل عقولنا راكدة متوقفة عن العطاء نعيش عالة ولا نساهم في أي إضافة للمجتمعات لا تقنيا ولا ثقافيا بالرغم من أننا نشكل خمس سكان العالم ".
فتأملوا قولها: ( إحياء عصر ما قبل ألف سنة ) وهو عصر النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه والتابعين، أي القرون الأولى المفضّلة التي قال عنها النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: (( خير القرون قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم.. )) وجعلت إحياء مثل هذا العصر المجيد سبباً من أسباب خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية... ألا يعدّ هذا الكلام من الكفر الصريح، أم أنّ هذه الكاتبة تردّد ببغائية ما لا تدرك معناه ؟!
وفي ذات السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( التفكير في المعرفة الأولى ) الوطن: 2259: "يعتبر كثير من الباحثين في الفكر العلمي، باشلار من أبرزهم، أن المعرفة الناتجة عن التجربة الأولى، أي الاتصال الأول بالموضوع، تعتبر عائقا معرفيا أمام الحصول على معرفة علمية موضوعية. وبالتالي فإن المعرفة العلمية الحقيقية تأتي لتواجه وتتجاوز هذه المعرفة الأولى ".
إلى أن يقول: " هذا المفهوم يمكن توسعته أيضا إلى معارفنا الأولى عن الكون والحياة والأفكار والثقافات وعن أنفسنا ومحيطنا الصغير والكبير. خصوصا أن أغلب معارفنا في هذا الإطار اكتسبناها ونحن صغار في فترات التعلم الأولى. تعلمنا في البيت وفي المدرسة ومن خلال التفاعل الاجتماعي أشياء كثيرة. تعتبر كلها معارف أولى تبقى متأثرة بثقتنا بمن علمنا إياها وبالهالة التي لهم عندنا...."
إلى أن يقول: " يمكن سحب هذا الفهم على المعرفة الأولى التي اكتسبناها في المدرسة من المعلم وتلك التي اكتسبناها من إمام المسجد وتستمر حتى إلى المعرفة الأولى التي تحصلنا عليها من الجامعة أو أي مصدر معرفي آخر ". وهذا هو مربط الفرس عندهم: المعلم، المسجد....
وهكذا تستمر الدعوة إلى التشكيك في ثوابتنا ومسلّماتنا الشرعية بحجّة النقد والتمحيص، وهم يقيسون مجتمعنا المسلم على المجتمعات العلمانية الكافرة التي لا ثوابت لها إلا ما صنعه البشر كما سبق ضاربين بثوابتنا الشرعية عرض الحائط.
ويبدو أنّهم بدأوا في تطبيق ما يدعون إليه، فهذا أحدهم في مقال له بعنوان (الأمن الفكري والركض في الطريق الآخر!! ) الوطن: 2322، يطعن في مذهب أهل السنّة والجماعة، ويقرر الفكر الليبرالي المنحرف فهو يرى أنّ الأمن الفكري هو : " أن يفكر جملة الناس وأفرادهم تفكيرا لا يؤدي إلى إيقاع الخطر بالمجتمع ".
ثم يقرر " إن هناك رؤيتين مختلفتين في تحقيق هذا الهدف. الأولى تقول إن الفكر الآمن هو الفكر "السلمي". بمعنى الفكر الذي يطرح آراءه وأفكاره بطريقة سلمية دون أن يلزم أحد بها أو يفرضها بالقوّة " وهذه هي الرؤية الليبرالية التي يريد أن يقررها .
ويواصل: " الرؤية الثانية ترى أن الفكر الآمن هو الفكر الذي يسير في الطريق المحددة سلفاً. طريقة يرى أصحاب هذه الرؤية أنها هي السليمة قطعا وبالتالي فإن تحقيق الأمن للفكر يكون في السير على هذه الطريقة وكل ما يخرج عنها يعتبر فكرا خطرا ويهدد الأمن الفكري ". وهذه هي الرؤية السلفية الصحيحة، وهي التي يريد أن ينقضها، ولذا يقول: " شتّان بين الرؤيتين فكل منهما تنطلق من أساس فكري ورؤية للإنسان والحياة تختلف عن الأخرى. الرؤية الأولى التي ترى الأمان الفكري يكمن وينبع من التفكير السلمي بدون إضافة أي قيد آخر على هذا التفكير تنطلق من مبدأ حرية التفكير غير المحدودة إلا بكونها سلمية. حرية التفكير التي هي حق أولي للإنسان وشكل من أشكال تحقيق وجوده الحقيقي في الحياة. هذه الحرية هي منطلق وطريق كل الإنجاز البشري وأفكار التقدم والتحرر على مدار التاريخ. كل الفلاسفة والمصلحين على مدى التاريخ انطلقوا من هذا الحق حين كانوا يواجهون بمعارضة شديدة من مجتمعاتهم في البدايات. صحيح أن الكثير منهم انقلب على هذا المبدأ بعد أن استقر لأفكارهم الأمر إلى أن المبدأ الأول كما شملهم يفترض أن يشمل من بعدهم بالتأكيد . الرؤية الثانية تنطلق من أن فكرة أن الحق معروف سلفاً، في جملة آراء جماعة ما " يقصد أهل السنة والجماعة، ثم يواصل: "وبالتالي فإنه لا يسع أحد أن يخرج عن هذا الفكر وإلا اعتبر مباشرة خارجاً عن الحق".
ثم يقول ساخراً: " لا تهتم هذه الرؤية بحرية الفكر، ولا تعتد بها، بل تحاربها بقدر ما تستطيع، وتعتبرها سبباً من أسباب الدمار والبلاء. ولذا فعلى الناس استمرار الاتباع للحق، الذي هو حق محدد عندهم في جملة من الأقوال والآراء وفي ما وافقها فقط "..
وحرية الفكر عند هؤلاء تعني حرية الكفر، والسخرية بالدين وأهله، والتشكيك في الثوابت كما سبق..!! أما الحقّ المحدّد في جملة من الأقوال والآراء ـ حسب وصفه ـ فواضح أنّه يريد به مذهب السلف، وهل هناك حقّ غيره عندنا ؟.
وفي مقال بعنوان ( لا إجحاف ) الوطن: 2322، كتبت إحدى الكاتبات من أصحاب هذا الفكر ـ وهي التي سبق قريباً أنها طالبت بالشكّ في الثوابت ـ تنتقد وبصراحة وقحة بعض الثوابت المتعلّقة بالمرأة، والتي وردت فيها نصوص صحيحة وصريحة، وقد خلطتها مع بعض القضايا الأخرى التي هي محل اجتهاد، ومن هذه الثوابت التي انتقدتها وأنكرتها ـ وسأذكرها بالنصّ الذي ذكرته ـ:(3/136)
" ممنوعة من السفر بدون إذن، ممنوعة من استئجار غرفة بفندق بدون إذن، ممنوعة من إلحاق أبنائها في المدرسة التي تحب بدون إذن، ممنوعة من استخراج جواز سفر بدون إذن، ممنوعة من الخروج من المنزل بدون إذن، ممنوعة من الخروج من الدوام (للمعلمات والطالبات) دون إذن، ممنوعة من الالتحاق بالعمل بدون إذن، ممنوعة من استئجار منزل وحدها بدون إذن، ممنوعة من الاستفادة من البعثات الخارجية بدون إذن، ممنوعة من تزويج نفسها بدون إذن، ممنوعة من التوقف عن الإنجاب بعملية بدون إذن، ممنوعة من الخروج من المستشفى إذا نومت فيه بدون ولي لاستلامها، ممنوعة من دخول الإدارات الحكومية ومقابلة المسؤولين بدون ولي، ممنوعة من الامتناع عن فراش الزوجية بدون عذر، ممنوعة من طلب الطلاق بدون عذر ودفع غرامة، ممنوعة من اللحاق بأطفالها إذا أخذهم طليقها خارج البلاد دون إذن وليها، ممنوعة من تزويج بناتها دون إذن، ممنوعة من الوقوف في محل بيع أو مقهى هي تملكه، ممنوعة من استلام مناصب تنفيذية عليا في القطاع الخاص والحكومي، ممنوعة من لقاء وفد لعقد صفقة عمل، محرم عليها الركوب مع سائق وحدها، محرم عليها العمل في المكان المختلط، محرم عليها إغضاب زوجها، وأخيراً صوتها عورة لا يجب أن يظهر للملأ لتبقى قضيتها طي الكتمان.. ".
ويلاحظ أنّ أغلب ما ذكرته يدور حول أخذ الإذن من الزوج أو الولي في الخروج والسفر ونحوه، والاختلاط والخلوة المحرّمة، وقد وردت في ذلك نصوص شرعية صحيحة، فهذه الكاتبة ـ أصلحها الله ـ تريد من نسائنا أن يخرجن من بيوتهن، بل يسافرن حيث شئن ويتزوجن من شئن دون إذن من أوليائهنّ، ومعلوم شرعاً وعقلاً وذوقاً وأدباً في أي تجمّع، أو مؤسسة، أو إدارة حكومة أو أهلية، أنّ الموظّف لا يخرج من عمله إلا بإذن، وإلا لأصبح الأمر فوضى وتسيب، فكيف بمؤسسة الأسرة التي هي المحضن الأوّل للتربية والتعليم.. فهل تريد هذه الكاتبة من نسائنا أن يكن فوضويات متسيبات بلا رقيب ولا حسيب ؟! وإذا كانت هي ترى نفسها مثقفة وواعية، فهل كل النساء والفتيات كذلك؟!.
أما الاختلاط بين الجنسين ـ وأعني به الاختلاط المقصود ـ فهو أم البلايا ومقدمة الرزايا، فهو المقدمة للخلوة المحرمة المنتهية بالمآسي العظيمة، ولدي قصص مفجعة لضحايا الاختلاط من الجنسين، ولولا خشية الإطالة والخروج عن المقصود من هذه الدراسة، لذكرت شيئاً من ذلك، والعاقل اللبيب ينظر ويتأمل.
والعجيب أنّ بعض نساء الغرب العاقلات أكثر وعياً وإنصافاً للمرأة المسلمة، من هذه الكاتبة المنتسبة إلى الإسلام.. ففي مقابلة أجرتها مجلة الوطن العربي (العدد 314 ) مع امرأة فرنسية متخصصة في الفن الإسلامي قالت: " وجدتُ المرأة العربية ( المسلمة ) محترمة ومقدرة داخل بيتها أكثر من الأوروبية ، وأعتقد أن الزوجة والأم العربيتين تعيشان سعادة تفوق سعادتنا.."
ثم توجه نصحها للمرأة المسلمة قائلة: " لا تأخذي من العائلة الأوروبية مثالاً لك، لأنّ عائلاتنا هي أنموذج رديء لا يصلح مثالاً يحتذى ".
وفي مقابلة أجرتها مجلة صدى الأسبوع مع فتاة إنجليزية أعلنت إسلامها، كان من الأمور التي دفعتها أن تترك النصرانية وتدخل الإسلام: الأسرة المسلمة ومكانة المرأة، قالت: " المرأة المسلمة دائماً في حماية ورعاية، تجد من يعيلها أينما حلت، وهي جزء هام من المجتمع الإسلامي، جو عائلي تفتقده الكثير من الأسر الغربية.." .
والخلاصة أنّ ما تدعو إليه هذه الكاتبة حث نسائنا وبناتنا على التمرّد على أوليائهنّ، وأن يخرجن بلا حسيب ولا رقيب، وينزعن جلباب الحياء بلبس اللباس غير الساتر، ويرفعن أصواتهن في المجامع، ويختلطن بالرجال ليكن فريسة للذئاب البشرية، ولو غضب أولياؤهن، حيث إنّ الكاتبة أباحت لهن ذلك.. هذا ما يُفهم من مقالها، فما الذي بقي من الثوابت في قضايا المرأة ؟ وهل سيقف هؤلاء في نقدهم عند مثل هذه الثوابت الجزئية، أم سيتعدّى الأمر إلى الثوابت الأخرى ؟
السمة الثالثة:
الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة )
وأنّ أحداً من الناس ـ كائناً من كان ـ لا يمتلك هذه الحقيقة، وهم لا يفرقون عن عمد بين أمور الاعتقاد ( الثوابت )، وبين غيرها من الأمور الخاضعة للنظر والاجتهاد، بل ظاهر كلامهم ينصرف إلى هذه الثوابت للتوصّل إلى مرادهم، وهو التشكيك في مذهب أهل السنّة والجماعة، أو ما يطلقون عليه: ( السلفية التقليدية )، فلا أحد عندهم يمتلك الحقيقة المطلقة حتى في أصول الدين وأمور الاعتقاد التي أجمع عليها سلف الأمّة منذ فجر الإسلام، وإلى وقتنا الحاضر، فالمسلم الموحد، واليهودي، والنصراني، والمبتدع، كلّهم سواء من ناحية الحقيقة، لا حقّ لأحد منهم ـ حسب زعم هؤلاء ـ في امتلاكها(!) وهذا هو حالهم على الحقيقة، فهم حائرون تائهون مرتابون، أمّا نحن ـ ولله الحمد والمنّة ـ فليس لدينا شك في ديننا وعقيدتنا، فنحن مطمئنون موقنون. إمامنا في ذلك رسولنا الكريم الذي قال الله له: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }.
وفيما يلي بعض أقوالهم في هذه القضية التي أقلقتهم، وأقضّت مضاجعهم، وحالت بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي:
تقول إحدى الكاتبات في مقال لها بعنوان ( النزعة الإنسانية ) الجزيرة: 11966 " تتميز التوجهات الفكرية المحافظة والمغلقة على نفسها، بالجمود والتشدد وعدم الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير أو المختلف، يرافق هذا شعور متأصل بالرعب والتهديد من العالم الخارجي، على اعتبار أنّ هذا العالم هو غابة من الشرّ والفساد والعهر.. حتى تصبح حالة من التيبس داخل طهرانية وأوهام بامتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين.."، ولا أدري عن أي مجتمع محافظ تتحدث ـ وهي بالتأكيد تتحدث مجتمعنا السلفي المسلم المحافظ، لكنها لا تجرؤ على التصريح ـ، فهل يوجد اليوم مجتمع ليس لديه الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير والمختلف، يبدو أنّ الكاتبة تتحدث عن بعض مجتمعات مجاهل أفريقيا، أو الواق واق.. أمّا أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين فهو الشاهد من هذا النقل التغريبي الواضح.
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551: "..العنف ومن ثم التطرف ينتج غالباً من اعتقاد المجتمع عموماً ( وهو ما يربى أفراده عليه بالطبع ) بأنّه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم، وردهم لحياض الحقيقة المطلقة "..
وهكذا ينبغي للناس ـ كما يريد الكاتب ـ ألا تكون لديهم عقيدة ثابتة راسخة يقينية، يربيهم عليها علماؤهم، ليظلوا في ريبهم يترددون.(3/137)
ويوضّح هذا الكاتب ما أجمله في هذا المقال في مقال آخر له بعنوان: ( الخوف من النقد) الرياض: 13509، فيقول: " يعتضد ذلك السلوك المبني على تضعضع الحجّة [ ويقصد به الرعب عند الطعن في الأصول ونقدها ] بانعدام التربية ـ كجزء من الحالة الثقافية المعاشة ـ على مراعاة حقّ الآخر في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد، أيّاً كان هذا الجانب، سواء أكان فرداً أو جماعة أو هيئة أو مذهباً أو خلافه.. "، فلا فرق ـ على رأي الكاتب ـ بين مذهب أهل السنة والجماعة، وغيره من المذاهب الأخرى المنحرفة، وكلّ ذلك توطئة وتميداً للتبشير بفكرهم الليبرالي الاعتزالي التغريبي.
ويقول آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً ـ في مقال له بعنوان: ( أيضاً في الطائفية ) الرياض: 13503، وهو يساوي بين أهل السنة وبين الرافضة: "وكانت تنشأ في الإسلام [ أي الفرقة والاختلاف ] جرّاء صراعات مريرة بين الطوائف والفرق المتصارعة على النصّ الديني، يغذّيها الوهم الزائف بامتلاك الحقيقة.."، وهكذا أصبح التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة وهم زائف بامتلاك الحقيقة!!!.
وفي هذا السياق يقول أشدّهم تطرّفاً وبذاءة في مقال له بعنوان: ( التفكير.. وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065: " وإذا عرفنا أنّ ( التفرّد ) في الفكر وفي الممارسة المادية، هو المتعين السلوكي لمعنى الحريّة، وأنّ الحرية هي جوهر المعنى الإنساني، وأنّ كلّ إنسان يولد ـ على الفطرة ـ حرّاً؛ أدركنا حجم الجناية التي ترتكبها الثقافة التقليدية البائسة في سعيها الحثيث لقولبة الأفراد وقسرهم على رؤى متشابهة إلى حد التطابق بإلزامهم بأقوال ختمت ـ زوراً ـ بختم المطلق الإيماني والثابت اليقيني، كي يتنازلوا ـ طائعين ـ عن ( فرديتهم/ إنسانيتهم/ وجودهم ) في سبيل أوهام التقليدية الميتة، وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط ".. والثقافة التقليدية البائسة وأوهامها الميتة وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط يريد بها السلفية التي يسمها بالتقليدية كما صرّح بذلك في المقال نفسه، بل إنّه ضرب مثلاً على ذلك بحادثة قتل الجعد بن درهم الذي أعلن كفره وإلحاده وتكذيبه للقرآن فقتله الوالي آنذاك خالد القسري حداً لردته، فينبري هذا الكاتب مدافعاً عنه، فيقول" ولعلّه ليس من قبيل المصادفة أن يتغنى التقليدي في هذا الزمن الراهن بكل ما شهده ذلك الصراع التاريخي من قمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة(!)، ويترحم على القاتل ويلعن المقتول، ويتمنى أمثالها قرابين ترضي مرضه السادي، ولا يزال التقليدي [ يعني السني السلفي ] يطرب كلما سمع أو تذكر قصّة الطاغية الذي ضحى يوم عيد الأضحى بـ ( إنسان ) بدل أضحيته في أوائل القرن الثاني الهجري ".. وهكذا يتحوّل من يقيم حدود الله إلى طاغية، ويتحوّل الطاغية المرتدّ المكذب للقرآن وللرسول r إلى ( إنسان ) مسكين يستحق الشفقة، ويصبح إقامة الحد الشرعي جريمة، وقمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة !!!!!! إنّ هذا لعمر الله قلب للحقائق، بل هي ردة يجب أن يستتاب منها هذا الكاتب.
وليته اكتفى بذلك، بل يواصل بذاءته ساخراً من الإمام الرباني ابن القيم رحمه الله وسائر علمائنا السلفيين بعده، وتلامذتهم، واصفاً إياهم جميعاً بالسفهاء(!!) فيقولً: " وأصبحت هذه الجريمة منقبة للقاتل يمتدح بها عبر القرون بحيث لا يخجل أحدهم ـ وكان على علم ـ أن يمتدحه في نونيته التي قالها بعد الجريمة بستة قرون فيقول: (لله درك من أخي قربان )، ويردده من خلفه السفهاء(!) وأشباه السفهاء(!) على مرور الأيام ".. فهل بعد هذا التطرّف من تطرّف، وهل بعد هذا الإرهاب الفكري من إرهاب ؟!!.
والعجيب أنّ أسياده الغربيين وعملاءهم من الباطنية فعلوا مثل ما فعل القسري حين أعدموا صدّام حسين شنقاً في يوم عيد الأضحى ـ مع الاختلاف الشاسع في أسباب الإعدام ودوافعه ـ ومع أنّ الغرب كان هو الداعم الرئيس لمعظم جرائم صدّام، والمبارك لها!! إلا أنّ هذا الكاتب البائس لم يساو بين الجلادَين في الحالتين، وكذلك لم يساو بين الضحيتين في حكمه البائس أيضاً، بل راح يكيل الشتائم لصدّام ويجرّده حتى من الخصال التي اتفق الناس عليها حتى جلادوه، أمّا الجلاد والقاتل الحقيقي فقد عمي عنه هذا الكاتب، ولم يشر إليه ولا مجرّد إشارة، مع الفارق الكبير ـ كما أسلفت ـ بين الحادثتين.. !
السمة الرابعة:
العزف على وتر الإنسانية
وذلك في مقابل الأخوّة الإيمانية، وأخوّة العقيدة، وهذا بناء على ما قرّروه سابقاً من أنّ أحداً لا يمتلك الحقيقة المطلقة ! وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( الإنسانية والطائفية: صراع الأضداد ) الرياض: 13754، يؤصّل فيه هذه النزعة الإنسانية شرعاً(!!) في جرأة متناهية حسب فهمه للنصوص ومقاصدها(!!) ـ وبئسما ما فهم ـ، فيذكر إن الإسلام "جاء أوّلاً لتفكيك العصبية القبلية التي كانت سائدة عند العرب في الجاهلية، وعندما خلخل الأساس المعرفي القيمي التي تقوم عليه العصبية الجاهلية؛ قام بتجذير أساس قيمي جديد قوامه { أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وهي نقلة نوعية متطورة ـ كما يقول ـ على طريق أنسنة(!) العلاقات في المجتمع العربي على أنقاض العصبية القبلية وما شاكلها من مقومات الطائفية(!)، ولأنّ القرآن كنص مؤسس لاجتماع جديد لا يستطيع وفقاً لقوانين الاجتماع البشري من جهة، ووفقاً لحركته ضمن جدلية التأثر بالواقع والتأثير فيه أن ينقل مجتمعاً غارقاً في قبليته كالمجتمع العربي القديم من أقصى قيمة سلبية ـ كما هي العصبية القبلية ـ إلى أقصى قيمة إيجابية ـ كما هي الإنسانية المطلقة فقد بدأ باستبدال الأخوة التي تقوم على العصبية القبلية بالأخوّة التي تقوم على الرابطة العقدية من جنس { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، ومن جنس: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ولكنها ليست تجسيداً نهائياً لأنموذج العلاقة التي يجب أن تحتذيها المجتمعات، بل إنّها لا تعدو أن تكون خطوة على طريق الأنسنة الشاملة ليس إلا، يؤيّد ذلك قوله تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } وأيضاً {يا أيها الناس إنا خلقناكم من نفس واحدة }(1) " انتهى كلامه بنصّه، وهو كلام في غاية الخطورة والجهل والجرأة على النصوص الشرعية، حيث جعل النصّ المكيّ المتقدّم ناسخاً للنصّ المدني المتأخّر، وهذا لا يصحّ شرعاً ولا عقلاً، بل هو دليل على غاية الجهل والعبث بالنصوص الشرعية، لتقرير النزعة الإنسانية في مقابل الأخوة الإيمانية والرابطة العقدية التي يصنفها هذا الجاهل بأنّها من ضروب الطائفية(!!!).(3/138)
وفي هذا السياق يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية ـ موضحاً ولكن بعبارات تمويهية في مقال له بعنوان: ( ما بعد الكائن النمطي ) الرياض: 13499: " فقدان المشروعية الإنسانية يتم عندما يتقدّم سؤال الهويّة ـ أيّة هويّة ـ على سؤال الإنسان، أي على حساب الإنسان.. عندما يبدأ التنميط بإيديولوجيا الهوية ينتهي الإنسان الفرد المحقق للمعنى الإنساني، ومن ثم ينتهي الإنسان "، فهو يرى أنّ إثبات الهوية، ـ ويؤكد ذلك بقوله: (أية هوية) حتى تشمل الهوية الإسلامية والسلفية على وجه الخصوص كما نص على ذلك في بقية مقاله ـ يكون على حساب الإنسان!! وهذه ـ عنده ـ بداية ما يسميه بالتنميط بإيديولوجيا الهوية، أي أن يكون للمسلم هوية وعقيدة تميّزه عن غيره، فذلك عنده يعني نهاية الإنسان..
ويؤكّد ذلك بقوله: " المجتمعات المحافظة ـ والمنتجة للأصولية بالضرورة ـ مجتمعات نمطية يشكل التنميط جوهر حراكها المعلن وغير المعلن، من حيث كونها ترتكز على وحدة القيم الصادرة عن وحدة الرؤية والمرجعية.. ".. فمن هي يا ترى هذه المجتمعات المحافظة والمنتجة للأصولية بالضرورة؟! وماذا يقصد بالأصولية؟ لا شك أنّه يقصد مجتمعنا السعودي المحافظ، بعقيدته السلفية الأصيلة، ومرجعيته المعتبرة، وقد أوضح ذلك فيما بعد من مقاله هذا بمن وصفهم بـ " رموز التنميط الذين كانت تدور عليهم حراك الأيديولوجيا المحلية " وزعم أن هذه الرموز أصبحت ـ بعد الانفتاح الإعلامي الهائل ـ فضيحة إعلامية بعد أن وضعت على المحكّ في مواجهة رموز المعرفة الحداثية التي واجهها ـ وانتصر عليها في الماضي ـ بالأدلجة وبتجهيل الجماهير لا بالحوار المعرفي الجاد.. وهكذا تصبح رموز الحداثة المارقة رموزاً معرفية(!!)، أمّا الرموز الإسلامية بمرجعيتها الشرعية المعتبرة فهي تنميطية مؤدلِجة مجهلّة للجماهير !!!
وفي مقال آخر له بعنوان: ( تأملات في الغضب الإسلامي ) الرياض: 13744، وذلك في أعقاب استهزاء الدنمارك بالرسول الكريم يقول: " يخيّل إليك ـ أحياناً ـ أنّ بعض أطياف الإسلامويّة(!) مبتهجة بالحدث لما تراه من تقاطع كثير من الأصوات الغاضبة مع شعاراتها، وإذا كنا لا بد أن نغضب ـ مهما استخدم غضبنا لغير ما نأمل ونريد؛ فإننا لا بد أن نكون حذرين غاية الحذر في لغة الإدانة التي نختارها، كيلا نسهم في الحشد والتجييش لفصائل ليست من خياراتنا الحضارية(!)، بل تقف ـ من خلال مجمل مضامينها ـ على الضد من المنحى الإنساني الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرّر الإنساني(!) ".. فهو لم ينس خصومه الذي ينعتهم استهزاء بالإسلامويين حتى في هذه النازلة الكارثية التي لم يسبق أن اجتمع المسلمون اليوم جميعا مثل اجتماعهم عليها ، كما لا ينسى أن يبشّر بمشروعهم التغريبي ذي المنحى الإنساني(!) الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرر الإنساني، في مقابل قوى التقليد والظلام والإرهاب والتأسلم والتخلف والتوحش والانغلاق والتطرف، وهي الأوصاف الذي أسبغها كما سبق على السلفية وكل ما تقاطع معها من الحركات الإسلامية ولو من بعيد. أمّا قوى التقدّم والتحرّر الإنساني عنده فهي القوى الحاملة للواء الحداثة ـ لا بوصفها منهجاً أدبياً فقط ـ كما يصفها في مقال له بعنوان: (المرأة والحداثة ) الرياض: 13457: فيقول: " نزل خطاب الحداثة إلى الواقع كخطاب نهضة واعدة، نهضة تتمركز حول الإنسان(!)، وتعنى بكل ما تقاطع مع البعد الإنساني، من مساواة(!) وتحرير، وديمقراطية.. الخ، وهذا الإنساني في خطاب الحداثة يعني ـ بالضرورة ـ أنه خطاب مهموم بالمسألة النسوية بوصفها إشكالاً يلازم المجتمعات التقليدية التي تسعى الحداثة لتقويضها(!!!) "، فهو يصرّح بأنّ الحداثة تسعى إلى تقويض المجتمعات التي يصفها بالتقليدية، ويريد بذلك ـ كما تدل عليه سائر مقالاته ـ المجتمعات المسلمة المحافظة، وخاصّة السلفية منها كمجتمعنا، لكن هؤلاء الكتّاب على عادتهم لا يجرؤن على التصريح وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.
وفي مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401، يكثر من العزف على هذا الوتر ـ وتر الإنسانية ـ فهو يقرّر أوّلاً أنّ الصراع بين الطرفين ليس صراعاً عقدياً، ويَسِمُ من يعتقد ذلك بأنّه متطرّف: يقول: " المتطرّفون من هنا (العرب والمسلمون ) ، ومن هناك ( الإسرائيليون ) يفترضون الصراع الدائر الآن صراعاً عقائدياً، لا مجرّد وقائع سياسية تقوم على دعاوى عقائدية ".. ولم يحدثنا الكاتب عن سبب اختيار اليهود لدولة فلسطين ( أرض الميعاد ) دون غيرها من بقاع الأرض، ولا عن هيكل سليمان ـ عليه السلام ـ الذي يراد بناؤه على أنقاض المسجد الأقصى، فكل ذلك في نظره ليس شأناً عقائدياً، والحقيقة أنّ اليهود أنفسهم هم الذين ألقوا في روع المسلمين أنّ هذا الصراع ليس عقائدياً ليأمنوا جيشان العقيدة في نفوس المسلمين، وليعزلوا الفلسطينيين المسلمين عن باقي المسلمين!
ثم يهزأ بالأحاديث الشريفة التي تُحدّث عن نهاية هذا الصراع، ومنها الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله ) ولعلّ هذا الحديث لا تقبله عقولهم المريضة لأنّ فيه نطق الحجر، وهذا أمر مخالف للعقل عندهم، فيقول: " إنّهم يرونه صراعاً لا في لحظته الراهنة فحسب، وإنّما هو كذلك منذ البداية وحتى النهاية "..!!
ثم يبدأ العزف على وتر الإنسانية ساخراً ببعض النصوص الأخرى التي تفصّل في هذا الصراع، فيقول: " النهاية عقائدية كما يراها مَن هنا ومَن هناك، وهي ذات ملامح تفصيلية في ضمير الغيب الآتي، ملامح تلتهم إمكانيات الرؤية الواقعية الآنية، وتحدد خيارات الحوار(!) والحراك. إنّها رؤية إيمانية قطعية عند كلا الطرفين ومن ثم يصعب الحلّ تحت هذا السقف أو ذاك، فلا خيار للإنسان.. يتم تصوّر ما هو كائن وما سيكون بواسطة تفكير غيبي يلغي الفاعلية الإنسانية أو يكاد، ويؤطّر ما بقي منها لينتهي في مضمار الإلغاء.."، وهكذا يساوي بين الرؤية الإيمانية القطعية عند الطرفين، فلا فرق عنده بين ما يعتقده المسلمون حسب نصوص الكتاب والسنة التي تكفّل الله بحفظها، وبين ما يعتقده اليهود حسب نصوص توراتهم المحرّفة، ثم هو لا يفرّق أيضاً بين الفلسطيني المسلم صاحب الحقّ والأرض المغتصبة، وبين اليهودي الكافر المحتلّ الذي يمارس أبشع أنواع الإرهاب ضدّ الفلسطيني المسلم الأعزل، بل يرى أن لا ثوابت في هذه القضية أصلاً في ميدان الفعل السياسي، فيقول: " إنّ لدى الفلسطيني ثوابت! كما أنّ لدى الإسرائيلي ثوابت. وثوابت هذا تتناقض ـ واقعياً ـ مع ثوابت ذاك، لكنها ثوابت في التصور لا في الواقع، لأن الواقع ـ وهو ميدان الفعل السياسي ـ لا ثوابت له، ومن هنا فأية جراحة فكرية إنسانية لبنية التصور، كفيلة بأن تمهد للحل السلمي ، ليس الواقع صلداً كما يتصوّره كثير منا، أو كما يريدونه أن يكون، بل هو مفتوح على كافة الاحتمالات، شرط أن تتفتح لها الأذهان!!! ".(3/139)
وبعد أن ساوى بين الطرفين، أخذ يتباكى على ضحايا هذا الصراع، ولو كانوا من اليهود الغاصبين المحتلين، ويصفهم بالأبرياء عازفاً على وتر الإنسانية، مع أنّ الشعب اليهودي كلّه مجند ضد الفلسطيني المسلم صاحب الأرض، يقول: " للأسف نحن لم ننظر إلى العنف نظرة محايدة، بوصفه ظاهرة لا إنسانية، تطال الإنسان، أيّاً كان هذا الإنسان، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً. ضحايا العنف في معظم الأحيان من الأبرياء(!!!) وحتى ما سوى ذلك، فإنه يبقي خلفه مآسي تطال أبرياء لا محالة. يجب ألا يغيب عن الوعي أن لهؤلاء وهؤلاء أمهات وأبناء وأزواج وأحباب تكاد قلوبهم تتفطر حزناً وألماً بعد كل مشهد من مشاهد العنف، تلك المشاهد التي ليست مقصورة على طرف دون آخر. هل انغرس في وعينا أن الإنسان هو الإنسان على هذا الطرف من أطراف الصراع أو ذاك، مهما حاول أحدهما قصر الإنساني عليه ؟! ما لم يكن هناك إحساس عميق ومشترك بالمأساة التي تطال الإنسان من كلا الطرفين؛ فستبقى دائرة العنف اللا إنسانية تدور رحاها دون توقف ".
ولم يفته في هذا المقام أن يعرض بحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين ـ على عادته في لمز كل ما هو إسلامي ـ، فيقول: " لا شك أن الأيديولوجيا حاضرة بقوة في هذا العنف المتبادل(!)، بدليل أن العنف في طرفي الصراع يصدر بالدرجة الأولى من المحاضن الأيديولوجية، وكلما تضخمت الأيديولوجيا زادت حدة العنف، زادت فعلاً وتهديداً "..
ثم ينكر على المثقفين على امتداد العالم العربي والإسلامي الوقوف مع المقاومة الفلسطينية وتأييدها فيقول: " تزداد المسألة قتامة حين نرى الطلائع الثقافية والفكرية على امتداد العالم العربي والإسلامي تبارك هذا العنف(!) بل وتهتف له، إلا فيما ندر مما يعدّ نشازاً في سياق العنف الذي تباركه جماعات اليقين(!) ، بل أصبح هذا الصوت النادر ـ المنطوي على تصورات إنسانية ـ موضع اتهام وتخوين ".. وصدق من قال: كاد المريب أن يقول خذوني!! أمّا جماعات اليقين التي يسخر منها فهي الواثقة بوعد الله بقتل اليهود ونطق الحجر والشجر لصالح المسلمين كما صحّت بذلك الأخبار، وليسمّ الكاتب ذلك ما يسميه، فإن وعد الله آت لا مرية فيه... هذا وإنّ مما يلاحظ في مقال هذا الكاتب ـ مع طوله ـ أنّه لم يصف المحتل بالوصف الشرعي الذي وصفه الله به وهو اليهودي، وإنّما يصفه بالإسرائيلي، ولذلك دلالته العقدية التي تدل على فكر هذا الكاتب، ونظرته العلمانية ( الإنسانية ) لهذا الصراع التي أفصح عن شيء منها في هذا المقال.
بل إنّ هذا الكاتب نفسه كتب مقالاً بعنوان: ( المستقبل لهذا الإنسان ) الرياض: 13779، وهو يريد بهذا العنوان ـ عن خبث وإلحاد ـ معارضة كتاب سيّد قطب ـ رحمه الله ـ ( المستقبل لهذا الدين )، فانظر كيف جعل الإنسان بدلاً من الدين، بناء على ما قرّروه من تقديم الأخوّة الإنسانيّة على الأخوّة الإيمانية الدينية، وقد انتهى في هذا المقال إلى أنّ الإيمان بالإنسان ـ لا بالدين والعقيدة ـ هو المنتصر دائمًا(!!!).
وأخطر ممّا سبق وأشدّ وضوحاً ما سطّره أحدهم ـ وكان تكفيرياً ثم تحوّل بمقدار 180درجة إلى مرجيء غالٍ ـ في مقال له بعنوان: ( كثيراً من الإنسانية قليلاً من الرهبانية ) الرياض: 12928: يقول وهو يقرر مذهب الإرجاء: " إنّ الله يكفيه منّا أن نحمل الشعلة في قلوبنا، أن نكون دائماً على أهبّة الاستعداد للعكوف بمحرابه لنقدّم شيئاً ( لعياله ) لعباده، فهو غنيّ عن عبادتنا(!)".. فهو يزعم ـ مفترياً على الله ـ أنّ مجرّد حمل الإيمان في القلب كاف عند الله، دون الإتيان بالشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وصيام وحج.. الخ
ويؤكّد ذلك فيقول: " الرسول r يذكر أنّ رجلاً دخل الجنّة لم يعمل خيراً ولا حسنة في حياته، وارتكب الكثير من الذنوب، ومع ذلك دخل الجنّة، لأنّهم وجدوا له بطاقة يعلن فيها صادقاً مخلصاً عن حبّه له وإيمان به: ( لا إله إلا الله ) ".. هذه هو فهمه لكلمة ( لا إله إلا الله )، وتالله لقد كان أبو جهل ومشركو قريش أعلم منه بهذه الكلمة، فلو أنّ مجرّد الإيمان بها في القلب كاف في دخول الجنّة، لما وقفت قريش بخيلها ورجلها في وجه رسول الله r، ولقالتها وظلت على شركها وطقوسها، ثم كيف يكون المرء صادقاً مخلصاً وهو لم يعمل بمقتضى هذه الكلمة، إلا أن يكون قد منعه مانع، أو حال بينه وبين العمل حائل، كمن أسلم ثم مات قبل أن يعمل ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل الحديث المذكور، أمّا أن يطلق هذا الحكم، فهو أمر في غاية الخطورة، إذ فيه ترغيب للناس على ترك فرائض الإسلام من صلاة وصيام والاكتفاء بمجرد ترديد هذه الكلمة دون عمل، وهذا هو مذهب الإرجاء..
ثم يختم حديثه ـ وهذا هو الشاهد ـ فيقول: " لتعلموا أنّ ديناً لا يسعى لسعادة الإنسان لحفظ مصالحه الحقيقية، ليس إلا وبالاً، وتذكروا قول النبيّ محمّد r: (إنّ هدم الكعبة أهون عند الله من سفك دم مؤمن) كلّ المؤمنين من كلّ الأديان: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً..}، الإيمان عندي هو كثير من الإنسانية، قليل من الرهبانية، ربما يكون لحياتنا طعم آخر ".. ولا شكّ أنّ الدين الذي لا يسعى لسعادة الإنسان فهو وبال، ولكن ما الحل إذا رفض الإنسان هذا الدين، وأصرّ على دين باطل منسوخ محرّف يسعى لشقائه؟ ويبدو أنّ عدوى التحريف قد انتقلت إلى الكاتب نفسه فحرّف الحديث الشريف، كما حرّف معنى الآية الكريمة.. فأمّا الحديث فلفظه الصحيح: ".. أهون عند الله من سفك دم مسلم "، والكاتب حرّفها إلى ( مؤمن ) لتشمل جميع المؤمنين بزعمه من الأديان الأخرى ممّن أدرك النبيّ الخاتم، ثمّ راح يؤكّد تحريفه مستشهداً بالآية الشريفة التي لم يفهم معناها الصحيح، فإنّ المقصود بها من آمن بالله من الطوائف المذكورة في زمن نبيّهم قبل بعثة نبينا r،وليس بعد البعثة، وسبب نزول الآية يبيّن معناها، فقد نزلت في أصحاب سلمان الفارسي t، فإنّه لما قدم على رسول الله r جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم وقال: يا رسول الله، كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنّك تبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله r: " يا سلمان، هم من أهل النار "، فأنزل الله: {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا..} وتلا إلى قوله: { ولا هم يحزنون }. (أسباب النزول للواحدي ص 13 )، فتبين من سبب النزول أنّ الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قبل مبعث النبيّ، كانوا يؤمنون بمبعثه، ويشهدون أنّه رسول من عند الله، لكنّهم لم يدركوه، فأين هؤلاء من قوم أدركوا بعثته، بل راحوا يسخرون منه r، ويصورونه في رسوم ساخرة بأنّه إرهابي، أو امرأة، ويتواطئون على ذلك غير مبالين بمشاعر الملايين من أتباعه؟!!!
أمّا مرجعيّة هذه الإنسانية عندهم، فيبيّنها أحدهم ـ وهو مقيم في لندن(!) ـ في مقال له بعنوان تفوح منه رائحة العلمنة والسخرية وهو: ( الإسلام السياسي وتجديد الأحكام السلطانية ) الوطن: 1188، يقول: " إنّ الأخذ بالمفاهيم الإنسانيّة يجب أن يكون على أساس عقلي في المقام الأوّل، بعيداً عن كلّ الاعتبارات المتعلّقة بالنصوص(!) " وليس هذا التأصيل بغريب عليهم إذا كانوا يطمحون إلى إحلال الإنسانية محلّ الرابطة الدينية، وتحطيم عقيدة الولاء والبراء.
السمة الخامسة
ـ وهي لب مشروعهم الذي يبشرون به ـ:
الدعوة إلى علمنة الحياة(3/140)
وإقصاء الدين بحيث لا يكون له أي سلطان على مناحي الحياة المختلفة، ومن هذا المنطلق فإنّهم يهزؤون من فكرة أسلمة العلوم ـ أي صبغها بالصبغة الإسلامية بعد تنقيتها من الشوائب الكفرية والإلحادية ـ، ويقللون جداً من شأن الإعجاز العلمي في الكتاب والسنّة، ويرفضون أن يكون ( الإسلام هو الحلّ )، ويحاربون كل من يرفع هذا الشعار، بل ويفسّرون التاريخ والأحداث بشكل عامّ تفسيراً سياسياً بمعزل عن الدين، وفيما يلي شواهد من أقوالهم على كلّ ما سبق:
يقول أحدهم في مقال له تفوح منه رائحة العلمانية بعنوان: ( ممارسة السياسة شأن مدني خالص ) الرياض: 13756: " من نافلة القول أنّ مثل هذه الشمولية لا تختصّ بها قومية معينة، أو دين بعينه، ولكنّ العبرة تكمن في النهاية في قدرة المجتمع من خلال تجاوز مرحلة تزييف وعيه، ومن ثم عبور ذلك الوهم الأيديولوجي عبر الإيمان المطلق بنسبيّة السياسة ووضعيتها، ومن ثم تعرضها للتغير والتبدل وفقاً لقوانين الاجتماع البشري وليس ثباتها المتوهم وفقاً لما يعرف بمفهوم الحقّ الإلهي في الحكم.." فالكاتب هنا يشير أوّلاً إلى ضرورة إقصاء الدين عن السياسة، وأنّ هذا الإقصاء لا يختصّ بدين بعينه، فيشمل حتى الإسلام، فلا يحقّ لأحد كائناً من كان أن يزعم أنّ ديناً بعينه هو الحلّ(!)، أمّا مفهوم الحقّ الإلهي في الحكم، فيريد به قول الله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ..} فيرى أنّه وهم لا بدّ من تجاوزه(!)، أو على حدّ تعبيره في المقال نفسه: " إنزالها [ إي السياسة ] من السماء إلى الأرض "..
ثم لا يفوته في آخر المقال أن يعرّج على بعض خصومه التقليديين من الإسلاميين، الذين يرفعون شعار ( الإسلام هو الحلّ ) فيسخر منهم بحجج واهية لا تخلو من مغالطات وجهالات، ثم يختم المقال بطامّة كبرى من طاماته فيقول: "ويبقى القول بأنّه لا خيار في مجال السياسة الإسلاميّة إلا استخدام المنطق الذي أعلنه الرسول r في وجه مؤسلمي السياسة عندما أعلنها مدويّة بقوله ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم ) وهو منطق مدني على أيّة حال.. " إنّه ـ لعمر الله ـ عبث بالنصوص، واعتداء على حرمة الدين، ومقام سيد المرسلين، فهل ترك النبيّ r السياسة لغيره واعتكف في مسجده، أم أنّه أقام دولة الإسلام، وجيّش الجيوش، وفتح الفتوح، وساس الأمة، أم أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما صوّره الكاتب يقول خلاف ما يفعل ؟!!، وهل قوله r " أنتم أعلم بأمور دنياكم " مراد به أمور السياسة وشؤون الأمّة، أم المراد قضية عين في أمر دنيوي خالص لا علاقة له بالسياسة العامّة كما يدل على ذلك سبب الحديث؟.. إنّها مهزلة يجب إيقافها ومحاسبة أصحابها احتراماً لديننا وعقيدتنا..
أمّا المجتمع المدني الذي يدندنون حوله كثيراً، ويعدونه النموذج الأمثل للدولة الحديثة، فيصفه أحدهم ـ وهو متخصّص في الكتابة السياسية ـ في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني هل يستمرّ كعائق في الحرب على الإرهاب ) الوطن: 1160، بأنّه: " مجتمع مدني رحب، ليس هناك مساحة لأوصاف من قبيل: ( كافر )، أو ( مبتدع )، أو ( علماني )، أو غير ذلك(!).."، هذا هو المجتمع المدني الذي يريدونه، والذي لا يقوم إلا على أنقاض التوحيد، وعقيدة الولاء والبراء التي وصفها النبيّ r بأنّها أوثق عرى الإيمان، وكأنّهم لم يقرأوا قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }، ولكنّ هؤلاء القوم لا يعقلون، وإن كانوا يدّعون العقلانية.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية 1/398: " قيل لعمر بن الخطاب t إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة ( أي نصراني ) حافظ كاتب فلو اتخذته كاتباً، فقال: قد اتخذتُ إذاً بطانة من دون المؤمنين.." قال ابن كثير رحمه الله: " ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطّلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ".. هذه في مجرد الكتابة، فكيف بغيرها من شؤون الدولة ؟!! وهو أيضاً في الذمي الذي يدفع الجزية وهو صاغر، فكيف بمن يرى أنّه مساو لك في جميع الحقوق والواجبات في ظل مجتمعهم المدني المزعوم.
وفي سياق العلمنة يقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية.. ) الوطن: 1139: وهو يتحدث عن التفجيرات الأخيرة " هل كان هذا بسبب ذنوبنا حسبما يخبرنا رجال الدين(!) نعم، ولكن الذنب هذه المرة هو التطرّف الديني والغلو المتضخم(!) في ثقافة المجتمع. الذنب هو في القبول بصبغ الحياة الاجتماعية كلّها بصبغة الأيديولوجيا الإسلامية، والإصرار على إقحام الدين في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة "، إنّ إقحام الدين ـ حسب تعبيره ـ في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة المارقة ذنب عند هذا الكاتب، وهكذا تصبح العلمنة وإقصاء الدين عن شؤون الحياة حسنة يُدعى إليها.
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرهاب من الفكر الخارجي إلى السلوك القرمطي ) الرياض: 13436: " ليس صحيحاً ما يروّج له الإسلامويّ(!) من أنّ الزجّ بالدين في كلّ صغيرة وكبيرة هو عنوان التدين الحقيقي، أو أنّ ممارسه والمتحمّس له من أفراد المجتمع هو الأكثر تديّناً من غيره ".. إلى أن يقول: " تحييد الديني في الوقائع المدنية(!) التي ليس فيها حكم شرعي صريح، أمر ضروري لئلا تمنح القداسة إلا للديني الخالص الذي نصّ عليه الشرع الحنيف..".. أنّها علمنة خفية، تتدثر بلباس العلمية، ولو أنّا أخذنا بقول هذا الكاتب، واقتصرنا على ما فيه نصّ صريح، لما بقي لنا من ديننا إلا القليل، وهذا ما يريده أهل العلمنة.. وإنّ من المعروف لدى صغار طلبة العلم، أنّ الشريعة جاءت بكليات تندرج تحتها جميع الجزئيات، فلم ينصّ الله تعالى على كل جزئية بعينها، إذ إنّ ذلك يطول ولا يكاد ينتهي، مع ما يستجدّ من الجزئيات التي لم تكن قد وجدت عند نزول النصّ، ومهمة العالم أن يرجع هذه الجزئيات إلى كلياتها، ليبين حكمها، وما من قضية ولا مسألة إلا وفي كتاب الله وسنة رسوله r بيان لها، إمّا بالنصّ الصريح، وإمّا بالتلميح من خلال الكليات المذكورة، قال تعالى : { ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }، وقال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً }.(3/141)
ويقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( ما بعد الأيديولوجيا.. العقد الاجتماعي ) الرياض: 13702 بعد أن شتم السلفيّة أو ما أسماه بالوعي السلفي(!): " لا بدّ من التأكيد على مدنية حراكنا الاجتماعي، وأنّ العقد الذي يجب الالتفاف حوله هو العقد الاجتماعي المدني الذي يضمن التساوي في الحقوق والواجبات، لا طائفية، ولا مذهبية ولا مناطقية ولا جنسوية... لا بدّ أن ينغرس في أعماق كل مواطن أن الجميع متساوون جميعاً دون تعنصر من أي نوع، ولكل بعد ذلك خصوصياته التي يراها ويختارها، دون فرضها على الآخرين، ودون الإخلال بمبدأ المساواة المقدّس ".. فالكاتب يريد مجتمعاً بلا هوية ولا دين، يريد دولة لا دين لها، ولا فرق فيها بين المسلم والكافر ـ كما صرح بذلك غيره من أصحاب هذا الفكر ـ، ولا فرق فيها بين الموحّد والمشرك، وصاحب السنة وصاحب البدعة، بل لا فرق فيها بين الرجل والمرأة كما صرّح بذلك بقوله: " وخاصة التمييز الجنسي ضد المرأة في أي صورة كان ". ويضيف إلى ذلك ( المناطقية ) ليعزف على وتر حسّاس يثير الطائفية التي يحذر منها..
ثم يقول بعد ذلك: " لأجل ذلك؛ يجب أن تكون الخصوصية ـ أيّاً كان نوعها ـ بعد ذلك المقدّس وليس قبله، وإلا بقينا رهن صراع لا ينتهي.. لا بد أن يدرك المؤدلج أنّ العقد الاجتماعي المدني لا يمنحه أكثر من حريّة إبداء الرأي ( المؤدّب ) في سلوك الآخر، وبعد ذلك فليس على أحد بمسيطر ".. فالمقدس لديه هو هذا العقد الاجتماعي العلماني المزعوم، أمّا الدين والتوحيد فليس ذلك بمقدّس عنده، وإنّما هو مجرّد خصوصية تخص كل فرد على حدة، وليته يخبرنا ما الذي جعل رسول الهدى r يعاني في مكة وأصحابه ثلاثة عشر عاماً، ويصبرون على البطش والأذى والتعذيب والتشريد، وقد عرضت قريش عليه كلّ ما يريد مقابل تخلّيه عن دينه وعقيدته ودعوته، والتعايش السلمي معهم، مع الكف عن عيب آلهتهم، فيأبى حتى يقيم دولة الإسلام والتوحيد في المدينة، ومن ثم يعلن الجهاد على المشركين لرفع راية التوحيد خفّاقة، وإزالة كل مظهر من مظاهر الشرك، ولم يكتف بذلك بل يجهّز قبل وفاته جيشاً ضخماً لمحاربة الروم في الشام، وإخضاعهم لدين الله الحقّ ؟!.. سيقول هذا الكاتب وأمثاله: إنّ الزمن تغيّر، ولم يعد دين الرسول الكريم صالحاً لهذا الزمن، وهذه هي الطامة الكبرى والفجيعة العظمى التي حلّت ببعض أبنائنا، ليعتنقوا هذا الفكر المنحرف..
أمّا قوله: ( حرية إبداء الرأي المؤدب(!))، فذلك واضح جداً في أدبه الجم مع خصومه السلفيين والسلفية خاصة، فهو لم يترك شتيمة إلا رماها بها كما سبق ( انظر ص 14 )، فإذا كان هذا هو الأدب الذي يدعو إليه، فعلى الأدب السلام..
وفي هذا السياق نراهم يدافعون عن العلمنة، ويغضبون من ذكرها على سبيل الاتهام، مع أنّهم لا يتورعون عن كيل التهم جزافاً لخصومهم التقليديين ( السلفيين خاصّة والإسلاميين بشكل عام )..
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( العلمانية تهمة جاهزة لكل من اختلف معهم ) الجزيرة: 12022: " لا أدافع عن العلمانية، لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ العلمانية على اعتبار أنّها ( فصل الدين عن السياسة ) مصطلح ( وافد ) إلينا من الخارج، وله دلالات فكرية وحمولات تاريخية تجعل من تطبيقه على غير المجتمعات ( المسيحية ) أمر لا بد من التوقف عنده، والتعامل معه بحذر.."، هكذا ينفي التهمة عن نفسه، وعن زملائه الذين يقررون كثيراً في كتاباتهم ـ كما سبق شيء من ذلك قريباً ـ ضرورة تحييد الديني عن المدني كما يقولون، وهو بهذا التعميم ينطبق عليه المثل القائل ( كاد المريب أن يقول خذوني).
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( الإسلاميون والمشاركة السياسية.. الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني ) الوطن: : " أثناء وجودي في ألمانيا الشهر الماضي كان على مقربة من جامعة أيرلنجن حيث أتردد: مكتب حزبي للاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني. لقد ترددت بعض الشيء في دخول المقرّ سذاجة مني لتوهمي أنّه يشبه تلك التجمعات الإسلامويّة المتشددة الموجودة في بعض البلاد العربية، المليئة بالكتيبات والأشرطة الصوتية الصاخبة التي تتحدث عن الحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية التي يتبارى نوابها في المطالبة بإيقاف الكاتب فلان، أو محاكمة السياسي علان، أو حتى في أوقات الاستراحة السياسية يتم التصعيد في البرلمان ضد راقصة أو مغنية بحجّة حماية الأخلاق ومراقبة الذوق العام.." ثم راح بعد ذلك يكيل الثناء لذلك الحزب النصراني الكافر، ويصفه بالحزب الناجح، ويدافع عن تسميته بالحزب المسيحي ( نسبة إلى المسيح u ) في دولة تدعي العلمانية ...!!!! إلى آخر ما ذكر.. ويلاحظ في ما نقلته من هذا المقال سخريته من إخوانه المسلمين المحتسبين الذين يتحدثون عن قضايا شرعية كالحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية، والمطالبة بإيقاف الكتّاب المنحرفين ومحاكمتهم، ومحاربة العفن الفني من رقص وغناء ماجن.. كلّ ذلك يسخر منه الكاتب، ويعدّه تشدداً، فهذا هو مفهوم التشدد عندهم، في الوقت الذي يثني فيه على حزب نصراني زاره للمرّة الأولى، فراح يكيل له عبارات الثناء.. إنّها قلوب مريضة، غطتها ظلمات الشهوات والشبهات، فلم تعد ترى الأشياء على حقيقتها، نعوذ بالله من الخذلان.
أمّا تفسير الأحداث التاريخية والصراعات العقدية تفسيراً سياسياً ( علمانياً ) فهو ديدنهم للتقليل من شأن الدين والعقيدة، وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( خدعوك فقالوا نجد والشرك !! ) الرياض: 1423، قرر فيه بصفاقة عجيبة أنّ دعوة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما كانت صراعاً مريراً حول السلطة والسياسة، وليست ضد الدين. حيث كانت الحالة الأمنية قبل قيام الدولة السعودية ـ كما يزعم ـ تعيش في تأزم وتناحر وتصارع وقد وحُدت بحمده تعالى تحت كيان واحد. بينما كانت الحالة الدينية على مذهب أهل السنة والجماعة ولم يدخل نجداً ما ذكر عنها ابن غنام وغيره من وجود الخرافات والشركيات المنتشرة في جنباتها..!!! هذا ملخّص ما ذكره.وهكذا بجرّة قلم يبطل هذا الأفّاك الأثيم كلّ جهود الشيخ في محاربة الشرك ومظاهره التي كانت منتشرة في نجد، ورسائل الشيخ تنضح بالكثير من هذه الجهود التي يراها الأعمى قبل البصير، لكن هؤلاء عميت بصائرهم، مع سلامة أبصارهم إلا إذا كان يتهم الشيخ بالكذب فتلك طامة آخرى أعظم وأطم.. ثم إنّ السياسة جزء لا يتجزأ من الدين كما سبق، فالفصل بينهما كالفصل بين الروح والجسد، لكنّ هؤلاء المتعلمنين لا يفقهون.
ولم يسلم من هذا التفسير العلماني السقيم حتى إئمّة السلف، فبمثل هذا التفسير فسّروا فتنة خلق القرآن التي تعرّض لها أئمّة السلف وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، حيث ذكروا أنّ الأمر لا يعدوا أن يكون صراعاً سياسياً محضاً بين أهل الحديث وأهل الاعتزال على السلطة، وليس للدين ولا للعقيدة شأن بهذا الصراع إلا من باب ذرّ الرماد في العيون كما يزعمون.. المهم عندهم ألا يكون للدين ولا للعقيدة سلطان على الحياة، لأنّ ذلك يزعجهم كثيراً، وهذا هو الذي يسعى إليه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى لإخماد جذوة الإيمان والعقيدة في نفوس المسلمين، ومن ثم يسهل التغلّب عليهم واختراقهم، وما هذه الفئة المارقة إلا بمثابة الطابور الخامس لهؤلاء الأعداء كما سبق، كفانا الله شرّهم.(3/142)
وأختم الحديث عن هذه السمة بطامة أخرى أتى بها أحدهم ـ وهو كاتب له روايات أفتى عدد من علمائنا بكفر ما في بعضها ـ، يقرر هذا الكاتب في مقال له بعنوان: ( من خطاب التدمير إلى خطاب التعمير ) الشرق الأوسط: 8952 ، أنّ: " منطق الدولة الحديثة متناقض مع منطق الدين " ثم يوضح ذلك قائلاً: " منطق الدولة محدود ومحدد، ومنطق الدين هو المطلق ذاته، وتأتي الكارثة للدولة والدين معاً حين محاولة الدمج بين منطقين لا يلتقيان، وهنا تكمن معضلة الإسلامويّة(!) المعاصرة وجوداً لا عقلاً .."..
وعلى الرغم من العلمنة الواضحة فيما ذكر، مع الجهل الفاضح بدين الإسلام وحقيقته؛ إلا أنّه يحاول أن ينفي هذه التهمة عن نفسه على طريقة ( كاد المريب أن يقول خذوني ) فيقول: " قد يقول قائل هنا: إذن فهي دعوة للعلمانية!، والحقيقة أنّ القضية لا علاقة لها بعلمانية أو أصوليّة إذا كانت الغاية هي البحث عن جواب يخرجنا من المأزق أو المآزق التي نحن فيها .." وهكذا بكل بساطة ينفي التهمة الساطعة كالشمس عن نفسه إذ الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولو كانت هذه الوسيلة هي الإساءة إلى ديننا وانتقاصه، والافتراء على نبينا r ليرضى عنّا أعداؤنا !!.
السمة السادسة:
الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )
وحبّه، وكيل الثناء عليه بغير حساب، والدعوة إلى احتذائه حتى في ثقافته وأخلاقه، ويريدون بالآخر في الغالب: الغربي الكافر صاحب الحضارة الماديّة، والعقل الفلسفي، وهذا الإعجاب نتاج طبعي للهزيمة النفسيّة، والصدمة الحضارية التي أصابتهم، وعقدة النقص التي تلازم قلوبهم المظلمة الممتلئة بالشهوات والشبهات، ونحن لسنا ضدّ الاستفادة من علوم الآخرين فيما لا يتعارض مع ديننا وعقيدتنا، لكنّ هؤلاء فهموا الحضارة فهماً ناقصاً مغلوطاً، فاختزلوها في صناعة طائرة أو سيارة أو صاروخ، أو أيّ آله من الآلات الحديثة، أو في بناء ناطحات سحاب، أو تقدم طبي أو تقني، وكلّها أمور مادية يمكن لأيّ أمّة وأيّ شعب اللحاق بها والوصول إليها إذا تهيأت له الظروف المناسبة، وسلم من هيمنة هذا الآخر وجبروته وكيده..
إنّ الحضارة الحقيقية هي التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الروحي والأخلاقي، وهذا الأخير هو ما تفتقده الحضارة الغربية المعاصرة التي بلغت الحضيض في تردّي الأخلاق وموت الروح، فهي كما وصفها سيد قطب رحمه الله: كطائر ضخم، أحد جناحيه كبير يرفرف في السماء، والآخر مهيض كسير لا يكاد يقوى على الحركة، فماذا سيكون حاله سوى التخبط وإيذاء من حوله، وهذا هو حال الحضارة الغربية اليوم حيث إنّها ـ مع ما فيها من الجوانب الإيجابية المضيئة ـ نشرت الخراب والدمار، ونشرت معه أسوأ الأخلاق من تفسخ وعري وفساد أخلاقي.
وليس الغرب ملوماً في إقصاء الدين عن الحياة، فقد كان الدين الذي يدينون به محرّفاً، يحارب التقدّم المادي النافع، ويقتل المبدعين والنابغين في العلوم الطبيعية التي لا تتعارض مع ثوابت الدين الصحيح، ولذا فإنّه لا خلاص للبشرية اليوم، ولا سبيل لها إلى الوصول إلى الحضارة الحقّة المكتملة التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الأخلاقي والروحي إلا بأن تعتنق هذا الدين الحقّ ( الإسلام ) الذي تكفّل الله بحفظ مصادره، وجعله الدين الوحيد الذي لا يُقبل سواه، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[ آل عمران: 85].(3/143)
وفي هذا السياق يحاول أحدهم بجهل فاضح أن يؤصّل لهذه المسألة تأصيلاً شرعياً(!!)، فيزعم في مقال له بعنوان ( المقاومة الفكرية للإرهاب ) الرياض: 13561، أنّ الأصل في الولاء والبراء " موالاة ( الكافر ) المسالم الموادع مهما كانت ديانته"، وفي مقال آخر له بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، أتى بما هو أطم، فيقول: " والرسول r عندما أرسل صحابته الأول إبان الفترة المكية إلى الحبشة اتقاء لشر قريش قال لهم إنّ فيها ـ يعني الحبشة ـ ملكاً لا يظلم عنده أحد، ولم يبرر إرساله لصحابته بإسلام المجتمع الحبشي بدليل أن ذلك المجتمع ظل حتى وفاة النجاشي نصرانياً خالصاً مما يؤكد(!) أن الولاء حين ينصب على العلاقة مع الآخر فهو يدشن لموالاة المسالم والبراءة من المعتدي بغض النظر عما يدين الله به وهذه العلاقة السلمية ـ الأهلية منها والدولية ـ المبنية على الولاء للمسالم والبراء من المعتدي منظمة بشكل واضح لا لبس فيه في القرآن الكريم إذ يقول تعالى في الآية الثامنة من سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة:8]، وهي إشارة إلى موالاة الآخر(!) المسالم الملتزم بشروط العلاقة السلمية ببرّه والقسط إليه.. " إلى أن يقول: " هذا هو المسار الصحيح(!) لمفهوم الولاء والبراء المتكيف مع أصول الإسلام وغاياته العظام(!) " إلى آخر ما ذكر، وأنا أتحدّى هذا الكاتب وغيره أن يأتي بنص واحد من كتاب الله أو سنة رسوله r يدعو إلى موالاة الكفار أياً كانوا، بل إن نصوص الكتاب والسنة تحذر من موالاة الكفار بإطلاق كما في قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ }[آل عمران:28]، وقوله في سياق الحديث عن المنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }[النساء:144]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[المائدة:51]، بل في السورة نفسها التي استشهد الكاتب بآية منها قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وذلك أنّ مقتضى الموالاة: المحبة والنصرة، وذلك لا يصدر من مؤمن لكافر على الإطلاق، وإنّما الذي أذن الله فيه تجاه الكافر المسالم: البر والعدل كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة:8]، ويوضح معنى الآية سبب نزولها، فقد أخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر y، قالت: أتتني أمي راغبة، فسألت النبيّ r : أأصلها؟ قال: " نعم " فأنزل الله فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ }. فإذا كان للمسلم أب كافر أو قريب أو جار ونحو ذلك، ولم يكن محارباً، فلا حرج على المسلم أن يحسن إليه ويبره ولا يظلمه، لكن أن يحبه وينصره أو يفضله على إخوانه المسلمين مهما كانوا عاصين، فذلك خلل عقدي عظيم، وهذا هو حال هذه الفئة الضالة، كما سبق قريباً من تفضيل أحدهم الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني على من أسماهم تهكماً بـ (الإسلامويين ) المتشددين الذين يتحدثون عن عفن العلمانية، ويطالبون بمحاكمة الكتّاب المنحرفين فكرياً !!!.
ثم هل الكافر الذي ( يوالونه ) الآن مسالم حقّاً، أم أنّّه يقتل المسلمين بالأسلحة المحرمة دولياً، ويسخر من نبي الإسلام في رسوم سخيفة ماجنة ؟؟؟؟؟، بل ويهين المصحف في معتقلات غير شرعية ولا قانونية.. فأين عقول هؤلاء؟!!!.
وبمناسبة ذكر الآخر ( الكافر ) يلاحظ في مقال هذا الكاتب الذي امتد من أعلى الصفحة إلى أسفلها بما يزيد عن نصف المتر أنّه لم يذكر لفظ ( الكافر ) بتاتاً بناء على مذهبهم في ضرورة التخلي عن هذا المصطلح الشرعي الأصيل الذي امتلأ به القرآن والسنة، والعدول عنه إلى ألفاظ مثل: ( الآخر )، و ( غير المسلم )، وما شابه ذلك حتى لا يغضب هذا الآخر، بل بعضهم (يتوّرع ) عن اعتقاد كفر اليهود والنصارى، ويعدهم مؤمنين و(إخوة) لنا في الإنسانية(!)، كما مر سابقاً.
أمّا قضية النجاشي، والهجرة إلى الحبشة، فلا علاقة لها بموضوع الولاء والبراء. وذكرها في هذا المقام من الخلط العجيب، فإنّ المسلم إذا لم يتمكن من إظهار دينه في بلد فله أن يهاجر إلى بلد آخر يتمكن فيه من إظهار دينه، وهذا قبل أن تقوم للإسلام دولة تحكم بشرع الله، فإذا قامت الدولة فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، كما قال الصادق المصدوق r، فما علاقة ذلك بالولاء والبراء ؟!!.
ويقول آخر ـ وهو من أصحاب التحولات الإنفراجية ـ في مقال له في غاية السذاجة بعنوان: ( نحن وأمريكا والديموقراطية ) الشرق الأوسط: 9212 مدافعاً عن الآخر الكافر: ".. الغرب حينما يدعم الديموقراطية، ويفكر في وضع هذا الجزء من العالم، فليس ذلك من قبيل التبشير أو الاهتداء بروح الأم تيريزا، قدر أنها مصلحة غربية جوهرية تكمن في إنقاذ الشرق الأوسط المتعثر(!!!) "، وعلى الرغم من أن الآخر النصراني ممثلاً في زعيمه صرّح بأنّ الحرب على العالم الإسلامي حرب صليبية، إلا أنّ هؤلاء ( العقلانيين ) لا يزالون أشدّ إخلاصاً للآخر من الآخر نفسه، حيث يعدونه في سذاجة واضحة (جبهة إنقاذ) للشرق المتعثر!!!!.
ولم يكتف هذا الكاتب بالثناء على ( الآخر ) وديمقراطيته المزعومة، بل راح ينتقص دينه الحق ( الإسلام ) ومبدأ الشورى المذكور في القرآن، يقول: " طُرحت فكرة الشورى كبديل أصيل عن الديموقراطية، ولكن اتّضح(!) أنها تختلف اختلافاً فلسفياً ومفارقاً للديموقراطية، فرفضت من الإسلاميين الأصلاء(!)، والليبراليين الخلصاء(!)، أمّا الأخيرون فبحجة أنّ الشورى أبعد ما تكون عن العقد الاجتماعي والمشاركة الشعبية الواسعة، فهي ليست إلا تدبير أهل الحلّ والعقد، وهم طبقة ضيقة من كبار القوم والملأ.." إلى آخر ما ذكر.
السمة السابعة
الجهل(3/144)
فعلى الرغم من أنّهم أشدّ الناس تعالماً وادّعاءً لفهم النصوص ومقاصد الشريعة، ورميهم العلماء وطلاب العلم السلفيين بالضدّ من ذلك!!؛ إلا أنّهم أكثر الناس جهلاً بالنصوص وبالمقاصد وبالناسخ والمنسوخ والعام والخاصّ والمطلق والمقيّد من نصوص الشريعة، كما تشهد بذلك كتاباتهم، والسر في ذلك أنّ معظمهم ليسوا من أهل التخصّص الشرعي، فإذا انضاف إلى ذلك الهوى وتمكن الشبهات من قلوبهم؛ كانت الطامة أكبر، وفيما يلي بعض الأمثلة على جهلهم بالنصوص الشرعيّة:
1. في مقال لأحدهم بعنوان: ( الذين يجلدون المختلفين معهم في الرأي بإطلاق التهم) الرياض: 13698، يقول: " أُعطي الرسول r جوامع الكلم، وهي ميزة خصّه الله تعالى بها من بين سائر الأنبياء والمرسلين u، فهو r يقول الكلمة أو اللفظة الواحدة لتكون جامعة لمعاني ومتطلبات موضوع بأكمله، ومن بين ما أخبر به r في ألفاظ قصيرة، لكنّها حملت معاني عظاماً، قوله r : ( الدين المعاملة ).. ".. ثمّ بنى مقاله على ما زعم أنّه حديث، وجزم بنسبته إلى رسول الله r !! وهو ليس بحديث، وإن اشتهر على ألسنة العامّة، بل إنّ معناه في غاية البطلان لمن تأمّله بعقل منضبط بالشرع، لا بعقل منفلت كعقول هؤلاء الزاعمين بأنّهم عقلانيون، فإنّ مقتضى هذا الحديث المزعوم أنّ الكافر إذا كان حسن المعاملة فهو مسلم ومتدين، والمسلم إذا كان سيء المعاملة ليس بمسلم، لأنّ المقصود بالدين هنا هو الإسلام كما قال تعالى: { إن ّالدين عند الله الإسلام }، وقد ثبت في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، عن عائشة t قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان؛ كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه ؟ قال: " لا ينفعه. إنّه لم يقل يوماً: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين ". فلم ينفعه حسن خلقه، وإحسانه للناس مع كفره.
2. وفي مقال آخر بعنوان فضائي: ( الحوار الوطني: سيرة وانفتحت ) الرياض: 13702، يقول الكاتب نفسه: " من غير المجدي وفقاً لمعطيات العمران البشري أن تقسر شخصاً على رؤية معينة، لمجرّد أنّك تعتقد بصوابها، فهذا الآخر الذي تودّ قسره على رؤيتك يملك من الأدلّة والطرائق الحكمية(!) ما يستطيع بها نفي صوابية ما تعتقده حتى وإن كنت لا تؤمن بمرجعيته الدلالية بنفس الوقت الذي لا يعترف فيه هو أيضاً بمرجعيتك في استنباط أدلة تصويبك لرؤيتك، وإذا كان الله تعالى يأمر نبيّه الكريم بأن يعتزل مقام مشركي قريش حين يخوضون في آيات الله تعالى حتى يصرفوا حديثهم إلى جانب آخر، ولم يأمره بحربهم أو قسرهم على رؤيته ممثلاً بقوله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره... } أفلا نترك نحن غيرنا أحراراً ...".. فاستدلاله بهذه الآية في غاية البطلان، ودليل على جهله الفاضح ـ أو تجاهله ـ لنصوص الشريعة، والمراحل التي مرّت بها الدعوة، فماذا يصنع هذا الكاتب بمثل قوله تعالى في سورة التوبة: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد.. }، وقوله في السورة نفسها: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }، وقوله r :" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.. " الحديث، وقوله: " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحقّ أطراً " أي تقسروهم عليه قسراً، يعني العصاة، فضلاً عن المبتدعة.. وليس في دين الله تعارض، ولكنّ الواجب أن تنزل النصوص منازلها، فاعتزال المشركين كان في العهد المكي، وأما آيات القتال والأطر على الحقّ ففي العهد المدني، وبهذا يتبين جهل هؤلاء بمدلولات النصوص مجتمعة، فكيف يؤتمنون على توجيه الناس في صحف سيّارة !!!!!.
3. وفي مقال بعنوان: ( هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة ؟) الجزيرة: 11980، كتب أحدهم ـ وهو وللأسف الشديد من سلالة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله !!! ـ مقللاً من شأن الحضارة الإسلامية يقول: " الثقافة الإسلامية ثقافة فقه ولغة، وليست ثقافة كشف واختراع وابتكار على مستوى المنجزات الدنيوية.." إلى أن يقول: " وهذا ما نلحظه بوضوح من خلال القراءة لكبار العلماء الدينيين المسلمين، فالإمام ابن تيمية رحمه الله ـ مثلاً ـ اتّخذ موقفاً مناهضاً بشدّة لعلم الكيمياء.." إلى آخر ما ذكر، وهو دليل على جهل فاضح، لأنّه ظن أنّ الكيمياء التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله هي الكيمياء المعروفة اليوم، وليس الأمر كذلك، فالكيمياء التي ذكرها شيخ الإسلام نوع من الغشّ، وصناعة ذهب مغشوش يشبه الذهب الذي خلقه الله، وبيعه على الناس على أنّه ذهب خالص، ولذا قال الشيخ رحمه الله: " وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشاً، ولهذا لا يُظهرون للناس إذا عاملوهم أنّ هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم.. " إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
4. وفي مقال بعنوان: ( فلا يلومنّ إلا نفسه.. فلسفة جديدة ) الوطن: 1173، كتب أحدهم ـ وهو طبيب يكثر من الحديث عن الدين والعبث بالآيات ـ كتب بعد أن ساق الحديث القدسي ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) يقول: " وما يدفعني إلى سرد هذا الحديث فكرة التمعت في ذهني أن أفعل ما فعله النووي، فهذا الرجل جمع أربعين حديثاً اشتهرت باسمه، وهي رياض الصالحين..".. وهذا جهل فاضح، فهو يظن لجهله أنّ كتيب الأربعين النووية الصغير، هو نفسه كتاب رياض الصالحين المجلّد الضخم، وكلاهما للإمام النووي رحمه الله، وصغار طلاب العلم يعرفون الفرق بينهما.
5. وفي مقال بعنوان ( ذكريات غير صحوية وحديث عن الثبات والتحوّل ) الرياض: 12722، كتب أحدهم منظرّاً ـ وكان من هواة التكفير والتفجير ثم أصبح من غلاة المرجئة ـ يقول: " وقد نسمع أحياناً وصف الآخرين بالفسق أيضاً. وفي القرآن الكريم لم يأت وصف الفسق إلا في حقّ الكفّار والمشركين كما في سورة السجدة، غير أنها في فترة متأخّرة جرى التوسّع في استخدام لفظ الفاسق على المسلم الذي يأتي بعض المخالفات الشرعية..".. وهذا جهل فاضح، وجرأة على كلام الله تعالى، وقد يعجب هذا الكاتب إذا علم أنّ وصف الفسق جاء في القرآن الكريم في حقّ أحد أصحاب رسول الله r وهو الوليد بن عقبة t، كما في قوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }، وذلك باتّفاق المفسّرين. ولكنّ الجهل داء لا دواء له.
6. وفي نفس المقال يقول هذا الكاتب: " لبس جوارب اليدين أصبح اليوم دلالة على عفّة المرأة، وشدّة تديّنها، في وقت سابق لم تكن النساء تعرف ذلك.. " وهذا من جهله، فقد كان هذا معروفاً في زمن النبوّة، فقد صحّ عنه r أنّه قال: " لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين "، ففيه دليل بيّن على أنّ الصحابيات كن يلبسن القفازين لكمال الستر، وإنّما نهين عن ذلك وقت الإحرام.
هذا غيض من فيض من جهلهم بالنصوص الشرعيّة، وكيفية تعاملهم معها، ومع كلام الأئمة، ولو ذهبت أستقصي جهلهم، من خلال كتاباتهم لطال بي الأمر..(3/145)
والعجيب أنّهم على الرغم من جهلهم الواضح الذي سبق الكثير منه؛ إلا أنّهم يزعمون أنّهم أكثر فهماً للإسلام ممّن شابت لحاهم في تعلّم العلم الشرعي، ومزاحمة العلماء بالركب، بل أكثر فهماً للإسلام حتى من العلماء الكبار، مع أنّ جلّ أصحاب هذا الفكر قد عاشوا ردحاً من الزمن في بلاد الغرب لتعلّم تخصّصات غير شرعية قد تكون مفيدة في مجالها لكنها لا تؤهل صاحبها للحديث عن الأمور الشرعية الدقيقة.. وفي هذا السياق كتب أحدهم ـ وهو رئيس تحرير إحدى صحفهم ـ في مقال له بعنوان: ( الأسهم تقول إنّهم أقليّة محدودة ) الرياض: 13770 يقول: " نحن جميعاً مسلمون.. بل إنّ معظم الليبراليين هم أكثر فهماً للإسلام وسعياً لحلّ مشاكله وتقديمه بصورته الحضارية للعالم الأجنبي..!! " قال ذلك في أعقاب تصدي بعض العلماء له في محاضرة أقيمت في فعاليات معرض الكتاب الدولي بالرياض.. والليبراليون يعني بهم نفسه وزمرته.
بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ كتب مقالاً بعنوان: ( الجهل كخطاب: مقاربة أولية لنماذج وصور واقعية !! ) الرياض: 14136، رمى فيه جامعاتنا الإسلامية بأنّها معاقل لتفريخ الجهل وإنتاجه، يقول: " إن هذا يتم في نطاق المؤسسات العلمية، أو التي تدعي ذلك، حيث يتم استيراد آليات البحث العلمي، بل أحدثها، ووضعها في خدمة خطاب الجهل. وجراء ذلك، تعتمد الأطروحات، وتناقش في أجواء تشي بالعلمية، بينما هي تستخدم في تعزيز مستوى أعلى وأشد تعقيداً من الجهل الذي لا بد من تفكيكه من زوايا كثيرة، ليس أقلها كشف زيف ادعاء العلمية )!!! ".
وكان سبب هذا الهجوم وهذا التجهيل الجماعي لمؤسساتنا العلمية، أنّ بعض الأساتذة الغيورين حذّر من بعض الكتب المنحرفة فكرياً، وطالب بمنعها في معرض الكتاب وغيره، حيث يقول الكاتب: " لم نستطع أن نفهم كيف ينادي أستاذ جامعي، قضى عقوداً من عمره في القراءة، بضرورة منع هذا الكتاب أو ذاك. لن نستطيع أن نفهم؛ كيف يسمح له ضميره (العلمي!) بمصادرة حق الآخرين في الاختيار القرائي، ما لم نع أن بنيته الذهنية - رغم جامعيتها وقرائيتها - تكونت عبر خطاب الجهل. يحدث هذا، بينما رجل الشارع الذي ليس لديه أدنى اهتمام قرائي، يفتح فاه متعجبا، كيف يكون الكتاب محظوراً، وكيف تكون المعرفة محرمة!. وهذا دليل على أن رجل الشارع أقل جهلاً من ذلك المشتبك منذ عقود مع خطاب الجهل )!!! " وهكذا يجعل رجل الشارع مقياساً للحكم، ولا أدري كيف يصنع بحديث عمر الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ لمّا رأى معه النبيّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كتاباً أصابه من بعض أهل الكتاب، قال له مغضباً: "أمتهوّكون فيها يا ابن الخطّاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. "، أخرجه أحمد وغيره وهو حسن بشواهده، فإذا كان هذا مع عمر الفاروق الذي أجرى الله الحقّ على لسانه؛ فكيف بغيره من الشباب والمراهقين ومن ليس عنده حصانة شرعية كافية!! .
وسيأتي المزيد حول هذه المسألة في مبحث خاص بإذن الله تعالى.
السمة الثامنة:
تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم:
وقد سلك هذا المسلك أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية، ففي مقال له بعنوان: (التفكير وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065، شتم فيه السلفية عدة شتائم، يقول: " إنّ ما نراه في الخطاب التقليدي ـ السائد ثقافياً على المستوى الشعبوي(!) خاصّة ـ من محاولة التقليدية البلهاء ـ المتلبّسة بصيانة الأعراف والتقاليد و.. الخ ـ فرض الوصاية على أعين الناس، وعلى آذانهم، وألسنتهم وأقلامهم ليس بدعاً في سلوك المنظومة التقليدية أياً كانت طبيعتها، فهي ـ دائماً ـ تسعى لتعطيل هذه الحواس التي هي نوافذ العقل، ومنها يستمد العقل مادته وتجتهد في لتقنيتها في أتباعها بفرض الوصاية عليها ليصبح الناس ـ إذا تعطلت لديهم فاعلية هذه الحواس ومن ثم تعطل العقل ـ كالأنعام بل هم أضل وهذه الحال شعر الأيديولوجي التقليدي أو لم يشعر منتهى الأماني لديه ". فهو يرى أن تحصين الناس من الأفكار المضللة، وحمايتهم منها، ضرب من ضروب الوصاية، ويرى أن ترك الناس بلا تحصين كافٍ ليعتنقوا مثل أفكاره المنحرفة التي يدعو إليها، ويدافع عنها، لذا فهو يرى أنّ : " مفردات من نوع ( الإرشاد/ التوجيه/ الرعاية الفكرية/ الأمن الفكري/ التحصين ضد الأفكار الهدامة/ مروجي الشبهات/ التغريب/ البرامج الهابطة/ العهر الفضائي ) " مفردات تستخدمها الثقافة التقليدية ( السلفية ) في وقوفها ضد الفكر الحديث ( يعني فكره العفن ) وصدق والله، فهو تحصين ضد الأفكار الهدامة ومروجي الشبهات من أمثاله، وهذا هو سر عدائه للسلفية..
والشاهد هنا من مقاله تنزيل الآية التي وردت في الكفار وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }[الأعراف:179]، وقد أنزلها في الناس السلفيين الذين يفرض عليهم السلفي ( التقليدي ) ـ كما يزعم هذا الكاتب ـ وصايته، وسيأتي المزيد من الحديث عن الوصاية لاحقاً بإذن الله تعالى..
وفي مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، وهو جزء من آية في سورة المائدة، نزلت في اليهود وأذنابهم من المنافقين، وقد أنزلها في خصومه السلفيين، في مقال شتم فيه السلفية على عادته، وقد سبق الحديث عن هذا المقال..
وفي مقال له بعنوان: ( من صور التطرف والاعتدال ) الرياض: 13282، سخر فيه من بعض مناصحيه من السلفيين، إضافة إلى شتم السلفية، والثناء على رموز التغريب؛ لم يكتف بآية واحدة، بل ثنّى بآيتين، إحداهما قوله تعالى: {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }[البقرة:15]، اقتصر على آخرها، وقد أنزلها في ما يراه ضحايا للمدرسة السلفية، وأطلق عليهم ( الأبرياء المذنبون ) حيث يجري توظيفهم من حيث لا يشعرون(!)، يقول: " في الغالب لا يكون التوظيف مباشراً ومقصوداً، بل تفعل المنظومة التي يجري الترويج لها فعلها بقوة الدفع الذاتي فيها، دون أن يشعر بنوها أنهم في طغيانهم يعمهون "(!).
ثم يختم مقاله باتهام الناصح له بالتكفير فضلاً عن بذيء السباب(!)، على الرغم من أنه في هذا المقال يصف الصحوة الإسلامية بالمتأسلمة أو ما أسماه بـ ( تيارات التأسلم ) و(تيار الجمود والارتياب )، وهي تهمة تعني عدم الإسلام الحقيقي.
أما السباب؛ فقد ضمّن مقاله هذا عدداً لا بأس به من الشتائم للسلفية، إضافة إلى تهم الإرهاب وغيره، فضلاً عما في سائر مقالاته من السباب البذيء ليس للأشخاص فحسب، بل للمذهب والمعتقد، وبعد أن اتهم ناصحه بالتكفير والإرهاب(!) راح ينزل عليه آية نزلت في المنافقين، يقول: " أَتَذَكّر كل هذا وأقول: صدق الله العظيم القائل: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }[التوبة:57 ] "، وهكذا يرمي كل من اختلف معه تارة بالآيات التي نزلت في الكفار، وتارة بالآيات التي نزلت في المنافقين، ثم يرميهم بتهم التكفير والإرهاب(!!!!)، فأي إرهاب فكري أعظم من هذا الإرهاب.(3/146)
وفي مقال له بعنوان: ( ما بعد المعركة الخاسرة ) الرياض: 13303، شتم فيه السلفية على عادته، وتشفّى مما حدث في الفلّوجة من قتل ودمار، وسبب هذا التشفّي أنّ الفلّوجة تعدّ معقل السلفيّة في العراق، ثمّ أنزل عليهم آية نزلت في المنافقين بأسلوب تهكّمي ساخر، يقول: " انتهت معركة الفلّوجة، معركة خاسرة بلا ريب، انتهت معركة. ومعارك أخرى غيرها على صورتها ( صورة طبق الأصل ) في الانتظار ما دامت بيانات الحماس الديني والقومي تشعل أوارها، ومؤتمرات الأحزاب الحالمة تنفخ فيها بالكثير من غبائها التاريخي المجيد!. الإسلاموي(!) والقومي كلاهما نسي التاريخ خاصّة إذا ما كان تاريخ هزائم وعبر، مع أنّه تاريخ ليس بالبعيد، إنهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذكّرون "(!!)، وهذه آية من سورة التوبة نزلت في المنافقين.
وفي مقال له بعنوان: ( الاتصال والانفصال بين الديني والمدني ) الرياض: 13324، تفوح منه رائحة العلمنة، يذكر فيه إشكالية العلاقة بين الديني والمدني عنده هو، وعلى عادته في شتم خصومه وتنزيل الآيات التي في الكفار عليهم، يقول: " حلُّ الإشكال يتمّ من خلال الوعي بدرجة تعقيده، لا بتبسيطه أو تجاهله في سبيل الأدلجة الماكرة بأصحابها قبل أن تمكر بغيرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " وهذه آية من سورة إبراهيم نزلت في المشركين !!!.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، وعلى عادته قام بشتم السلفية، وعدّها ( الخصم الأيديولوجي الشرس ) للمرأة، ثمّ أنزل عليها آية نزلت في حقّ الكفار، يقول: " قبل استفحال الأيديولوجيا المتأسلمة ( ويعني بها الصحوة الإسلامية المباركة ) كانت المجتمعات على براءتها الأولى ( يعني الجهل والغفلة ) صحيح أنها كانت محكومة بأعراف وتقاليد تحدّ من حريّة الإنسان، وترسم له كثيراً من الخطوط التي قد لا يرضاها، لكنّها ـ على كلّ حال ـ كانت بريئة من الارتياب الذي يقود إلى التزمّت(!) وإلى خلق مسارات للمجتمع ما أنزل الله بها من سلطان [ ليته ذكر بعض هذه المسارات ] وليست إلا من اتباع الظنّ، والظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً "..
وهكذا يشبّه هذه الصحوة المباركة التي قامت برعاية علمائنا الكبار من أمثال الإمام عبد العزيز ابن باز والعلامة محمّد العثيمين وغيرهما من الأموات والأحياء؛ بحال المشركين الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }[ النجم: 27، 28 ]، ألا يعدّ هذا ضرباً من ضروب التكفير، أو في أقل الأحوال: التضليل الذي ينهون عنه من أجل إقامة مجتمعهم المدني المزعوم؟!!!.
والعجيب أنّ أحدهم كتب مقالاً في الجريدة نفسها بعنوان: ( الشيخ السعدي وميتافيزقيا اللغة ) الرياض: 13058، اتهم فيه الشيخ العلامة المفسّر عبد الرحمن ابن ناصر السعديّ ـ رحمه الله ـ بإنزال الآيات الواردة في أذى المشركين والكفار للمؤمنين الصالحين، على قومه الذين ثاروا عليه وآذوه، وعدّ الكاتب ذلك معضلة، وأنّ الشيخ ـ رحمه الله ـ أخطأ طريق الإصلاح(!!!).. أمّا عنوان كتاب الشيخ السعديّ الذي انتقده هذا الكاتب النكرة فهو: ( الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والخرافات الوثنية المنتشرة في قضاء الظفير )، ويلاحظ من خلال هذا العنوان أنّ القوم الذين أنزل الشيخ السعدي عليهم الآيات ذوو خرافات وثنية، أي أنّهم أهل شرك وخرافة، ولو أنّ هذا الكاتب بدلاً من التنقيب في كتب الأئمّة الأعلام، واتّهامهم بما هم منه براء؛ نظر إلى كتابات زميله في الصحيفة الذي نقلتُ بعض مقالاته آنفاً، وهو يقوم في القرن الحادي والعشرين بتنزيل الآيات التي نزلت في الكفّار والمنافقين على المختلفين معه من أصحاب العقيدة السلفية؛ لو أنّه نظر إلى هذه الكتابات، لوجد فيها ضالّته التي أراد إنكارها، إن كان هذا هو مراده حقّاً، لكنّه عمي عن الجذع في عينه وعين زميله البذيء، وأبصر الذرة في عين غيره، بل أبصر الوهم، فيا لله العجب كيف يفكّر هؤلاء، وكيف يحكمون !!.
والأعجب من ذلك أنّ الكاتب الأوّل نفسه في مقال له بعنوان ( الوحدة الاستراتيجية في التحالف الإرهابي ) الرياض: 13856، اتّهم بعض علمائنا الأجلاء بأنّهم ينزلون الآيات التي نزلت في المنافقين على أناس يعترفون بأنّهم أبناء مجتمعنا(!!) ثمّ يقول: " نسمع ونقرأ مثل هذا، ثمّ نسأل من أين يأتي التكفير.."، وهو الذي ما فتىء في مقالات كثيرة ينزل الآيات التي نزلت في المشركين واليهود على هؤلاء العلماء الأجلاء وغيرهم من عامّة السلفيين، فالحمد لله الذي جعله يحكم على نفسه بأنّه تكفيريّ جلد، بل خارجيّ كما ذكر في مقال له بعنوان ( بيانات التطرّف وبيان الاعتدال ) الرياض: 13863، بأنّ هذه الصفة من صفات الخوارج المارقين، ولا شكّ بأنّ هذه الفئة الليبرالية الاعتزالية الضالّة، خارجة مارقة عن جماعة المسلمين في هذا البلد السلفي الأمين.
السمة التاسعة:
عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، وبغضهم، والتشهير بهم
بل وصلت الوقاحة بأحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ إلى التندّر بأشكالهم وخَلْقهم الذي هو خلق الله ـ عزّ وجلّ ـ!!
ففي مقال له بعنوان: ( من صور التطرّف والاعتدال ) الرياض: 13282 ذكر فيه صورًا عدّة لمن ناصحوه، فسخر في إحداها من رجل فاضل حذّره من عميل الفكر الغربيّ طه حسين ( أعمى البصر والبصيرة ). وفي صورة أخرى سخر فيها من قريب له ناصحه(!) ـ وهو شيخ فاضل وأستاذ في العقيدة ـ بل أظهر الرحمة والشفقة عليه(!) لأنّه كما يقول: " ضحيّة ثلاثين عامًا من الاشتغال على الصراع العقديّ ". وهكذا يصبح المشتغل بتصحيح العقيدة، وكشف فرق الضلال ضحيّة، ولا أدري ضحيّة ماذا؟!! ثمّ واصل سخريته باتّهام شيخ العقيدة بالتكفير، وبذيء السباب، وهو الذي ما فتىء يسب ويشتم السلفية وأئمّة السلف في صحيفة سيّارة!!
ثمّ يواصل في الجزء الثاني من مقاله ( من صور التطرّف والاعتدال ) الرياض: 13289 السخرية من الناصحين فيذكر قصّته مع أستاذ العقيدة في جامعته الذي زاره في البيت لمناصحته، وأطال عنده الجلوس، وهو لم يقرأ كتاباته ـ الرواية من طرف واحد ـ، إلى أن قال: " ولولا رقّة في أخلاقه، وسماحة تندى بها ملامحه ( لم تكن سماحة، وإنّما كانت بلادة وبلهًا وخمولاً ) لطردته غير آبه.. "، بهذه البذاءة يصف علنًا من جاء يناصحه سرًا ويحذّره من كتاباته البذيئة، وأفكاره المنحرفة.
ولم يكتف بذلك، بل واصل سخريته واستهزاءه ذاكرًا أنّ اللقاء استمرّ ساعات طويلة، وصف ما تمّ فيها بأنّه " من الهراء الميّت الذي لا طعم ولا رائحة له، ولم يكن للكلام من دور فيها إلا تحسين العلاقات الثنائية بين الطرفين عاطفيّاً لا فكريًا..".
ثمّ يضيف ساخرًا ـ وما أقبحها من سخرية ـ: " وكنت في تلك الأثناء وأنا أنظر إليه، لا أستمع إليه، بقدر ما أتأمّل مقدار ما تحمله تلك العيون الخاملة، والأهداب الذابلة، والجفون المسترخية، من معاني الغباء والبلادة والخمول التي تكاد لكثافتها أن تمتدّ بعدواها إلى متأمّلها، بل والجماد حولها "!!!! فهل ثمّة بذاءة ووقاحة أعظم من هذه البذاءة والوقاحة، وفي صحيفة سيّارة؟ لا أظنّ.(3/147)
ثمّ ختم هذه الصورة باتّهام هذا الأستاذ الناصح بالتكفير، وهي تهمة جاهزة لكلّ من أقدم على نصح هذا الكاتب، وتحذيره من مغبّة ما يكتب، ومن أمن العقوبة، أساء الأدب.
وفي مقال ساخر لأحدهم بعنوان ( حرّاس الله !! ) الوطن: 293، ـ والسخرية بادية من العنوان ـ سخر فيه من أحد مناصحيه، بعد أن نشر هذا الكاتب النصيحة على الملأ، ثمّ عقّب على هذه النصيحة قائلاً بسخرية سمجة سخيفة: " يا رب ليس لنا إلا أنت، نحتمي بك سبحانك من ( حرّاسك )..".
وعلى عادتهم في قلب الحقائق والتلبيس على الناس وإلقاء التهم جزافاً، فقد اتّهم مناصحه بالحكم على نواياه وما في قلبه قائلاً: " ولكنّ ( حرّاسك ) يؤذون قلوبنا حين يدّعون معرفة ما فيها، وكأنّهم أنت والعياذ بالله ممّا يصفون.. "، مع العلم بأنّ هذا الكاتب قد كتب عدّة مقالات تهجّم فيها على المحاكم الشرعيّة، وسخر فيها من الحجاب!! والناس ليس لهم إلا الظاهر، أمّا ما في القلوب فعلمه عند الله تعالى.
وفي مقال لأحدهم بعنوان: ( الفرق بين العادة والعبادة ) الرياض: 13883، سخر فيه من شابّ ناصحه، يقول هذا الكاتب: " بينما كنت أيمّم وجهي شطر باب المسجد هامًّا بالخروج منه بعد انقضاء إحدى الصلوات؛ اندفع إليّ شابّ حدث لا يكاد يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وبدأ في إبداء نصائحه لي تجاه ما يراه أخطاء وقعت بها أثناء قضاء ما فاتني من الصلاة، وهي في الحقيقة لم تكن أخطاء بقدر ما صوّرت له ذهنيته الآحاديّة أنّها كذلك..". وهكذا نجد أنّ التهم عند هؤلاء جاهزة لإلصاقها بالناصحين، فبدلاً من تقبّل النصيحة بصدر رحب، وشكر الناصحين عليها، نراهم يسخرون منهم علنًا في صحف سيّارة، ويرمونهم بالتهم الجائرة. وحتى لو كان هذا الناصح مخطئاً أو مستعجلاً، كان الواجب تشجيعه على هذه الروح الناصحة، المشفقة على الغير، وتعليمه الطريقة المثلى للنصح، بدلاً من السخرية به، وكيل التهم له، انتصارًا للنفس.
السمة العاشرة:
التناقض الصارخ فيما يأمرون به وينهون عنه
وهو نتاج طبعي للتخبط، واختلال المنهج، والبعد عن منهج الحقّ، فكلمّا كان المرء قريباً من منهج الحقّ؛ كان أقلّ تناقضاً في أقواله وأفعاله، والعكس صحيح: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[ النساء: 82].
ومن ذلك:
1. أنّهم ينهون عن التضليل والتبديع والتفسيق، وهم يفعلون ذلك، فيبدّعون العلماء والدعاة وطلاب العلم الذين هم على منهج السلف، وقد كتب أحدهم مقالاً نشره في أحد مواقع الأنترنت المشبوهة، وتواطأت الصحف المحليّة على نشره، وكان عنوان المقال (الصحوية والصحويون!! ) الجزيرة: 12318، شكّك فيه بالصحوة الإسلامية المباركة، وضمّنه الكثير من المغالطات والافتراءات والتهم والنقولات المبتسرة، وفاحت منه رائحة العلمنة، خلص فيه إلى ما نصّه: " ممّا تقدّم يتّضح لنا بجلاء أنّ الصحوة هي التي فجّرت منابع الإرهاب، وأنّ أدلجة المذهب السنّي أدلجة سياسية محضة هي قلب الصحوة النابض، وأنّ فكرة التنظيم - الكهنوت هو الوسيلة، وهو أسّ البلاد، وأنّ استثمار قضايا المرأة السعوديّة هو استثمار سياسي بحت، وأنّ مذهب أهل السنّة والجماعة شيء، والصحوة في جوهرها وأهدافها شيء آخر ".
وهكذا بجرّة قلم يحكم الكاتب الصحفيّ(!) على قطاع كبير من مجتمعنا يمثّل الأغلبيّة من العلماء والدعاة والصالحين ومن يثق بهم من سائر أبناء مجتمعنا، وهم عامّة الناس، بل على مجموعات كبيرة في العالم أجمع تفتخر بانتمائها إلى هذه الصحوة ولله الحمد، يحكم عليهم بأنّهم ليسوا على مذهب أهل السنّة والجماعة، وإنّما هم شيء آخر، أي ضلاّل مبتدعة، ولعمر الله إنّ هذا لشيء عجيب، وقلب واضح للحقائق المبينة، فالذين ينافحون عن مذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأمّة أصبحوا اليوم ليسوا من أهل السنّة والجماعة، أمّا الذين يطعنون في مذهب أهل السّنّة والجماعة وسلف الأمّة كابن تيمية الذي قال عنه هذا الكاتب ـ كذباً وزوراً ـ إنّه يحرّم الكيمياء المعروفة اليوم(!) والذين يبالغون في الثناء على الغرب، فهم الهداة المهتدون، وهم أهل السنّة عند هذا الكاتب، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض.
2.
البحث لما يكتمل.....
(1) صواب الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء.
=================
مسلمو تايلاند أسباب نكبتهم ووسائل نصرتهم
تُعدُّ " تايلند " واحدة من دول العالم الثالث الاحتلالية، التي نال المسلمون من أذاها واضطهادها ما لم تلنهُ أقليات مسلمة في بقاعٍ عديدة في العالم، على أيد المحتل الأجنبي .
فقد ابتلعت هذه الدولةُ الوثنيةُ، ذاتُ الديانة البوذية الخبيثة ، كلّ الجنوب المسلم الذي كان مستقلاً حتى عام 1902م، أي قبيل المائة عام، حين قامت بريطانيا الصليبية باحتلال دولة فطاني "، ثم تسليمها غنيمةً باردة لتايلند، ذات الحدود اللصيقة بفطاني، " ثم إعلان دخولها في الحدود السياسية لمملكة تايلند بكل صفاقة وجه، و بتواطئ دولي إجرامي .
ومن الطبيعي أن تسعى تايلند الوثنية، في استعجال إلغاءِ هوية الشعب المسلم هناك ، والعمل على صهرهِ في المجتمع البوذي، وتنشأة الأجيال تنشاةً إباحية، مع محاولة تذويب ما تبقى من شعائر الإسلام لدى الشعب الفطاني المسلم، الذي لم يكن يحتفظ أساساً من الإسلام إلّا ببعض الشعائر اليسيرة، التي غالباً لا تتعدى نطاق الأحوال الشخصية، من زواجٍ أو طلاق، أو بعض العباداتِ من صلاةٍ أو صيام، لا تخلو في أحوالٍ كثيرة من البدع والخرافات .
وكان من أبرزِ خطوات المحتل الأجنبي، تكريس احتلالهِ وفرضه واقعاً لا يقبلُ التغيير ما يلي :
1- محاصرة القضية الإسلامية في الجنوب التايلندي إعلامياً.
بحيث تم تجفيف كل المنابع الإعلامية التي يمكن من خلالها إسماع القضية الإسلامية الجنوبية للعالم الخارجي ، فلا إذاعات، ولا صحف، ولا وفود أو منظمات، تستطيع الاتصال بالعالم الإسلامي أو غيره، لشرح قضيتهم، لدرجة أننا لم نسمع من يدعو إلى تحريرِ الجنوب، أو اعتباره أرضاً محتلةً على الأقل !!
بل إنّ كثيراً من علماءِ المسلمين ، وطلاب العلم والدعاة، لا يعرفون ما هي " فطامي "، أو إن كان لها قضيةً أصلاً، أو حتى تحديد موقعها على الخريطة !!
2- ممارسة الخناق الاقتصادي ، وسلاح التجويع .
وهي سياسةٍ قديمة، توارثها أعداءُ الدين عبر القرون، فقد قالها رأسُ النفاق عبد الله بن أبي لاتباعه : ( لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ) .
وهي ذات السياسة التي اتبعتها أمريكا الصليبية ضد العراق المسلم ، وضد ليبيا ، وأفغانستان ، وتلوّح بها لكلِّ من يخرجُ عند أوامر المحتل الأكبر ، والعدو الأخطر.
كما تمارسُ هذه السياسة كل الدكتاتوريات المتسلطة، ضد الضعفاء، كما في حالة (الهند وكشمير) ، و (الصرب والبوسنة ) , (روسيا والشيشان) , (الفلبين مع الجنوب المسلم) , (تايلند مع دولة فطاني).
ومن مظاهرِ هذا الخناق الاقتصادي الذي تمارسهُ حكومة تايلند البوذية ضد المسلمين الجنوبيين :(3/148)
* محاولة إبقاء الجنوب فقيراً، حيث لا يتاحُ لأبنائهِ القدرة على العمل والكسب، أو المنافسة التجارية، إلاَّ بالانسلاخِ التام عن الهوية الإسلامية، لدرجة المطالبة بتغيير الأسماءِ، بل وحتى اللباس والمظهر .
* حرمانُ الجنوب من فرصِ التنميةِ، أو تخصيص مبالغ من الميزانية لتلبيةِ حاجاتهِ الضرورية والإنسانية ، في مقابل استغلال الثروات الطبيعية، والمناطق السياحية الجنوبية، لجذب السياح، وضخّ العملات الصعبة لمصلحةِ الخزينة العامة فحسب !
3- نشْرُ الإباحية في الجنوب بشكل يفوق الوصف
من المعروف أنَّ تايلند تكاد تكون البلد الأول على مستوى العالم، الذي يعتمدُ على تسويق الإباحية ، والسياحة الجنسية ، وتجارة الأعراض، لدرجةٍ يصعبُ تصورها، حتى غدت بانكوك وبقية الأقاليم التايلندية محط رحلات طلاب الفاحشةِ من أنحاء العالم، إذا لا يوجدُ شيءٌ محرّم أو مستقذر لدى عامةِ المواطنين والوافدين ، بل ربما ربطوها بمعتقداتٍ دينية في بعض الأحايين ، ومن العجيب تورط كثيرٍ من المسلمين في الجنوب بتجارةِ الفواحش لعاملين رئيسيين أولاهما:
1- حرص الحكومة على إبقاء الجنوب غارقاً في شهواته، للقضاء على نزعةِ التدين لدى أبنائه، وتسهيل الحصول على تراخيص (الدعارة !)، بل والتشجيع عليها.
2- ضعفُ التدين أصلاً لدى غالبية الشعب الفطاني الجنوبي، لقلة العلماء والدعاة، ولوقوعهِ تحت احتلال حكومةٍ وثنية ، فرضت عليه ثقافةٍ بوذية، ووصايةٍ تعليمية مستمدة من خليطٍ من الخرافات ، والخزعبلات المبتكرة أو المستوردة.
فضلاً عن الفقر العام لدى الشعب، ممَّا يدفعهُ إلى الرغبةِ في الحصول على الأموال ، ولو بطريقة الدياثة وتجارة الجسد والخسيسة .
وسائل نصرة الشعب الفطاني
في ظلّ الضعف العام الذي أصاب المسلمين في هذا العصر، وخوف الحكومات الإسلامية يمن مدّ يد العون لإخوة العقيدة في أصقاع المعمورة، تبقى مجالاتُ النصرةِ للأقليات الإسلاميةِ المستضعفة، محدودةً ومحصورةً في نطاقاتٍ ضيقة، لا بدَّ من استغلالها مهما كانت بطيئةَ الأثر ، أو قليلةَ الفاعلية ، وهي في الجملةِ وسائل شعبية، تنقصها الموارد المادية، ويعوزُها التنظيم ، ويغلبُ عليها الارتجالية، لكن مع إخلاص النية ، وصدقِ العزم، تصاحبها البركة ، وترعاها العناية الإلهية، فمن ذلك .
1- تفعيل القضية الفطامية إعلامياً
إنَّ من أهم وسائل نصرةِ الشعب الفطاني هو إشهارُ قضيته في المحافلِ العامة والخاصة ، وبحدود الإمكانات المتاحة .
فمن المؤلم كما أسلفت، أن يبقى خاصة العلماء والدعاة غير مدركين لأبعاد قضية الشعب الفطاني المسلم، ووقوعه تحت دائرةِ الظلم، ومصادرة الحريات العقدية والأخلاقية، حتى صدور حقه في لباسه الشخصي، بل وأسماء أبنائه !
ومن الوسائل الممكنة :
* فتح ملفات إعلامية تنشر عبر الشبكة العنكبوتية، وجمع المعلومات عن الشعب المسلم هناك ، واستكتاب أهل العلم والاختصاص لإثراءِ الموضوع وإشباعه بحثاً ودراسةً .
وإنَّها والله لخطوةٌ رائدة، هذهِ التي أقدمت عليها شبكة " نور الإسلام " ونأملُ أن يتبعها خطوات أخرى يفتحُ من خلالها ملفات كشمير والشيشان وكوسوفو وغيرها .
1- ربط هذه الملفات الإعلامية بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ من المواقع عبر الشبكة، ونقل ما فيها من التقاريرِ والدراسات والمقالات، إلى المنتديات العامةِ بصورةٍ مستمرةٍ ومتجددة .
2- دعوة أصحاب الخبرةِ والهممِ العالية، لفتحِ مواقعَ خاصة بالأقليات المسلمة، ومحاولة إبقاءِ قضيتهم ساخنةً ملتهبة، حتى لا تعودَ مجدداً إلى عالم النسيان !
فما المانعُ أن نبادرَ إلى إنشاءِ موقع لفطامي، وآخر لكشمير، وثالث لألبانيا، بطريقةٍ شيِّقةٍ وفعّالة، وبأساليبَ متجددةٍ ومؤثرة !؟
3- دعوة خطباءِ المساجد إلى الحديث عن الأقليات المسلمة، وشرح قضاياهم ، وتشجيعِ الجمهور على مساعدتهم معنوياً ومادياً، فضلاً عن الدعاءِ لهم بصدقٍ وإخلاص .
4- بعث الدعاة إليهم عبر القنوات المتاحة، كرابطةِ العالمِ الإسلامي، أو مكاتب الدعوة، أو اللجان الإغاثية، أو عبر الجهود الشخصية، فإذا كانت حكومة تايلند تشجعُ السياحة على الوصول إلى أراضيها بأبخس الأثمان ، وأسهل الإجراءات، فعلى الدُعاة أن يستغلوا الفرصةَ المتاحة، دعوةً إلى الله وتعليماً لأخوةِ الدين والعقيدة .
5- التواصل الحثيث مع المكاتب التعاونيةِ لتوعية الجاليات، للعمل على استقطاب الشباب التايلندي المسلم ، وتعليمهُ، وتكوينه دعوياً، ومن ثمَّ بعثهِ إلى بلاده للتعليم والإرشاد، مزوداً بالمراجع العلمية، والكتبُ المناسبة بلغةِ البلد الأصلية، وهي ( الملاوية ) .
كما ينبغي استغلال وجود جاليةٍ كبيرةٍ من التايلنديين البوذيين في مجتمعاتنا، ودعوتهم إلى الإسلام ليتحولوا إلى دُعاةٍ في بلادهم حسب الوسع والطاقة، أو على الأقلِ تغيير التركيبةِ السكانية لمصلحة المسلمين تدريجياً .
6- حث التجار وأصحابِ رؤوسِ الأموال الذين اعتادوا الذهابَ إلى تايلندَ لأسبابٍ تجارية، وصفقاتٍ تجاريةٍ اقتصادية، أن يعنوا بأمرينِ مهمين :
* أحدهما : محاولةُ عقدِ الصفقات مع التجارِ المسلمين ما أمكن، لتبقى الأموالَ المسلمة في أيدي مسلمةٍ على الدوام .
* آخرهما : حَمْلُ ما أمكن من الكُتيبات الدعويةِ، والنشرات التوجيهية باللغاتِ السائدة هناك .
وغير غائبٍ عن البالِ الأثرُ البالغُ، والنفع العظيم، الذي قام به التجار المسلمون عبر التاريخ في كلّ البلاد التي وصلوا إليها ، بل إنَ الإسلام لم يدخل فطاني نفسها، إلاَّ عن طريق التجارِ قبل عشرة قرون من الزمان تقريباً ! .
فهل يلعبُ تجارُ زماننا ذات الدور الذي لعبهُ أسلافهم، وهل يقومون بإحياءِ سنةِ الدعوة عبر التجارة ؟ فيجمعون بين تجارتي الدنيا والآخرة ، وللآخرة أكبرُ درجات وأكبر تفضيلاً ؟! .
7- محاولةُ إقناعِ القياداتِ العسكرية في الجنوب المسلم، تأجيل الخيار العسكري لحين تربيةِ الناس على الدين الحق، والخُلق الكريم، وتأسيسِ الأجيالِ على مكارمِ الإسلام .
إذ القيامُ بأعمالِ العنف لن يحقق - والله أعلم - أهدافاً ذات بال ، وإنَّما سيكرس الاحتلال، ويسفكُ مزيداً من الدماءِ المعصومة !
ولستُ أشكُ لحظةً واحدةً بأنَّ الجهاد الإسلامي متى أمكن قيامه تحت رايةٍ واضحةٍ، وقيادةٍ مسلمةٍ واعيةٍ، وجب تفعليهُ ومساعدتهُ بما أمكن ، وتعينَ فرضهِ على أبناءِ الشعب الفطاني المسلم ؛ لأنَّهُ واقعٌ تحت الاحتلال .
بيد أنّ مرورَ مائةَ عامٍ على دخول المحتل، تستدعي تريُّثاً وتأنياً ضرورياً، لترتيبِ الصفوف، واستعادةِ الهوية، وتوعيةِ الناس، وهو ما يتطلبُ وقتاً زمنياً لا يُستهان به .
والله المسئول أن ينصرَ دينهُ وجندهُ وأولياءه .
==============
الرد على شبهات حول الجهاد العراقي
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه :
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها ، فلابد أن يقول على الله غير الحق ، في فتواه وحكمه وخبره وإلزامه ، لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس ، لاسيما أهل الرياسة ، و الذين يتبعون الشهوات ، فإنهم لاتتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا " الفوائد
اللهم إنا نعوذ بك أن نضلّ أو نُضلّ ، أو نزلّ أو نُزل ، أو نجهل أو يُجهل علينا ، اللهم إنّا نسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، والغنيمة من كل بر ، والعافية من كل إثم ، وحسن الخاتمة ، حسبنا الله ونعم الوكيل .
وبعد :(3/149)
فإنّ من أشنع الأقوال الضالّة ، والبدع التي هي على أبواب جهنم دالّة ، القول بأن إمامة الكافر أو من يولّيه الكفار ، على المسلمين صحيحة ، وأنّ جهاد الكافر المحتل لبلاد الإسلام باطل ، فقائل هذا القول جمع بين أعظم سببين لإفساد الدين ، وإضلال المسلمين .
فهو بتصحيحه ولاية الكافر ، أو من يتولى بأمرهم ويحكم به ـ مع أنه حينئذ يكون مثلهم ـ قد دعا إلى إفساد الأحكام الشرعيّة جملة وتفصيلا ، وبتحريمه الجهاد لإخراج الكفرة المحتلين دعا إلى إخضاع أمة الإسلام إلى عدوّها ، ممعنا فيها إفسادا و تضليلا ، والساكت عن إنكار ضلاله شيطان أخرس ، فإن كان مع ذلك يرتقي منصبا دينيا فهو أعظم ملبّس ، ممّن بدل دين الله تبديلا ، نسأل الله تعالى العافية من سبل الردى ، ومضلات الفتن ، واتباع الهوى .
هذا والعجب أن هؤلاء المفتين لم يستحوا من الله ولا من المسلمين ، وهم يقومون ، بادية سوءاتهم أمام العالمين ، بأداء الدور المطلوب منهم أمريكيا ، في ضمن متطلبات المشروع الصليبي للمحافظين الجدد ، لفرض عقيدة وشريعة غربيّة ، تجمعان بين الروح الصليبية ، والأهداف الصهيونية ، والثقافة اللادينية العلمانية .
نسال الله أن يبطل سعيهم الخبيث في بلاد المسلمين ويرد كيدهم في نحورهم ، وكيد هؤلاء الملبّسين على المسلمين دينهم ، الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، ممن يصدق عليهم قوله تعالى : " مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا " .
وهذا بحول الله رد على ضلالاتهم الشنيعة ، وذلك :
أولا : ببيان من هو وليّ الأمر الشرعي .
ثانيا : بالرد على شبهة الاستدلال بولاية نبي الله يوسف عليه السلام .
ثالثا: بالرد على شبهة اشتراط الإمام للجهاد أو إذنه إن عطّله أو كان جهاد دفع .
رابعا : بالرد على شبهة اشتراط الراية في الجهاد.
ثم خاتمة جامعة نافعة في التحذير من الركون إلى الكفار وتهوين أمر الدخول في ولاءهم .
فنقول وبالله التوفيق :
أولا :
وليّ أمر المسلمين الذي تجب طاعته هو الذي يتولّى أمر دين المسلمين، لأنّ هذا هو أمر المسلمين ، فليس لهم أمر غير دينهم ، فبه صاروا أمة ، وبه تحققت شخصيتهم الحضاريّة ، وبه وُجد كيانهم السياسي ، أمّا من يتولّى أمرا آخر ، كالذي يحكم بالنظام الدستوري العلماني أيّا كان : ديمقراطيا ليبراليا غربيا زائفا ، أو قوميا إشتراكيا شموليا ، أو عشائريا جاهليا يخلط بين الشريعة والجاهلية ، أو غير ذلك ـ سوى النظام الإسلامي المتحاكم إلى شريعة الله تعالى ـ فهو وليّ أمر ما تولاّه ، ليس هو وليّ أمر المسلمين ، وهو ممن يصدق عليه قوله تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " .
فكيف يُولّى أمر أمّة الإسلام ، وقد تولّى أمر غيرها ؟!!
ولهذا وردت النصوص الآمرة بطاعة ولاة الأمر، مقيّدة بقيد إقامة الدين ، كما في حديث " إنْ أُمّر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا " رواه مسلم ،والحديث الثاني " إنّ هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين " رواه البخاري.
فذكر أن الحكم بكتاب الله ، أي تحكيم الشريعة ، وإقامة الدين كذلك ، شرط في صحة ولايتهم التي توجب طاعتهم .
ولهذا فقد أجمع العلماء على شرط الإسلام في الإمام ، عملا بقوله تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، وبالنصوص الكثيرة في القرآن والسنة التي تحرم ولاية المسلم للكافر ، وأي ولاية أعظم من نصبه حاكما على المسلمين ؟!!
وفي الحديث المتفق عليه من حديث عبادة بن الصامت : " وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان " . فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج بالقوّة ، على الحاكم إن أظهر الكفر .
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله : " أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال " أحكام أهل الذمة 2/ 414
وقال القاضي عياض رحمه الله : " أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر وتغيير للشرع ، أو بدعة ، خرج عن حم الولاية ، وسقطت عدالته ، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة ، وجب عليهم القيام بخلع الكافر " شرح النووي على صحيح مسلم 12/229 ، والظاهر أن قصده بدعة مكفرة من جنس تبديل الشرع .
ومن النصوص التي دلت على ما تقدم ، وحديث ابن مسعود " سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة ، ويعلمون بالبدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها ، فقلت : يا رسول الله إن ادر كتهم كيف أفعل ؟ قال : تسألني يا ابن أم بعد ماذا تفعل ؟! لا طاعة لمن عصى الله " رواه أحمد ، وابن ماجه ، والبيهقي ، الطبراني في الكبير وإسناده على شرط مسلم
إذا تبيّن هذا ، فإنه من المعلوم ، أن حكومة الاحتلال في العراق ، حكومة عميلة ، نصبها محتل صليبيّ ، وألزمها بأن تُهيئ نظاما ليُحكم العراق بالنظام العلماني ، الذي يدعو إلى أن يعبد كلّ عابد ألهه ، وإلى أن يتخذ كلّ هواه إلها ، وهي حكومة تؤمن بفصل الدين عن الحياة ، وحقّ الناس أن يشرعوا ماشاؤوا ـ إلا ما يغضب سادتهم الأمريكيون ـ فمهمة هذه الحكومة الأهمّ ، هي أن تحول بين شريعة الله تعالى وأن تحكم العراق ، وبين أهل الجهاد وان يقيموا في الأرض دين الإسلام ، فمن يصحح ولاية مثل هذه الحكومة داعيا إلى طاعتها ، منسلخ عن الدين ، مرتكس في النفاق معدود في المنافقين .
ثانيا :
استدلال المستدل بقصة نبي الله يوسف عليه السلام ، على صحة ولاية من يوليه المحتل لأرض المسلمين ،استدلال منكوس ، فيوسف عليه السلام نبيّ مسلم ، لايحكم بغير شريعة الله ، وهو القائل لصاحبي السجن " إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون " ، قد مكّنه الله تعالى على قوم كفار ، في بلد أهله كفار ، فحقق بولايته علو الإسلام بأحكامه على بلاد كافرة .
وأما حكومة الإحتلال الحاكمة بأحكام الكفار ، الموالية لهم ، فهي حكومة كافرة تتولى على قوم مسلمين ، وتحقق علوّ أحكام الطاغوت في بلاد الإسلام ، فالعجب والله من هذا الاستدلال المنكوس .
ثم إن الله تعالى ، قد قال عن يوسف عليه السلام : ( وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ) .
فالآية تبيّن أن الله تعالى مكّن له في الأرض ، فله اليد العليا فيما تحت يده ، بتمكين الله تعالى ، لا بغيره ، ليحكم بالشرع والعدل والإحسان ، وأن هذا التمكين رحمة من الله ، وأنه كان في ذلك من المحسنين.
فأين هذا من حكومة احتلال ، يستخدمها الصليبيون والصهاينة ، لتحارب المجاهدين الذين يجاهدون لطرد المحتل من بلادهم ، فهي حكومة جاءت لتقيم أحكام الطاغوت ، وهي في عملها تسعى في بلاد الإسلام سعي الكافرين الظالمين ، ومعلوم أنّ هذه الحكومات التي ينصبها المحتل في العادة ، دُمية لم يُمكّن لها المحتل، وإنما يستعملها ليمتطى ظهرها ، ليحقق بها أهداف الكفار في بلاد الإسلام.
فلا ريب أن هذا المستدل بقصة يوسف ، من أجهل الناس ، وأغلظهم فهما ، وأشنعهم ضررا ، في المسلمين ، نسأل الله تعالى العافية من مقام الخزي ، اللهم نعوذ بوجهك آمين.
ثالثا :(3/150)
لاريب أن الفريضة الواجبة المقدّمة ، عند احتلال الكفار لبلاد المسلمين ، هي الجهاد لطرد المحتل ، وزعم غير ذلك ضلال مبين ، أما الرضا باستعلاء الكفار على بلاد المسلمين ، فهو ردة عن الدين ، ليس في ذلك خلاف بين علماء الملّة ، ولا ينفع عذر المعتذر بأن البلاد بحاجة إلى بقاء الكفّار لحفظ الأمن ، فقائل هذا كاذب مفتر على دين الله تعالى ، يضل الخلق بغير علم .
ذلك أن الله تعالى أخبر في محكم التنزيل : " والكافرون هم الظالمون " ، وقال " لايرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمّة " ، وقال " وأولئك هم المعتدون " وقال " إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء " وقال " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس " ، فكيف يُكذّب القرآن المبيّن أن الكفّار إن تسلّطوا على المسلمين ، كانوا سببا للظلم ، والعدوان ، وفساد الدين والدنيا ، ويُصدّق الكافر ، الكاذب ، الظالم ، المعتدي ، الذي قد بان ظلمه وعدوانه على المسلمين والإسلام ، للخاص والعام ؟!!
ومعلوم أنه لا يوجد فساد أعظم من استعلاء الكفار في بلاد المسلمين ، ولا مصلحة أعظم بركة على المسلمين من جهاد الكفار لمنعهم من إظهار هيمنتم على البلاد الإسلامية ، فكل يوم يستقر لهم المقام في العراق ـ كمافي غيره ـ يخسر الإسلام وأهله ما لا يخطر على البال ، ولا يدور في الخيال من الخسران المبين ، في دينهم ، وقوتهم وثروتهم ، ومستقبلهم السياسي .
ذلك أن الكفّار سيعملون بلا ريب على ترتيب أوضاع البلاد عسكريا ، وسياسيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ، وثقافيا في أسرع وقت وفق ما خططوا له سلفا ، لتكون تلك الأوضاع في صالح الكفر وأهله ، كما فعلوا في الاحتلال في القرن الماضي .
وسينصبون أولياءهم من المرتدين من خونة العرب على حكم العراق ، لتتم لهم مقاصدهم الخبيثة.
وفي التقاعس عن منعهم من ذلك بكل وسيلة ممكنة ، تمكين لهم ، وتغرير بالإسلام وأهله ، وذلك أعظم الخيانة لدين الله تعالى .
ذلك أن الله تعالى حرّم على المؤمنين تحريما قطعيا أن يرضوا بظهور الكفار عليهم ، وباحتلال الكفار بلادهم ، وأرض العراق مثل أرض فلسطين تماما ، و كذا كل بلاد الإسلام ، لا يسقط وجوب الجهاد لإخراج المحتل منها ، إلى يوم القيامة .
قال تعالى : ( وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ) والفتنة هي الشرك ، فظهوره وعلوه على أرض الإسلام أعظم الفتنة ، وإنما غاية الجهاد منع الكفر من الاستعلاء بالقوة قال تعالى ( وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ) .
وقال ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين ) .
وقد قال تعالى ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) أي هذا حكمه ، فلا ترضوا أن يكون للكافرين عليكم سبيل .
وقال ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) .
وقال ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) .
وقال ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ، ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ، فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها .. الآيات ) .
أما كلام علماء الإسلام في وجوب الجهاد لطرد المحتل الكافر فكثير مبارك ، من ذلك :
قال ابن حزم في المحلى " إلا إن نزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم " 7/292
وقال الإمام النووي ( قال أصحابنا : الجهاد اليوم فرض كفاية إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين فيتعين عليهم الجهاد ، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وجب على من يليهم تتميم الكفاية ) شرحه على مسلم 8/63
وقال الإمام القرطبي : ( قد تكون حالة يجب فيها نفير الكل ، وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار ، أو بحلوله بالعقر ، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا خفافا وثقالا ، شبابا وشيوخا ، كل على قدر طاقته ، من كان له أب بغير إذنه ، ومن لا أب له ، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل ، أو مكثر ، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم ، وجاوزهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة ، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ، ومدافعتهم ، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم ، وعلم أنه يدركهم ، ويمكنهم غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم .. ولو قارب العدو دار الإسلام ، ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه ، حتى يظهر دين الله ، وتحمى البيضة ، وتحفظ الحوزة ، ويخزي العدو ، ولا بخلاف في هذا ) الجامع لاحكام القرآن 8/151ـ 152 .
وقال الإمام الخرقي من الحنابلة ( وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا ، المقل منهم والمكثر ) .
قال الإمام ابن قدامة في الشرح : ( قوله المقل و المكثر ، يعني به والله اعلم الغني و الفقير .. ومعناه أن النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو إليهم ، ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ، ومن يمنعه الأمير من الخروج ، أو من لا قدرة له على الخروج للقتال ، وذلك لقوله تعالى ( انفروا خفافا وثقالا ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا استنفرتم فانفروا ) ، وقد ذم الله تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب ، فقال تعالى ( ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ) المغني 10/389 .
وقال الإمام الجصاص ( معلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ، ولم تكن فيهم مقاومة فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين ، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة ) أحكام القرآن للجصاص 4/309
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( إذا دخل العدو بلاد الإسلام ، فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب ، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة ) الاختيارات العلمية .
وهذا كله في غاية الوضوح ولا يحتاج إلى البيان ، ونقوله مع أن العراق أرض العلم والعلماء ، ولا يحتاج أهلها إلى سؤال غيرهم ، ونحن على يقين أن الأجنبي المحتل لن يهنأ بالبقاء فيها ، وستبوء خططه بالفشل بإذن الله تعالى .
** هذا وأما القول :
بأن الجهاد لا يكون إلاّ مع الإمام ، فهو قول الرافضة ، أما أهل السنة فلا يعرفون هذا الشرط ، إنما يشترطون إذن الإمام إن كان إماما شرعيا قائما بالجهاد الشرعي ، كما يشترط إذنه في كل الأمور العامة لئلا يفتئت عليه .
قال ابن حزم: "يغزى أهل الكفر مع كل فاسق من الأمراء وغير فاسق ومع المتغلب والمحارب كما يغزى مع الإمام ويغزوهم المرءُ وحده إن قدر أيضاً" (المحلى 10/99)
وقال أيضا " قال تعالى ( فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك ) وهذا خطاب متوجه إلى كل مسلم ، فكل أحد مأمور بالجهاد ، وإن لم يكن معه أحد " المحلى 7/351
وقال شارح الطحاوية عند قول الطحاوي: "والحج والجهاد ماضيان... الخ"
"يشير الشيخ -رحمه الله- إلى الرد على الرافضة حيث قالوا لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد" (ص/437)(3/151)
وقال الماوردي: "فرض الجهاد على الكفاية يتولاه الإمام ما لم يتعين" (الإقناع ص/175) ، يعني إن تعين لم يشترط له إذن الإمام ، ومعلوم أن أكثر جهاد المسلمين اليوم هو جهاد الدفع الذي هو فرض عين على أهل البلد ومن يمكنه نصرهم، فلا يشترط له إذن حاكم .
وقال القرافي في الذخيرة " شروط الجهاد : هي ستة : الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورة والإستطاعة " ، ثم قال : " فإن صدم العدو الإسلام وجب على العبد والمرأة لتعين المدافعة عن النفس والبضع "
وقال ابن قدامة " إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين فوجب على الجميع فلم يجز التخلف عنه " 10/390
وقال ابن قدامة في المغني : " ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط " فذكر الشروط الستة الماضية ، غير أنه جعل الاستطاعة شرطين ، ولم يذكر شرط الإمام .
وقال ابن مفلح في الفروع ( قيل للقاضي يجوز قتال البغاة إذا لم يكن إمام ؟ فقال : نعم ، لأن الإمام إنما أبيح له قتالهم لمنع البغي والظلم ، وهذا موجود بدون إمام ) .؟ 6/154
وإذا كان هذا مع البغاة ، فكيف مع الكفار ؟
بل حتى لو كان ثمة إمام قائم بالشرع ، فخاف المسلمون من عدوهم ، فلهم أن يقاتلوا دون إذنه :
قال الإمام أحمد كما في مسائل عبدالله 286 : " إن كانوا يخافون على أنفسهم وذراريهم فلا باس أن يقاتلوا من قبل أن يأذن الأمير " .
فهذا إذا خافوا من العدو، فكيف إذا دهمهم ؟!
وقال ابن قدامة " فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد ، لأن مصلحته تفوت بتأخيره ، وإن حصلت غنيمة قسمها ، أهلها على موجب الشرع " 10/374
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وأما قتال الدفع وهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعا فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لاشيء أوجب بعد الإيمان من دفعه ، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان ، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم ، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده " مجموع الفتاوى 4/508
وقال الحضرمي الشافعي في القلائد 2/353 " فإن دخلوا ديارنا ولو خلاء ، أو خرابا ، وجب على كل مكلف ـ أي الجهاد ـ ولو امرأة ، أو عبدا ، بلا إذن "
قال صديق خان: "الأدلة على وجوب الجهاد من الكتاب والسنة وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلاً بل هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله على عباده المسلمين من غير تقيد بزمان أو مكان أو شخص أو عدل أو جور" (الروضة/333)
وقال العلامة عبدالرحمن بن حسن رحمه الله في الدرر السنية " بأي كتاب أم بأي حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع ؟! هذا من الفرية في الدين ، والعدول عن سبيل المؤمنين ، والأدلة على بطلان هذا القول أشهر من أن تذكر ، من ذلك عموم الأمر بالجهاد ، والترغيب فيه والوعيد على تركه ... وكل من قام بالجهاد في سبيل الله ، فقد أطاع الله وأدى ما فرضه الله ، ولا يكون الإمام إماما إلا بالجهاد ، لا أنه لا يكون جهاد إلا بإمام ، والحق عكس ما ذكرت يا رجل "
وقال أيضا بعد أن استدل بقصة أبي بصير رضي الله عنه في حربه قريشا مستقلا " فهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخطأتم في قتال قريش لأنكم لستم مع إمام ؟؟! سبحان الله ! ما أعظم مضرة الجهل على أهله عياذا بالله من معارضة الحق بالجهل والباطل "
وقال " فإذا كانت هناك طائفة مجتمعة لها منعة ، وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما تقدر عليه لا يسقط عنها فرضه بحال ، ولا عن جميع الطوائف وليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن الجهاد يسقط في حال دون حال ، أو يجب على أحد دون أحد إلا ما استثنى في سورة براءة ، وتأمل قوله " ولينصرن الله من ينصره " ، وقوله " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا .. الآية " ،وكل يفيد العموم بلا تخصيص .. ) الدرر السنية 7/97
وقال أيضاً: "وكل من قام بالجهاد في سبيل الله فقد أطاع الله وأدى ما فرضه الله ولا يكون الإمام إلا بالجهاد لا أنه لا يكون جهاد إلا بالإمام" (الدرر السنية 7/97)
هذا ويحسن أن نختم هذه الأقوال بما ذكره العلامة المهدي الوزاني رحمه الله في النوازل الكبرى الجزء الثالث ص 11 ، وهو كتاب يحوي فتاوى علماء المغرب العربي المالكية في النوازل ، وهذه الفتوى للإمام أبو عبدالله سيدي العربي الفاسي رحمه الله ، وما أحسن قوله فيها :
(( وما تهذي به بعض الألسنة في هذه الأزمنة من أنه لا يجوز الجهاد لفقد الإمام وإذنه ، فكلمة أوحاها شيطان الجن إلى شيطان الإنس ، فقرها في إذنه ثم ألقاها على لسانه في زخارف هذيانه ، إغواء للعباد وتثبيطا عن الجهاد )).
ومع أنه ليس للسادة المالكية اختصاص بهذا ، بل هو أمر متفق عليه بين المذاهب ، غير أنه قد أعجبتني هذه الفتوى لما فيها من التفصيل الحسن ، والاستنباط السديد :
وإليكم الفتوى كلها : " أما المسألة الثالثة فلا يتوقف وجوب الجهاد على وجود الإمام ، وعلى إذنه في الجملة ، ومن المعلوم الواضح أن الجهاد مقصد بالنسبة إلى الإمامة التي هي وسيلة له ، لكونه في الغالب العادة لا يحصل على الكمال إلا بها ، فإذا أمكن حصوله دونها لم يبق معنى لتوقفه عليها ، فكيف تترك المقاصد الممكنة لفقد الوسائل المعتادة ، فلو كان الإمام موجودا ، طلب استئذانه ، محافظة على انتظام الأمر واجتماع الكلمة ولزوم الجماعة ، وقد يعرض ما يرجح عدم استئذانه كخوف فوات فرصة لبعد الإمام ، أو كونه غير عدل يخشى أن يغلبه هواه في تفويتها ، فلو كان غير عدل ومنع من الجهاد لغير نظر لم يمتنع الجهاد إن أمن الضرر من جهته ..
فلا يضيع الجهاد إن ضيعه الولاة ، والنصوص المذهبية شاهدة لذلك كله .
قال إمامنا مالك رضي الله عنه : لله تعالى فروض في أرضه لا يسقطها ، وليها إمام أو لم يلها .
وقال ابن القاسم في سماع أبي زيد في قوم سكنوا قرب العدو فيخرجون إليه بغير إذن الإمام ، فيغيرون عليه : وإن كانوا يطمعون في الفرصة وخشوا إن طلبوا ذلك من إمامهم منعهم ، أو يبعد إذنه لهم حتى يفوتهم ما رجوا ، ذلك واسع لهم .
وقال ابن وهب في سماع عبد الملك بن الحسن : وسئل عن قوم يدافعون العدو ، هل لأحد أن يبارز بغير إذن الإمام ؟ فقال : إن كان الإمام عدلا لم يجز أن يبارز إلا بإذنه ، وإن كان غير عدل فليبارز وليقاتل بغير إذنه .
قال ابن رشد : هذا كما قال ، إن الإمام إذا كان غير عدل لم يلزم استيذانه في مبارزة ولا قتال ، إذ قد ينهى عنه على غير وجه نظر .
وإلى هذا التفصيل ونحوه يرجع ما يوجد في هذه المسألة من نصوص المذهب .
وإن كان الجهاد يجوز ـ دون إذن الإمام ـ لما ذكر مع وجوده فكيف لا يجوز مع عدمه البتة.
ومن الواضح أنه إن توقف على وجوده فإنما يتوقف عليه لأجل إذنه ، وعليه فإن كان لا يتوقف على إذنه كان غير متوقف على وجوده .
نعم إقامة الإمام بشروطه ، وجمع الكلمة عليه فرض واجب على الخلق ، كما أن الجهاد فرض أيضا ، والقيام بهما معا مطلوب على الوجوب ، ولكن تضييع فرض واحد منهما أخف من تضييعهما معا ، وأما التوقف على الإمام للإمداد والرجال والمال والعدد فتوقف عادي لاشرعي .
إذ لا يجب شرعا أن لا يجاهد إلا بمال بيت المال ، بل من قدر أن يجاهد بمال نفسه فهو أفضل له ، وأعظم لأجره ، وإن اتفق أن تجمع جماعة من المسلمين مالا لذلك حصل المقصود أيضا .(3/152)
ومن المعلوم في الفقه أن جماعة المسلمين تتنزل منزلة السلطان إذا عدم ، وعليه من الفروع مالا يكاد يحصى ، كمسألة من غاب زوجها وهي في بلد لا سلطان فيه ، فإنها ترفع أمرها إلى عدل من صالحي جيرانها ، فيكشف عن أمرها ويجتهد لها ، ثم تعتد وتتزوج ، لأن الجماعة في بلد لاسلطان فيه تقوم مقام السلطان ، قاله القابسي ، وأبو عمران الفاسي ، وغيرهما من شيوخ المذهب .
مع أن هذا من وظائف الإمام ، أو نائبه الذي هو القاضي ، التي لايباشرها غيره مع وجوده ، ومع ذلك لم يتوقف الأمر فيها على وجوده ، فكيف بالجهاد الذي يصح أن يباشره غيره مع وجوده دون إذنه كما تقدم .
وما تهذي به بعض الألسنة في هذه الأزمنة من أنه لا يجوز الجهاد لفقد الإمام وإذنه ، فكلمة أوحاها شيطان الجن إلى شيطان الإنس ، فقرها في إذنه ثم ألقاها على لسانه في زخارف هذيانه ، إغواء للعباد وتثبيطا عن الجهاد .
وحسبك فيمن يقول ذلك أنه من أعوان الشيطان وإخوانه المعدين في الغي والطغيان ، والذي تشهد له الأدلة أن الجهاد الآن أعظم أجرا من الجهاد مع الإمام ، لأن القيام به الآن عسير ، لا تكاد توجد له أعوان ، ولا يتهيأ له تيسير ، فالقائم به الآن يضاعف أجره ، وينشر في الملأ الاعلى ذكره ، فيكون للواحد أجر سبعين ، ويماثل فاعل الخير الدال عليه والمعين .
وأما المسألة الرابعة ، فلا يجوز أن يباع للكفار الحربيين القوت ولا السلاح ، ولاما يصنع منه السلاح ، ولاما يعظمون به كفرهم ، ونصوص المذهب متظاهرة على ذلك .
قال في المدونة : قال مالك : لا يباع من الحربي سلاح لا سروج ولا نحاس ،قال ابن حبيب : وسواء كانوا في هدنة أو غيرها ، ولا يجوز بيع الطعام منهم في غير الهدنة ، قال الحسن : ومن حمل إليهم الطعام فهو فاسق ، ومن باع منهم السلاح فليس بمؤمن ، ولا يعتذر بالحاجة إلى ذلك ".
انتهت الفتوى .
** وإذا كان الجهاد لا يرجع فيه إلى الإمام إن كان غير عدل ، لانه سيجعله تبعا لهواه ، فيعرض الدين للهلاك ، فكيف إذا كان الحاكم أخا ووليا للكافرين ، محاربا للدين ، فهو يأتمر بأمر الكفار أنفسهم ، ويقرّ معهم أنه لاجهاد إلا بإذنهم ، فليت شعري ، كيف يجعل أمر الجهاد إليه ، وهل يقول بذلك عاقل ؟!
أما إن عُدم الإمام، أو ترك الجهاد، كأن يكون قد عاهد الكفار على ترك الجهاد أبدا ، وهو عهد باطل باتفاق العلماء، أو كان الحاكم لادينياعلمانيا ، لا يؤمن بالتحاكم إلى الشريعة ، أو خشي المسلمون فوات مصلحة إن انتظروا إذن الإمام الشرعي ، أو وقوع مفسدة، أو تعين على طائفة منهم قتال عدو حضر ، فلا يشترط إذن الحاكم ، بل يقيم المجاهدون أميراً منهم ويجاهدون معه .
ومن الأدلة على عدم اشتراط الإمام حديث : (غشيتكم الفتن كقطع الليل المظلم ، أنجى الناس فيها رجل صاحب شاهقة ، يأكل من رسل غنمه ، أو رجل آخذ بعنان فرسه من وراء الدروب ، يأكل من سيفه ) روه الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
كما يدل عليه حديث البخاري بسنده عن جنادة بن أبي أمية قال : " دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض قلنا أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان " .
وهو يدل على وجوب الخروج على الحاكم إن اقترف كفرا بواحا ، ومعلوم أنه في هذا الجهاد يكون الحاكم هو الذي يجب جهاده لخلعه بالقتال ، فكيف يشترط ـ ليت شعري ـ الإمام للجهاد ؟!! ومعلوم أن هذا الجهاد من أفضل الجهاد ، فإذا كانت كلمة الحق عند سلطان جائر أفضل الجهاد ، فكيف بإراحة المسلمين من حكم طاغوت كافر ؟!
هذا وقد علم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وأن الحاكم لا يطاع إن أمر بالمعصية ، فكيف إذا أمر بما هو من أشد المعاصي ضررا على المسلمين ، وإفسادا لدينهم ، وهو ترك الجهاد ، فلا يقول بوجوب طاعته في ذلك إلا جاهل مطموس على بصيرته عافانا الله .
رابعا : الرد على من زعم اشتراط الراية للجهاد :
وليت شعري بأيّ كتاب أم بأيّة سنة جيء بهذا الشرط ، وفي أيّ مذهب ذكر ، وما معناه ، وما ضابطه ، ألا لو كان هذا المتخبط القائل باشتراط الراية ، يفقه في الدين لم يطلق لفظا غير منضبط فيجعله شرطا في عبادة هي ذروة سنام الإسلام ، فمن أين أتوا بهذا الشرط ( الراية ) ، فعلى هذه الراية العفا ، وصفع القفا ، وعلى كل شريعة شرعت بها .
غير أنه من المعلوم ، أنه يجب أن يكون للجهاد هدف شرعي ، ولعمري أي هدف شرعي أوضح من قتال المحتل الصليبي الذي حل بعقر دارنا ، وأي هدف شرعي أوضح من قتال من أعلن أنه يريد تغيير بلاد المسلمين ، كلها ، ليحقق أطماعه وأطماع الصهاينة في بلاد الإسلام ، أي هدف أوضح وأكثر شرعية من قتال الذين يقاتلوننا في كل العالم ، ويحاربون الإسلام في أنحاء المعمورة .
فلم يعد يخفى على مسلم ، أن جميع الحركات الجهادية من فلسطين ، إلى جنوب شرق آسيا ، من كشمير إلى الفلبين تحاربها أمريكا ، وجميع المجاهدين في أفغانستان وما حولها وفي الشيشان ، بل لا ترفع راية جهاد في أي بقعة من الأرض لإعلاء كلمة الله واسترداد حقوق المسلمين ، إلا والأمريكيون الصليبيون يتصدون لها ، ويستعملون من وافقهم من المنافقين من مطاياهم الذين يفتون بتحريم جهادهم .
وليت شعري ألا يعلم هؤلاء المفتون الضالّون المضلّون ، أن الأبطال الذين يقاتلون الأمريكيين في العراق إنما يحمونهم، ويحمون دينهم ، وأعراضهم ، من بقاء هيمنتهم على العالم وعلى شعوبنا الإسلامية .
هذا ولا أحسب هؤلاء الذين يفتون بإبطال الجهاد ، ووجوب الدخول في طاعة الحكومات التي ينصبها المحتل في بلاد الإسلام ، إلاّ يعلمون في قرارة أنفسهم بطلان ما يقولون
ذلك أن الرايات المتواجهة في العراق اليوم ، إنما هي رايتان ، راية الاحتلال ومن يؤيّده ، وراية رفض الاحتلال ومن يقف معها .
الراية الأولى هي راية الصليبيين والرافضة ومن معهم من مرتزقتهم وزنادقة العلمانيين العرب الذين اتخذوا أمريكا ربا وإلها .
والراية الثانية هي راية المقاومة وهو اسم عام يشمل كل رافض لبقاء القوات الصليبية المحتلة في العراق ، وهي في أوساط أهل السنة عامة، ويتقدم هذه الراية المجاهدون .
والهدف واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ، وهو إخراج المحتل الصليبي من بلاد الإسلام ، وحماية المسلمين من بقاءه وتمكنه فيها ، لأنّ كل يوم جديد يبقى المحتل في العراق ، فإنه يتمكّن من إنجاح مخططه الواسع الأشد خطرا على أمتنا الإسلامية من كلّ ما مضى منذ عقود ، وهو مشروع القرن الأمريكي ، الذي صيغ ليعيد تشكيل المنطقة كلّها وفق متطلبات الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي الجديد .
ومن المعلوم أنه حتى في الجهاد الأفغاني الماضي ، ضدّ الغزو السوفيتي في أفغانستان ـ مع أن الاحتلال السوفيتي لم يدخل في حرب أطاح فيها بنظام الحكم وأصبح قوة احتلال ، بل بناء على طلب " نجيب الله " وفق معاهدة من حكومته ، التي يسمّي هؤلاء المفتون مثلها في العراق " حكومة ولي الأمر " !! ـ قد كانت الجبهات الجهادية كلها تقاتل ضد نظام " نجيب الله " الموالي للسوفيت ، وضد الجيش السوفيتي في أفغانستان ، على حد سواء .(3/153)
كما يحدث في العراق تماما ، وكانت الجبهات في الجهاد الأفغاني ، متعددة الاتجاهات ، مختلفة العقائد ، ففيهم حتى القبوريين ، وغلاة أهل الشرك والتصوف الفلسفي ، غير أن الفتاوى كلها ، كانت تدعوا إلى توحيد المواجهة مع العدو ، وأن اختلاف الجبهات لا ينبغي أن يشتت الهدف المشترك ، وهو طرد الروس من أفغانستان .
ولم يكن أحد في ذلك اليوم ، يتحدث عن تحريم قتال جنود ولي الأمر " نجيب الله " الذي كان يظهر ـ كما أذكر ذلك ـ في صور تنشرها بعض صحفنا الاشتراكية آنذاك ـ في الكويت ـ وهو يصلي ويدعو رافعا يديه ، وتصور تلك الصحف الخارجين عليه بأنهم خوارج بغاة ، يرضون سادتهم الأمريكيين بالقتال ضد من استنجد بالروس حلفاءه ليقمع المتمردين الإرهابيين الخوارج !! .
وكان الحكم الشرعي في الجهاد الأفغاني لا يختلف فيه اثنان ، فالاحتلال الكافر ، احتلال يجب جهاده ، ولا يغير هذا الحكم ، كونه نصب حكومة موالية له ، ولا تعدد جبهات القتال ضده ، واختلاف الرايات .
وكذلك كان الأمر في احتلال القرن الماضي لبلادنا الإسلامية ، كان الاحتلال ينصب الحكومات ، ويتخذ من أهل البلاد الجند والشرط من المسلمين ـ أو كانوا مسلمين قبل أن يوالوا المحتل ـ ولم يكن في علماء المسلمين من ينكر جهاد المحتل ومن والاه .
بل كان كل من يقوم بالجهاد ومقاومة المحتل محمود في الأمة ، وجهاده مشكور ، ومن يحرض على قتال المحتلين من العلماء يعظم في نفوسهم مكرّما ، وينصبونه بينهم مقدّما ، رغم كون الرايات المحاربة لاحتلال القرن الماضي ، أشد اختلافا ، وأعظم تباينا، فقد كان فيها الرايات الإسلامية ، والعلمانية ، وغيرها .
كما أن الجهاد اليوم في فلسطين ، تختلف فيه الرايات أيضا ، غير أن القتال كله يتوجه إلى هدف واضح ، هو دحر الصهاينة عن بلاد المسلمين ، وإفشال مخططهم الخبيث واجتثاث سرطانهم المزروع في بلاد الإسلام ، وذلك لإنقاذ الأمّة الإسلامية ، مع احتمال أن يستفيد من بعض ثمرات الجهاد ، بعض الرايات العلمانية .
ولم يقل عاقل قط ، فضلا عن عالم بالشرع ، أن الجهاد في فلسطين حجر محجور ، وعمل محظور ، ويحرم على المسلمين أن يقاتلوا اليهود المحتلين ، حتى يأتي اليوم الذي يتوحد الفلسطينيون تحت راية إسلاميّة سنيّة واحدة ، ولو قال هذا مغفل لقدم أكبر خدمة للاحتلال .
والحاصل أن اتفاق المسلمين مع غيرهم على قتال عدوّ يراه الطرفان خطرا عليهما ، وفي دحره وإفشال مخططاته ، دفع خطر عام على أمة الإسلام ، لا ينكره إلاّ جاهل ، وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلمين يقاتلون والروم عدوا من وراءهم في آخر الزمان ، فليس في هذا ما يخالف الشرع مادامت المصلحة في عاقبة القتال أرجح .
ومعلوم أن الأمريكيين أشدّ ما يخافون مما يفشل مشروعهم في العراق ، هو دخول المقاتلين عليهم من خارجها ، فهم يريدون أن يستفردوا بالعراق ، ويحولوه إلى سجن كبير ، يفعلون فيها ما يشاؤون وهم في أمن من أي معكّر خارجي .
حتى إذا انتهوا من الاستقرار التام فيه ، وباضوا وفرخوا في ربوعه ، انتقلوا إلى مايليه من بلاد الإسلام ، ولهذا فهم يفرضون اليوم حتى على بعض العلماء ـ بواسطة حكومات المنطقةـ أن يخدموا العلم الأمريكي ، ويسيروا في ركابه ، حتى تحط رحال الصليب في كلّ العواصم ، فتُنزل بأمّة الإسلام كلّ قاصم .
ويبدو واضحا لكل ذي بصيرة أن الضغط الأمريكي على حكوماتنا هو الذي بات يوجّه بعض الفتاوى الشرعية المنكوسة التي أشبه بهذيان المنافقين والزنادقة ، أو أقوال الفئات الضالة المارقة .
وهذا وإن كان لا يحدث دائما بأسلوب مباشر ، غير أنه يمر عبر مراحل تنتهي بتوجيه الفتوى لصالح السياسة الأمريكية المفروضة على دولنا شاءت أم أبت .
وكأنّك ترى لو كان الروس هم الذين احتلوا العراق أو أي دولة أخرى تنافس أمريكا ، كأنك ترى المتحمّسين اليوم للفتاوى المخذلة لإخوانهم المجاهدين في العراق ، متجاوزين كل المعوقات ، متعامين عن كل شبهة ، يفتون بلا خوف من سلطان ، ولا جزع من جلاد أو سجان ، بوجوب الجهاد كما كانوا يفتون أيام الجهاد الأفغاني ، في سبيل إرضاء السياسة الأمريكية ، ولأصبح الجهاد في العراق أعظم من كل جهاد ، والمحرضون عليه جهابذة العلماء ، ليسوا خوارج ولا بغاة .
فسبحانك اللهم ، سبحانك مقلب القلوب والأبصار ، ثبت قلوبنا على دينك ، وثبت عقولنا ، ونجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفرنا لنا وارحمنا وأنت غير الغافرين "
هذا وينبغي أن يعلم أن ما ينتشر هذه الأيام من إضافة شروط للجهاد ، ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا دل عليها سنة ولا قرآن ، سببه هذا الانهزام الذي يملأ أرجاء صدور المنهزمين في حالة الغثائية التي تعيشها الأمة المستوليّه عليها أمم الكفر ، وأولياؤهم .
وإن تعجبْ فعجبٌ أن هؤلاء المنهزمين عكسوا الأمر الذي دلت عليه شريعة العزة ، لتحصيل أسباب العزة ، بينما أقامه أعداء الإسلام !
فالشريعة الإسلامية وضعت شروطا لمن يتولّى أمر المسلمين , وقيّدت سلطانه ، وجعلته نائبا عن الأمة يقوم بأمرين أساسين :
أحدهما : إقامة الشرع في ديار الإسلام ، إذ هو لم يُنصب إماما إلا لهذا الغرض العظيم ، كما قال تعالى " الذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر " ، فذكر قيامهم بالدين في أنفسهم بالصلاة التي هي رأس العبادات البدنيّة ، والزكاة التي هي رأس العبادات الماليّة ، وإقامتهم للدين في بلادهم وأرضهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والثاني : حماية أرض المسلمين من دخول جيوش الكفار إليها ، بإقامة الثغور وهي كلمة عامة تشمل امتلاك سلاح الردع الذي يخيف الكفار من الطمع في بلاد الإسلام ، كما دل على ذلك قوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) ، وإقامة جهاد الطلب الذي يسمّيه الكفّار اليوم الحرب الوقائيّة ، وتعني منع أي قوة تطلب الاستعلاء في الأرض غيرهم ، لتبقى لهم الهيمنة على جميع الأمم !!
هكذا قيّدت الشريعة منصب " ولي الأمر " ، ولم تجعله بلا شروط كما هو لسان حال المفترين على الإسلام ، هذه الأيّام ، فلمْ تجعله بحيث يكون كلّ من تسلّط على رقاب المسلمين ، فله الحق المطلق أن يفعل ما شاء ، وكلّ اعتراض عليه فتنة هي اشد من فتنة علو الكفار على بلاد الإسلام ، فهذا من أبطل الباطل !!
بينما ـ من جهة أخرى ـ قد خففت الشريعة المطهّرة شروط الجهاد ، تشوّفاً لمصالحه الكثيرة التي يثمرها ، ولهذا أباحته مع كل بر وفاجر ، وأباحت ما يذكر في مسالة التترس ونحوها مما يوسع في الفقهاء الباب مراعاة لتحقيق مصالح الجهاد العظيمة النفع على الأمة ، وأباحت فيه الكذب ، والخيلاء ، ولبس الحرير ، ومنعت إقامة الحدود في الجهاد ، بينما كان منعها في غيره من أعظم الجرائم التي يرتكبها الإمام ، بل هي سبب الهلاك ، بل إقامتها على الضعيف دون الشريف هو سبب الهلاك كما في الحديث " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد " .
كما جعلت الشريعة ، جهاد الدفع بلا شروط أصلا ، حتى إن المرأة لها أن تنفر فيه ، وجعلت جهاد الطلب قائما لا يسقطه عدم قيام الإمام به كما سيأتي بيانه .(3/154)
كل ذلك تحقيقا للقاعدة القرآنية العظيمة : ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم للتهلكة ) ومعلوم أن معناها ، أنفقوا أرواحكم وأموالهم في الجهاد ، وإلا فسوف تكون الهلكة عليكم ، كما دل على هذا المعنى الحق ، نصوص كثيرة ، والواقع ، وسنن الله الكونية التي أقام عليها الحياة الدنيا .
أما هؤلاء المنهزمون ، فقد عكسوا الأمر ، فقد أزالوا كل الشروط التي وضعتها الشريعة لمن يتولى أمر المسلمين ، وقيّدوا الجهاد بشروط ما أنزل الله بها من سلطان .
وبعد هذا ، فلا يخفى أن ذلك إنما وقع منهم ، تحت ضغط داء الإنهزاميّة ، وتحت وطأة الشعور بهذا الرقّ العصري ، رقّ الأنظمة المستبدة التي غدت تفرض على العالم والمفكّر ، حتى ما ينطق به لسانه ، وفق ما يطلبه أعداء الإسلام ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
بينما تجد الكفار الذين حلّوا ديار الإسلام غازين ، واستباحوها مفسدين ، وأعلنوا فيه الكفر المستبين ، تجدهم قد أقاموا هذين الأمرين بما يحقق لهم الظهور والاستعلاء .
فقد وضعوا لمن يتولّى عليهم شروطا ، تضمن تحققيه لمصالح شعوبهم ، وقوة دولهم ، فإن حاد عنها ، استبدلوا غيره به .
أما حروبهم وأسباب قوتهم العسكريّة ، فقد خففوا من شروطها ، ليضمنوا تحقيقها لإستعلاءهم ، فإن عارضت حروبهم الأمم المتحدة المزعومة ، نبذوها وراء ظهورهم ، ومضوا في الحرب ، وإن اقتضت حربهم إبادة الأبرياء ، لم يلتفتوا إلى إهراق دماءهم ولو أهرقوها أنهارا تجري ، كما فعلوا في العراق ، وإن اقتضت أن يكذبوا كذبوا وزوّرا الحقائق ، وإن اقتضت أن يمتلكوا السلاح النووي المدمّر ، أو يملئوا الأرض من الإشعاعات المضرة ، فلا يبالون بما تأتي به من دمار للبشرية.
ذلك أنهم يعلمون أن التفوق على الأمم ، والعزة في الأرض ، لا تأتي إلا بإقامة السلطان الذي تتوفر فيه شروط إقامة التفوق والعزّة ، وبالقوة الضاربة التي تضمن ذلك .
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا البصيرة في الدين ، وأن يعيد لهذه الأمّة العظيمة ، الوعي الصحيح بشريعتها التي تحملّها مسؤوليّة عالمية ، والعزيمة على القيام بواجبها العالمي .
خاتمة في التحذير من تولي الكافرين والرضا بعلوهم على بلاد المسلمين طمعا في حفظ الدنيا ولو فسد الدين :
هذا ومن الواضح أن سبب هذه الفتاوى المضلّة التي انتشرت على بعض الفضائيات ، هو تهوين أمر الركون إلى الكفار ، والاستخفاف بحكمهم واستيلاءهم على بلاد الإسلام ، وإيثار نهج السلامة ، والبقاء في حياة الرفاه ، والاستمتاع بمتاع الحياة الدنيا ، ولو على حساب فساد الدين ، وإفساد المسلمين ، مع أن ذلك من شأنه أن يذهب الدين والدنيا ، ولكنهم لايعقلون.
ولما كان هذه الفتنة تتكرر ، كلما حلّت جيوش الكفر بلاد الإسلام ، فمن المناسب ، أن ننقل فتوى العلامة سيدي محمد بن مصطفى الطرابلسي ، في التحذير من الركون إلى دول الكفر ، وبيان عاقبة ذلك على دين المسلم ، لما حدث ذلك إبّان الاحتلال الصليبي في القرن الماضي .
قال العلامة المهدي الوزاني في النوازل الكبرى 3/72ـ78 : " ذلك أنه سئل العلامة سيدي محمد بن مصطفى الطرابلسي ، لما شاع وكثر في هذه الأزمنة من احتماء المسلمين بالكفار بعد نقضهم البيعة الإسلامية ، بحيث يكون حكمهم كحكم رعاياهم الأصليين ، إذا وقعت لهم حادثة التجأوا إليهم ، واشتكوا إليهم ، وإذا طلبوا أمراء الإسلام يمتنعون ، ويقولون : نحن تحت حماية الدولة الفلانية ، وإذا جلب إلى محكمة أهل الإسلام ، يحضر معه رجل من طرف الحكومة الأجنبية ، هل يجوز هذا في الشرع الشريف ؟
فأجاب : لا يجوز هذا الصنيع القبيح السيء في الشريعة المنورة ، بل هو حرام ، بل قيل : إنه كفر ، وشهد له ظاهر قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بضعهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ، وكذا ما بعد هذه الآية من قوله تعالى " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " ، فهي صريحة في أنه لا يفعل ذلك إلا من كان في قلبه مرض ونفاق والعياذ بالله . وكذلك ظاهر قوله " ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء " ، أي فليس من ولاية الله في شيء ، فظاهره أنه انسلخ من ولاية الله رأسا ،
وقد قال تعالى في حق المؤمنين : " الله ولي الذين آمنوا " . فمن انسلخ من ولايته تعالى فلا يكون الله وليه ، فلا يكون مؤمنا .
وكذلك قوله تعالى " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " ، ثم بين المنافقين بقوله تعالى " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ، ثم قال " أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ".
والآيات والأحاديث في هذا الشأن كثيرة ، وهؤلاء المحتمون أشد ضررا على المسلمين من الكفار الأصليين .
ثم قال : فهذا وقد ألّف في هذه الحادثة ، سيدي علي الميلي رسالة شدد فيها النكير على من يفعل هذا الفعل ، قال : فلا يجوز القدوم عليه ولو خاف على ماله أو بدنه ، لأن المحافظة على الدين مقدمة عليهما .
ومن القواعد الأصولية :" إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما" .
ومنها قولهم : مصيبة في الأموال ولا مصيبة في الأبدان ، ومصيبة في الأبدان ولا مصيبة في الأديان " فالمؤمن رأس ماله ، وأعز شيء عنده دينه ، فهو مقدم على كل شيء " انتهى النقل عن النوازل الكبرى .
ومن يتأمل كلام هؤلاء المتخبّطين بغير علم ، يرى أنهم يعكسون تماما دلالة قوله تعالى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "
فالله تعالى جعل الكفر والصد عن سبيل الله ، هو الفتنة ، وهي أشد من القتل ، وهؤلاء يجعلون حتى الأذى ، ونقص الرزق ، وذهاب الأمن ، وليس القتل ، أشد عليهم من الفتنة في الدين . وهم مع ذلك لم يتدبروا حقا قوله تعالى " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا " ، أي أن الكفار إنما يجعلون قوتهم العسكرية ، وسيلة يتوسلون بها إلى ارتداد المسلمين عن دينهم ، لأن الشيطان هو الذي يقودهم ويأزهم على المؤمنين .
والعجب أنّهم كأنّهم يظنّون ظنّ السوء بربهم ، أنّهم إنْ هم أطاعوه لم يرزقهم على طاعته ، وإن عصوه فصاروا تحت حماية الكفار رزقهم على معصيته ! فتأمّل كيف لبّس عليهم الشيطان ، فظنّوا أنّ في تحالفهم مع أشد الناس كفراً وعداوة للمؤمنين ، أمناً واستقراراً ورفاهاً .
كما حكى الله تعالى عن الذين في قلوبهم مرض قولهم : " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين "(3/155)
وصار مثلهم كما وصف الله تعالى : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " . فهؤلاء الذين يعبدون الله على حرف ، إنما يريدون نصر الدين بشرط أن لا يصيب دنياهم شيء ، فإن خافوا على دنياهم ، لجئوا إلى الكافر فارتموا في أحضانه ، وإن علموا أن في ذلك فسادا عظيما في دينهم ، قد فتنهم حب الدنيا ، فأوردهم هذه المهلكة .
وهم يتذرّعون بأن هؤلاء الكفار الصليبيين يتركون المسلمين يصلون ، ويصومون ، ويحجّون ، ويزكّون ، فليس في موالاتهم ضرر على الدين ، وينسون ، أو يتناسون أن في استعلاء الكفار بثقافتهم ، وأخلاقهم ، وسياساتهم ، واقتصادهم ، فسادُ عامُ عريض دائم يجتث الأجيال ، ويوقعهم تحت تأثير استلاب الكفار للشخصية الإسلامية في أبناء المسلمين ، وتحطيم الهوية الإسلامية ، وتغيير جذري في معالم الإيمان ، واستبدال الثقافة والقيم الغربية التائهة المنحلة بعقيدة الإسلام وأخلاقه ، وأن هذا واقع لا محالة وضرره شامل مستمر وبالغ الخطورة على عموم الأمة .
لكنهم مع ذلك يستروحون إلى طلب الراحة ، والرفاه ، والتوسع في الأموال والتجارات ، تحت ظلّ الكافر ، على حساب عقيدتهم ودينهم .
ويتذرعون أحيانا بالخوف والخطر على الوطن ، وقد حوّلوه إلى صنم ، يحلُّون من أجله الحرام ، ويحرِّمون الحلال ، ويعقدون الولاء والبراء عليه ، ويقدّمون توفير دنياهم فيه ، على صلاح دينهم .
وفي هذه الفتنة أنزل الله تعالى : " ألم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " . وإنما هم في هذه الفتنة : " قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأبناؤكم وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " .
وهؤلاء بدل أن يجعلوا هذه الفتنة أشد من القتل ، فيفروا منها ولو إلى الموت ، ليرزقهم الله تعالى حياة الشهداء ، بدل أن يفعلوا ذلك ، ليسلكوا سبيل المؤمنين من قبلهم ، فرّوا من مجرد الأذى ـ وليس من الموت ـ إلى الفتنة ، فاركسوا فيها ، واستعملهم الله تعالى في أشدّ مساخطه وهو تسخير أشد أعداءه الذين يبغضهم ، وهم اليهود والنصارى ، تسخيرهم لهؤلاء المفتونين ، يؤيدون خطط الأمريكيين الصليبين في بلاد الإسلام ، ويفتون الناس بأن هؤلاء الصليبين إنما هو مصلحون ، فيضلون ، ويُضلون الخلق ، فنعوذ بالله تعالى أن يستعملنا في مساخطه .
أما قولهم : إنهم متبعون للمصالح الشرعية الراجحة ، أو أنهم يدرءون المفاسد والمضار ، فهو من تلبيس الشيطان ، فمفسدة تأييد استعلاء الكفار على بلاد المسلمين ، من أعظم المفاسد على الدين ، غير أن هؤلاء جعلوا أهواءهم هي المعيار الذي يرجحون به بين المفاسد والمصالح .
كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله : " المصالح المجتلبة شرعا ، والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى ، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ، أو درء مفاسدها العادية ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : ما سيأتي ذكره ـ إن شاء الله ـ أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم ، حتى يكونوا عبادا لله ، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس ، طلب منافعها العاجلة كيف كانت ، وقد قال ربنا سبحانه " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن " .
الثاني : ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة ، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع ، كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة الإحياء ، بحيث إذا دار الأمر بين أحياءها وإتلاف المال عليها ، أو إتلافها وإحياء المال ، كان إحياؤها أولى ، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين ، كان إحياء الدين أولى ، وإن أدى إلى إماتتها ، كما جاء في جهاد الكفار ، وقتل المرتد ، وغير ذلك ، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا ، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى " الموافقات 2/39
والعجب أن هؤلاء المفتونين ، عكسوا ما أراده الله منهم ، فقد أمرهم بالتزام شريعته ، وتكفّل لهم برزقهم وقدّر آجالهم ، فكان همّهم أرزاقهم ، وآجالهم ، التي تكفل الله بها ، فلا تزيد ولا تنقص ، وأهملوا دينهم الذي أمرهم الله تعالى بحفظه ، وظنوا أن رضاهم بعلوّ الكافر عليهم ، وتحالفهم معه ، سيكون سببا في انبساط الدنيا لهم ، وحلول الأمن عليهم .
ونسوا أن الله تعالى يملي للكافر الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، وأن الله تعالى مهلك هذه الدولة الكافرة الطاغية أمريكا ، كما أهلك الذين من قبلهم ، ولهذا حذّر من اتخاذ الكافرين أولياء ،
كما قال تعالى بعدما ذكر إهلاك الأمم في سورة العنكبوت : " فَكُلاَّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " وقد فتنتهم هذه الدولة الكافرة الطاغية أمريكا ، وهالهم تقلبها في الأرض ،
ونسوا قوله تعالى " لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ " .
ونسوا سنة الله تعالى في الطغاة ، وأنها سنة لا تتبدل ولا تتغير : كما قال تعالى : " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يستهزؤون * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ "
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمدوعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا ، وإليك المصير
===============
الأقلّيات الإسلاميّة.. واغتيال الهُويّة الثقافيّة
شذى شريف 2/4/1427
30/04/2006(3/156)
يعاني المسلمون في مختلف أنحاء الأرض -حيثما وُجدت الحكومات المستعبدة المتطرفة في بلدان الغرب وآسيا وأمريكا- من اضطهاد وتفرقة عنصرية على المستوى الشعبي من المتطرفين وعلى المستوى الحكومي، هذا إلى جانب خطر أكبر يهدد هذه الجاليات على مستوى أنحاء العالم، وهو محو الهوية الإسلامية في ظل إعلام غربي يرسخ لمبادئ الانحلال وإعلام عربي وإسلامي ضعيف لا يصل إلى الطوائف المسلمة أينما كانت.
ويبلغ عدد المسلمين الذين يقطنون الدول غير العضو في منظمة المؤتمر الإسلامي نحو (450) مليون مسلم على مستوى قارات العالم الست، وهو ما يقدر بثلث عدد المسلمين، وعلى وجه التحديد يزيد عدد المسلمين في دول الغرب عن (25) مليون نسمة، يعيش منهم (16) مليون مسلم في أوربا ـ عدا ألبانيا والبوسنة حيث المسلمون أكثرية ـ و(8) ملايين مسلم في الأمريكيتين، وحوالي نصف مليون مسلم في استراليا.
محو الهوية!
تواجه الأقليات المسلمة السابق ذكرها محاولات ـ سواء بشكل مقصود أو عفوي ـ لمحو الهوية، أو ما يسميها البعض باغتيال الهوية، لما في هذا الأمر من نية مدبرة من قبل الغرب، وتشمل هذه التحديات المستويات الثقافية والاجتماعية والإعلامية والتربوية والتعليمية. ويكون الاغتيال الاجتماعي عن طريق بث العادات والتقاليد الغربية التي تتسم بقدر كبير من التسيّب، والذي يتنافى مع الدين الإسلامي ويتنافى مع واقع الأسرة المسلمة وعلاقات أبنائها مع بعضهم، والعلاقات الاجتماعية داخل الأقلّيات، وعلاقاتها بالوسط الذي تعيش فيه.
بالإضافة إلى التفكك الأسري، الأمر الذي يؤدي إلى انحراف الأبناء دينياً وسلوكياً، وتمردهم على الأعراف الأسرية والاجتماعية الإسلامية، وقد يجد الأبناء في الصداقات مع أبناء غير المسلمين ملجأ للهروب من ضغوطات البيت.
أما الاغتيال الثقافي فيكون عن طريق اقتلاع التاريخ الإسلامي من الواقع وتحويله إلى مجرد ذكرى مشوّهة في عقولهم، وتستند حكومات الغرب في القيام بهذا الدور إلى إعلام قوي يمكنها من بثّ السم في عقول وحياة الجاليات المسلمة التي ترى من المجتمع ما يكفي لمسخ هويتها الثقافية وتحويلها إلى مجرد ثقافة ممسوخة أخذت من الغرب كل شيء وتحوّلت إلى صورة مماثلة.
تفرض بعض الدول على الأقليات المسلمة وضع مقطع زيادة على أسمائهم العربية لتشويهها؛ فعلى سبيل المثال أحمد يتحول إلى أحمدوف وعلي إلى علييف
وتعتمد ثقافة مسلم التربوية والتعليمية على المصادر الثقافية الإسلامية، وفي مقدمتها القرآن الكريم والسنة الشريفة، وبالطبع مفتاح هذه المصادر هو اللغة العربية، وهنا تكمن مشكلة خطيرة؛ إذ إن الأجيال القادمة بين هذه الأقليات تفتقد إلى عنصر هام جداً، وهو اللغة التي يمكنهم بها أن يتعرفوا على تعاليم الإسلام وأخلاقه عن طريق دراسة قرآنه وسنته، وهي اللغة العربية؛ إذ غالباً ما يتعلمون باللغة الأم للبلد الذي يعيشون فيه، مما يترتب على هذا جهلاً حقيقياً في فهم الإسلام ، وتمتد الخطورة هنا إلى العقيدة نفسها وليس الهوية فقط .
حملة منظمة!
وتعمل سلطات البلدان الغربية بأساليب مدروسة ومخططة لمحو الثقافة؛ إذ تعمل دول أوروبا الشرقية على سبيل المثال على القضاء على الأسماء العربية ومنع استخدامها بقوة القانون; لأنها تعتقد أن الشخص الذي يحمل اسم أحمد أو علي يعني بقاء ارتباطه بالإسلام أي المحافظة على الحد الأدنى من الانتماء الثقافي للإسلام، فتعمد تلك السلطات إلى تغيير هذه الأسماء وتعريض من يخالف للعقوبة. في حين تفرض بعض الدول على الأقليات المسلمة وضع مقطع زيادة على أسمائهم العربية لتشويهها؛ فعلى سبيل المثال أحمد يتحول إلى أحمدوف وعلي إلى علييف.
بالإضافة إلى أن بعض تلك الدول تلجأ إلى طمس أي مظهر من مظاهر الإسلام
كحملتها المنظمة على الحجاب مثلاً، والتي شنتها فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية تحت مزاعم الإرهاب، إلى جانب هولندا التي شرعت قانوناً لحظر النقاب ودفع المسلمين في اتجاه الأعراف، والتقاليد الاجتماعية السائدة في البلدان الغربية في سلوكيات غير شرعية لدى الأقلّيات المسلمة فيها محاكاة لتلك الأعراف، وفي مقدمتها موضوع الاختلاط والانفتاح بين الرجال والنساء في كل الأماكن والأزمان.
العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة ينتهج خطوات تسعى إلى إحداث الفرقة تمهيداً للتدخل العسكري
ويدخل في السياق نفسه التبرج والسفور وتسويغ الكثير من المحرّمات الأخرى، كشرب وأكل أطعمة ولحوم غير حلال ، وكذلك الجوانب الحقوقية المتمثلة في قضايا الزواج (الشرعي) والإرث وغيرها مما يرتبط بالقوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية. فكثير من البلدان الغربية تفرض على المسلمين القوانين المدنية الوضعية التي يتعارض الكثير منها مع الشرع الإسلامي، ودون شك فإن الانتماء بالجنسية للبلد الغربي سيترتب عليه الالتزام بقوانين هذا البلد بمختلف ألوانها ومضامينها، الأمر الذي يوجد هذه الإشكالية، أي إشكالية الانتماء بالجنسية للبلد الغربي والانتماء بالعقيدة للإسلام وما يترتب على ذلك من خصوصيات.
مهمة إسلامية
وفي ظل ما يواجهه المسلمون من تحديات فيما وراء البحار كان لزاماً على الدول الإسلامية أن تقوم بدور فعّال في بثّ الثقافة الإسلامية إلى هذه الأقلّيات عبر وسائل الإعلام، وعلى شكل كتب تعليمية أو عامة ومجلات وأشرطة سمعية وبصرية وغيرها، ولاسيما تلك المعدّة خصيصاً لمخاطبة الأقلّيات المسلمة في الغرب، إضافة إلى إنشاء مشاريع في دول الغرب نفسها تقوم بمهمة الإنتاج، أو الترجمة كحد أدنى، وصولاً إلى إنشاء إذاعات ومحطات تلفازية ووكالات أنباء خاصة لبث الأخبار الإسلامية بديلاً عن وكالات الأنباء ومصادر الأخبار ووسائل الإعلام التي تشرف عليها وتمولها الدول الغربية.
وكذلك الاهتمام بإعداد الكوادر الإعلامية من أبناء الأقلّيات لسد أي فراغ محتمل في هذا المجال، على أن تتم هذه النشاطات ـ بالنظر لخطورة رسالتها وتأثيرها -تحت إشراف أساتذة وعلماء كمرجعيات في الجانب الشرعي.
ومن المثير للدهشة أن الغرب يستهدف الإساءة إلى الإسلام بأكثر من وسيلة، ويطمح إلى محو الهوية العربية الإسلامية حتى يستبدل بها النموذج الغربي. يقول أحد الكتاب العرب: إن العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة ينتهج خطوات تسعى إلى إحداث الفرقة تمهيداً للتدخل العسكري؛ إذ تحوّلت "الحرب الثقافية إلى حرب عسكرية أفضت إلى احتلال أفغانستان والعراق والطموح إلى غزو دول أخرى كسوريا".
ومن هنا يتضح أن المسلمين يواجهون حملة منظمة يقودها الغرب وغير المسلمين تتطلب الحذر والانتباه، مما يضع على عاتقهم مواجهة هذه الحملة التي جاءت إلى ديارهم إلى جانب وضع آليات للحفاظ على هوية الأقليات
================
مسلمو البرازيل مهددون بالذوبان وفقدان الهوية
18/5/1423
28/07/2002
الإسلام اليوم - كتب عبد الرحمن محمد :(3/157)
للتعرف علي أحوال المسلمين بالبرازيل ومشاكلهم وما يعانونه في سبيل الحفاظ علي هويتهم الإسلامية التقينا بالدكتور حلمي محمد نصر أستاذ الدراسات العربية بجامعة ساوباولو بالبرازيل ورئيس الوفد الإسلامي الذي زار مصر مؤخرا للمشاركة في مؤتمر " الإسلام في عالم متغير"حيث أكد الدكتور حلمي أن المسلمين في البرازيل استطاعوا بعد عناء طويل تكوين كيان إسلامي متماسك تمثل في عدد من المساجد الكبرى والمدارس الإسلامية إلا أن ذلك ليس كافيا لنشر الإسلام الصحيح هناك مشيرا إلى أن أول مسجد تم بناؤه في البرازيل في ساوباولو في الثلاثينات من القرن الماضي اشتريت أرضه في عام 1935 ووضع حجر أساسه في عام 1948 واكتمل بناؤه عام 1960 وذلك لوجود صعوبات شديدة في جمع تكاليف البناء من هنا وهناك وعندما تم بناء المسجد ظهر كيان الأقلية المسلمة في البرازيل واتسع نشاطها فأخذوا في بناء مدرسة إسلامية ثم حصلت الجمعية الخيرية الإسلامية على أرض من الحكومة لتكوين مقبرة للمسلمين ثم انتقل هذا النشاط إلى ولايات أخرى من البرازيل فتعددت المساجد وكثرت الجمعيات الإسلامية وبنيت مساجد في كورتييبا ، واراتجوا ، وكويابا ، ولندربنا .
في السنوات الأخيرة بنيت مساجد في برازيليا وسان ميجيل وحونديانى وبريتوس وعواروليوس وسنتوس وريودي جانيرو وسان مرنا ودوودوكامبو وهذه كلها جمعيات تخدم مسلمي البرازيل الذين يزيدون عن مليون نسمة معظمهم من أصول شامية .
وأضاف رئيس الوفد الإسلامي للبرازيل أما بالنسبة للمدارس ، ففي أوائل الستينات من القرن الماضي فقد بنيت أول مدرسية إسلامية في " فيلا كارون " حيث كان هناك جمع كبير من الأسر المسلمة وقد بدأت المدرسة بنجاح نسبي كبير ولكن لم تستطع مدرسة واحدة أن تسد احتياجات كثيرة من أبناء المسلمين ثم أقيمت مدرسة في كورتييبا وفصول عدة في أماكن أخرى لتعليم اللغة والدين رغم أن النتيجة دائما كانت أقل مما يرجى
" ضياع الأجيال المسلمة "
وعن حالة التعليم الديني واللغة العربية في البرازيل قال د. حلمى نصر أن حالة التعليم الديني واللغة العربية لا تبعث على التفاؤل وليس هذا عن تقصير من الجالية, ولكن الظروف كلها غير ملائمة لتحقيق الهدف فباستثناء المدرسة الأولى في فيلا كارون لا توجد مدارس بالمعنى الكامل لتعليم الدين واللغة العربية إنما هي فصول محدودة تقوم بهذا العمل في إمكانيات ضيقة ثم إن الالتحاق بهذه الفصول ليس سهلا على كل أبناء المسلمين بسبب البعد الشاسع وبسبب المواصلات الصعبة خصوصا لدى الأطفال ومن هنا اقتصرت هذه الفصول على أولاد المسلمين الذين يسكنون قريبا منها وتكون النتيجة على العموم غير مرضية فلو فرضنا أن في ساوباولو آلافا من الأطفال وأحصينا من يترددون منهم على فصول اللغة العربية والذين وجدناهم لا يتجاوزون بعض المئات ، بالإضافة إلى نقص في عدد المدرسين المتخصصين وعدم وجود الطرق الحديثة لتعليم اللغات من وسائل سمعية وبصرية وعدم وجود الكتب المشوقة للأطفال أدركنا مقدار الصعوبات التي تواجه الجالية الإسلامية في تعليم الأولاد وأدركنا مدى الضياع التي تتعرض له الأجيال الجديدة من ناحية الدين واللغة .
" غائبون إعلاميا "
وردا على تساؤل حول الوجود الإعلامي للطائفة الإسلامية في البرازيل أكد د. نصر أنه لا يوجد للطائفة الإسلامية الآن أي نوع من وسائل الإعلام فليس لنا جريدة تنقل أخبار الطائفة وتوثق الصلات بين أفرادها الموجودين في جميع أطراف البلاد وعرضها وبذلك فلا يعلم المسلم ما يحدث لأبناء دينه من ميلاد أو زواج أو موت أو قدوم أو سفر ، كما لا يعلم المسلم ماذا يجرى في بلاده إلا ما يقرأ من أخبار عن طريق وكالات الأنباء وكثيرا ما تصل محرفة ولكن توجد لنا مجلة تنشر المقالات عن الإسلام وعظمته وترد على الافتراءات التي ينشرها المغرضون وترفع صوت المسلمين بين طبقات الشعب البرازيلي ،فأكثر البرازيليين لا يعلمون شيئا عن الإسلام إلا ما يصلهم من مصادر مضللة وما يسمعونه من أخبار مشوهة .
وطالب د. نصر بعمل إحصاء شامل عن الأقلية المسلمة في أمريكا الجنوبية على العموم وفي البرازيل على وجه الخصوص حتى يمكن دراسة كيانهم وإعداد مناهج لمعاونتهم وتقويتهم في الوسط الذي يعيشون فيه والتوسع في بناء مدارس حسب توزيع السكان وكذلك بإقامة معاهد خاصة لتخريج الدعاة للبلاد الأجنبية ولابد من إتقان لغة البلاد التي يرسلون إليها ليتمكنوا من الحديث المباشر مع أبناء الطائفة التي يبعثون إليها كما ينبغي أن يلموا بدراسات الأديان المقارنة حتى يمكنهم - عن عمق - دحض الآراء الباطلة التي تظهر من وقت لآخر ضد الإسلام ومبادئه وأهمية تزويد المسلمين في الخارج بالكتب الإسلامية المستنيرة وترجمتها إلى لغة أهل البلاد للتعرف على سماحة الإسلام
=============
عروبة العراق في خطر!
سمير سعيد / القاهرة ... ... ... ... ... 24/7/1426
... ... ... ... ... 29/08/2005
"من يريد السيطرة على الأمة العربية والإسلامية عليه أن يدمر إرادة الأمة العراقية فهي الحلقة الرئيسة فيها".
هذه الكلمات التي وردت في مذكرات هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق يمكن أن تكون العنوان الرئيس لما يشهده العراق منذ غزوه حتى الآن؛ إذ يمر العراق حالياً بأخطر مرحلة في تاريخه ليس لاحتلاله فقط، وإنما لتعرضه لخطر سلخه عن هويته العربية والإسلامية خاصة في ظل الدعوات التي يشهدها العراق مؤخراً من قبل بعد الأحزاب والفئات الطائفية والقومية تمهيداً لتقسيمه إلى دويلات طائفية وقومية وإسقاطه من قائمة العروبة!
بداية تجب الإشارة إلى أن عروبة العراق وانتماءه للأمة العربية حقيقة حضارية سياسية ثقافية اجتماعية تشكلت وترسخت منذ آلاف السنين، ولا صلة لهذا التاريخ العريق لا بالبعث ولا بسائر الأحزاب والإيديولوجيات القومية المعاصرة التي أصبحت الحجة لذبح العراق وهويته وانتمائه للعروبة والإسلام.
الدستور وعروبة العراق
والآن مازالت هناك نقاشات عدة حول الدستور ونقاط الخلاف فيه، والتي تتعلق بموقف السنة منه، من حيث رفضهم لمبدأ الفيدرالية والبند الخاص باجتثاث البعث، ونفي عروبة العراق في الدستور المؤقت "قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية" الذي أُقر في العام الماضي، والذي يقوم على أساسه الدستور الحالي, وهو ما لم يتغير في الدستور الحالي، الذي لم يشر إلى أن العراق جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وإنما اكتفى مُعِدّوه الذين كانوا يعملون وفق مشيئة المستشارين الأمريكيين وكبيرهم اليهودي"نوح فيلدمان" (والده من سكان مستعمرات الضفة الغربية) بالفقرة "ب" من المادة الثامنة التي تنص على أن "العراق بلد متعدد القوميات، وأن الشعب العربي فيه جزء من الأمة العربية"، وهنا يتضح العبث والتشويه بهذا الركن الأساسي للهوية؛ إذ يعني هذا أن العراق ليس بأكمله جزءاً من الأمة العربية بل جزء منه فقط ، وهو ليس بلداً عربياً بل بلد متعدد القوميات.
فهذه النقاط الثلاثة(الفيدرالية - اجتثاث البعث - عروبة العراق) إضافة إلى عدم تضمين الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للدستور أدرك السنة العرب وأيضاً الشيعة العرب، ومعهم التركمان أنها تستهدف النيل من عروبة العراق ومحو هويته وتقسيمه لصالح المخططات الكردية والشيعية الفارسية فكان الرفض القاطع لها.
أمريكا وعروبة العراق(3/158)
ومنذ احتلالها العراق سعت أمريكا إلى تغيير وجه العراق الحضاري العربي قانونياً وعملياً على الرغم من أن العرب يشكلون نسبة كبيرة من سكان العراق، وهي نسبة تزيد على 80%، وهذه السياسة الأمريكية في المنحى المذكور بدت جليّة منذ تشكيلها أو تعيينها مجلس الحكم؛ إذ تضاءلت نسبة العنصر العربي فيه إلى 48%, وهذه النسبة تتآكل بمرور الوقت في مؤسسات الدولة, في حين طغت نسبة العنصر غير العربي عليه وبحدود الـ 52% والتي توزعت على الأكراد والأكراد "الفيّلية" والتركمان والآشوريين والفرس والأذربيجانيين، وأقوام أخرى ترجع أصولها وفروعها إلى شبه الجزيرة الهندية.
وقد سعى الاحتلال من خلال قانون إدارة الدولة ثم الدستور الحالي إلى أن يكون مدخلاً لتفتيت التركيبة السكانية للبلد وصولاً إلى إضعاف الأكثرية فيه وهم العرب،لأن بقاء العراق عربياً موحداً بكل ما يمتلك من ثروات وقدرات بشرية وإمكانات اقتصادية هائلة سيبقى يشكل تهديداً لقاعدة أمريكا المتقدمة في المنطقة "إسرائيل"، وبالتالي كان يجب ترويج تقسيم العراق على أسس طائفية وعرقية؛ لأن وضعاً كهذا سيشكل منطلقاً أو مدخلاً إلى الأهداف الاستعمارية الأخرى، وبالتالي فستسعى أمريكا إلى الإمعان في تفتيت الأمة العربية على قاعدة "تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ" وتبديد قدراتها ليتسنى تحقيق حلم دولة إسرائيل الكبرى!
المؤامرة على العراق وعروبته
لقد برزت أولى معالم المؤامرة على العراق وعروبته في نهب المتاحف التي تدون تاريخ العراق على مدى سبعة آلاف عام، وتصفية المعالم الأثرية والحضارية وتدمير كافة مؤسسات الدولة ليتم بناء مؤسسات جديدة لدولة جديدة بهوية جديدة مصطنعة.
ثم كان بعد ذلك أن تم إجراء انتخابات صورية تم على ضوئها تعيين أول رئيس كردي للعراق وليضفي هذا الحدث المزيد من الغموض والالتباس حول مستقبل الهوية الحقيقية للعراق وشعبه.
لقد أثمرت الانتخابات العراقية الأخيرة عن سيطرة أقوى فريقين معاديين للعراق وعروبته, خاصة بعد إحجام السنة العرب عن المشاركة في تلك الانتخابات, وهذان الفريقان هما التحالف الشيعي وعلى رأسه عبد العزيز الحكيم الطبطبائي ودعم من أعلى مرجعية شيعية في العراق وهي مرجعية على السيستاني، وهما إيرانيا الهوى والهوية, والتحالف الكردي بزعامة مسعود برزاني وجلال طالباني وكلاهما كرديان، وكلا الفريقين يعمل لهدم الدولة العراقية؛ لإقامة كيان خاص بكل منهما في الشمال والجنوب.
ويمكن القول بأن مخطط القضاء على عروبة العراق قائم بداية على محورين بدعم أمريكي:
• المحور الأول كردي في الشمال العراقي بقيادة مسعود برزاني وجلال طالباني، هذا المحور الذي عمل على تصفية الوجود العربي فيما يُطلق عليه"كردستان" خاصة في المدن الهامة والغنية بالموارد كالنفط وعلى رأس هذه المدن"كركوك"، وذلك في مقابل السماح لنزوح آلاف الأكراد إلى تلك المدينة وغيرها من مدن الشمال العراقي ، لتتم الدعوة لجرد سكاني لتلك المنطقة لضمها إلى ما يُسمى بإقليم كردستان.
والمحور الثاني شيعي فارسي في الجنوب العراقي بزعامة عبد العزيز الحكيم حيث تتم تصفية الوجود السني كمرحلة أولى، ثم تذويب الهوية الشيعية العربية في الهوية الشيعية الفارسية تمهيداً للقضاء على عروبة الجنوب أيضاً بشكل كلي.
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى الدور الذي تلعبه مليشيات "بدر" الإيرانية التأسيس والتمويل والتدريب والتسليح والانتماء ، فهذه المليشيات الإرهابية قامت وتقوم بعمليات اغتيالات ومطاردات وملاحقات واسعة للسنة العرب شملت ضباطاً وطيارين وخبراء ومهندسين في التصنيع العسكري وأساتذة جامعات وأكاديميين وشيوخ عشائر وعلماء الدين العرب من السنة والشيعة، وشرّدت بتهديداتها آلاف المبدعين والمثقفين والفنانين العراقيين، حتى أصبح العراق الذي كان يزخر بالكفاءات من كل جنس ونوع واختصاص، تفتقر جامعاته ومعاهده والبقية الباقية من مراكزه العلمية والبحثية إلى كادر مؤهل للتدريس والعمل فيها، بعد أن عمدت هذه الميلشيات إلى استخدام الإرهاب والتصفيات ضد كل عراقي بارز في مجال عمله، واتهامه بأنه من أنصار النظام السابق.
وهذا الوضع لم يقتصر على سنة العراق وشيعته من العرب بل امتد ليشمل الجاليات العربية المقيمة في العراق خاصة في بغداد حيث يتم استهداف العربي بمجرد معرفة جنسيته العربية ليتم اعتقاله على الفور، وتلفيق اتهامات معدة سلفاً تتعلق بالإرهاب وقتل المدنيين الأبرياء والتخطيط لأعمال تفجيرية، وذلك دون أن يكون قد ارتكب أي جرم.
وفي ظل الفوضى الأمنية وإطلاق يد المليشيات الطائفية التي سيطرت على الجنوب العراقي وجدت القوى الشيعية أن الفرصة مواتية للمباشرة في مشروعهم القديم الجديد، لإقامة جمهوريتهم الشيعية كولاية من الولايات الإيرانية على غرار بلوشستان وكردستان وعربستان، ويتردّد أنهم يناقشون مع مراجعهم وأنصارهم اختيار اسم لكيانهم أو إقليمهم الشيعي بعد أن رفضوا اسم "سومر"؛ لأنه يرمز إلى الحضارة العراقية، وشطبوا اسم "الجنوب"؛ لأنه يعني جنوب العراق، وهم لا يريدون اسماً له علاقة بالعراق وحضارته وتاريه
===============
في ذكرى الانتفاضة..تهويدوطمس الهوية
حوار: أحمد أبوزيد ... ... ... ... ... 1/8/1424
... ... ... ... ... 27/09/2003
- خطة صهيونية متكاملة لتهويد القدس وطمس هويتها العربية والإسلامية.
- السيطرة العربية الإسلامية هي آخر مراحل التواجد القانوني في القدس، وحق السيادة عليها مخول للعرب والمسلمين.
- الانتفاضة ترعب المستعمر الصهيوني وهي العنصر الإيجابي في قضية فلسطين اليوم.
- إرساليات التنصير تسعى بكل ما لديها من مقومات إلى طمس الهوية الإسلامية وصهر الفكر الإسلامي في بوتقة الجحود والعلمانية.
- الغرب يخشى الإسلام ويسعى لإيقاف تياره الزاحف نحو أوروبا.
الدكتور جعفر عبد السلام أمين عام رابطة الجامعات الإسلامية، وأستاذ القانون الدولي بجامعة الأزهر، من العلماء والمفكرين المهتمين بقضايا العالم الإسلامي، وبالأخص قضية القدس، والصراع بين المسلمين والصهاينة على هذه المدينة المقدسة، التي يجب أن تعود كما كانت تحت سيطرة العرب والمسلمين، وتتخلص من براثن هذا العدو الصهيوني الماكر الذي دنس المقدسات وخرب الآثار الإسلامية، وسعى لطمس هوية المدينة العربية الإسلامية، ومعه كان هذا الحوار حول قضية القدس وغيرها من قضايا الأمة الإسلامية..
ماهو موقع القدس في الخارطة الدولية؟.
مدينة القدس من الناحية القانونية تعتبر أرضاً محتلة في 1967م ، طبقاً للقرار 242، وهو احتلال حرب؛ فقرار التقسيم في 1947م لم يعط القدس لأحد، واعتبرها منطقة مدولة تحكم بمعرفة الأمم المتحدة.
وقد رفضت إسرائيل كل القرارات الخاصة بالقدس، مع أنها أرض عربية ولا حق لإسرائيل فيها، ومسألة ضمها إليها بالقوة تعتبر زاوية في صالح العرب والمسلمين من الناحية القانونية؛ لأنه معنى أنها ضمتها أنها لم تكن معها وليست جزءًا من أرضها.
ولكن من المعروف أن تدويل قضية القدس لم يكن في صالح الحقوق العربية والإسلامية في هذه المدينة؛ فهل تم وضع جدول زمني لهذا التدويل في حينه؟.(3/159)
التدويل هو وضع أقره قرار تقسيم فلسطين لمدينة القدس بسبب أهميتها وقداستها بالنسبة لكل البشر الذين يدينون بديانات سماوية، وهذا الوضع كان يعني قيام مجلس الوصاية التابع للأمم المتحدة بإدارة شؤون المدينة لمدة عشر سنوات، يعاد النظر بعدها في النظام الذي يجب أن تحكم به المدينة بعد ذلك.
ومن المعروف أن إسرائيل لم تحترم قرار التدويل، وقامت عام 1948 بالاستيلاء على الجزء الغربي من القدس " القدس الغربية " ، وفي 1967م احتلت الجزء الشرقي " القدس الشرقية " والذي كان تحت السيطرة الأردنية، وأصدرت قانوناً يضم القدس إليها، ويجعلها عاصمة أبدية موحدة للكيان الصهيوني.
السيادة على القدس
ومن له الحق في السيادة على القدس طبقا للقانون الدولي؟.
حق السيادة على القدس مخول للعرب والمسلمين لأسباب عدة منها : أن السيطرة العربية الإسلامية هي آخر مراحل التواجد القانوني في المدينة، إذ استمرت منذ عام 637م وانتهت عملياً عام 1917م بسبب الانتداب، لكنها لم تنته من الناحية القانونية؛ لأن الانتداب وضعاً مؤقتاً، ولا تأثير له على السيادة الأصلية، وفترة حجب السيادة العربية الإسلامية كان يجب أن تنتهي بإلغاء الانتداب، ولكن فترة الانتداب البريطاني كان فترة لضياع الحق العربي، حيث ساعدت على حدوث هجرات يهودية إلى فلسطين والقدس من مختلف دول العالم.
وما هو موقف العالم اليوم من الممارسات التي ترتكبها إسرائيل اليوم ومنذ سنوات في القدس بهدف طمس هويتها العربية الإسلامية؟.
من المعروف أن إسرائيل عقب احتلالها للقدس وضعت خطة متكاملة لتهويد المدينة وطمس معالمها العربية الإسلامية، ففي الأربعينات جاؤوا بمهندس لتخطيط المدينة؛ فخطط هذا المهندس الماكر لإغلاق الناحية الشرقية للقدس، وهي القدس العربية، وجعل التوسع من الناحية الغربية لكي تزحف وتتوسع وتهود وتصبح مدينة يهودية، وقد حققوا هذا الهدف بالفعل، ووصلوا لمرحلة متقدمة في هذا الشأن، وأصبحت مساحة القدس الغربية أضعاف أضعاف القدس الشرقية.
ومعروف أن القوى الدولية تعارض هذه السيطرة الصهيونية على القدس، وتعارض ما تتخذه إسرائيل من تدابير لتغيير طبيعة هذه المدينة وتهويدها، ولكن ماذا تفعل هذه القوى في ظل التواطؤ الأمريكي الواضح مع إسرائيل؟!.
حماية المقدسات
القانون الدولي ينص على حماية المقدسات الدينية، فأين هذا القانون مما تمارسه إسرائيل اليوم، ومنذ ما يزيد عن نصف قرن من تدنيس للمقدسات الإسلامية في القدس، والسعي لهدمها ومحوها من الوجود؟.
لا شك أن الأماكن المقدسة تحظى بحماية قانونية واسعة في القانون الدولي، وهذه الحماية تجد أصلها في عادات الشعوب وأعرافهم، وقوامها أن تكون هذه الأماكن متاحة للكافة، وأن تكون آمنة من أي روع، وأن تحميها الدول من الخطر سواء الدولة الموجودة بها هذه الأماكن المقدسة أو الدولة التي تكون في حالة حرب معها، أو الدولة التي تقع تحت يدها هذه المقدسات للاحتلال الحربي.
وبالنسبة لمدينة القدس فقد صدرت مجموعة من التشريعات والقرارات الدولية التي تؤكد حرية ممارسة الشعائر لأبناء الأديان الثلاثة في المدينة، وحرية الوصول إلى أماكن إقامة الشعائر، كما تؤكد ضرورة الحفاظ على الأماكن المقدسة.
ولكن إسرائيل تخالف كل هذه القرارات الدولية، وتنتهك حرمة المقدسات في القدس، وتصر على أن القدس عاصمة أبدية لها، وتقوم بحفريات واسعة في القدس تهدد المقدسات الإسلامية، وعلى رأسها المسجد الأقصى.
نتفاضة الأقصى
ما رأيكم في انتفاضة الأقصى المستمرة منذ سنوات، وما سبقها من ثورات وانتفاضات في القدس والأرض المحتلة؟ وهل من الممكن أن تثمر هذه الانتفاضة وتحقق آمال الأمة في رد الحقوق المسلوبة في القدس وفلسطين؟.
نحن نرى أن الانتفاضة هي العنصر الإيجابي في قضية فلسطين اليوم، فهذه الانتفاضة الشعبية الإسلامية أقضت مضجع المستعمر الصهيوني، وجعلته يفكر في مدى قدرته على الاستمرار في حجب الحق عن أهله، وقمع انتفاضة شعب بات يبحث عن حقه، ويطالب المحتل والمجتمع الدولي بالنظر في المأساة التي يعيشها.
وهذه الانتفاضة يجب أن تستمر، ويجب أن يحيطها المجتمع العربي والإسلامي بالقدرة على الاستمرار، حتى تحقق الآمال العربية والإسلامية في تحرير القدس وإقامة الدولة الفلسطينية.
فخلاص القدس ليس بالمفاوضات، ولكن بالقوة الإسلامية التي تتمسك بتلابيب الواقع والحق، وتسعى لتحرير هذه المدينة المقدسة، وتخليص المسجد الأقصى المبارك من الأسر، وبدون هذه القوة لن نستطيع استرداد القدس.
دور رابطة الجامعات الإسلامية
وما هو دور رابطة الجامعات الإسلامية في دعم قضية القدس وهويتها العربية الإسلامية، وكذا قضية الشعب الفلسطيني؟.
رابطة الجامعات الإسلامية تضع في صدارة أولوياتها دعم قضية القدس ومساعدة أبناء الشعب الفلسطيني المنكوب على الحفاظ على هويته العربية والإسلامية، وتجاوز محنته، وصد الهجمات الإسرائيلية الشرسة عليه.
والرابطة تتبنى في برنامجها التأسيسي استراتيجية محددة للدفاع عن الهوية الإسلامية في القدس، ونحن نضع في صدارة أولياتنا الاهتمام بمعاناة الشعب الفلسطيني والصعوبات التي يواجهها في هذه المرحلة الراهنة من حياته، ونسعى بكل الطرق إلى معاونة جامعة القدس بدعمها مادياً وأكاديمياً حتى يمكن لها القيام بأعبائها التعليمية، ولكن المشكلة هنا تكمن في تعنت السلطات الإسرائيلية ضد هذه الجامعة وهو ما يحول دون تفعيل المساعدات التي تقدم إليها.
والرابطة تؤكد دائماً على أهمية دفع المؤسسات الفلسطينية بكافة مستوياتها ومراحلها التعليمية على مواصلة دورها في إيقاد شعلة العلم في الأراضي الفلسطينية رغماً عن الاضطهاد الإسرائيلي المتعمد، كما نسعى كذلك إلى تزويد هذه المؤسسات بالحاجات المعرفية والوسائط التعليمية لتيسير العملية التعليمية، مساعدة أبناء الشعب الفلسطيني على استكمال دراستهم في كافة الجامعات العربية والإسلامية المتميزة، من خلال برنامج خاص وضعته اللجنة التأسيسية للرابطة من أجل هذا الهدف، الذي هو جزء من خطة شاملة لمساعدة أبناء الشعوب الإسلامية المنكوبة على مواصلة تعليمهم في الجامعات العربية والإسلامية.
مخططات التنصير
ما رأيكم في مخططات التنصير التي يتم الكشف عنها يوماً بعد يوم، وتتساقط بعض عناصرها في أيدي السلطة بالدول الإسلامية؟.
مخططات التنصير هي صورة جديدة للحروب الصليبية التي عادت من جديد في شكل آخر، ولا يغيب عن الأذهان الحروب الصليبية المتعددة التي جيش فيها الغرب جيوشه على العالم الإسلامي للقضاء على هذه الحضارة ووأدها، فهذه الصورة القديمة تحولت في هذه الأيام، واتخذت ألواناً متعددة في شكل إرساليات غربية لتهدد العالم الإسلامي بحروب صليبية جديدة أشد فتكاً من تلك التي كانت بالسيف والرمح، إذ إن فكرة التنصير لا تجرح عضواً بسيف، وإنما تبدد الهوية الإسلامية شيئاً فشيئاً، وتبديد الهوية الإسلامية يؤدي إلى عواقب وخيمة ونتائج أليمة يصعب على المسلمين علاجها فيما بعد.(3/160)
وكل حركة أياً كان نوعها: سياسية، أو دينية، أو فكرية، أو علمية؛ إنما تسعى لتحقيق أهداف محددة وغايات معينة، والإرساليات التنصيرية تضع أهدافها وتسعى بكل ما لديها من مقومات إلى تحقيقها، وأهم هذه الأهداف؛ طمس الهوية الإسلامية، وصهر الفكر الإسلامي في بوتقة الجحود والعلمانية إلى أن يصل إلى درجة الإلحاد وإبعاد المسلمين عن الدين الإسلامي خاصة والرسالات السماوية عامة، وإيقاف تيار الإسلام الزاحف نحو أوروبا، حيث يعتنق الألوف من الأوروبيين الدين الإسلامي سنوياً.
فالصليبيون لا يخشون انتشار الديانات الأخرى غير الإسلام، وإنما يخافون الإسلام وحده، ويشعرون بالخطر علي أنفسهم منه، ولذلك يسعون لتشويه صورة الإسلام في عيون المسلمين، وزرع الفتنة في البلاد الإسلامية، وذلك لتتفرق وتضعف، وتصبح غير قادرة علي رد أي عدوان غربي عليها، وتتمكن الدول الصليبية من فرض سيطرتها علي العالم الإسلامي، وتمد نفوذها وتسلب ثرواته الوفيرة، ويبقي الغرب ودول الصليب قوة عظمى متماسكة لها شوكتها وغلبتها وهيبتها.
ولا سبيل لصد هذه الاختراقات إلا بوحدة المسلمين وتكتلهم ليكونوا معتصمين بحبل الله جميعاً، ونبذ الفرقة والخلافات التي أضعفت قواهم، وجعلت الأمم تتداعى عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.
مقومات النهضة
لا شك أن العلم مقوم من مقومات النهضة والانبعاث الحضاري، فما هي الآلية التي تسير عليها الرابطة لتحقيق هذا الهدف؟
نحن لن نأتي بالجديد عندما نذكر أن الإسلام حث بإلحاح على طلب العلم ونشره بين أبناء المسلمين، وأن أول كلمة نزلت في القرآن الكريم كانت "اقرأ" وهي أمر للنبي -صلي الله عليه وسلم- بالقراءة، وأن الله تبارك وتعالى رفع الذين يعلمون عن الذين لا يعلمون (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) ، وأن النبي -صلي الله عليه وسلم- جعل فداء الأسرى الكفار بعد غزوة بدر بأن يعلم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين، وأنه صلى الله عليه وسلم جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن العلماء المسلمين ساهموا بقسط كبير في بناء الحضارة الإنسانية بفضل ما قدموه من ابتكارات واكتشافات في كل العلوم .
والذي تريده رابطة الجامعات الإسلامية هو التأكيد دائماً على صبغ العلم بصبغة الأخلاق التي ميزت مسار العلماء المسلمين عن غيرهم من العلماء في مختلف الحضارات الأخرى، باعتبار أن العلم في التصور الإسلامي طريق من الطرق الموصلة إلى عبادة الله تعالى، وكل علم لا يسلك هذا الطريق هو علم لا يؤمن عواقبه.
وهذه المفاهيم الصحيحة للعلوم تحاول الرابطة ترسيخها بين المسلمين اليوم حتى يتحقق لهم التقدم العلمي والنهوض الحضاري .
==============
الأمة بين سنتي الابتلاء والعمل (1/5)
د. علي بن عمر با دحدح عضو هيئةالتدريس بجامعة الملك عبد العزيز بجدة 8/4/1425
27/05/2004
لماذا يتحمس الشباب؟
وهل الحماس في الشباب عيب؟ أو شيء طارئ أو أمر غريب؟
نقول: إن الحماسة في الشباب أمر طبيعي لعناصر كثيرة منها:
1. الحيوية والقوة
أن الشباب فيه حيوية وقوة والله سبحانه وتعالى كما جاء في التقديم قال:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}(الروم: 54).
فالشباب قوة بين ضعفين وانطلاقة بين هدوءين أو سكونين وحركة واندفاع بين جانبين فيهما من الهدوء والسكينة ما فيهما وحتى من الناحية الطبية نعلم أن الفئة العمرية في فترة البلوغ ما يزال الخلايا والأعضاء تزيد وتنمو وتعظم وتتكاثر وهذا أمر بين وإذا رجعنا حتى إلى اللغة تسعفنا هذه المعاني بشكل واضح لأن الاشتقاق اللغوي لأصل شب وهو أصل الشين والباء في اللغة يدل على نماء الشيء وقوته في حرارة تعتريه وهذا يدلنا على طبيعة الامتزاج بين الحيوية والحرارة والقوة وطيعة الشباب ومن ذلك قولهم: شبت النار أو شببت الحرب ثم كما يقول ابن فارس ثم اشتق الشباب منه وهو النماء والزيادة في قوة جسمه وحرارته ولذلك نرى هذا الأمر واضحا وأن من طبيعة الشباب الفطرية بل والخلقية البدنية أو ما يسمى بالبيولوجية أي الطبيعية الفيزيائية أنه بطبيعة خلقته في هذه الفترة العمرية فيه نمو وزيادة وشيء مما يزداد قوة ويزداد ..
ومن هنا فالحماسة قرينة الشباب بدون أن يكون هناك افتعال لها أو تكلف فيها أو تطلب لأسبابها بل هي قرينة الشباب من هذا الوجه.
2- الإرادة والتحدي :
جانب آخر في طبيعة الشباب في مقتبل العمر وهو قضيةالإرادة والتحدي: من طبيعة هذه الفترة العمرية أن فيها عزيمة صلبة وإرادة قوية من خصائص الشباب قبول التحدي بل والتعرض له والبحث عنه والثبات عليه ولو أننا أردنا أن نأخذ أمثلة والأمثلة اعذروني ستكون دائما محدودة لأننا لو تشعبنا فيها يضيق المقام عن ذكر ما وراء ذلك.
قصة لابن مسعود وأنتم تعرفون ابن مسعود كان من صغار الصحابة وشبابهم وكان إلى ذلك نحيل الجسم دقيق الساقين كان الصحابة يضحكون من دقة ساقيه في الفترة المكية العصيبة التي كانت فيها المواجهة قاسية وشديدة وشاملة من قريش ضد المسلمين وفي جلسة بين بعض المسلمين كانوا يتداولون فيما بينهم من يمكن أن يقرأ القرآن ويصدع به في نوادي قريش وهي عملية تحد كبيرة وعملية تحتاج إلى قوة إرادة وصلابة عزيمة فانتدب لذلك ابن مسعود الشاب النحيل وذهب إلى منتدى قريش في البيت الحرام وصدع بآيات القرآن يقرؤها بين ظهرانيهم وإذا به كما هو متوقع ولم يكن هو يظن أن ذلك سيعجبهم بل كان يعرف ما يترتب على ذلك عمدوا إليه وضربوه وأثخنوه بالجراح ولعلنا نقول بعد هذا الحدث أنه قد أخذ درسا كافيا لكن ما الذي حصل؟ في اليوم الذي يليه عندما تداول المسلمون تلك الحادثة قال: (أما لو شئتم لأعاودنهم بها) فهي طبيعة الإرادة القوية والتحدي لأن نفس الشاب دائما فيها هذه الحيوية التي تأبى في الجملة أن تلين أو أن تهادن أو أن تتراجع بل تريد دائما أن تثبت نفسها وأن تظهر قوتها وأن تصر على رأيها وأن تثبت على مبدئها وأن تكون نموذجا ينسجم مع طبيعة التفاعلات والمشاعر النفسية والعواطف الجياشة التي تمور بها النفس وكذلك:
3-الأمل والطموح:(3/161)
لأن الشباب في مقتبل العمر فما زالت الصورة ممتدة والأفق واسعا قد يرسم طريقا في تخيله في آماله وطموحاته في مجال العلم وأنه سيحصل فيه وأن سيكون له كذا وكذا وكذا وقد يرسم طريقا في مجال حياته الاجتماعية أو في حياته العملية لكن لو أننا تصورنا المرأة في الخمسين أو في الستين لا شك أن الأمل موجود لكنه قطعا سيكون محدودا ولن يكون له مثل طبيعة هذا الأمل الممتد العريض كالشباب في حياتهم وطموحاتهم ولو أردنا أن نأخذ أمثلة لوجدنا كذلك هذه الأمثلة في فتى الرابعة عشر الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام في جملة تربيته لأصحابه يعرف كيف يصقل هذه النفوس وكيف يذكي تلك الآمال وكيف يشحذ تلك الهمم ربيعة بن كعب الذي مان يبيت إلى جوار بيوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا قام من الليل قام يصب له وضوءه عليه الصلاة والسلام فأراد النبي أن يكرمه كما هو معروف في قصته فقال: (يا ربيعة سلني ما شئت؟) والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المجاب الدعوة فقال: انظرني يا رسول الله، وعندما نقول الآن للشباب ماذا تريد؟ ما هو أملك؟ ما هو رجاؤك؟ اطلب ما سنحققه لك ويطون رهن إشارتك وبين يديك؟ فربما نعرف اليوم أنه ربما يطمح إلى هذا أو ذاك من أمور الدنيا وشؤونها لكن ربيعة بعد أن تريث وتأنى قال مقالة عظيمة رائعة فريدة لو اجتمعت لها عقول الشيوخ الكبار والعلماء العظام لربما قصروا عن أن يصيبوا مثل ما قال فأوجز وأبلغ في أمله وطموحه فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فلم يسأل الله الجنة بل سأل مرافقة الرسول في الجنة ليكون سؤاله في أعلى وأعظم مطلب فماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهذه هي التربية لكي يبقى الأمل ممتدا والطموح متواصلا (أعني على نفسك بكثرة السجود) ونعلم قوله لعبد الله بن عمر يوم أول رؤياه قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل) والأمر في هذا واضح وجلي وكثير.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لكل ما كان يناسبه حتى يمتد في مجاله وميدانه الذي تتعلق به نفسه وأمله كما هو معروف في الحديث لذي رواه الترمذي عندما عدد النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة وذكر في كل منهم خصيصة يتميز بها قال: (أقرؤهم أبي وأفرضهم زيد وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ) إلى آخر ما ذكره عليه الصلاة والسلام.
4- تنوع الخيارات:
مازال في مقتبل العمر هل يتزوج الآن؟ هل يكمل دراسته؟ هل يدخل ميدان العمل؟ أما من قد طويت صفحات عمره فإن الخيارات في غالب الأحوال تكون محدودة وربما نرى نحن أننا نضيق الآن المجال فلا يبقى مساحة إلا لكم معاشر الشباب الذين تدخلون في جميع التعريفات أما من له تعريف واحد يتيح له أن يدخل في الشباب وتعريفات أخرى تخرجه منه يبدأ تضييق الدائرة عليه كما قلنا فلذلك لما كانت هذه الحماسة من طبيعة الشباب فنحن نرحب بها ولا نعارضها ولا نقول إنها شيء شاذ أو أمر غريب ولكننا نوصل أيضا في مدح هذه الحماسة وبيان ثمراتها وبعض فوائدها ليكمل لنا حينئذ الصورة الإيجابية في هذه الحماسة بإذن الله عز وجل.
ثمرات الحماسة :
الحماسة تورث خلالا كثيرة وسمات عديدة:
1- الهمة والعزة:
فهذه الحماسة تجعل الهمة عالية والعزيمة ماضية والعزة أبية والروح فتية بحيث أن هذه المشاعر تترجم إلى مواقف وإلى سمات شخصية تعد من مظاهر القوة الإيجابية ليس في الشباب رخاوة وليس في الشباب ضعف وإن كان حالنا اليوم أو حال بعض شبابنا قد جعلت لهم صورة أخرى في الشباب هي صورة الدعة والترف والرخاء ولكننا نقول إن الأصل في طبيعة الشباب في التربية الصحيحة في الأجواء النقية أن يكون لهم همتهم القوية وعزتهم الأبية التي تجعلهم دائما في قصب السبق والتقدم كما سيأتي في المراحل التالية ولعلنا نريد أن نصور بعض هذه الهمم في سير الشباب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والأمثلة محدودة كما قلت بحكم الوقت هذا نموذج رده النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال لكننا نرى كيف كانت القوة في أصل هذا النموذج عند البخاري في الصحيح من حديث النبي عليه الصلاة والسلام مع عبد الله بن عمرو بن العاص قال له عليه الصلاة والسلام: (ألم أخبر أنك تصوم فلا تفطر وتصلي فلا تنام وتقرأ القرآن في كل ليلة) فقال: بلى يا رسول الله، هذا الخبر بلغه عن عبد الله بن عمرو انظروا إلى همته وطاقته المتدفقة كيف كان على حال لا يفطر ولا ينام ليله ويختم في كل ليلة نعم رده النبي النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال المعروف في الحديث لكن الشاهد عندنا هو هذه الهمة العالية القوية التي كانت عنده ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مقتبل عمره وفي بداية دعوته كانت له المواقف العظيمة في مثل هذا.
2- العمل والإنتاج:
الهمة والعزة تتحول إلى عمل مثمر وإلى تواصل في الإنجاز وحرق المراحل لكي يكون هناك ثمرة ظاهرة ونتيجة باهرة من خلال هذه الهمة لأن صاحب الهمة لا يرضى بالقعود ولا يرضى بالكسل والخمول ولا يرضى إلا أن تكون كل ثانية من ثواني حياته مملوءة بما يتناسب مع طبيعة هذه المشاعر المتدفقة والعواطف المتأججة في نفسه ولذلك نرى كيف كان شباب الصحابة والشباب في مراحل التاريخ الإسلامي كلها في الأجواء الصحيحة والتربية الجادة كيف كانوا دائما يأتون بالعجائب والإنجازات الباهرة حتى في مجالات مختلفة لعلي أذكر مثالا في قصة زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو الذي كان غلاما صغيرا في نحو السادسة عشر من عمره فقال له النبي النبي عليه الصلاة والسلام كما في المسند عند الإمام أحمد: (اقرأ حرف يهود) يعني حتى يقرأ له أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم اللغة حتى يقرأ للنبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيه عفوا فتعلم السريانية في بعض الروايات أنه تعلمها في خمسة عشر يوما فكان يقرأ للرسول وكان يكتب له وفي بعضها في سبعة عشر يوما وبالمناسبة أيضا زيد بن ثابت كانت له المهمة الفريدة التي جعل من مؤهلاتها الشباب في صحيح البخاري الحديث المشهور في جمع القرآن (قال أبو بكر عندما استدعى زيد بن ثابت: إنك شاب عاقل لا نتهمك كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأول هذه الخصائص أنه شاب مهمة ثقيلة تحتاج إلى قوة تحتاج إلى عمل متواصل أسندت إلى هذا الشاب الفتي مع ما عنده من الأمانة والعلم والخبرات السابقة كما يقال ثم كلفه بجمع القرآن وكتابته ومع أن الذي كان يحدثه أبو بكر خليفة المسلمين ومعه عمر وزيره وهما أفضل الصحابة وأكبرهما سنا إلى غير ذلك مع ذلك كله قال بكل رباطة جأش وهمة تناسب الشباب قال: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وهذا يدل على قوة هذه الشخصية لكن بعد أن جاءت المراجعة وانشرح صدره لذلك قال: فوالله لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي ثم انطلق وبدأ في هذه المهمة وأعانه عمر ووضع الشروط والضوابط والشهادة المطلوبة على كل وهو مكتوب أنه ثبتت كتابته بأمر النبي عليه الصلاة والسلام أو بحضرته وأتم هذه المهمة على أدق وأحكم وأمتن صوة ما كانت لتكون لولا هذه الفتوة والحيوية والحماسة والقوة في حياة الشباب والأمر في هذا كما قلنا يطول الحديث عنه.
3- الثبات والإصرار:(3/162)
كثير من الأعمال لا تعطي ثمرتها إلا مع طول الزمن ومع استمرارية العمل وذو النفس التي ليست فيها هذه الحماسة غالبا ما ينقطع نفسه وينقطع عمله وينقطع بعد ذلك أثره ويطوى خبره لأن المسألة تحتاج إلى مثل هذا كما سنشير من مزايا الشباب في الحماسة: أنها تعطيهم قوة وثباتا بشكل منقطع النظير أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير على الكوفة ظل يقرئ القرآن في مسجدها أربعين عاما كل يوم وهو أمير وهو يتولى الحكم لكنه كان في صفته وسمته يدل على هذا العطاء المستمر والثبات على العمل ليست قضية ردود أفعال ولا سحابة صيف تنقشع ولا أمرا أثارته بعض العواطف المهيجة ثم جاء غيرها ونرى بعض الشباب وهو يتموج ويذهب يمنة ويسرة مع بعض هذه التقلبات لعاطفية وخاصة نحن في عصر عولمة وإعلام وكوكبة وموجات متدفقة هنا وهناك تعبث بالعقول والعواطف عبثا كبيرا وحبيب بن زيد رضي الله عنه وهو من أمثلة الشباب كيف ثبت لما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة الكذاب فكان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يقول مسيلمة: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله يقول: لا أسمع لا أسمع وإذا بمسيلمة بعد ذلك يبدأ في تقطيعه يقطع أذنه يجدع أنفه ويقطع إربا إربا وهو ثابت على هذا النهج الذي كان عليه مصعب بن عمير الشاب المدلل المترف المعطر الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت فتى أحسن لمة في أهل مكة من مصعب بن عمير) لما دخل الإيمان في قلبه وتمكن وأعطى عاطفته كلها لهذا المعتقد والمبدأ ووجه بكل أنواع الحصار والتضييق وشظف العيش لم تلن له قناة ولم يتغير له موقف ولم يتراجع في أي صورة من الصور التي أخذ بها رضي الله عنه وأرضاه حتى كانت بعد ذلك قصة استشهاده مضرب مثل بل موضع عبرة لكبار الصحابة أبكتهم سنواتا طوالا بعد مصعب بن عمير رضي الله عنه كما ورد في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف عند البخاري أنه كان صائما في يوم خميس وأتي له بطعام الإفطار وكان فيه صنفين من الطعام نوعين من الطعام فقط نوعين فبكى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فتعجب الناس قالوا: ما يبكيك؟ قال: ذكرت مصعب بن عمير مات يوم أحد يوم مات ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه بدا قدماه وإن غطينا قدماه بدا رأسه وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا، بقي موقف مصعب في ثباته الفريد يوم قطعت يده اليمنى فرفع الراية بيسراه فقطعت فضمها بعضديه حتى خر واستشهد رضي الله عنه على هذه الصورة من الثبات الرائع في قوة الحماسة والثبات على المنهج والمبدأ .
4- نجدة وإعانة :
وينتج عن هذه الحماسة في الجلة أيضا نجدة وإعانة لأن المتحمس يأبى أن يرى الضيم ويسكت يأبى أن يرى المحتاج وهو واقف لا تستجيشه تلك العاطفة إلى أن يمد يد العون وإلى أن يسابق وإلى أن يكون في الصفوف الأول في كل هيعة وفي كل ميدان من ميادين العطاء والنجدة ولعل قصة حنظلة بن أبي عامر غيل الملائكة الذي دخل على زوجه وعروسه في ليلة عرسه ثم أصبح على ظهر الخيل مجاهدا في سبيل الله ناسيا أن يغتسل من جنابته حتى غسلته الملائكة فيما بين السماء والأرض كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم تلك هي روح الحماسة المتدفقة في ميدانها الصحيح وفي عطائها الإيجابي.
5- امتنان وانتفاع :
وبعد ذلك لا شك أن هذا كله تتسع به دائرة الامتنان في الأوساط التي يعيش فيها الشباب بهذه الروح وبهذا العطاء وانتفاع من حولهم بهم بدلا من أن يكون ما قد يكون من عكس ذلك مما قد نعرج عليه في حديثنا هذا.
حسرات الحماسة :
هنا انعطافة لننظر إلى الصورة الأخرى وإلى الشق الآخر حتى تكتمل الرؤية من جوانبها المخلفة لأنه ليس من مصلحتنا في شيء دائما أن نسمع من الناس ما نرغبه وما نحبه بالعكس الإنسان يستفيد أكثر ممن قد يكون له وجهة نظر أخرى وممن قد يكون له من بيئته ومن تنشئته ومن معرفته ما قد لا يتفق معك فحينئذ يحصل نوع من التبادل والتكامل والامتزاج النافع والمفيد نحن لا نريد ولا ينبغي أن نفرح عنما نجد من يطبطب على ظهورنا ويؤيد مواقفنا في كل شيء وربما نجد أن طبيعة العاطفة تدعو إلى ذلك من هو الذي نحبه ونأنس به؟ هو ذلك الذي يوافقنا في كل ما نقول ويسايرنا في كل ما نعمل ويعطينا الدعم المعنوي والإيجابي في كل مبدأ أو رأي أو موقف نتخذه دون أن يكون عنده أدنى تحفظ حتى ولو أخطأنا أو حتى توقع في مستقبل الأمر أن تكون هناك احتمالات لوجود عواقب أو مخاطر أو نحو ذلك لا لابد أن نأخذ هذا الجانب مرة أخرى في صورة مغايرة عما سبق أول هذه الحسرات.
1- الفتور والإحباط :
عندما تكون الاندفاعة قوية أكثر من اللازم وغير مستوعبة للواقع ولا مدركة للإمكانيات ولا متهيئة في الأخذ بالأسباب فإن هذه الإندفاعة تمضي فلا تحقق نتيجتها فيرتد حينئذ بعد تجربة وثانية وثالثة إلى فتور يترك معه كل عمل وكل حيوية وكل نشاط وكل إيجابية بل يرتد حينئذ إلى نفسية محطمة مهزومة لم تعد عندها أدنى درجات الثقة بالنفس التي يمكن أن تكون أساسا للإنطلاق أو العمل ولعلي أضرب مثالا يدور أو يفع في صفوف الشباب كثيرا في بعض الجوانب الحياتية على سبيل المثال ربما يسمع كثير من الشباب الحث على العلم وطلب العلم وفضيلة العلم وتأتي هذه النصوص وتلك المحاضرات فتلهب في نفسه الحماسة وإذا به ولم تكن له سابق تجرة ولم يأخذ خبرة من صاحب تجربة يندفع اندفاعة من الناحية المنهجية غير صحيحة ومن الناحية التي تناسب طبيعته وقدرته غير متطابقة معها فإذا به لا يلوي على شيء ذكر البغوي في كتاب العلم شرح السنة عن الزهري رحمه الله قال: من رام العلم جملة فقده جملة، وهذه طبيعة ونحن نرى كيف يقبل كثير وهذه ظاهرة موجودة الشباب يقبلون ويريد أن يدرس هذا العلم وذاك العلم ويحفظ هذا المتن اندفاعة ليست متكاملة فكثيرا ما يؤول به الأمر إلى أن يترك ذلك كله أو حتى في جانب الالتزام الشخصي والأخذ بأمور الفرائض والعبادات والتطوعات يندفع فيها بغير ما يتناسب مع طاقته أو ظرفه ويكون فقط تحت تأثير عاطفي مؤقت ثم يرجع إلى ما وراء ذلك ونجد في هذا كما قلت من الناحية الواقعية أمثلة كثيرة والتجربة فيه واضحة حتى نستطيع إنشاء الله أن نواصل هذه المعاني.
2- تعطيل إعاقة :
كثيرا ما تدفع الحماسة إلى عمل متهور تفسد به كل تلك الرؤى التي كانت تبنى عليها الآمال وتقام عليها الأحلام لمواصلة في عمل ما لأن الإندفاع الشديد والخروج عن المسار الصحيح لا شك أنه سوف يفعل ردود أفعال كثيرة وهذه ردود الأفعال سوف تكون تعطيل ومنع وإعاقة وواقع الشباب المسلم في المجتمعات الإسلامية أيضا فيه أمثلة كثيرة من ذلك ونحن نعرف في كثير من بلاد المسلمين كيف كانت ثورات من الإندفاع في بلاد كثيرة أدت إلى منع خير كثير وإلى سد أبواب من الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل إلى تغييرات أعمق وأشد تأثيرا بدلا من ذلك الخير الذي كان ينشده بنسبة محدودة وإذا به ينقلب إلى كثير من العوائق والموانع والسدود التي تمنع كثيرا وكثيرا من الخير عليه وعلى آلاف مؤلفة من ورائه ولعلنا أيضا لا يخفى علينا مثل هذا فيما جرى في كثير من البلاد التي انفرط فيها عقد أمنها واختلت فيها الموازين وكثر فيها الهرج والمرج مما سيأتي أيضا ذكر بعضه فيما نأتي به في هذه النقاط:
3- موت وإتلاف:(3/163)
يعني قد يبلغ الأمر إلى هذا المبلغ ونحن نعرف أن الحماسة المتمكنة في النفس أحيانا قد تصل إلى شيء من تغييب العقل وعدم النظر حتى في الضوابط والأحكام الشرعية ونحن نحب أن نؤكد هنا على أمر مهم وهو أن المنطلقات التي تحكم المسلم ليست منطلقات العاطفة ولا الشعور ولا ردود الأفعال ولا الانتصار للذات الذي يحكمنا أمران هما الأساسيان في تصرفاتنا كلها:
الأول: هو حكم الشرع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما كان واجبا أمضيناه وما كان محرما تركناه ويلحق به ويكمله
الثاني : مراعاة المصلحة الشرعية في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاصر فإن من الأمور ما قد يكون واجبا أو قد يكون مباحا لكن إيقاعه في هذا الوقت أو في هذا المكان قد تترتب عليه مفاسد أعظم وقد يكون فعله في هذا الموطن محرما وإن كان في أصله واجبا وهذه موازنات معروفة في مقاصد الشريعة الكلية التي ينبغي مراعاتها وفي القواعد الفقهية المستقاة والمستنبطة من الأدلة الكلية والفرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مثل: (لا ضرر ولا ضرار) وغير ذلك من القواعد المعروفة فهناك ما قد يصل إلى هذا مما يقع به إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وإفساد كثير من الأصول الثابتة التي لابد من معرفتها ولعلي هنا أيضا أركز في هذا المعنى لأن بعض الأفهام تتجاذبها عواطف ولا تكاد تفهم حقائق النصوص وإذا تأملنا في هذا الجانب ثمة أمر مهم نحن نذكره لأنه من دين الله ولابد أن نفقه ديننا وأن نعرف أن الأصل أننا متعبدون بشرع الله عز وجل وأنه لابد لنا أن نتأمل في حكمة الشارع لأن الشارع معصوم سواء كان ذلك في كتاب الله أو ما ثبت من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولعلي أخص هنا موضعا محددا من هذه المواضع التي أصبحت فيها الفتنة عامة في كثير من مجتمعات وبلاد المسلمين.
طائفة كبيرة كثيرة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام صحيحة في النقل وصريحة في النص في قضية ما يتعلق بالانحراف أو الفساد في ولي الأمر أو الحاكم المسلم وكيف يكون التعامل في هذا الشأن ولعلي وأنا أستطرد هنا قليلا لا أقول إن هذا الحديث وهذه المحاضرة قد أعدت من قبل وإن كانت متطابقة ربما مع أحداث مؤسفة ومحزنة وقعت البارحة وفي الفترات الماضية، نقول الذي يتحدث بهذا هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ليست القضية كما قلت عاطفية يذكر عليه الصلاة والسلام جملة من الأحاديث لو ذكرتها لطال بنا المقام هذه الأحاديث فيها ضبط شديد وفيها تحوط كبير وفيها ربما في صورتها الظاهرة كأنما تأتي معاكسة لما ينبغي أن يكون فيقول على سبيل المثال عليه الصلاة والسلام في بعض ما صح من هذه الأحاديث قال: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر) وفي رواية أخرى من حديث حذيفة قال: (وإن جلد ظهره وأخذ ماله) وفي رواية ثالثة عند مسلم في تفصيلات لهذا الحديث لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتنة قال حذيفة رضي الله عنه في هذا الحديث يعني قال لرسول الله: أرأيت إن أتي به إلى الصفين قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فليدق سيفه) يعني فليتلف سيفه حتى لا يخوض في هذه الفتنة أو في ذلك القتال ونجد بعض هذه الأحاديث يفهمها ربما بعض الناس على أنها سلبية مطلقة وعلى أنها لا تتفق مع ما يظنه من عوميات أخرى في دين الإسلام ولو أننا تأملنا هذه النصوص لعرفنا حكمة عظيمة للشارع نقل ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة وفيه أحاديث عظيمة من مثل هذا قال يعني في مثل هذه الأوامر قال: فيه تسكين الدهماء وحقن الدماء لأن الأمر إذا انفرط عقده عظمت الفتنة وكبرت البلية وصار من الفساد على أمور الدين كلها ما لم يكن موجودا بمثل هذا الأمر ولا يعني ذلك بالطبع والقطع أن أي انحراف يقر وتصبغ عليه الشرعية كلا دين الله عز وجل واضح لا يضيعه أحد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يملك أحد تغييره ولا تبديله وذلك من فضل الله ونعمته علينا فينبغي أن نعرف أننا متعبدون بالشرع وانظروا إلى هذه الأمثلة:
حذيفة بن اليمان في قصته المشهورة في يوم الأحزاب لما طلب منه النبي أن يذهب ليرى خبر القوم الأحزاب أبو سفيان ومن معهم من قريش والقبائل فتسلل حذيفة في حادثة مشهورة ويصف هو يقول: وكان أبو سفيان في مرمى سهمي إلا أني ذكرت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تحدث شيئا حتى ترجع) أبو سفيان رأس الكفر وهو قائد الأحزاب وكان في مرمى سهمه ونباله لكنه امتثل ذلك الأمر والأمر قطعا كانت فيه حكمة وهو إرشاد ووحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم:3،4).
ومجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنه في معركة أخرى مع الروم عندما كلفه قائد المسلمين سعد وأتته رسالة بعد أن طال الحصار ولم يستطيعوا أن يقتحموا رسالة من بعض الروم تدلهم على منفذ تحت الأرض نفقي فيه ماء فانتدب قال سعد لمجزأة: انظر لي رجلا من قومك خفيفا جريئا شجاعا، قال: اجعلني أنا ذلك الرجل أيها الأمير ، وقال له: لا تحدث شيئا، قال: وخلصت حتى رأيت الهرمزان ونازعتني نفسي في قتله إلا أني ذكرت قول سعد فرجع وأخذ ثلاثمائة وكلهم خاضوا ودخلوا وفتحوا من الداخل، ليست القضية اندفاعات عاطفية وإنما هي انضباطات شرعية ومراعاة مصلحية ومنهجية في الأولوية ينبغي أن نعرفها.
4- الضياع والخسارة:
كم من الشباب يندفعون في جوانب مختلفة ثم لا يرمون على شيء لأنهم لم يرشدوا تلك الحماسة ولم يجعلوها في برامج عملية وتدرج فيمضي الوقت ولا تحصل الثمرة، وتنفق الجهود أو الأموال ولا تحصل النتيجة وذلك أيضا كما قلت حتى لا نطيل يزيد في الأمر ولعلي أضرب مثالا في قضية العلم مرة أخرى:
بعض الشباب في هذه الحماسة العلمية يتتبعون مسائل الخلاف وتجد الواحد بعد يوم أو يومين من بداية عنايته بالعلم أو بعنايته بالالتزام إذا به يسمع هذه المسائل الخلافية ويتحدث بها، فلان مخطئ فلان كذا ويبدد الجهود في تتبع الأخطاء وفي حفظ الأحاديث الضعيفة والموضوعة وهو لم يعرف الصحيحة بعد ولم يحفظها ولم يكون من ذلك نظرة علمية واضحة يستطيع بها أن يميز بعد ذلك الخطأ الذي قد يكون في هذه المنهجيات المختلفة.
وقد قال ابن القيم رحمه الله كما ورد في الفوائد قال: من تتبع شواذ المسائل يعهني التي فيها الخلافات فقط يتتبعها، يقول: منهج أهل السنة والجماعة أخذ أصول العلم قال: وغيرهم يتتبع شواذ المسائل وهو يقول عن تجربة: وقل من رأيته يفلح في هؤلاء، ما يصل إلى ثمرة لأنه إذا صح التعبير يأخذ من كل بحر قطرة وينتهي بعد ذلك إلى ولا قطرة، ليست هناك يعني هذه الصورة الإيجابية التاي بتجميع هذه الجهود نصل إلى ثمرة هناك ضياع وخسارة.
5- التضخيم والاختلال:
هناك نقاط صغيرة يمكن بالمكبرات أن ترى وهي مئات أضعاف حجمها من حماسة الناس أحيانا إذا تحمس لأمر جعله هو كل شيء هو مبتدأ الأمر ونهايته وهو أوله وغايته وهو الذي لايمكن أن ينشغل أحد بسواه وإذا انشغل أحد بغيره فهو ضائع وتافه ومضيع للأمور وهكذا تندفع العاطفة تماما هي العاطفة بطبيعتها حتى لو اندفعت العاطفة كما نعرف عند العشاق والمحبين تختصر الدنيا كلها في المعشوق والمحبوب كما قال المجنون ولا بأس أن يكون هذا التفريع للشباب، يقول:
إذا قيل للمجنون: ليلى تريد *** أم الدنيا وما في طواياها
لقال غبار من تراب نعالها *** أحب لنفسي وأشفى لبلواها(3/164)
يقول ابن الجوزي معلقا: وهذا مذهب المحبين بلا خلاف فمن أحب الله ورسوله كان أدنى شيء منهما أحب إليه من كل هذه الدنيا وما فيها.
فالمسألة الاندفاعية في العاطفة هذه قضية عظيمة ومن أمثلتها: التقديس والتبخيس والتهوين والتهويل: من أحببناه جعلناه ذلك الرجل الذي كأنما هو ملك مبرأ من كل عيب أما علمه فغزير وأما رأيه فسديد وأما منطقه ففصيح وأما تصرفه فحكيم، كأنما لم يكن فيه عيب مطلق ونحن حينئذ نقول: هو الأول وهو الآخر وهو الذي ينبغي أن يكون … أين هذا من ذلك الاتزان حتى النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) ويقول: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) يعني يجعل هذا الاعتدال في شخصه عليه الصلاة والسلام وهو من هو في عظمته ومكانته عند ربه سبحانه وتعالى ولذلك مما رواه أبو هريرة وهو من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحب شيء إلينا رؤيته فإذا أقبل علينا لم نقم له لأنا نعرف كراهيته لذلك.
وأحيانا إذا انتقصنا إنسانا وكان غير مقنع لنا فلا نكاد نرى له حسنة من الحسنات:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
وهذه قضية واضحة ونعرف الأمثلة في هذا قصة سلمان رضي الله عنه ولا أريد أن أطيل.
إذن هل نحن الآن مع الحماسة؟ وإلا فترت حماستنا للحماسة والمتحمسين لكننا نقول: لا للتهور، الحماسة التي قلناها باقين على عهدنا بها وعلى تأييدنا لها.
الحماسة المتهورة :
ثم نمضي مرة أخرى إلى الحماسة المتهورة: ما أسباب هذا الذي رأيناه من قبل؟ لابد أن نعرف العلل من خلال أسبابها وبداياتها حتى نجتنبها وحتى نتقيها فالوقاية خير من العلاج أول هذه الأسباب:
1- قصور في العلم:
مشكلة الجهل هي آفة الآفات ومن الجهل: جهل بسيط وجهل مركب كما تعلمون، الجهل الذي نقصده هناك غياب كثير من الأصول العلمية المهمة:
معرفة النصوص الشرعية في كثير من الميادين الحياتية والمسائل الآنية المستجدة، معرفة القواعد الشرعية كما قلت التي هي خلاصة إستقراء للأدلة النصية ، معرفة المقاصد الشرعية التي هي خلاصة غايت هذا الدين وأهدافه، معرفة السنن الربانية في طبيعة هذه الحياة وطبيعة قيام الدول وسقوطها وطبيعة مآل المتقين وعاقبة المكذبين والكافرين قضايا كثيرة لابد أن ندركها ونعرف أنها سنن ماضية لا تتبدل:
{ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } (فاطر: من الآية43).
لابد أن يكون عندنا يقين ومعرفة وتشرب لهذه المعاني حتى لا نندفع مع العاطفة بعيدا عن هذه الأصول العلمية المهمة وكما قلت الأمثلة قد تطول ولكنني أذكر عندما نتلو قول الله سبحانه وتعالى:
{ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } (محمد: من الآية7).
عندما نقول:
{ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود: من الآية49).
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُون َ} (الروم:60).
هذه معاني مهمة النبي عليه الصلاة والسلام طبقها والصحابة على سبيل المثال بعض الأمثلة.
في سنن أبي داود نفر من الصحابة كانوا في سفر شج أحدهم أصابته الجنابة استفتى أصحابه، قالوا: لا لابد أن تغتسل الجو بارد والرجل مشجوج، قالوا: لابد أن تغتسل، فاغتسل فمات، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله، أ فلا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال) كم من القضايا الضخمة الهائلة والمسائل الكبيرة التي من المفترض أن لا يتكلم فيها إلا أكابر العلماء مجتمعين وإذا بك تجد ذلك الشاب في مقتبل العمر يتناول الحديث فيها ويفتي فيها ويعطي القول الحاسم والجازم ويرفض كل ما يخالف رأيه وقوله وهذا في غالب الأحوال ليس عن أساس علمي وإنما هي عن اندفاعات عاطفية وخليط ومزيج من هذه التجاذبات التي تجتمع لدى هذا أو ذاك وكما قلت المسائل كثيرة.
2- النقص في الوعي:
والوعي هو: إدراك المسائل من جميع جوانبها ومعرفتها من كل وجوهها، كثيرا ما تكون النظرة إلى جانب واحد تذكرنا بالقصة المشهورة للعميان الثلاثة الذين اتفقوا هل رأوا الفيل؟ فأحدهم وقعت يده على خرطومه، والآخر وقعت يده على أذنه، والثالث فكل عندما وصف إنما وصف الجزئية التي رآها وكان الوصف أبعد ما يكون عن الحقيقة لأنه لم تكتمل الأجزاء حتى تتكامل الصورة بشكل واضح معرفة الواقع أصل مهم في تنزيل الحكم الشرعي على هذه المسائل وهذه مسألة طويلة وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد فصولا نفيسة في هذه المسألة وقال: إن كل عالم ينبغي أن يكون عالما بالشرع وبصيرا بالواقع حتى يستطيع أن ينزل هذا على ذاك نقص لوعي لما وراء هذه الأمور وم يترتب عليها من المفاسد والمصالح والرؤية التكاملية إذا غابت فإنها في غالب الأحوال يقع لها يعني بها مثل ذلك الذي أشرنا إليه.
3- الضعف في التربية:
كثيرة أجيال الشباب الذين لم يتلقوا تربية متكاملة منهجية على الأصول الإسلامية كثيرون منا كنا في أوقات ليس عندنا أحد يرشدنا أو ربما لقد كنا سرنا في طرق من التسيب أو التفلت أو تجاوز المحارم أو نحو ذلك ثم بعد ذلك عدنا أو كانت لنا ثقافات خليطة ثم بعد ذلك حاولنا أن تكون لنا ثقافة أصيلة هذا الخليط فيه ضعف في التربية ليس فيه تعود على منهجية متكاملة على سير واضح على تخطيط بين على صبر وانضباط كثيرا ما يكون عبارة عن هذه الردود الانفعالية وكثيرا ما نرى الجوانب المتضادة فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بغير أن تمر أو بغير أن يكون هناك مرور على منطقة الوسط وهذا مشاهد في كثير من الجوانب.
4- إحباط في الشعور:
وهو لعله من أخطرها وأكثرها تأثيرا في الشباب الذين يتهورون وهو: الإحباط في مشاعرهم من نواح عدة أول هذه النواحي:
تسلط الأعداء وهيمنتهم على أحوال وأوضاع بل وبلاد الأمة الإسلامية في عجز فاضح وتخاذل واضح وسلبية مؤلمة ومحزنة:
هذه عند الشباب المتحمس يرى ذلك فتغلبه عاطفته وتتقد حماسته وربما عند غياب ما سبق تضيع الرؤية وطيش العقل وينعدم الرأي السديد المبني على العلم الصحيح وهذا نحن نعرف واقعه ونعرف كم هي بلاد الإسلام التي احتلها الأعداء وتسلطوا عليها ليس لسنة ولا سنتين ولا لعقد ولا عقدين بل لما هو أكثر من ذلك ولعل فترات الزمن الأخيرة كان فيها كثير مما يعد هزائم وتراجعات المسلمين على مستويات عدة بل على المستويات الحضارية والعلمية وهذا عند من تتقد نفسه غيرة وحمية لابد أن يكون لها أثر فإذا زاد حجم هذه القوة حجم هذا العدوان وحجم هذه الهزائم أصبحت أكبر من أن تحتملها نفسه فيخرج إلى غير حد اعتدال وإلى غير تصرف الاتزان وهذا أمره أيضا واضح.
الأثر الثاني في إحباط الشعور: أيضا كثرة الانحراف والخلل والتجاوز في مجتمعات المسلمين نفسها في حدود الله عز وجل:
نحن نعرف كم في بلاد المسلمين من هذه التجاوزات كم في بلاد المسلمين من إقرار المنكرات والقيام بها وإعلانها وتبنيها، كم فيها مما هو مخالف لشرع الله ويمنع شرع الله ويبيح ما يخالف شرع الله وهذ قضية لا شك أن كل ذي غيرة وإيمان يضيق صدره بها وتغلي نفسه ويشتعل قلبه حزنا وألما ورغبة في أن لا يكون مثل ذلك لكن عندما تفقد بعض هذه الصور يكون أيضا ما ذكرناه.
وجانب ثالث: وهو سوء المعاملة والظلم في التعامل مع هؤلاء الشباب:(3/165)
سواء كان في بيئة التعليم من أساتذتهم أو من قد يكونون في موقع التربية ولا يجدون منهم إلا تخطئتهم وإتهامهم بالنزق والطيش أو كذا أو حتى في الدائرة الأسرية وعجز الآباء عن تفهم ما قد يكون عند الشباب من عواطف فيها أخطاء لكنها تحتاج إلى توجيه وربما كذلك أحيانا في المعالجات والمعاملات الأمنية عل مستوى الدول كثيرا ما كانت هذه هي بذور لتلك الانحرافات بشكل أو بآخر ونحن في عصر تتجدد أحداثه وتتفاقم بشكل كبير وهذه قضية مهمة.
5- رداءة في الاستيعاب:
هذه الطاقة المتدفقة والحماسة المتألقة أين تصرف؟ أين مجالها الصحيح؟ كيف نضعها على خط القطار ليمشي إلى الوجهة التي ينتهي إليها ليصل إلى غاية محددة ومعروفة عندنا أمران: إما أنها مسنفذة في أمور تافهة وضائعة فكم مستنفذ من حماس الشباب في الرياضة على سبيل المثال، كم من حماسة وقوة وربما صراع وربما أعصاب ويعني قدرات تتفجر في هذا الجانب بهذه الضخامة أو في جوانب أخرى أيضا ليست في الاستثمار الصحيح الرياضة جيدة ربما حتى التشنيع في أصله ليس على هذا ليس شيئا مذموما لكن هذه المبالغات تجعل في آخر الأمر أنها لا تقنع وأنها في الأخير ترتد إلى فراغ يرجع إلى بحث عن بديل آخر ، وإما أيضا: أنه هناك غياب وقلة وندرة في المحاضر الاستيعابية لطاقة هؤلاء الشباب وحماستهم.
حماسة الأكياس:
لعلي أصل إلى نقطة أخيرة وإنها نقطة مهمة وكما قلنا لا للتهور نقول: لا للمتهورين وتسألون الآن: ما الذي تريد؟ وأين سنصل؟ ما بين حماسة مدحتها ثم عدت ونقضت أصولها وهنا نكمل بالشق الثاني لعنواننا ونقف هذه الوقفة الأخيرة في: حماسة الأكياس:
1- التعقل والاتزان :
وطبعا ليست الأكياس الأكياس إنما الأكياس من ذوي العقول، هنا جمعنا بين الأمرين نريد هذه الحماسة والحقيقة أن الإنسان بدون الحماسة والحيوية النفسية في الحقيقة هو أقرب إلى الجماد وإلى الموات منه إلى الإنسان الذي بطبيعته هو حيوي والتفاعلات الحيوية في جسم الإنسان في الثانية الواحدة تقوم عمليات ضخمة وهائلة في جسم الإنسان ثم هو بعد ذلك يكون خاملا وقاعدا وكسولا هذا لا يتطابق لذلك نقول: صفة الحماسة إذا أضفنا إليها هذا الخليط والمزيج من الكياسة أصبحت الحماسة الإيجابية هي التي نمدحها ونريدها وترشدها تلك النظرة العقلية المتزنة فتأتينا هذه الصورة التي نريد أن نعطي فيها وصف لهذه الحماسة الكيسة أو الكياسة المتحمسة أو كما ذكر في كلمات جميلة الأستاذ البنا يقولا: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول وأنيروا أشعة العقول بلهيب الحماسة.
وهي كلمات جميلة تبين أننا نحتاج لمزج ذلك العقل الذي دائما يتحفظ يتحفظ ولا يريد أن ينطلق يحتاج إلى بعض الحماسة حتى تفك عنه بعض تلك القيود التي يبالغ فيها وربما تلك الحماسة المندفعة تحتاج إلى بعض القيود العقلي حتى يرشدها فلذلك التعقل والاتزان مهم جدا الاتزان لا يجعل هناك طغيان جانب على جانب كما قلنا ونستحضر كما قلنا في قصة سلمان وأبي الدرداء: لما جاء سلمان إلى أبي الدرداء شكت أم الدرداء، قالت: أخوك أبو الدرداء لا حظ له في الدنيا وكذا وإنما هو صائم نهاره أو قائم ليله فنزل ضيفا عليه أراد أن يصلي قال: لا، كان صائما وقدم لسلمان الطعام قال: كل معي، قال أنا صائم قال: أفطر وجعله يفطر ثم أراد لما جاء الليل أن يصلي قال: نم ، ثم قام يريد أن يصلي، قال: نم، حتى انتصف الليل قال: قم فصلي، ثم جادله في ذلك فلما بلغ الأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (إن لأهلك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا "لضيوفك يعني " وإن لنفسك عليك حقا فأعطي كل ذي حق حقه).
موقف أيضا لعثمان بن عفان رضي الله عنه لما كان في فترة خلافته تعرفون ما بدأ بعض المرجفين يشيعونه من انتقادات على عثمان رضي الله عنه فلما جاء موسم الحج كان عثمان رضي الله عنه من أخيار الصحابة يريد أن يبين للناس خطأ ما يقولونه ويفند فقال: لأقومن في الناس مقاما لا أدع شاردة وواردة إلا أتيت عليها يريد أن يبين للناس، قال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ورب كلمة يطيرها عنك مطير، عقول لا تستوعب عامة الناس تذكر قضايا وإذا بها بعد ذلك تتطيش وهذا يأخذها يمينا وذاك يأخذها يسارا وهذا يفهمها على وجه وذاك يفهمها على وجه آخر الكلام في موضعه جعله الشاطبي رحمه الله من السنة وجعل الكلام في غير موضعه جعله من البدع كما ذكر ذلك في الاعتصام استدلالا بحديث النبي عليه الصلاة والسلام في حديث علي عند البخاري: حدثوا الناس بما يعرفون أ تحبون أن يكذب الله ورسوله؟ وحديث ابن مسعود في مسلم قال: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ، وهذا أمره واضح.
في الحديبية موقف جميل للنبي عليه الصلاة والسلام لما أرادوا أن يكتبوا قال: (اكتب محمد رسول الله) قال: سهل بن عمرو لو كنا نعلم أنك رسول الله ما جادلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، ولما قال: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) قال: لا، لا نعرف ما الرحمن ولا الرحيم، اكتب باسمك اللهم، الرسول يقول لعلي بن أبي طالب: (اكتب) وعلي غير قابل لهذا يعني لا يرى ذلك المسألة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أوسع نظرا وعقلا دع هذه الصغيرة من الأمور فقال: (اكتب) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرينيها؟) فمسحها الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات بنفسه، قال لعلي: (اكتب) دعك من هذه القضية الصغيرة فإن هناك ما هو أكبر منها لا تجعل هذه المسألة أكبر من حجمها وبالتالي تجعل كل توجهك ومواجهتك وقوتك وطاقتك واعتراضك لهذه القضية فتستنفذ أو تقيم فيها معركة ضخمة هائلة كما نرى من بعض الشباب الآن عندما يذكرون أمرا من الشرع وسنة من السنن لكن يجعلون النفير عليها كأنها أصل الدين كله وربما جعلوا من ذلك كما يخرجون به إلى تفسيق أو تبديع أو تكفير من غير مثل هذا الذي ننبه الناس إليه.
2- الضبط والإحكام :
وقد ذكرت في هذا ما هو مهم جدا ولعلنا نستحضر مثالا واحدا:
في بيعة العقبة بعد أن بايع الصحابة رضوان الله عليهم بل قبل أن يبايعوا انظروا كيف كانت روح الحماس جاء أبو التيهان وفي رواية غيره قال: اعلموا أنكم إنما تبايعون الرجل على حرب الأحمر والأسود فإن رأيتم أنكم تسلمونه فمن الآن، أراد أن يفاصلهم وينبههم وأن يستشعر حميتهم، فبايعوه فقال العباس بن عبيد بن نضلة رضي الله عنه: قال: يا رسول الله لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا في منى هذا الكلام في الفترة المكية، قال: لو تريد غدا أن نناجز القوم ونقاتلهم انتهى قال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نؤمر بذلك) ولما جاءه الخباب في الفترة المكية وقد اشتد الأذى: يا رسول الله ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟ قال: (إنه كان في من كان قبلكم من يحفر في الأرض ثم يوضع فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فينشر حتى ينفلق إلى نصفين ما يصده ذلك عن دينه وإنه كان يؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه) ثم قال: (والله ليبلغن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون).
3- التدرج والاستثمار:
لهذه العاطفة: لو أننا تدرجنا لوجدنا أننا نحصل أكثر مما نحصل بالسرعة التي ليس فيها مراعاة للواقع ولطبيعة الإنسان وإمكانياته من أحسن الأمثلة في هذا:(3/166)
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما تولى أبوه الخلافة ونعرف عمر كيف كان عندما تولى الخلافة ورعا وزاهدا وكان يعني يأخذ بالجد في الأمور، جاءه ابنه عبد الملك ينكر عليه ويقول: كيف تلقى الله عز وجل وفي هذا كذا وكذا، فقال له: ألا ترضى أن لا يمر على أبيك يوم إلا وهو يميت بدعة ويحيي سنة، ذاك الشاب يريد أن يغيرها كلها في يوم واحد، وهذا لحكمته وأيضا قوة إيمانه وحماسته يريد أن يجعلها في منهجية تحصل بها النتيجة ويقع بها الأثر المطلوب.
ونعرف ما كان من شأن النبي عليه الصلاة والسلام: في عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة طاف النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة والأصنام حولها ستون وثلاثمائة صنم، والرسول يطوف بها بعد صلح الحديبية، ولم يشتمها ولم يتعرض لها أبدا لأن له مجال آخر بعد عام واحد فقط في العام الثامن فتح مكة جاء ومعه محجنه عليه الصلاة والسلام يطعن هذه الأصنام وهي تتهاوى ويقول:
{ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } (الإسراء:81).
كل شيء بأوانه الإنسان يجتهد ويعد عدته ويفكر ويدبر ويستشير ويستعين بالله عز وجل ويستخير ولكن هذا التعجل لا ينبغي أن يكون .
4- الدوام والاستمرار :
هو طبيعة ذلك التدرج (خير الأعمال أدومها وإن قل) (أحب الأعمال إلى الله ما كان ديمة) وحتى النية لكي نحافظ على هذه الحماسة تأتينا ثمرتها نحن الآن لانريد العواطف التي تصل بنا إلى العواصف القاصمة وإنما نريد العمل الذي يدوم ويستمر.
ابن عباس يذكر قصة له مع صاحب من الأنصار في سنه، قال: لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم قلت لصاحبي من الأنصار: اغد بنا إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم نطلب العلم، قال له: ومن ينظر إليك يابن عباس وفي القوم أبو بكر وعمر وفلان، قال: فانطلقت وتركته وضللت أتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخذ عنهم وتدرج وتدرج حتى أصبح ابن عباس بعد فترة قصيرة من الزمن بهذه المواظبة والاستمرارية هو حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه.
والنبي عليه الصلاة والسلام رأى حبلا متدليا كما في الصحيح، قال: (ما هذا؟ ) قالوا: حبل لزينب، تصلي فإذا تعبت تعلقت به، قال: (مه، عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد) خذ أمرا تستطيع أن تواصل فيه .
5- التنامي والانتشار :
وهذا أيضا من الأمور المهمة وينتج عن هذا لو أننا أخذنا بذلك سوف تنمو هذه الحماسة وتنتشر وتعم هذه الإيجابية بشكل مهم وأساسي ولعلنا وقد تجاوزنا الوقت نقول:
إن الذي نريده حماسة ولكنها مشوبة بهذه الكياسة نحن نقول: لا للتهجين والترويض ولكننا أيضا نقول: لا للإثارة والتهييج، نحن نريد أن يكون لنا طريق إلى هذه الحماسة الراشدة من خلال ما قلناه في تلك الجوانب السلبية بعكسه إيجابيا:
علم بالشرع وبصر بالواقع وصبر في المعالجة وعدالة في المواقف وأناة في الممارسة والله سبحانه وتعالى قال:
{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } (الكهف:58).
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
==============
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [2/5]
عمر بن عبد الله المقبل (*) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن مثل هذه التساؤلات، والآهات التي تنفثها صدور كثير من شباب الأمة، لهي والله بشير خير، كيف لا؟ وقد أتى على أكثر شباب قبل ثلاثة عقود من الزمان تقريباً، ولا هم لهم إلا الحديث عن الفن والكرة ونحوها من الأمور التي شغلوا بها ردحاً من الزمن!
لقد مرّت فترة على أكثر الشباب ،وأحدهم ربما بكى لأن فريقه الكروي انهزم ، أو مطربه المفضل مات، واليوم نرى كثيراً من شبابنا -ولله الحمد-ترتقي همهم ،ليكون بكاؤها على ما يستحق البكاء.. ألا وهو البكاء على ما يحل بالمسلمين من ظلم وقتل واغتصاب من قبل أعدائهم.
وفرحتنا بهذا التحول في الاهتمامات ،وبهذه التساؤلات والآهات -لكي تكتمل -يجب أن نستثمرها استثماراً إيجابياً حتى لا تفتر هذه العزمات المتطلعة لنصر الأمة.
أما النواح والبكاء دون عمل، فليس هذا من هديه - صلى الله عليه وسلم -، ولك أن تعلم مقدار حزنه العظيم الذي كاد يفلق كبده على شهداء أحد، ومع ذلك لم يمنعه ذلك المشهد - الذي بقي معه إلى أن مات- من الاستمرار في الجهاد لهذا الدين، وتبليغه.
وإذا تحدثنا عن أهمية استثمارها ، فإننا نؤكد على أهمية ترشيد هذه التساؤلات حتى لا يساء استخدامها في أمور قد يُظَن أنها نافعةٌ وليست كذلك، والسبيل إلى ذلك إنما يكون بترشيدها، وهذا يمكن تحقيقه بعدة أمور:
1- يجب أن لا نغفل ـ في زحمة الأحداث، وشدة وطأتها على قلوبنا ـ عن السنن الإلهية في ابتلاء أهل الإيمان، فلقد ابتلي من هومنا، وكم في الإبتلاءات من الألطاف الخفية لربنا تعالى ،والتي قد تعجز عقولنا عن تصورها،فضلاً عن الإحاطة بها.
أين أنت أخي عن قوله تعالى لخير جند مشوا على وجه الأرض : محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته؟ الذين قيل في حقهم -لما ابتلوا بما ابتلوا به يوم أحد -: "وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" قال غير واحد من السلف: أي: ليختبر الذين آمنوا، حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صبرهم ويقينهم.
وقيل لهم أيضاً: "وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ"، أي : يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال .
أخي: كم في الأمة من العلل؟ وكم فيها من الدخلاء ؟ وكم فيها ممن يدعي الحرقة والأمر ليس كذلك؟!
هل نسيت أيها المبارك ما وقع لنبيك - صلى الله عليه وسلم- يوم أحد ؟ أو يوم الأحزاب؟!.
إن هذه الأحداث التي أقلقتك وأزعجتك ، إنها تحت سمع الله وبصره، والله -تعالى- أغير من خلقه أن تنتهك حرمات عباده ،وتغتصب نساء أوليائه ،ويُعرض عن دينه ،ويحارب حزبه ،ولكنها السنن - أيها الأخ الكريم - التي ربّى النبي - صلى الله عليه وسلم- عليها أصحابه حين اشتكوا إليه شدة ما يلقون من المشركين ، ومنهم خباب - كما في البخاري - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
وهذه الجملة الأخيرة، يجب ألا تغيب عن الأذهان، ونحن نبحث ونتلمس النصر لهذا الدين..
ويجب ألا تغيب ونحن نسمع أو نعلم عن إخوان لنا في السجون قد يموت أحدهم في سبيل الله ، ويجب أن ندرك أن الأمر كما قال الشاعر:
فتلك سبيلٌ ، لست فيها بأوحد
2 ـ ومع استحضار سنة الابتلاء، فإننا يجب أن نتذكر أن هذا الطغيان والاستبداد الذي تراه من أمم الكفر، هو أيضاً لا يخرج عن سنة أخرى من سنن الله تعالى في الأمم، وهي أن هذا في الحقيقة تمهيد لمضي سنة أخرى من سنن الله تعالى، ألا وهي محق الكفار.(3/167)
يقول ابن القيم -رحمه الله - وهو يتحدث عن العبر من غزوة أحد في (زاد المعاد)
(3/222): ومنها ـ أي من دروس غزوة أحد ـ أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها - بعد كفرهم - : بغيهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين"، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم، وتقوية نفوسهم، وإحياءِ عزائمهم وهممهم، وبين حسن التسلية، وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم، فقال: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله" فقد استويتم في القرح والألم، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال: "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون" فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم؟! فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.
ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس، وأنها عرض حاضر يقسمها دولاً بين أوليائه وأعدائه، بخلاف الآخرة فإن عزها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا.
ثم ذكر حكمةً أخرى، وهي: أن يتميز المؤمنون من المنافقين ، فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة ، بعد أن كانوا معلومين في غيبه.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهي: اتخاذه سبحانه منهم شهداء، فإنه يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة " انتهى.
وكان قال قبل ذلك ـ رحمه الله ـ مقرراً هذا الأصل (3/18): والمقصود أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان، إذ النفسُ في الأصل جاهلةٌ ظالمةٌ، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية" اهـ .
3- علينا -أيضاً- أن ندفع هذه السنة بسنة أخرى، وهي سنة العمل للدين، فإن الله تعالى قادرٌ أن ينصر دينه بأيسر الأسباب ،ولكن اقتضت حكمته أن لا يتم النصر إلا على أيدي رجالٍ ينذرون أنفسهم لنصرة دينهم بالغالي والنفيس، وبكل ما يقدرون عليه.
ألم تر -أخي الكريم- كيف ترك المهاجرون ديارهم وأموالهم، بل أخرجوا منها رغماً عنهم، وقبلوا بذلك، وما أرخصه إذا كان الثمن رضوان الله والجنة، فأعقبهم الله تعالى- بعد سنوات من الدعوة والجهاد- بأن عادوا إليها فاتحين، وقبل ذلك وبعده أن الله تعالى رضي عنهم، وعن إخوانهم من الأنصار.
إذن، نحن بحاجة إلى أن نخرج من دائرة النواح والبكاء، لننزل إلى ميادين العمل، وما أكثرها في هذا الزمن!
ومن المهم -أيضاً- في هذا المقام أن لا نختصر مجالات النصرة، وسبل رفع الذلة عن هذه الأمة في عملٍ واحد، فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بالتوحيد، هو الذي أمر بإماطة الأذى عن الطريق، وهو الذي أمر بالإحسان إلى الحيوان ويجب أن لا نستهين بأي عملٍ فاضل، وأن لا يعيب المشتغل بالعلم تعلماً وتعليماً من نذر نفسه في ميادين الدعوة إلى الله، أو في ساحات الجهاد ، والعكس صحيح، فإن الجميع يكمل بعضهم بعضاً، ولا غنى للأمة عن أي عملٍ صالح.
نعم! ليست الميادين في تأثيرها وقوتها بدرجة واحدة، لكن مقصودي هو التحذير من اختزال أسباب النصر في سبب واحدٍ أو سببين، فإن الله تعالى قال: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".
فلنسع إلى نصرة ديننا جهدنا، ولنكن ممن لبى نداء ربه الذي قال:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ".
وقد سألت أيها الفاضل عن كيفية السعي لنصرة هذا الدين؟ وسأل آخر عن كيفية القيام بواجبه الدعوي؟ ومن الصعب في مثل هذه العجالة أن أفصل لك ماذا تعمل، لكن يمكنك الانطلاق من خلال الخطوات التالية:
1- قم بحصر للمنكرات في محيطك الذي حولك.
2-ابدأ بعلاج المنكر الأكبر ، فإن لم تستطع فانتقل للذي بعده.
3- تواصل وتشاور مع أهل العلم والدعاة ـ إن وجدوا في بلدك ـ لبحث كيفية علاج هذه المنكرات أو التخفيف منها، وإلا فانتقل للذين بعدهم وهكذا، وأرجح ألا تبتعد في السؤال عن أهل بلدك، لأنهم أعلم بحال بلدك من غيرهم، فإن عدموا ـ ولا أظن ذلك ـ فبإمكانك أن تتواصل مع غيرهم.
4- ديننا قائم على: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمع ممارسة النهي عن المنكر، يجب أن نقدم للمجتمع المعروف، بل البدء به هو الأصل، فليس صحيحاً ألا يسمع المجتمع منا إلا نبرة الإنكار فقط، بل من نشر المعروف، بالدروس والمواعظ، أو على الأقل عن طريق خطب الجمعة، كل ذلك بحسب الطاقة.
فإن منعنا من ذلك كله، فلن نعجز أن نري المجتمع منا صدقاً في الالتزام بهذا الدين، نتمثله بالصدق في أقوالنا وأفعالنا ، فتلك -وربي- ليست بهينة ، فقد كسب بها النبي ج أنصاراً لدينه بسبب صدقه وأمانته، وشمائله الطيبة التي جعلت الناس يقولون: ما كان هذا ليكذب على ربه وهو لا يكذب في حديث الناس.
4- ونحن نرى ما نرى من الإبتلاءات والشدائد، يجب أن نفتح أعيينا على الجوانب المشرقة التي تحققت للأمة في العقدين الأخيرين، على مستوى الشعوب على الأقل؟!
فمن ذا الذي ينكر هذا الخير العميم الذي انتشر في بلاد الإسلام؟
ومن الذي يكابر في هذه الأفواج الكبيرة العائدة إلى الله، أو الداخلة في دين الله تعالى؟!
كم هم حفظة القرآن؟ كم هم المشتغلون بحفظ السنة؟.
ألم تر عينك أفواج الشباب التي تعتكف في الحرمين في العشر الأواخر من رمضان؟
ألم تسمع عن أخبار المجاهدين الذين رووا أرض الجهاد بدمائهم في فلسطين، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، والعراق؟!
متى كان الشباب يعلنون أن أغلى أمانيهم أن يموت أحدهم شهيداً؟!
كم هن النساء اللاتي عدن إلى الحجاب، وهن في وسط الفتن، رغم قوة الصوارف والمغريات؟!
إن هذه -أخي الفاضل- مكاسب كبرى، يجب أن تكون رافعةً لهمتنا، ومبشرةً لنا بأن عمل من سبقنا من المصلحين - رغم ضعف إمكانياتهم، وقلة اتصالاتهم- آتى ثماراً يانعة.
إن بشائر النصر تلوح في الأفق، وهي -بمقياس الزمن الطويل- ليست ببعيدة بإذن الله، ولكننا -أحياناً - نستعجل، وربنا لا يعجل لعجلتنا.
يقال هذا، وتذكر هذه البشائر، ونحن جميعاً نعلم أن في الأمة جوانب كثيرة، تحتاج إلى إصلاح، نعم ..لكن لماذا نستمر في جلد ذواتنا ،وتحطيمِ ما شُيِّد من جهود كبيرة، وكأننا لا نملك أي بصيص من الأمل ؟!
5- قلب نظرك -أخي - في صفحات التاريخ ، فستجد أن الأمة مر بها أنواع من الفتن والإبتلاءات، أضعفتها، وأنهكتها فترة من الزمن، ولكنها عادت بعد ذلك قويةً.(3/168)
وحسبي هنا أن أشير إلى إحدى الإبتلاءات الكبار التي تعرضت لها الأمة، وهي غزو التتار، وسأسوق لك كلام عالمين أرّخا ورصدا مشاعر الأمة في تلك الفتنة العمياء الصماء، أحدهما أدرك أولها، والآخر أدرك آخرها.
أما الذي أدرك أولها فهو العلامة ابن الأثير ـ في كتابه "الكامل" 10/399 -حيث يقول -في أحداث سنة 617هـ: "لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها،كارهاً لذكرها، فأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن،لم يبتلوا بمثلها ،لكان صادقاً ،فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب البيت المقدس وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"
وهذا الوصف من ابن الأثير وهو بعد لم يدرك تلك الفاجعة العظمى والنكبة الكبرى لسقوط بغداد، ونهاية الخلافة الإسلامية الكبرى.
يقول ذلك وهو لم يعلم بتجاوز التتر بلاد العراق إلى بلاد الشام، وما تبع ذلك من مآس ومصائب، والتي وصفها إمام آخر وقف على أحداثها، يصفها ويشخص فيها أحوال الناس، ويصور مشاعرهم ومواقفهم بدقه وخبرة، شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حين يقول: " فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم، لاسيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبلُ الإيمان أن ينقطع وينصرم، ودارُ المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أنْ ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت اللبيب لكثرة الوساوس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان، ورفع بها أقواماً إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواماً إلى المنازل الهاوية، وكفّر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامه مختصرة من القيامة الكبرى... وفرّ الرجل فيها من أخيه، وأمه وأبيه، إذْ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسِه... وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل "انتهى كلامه رحمه الله.
6 ـ لا بد أن نعلم أن من حكم الابتلاء: تمحيص الصفوف، تكفير الذنوب، وهذا أمرٌ بين، فكم هم الدخلاء على الصف الإسلامي، الذين لا يعرفهم إلا الندرة من الناس، فإذا جاءت مثل هذه المحن والابتلاءات ميّزت الطيب من الخبيث، وشرح ذلك يطول جداً.
7 ـ هذا دين الله الذي تكفّل بنصره، وأمرنا بأن نسعى لذلك، ولم يكلفنا أن نحصد ثمرة النصر، بل هذه لم تطلب من النبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام..
تأمل أخي.. لقد مات النبي – صلى الله عليه وسلم - وهو لم يفتتح من بلاد الإسلام القائمة اليوم إلا ما يشكل الربع تقريباً أو أقل، ولكن تابع أصحابه والتابعون لهم بإحسان الفتوحات، فوصلوا إلى حدود الصين شرقاً، وإلى جنوب فرنسا غرباً، وكل ذلك محسوب ومضاف إلى رصيده.
فالواجب علينا أن نتبنى مشروعات دعوية، تقوم على العمل المؤسسي ـ إن أمكن ـ لأن ذلك أدعى لاستمرارها وبقائها، إذ لن يؤثر عليها موت شخص أو سجنه، بل هي تسير وفق خطة وسياسة واضحة، يتلقها اللاحق عن السابق، وما منظمة حماس إلا نموذج حي للعمل المؤسسي الذي لا يتوقف بموت قائد أو مؤسس.
7- إني لأعجب من مسلم يقرأ قوله تعالى:"وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ *وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" كيف يدب اليأس إلى قلبه؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ـ فيما نقله عنه ابن عبدالهادي في "اختيارت ابن تيمية ص(70-71) ـ: ((وهذا يشكل على بعض الناس، فيقول: الرسل قد قتل بعضهم، فكيف يكونون منصورين؟
فيقال: القتل إذا كان على وجهٍ فيه عزة الدين وأهله كان هذا من كمال النصر، فإن الموت لا بد منه، فإذا مات ميتةً يكون بها سعيداً في الآخرة، فهذا غاية النصر، كما كان حال نبينا ج، فإنه استشهد طائفة من أصحابه فصاروا إلى أعظم كرامة، ومن بقي كان عزيزاً منصوراً، وكذلك كان الصحابة يقولون للكفار: أخبرنا نبينا أنّ من قتل منا دخل الجنة، ومن عاش منّا ملك رقابكم.
فالمقتول إذا قتل على هذا الوجه كان ذلك من تمام نصره، ونَصْرِ أصحابه.
ومن هذا الباب حديث الغلام ـ الذي رواه مسلمٌ ـ لما اتبع دين الراهب، وترك دين الساحر، وأرادوا قتله مرة بعد مرة، فلم يستطيعوا حتى أعلمهم بأنه يقتل إذا قال الملك: باسم الله رب الغلام، ثم يرميه، ولما قتل آمن الناس كلهم، فكان هذا نصراً لدينه)) انتهى كلامه:.
8- في ظل هذه الفتن، وتتابع هذه المصائب، يجب ألا تشغلنا هذه الفتن عن عباداتنا الخاصة بيننا وبين ربنا، فالضرورة تتأكد بوجوب العناية بإصلاح القلب، وهذا يتحقق بأمور:
أ ـ التعلق بالله -عز وجل- دائماً، واللجأ إليه، وكثرة الإلحاح عليه بالدعاء، فإن الله تعالى نعى على قومٍ أصيبوا بالضراء، فلم يكن ذلك سبباً في تضرعهم، قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ".
فما أحوجنا إلى اللجأ، والتضرع إلى ربنا في كشف ضرنا، وإصلاح أحوالنا، والاستغاثة به في طلب النصر، وكبت العدو وخذلانه.
ب- لا بد لكل واحدٍ منا من عبادة يلازمها، ويكثر منها، مع العناية ببقية العبادات، فإن للعبادة أثراً عظيماً في سكون القلب، واستقرار النفس.
ولئن كان هذا مطلوباً في كل حين، فهو في أوقات الفتن آكد وأعظم، فإن النبي ج يقول -كما روى ذلك مسلمٌ في صحيحه من حديث معقل بن يسار س -: "العبادة في الهرج، كهجرةٍ إليَّ".(3/169)
وسبب ذلك -والله أعلم - أنه في زمن الفتن يخف أمر الدين، ويقل الاعتناء بأمره، ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه، ومعاشه، ونفسه وما يتعلق به.
فمن فتح عليه في نوافل الصلوات، أو في الصيام، أو في الصدقة، أو في قراءة القرآن، أو في غيرها من العبادات، فليلزمها، وليكثر منها، فإنها من وسائل الثبات بإذن الله تعالى.
ج - الإقبال على قراءة القرآن بتدبر، وقراءته قراءة المستشفي به، الطالب للهدى منه، المحرك لقلبه به، فإن ذلك من أعظم الأدوية وأنفعها للقلب خصوصاً في هذه الأزمنة التي انفرط عقد الفتن ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ما تيسر تحريره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
==============
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [3/5]
د. رياض بن محمد المسيميري(7) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله وآله وصحبه ومن سار على هداه، وبعد:
فلا ريب أنّ الأمة تمر بظروف عصيبة مؤلمة، وتعاني ويلات فتن خطيرة في دينها وعقيدتها وأخلاقها، وتواجه تحدياً حضارياً عالمياً بل حرباً صليبية صهيونية تستهدف في كيانها ووجودها.
ومن الخطأ الجسيم أن نتغافل أحصل الصراع بين المسلمين وأعدائهم من يهود ونصارى، وأنه في أصله صراع عقدي ديني سيما وقد صرّح العدو نفسه بدوافع الصراع ومنطلقات الحرب في أكثر من مناسبة.
ومن الخطأ البيِّن كذلك أن يتناول هذه القضية الخطيرة بشيء من الارتجالية والاستعجال أو بدوافع من العاطفة والحماس غير المنضبط.
لا بد أن نعترف أن ما يمارس اليهود والصليبيون كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها هو استفزاز خطير لمشاعر الأمة المسلمة بعامة ولشبابها الغيور على وجه الخصوص.
ولا يمكن أن نتصور بقاء الشباب المسلم مكتوفي الأيدي إلى الأبد أمام تلك الممارسات الدموية الظالمة وتلك الحرب "الصهيوصليبية" فمن حقه أن يغار، بل من واجبه أن يغار لدينه ودماء إخوانه، بل من وأحق أن يهتم لنصرة دينه، وإعلاء كلمة لله بكل وسيلة مشروعة أسُّها ورأسها الجهاد في سبيل... بيد أن الجهاد في سبيل الله قد لا يتيسر لكل أحد سيما والأبواب مؤصدة والموانع كثيرة.
فما العمل إذاً والحالة هذه؟ هل نكتفي بسبّ اليهود وشتم النصارى؟ أم يكون الحل ببث الأحزان، وسكب العبرات، وندب الزمان؟!.
إنَّ الحلَّ العملي الواقعي لمشكلاتنا وصراعاتنا مع أعدائنا يجب أن يتضمن في نظري الأمور التالية:
(1) العودة الجماعية الجادة إلى الدين عودة صادقة، وتحكيم شريعته تعالى تحيكماً فعلياً في سائر الأقطار الإسلامية بلا مساومة أو مزايدة، فالدساتير الوضعية وإقصاء الوحيين الشريفين هي أعظم النوازل وأكبر المصائب التي آلت بالمسلمين إلى ما ترى وهي التي جرأت العدو على استباحة أرضهم والعبث بقيمهم وإملاء مشروعه الحضاري عليهم.
(2) لا بد أن نعترف بوجود مظاهر كثيرة تصادم الإسلام في جوهره وروحه، وفي أخلاقه وقيمه في معظم ديار المسلمين، فبنوك الربا وحانات الخمور وملاهي الليل، ودور الفاحشة تعمر كثيراً من بلاد الإسلام، وهذه المظاهر الآثمة لا بد أن تظهر منها بلاد المسلمين وإلا من أين سينزل النصر؟ قال سبحانه: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
(3) إنَّ على علماء الأمة الصادقين كسر حاجز النفرة بينهم وبين شباب الأمة على وجه الخصوص واسترجاع ثقتهم المفقودة من خلال ممارسة دور إيجابي فاعل في قيادة الصحوة وترشيدها، ومن خلال صدعهم بكلمة الحق وتحذير أمتهم من الويلات المحدقة بها وتنفير مجتمعاتهم من كل المظاهر المنافية والمصادمة لشريعة الله - سبحانه-.
إن على العلماء دوراً، وأي دور، في احتضان الشباب والرفق بهم، وتهدئة روعهم، وتلمس احتياجاتهم العلمية والتربوية وإشباعها بالعلم الصحيح والتربية الجادة مصطحبين تقوى الله فيما يأتون ويذرون ويفتون ويوجهون، وبغير هذا سيبحث الشباب عمن يستقل حماسهم، ويستوعب قدراتهم في غير إطارها المشروع.
(4) إن على الجميع أن يدركوا أن الجماهير المسلمة لا ترضى أن تُمَسَّ ثوابتها أو تهمش أصولها، فالجهاد في سبيل ذِروة سنام الإسلام، والبراءة من الكفار أصل عظيم من أصول الملة الإبراهيمية والمحمدية، فلا مجال لتمييع هذه الأصول وإلا كانت ردة الفعل كافية في تشتيت جهود الأمة وبعثرة أوراقها وإغراقها في دوامة جديدة من الصراع الذاتي، يعيقها عن مسيرة بناء نفسها، إعداد كوادرها للبناء الحضاري بكافة مجالاته.
(5) علينا جميعاً أن نسعى جاهدين لوحدة الصف وتأجيل خلافاتنا الهامشية والفرعية التي لا تمس الأصول والثوابت، لنتأهب لمواجهة العدو بكل قوة متاحة، وعلينا ألا ننشغل عن إعداد العُدة الجادة لمواجهة أي أخطار محدقة، وأن نستوعب أن أقوياء العالم لا يرحمون الضعفاء، وأن المراهنة على جمعيات حقوق الإنسان والهيئات الدولية مجازفة ذات ثمرات مرة لا زلنا نتجرع غصصها في أفغانستان والشيشان وفلسطين والعراق.
أيها الشباب: إننا نثمن لكم غيرتكم ونخوتكم الإسلامية الشريفة، ونقدّر أنفتكم من تلك الأوضاع النشاز التي تعيشها مجتمعات المسلمين، كما نحيّ شجاعتكم ورغبتكم بالبذل والعطاء والثأر لدماء إخوانكم في البلاد الإسلامية المحتلة، بَيْدَ أنَّ ثمة موانع كثيرة قد تحول بينكم وبين الجهاد في سبيل الله لا ذنب لكم فيها.
فنصيحتي ألا نبقى أسرى الأحزان، وبث الأشجان؛ بل علينا أن نبذل الوسع والطاقة في تعلم العلم الشرعي حتى نعرف أين نضع أقدامنا، وكيف نحددُّ مسارنا الصحيح وسط هذه البحار المائجة من الفتن.
ثانياً: وبعد العلم الشرعي يأتي واجب الدعوة إلى الله، فإنَّ ثمة جموعاً هائلة من أبناء الأمة يعيشون حياة اللهو والعبث، وتتخطفهم الأهواء والسبل، فمن يستنفذ هؤلاء ويعيد لهم هويتهم الإسلامية؟ ومن يبصرهم بدينهم، ويعرفهم بالأخطار المحدقة بهم؟ إن لم تقوموا بالمهمة أنتم أيها الشباب على علم وبصيرة وبتوجيه من علماء الأمة العالمين؟
(3) علينا كذلك أخيراً أن نثق بوعد الله -تعالى- وأن هذه الأمة منصورة بحول الله وقوته مهما تكالب عليها أعداؤها ومهما كادوا لها وبكروا بها شريطة أن تنصر ربها، وتعظم سنة نبيها - صلى الله عليه وسلم- مع الأخذ بالأسباب المادية اللازمة والممكنة وعلى رأسها إعداد الجيوش المسلمة المجاهدة المتسلحة بسلاح الإيمان بالله، وحسن التوكل عليه المتطلع للشهادة في سبيله تعالى فضلاً عن أخذ زمام المبادرة في النهضة الاقتصادية والعمرانية والثقافية وغيرها بعيداً عن تأثير الكفار واستغلالهم؛ قال الله جل ذكره: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، وقال سبحانه: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
===============
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [4/5]
د. عبد الله بن عبد العزيز الزايدي(*) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله، وبعد:
سؤالك -أخي الكريم- يدل على قوة في إيمانك، وغيرة على دين الله وحرمات المسلمين، وإحساسك بوجوب العمل لنصرة هذا الدين، جعلنا الله وإياك من أنصار دينه:
أما ما ينصح به تجاه هذه الأزمة التي تمر بها الأمة:(3/170)
1 - أن تدرك أن الله لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها، وهل تكون أغير من الله على دينه وعباده؟ فمادام أنه قد حيل بينك وبين نصرة إخوانك المسلمين بهذه الحدود والسدود، ومحاولة النصرة فحسب قد تدفع بالجهات المسؤولة في بلادك لتعذيبك وأذاك إلى حد القتل أو الجنون أحيانا، فإن الله لم يكلفك ما لا تطيق، فأربع على نفسك، وهدئ من روعك، وقم بما تستطيع من العمل الصالح، ولن يسألك الله إلاّ ما تستطيع من العمل، وأنت تعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يشاهد المؤمنين يعذبون بأنواع العذاب في مكة ويمر عليهم ولا يملك إلا أن يوصيهم بالصبر .
2- الارتباط بأهل العلم والدعوة في بلادك ممن عرف بالعلم بالدين والعمل به إذ يوجد في كل بلد من بلاد المسلمين عدد وافر من أهل العلم المتصفين بالعلم والغيرة والرغبة الصادقة في نصرة هذا الدين مع التزام الحكمة في القول والعمل، ويلتف حولهم عدد من الناس يستفيدون منهم ويحضرون دروسهم ويسترشدون بتوجيهاتهم، ومثل هؤلاء غالبا، لا يحصل لمن يتصل بهم أذى جسدي أو سجن وتعذيب؛ لكونهم معروفين لدى السلطات بعدم تبنيهم مبدأ العنف في التعامل مع الدولة، فمثل هؤلاء بإمكانك الاتصال بهم وحضور دروسهم و محاضراتهم، وعرض ما يمر بك من مشكلات عليهم، والحرص على طلب العلم الشرعي والاستمرار في ذلك .
3- المساهمة بما يمكنك في الإصلاح والدعوة في بلادك بما لا يترتب عليه أذى لا تستطيع احتماله، ومن ذلك أن تكون قدوة في الاستقامة على الخير محافظا على الصلوات، مجتنبا للكبائر، مستغفرا من الصغائر، صاحب أخلاق عالية، متحليا بالصبر، كاظما للغيظ، قدوة في علمك وعملك، داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ساعياً في صلاح من حولك من المسلمين.
4- ألا تحتقر الدعوة والإصلاح للأفراد والمجتمع، فإن ذلك من أعظم ما ترغم به أعداء الدين، فإن أعظم أهدافهم وأقصى أمانيهم رد المسلمين عن دينهم؛ كما قال تعالى عنهم: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق".
5 - إدراك أن ما يحدث بقدر الله وأنه نوع من الابتلاء يرفع به الله المؤمنين درجات ويعذب به الكافرين، وهذا الابتلاء سنة ماضية، فقد قتل عدد من الأنبياء على يد كفرة بني إسرائيل قال تعالى: "ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون"، وليس المجاهدون في فلسطين بأكرم على الله من أنبيائه - عليهم السلام- وقد قتلوا زكريا بنشر رأسه وقدم لبغي زانية من زواني بين إسرائيل، و أن أهل الكتاب من بني إسرائيل عاشوا تحت قهر فرعون وجنوده وهم مؤمنون بالله وفرعون ملحد يدعي الألوهية، ولهذا قال بنوا إسرائيل لموسى: "قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا".
و نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه واجهوا أنواعا من الأذى والتعذيب على مدى عشر سنوات أو تزيد وهم مؤمنون، والمعذبون لهم مشركون، ومع ذلك لم يقدموا على عمل تكون مضرته أكثر من منفعته، وكان بإمكانهم أن يغتالوا أباجهل أو أبا سفيان أو غيرهما من زعماء المشركين في مكة، بل حين بايع الأنصار بيعة العقبة قال بعضهم للنبي -صلى الله عليه وسلم -: (إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا، فقال عليه الصلاة والسلام: "لم نؤمر بذلك").
فالحاصل أن القيام بأعمال غير مسؤولة من باب الغيرة والحماس ليست من منهج الأنبياء وأهل العلم والحكمة.
6 - ويمكنك أن تقدم ما تستطيع من الدعم المادي إخوانك في فلسطين والعراق عن طريق بعض المشايخ الموثوقين الذين يستقبلون التبرعات، أو الهيئات الموثوقة إن وجدت في بلادك.
7 - أكثر من الدعاء الصادق لإخوانك المسلمين المستضعفين بالنصر والتمكين وأن يكف الله عنهم بأس الذين كفروا .
8- إعداد نفسك وتحصينها بالعلم وكثرة العبادة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "العبادة في الهرج كهجرة إلي".
9- الإكثار من الدعاء بالثبات فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء بقوله: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
10- إن استطعت الهجرة للعمل في بلد أقل مشكلات من بلدك كالسعودية أو بعض دول الخليج ففي ذلك عون لك في دينك ودنياك .
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
===============
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [5/5]
د. خالد بن عبد الله القاسم 22/4/1425
10/06/2004
التحديات التي تواجهها الثقافة الإسلامية وسبل مواجهتها
أولاً: القوة العسكرية
عانت الأمة الإسلامية هجمات عسكرية ظالمة استهدفت الأمة بثقافتها الإسلامية ففي السابق الحروب الصليبية الشرسة التي استهدفت الشام ومصر وأدت إلى انشغال الأمة بها قرن من الزمان.
ثم الهجرة التتري على العراق والشام وإسقاط الخلافة العباسية وتدمير الكتب وقتل العلماء.
ثم الاستعمار الأوروبي للبلدان الإسلامية في القرن الماضي ومحاولته لمسخ الثقافة الإسلامية واستنزاف خيرات الأمة لمصلحته.
ثم الغزو الشيوعي على البلدان الإسلامية في القرن الماضي في آسيا الوسطى ونشر الإلحاد ثم غزو أفغانستان والشيشان واستباحة دماء المسلمين واستعمار بلدانهم ونهب خيراتهم.
وما نشهده الآن من هجمة صهيونية شرسة زرعها الغرب في قلب العالم الإسلامي شرذمة من اليهود اجتمعت من أ،حاء العالم باختلاف لغاتهم وعرقياتهم في هجرات متتابعة بمساعدة غربية مباشرة حيث سلمت لهم بريطانيا الأمر في فلسطين ثم دعمت الولايات المتحدة عدوانهم عسكرياً ومالياً وسياسياً في طرد الفلسطينيين من بلدهم ومصادرة أملاكهم ورفع الفيتو أمام العالم لعدم إدانة اعتداءاتهم المتكررة على المدنيين بل وتجاوز العدوان على البلدان العربية حتى غير المجاورة حيث دمر المفاعل النووي العراقي، وجرى الاعتداء على الفلسطينيين في تونس.
وكان هذا الجسم الصهيوني بالمساعدة الغربية عاملاً مهماً في تأخر الأمة وإشغالها.
وما جرى من احتلال لأكثر من بلد إسلامي بحجج وهمية ظاهرة فقد دمرت أفغانستان وألقي على المدن والقرى آلاف الأطنان من القنابل ومات آلاف الأبرياء ونفس الأمر في العراق بحجج أسلحة الدمار الشامل الذي تبين أنها كذبة لاحتلال بلد إسلامي والسيطرة على خيراته وتهديد سائر البلدان الإسلامية التي لا تخضع لهم وزامن ذلك إصدار الأوامر للدول الإسلامية بضرورة التغيير الثقافي والمقصود منه تجفيف منابع الثقافة الإسلامية.
كما زامن ذلك محاربة الجمعيات الإسلامية الخيرية ورميها هي أيضاً بالإرهاب (مع أنها أوضح وسائل المجتمع المدني الذي ينادون به في الدول الإسلامية)، وما ذاك إلا لمحاربة الإسلام فتلك الجمعيات تدعوا إلى الإسلام وتكفل الأيتام وتقيم المستشفيات وتحفر الآبار وتعين الفقراء وتقيم المدارس وتصب في خدمة الإسلام والمسلمين وخدمة الثقافة الإسلامية.
وهذه التحديات العسكرية لن تقضي على دين الله -تعالى- فقد أخبر المولى سبحانه "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" [التوبة:33].
وقال عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة".
وإن من حكم المولى سبحانه أن تقع هذه التحديات عقوبة للمعرضين ليعودوا " وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [السجدة:21].(3/171)
كما أنها بلاء للمؤمنين لرفعة الدرجات وتكفير السيئات " ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ" [العنكبوت:1-2] إنها تنقي الصف وتكشف المافقين "وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ" [العنكبوت:11].
ثانياً: الغزو الفكري:
وهو غزو مسلح غزو للأفكار والعقول، بعد أن أدرك الأعداء أن الغزو المسلح لا يكفي لإضعاف الثقافة الإسلامية، بل وأجدى منه غزو العقول والأفكار لتحقيق هدف عام وهو إضعاف الإسلام والمسلمين، ويتحقق ذلك بوسائل متعددة منها:
(1) تشويه الإسلام وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة النبوية وعقيدة الإسلام وشريعته، وما يحدث الآن من محاولة لربط الإسلام بالإرهاب هو جزء من هذه الحملة.
(2) مهاجمة اللغة العربية تشجيع اللهجات المحلية في مسعى لإضعاف اللغة العربية التي اختارها الله لكتابه "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [يوسف:2].
(3) تفريق المسلمين وإزالة الوحدة الإسلامية والدعوة إلى القومية، وقد كانت الرابطة التي تجمع الشعوب الإسلامية هي الرابطة الإسلامية، فشجع الغرب الصليبي الشعوب المختلفة على المناداة بالقوميات التي تنتسب إليها الأمم المختلفة، فنادى العرب بالقومية العربية، والأتراك بالتركية الطورانية، ونادى الأكراد بالكردية، وبذلك تفسخت عرا الرابطة الواحدة التي كانت تجمع هذه الأمة وتوحدها، وقد كان ظهور هذه الدعوات سبباً في إزالة الخلافة العثمانية وتحطمها.
وقد أغرق دعاة الضلال في دعوتهم عندما أحيوا الحضارات القديمة لإيجاد مزيد من الانقسام والفرقة، فرأينا الدعوة إلى الفرعونية، والدعوة إلى البابلية، والآشورية.. وغيرها(1).
إن الإسلام يشجع الوطنية الحقة والقومية الهادفة القائمة على التعاون على البر والتقوى ويحارب العصبيات والنعرات الجاهلية المنافية للوحدة الإسلامية وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من دعا إلى عصبية) إن أي وطنية وقومية يجب ألا تتعارض مع الوحدة الإسلامية أو تكون بديلاً عنها بل يجب أن تسخر لجمع كلمة المسلمين ووحدتهم، والعرب لم يجتمعوا إلا بالإسلام وقد أعزهم الله بإنزال القرآن الكريم بلغتهم وجعل الحرمين في بلادهم، واختار النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
إن الرابطة الحقيقة بين المسلمين هي رابطة العقيدة وجميع الروابط الأخرى هي فرع منها كرابط الجوار والقرابة والقبيلة والوطن.
(4) إقصاء الإسلام من الحكم وتشجيع العلمانية في البلاد الإسلامية وهذا الأسلوب تذل الكفار في سبيل تحقيقه الكثير من الجهد والمال والفكر، وقد أقنعوا به كثيراً من الحكام في الديار الإسلامية، وقد تبنت دولة الخلافة في آخر عهدها كثيراً من القوانين الكافرة، وفرضت القوانين الفرنسية على الشعب المسلم في مصر في عام 1882م ولم ينتصف القرن الرابع عشر الهجري حتى أقصيت الشريعة الإسلامية في أكثر الديار الإسلامية، باستثناء أحكام الزواج والطلاق والممات(2).
(5) منع الإسلام من الانتشار ومحاربة الجمعيات الخيرة الإسلامية ورميها بالإرهاب ومصادره ممتلكاتها في الوقت الذي تعثو فيه الجمعيات التنصرية في كثير من بلاد المسلمين.
(6) استخدام وسائل الإعلام حيث استغل الغربيون والمستغربون وسائل الإعلام المختلفة لحرب الإسلام، حيث أصبح المدافع عن أرضه وبلده إرهابياً والمحتل مدافع عن نفسه ونظرة سريعة إلى وسائل الإعلام ترينا مدى البلاء الذي تصبه ليل نهار لتشويه الإسلام والمسلمين والإساءة إلى معتقداتنا وشعائرنا وسلفنا وعلمائنا، سيل من الشبهات التي تشكك في الدين وأحكامه، وسبل آخر من الأفلام والتمثيليات والمسرحيات التي تتهكم بالإسلام، وتقوم بعرض نماذج من أنماط الحياة تضاد الإسلام في كل شيء تمجد الجريمة ، وتدعو إلى الفسق والفجور، وتكره في الحياة المستقيمة الفاضلة، وتتهكم بالمسلمين والمسلمات، وتتخذ الدين هزواً، وتعرض ما حرّم الله : الرقص الفاضح، وشرب الخمر، والكذب والدجل، وقد قامت للتافهين أسواق ضخمة في كل مكان باسم الفن(3).
(7) إفساد التعليم حيث يهدف الأعداء من مستشرقين ومن مستغربين كلما سنحت لهم الفرصة إلى إضعاف التعليم الإسلامي ومدارس القرآن الكريم والمناداة بعلمنة لتعليم والدعوة إلى التعليم المختلط(4).
(8) الاستشراق، وهو دراسة للغربيين للشرق وعلومه وأديانه خاصة الإسلام لأهداف مختلفة شتى، ومن أهمها تشويه الإسلام وإضعاف المسلمين(5).
ومن أهم نتائج المستشرقين في القرن العشرين (دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت بثلاث لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية وصدرت في عدة طبعات وترجمت إلى عدة لغات وقد اشترك في تأليفها أكثر من 400 مستشرق وبلغت أكثر من 3000 مادة في أكثر من 10.000 صفحة احتوت على معلومات مهمة عن الشرق والإسلام بالذات، كما أنها اشتملت على شبه ومطاعن متفرقة حول القرآن والعقيدة والشريعة الإسلامية وأعلام المسلمين بلغت أكثر من (300) مطعن وانتقاصاً للعقيدة الإسلامية (6).
وهو أمر ظاهر باعتراف كثير من المستشرقين ، يقول برنارد لويس: "لا تزال آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات العديد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية (7).
بل إن المستشرقين كانوا أداة للاستعمار تخلو عن أمانتهم العلمية لتأييد المحتل، يقول مراد هوفمان سفير ألمانيا في الغرب وقد هداه الله للإسلام: "والحق أن معظم المستشرقون عن وعي أو غير وعي كانوا أداة لخدمة الاستعمار، وإن كان بعض أولئك كانوا جواسيس للغرب بالفعل"(8) وتتعاون المخابرات الغربية لاسيما الأمريكيين مع مراكز الدراسات الاستشراقية، لاسيما فيما يتعلق بالحركات الإسلامية. وبلغ أعضاء رابطة دراسات الشرق الأوسط (9)الاستشراقية في أمريكا إلى قرابة 1600 عضو سنة 1986م ووصلت أعداد العناوين للموضوعات المنشورة عن الشرق الأوسط في الدوريات المتخصصة سنة 1987م إلى نحو 71 ألف مادة بل إن المستشرقين ينظرون إلى الشرق والإسلام نظرة استعلائية وقد ساق إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني رغم أنه نصراني ولكنه منصف الشواهد العديدة لذلك في كتابه الشهير الاستشراق.
(9) التنصير؛ على الرغم من أن الأمم النصرانية تبتعد عن النصرانية، وعلى الرغم من بيعهم للكنائس في ديارهم، إلا أنهم حريصون على تنصير المسلمين، وبناء الكنائس في ديارنا، وقد رصدوا لذلك مئات الملاينن من الدولارات، وأرسلوا البعثات التبشيرية مجهزة بكل ما يمكن أن يحقق الهدف الذي قامت من أجله، وعلى الرغم من الصعاب التي تقف في طريقهم، إلا أنهم ماضون في هذا الطريق، وهم يصطادون المسلمين الجهلة، وينشبون أنيابهم في فقراء المسلمين، حيث يقدمون لهم بعض ما يحتاجون إليه مقابل تركهم لدينهم وعقيدتهم (10).
(10) إفساد المرأة؛ وقد حرص الكفار على إفساد المرأة، لأن فسادها يفسد الأبناء والأزواج، فأخرجوها من بيتها، وهتكوا حجابها، وزينوا لها التمرد على دينها بمختلف الأساليب، وزعموا أن تحضرها وتقدمها لا يكون إلا إذا سارت مسيرة المرأة في أوروبا (11) وأفغانستان مثال حي حيث عندما احتلت لم ينقلوا لنا التقدم الصناعي والتقني وإنما بدأوا بإسقاط حجاب المرأة وإنشاء دور السينما.(3/172)
(11) العولمة الثقافية والتغريب؛ وللعولمة وجوها مفيدة في التقنية والاتصال، ولكن له وجوهاً خطيرة في الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية الثقافية.
ويهمنا هنا ما يؤثر على الثقافة الإسلامية بدرجة كبيرة وهو الهيمنة الثقافية وفرض القيم الغربية وتغريب المجتمعات المسلمة عن طريق استغلال التفوق التقني والسياسي والاقتصادي والعسكري لاختراق الثقافات الأخرى ومصادرة ثقافات الشعوب وفرض الأنماط الغربية .
نجد أن الغرب لا يسعى قيمه الاجتماعية فحسب رغم عدم الاقتناع الواسع بها كقيم، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمرنيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث... الخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(12) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.
وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان يتحدث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، ومراهقين ومراهقات، فادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز إباحة هذه الإباحية إلى حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسئول(13) .
وها هو المستشرق الألماني هاملتون جب يجعل هدف كتابه "وجهة الإسلام" قضية التغريب، ويتساءل إلى أي حد وصلت حركة تغريب الشرق؟، وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا الهدف؟(14).
إن هدف عدونا ذوبان الشخصية وذلك بالقضاء على مقومات كيانها وعلامات القوة فيها واحتوائها بأخلاق الضعف والإنحلال والإباحية حتى لا تقوى على مواجهة التحديات وذلك أخطر أهداف العدو، فبناء أجيال ضعيفة لا تؤمن بحقها ولا تؤمن بربها ولا تستطيع أن تصمد أمام الخطر وأمام التحدي.
وقد أخبر المولى سبحانه بخطورة طاعة الكافرين والإنسياق معهم فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِين" [آل عمران:100]، وأنهم لن يرضوا منا بالتنازلات المحدودة وبعض الطاعة إنما باتباع ما مهم عليه "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" [البقرة:120].
سبل مواجهة التحديات الثقافية
سبل مواجهة التحديات الثقافية تأخذ أبعاداً متنوعة:
أولها : تعزيز الهوية بأقوى سلاح، وهو العودة إلى الإسلام، وتربية الأمة عليه بعقيدته القائمة على توحيد الله سبحانه، والتي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" [المنافقون:8]، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى واليقين بنصره وتمكينه للمؤمنين إذا استجابوا لربهم وقاموا بأسباب النصر، فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر، أما إذا عززت الهوية ولم تستسلم من الداخل فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" [آل عمران:173].
ثانيها: ثانيها: العناية بثقافتنا الإسلامية، وباللغة العربية في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وتسهيل تدريسها وتحبيبها للطلاب، ومن العناية باللغة العربية تفعيل التعريب والترجمة والتقليص من التعلق باللغات الأخرى إلا في حدود الحاجة اللازمة.
ثالثها: إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته وعدالته وحضارته وثقافته وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.
رابعها: العمل على نهوض الأمة في شتى الميادين دينياً وثقافياً سياسياً وعسكرياً، واقتصادياً وتقنياً، ومحاربة أسباب التخلف والفساد، وعلينا أن نغير ما بأنفسنا من تخلف وتقاعس، فإن من سنن الله -سبحانه وتعالى- " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [سورة الرعد:11].
خامسها: مواجهة التحديات بالتعليم والتدريب والتثقيف والتحصين ورفع الكفاءة وزيادة الإنتاج ومحاربة الجهل وخفض معدلات الأمية المرتفعة عند المسلمين.
سادسها: تقليص الخلافات بين المسلمين حكومات وشعوباً وجماعات بالاعتصام بكتاب الله –عز وجل- "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران:103]، ثم التعامل معها إن وجدت إيجابية فاعلة ناصحة حتى لا يجد الأعداء ثغرة من خلالها.
سابعها: ضمان الحرية الثقافية وتدعيمها، حيث أن حرية الثقافة، وإن كانت تنبع من العدالة في توزيع الإمكانات والإبداعات الإنسانية على الأفراد، فإنها في الوقت نفسه عامل أساسي في إغناء الحياة الثقافية وزيادة عطائها. ولكن لا يجوز فهم الحرية على أنها فتح للباب أمام كل تعبير، وقبول كل فكر، ولكن الحرية المقصودة هي الحرية المضبطة بضوابط الشرع(15).
ثامنها: أن نتعرف على الآخرين وثقافاتهم، والكشف على مواطن القوة والضعف في الثقافات المختلفة لا سيما الغربية، ودراسة سلبياتها وإيجابياتها برؤية إسلامية متفتحة، غايتها البحث والدراسة العلمية(16).
وأن يواكب ذلك عملية أخرى هي عملية التخلص من الإحساس بمركزية الغرب، ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن حضارته(17).
تاسعها: أن تقوم وسائل الإعلام بواجباتها في الحفاظ على الهوية ودعمها، فضلاً عن استيراد البرامج التي تهدم الهوية دون نظر أو تحميص، كما أن على الدول والعلماء وقادة الرأي ورجال الأعمال الضغط على وسائل الإعلام الخاصة كل بما يستطيع لمراعاة هوية الأمة وقيمها.
عاشرها: أن يقوم بتعزيز الهوية وكشف العولمة والتغريب، ويتحتم على الإعلام التربوي استخدام كافة الوسائل والأساليب والطرق المتاحة كي ينجح في تأصيل القيم، والمهارات، والمعارف، والمعلومات في مؤسسات المجتمع ومنظماته، وتحصين الأطفال ضد ثقافة الاستهلاك والتغريب، وتقديم مادة غنية ثرية تحدث أثراً إيجابياً، وتترك صدى قوياً بنفس الصغير والتلميذ والطالب والشاب وتساعد على اكتشاف ما يملك من طاقات ومهارات(18).
حادي عشر: تنشيط التفاعل والحوار الثقافي العربي مع ثقافات الأمم الأخرى(19). وأن نثري ثقافتنا العربية الإسلامية بما تراه ينفعنا ولا يضرنا من الثقافات الكونية الأخرى، وفي الوقت نفسه نعرف تلك الثقافات العالمية بما لنا من عقيدة وقيم وتراث وتقاليد اجتماعية عريقة(20).(3/173)
ثاني عشر: تشجيع المؤسسات الدعوية داخل البلاد الإسلامية وخارجها على ممارسة عملها ودعمها بكل طريق مادياً ومعنوياً، وعدم السقوط في فخ الأعداء بتصيد أخطاءها وتشويه سمعتها عند حدوث خطأ ما، وإنما بالنصيحة الإيجابية الفاعلة، وما نراه بفضل الله -تعالى- من مؤسسات إسلامية ودعوية مساعدة للمسلمين للحفاظ على هويتهم لا سيما خارج الدول الإسلامية، سواء كانت مراكز أو مدارس إسلامية أو وسائل إعلامية، كمواقع الإنترنت أو شركات الإنتاج أو إذاعات القرآن الكريم، أو مكاتب دعوة الجاليات التي تتميز بها المملكة العربية السعودية، وأثمرت آلاف المسلمين الجدد كل عام، أو مدارس تحفيظ القرآن الكريم، إلى غير ذلك من هذه المؤسسات، لتسهم ضد التحديات الثقافية، لذا لا نستعجب من أن تكون هذه المؤسسات الخيرية أحد استهدافات الأعداء، ومحاولة لرميها بالإرهاب بكل طريق ومحاربة أنشطتها وتشويه سمعتها وتجفيف مواردها.
(1) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:5.
(2) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:5.
(3) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:62-64.
(4) انظر: غزو غزو في الصميم، عبد الرحمن الميداني، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية،
1405هـ، ص: 200.
(5) العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية، د. خالد بن عبد الله القاسم، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدين قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ص: 25
(6) العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية، د. خالد بن عبد الله القاسم، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدين قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ص: 30-50.
(7) العرب والتاريخ، برنارد لويس، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1954م، ص: 63.
(8) الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا للنشر ومجلة النور الكويتية، الطبعة الأولى، 1413هـ.
(9) مصطلح الشرق الأوسط مصطلح غربي لطمس الهوية العربية والإسلامية ولإدخال إسرائيل فيه.
(10) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان - الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ - 1997م ، ص:63-64.
(11) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان - الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ - 1997م ، ص:62-63.
(12) العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م، ص: 27.
(13) انظر وثيقة برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة 5-15/9/1994م، الترجمة العربية الرسمية ، الفصل الثامن الفقرات 31-35، نقلاً عن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 27
(14) أنور الجندي، شبهات التغريب، المكتب الإسلامي، بيروت- لبنان، 1398هـ،
ص:12.
(15) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التيميم، الطبعة الأولى 1422هـ -2001م، ص: 263.
(16) صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
(17) العالم من منظور غربي، د. عبد الوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 253.
(18) مسئولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، المجلة العربية، د. ط. ت. ص: 30.
(19) العولمة والهوية المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، 4-6/5/1998م، بحث للدكتور/ حسين علوان حسين بعنوان: العولمة والثقافة العربية، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 126.
(20) انظر: صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
===============
لماذا خطف حزب الله الجنديين ؟
في بداية رؤيتنا هذه، لابد من التوضيح بأنّ إسرائيل ليست إلا كياناً صهيونياً دخيلاً في منطقتنا العربية والإسلامية، وهذا الدخيل ينبغي أن يقاوَم بكل السبل الممكنة، حتى تحرير فلسطين العربية المسلمة.. كل فلسطين، من البحر إلى النهر.. وإنّ الكيان الصهيوني هذا، ليس إلا خليةً سرطانيةً زرعها الغرب في قلب العالَم العربي والإسلامي، لتحقيق أهدافه في استمرار التجزئة والفرقة والتشتّت والاحتقان، والحيلولة دون بروز دولةٍ موحَّدةٍ قويةٍ حضاريةٍ مدنيةٍ ذات مرجعيةٍ إسلامية.. وإننا على اقتناعٍ تامٍ بأنّ المشروع الصهيوني يسير إلى زوال، نتيجةً حتميةً لطبائع الأشياء، ولاستمرار سُنَنِ الله عز وجل في أرضه.
كل ما يصيب الكيان الصهيوني من مصائب، وكل ما ينال جنودَه المغتَصِبين من أذىً وسوء.. كل ذلك يُفرِحنا ويُرضينا، ويجعلنا أرسخ اقتناعاً بأنّ هذا الكيان المسخ، ليس إلا أكذوبةً ضخّمها تخاذل الأنظمة العربية والإسلامية، وتواطؤها، والاكتفاء بشعاراتها المزيّفة التي تدعو إلى العمل على تحرير الجولان وفلسطين ويأتي في طليعة هؤلاء المتاجرين، النظامان : السوري، والإيراني الفارسي، وأذنابهما من حَمَلَة المشروع الصفوي الشعوبي، الذين يُتاجرون بقضية المسلمين الأولى والأقدس حسبما تقتضيه مراحل تنفيذ مشروعهم الصفوي الفارسي المذهبي، الذي بدأ يأخذ مساراً تنفيذياً متسارعاً منذ بدء اجتياح العراق، واحتلاله أميركياً صفوياً صهيونياً، وذلك قبل أكثر من ثلاث سنوات ..!
قبل أشهرٍ عدة، أُعلِنَ في دمشق عن انطلاق تحالفٍ استراتيجيٍ إيرانيٍ-سوري، ضمّ إليه حزب الله وبعض الفصائل الفلسطينية.. وقبل ذلك كانت اللعبة الصفوية الإيرانية مع النظام السوري.. قد بدأت معالمها تتوضّح على أرض العراق المحتلّ، بالتناغم مع المحتَلّ الأميركي، والتقاطع معه، بل التواطؤ الواضح معه.. مع احتفاظ كل جهةٍ من الجهات المتواطئة على أحلامها التاريخية في بناء نفوذها وسيطرتها على منطقتنا العربية والإسلامية.. ويمكن أن نشير هنا إلى خطورة الأحلام الفارسية الصفوية، التي يتواطأ معها النظام السوري وحزب الله والحركات الشيعية العراقية، من منطلقٍ طائفيٍ مذهبيٍ خالصٍ شديد الوضوح.. فتحوّل هذا التحالف المشبوه الجديد إلى مشروعٍ سرطانيٍ شديد الخبث، يفوق خطرُهُ على أمتنا العربية والإسلامية خطرَ الكيان الصهيوني نفسه.. وكان من أهم مظاهر هذا المشروع الشعوبي الصفوي
* حملات التطهير العرقي والمذهبي ضد أهل السنة العرب في العراق، التي اشتدّت في الأشهر الأخيرة، مترافقةً مع حملات التهجير الواسعة لهم من مناطق جنوبيّ العراق، وإطلاق الدعوات لتقسيم العراق على أساسٍ طائفيّ، مع استمرار تحريض المحتل الأميركي على شن حملات الاعتقال والأسْر والقتل والتدمير والمداهمات والتنكيل والتصفية، ضد أهل السنة العراقيين، وضد مساجدهم ومؤسّساتهم وأحزابهم وحركاتهم ..!
* التغلغل الفارسي الصفوي في العراق، بتعاونٍ كاملٍ مع المرجعيات الشيعية العراقية، خاصةً ذات الأصل الفارسي منها.. وذلك استخباراتياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً، بمباركةٍ أميركيةٍ ودعمٍ عسكريٍ ولوجستيٍ مهمٍ من قِبَل القوات المحتلة، إلى درجةٍ بدا معها العراق خاضعاً لاحتلالٍ فارسيٍ صفويٍ بالدبابة الأميركية ..!(3/174)
* التغلغل الشيعي الفارسي في سورية، واشتداد حملات التشييع في صفوف الشعب السوري المسلم السني، وتجنيس الفرس والعراقيين الشيعة، بمنحهم الجنسية السورية من قِبَل النظام الأسدي الحاكم.. وقد تجاوزت أعدادُهُم المليونَ حتى الآن، ويقيم معظمهم في منطقة (السيدة زينب) وما حولها في دمشق ..!
* بروز عمليات التزوير الفاضحة، للتركيبة الديموغرافية للشعب السوري، ولعل أشدها وضوحاً، تلك الدراسات الوهمية التي نشرتها المخابرات الطائفية السورية، عن أنّ المجتمع السوري هو مجتمع أقليات، وأنّ أهل السنة لا تتجاوز نسبتهم 45% من مجموع الشعب السوري، وأنّ هؤلاء منقسمون على أنفسهم!.. في محاولاتٍ وقحةٍ لتزوير التاريخ والجغرافية والديموغرافية السورية، مع أنّ الشعب السوري يتكوّن بغالبيته الساحقة من أهل السنة، وهذه إحدى الحقائق البدهية في سورية.. لكن أولئك القائمين على تنفيذ المشروع الصفوي الفارسي، يظنون أن تزويرهم للتركيبة الديموغرافية في العراق، على حساب أهل السنة الذين ما يزالون يشكّلون الغالبية هناك.. يظنون أنهم يستطيعون القيام بنفس الدور التزويري في سورية أيضاً.. شاهت وجوههم ..!
* التواطؤ الكامل والتآمر الخالص مع القوات الأميركية المحتلة، ولعل أبرز ذلك ما أصدرته المرجعيات الدينية الفارسية العراقية من فتاوي، تُحَرِّم مقاومة المحتل، وتُطلق الأبواب مُشرعةً لذبح أهل السنة في العراق، ووصفهم بالإرهابيين، من خلال أضخم مؤامرةٍ لتزييف الحقائق، وتشويه المبادئ الإسلامية والوطنية، التي تدعو لمقاومة المحتل وجهاده حتى يتم التحرير الكامل للأوطان والإنسان.. وما يزال هؤلاء يلعبون أدوارهم الخبيثة المستمَدَّة من دور (الطوسي وابن العلقمي) وغيرهما، مع جيوش المغول والتتار ضد الأمة الإسلامية، في أواخر عهود الخلافة العباسية ..!
* اشتداد حملات الاعتقال التي ينفّذها النظام السوري الأسدي، ضد عرب (الأحواز) الإيرانيين، الذين لجأوا إلى سورية منذ عشرات السنين تحت شعارات القومية العربية التي يتدثّر بها حكام سورية، وتسليم بعض الشخصيات القيادية الأحوازية المعارِضة إلى مخابرات النظام الإيراني (خليل عبد الرحمن التميمي، وسعيد عودة الساكي، وغيرهما من القيادات الأحوازية العربية) .
* * *
كان لابد لهذا المشروع الصفوي من غطاءٍ مقبولٍ لدى شعوب المنطقة المسلمة، ولابد من تسريع خطاه وتمكينه من اللعب بعواطف الجماهير والشعوب العربية والإسلامية.. وليس هناك أفضل من قضية فلسطين واللعب بها وعليها وفيها.. من غطاءٍ تتوارى تحته النوايا الحقيقية لأصحاب هذا المشروع الشعوبي الخطير.. ولم يتأخّر عُتاة هذا المشروع في لعب لعبتهم بقضية المسلمين الأولى، التي -للأسف- انخدع بها أول مَن انخدع، بعض الحركات الإسلامية، التي انخرطت من حيث تدري أو لا تدري في تنفيذ هذا المشروع الشعوبي الاستيطاني الخطير، تحت شعاراتٍ زائفةٍ لم تنطلِ حتى على كثيرٍ من بسطاء الرأي العام العربي والإسلامي.. فتحوّلت تلك الحركات إلى ورقةٍ بيد أصحاب المشروع الأصليين، يحرّكونها حيثما أرادوا، وكيفما شاؤوا، وفي الوقت الذي يحدّدونه حسبما تقتضيه مصلحة مشروعهم الخبيث ..!
إذن، كانت هناك حاجة إلى اللعب بورقة القضية الفلسطينية الأقدس عند العرب والمسلمين، وفي نفس الوقت، مَدّ اليد البيضاء إلى العدوّ الصهيوني، ما استوجب على أركان المشروع الصفوي الفارسي اتباع الوسائل التالية :
1- إطلاق الرئيس الإيراني أكثر من مرةٍ شعاراً تجارياً فارغاً متهافتاً، بالدعوة إلى إزالة إسرائيل ..!
2- الإعلان عن تحالفٍ إيرانيٍ سوريٍ مع بعض المنظمات الفلسطينية ذات السمعة العطرة بين الشعوب العربية والإسلامية، والإعلان عن تقديم مساعداتٍ ماليةٍ إليها في محنتها.. هذه المساعدات التي هي كالعادة غير موجودةٍ إلا في أذهان المتاجرين، وهي مساعدات لم تصل إلى أصحابها حتى الآن، ولن تصل في أي يومٍ من الأيام، لأنها ستبقى في إطار المتاجرة: [.. قال وزير الخارجية الإيراني (منوشهر متقي) في مؤتمر صحافي في طهران أمس: إنّ إجراءات المساهمة بخمسين مليون دولار لا تزال في مرحلة صنع القرار (بعد أربعة أشهر من الوعد).. ولم يتم سداد المبلغ الذي تحدثت عنه]!.. (نشرة المختصر في 11/7/2006م، نقلاً عن البيان).. فالمساعدات الإيرانية المزعومة، ليست إلا شعاراتٍ ووعوداً زائفة، لأن ما يحرّك الصفويين الفرس هي النزعة الشعوبية الطائفية، التي تقضي بعدم تقديم أي عونٍ للحركات الإسلامية الفلسطينية السنيّة مهما كانت الظروف!..
3- عَقْد لقاءاتٍ مشبوهةٍ للنظام السوري مع الصهاينة، التي بدأت بالمصافحة العار بين بشار الأسد ورئيس الكيان الصهيوني (كاتساف) أثناء جنازة بابا الفاتيكان، ثم تلتها التصريحات الصهيونية المتكرِّرة بأن النظام السوري هو خيار صهيوني ينبغي دعمه، والتصريحات الكثيرة لأركان النظام السوري بالرغبة في التفاوض مع الصهاينة.. مع قيام النظام نفسه بأشد حملات التطهير الوطني في تاريخه، ضد المواطنين السوريين من مختلف الاتجاهات الوطنية، والتآمر على التعليم الشرعي الإسلامي السني مع تشجيع أوكار التعليم الديني الشيعي الصفوي ومَدّها بكل الاحتياجات المعنوية والمادية، وبدء نسج علاقاتٍ مشبوهةٍ واضحة المعالم مع الصهاينة، كان آخرها اجتماع السفير السوري في لندن مع (استيل غيلستون) رئيسة الاتحاد الصهيوني في بريطانية (أخبار الشرق بتاريخ 12/7/2006م)، واستقدام حاخامٍ صهيونيٍ أميركيٍ ليلقي خطبةً في أحد أكبر جوامع حلب (الخليج الإماراتية بتاريخ 11/7/2006م ) .
4- تغلغل الموساد الصهيوني في العراق، بدعمٍ من الحكومة العراقية العميلة للاحتلال، وبتنسيقٍ مع ما يُسمى بالحرس الثوري الإيراني والميليشيات الصفوية الشيعية في العراق.. للقيام بعمليات اغتيالٍ للعلماء والضباط العراقيين السابقين والشخصيات الإسلامية السنيّة المؤثرة، وللقيام بأعمالٍ إرهابيةٍ إجراميةٍ شنيعةٍ بحق أهل السنّة في العراق، من اختطافٍ وتصفياتٍ وتعذيبٍ وقتلٍ على الهوية!..
لقد اتحد الطائفيون لتنفيذ مخطّطهم الخاص، وأعلنوا عن هذا الاتحاد بتحالفٍ استراتيجيّ، وتقاسموا الساحات والأدوار، لإنجاز مخطَّطٍ واحدٍ متكاملٍ في الساحات الثلاث : العراق، وسورية، ولبنان.. لذلك أصبحت ممارسات أي جهةٍ من جهات هذا التحالف، لا تندرج إلا ضمن المشروع الكلي المتكامل، لتحقيق الأهداف الصفوية الشعوبية الخطيرة، في المنطقة الممتدة بدايةً، من إيران إلى لبنان، بما فيها العراق وسورية!.. لذلك، وبناءً على وحدة الحال والمخطّط والأهداف وتكامل الأدوار بين النظام الإيراني الشعوبي الفارسي، والنظام الأسدي السوري، والحركات الشيعية اللبنانية.. بناءً على ذلك فحسب، يمكن محاكمة الممارسات، ودراسة اتجاهها، وهل هي تصبّ في مصلحة الأمة العربية والإسلامية.. أم في مصلحة تنفيذ المخطط الصفوي الفارسي الشعوبي، للسيطرة على أوطاننا ومنطقتنا وشعوبنا وثرواتنا، وللقيام بحملات التطهير العرقي والطائفي ضد أهل السنّة في هذه المنطقة، ثم الانطلاق منها إلى منطقتي الخليج العربي وشمال إفريقية، للإطباق عليهما تماماً، ضمن أهدافٍ توسّعيةٍ خطيرة، تعيد أمجاد الصفويين والفاطميين، للسيطرة على بلاد العرب والمسلمين .(3/175)
ما معنى أن يزعل بشار الأسد في دمشق من الحكومة اللبنانية، فينسحب من تلك الحكومة خمسة وزراء شيعيون من حزب الله وحركة أمل.. ينسحبون من الحكومة ويجمّدون نشاطهم فيها؟!.. وما معنى أن يهتف الهتّافون في مؤتمر اتحاد المحامين العرب الذي انعقد في دمشق قبل أشهرٍ عدة.. يهتفون لحزب الله، ويرفعون عَلَمَه الحزبيّ الخاص في المؤتمر.. ولا يكون للبنان الدولة ظهور واضح ولا لحكومته ولا لِعَلَمِهِ الوطني؟!.. ولماذا يرفع (حسن نصر الله) صورة الفارسي (الخميني) فوق رأسه في مقرّ مكتبه؟!.. وقبل ذلك ما معنى جواب أحد قيادات حزب الله على سؤالٍ صحفيٍ في عام 1987م : [هل أنتم جزء من إيران] ؟!.. الجواب : [بل نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران]!.. (النهار اللبنانية بتاريخ 5/3/1987م).. على هذا الأساس إذن، وعلى هذه القراءة للواقع الذي يجري على الأرض حقيقةً دامغة.. ينبغي أن تُحَاكَمَ الأمور والأحداث الأخيرة التي فجّرها حزبُ الله ومَن وراءه من أركان الحلف الاستراتيجيّ الصفويّ الشعوبيّ.. ضد الكيان الصهيوني!..
* * *
إنّ هدف المشروع الصفوي الفارسي الشعوبي، هو السيطرة على العالَمَيْن العربي والإسلامي بَدءاً من إخضاع منطقة الهلال الخصيب (بلاد الشام والعراق)، وذلك باجتياحها ديموغرافياً ومذهبياً وتبشيرياً صفوياً وسياسياً وأمنياً وثقافياً واستيطانياً.. ويقوم هذا المشروع المشبوه على أركانٍ خمسة، هي :
1- التواطؤ والتآمر مع القوى الغربية بزعامة أميركة إلى أبعد مدىً ممكن، لاجتياح بلادنا واحتلالها، وإفساح المجال لها ومساعدتها في السيطرة على أوطان المسلمين، والقيام بدورٍ خبيثٍ لا يقل خطورةً عن دور (ابن العلقمي) حين تواطأ مع هولاكو لاجتياح بلاد المسلمين.. وكل العالَم يعرف أنّ إيران كان لها الدور الأعظم في التواطؤ مع أميركة لاحتلال أفغانستان.. ثم العراق، والمسؤولون الإيرانيون صرّحوا بذلك بوضوح، بل افتخروا بذلك: (تصريح إيراني رسمي: لولا إيران لما احتلت أميركة العراق.. ولولا إيران لما احتلت أميركة أفغانستان).. وذلك لإضعاف أهل السنّة، ثم الانقضاض عليهم تحت مظلة المحتل الأميركي!..
2- اللعب بالورقة المذهبية الشيعية وإشعال فتيل الحرب الطائفية، والقيام بعمليات التطهير العرقي والطائفي، والعمل على تجزئة بلادنا، وتهجير أهل السنّة العراقيين من المحافظات التي يتداخلون فيها مع أبناء الشيعة، مع قيام المرجعيات الشيعية بدورٍ مُفسِد، بالتحريض على أهل السنّة وعلى مؤسساتهم التعليمية والدينية (الشيرازي يدعو خلال خطبةٍ مفتوحةٍ إلى تدمير مساجد أهل السنة، وقد قاموا فعلاً بتدمير مئات المساجد أو احتلالها وتحويلها إلى حسينياتٍ ومراكز شيعيةٍ صفوية ).
3- اغتيال الكفاءات السنيّة العلمية والعسكرية والدينية، وممارسة كل الجرائم بحقهم، لترويعهم وتهجيرهم والتشفي منهم!..
4- الاجتياح الديموغرافي الشيعي الصفوي، كما يحصل في سورية بشكلٍ خاص، تحت تغطيةٍ كاملةٍ يقدّمها النظام الأسدي الحاكم، وكما يحصل بشكلٍ أو بآخر في لبنان والأردن، فضلاً عن العراق.. إضافةً إلى حملات التبشير الشيعي في صفوف أهل السنة ..!
5- افتعال الصدامات الكاذبة مع العدو الصهيوني، واستفزازه ليقوم بتدمير بلادنا، ثم لتخلو لهم الأجواء للّعب بأوراقهم الصفوية، وتسهيل تحقيق أهدافهم الشرّيرة، تماماً كما فعلوا ويفعلون في أفغانستان والعراق حاليا ..! ً
إن المشروع الصفوي الشيعي يشبه المشروع الصهيوني في معظم وجوهه، لكنه أشد خطراً من المشروع الصهيوني، فهو مشروع استيطاني قومي فارسي مذهبي متطرّف.. لا يقبل أصحابه بأقل من إبادة المسلمين من أهل السنة إبادةً تامة.. وهو مشروع يحمل أحقاداً تاريخيةً ضخمة، ويقوم على خزعبلاتٍ دينيةٍ مذهبية، ركنها الأساس: تشويه الدين الحنيف، وإشاعة الأباطيل والخرافات عن الإسلام، ونشر الفساد المذهبي القائم على نشر ما يعرف لديهم بمصحف فاطمة، وزواج المتعة، وتأليه الأئمة، وشتم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريف القرآن الكريم والسنّة المطهّرة، وتكفير المسلمين من أهل السنّة.. لذلك كله فهو أخطر من المشروع الصهيوني اليهودي، وأخطر من المشروع الغربي الأميركي الاستعماري.. وإن كان من الواجب على العرب والمسلمين مقاومة المشروعَيْن الصهيوني والأميركي.. فإن دواعي مقاومة المشروع الصفوي الفارسي الشعوبي أشد وأقوى ..!
إنّ الساحات الأربعة التي اختارها الطائفيون الصفويون بدايةً لتحقيق أهدافهم، يسير فيها مخطَّطهم حالياً بالشكل التالي :
1- في الساحة الإيرانية : عمليات تطهيرٍ واسعةٍ لأهل السنة في إيران، مع قَمعهم والتنكيل بهم، واستباحتهم مع أموالهم وأعراضهم ومساجدهم (طهران كلها ليس فيها مسجد لأهل السنة) .
2- في الساحة العراقية : تكامل بالأدوار مع المحتل الأميركي، وتدمير العراق ومحاولات تجزئته، وتسليط سَفَلَة الميليشيات الشيعية على أهل السنة، والقيام بأضخم عملية تطهيرٍ وتهجيرٍ ضد أهل السنة، مع اتباع عمليات إبادةٍ منظَّمةٍ ضدهم، وتزوير النسب المئوية لسكان العراق، بنشر الأكاذيب والدراسات المزيّفة التي تزعم أن الشيعة هم الأغلبية، مع اجتياحٍ فارسيٍ شيعيٍ استيطانيٍ للعراق لقلب نسبة الأغلبية السنية (52%) لصالح الأقلية الشيعية!.. ولابد أن نذكر في هذا المجال، شدة الحملات الشعوبية المسلّحة ضد إخواننا الفلسطينيين الذين يعيشون في العراق، من مداهماتٍ وقتلٍ واعتقالٍ ونهبٍ وانتهاك أعراضٍ ومصادرة بيوت السكن.. إلى درجة أنّ الفلسطينيين في العراق باتوا يعانون أكثر مما يعانيه إخوانهم تحت سوط الاحتلال الصهيوني، ويتمنّون أن يعودوا إلى فلسطين حتى تحت وطأة الاحتلال الصهيوني ..!
3- في الساحة السورية : يقوم النظام الأسدي الحليف الاستراتيجي لإيران، بحملات اعتقالٍ وتصفيةٍ واسعة النطاق ضد الشعب السوري، ويحاصر المؤسسات التعليمية الإسلامية، مع إفساح المجال لمؤسّساتٍ شيعيةٍ وليدةٍ مشبوهة.. مع أنّ الشيعة في سورية لا وجود لهم.. كما يقوم النظام بتغطية أعمال التبشير الشيعي في صفوف المسلمين السوريين، وبتجنيس الوافدين الشيعة من إيران والعراق وتوطينهم في سورية، والتضييق على عرب (الأحواز) اللاجئين إلى دمشق.. كما يقوم النظام بمدّ اليد للصهاينة والأميركيين، وبحملات القمع والبطش بحق أبناء الشعب السوري، وبجعل سورية قاعدةً للتآمر على لبنان والأردن، وباستخدام الورقة الفلسطينية لصالح الحلف الشعوبيّ الشرّير ..!
4- في الساحة اللبنانية : لَعِبُ حزب الله وحركة أمل الشيعية بورقة المقاومة المزيَّفة، للمحافظة على السلاح في أيديهما، ولخلط الأوراق السياسية في لبنان لصالح أركان الحلف الصفوي الفارسي.. وقيامهما بالتبشير الشيعي، واستفزاز إسرائيل لضرب لبنان كلما دعت حاجة أطراف المشروع الصفوي، مع محاولاتٍ مستمرةٍ لضرب وحدة لبنان، وتشكيل دولةٍ شيعيةٍ داخل الدولة اللبنانية!..
حين ننظر إلى المنطقة من إيران إلى لبنان وفلسطين، علينا أن نستجمع ما ذكرناه آنفاً من هذه الصورة المتكاملة لما يجري في الساحات الأربعة، وذلك لرسم المشهد الواضح الحقيقي، عن أهداف أي فعلٍ يقوم به أركان المشروع الصفوي الشعوبي في أي ساحةٍ من تلك الساحات.
وعلى هذا الأساس يجب أن ننظر إلى عملية حزب الله العسكرية الأخيرة، التي تم فيها خطف جنديَّيْنِ صهيونيَّيْن وقتل سبعة جنود.. فصورة الوضع قبل تنفيذ هذه العملية كانت على الشكل التالي :(3/176)
1- اشتداد عمليات التطهير الإجرامي العرقي والمذهبي، التي تقوم بها الميليشيات الصفوية العراقية في العراق، بما في ذلك عمليات إبادةٍ وحشيةٍ ضد السكان الفلسطينيين، وعمليات تهجيرٍ لأهل السنة من جنوبيّ العراق (البصرة لم يبقَ فيها إلا 7% من أهل السنة بينما كانوا أكثرية منذ عشرات السنين، ونسبتهم كانت 40% قبيل الاحتلال الأميركي)!.. فضلاً عن انكشاف زيف شعارات الرئيس الإيراني (نجاد) الداعية لإزالة إسرائيل من الوجود!..
2- المقاومة الفلسطينية، وهي سنيّة بطبيعة الحال، خطفت كل الأضواء بأنها الوحيدة في ساحة الصدام مع الكيان الصهيوني، وذلك بعد عملية (الوهم المتبدّد) وخلال عدوان (أمطار الصيف).. إذ وصل الكيان الصهيوني إلى طريقٍ مسدودٍ لتحقيق أهدافه ضد الشعب الفلسطيني وفصائله المقاوِمة..!
3- انكشاف تواطؤ حزب الله ضمن تواطؤ حليفه الإيراني.. مع الاحتلال الأميركي ضد المقاومة العراقية، ودخول الحزب في لعبة تشجيع الميليشيات الصفوية العراقية وتدريبها، وهي نفس الميليشيات التي تقوم بعمليات إبادة الفلسطينيين وأهل السنّة في العراق ..!
4- بداية انتكاساتٍ لحملات التشييع في سورية ولبنان، انعكاساً لانكشاف مواقف أركان الحلف الصفوي الشعوبي الداعم للصهاينة وللاحتلال الأميركي المرفوض شعبياً.. ثم بروز بوادر الاصطدام على النفوذ بين المشروعَيْن: الأميركي، والفارسي الصفوي.. في العراق..!
5- بداية تصلّب العود اللبناني الوطني، الذي ينعكس سلباً على النظام السوري بعد دحره من لبنان .. واشتداد ارتباك النظام السوري مع اقتراب توجيه الاتهامات الدولية الجازمة ضده، لتورّطه في اغتيال الرئيس (رفيق الحريري) رحمه الله!..
كان لابد من فعلٍ يحرف الأضواء والأنظار عما يجري في العراق بحق أهل السنة والفلسطينيين على أيدي الصفويين الشعوبيين، ولابد من خطف الأضواء من المقاومة الفلسطينية السنيّة التي كشفت عجز الجيش الصهيوني، ولابد من استعادة الثقة بعمليات التبشير الشيعي في المنطقة، ولابد من إعادة الاعتبار لأكذوبة (نجاد) بدعوته لإزالة إسرائيل ومقاومة الكيان الصهيوني، ولابد من التغطية على تواطؤ حزب الله بالعمل ضد المقاومة العراقية، ولابد من خلط الأوراق في لبنان لصالح الفوضى التي هدّد بنشرها رئيسُ النظام السوري بشار الأسد.. لابد من كل ذلك ولو على حساب لبنان.. كل لبنان، الرسمي والشعبي.. ولو أدى العبث واللعب إلى تدميره ..!
فلذلك.. ولتحقيق كل هذه الأهداف.. قام حزب الله -ثالث ثالوث المشروع الصفوي الفارسي- بعمليته أو مغامرته الأخيرة ضد الكيان الصهيوني!..
هل نحن ضد عمليةٍ تنالُ من العدوّ الصهيوني؟!.. لا.. مطلقاً، نحن مع كل عملٍ يؤذي الكيان الصهيوني الغاصب ويُضعفه ويضع من هيبته!.. لكننا لا نقبل أن تندرج هذه العملية في مسلسل تحقيق أهداف المشروع الأخطر من المشروع الصهيوني في بلادنا، ولا نقبل أن يتاجر القائمون بهذه العملية بقضية فلسطين، في نفس الوقت الذي يذبحون فيه الفلسطينيين ويستبيحون أرواحَهم ودماءهم وأعراضَهم وأموالَهم في بغداد.. ولا نقبل مطلقاً أن يعبث الصفويون بأمن سورية ولبنان في سبيل تحقيق أهدافهم الدنيئة.. ولا نقبل أبداً أن يتم تدمير لبنان وتقتيل أبنائه وأطفاله ونسائه، بتحريضٍ واستفزازٍ يمارسه أصحاب المشروع الصفوي الفارسي وينفّذه أصحاب المشروع الصهيوني.. ولا نقبل أن يقومَ الصفويون الجدد بالترويج لأنفسهم زوراً وتزييفاً، بأنهم أصحاب مشروعٍ مقاوِم، بينما هم يمالئون المشروعَيْن الأميركي والصهيوني على رؤوس الأشهاد وفي وضح النهار.. ولا نقبل في أي وقتٍ من الأوقات أن تنحرف الأنظار عن جرائم الصفويين بحق أهلنا وشعبنا المسلم في العراق.. ولا نقبل أن تُستَخدَم مثل هذه العمليات المشبوهة، في كسب الوقت لبناء القنبلة النووية الإيرانية الصفوية، التي ستُستَخدَم لخدمة المشروع الشرّير ضد العرب والمسلمين، وضد أوطانهم وثرواتهم وأموالهم وأعراضهم!..
فتِّشوا في أوراق التاريخ كله، فلن تجدوا ما يفيد بأن إيران الفارسية قد دخلت معركةً أو حرباً مع الصهاينة.. أو حتى مع (الشيطان الأكبر) أميركة؟!.. لن تجدوا في التاريخ حَرفاً واحداً يفيد بذلك، بل سنجد أن إيران التي افتضح أمرها باستيراد السلاح الصهيوني والأميركي أثناء الحرب مع العراق (فضيحة إيران غيت).. هي نفسها إيران التي تقود الحلف الصفوي التوسّعي الاستيطاني التبشيري الجديد، وهي نفسها إيران التي تمالئ أميركة وتُعينها على استمرار احتلالها للعراق، وهي نفسها التي تتدخّل بالشئون الداخلية والشعبية السورية، وهي نفسها التي تُسخِّر النظام السوري لتصفية خيرة أبناء شعبه وشعب الأحواز، وهي نفسها التي تستخدم حزب الله في استجرار تدمير لبنان وتهديد أمنه واستقراره، وهي نفسها التي ما تزال عَينُها على الخليج العربي، وهي نفسها التي تحتل الجزر الإماراتية العربية الثلاث، وهي نفسها التي تحوّل الحركات الفلسطينية إلى ورقةٍ ولعبةٍ تلعبها متى أرادت على حساب أمن المنطقة العربية والإسلامية كلها ..!
لو كان أقطاب الحلف الصفوي الشعوبي الجديد القديم جادّين بمقاومة المحتل الصهيوني، فلماذا تبقى جبهة الجولان هادئةً وادعةً حتى الآن؟ ..!
لو كان حسن نصر الله وحزبه يهدفون إلى تحرير الأسرى اللبنانيين، فلماذا لا يقوم بمطالبة حليفه النظام السوري، بإطلاق سراح مئات المعتَقَلين والأسرى اللبنانيين الوطنيين الشرفاء من السجون السورية؟..!
لو كان أقطاب هذا الحلف الصفوي صادقين في شعاراتهم المتهافتة التي يروّجونها، فمَن هم الذين استقبلوا القوات الصهيونية بالأوراد والزهور وحبات الأرز.. عندما اجتاح الجيش الصهيوني جنوبيّ لبنان الشيعي في حزيران من عام 1982م؟!.. ومَن هم الذين استقدموا الجيشَ الأميركي الصهيوني حليفَ الصهاينة إلى العراق، واستقبلوه بنفس الطريقة، وما يزالون يتحالفون معه حتى ساعة كتابة هذه السطور؟ ..!
لو كان حزبُ الله حريصاً على لبنان والدولة اللبنانية، وعلى اللبنانيين وأرواحهم ووحدتهم.. فلماذا يقوم بعمليته الاستفزازية الأخيرة دون علم الحكومة اللبنانية، التي أصدرت بياناً مساء يوم الأربعاء في 12/7/2006م، قالت فيه : (لا علم للحكومة اللبنانية بهذه العملية التي قام بها حزب الله) ؟!.. فكيف يقوم الحزب بعمليةٍ يعرف تماماً أنّ عواقبها ستمسّ لبنان كله، ما يتطلّب التنسيق الدقيق مع الحكومة اللبنانية الرسمية المسؤولة، لاتخاذ الإجراءات العسكرية والسياسية اللازمة لمواجهة العواقب الوخيمة المتوقَّعة على لبنان؟!.. ثم مَن يتّخذ قرار المواجهة ثم ينفِّذ هذه العملية انطلاقاً من الأراضي اللبنانية.. أحِزب الله وحكومَتا سورية وإيران.. أم الحكومة اللبنانية والدولة اللبنانية المستقلة ذات السيادة الكاملة على أراضيها؟..!
لو كان أصحاب عملية (الوعد الصادق) صادقين حقاً، بأنّ عمليتهم كانت للتخفيف عن أهلنا الفلسطينيين الذين يتعرّضون للعدوان الصهيوني في غزة، فلماذا يستبيحون أهلنا الفلسطينيين في بغداد، بشكلٍ أبشع وأشد إيلاماً ووحشيةً وامتهاناً وتنكيلاً؟ ..!(3/177)
على العرب والمسلمين، حُكّاماً ومحكومين.. أن يستوعبوا حقائق المشهَد السياسي والأمني والمذهبي الحالي، ويستوعبوا خطورته الشديدة على الأمتَيْن العربية والإسلامية.. ثم أن يتخذوا الإجراءات اللازمة كلها، لمقاومة المشروعَيْن الخبيثَيْن : الصهيوني الأميركي، والصفوي الفارسي الشعوبي الأشد خبثاً وخطورةً، وتهديداً لوجودنا وديننا وحاضرنا ومستقبلنا ومستقبل أوطاننا وأجيالنا..!
=============
أبعاد المؤامرة الدولية على المرأة والطفل
فاطمة الرفاعي 4/12/1425
15/01/2005
كشفت المهندسة كاميليا حلمي ـ مسئولة لجنة المرأة والطفل باللجنة الإسلامية العالمية للإغاثة النقاب عن المؤامرة التي تستهدف كيان الأسرة المسلمة وذلك عبر الحلقة النقاشية التي أقامها مركز الدراسات المعرفية تحت عنوان "الأبعاد الدولية لقضايا المرأة والطفل" ، وقد أوضحت كاميليا حلمي في كلمتها أن صور الاستعمار الحالي سواء فكرياً أو ثقافياً أو اقتصادياً يستهدف بالدرجة الأولى الأسرة المسلمة وذلك من خلال تركيزه بالدرجة الأولى على المرأة باعتبارها الركيزة الأساسية المكونة للأسرة والتي يعتمد عليها في تربية وتشكيل النشء، ومن هذا المنطلق فإن الاستعمار الجديد يسعى لتدمير الكيان الأسرى من خلال المؤتمرات الدولية والجمعيات الأهلية وممارسة الضغوط الدولية وتسخير وسائل الإعلام لتحقيق ذلك . وقد تجلى هذا المخطط بوضوح في تنادي من جمعية "تقطيع أوصال الرجال" وهي حركة أنثوية جديدة تعمل تحت رعاية الأمم المتحدة وتدعو إلى عالم نساء بلا رجال ، ومن أهم أهدافها تحقيق استغناء المرأة اقتصادياً وسياسياً وجنسياً عن الرجل .
وأبرزت حلمي أن السعي الدءوب لتمكين المرأة وتوليها المناصب القيادية هو تخطيط تدريجي يهدف للاستغناء التام عن الرجال ، أن من الدعائم الرئيسية التي يعتمد عليها هذا المخطط هو الدعوة إلى حرية المرأة في التصرف في جسدها بعيداً عن ضوابط الشرع والدين وما يترتب عليها من دعوات شاذة جاءت في وثيقة (بكين + 5 ) ومنها تحقيق الجنس الآمن من خلال حماية حقوق الشواذ وتقنين الإجهاض وتوزيع وسائل الحمل وقبول العلاقات غير الشرعية بين الرجال والنساء وحمايتها .
تأنيث اللغة
وتطرقت المهندسة كاميليا حلمي في كلمتها إلى محور جديد تسعى لتحقيقه حركة نساء بلا رجال ومثيلاتها هو تأنيث اللغة وموت التاريخ من خلال استبدال بعض المصطلحات وإلغاء دور الأب في الأسرة ، ومن أمثلة المصطلحات التي تم استبدالها استبدال مصطلح "إنصاف المرأة" والذي كان سائداً في وقتما بمصطلح جديد هو "تمكين المرأة" ، وتتضح الدعوة لإلغاء دور الأب من الأسرة من خلال التعريفات والمفاهيم الجديدة التي يقدمونها للأسرة بأنها مجموعة من أفراد هم أب وأم وأولاد دون النظر إلى وجود رباط شرعي يجمعهم وحماية حرية المرأة أن تعاشر من تشاء وكذلك في ظهور دعوة غريبة هي حرية المرأة في رفض الأمومة والإنجاب على اعتبار أن قصر الأمومة والإنجاب على المرأة دون الرجل هو نوع من العنف ضدها، وفتح الطريق أمام المرأة بالاستغناء الجنس عن الرجل من خلال ممارسة الشذوذ والاستغناء عن حاجتها للحمل من خلال الحمل عن طريق الاستنساخ .
الهوية الجندرية
وأوضحت المهندسة كاميليا حلمي أن كل هذه الدعوات الشاذة تدور في بوتقة الدعوة إلى فرض الهوية الجندرية في تصنيف الأفراد بعيداً عن الاختلافات البيولوجية التي تحصر النوع في (رجل وامرأة) في حين أن الهوية الجندرية تدعو لإحساس الفرد بنفسه سواء كان رجل أو امرأة أو شاذ والسعي إلى فرض الجندر (النوع الثالث الشاذ) ودخوله وانتشاره في كل مؤسسات الدولة الحكومية والغير حكومية وصبغ المجتمع كله بهذه الهوية حتى في المنازل لابد من إلغاء الفوارق البيولوجية والاجتماعية كما أوضحت وثيقة (بكين + 5 )، وأوضحت أن إلغاء قوامة الرجل ومنع استئذان المرأة عند السفر من زوجها جزء من حقوقها ومساواتها بالرجل، كما اعتبرت أن معاشرة الرجل لزوجته رغماً عنها هو نوع من الاغتصاب الزوجي وأحد أشكال العنف ضد المرأة . كما تطرقت إلى مصطلح الصحة الإنجابية والذي يجري الترويج له في تعليم الجنس الآمن للأطفال. أي إتاحة الحرية والأمان للأطفال في ممارسة الجنس وإباحة الإجهاض من الحمل غير المرغوب .
موقع الأمم المتحدة
وأشارت المهندسة كاميليا أن هناك ضغوطاً على الدول الإسلامية لقبول هذه التحفظات التي تخالف الشريعة والعادات والتقاليد ، كما أن هناك ضغوطاً على الوفود العربية في المؤتمرات الدولية لقبول ذلك . وأوضحت أن هناك ترجمة غير حقيقية للمصطلحات التي يقدمها موقع الأمم المتحدة باللغة العربية تختلف عن حقيقة هذه المصطلحات في الموقع غير المترجم ومن هذه المصطلحات مصطلح "الجندر إلكوتي" والذي يتم ترجمته إلى المساواة بين الجنسين في حين أنه يعني أن يأخذ الشواذ حقوق الأسوياء .
محاربة أمريكية لإعلان الدوحة
وحول دوافع عقد مؤتمر عالمي للأسرة بالدوحة قالت كاميليا حلمي أن مؤتمر الدوحة كان محاولة من ائتلاف الهيئات والمنظمات الإسلامية للتأكيد على أهمية الكيان الأسرى في مواجهة الدعوة التي قدمتها منظمة "الفايسنست" التي قدمت بيان يؤكد أن العالم كله يرفض الأسرة لأنها عقبة من وجهة نظرهم في طريق التقدم . فما كان من الولايات المتحدة وكندا إلا مواجهة إعلان الدوحة بالرفض التام لأنه يساند الأسرة ويدعو للحفاظ عليها .
===========
التغيير الاجتماعي والفكر الإسلامي المعاصر
عبد الله بن ناصر الصبيح 8/12/1426
08/01/2006
لعل من العجب أن تنزل آيات كثيرات تتحدث عن التغيير، وتُروى أحاديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن التغيير ثم نجد غفلة كثيرين عن تناول هذا الموضوع. وقد سرني تناول الشيخ سلمان حفظه الله لهذا الموضوع.
الله سبحانه وتعالى تحدّث عن التغيير الاجتماعي في عدد من الآيات منها قوله :( ...إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...). [الرعد: من الآية11].
وقال:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...).[غافر: من الآية51].
وقال:( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). [غافر:82]. وقال:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً). [الإسراء:16]. وقال:( لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ...)[سبأ: من الآية15]... إلى قوله:(فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ...).[سبأ: من الآية19].
ومن الأحاديث:
حديث المجدد:"إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها".
وأحاديث أخرى بعضها ترتب عقوبات محددة على بعض الأعمال كعقوبة منع الزكاة وعقوبة شيوع الفاحشة.(3/178)
وبعض من تناول هذه النصوص تناولها من غير أن يستحضر التفاعل الاجتماعي؛ فقصر تناوله عن كثير من العوامل المرتبطة بالظاهرة أو حال التغيير التي تناولها النص، ولهذا كانت تلك الشروح غالباً منفصلة عن الواقع الاجتماعي. ولعل أفضل من تناول التغيير من علمائنا ودرسه دراسة واسعة العلامة ابن خلدون -رحمه الله- في مقدمته، واستطاع بدراساته تلك أن يؤسس لعلم جديد هو علم العمران الذي عُرف فيما بعد بعلم الاجتماع.
والعلم بالتغيير ضروري للفقيه من أجل إنزال الحكم على الواقعة، ودارسو الفقه الأكثر فقهاً بالتغيير هم الأقوى ملكة فقهية والأقدر على الاجتهاد للنوازل. ولعل القارئ يلحظ أن الفقه تحوّل عند البعض إلى نصوص جامدة وقوالب ثابتة من غير اعتبار للمكان والزمان، وما سبب ذلك إلا الإعراض عن دراسة أحوال المجتمع وما يمر به من تحوّلات، وهذه الدراسة هي ما نعنيه بدراسة التغيير الاجتماعي. وابن القيم -رحمه الله- كان واعياً بذلك فنصّ في كتابه "إعلام الموقعين" على تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.
والعلم بالتغيير ضروري للداعية والمصلح من أجل بناء المجتمع، فلا يصطدم مع الناس في دعوته، ولا يستبطئ الإصلاح واستقامة الناس على الحق.
دارسو التغيير الاجتماعي يفرقون بين أمرين: التغير الاجتماعي، والتغيير الاجتماعي. والتغير يتصف بالتلقائية، وهو سنة ثابتة في المجتمع، فما من مجتمع إلا و هو يتغير. مثلاً الأفراد يمرون بمراحل من أعمارهم فهم ينتقلون من ضعف إلى قوة، ثم إلى ضعف وشيبة كما أخبر الله سبحانه، وكذلك الدول تنتقل من حال ضعف إلى قوة ثم إلى ضعف فتشيخ وتهرم. والأعمال الإدارية تنتقل من البساطة إلى البيروقراطية؛ إذ تكثر الضوابط والاحترازات، وتتعدد طبقات الهرم الإداري. أما التغيير فهو تغير اجتماعي مخطط له، أي أنه يتجاوز التلقائية في الحركة والعمل إلى القصد في التغيير وفقاً لخطة محددة.
ودراسات التغيير الاجتماعي مهما تنوّعت فهي تتناول قضية جوهرية، وهي التفاعل بين الطاقات البشرية، والإمكانات المادية، ومقدار المنجزات الناتجة عن هذا التفاعل. والحديث عن الطاقات البشرية هو حديث عن كيان معقد يمتزج فيه الجانب النفسي المتمثل في الإرادة والقيادة والفكر، والجانب الاجتماعي المتمثل في التنظيم وشبكة العلاقات الاجتماعية، والجانب الإداري ومعه التشريعات المنظمة للسلوك والحركة الاجتماعية. والجانب المادي هو كيان أيضاً يمتزج فيه ما هو متاح من المادة مع ما هو ممكن، وهذا يتفاعل بدوره مع مستوى التقنية.
وعلماء التغيير متفقون الآن على أن الأدوات ليست محايدة بل تحمل معها مضامين ثقافية وقيماً تساهم في التغيير الاجتماعي، والأدوات كما هو معلوم صورة من صور المادة التي تتفاعل معها في إحداث الفعل الاجتماعي.
إن أكبر خطأ يرتكبه المفكر حينما يفكر بعيداً عن مفاهيم التغيير الاجتماعي، في هذه الحالة يصبح فكره حاداً ومصطدماً مع الطبيعة التلقائية للمجتمع. المجتمع من طبيعته أنه يتحرك .. ينمو .. يضعف ..يقوى .. يتطور.. إنه كيان حيّ متحرك. . وهذا النوع من المفكرين يفترض أن المجتمع كائن جامد غير قابل للحركة، ويفترض أن مقولاته الجاهزة، وما يحمله من أنماط معينة من السلوك هي التي ينبغي للمجتمع أن يأخذ بها. لا! ليس الأمر كذلك، إن هناك تفاعلاً بين المجتمع والفكر. وقد أدرك علماؤنا السابقون ذلك فقالوا: "المشقة تجلب التيسير" في لفتة منهم إلى بعض أحوال التغير الاجتماعي. والسلوك الاجتماعي من عادته أنه يتراوح بين الضبط والارتخاء، أو إن شئت فقل: إنه في حالة صراع بين الضبط السلوكي وبين التحلل من القيود. والمفترض أن يكون الفكر ومنه فتوى الفقيه ضابطاً للسلوك الاجتماعي في انحداره، فلا يدعه يتفلت من ضوابطه. والتيسير ليس هو التيسير الآني فقط فهذا أحد معانيه، وأهم منه ما يؤول إليه الفعل في المجتمع، ومن الأفكار والفتاوى ما يظنها أصحابها تيسيراً على الناس، ولكنهم بعد فترة يكتشفون مقدار الحرج الذي لحق بالناس بسببها. مثلاً البعض حينما يفتي لفرد من الأقلية المسلمة فتصبح فتوى للأقلية بكاملها بينما هي في الأصل خاصة، وربما جاءت الفتوى مراعية الوضع الآني الذي يعيشه فرد ما فكانت معززة الوضع الخاطئ الذي يعيشه الفرد ورافعة لحرج عنه في أمر هو في أصله مخالفة شرعية، كتلك الفتوى التي أفتت لهم بجواز بيع الخمر على غير المسلمين، وأنا هنا لن أناقش الفتوى من ناحية فقهية، ولكن أتحدث عنها من ناحية أثرها الاجتماعي وعلاقتها بالتغيير. هذه الفتوى تدفع السلوك الاجتماعي إلى التحلل من القيود، ولو تراكمت مجموعة فتاوى من هذا النوع لكان نتيجتها نزع الهوية الإسلامية عن أصحابها، وتذويب الفوارق بين الأقلية المسلمة والأكثرية غير المسلمة. إن الفتوى التي تحرم على المسلم بيع الخمر مثلاً تحافظ على قدر من سمات الهوية، وتدفع المسلم إلى التخلص من الإثم بتصحيح سلوكه وإنشاء مؤسسات مجتمعية متفقة مع الهوية الإسلامية سواء كانت المؤسسات تجارية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو تعليمية. وفي هذا محافظة على هوية الأقلية المسلمة وترسيخ لوجودها، وتأكيد لاستمرارها في مجتمع الأكثرية.
لعل من مواطن الخلل في الفكر الإسلامي الحديث تقصيره في الدراسات الاجتماعية، ومنها موضوع التغيير الاجتماعي الذي تناوله مشكوراً الشيخ سلمان. وإني لأعجب أن من يتناول موضوع التغيير الاجتماعي إنما يتناول الجانب السلبي منه فقط، ولا يرى في التغيير إلا أنه اتجاه نحو فساد المجتمع، وتجده يحصي الجوانب السلبية ومظاهر الانحراف، ويغفل عن الجوانب الإيجابية، كما يغفل عن إرادة الناس في اختيار اتجاهات التغيير. وينتهي هذا المتحدث إلى رفض التغير، ورفضه غير ممكن، والمطالبة بوقف حركة المجتمع، وهذا مخالف لسنة الله في المجتمعات.
وقيمة ما قدّمه الشيخ سلمان في برنامجه أنه أراد أن يعلمنا أن التغير الاجتماعي موضوع يمكن التحكم فيه وتوجيهه، ولهذا تحدث عن التغيير وليس عن التغير، وحدد لنا ما يدفع نحو التغيير وما يوقفه، وبين لنا أن التغير أمر حتمي، وهو إيجابي لمن أحسن التعامل معه وسلبي لمن أعرض عن الاستفادة منه أو صادمه. شكراً للشيخ سلمان وحفظه الله ووفقه.
===============
أمريكا تعيد لعب الدور الروسي
شادي الأيوبي 6/12/1424
28/01/2004
فرضت فترة الصراع (الأمريكي - السوفييتي) خلال سنوات الحرب الباردة على دول العالم أجمع ظروفًا خاصة تبعًا لتحيز كل دولة لمعسكر من المعسكرين العالميين اللذين هيمنا على مقدرات العالم لفترة طويلة، وندر أن سلمت دولة في تلك الحقبة من مضاعفات ذالك الصراع؛ بل ندر أن يسلم قطاع من قطاعاتها من تلك المضاعفات.
ومن أبرز الدول التي خضعت للظروف الخاصة دول العالم الإسلامي، بل إن هذه الدول كانت نقطة ارتكاز ومحور صراع رئيس للمعسكرين لعوامل عديدة؛ منها: الموقع الجغرافي والأهمية الإستراتيجية وغيرها.
ومن سوء حظ تلك الدول وقوعها تحت الهمينة المباشرة لأحزاب وثورات تابعة عقديًّا وممولة مباشرة للمعسكر الاشتراكي أو للمعسكر الغربي، وقد خضع العالم الإسلامي في تلك الفترة إلى عمليات تغيير وتشويه فظة ومحاولات مسخ للهوية تحت مسميات شتى وأهداف واهية لم تلبث أن سقطت مع سقوط المحرك الرئيس لها في الدول المصدرة للثورة والأفكار المستوردة .
مسخ الهوية .. بين المعسكرين(3/179)
ولا شك أن الدول التي كان نصيبها الوقوع تحت قبضة المعسكر الاشتراكي كان لها نصيب أكبر من التضييق والتشديد ومحاولات مسخ الهوية، وذلك بهدف نزعها من المحيط الإسلامي وإلحاقها بالمعسكر الاشتراكي، وشملت تلك المحاولات مجالات التعليم بمختلف فروعه، ومجالات العمل في سلك الدولة، وصولاً إلى التضييق على الأرزاق وقطع الأعناق مما لا يتسع له الكثير من الصفحات لتسطيره.
أما الدول التي كان نصيبها الوقوع في المعسكر الغربي؛ فكان نصيبها مختلفًا، فمحاولات مسخ الهوية ارتدت ثوب الحداثة والعلم والفكر المنفتح والأفكار الليبرالية وكانت بعيدة عن الأسلوب الاشتراكي الثوري الذي أرهب العباد لفترة طويلة من الزمن.
وهكذا فقد كانت الأجيال المسلمة في العالم الإسلامي تخضع لعملية غسيل دماغ ومسخ قسري وسلخ عن التاريخ بالأساليب الثورية التي لا تعرف من الثورة إلا الهمجية المطلقة وتشهد - إلى اليوم- المعتقلات والسجون بهول تلك الفترة وفظاعتها.
وما من شك أن أعداء هذه الأمة الذين حاولوا سلخها من تاريخها ودينها كانوا يجدون أول العقبات التي تتصدى لهم هي تمسك المسلمين بدينهم وكتابهم، وأن أهم ما عليهم فعله هو إبعادهم عن تلك التعاليم التي تحمل من الحيوية ما لا يحمله مبدأ أو دين آخر، لذلك اشترك الفريقان المهيمنان على العالم الإسلامي في هذه العملية في الشكل المنهجيّ مع اختلاف الأساليب.
اختلاف الوسيلة والغاية واحدة
ومهما كان من المعسكر الغربي في تلك الفترة؛ فقد كان أكثر لباقة ومكرًا في عرض مبادئه وتسريبها، فقد مثلت قيم الحرية والتنوير منافسًا مغريًا أمام هول الستار الحديدي الذي أقامه المعسكر الاشتراكي، كما لم تكن الثورات التي تدعهما أجهزة المخابرات الأمريكية ترتكب دائمًا الفظائع التي كان الاشتراكيون لا يتورعون عن القيام بها في سبيل إقامة دولتهم الاشتراكية المجيدة.
وهكذا عرفت الكثير من الدول الاشتراكية في فترة الحرب الباردة ظاهرة الهروب من "النعيم الحديدي" إلى الغرب الذي لم يكن أقل همة في استنزاف الشعوب وسرقة مقدراتها؛ بل كانت مسألة الحرية واحترام البشر والسعي للقمة العيش هي الدافع الرئيس لذلك الهروب.
ثم كانت سنة الله التي لا تحابي أحدًا؛ فقد شاء الله أن يكون المعسكر الاشتراكي أول الفريقين سقوطًا وأن تخرج أمريكا من ذلك الصراع قوة متفردة ومهيمنة في الساحة الدولية، وما من قوة تخرج بهذا الشكل وهذا النصر وهي لا تحمل مبادئ أخلاقية ودينية تمنعها من الظلم والبطش، إلا وأخذها الغرور ورغبة إملاء الأوامر على غيرها.
وبدأت القوة الجديدة في تصفية الدول المارقة التي كانت ضمن المعسكر الاشتراكي السابق، وذلك بأساليب مختلفة من الحصار الاقتصادي بهدف التركيع، فمن خلق المشاكل الداخلية من ثورات وأزمات اجتماعية واقتصادية، إلى إغراء بمساعدات مختلفة إلى التهميش على الساحة الدولية. واستخدمت الإدارة مع المعاندين أساليب الترغيب والترهيب، وصولاً إلى الحرب المباشرة التي فاقت في كثير من صورها همجية البرابرة الذين غزوا العالم وتركوا المناطق التي غزوها بلقعا قفرًا، فهؤلاء على الأقل سلمت البيئة من بطشهم، أما حروب الولايات المتحدة فكانت دائمًا وبشكل منهجي تتعمد ترك آثار لا تمحى وتشويهات لا تزول... على البشر والحجر ولا تزال الأراضي والغابات الفيتنامية واليوغوسلافية والعراقية تنبض بالسموم القاتلة التي تنقل الأمراض السرطانية إلى ساكنيها، هذا إذا تناسينا ما حصل منها في اليابان والذي تشيب لذكره الولدان وتقشعر له الأبدان.
ومع مرور الزمن ترسخت قبضة الثور الأمريكي على العالم أكثر فأكثر واستبد بالقرار الدولي وخضعت له المنظمات والهيئات الدولية التي كان يغرقها بمساهماته المادية ويرهقها بضغوطاته السياسية، ومع نهاية التسعينات من القرن الماضي وبداية القرن الحالي كانت معظم الدول المارقة في وضع لا تحسد عليه، فما لم يتم إسقاطه أو احتلاله. صار في وضع اقتصادي منهار أو يتعرض لازمات اجتماعية وسياسية تهدده ليلاً نهاراً وتجعله يرجو التفاتة من العم سام تنقذه من الانهيار التام.
وهكذا ازداد الغرور الأمريكي وتحول إلى رغبة طاغية لإملاء الأوامر ولم يعد الثور الهائج يحتمل أي اعتراض أو استنكار لأوامره المقدسة، وكان عهد بوش الأب بداية الجنوح للقوة التي لا تنتظر أي حساب و"من أَمِنَ العقاب أساء الأدب"، ثم كان عهد كلينتون بداية الرعونة الزائدة بما حمله من ضرب لأهداف مدنية للفت النظر عن مشاكل داخلية وفضائح جنسية، ليختتم الهيجان الأمريكي ببوش الابن الذي أجمع المراقبون العالميون أنه من أغبى الرؤساء الأمريكيين وأكثرهم تهورًا إن لم يكن كذلك على الإطلاق.
ووفرت حوادث الحادي عشر من سبتمبر للرئيس " الغبي" ما كان يبغي من فرصة لإثبات بربريته الغير محدودة، وبدلاً من ضربات لنقاط ومراكز محددة في البلدان المشبوهة التي عرفها عهد كلينتون، صار الأسلوب الجديد يقضي بسحق الدولة المارقة بحجرها وبشرها وترك أكبر قدر ممكن من الخراب والدمار، وصارت الفلسفة الجديدة لاقتحام الدول " من ليس معنا فهو ضدنا "، وبدأت الاحتلالات المباشرة التي تعرف بداية لكنها مجهولة النهاية ودخلت شعوب بأكملها في نفق الاحتلال المظلم دون أي ضمانات أو وعود بتاريخ أوكيفية انتهاء الاحتلال.
ثم إن حلقة أخرى من الهيمنة بدأت في الفترة الأخيرة وتوجت عهد التكبر الأمريكي، حيث تخلت الإدارة الأمريكية عن الخيط الرفيع الذي كانت تستر به عورتها، وطرحت وراءها ما كانت تنادي به من مبادئ العولمة والانفتاح والحريات، وبدأت تبدي ضيقها وتبرمها بآخر حصون العالم العربي وهو العقيدة والتربية الدينية؛ فأخذت بالضغط على الدول الإسلامية لتغيير المناهج التربوية وإزالة ما قد يحمل على أنه يشجع على التطرف وإدخال المواد التي تشجع على القبول بالآخر والتسامح مع المختلف، ولم تكن هذه المبادئ العامة البراقة تعني في الواقع إلا القبول بوجود الكيان الصهيوني والتعامل والتعايش معه، مع ما يتطلبه ذلك من تجاهل مشاكل كبيرة مثل اللاجئين المنتشرين في كل بلاد الأرض وتناسي الذاكرة الطويلة من المآسي التي أوقعها الغاصبون في فلسطين.
و بدأت سلسلة طويلة من الضغوطات السياسية والاقتصادية على دول المنطقة لحملها على تغيير مناهجها بزعم أنها تشجع على التطرف والإرهاب، وفي هذه المعمعة ضاعت كل المبادئ الأمريكية البراقة والتي كانت تنادي بحرية الرأي والمعتقد وإفساح المجال أمام انتقال المبادئ والأفكار بحرية تامة، وهو ما كانت الإدارة الأمريكية تروج له خلال سنوات طويلة وتتذرع به للتدخل في شؤون الدول الأخرى.
ثم بدأت الضغوطات تأخذ شكلاً أخطر وأكبر لتمتد إلى بلاد لها عراقة في مجال الحريات، وكان للحملة العالمية التي قادتها القيادة الأمريكية ضد ما يسمى الإرهاب فعل مؤثر وقوي في حمل واجتراء دول مثل فرنسا على القيام بخطوات تهدف في نهايتها الى التضييق على الوجود الإسلامي، وتفكير دول أخرى في خطوات مماثلة الأمر الذي لا يبشر بالخير بالنسبة للوجود الإسلامي في أوروبا.(3/180)
واليوم صار واضحًا للعيان أن المصارع العالمي الذي أسقط الاتحاد السوفييتي ووصل إلى مواجهات خطيرة معه؛ لكنه كان دائما يتمالك نفسه كما كان يفعل الطرف الآخر خشية تفجر الأوضاع بشكل مأساوي لا يمكن التحكم فيه، أصبح هذا المصارع لا يصبر على أن تجري المباراة التي فرضها على الشعوب الإسلامية حسب الأصول الشريفة للمنافسة، بل أصبح يريد فرض شروطه في اللعب والمنافسة بل والتحكيم، وامتدت شروطه إلى المطالبة بالتضييق على الحريات الشخصية والمعتقدات الدينية، ولم تكن إسرائيل والمنظمات اليهودية غائبة عن الأحداث بالطبع؛ بل كانت بصماتها واضحة في كل مرحلة من مراحلها، وما تصريحات شارون التي استفزت أوروبا ضد الجالية الإسلامية فيها إلا نموذج واضح لهذا الدور.
وأخيرًا يجدر القول بأن الذي يرضى أن يمارس الدور القمعي الذي كان يلعبه الروس في دول المنطقة يجب عليه أن ينتظر نفس المصير الذي لقيه هؤلاء، وأن ينتظر أيضًا أن يرحل عنها بنفس الطريقة التي رحلوا بها عنها.
=============
الدولة في القومية العربية
أجاب عليه:سلمان العودة
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله.فضيلة الشيخ سلمان العودة.السلام عليكم ورحمة الله.هناك موضوعان أود التحدث فيهما:أولاً: أني أرفقت مقالاً لم أكن قد أكملته، ولكنه يتحدث عن الدولة القومية العربية ودورها في الدول العربية وخاصة مصر، وكنت أنوي أن أعدل في المقال بما يتناسب مع الأحداث الجديدة، ولكن أرجو أن تتكرم بإعطائي رأيك عن مجمل المقال.ثانياً: هناك موضوع كثر الحديث عنه من غير ذوي العلم والفقه مع الحاجة الشديدة إليه في هذه الأيام، ألا وهو مسألة قرب انتهاء عمر هذه الأمة، ومن ثم قرب ظهور الآيات الكبرى للساعة، مثل: المهدي، والدجال، وغيرهما، وهذه المسألة لُبّس فيها حق مع باطل، فكثير منها استدلالات بأحاديث ضعيفة إن لم تكن موضوعة، بل البعض يغالي ويستدل بما يسميه الجفر وينسبه إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بإخبار ما هو كائن هذه الأيام، وربطه بالآيات الكبرى، هذا بخلاف الروابط المتكلفة للأحداث والتي تتنوع من كاتب إلى آخر.والشيء الوحيد الذي وجدته مكتوباً بشكل علمي ومحترم، هو: كلام الشيخ سفر الحوالي عن إعادة تأويلات التوراة في زوال دولة إسرائيل، فهل هناك بحث علمي حقيقي حول هذه المسألة؟ خاصة وأن موضوع الفتن الكبرى أكثر ما نحتاجه في هذه الأيام؛ لكثرتها وعمومها. جزاكم الله خيراً.
الجواب:(3/181)
أولاً ما ذكرته في موضوع (عمر هذه الأمة) وأشراط الساعة، فقد جعلته مادة لحديثي البارحة في درس منزلي نقلناه عبر الإنترنت، وسينزل شريطاً ضمن صوتيات الموقع باسم (تصحيح المفاهيم رقم 3) حبذا أن تستمع إليه، وفي انتظار رأيك المبارك.ثانياً: قرأت بحثكم الطيب حول الدولة القومية والبحث فيه لفتات مهمة، لكن ربما كان الاختصار الشديد سبباً في عدم تجليته لبعض القضايا.مثل: موقف الإسلام من الوطنية، وأن الدفاع عن الوطن ضد الغاصبين والمحتلين هو من مطالب الشريعة, وأن الذاهب فيه شهيد إذا حسنت نيته وفي الحديث: "من قتل دون ماله فهو شهيد" رواه البخاري (2480)، ومسلم (141) عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - وروى الترمذي (1421) والنسائي (4095) وأبو داود (4772) من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد". ومثل: الاستفادة من المؤسسات المدنية القائمة, وأن المصلحة الشرعية تقتضي الحرص على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليها، وأن المشاركة من الخيرين هي لب المصلحة -فيما أرى - باعتبار هذا أمراً واقعاً لا بد من التعامل معه، وإذا لم يمكن دفعه بالكلية فإن من الممكن تخفيفه. والله المستعان،بارك الله فيكم ووفقكم.ملحقالفتنةسوف أتحدث هنا عن فتنة كبيرة عمت المسلمين - على وجه الخصوص في بلدي والكثير من البلدان الإسلامية؛ وهي فتنة القومية.ومقالتي هنا ليست درساً تاريخياً ولا هي نقد للفكرة القومية، وإنما هي نوع من الرصد للواقع الحالي مع استقراء لما قد يكون عليه الحال في المدة القادمة.مقدمة تاريخية سريعة:ظهرت دعوات الهوية القومية بناء على الضعف الذي أصاب المسلمين في القرن الماضي، وكان الدعاة الأوائل لها من النصارى من أمثال: أنطون سعادة، وميشيل عفلق، وجورج أنطونيوس، كما هو معروف للباحثين في هذا الشأن. ولقد ظهرت هذه الدعوات في جزء كبير منها كرد فعل لظهور القومية التركية وإحساس الأتراك بالذات والتفوق على الأجناس التي يحكمونها، وبدأت هذه الدعوات في الانتشار في الدول الإسلامية، وعلى وجه الخصوص تركيا وبقية الدول العربية، وأيضاً بقايا أجزاء الدولة العثمانية، مثل: شعوب الصرب والبلغار والبلقان، ونستطيع أن نقول: إن بدايات القرن الرابع عشر الهجري - (القرن العشرين) إبان الحرب العالمية الأولى - كانت مرحلة فاصلة في تاريخ البشرية أجمع بما فيها أمة الإسلام. تغيرت دول، ورسمت خريطة العالم عدة مرات، وسقطت الخلافة الإسلامية والتي كانت لا شك آنذاك لا تعدو إلا رمزاً أكثر منها كياناً حقيقياً، وظهرت فتنة الدولة الحديثة المدنية والقومية تطغى على عقول المفكرين والساسة في الدول الإسلامية باعتبارها عنواناً للمرحلة الجديدة. لا بد هنا أن نشير إلى تجربة خطيرة، وهي: الثورة العربية التي قادها الشريف حسين أمير مكة عام 1916م، والتي دعمها البريطانيون للتخلص من السيادة العثمانية باعتبار أن هذه التجربة تظهر كيف استطاعت هذه الفكرة أن تتحول إلى حركة. لقد بَترت تركيا نفسها تماماً عن المرحلة السابقة ذات الهوية الإسلامية، بينما حاولت الدول العربية الأخرى إيجاد صيغة أخرى للتوفيق بين الفكر القومي مع المرحلة الإسلامية، وبدأت هذه الدعوة يتميز كتابها ومنظروها والحريصون على التوفيق بينها وبين المرحلة السابقة، بل وشارك بالفعل عدد من الشيوخ في التأكيد على أنه لا تعارض تماماً بين الفكر القومي والإسلام (في مصر على سبيل المثال: الأفغاني ومحمد عبده). لقد كانت حركات التحرر ما قبل سعد زغلول ذات انتماء إسلامي، مثل: حركة أحمد عرابي، ومصطفى كامل، ولكن ابتداء من حركة سعد زغلول ظهر شعار (عاش الهلال مع الصليب) و(مصر للمصريين)، وكانت بداية للقومية المصرية.لقد حاربت الشعوب العربية على وجه الخصوص الاحتلال التركي ومعه الاحتلال البريطاني والفرنسي، وعلى الرغم من أن الحركة القومية داخل تركيا والدول العربية كانت سبباً في القضاء على الخلافة العثمانية، ولكنها لم تقدم إنجازاً حقيقياً في إخراج الاحتلال البريطاني والفرنسي، والذي خرج من تلقاء نفسه بعد تغير نظام العالم وضعف الدولتين الفرنسية والبريطانية وبزوغ نجم أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية.ومع بداية الخمسينيات وظهور الانقلابات العسكرية على النظم الملكية في العديد من الدول العربية، أخذت الدولة القومية المدنية تأخذ مرحلة جديدة وبعداً آخر، فلقد بدأت تتبلور أكثر مفاهيم القومية العربية، وتخلص الانتماء العربي من أي انتماءات أخرى مثل الانتماءات المحلية. والقاسم المشترك بين كل من هذه الأنظمة العسكرية هو قمع جميع مظاهر الفكر والحركة الإسلاميين، والذي بدا لهذه الأنظمة كالمارد المحبوس الذي يخشى خروجه من قمقمه، وأصبح بوسع هذه الأنظمة تقبل أي فكر أو مذهب طالما كان داخل المنظومة القومية كائناً ما كان حتى ولو شطح الإلحاد.ولكن فكرة القومية العربية الواحدة بدأت في الانحسار، وبدأت تظهر القوميات المحلية مرة أخرى، خاصة بعد موت عبد الناصر وما كان من اتفاقيات سلام مع إسرائيل.هذا كان شرحاً سريعاً لما حدث من تطور لفكرة القومية وما آلت إليه من أحوال.وعلى الرغم من أن هذه الدولة القومية الجديدة لم تحقق أي انتصارات حقيقية للأمة، بل ظل منحنى الهزائم يتوالى، وزادت محنة الأمة الإسلامية من وقت لآخر خلال المائة سنة، وكان من أبرز ذلك حصول الخلافات بين الأشقاء، وقيام إسرائيل، والهزائم المتوالية، والهيمنة الغربية على الثقافة والاقتصاد، وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت هذه الدول والأنظمة مرعوبة من إعطاء أي مساحة للحركة الإسلامية.خصائص الدولة القومية:ومن أجل قيام هذه الدول استطاع القائمون على فكرة الدولة الحديثة أن يضعوا منظومة متكاملة من الفكر والثقافة والسياسة، وإليكم بعضاً من خصائص هذه المنظومة التي قادها أصحاب هذه الدولة وهذا الفكر:1. الإيمان بأنه لا تعارض تماماً بين الإسلام والهوية القومية، فالدستور المصري على سبيل المثال ينص في ثاني مادة له على أن الدين الإسلامي هو دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، وكما أشرت من قبل إلى انخراط الكثير من الشيوخ في بيان مشروعية هذا النوع من الحكم.2. الإيمان بالمواطنة وأن جميع من يحملون الجنسية هم مواطنون، بغض النظر عن ديانتهم ولهم جميعاً حقوق واحدة في هذه الدولة. 3. أصبح (خاصة في المرحلة الحالية من الدولة القومية) ما هو خارج حدود الدولة لا يعني الدولة إلا من باب المصالح الاستراتيجية، كالتعاون مع بقية الدول أو الاهتمام بالمسألة الفلسطينية، باعتبار إسرائيل تهدد الأمن القومي لهذه الدول، وأصبح التمركز على الذات من أهم سمات هذه المرحلة، ولهذا كان عبد الناصر نموذجاً غير مرغوب فيه لدى الدول الغربية، نظراً لتطلعاته لتوحيد الدول العربية، ولكن هذا الفكر تغير ولا يوجد له وجود سوى بقايا في العراق وليبيا في العصر الحالي، وحكامهما عموماً من الحقبة القديمة، ولكن الفكرة العصرية الآن هي قبول تعدد الانتماءات، فالمصري له انتماء مصري قومي في المقام الأول، ثم له انتماء أوسع وهو العربي، ثم انتماء أوسع وهو الإسلامي، وذلك بحسب الترتيب من حيث الأولويات.4. الإيمان بالدولة المدنية كشكل أساس لنظام الحكم وما تابعها من قوانين وضعية، والإيمان(3/182)
كذلك بالمنظمات الدولية وما يعرف بالدبلوماسية باعتبارها الشيء الوحيد المنظم لعلاقة الدول ببعض. لذلك كلما ازداد القتال اليهودي للفلسطينيين سارعت الدول لاستخراج إدانة الأمم المتحدة.5. إيجاد منظومة متكاملة من الهوية للمنتمين لهذه الدولة من خلال الإعلام والتعليم، وذلك من خلال محاولة عمل عمق تاريخي وثقافي لهذا الفكر من خلال اصطناع أمجاد له. (على سبيل المثال ما يعرف بثورة 19 المصرية والتي أسفرت عن لا شيء، وكذلك ما عرف باسم ثورة 52 هذا في الناحية التاريخية، أما الثقافة من خلال التركيز على بعض جوانب الثقافات المحلية وإبرازها بحيث تعطي انفراداً وتميزاً للمواطنين من مثل أغاني سيد درويش، وتماثيل محمود مختار)هذه المنظومة المتكاملة أيضاً أضافت قيماً لم تكن موجودة من قبل لدى المسلمين، وأعلت من شأنها مثل: الوطنية، والتي تعد ميزة للشخص وكأن أفضل الناس أشدهم وطنية. (تحدثت بهذا كثير من الأعمال الفنية لدرجة أن الراقصة التي تساعد في عمليات مقاومة الاحتلال ضد الإنجليز فهي ذات فضل وشأن عظيم).أيضاً أضافت هذه المنظومة عدداً من المفردات اللغوية الجديدة وجعلتها عوضاً عن بعض المصطلحات الإسلامية من مثل : الوحدة الوطنية، التحرر الوطني، الموت في سبيل الوطن.6. فرض السيطرة الأمنية التامة على كل ما يخالف أصل هذه الأنظمة مثل ما يسمى بالوحدة الوطنية أو نظام الحكم الديموقراطي ولو بالبطش غير الآدمي.7. لا شك أن فكرة الدولة القومية ليست مجرد فكرة، بل هي واقع متجسد في دولة مدنية حقيقية ذات مؤسسات وله منظومة متكاملة من الدساتير والقوانين. إن هذه الدولة متمثلة في جيش، وفي شرطة وجهاز أمن، وفي أجهزة قضائية، وفي أجهزة الإعلام، مثل: الصحافة والتلفزيون، وفي أحزاب سياسية بل وفي عدد كبير من المثقفين والمفكرين والكتاب. إذاً فنحن أمام الملايين ممن آمنوا بهذه الفكرة ويعملون كجزء من منظومتها.8 اختلط داخل نادي الدولة القومية الكثير من الفرقاء، فقد اجتمع الشيوعيون مع الرأسماليين مع العلمانيين مع المتدينين مع المتصوفين، وأصبح الجميع مواطنين في دولة واحدة، ويكتبون في جريدة واحدة، ويتحدثون في ندوة واحدة، ويدرسون في جامعة واحدة، وينتمون لجيش واحد وشرطة واحدة وقضاء واحد.وأود أن أنبه أنني لا أتحدث هنا عن (نظرية المؤامرة) أو عن التدخل الخارجي، نعم هناك تدخل خارجي؛ لأن أنظمة الحكم هذه قد أصبحت هي أفضل الأوضاع بالنسبة للدول الغربية ولا شك، كما أنها تدعمها ولا شك، ويستفيد من هذا الدعم الكثيرون ممن تولى حكم البلاد ولا شك. إذن أين الفتنة؟ولكن عنوان المقال، هو: الفتنة. الحقيقة أن كثيراً من الناس المنتمين لهذا الفكر ولهذه الهوية هم في فتنة، وقد أوقعوا غيرهم في فتنة، فهم - كما أشرت - يرون أنه لا تعارض بين انتمائهم لفكرة القومية وبين إسلامهم، بل هناك الكثيرون المتدينون من المؤمنين بهذه الفكرة. إن من تحدثت عنهم في النقطة رقم 7 يتعدى تعدادهم الملايين ولا شك وكثير منهم على دين، وهم يرون أنه لا تعارض بين مؤسسات هذه الدول وأنظمة هذه الدول وبين الإسلام، وأكثر ما شجعهم على ذلك وجود الكثير من الشيوخ الذين لا يجدون غضاضة في هذه الصورة على هذا النمط للدولة، بل وأحياناً يضعون لها النظريات! إن هؤلاء المسلمين المنخدعين بفتنة القومية هم في الحقيقة ذخر للإسلام ولا شك، وعندما يبين الحق سوف يعلم هؤلاء كم كانوا مخدوعين.ومن هنا أرى أن فتنة الدولة القومية المدنية هي من أكبر الفتن التي حلت بالمسلمين وراح ضحيتها الكثير من المسلمين، سواء من أصحابها المؤمنين بها أو من المعارضين لها، وقد استهلكت هذه الفتنة في رحاها الكثير من الوقت والمال والأنفس.تمثل ذلك في القمع الكبير الذي وجهته هذه الحركات للأصوات الإسلامية، ومعارضة الكثير من الحركات الإسلامية التي وصلت لحد القتال المسلح، وما الذي حدث في مصر والجزائر وغيرها من الدول الإسلامية إلا دليل على ذلك، ولكن لن أتحدث هاهنا عن عيوب مواجهة الحركات الإسلامية للفكر القومي فلها مقام آخر.سقوط الأقنعة:-وهنا يأتي الغرض من هذا المقال بعد هذه المقدمة. أشرت سابقاً إلى الإشكالية التي وقع فيها أصحاب الفكر القومي من ادعاء عدم تعارض الإسلام مع أفكارهم، وأشرت أيضاً إلى تورط الكثير من الانتهازيين والاستبداديين والعلمانيين وغيرهم في حركة الفكر القومي، لقد حاول هؤلاء التذرع بكل الأشكال ليفرضوا على الناس رؤيتهم وقناعتهم. لقد تناسى هؤلاء أن الصراع بين المسلمين واليهود هو صراع بين ديانتين بين مؤمنين وكفار، وأرادوا أن يلهوا الناس عن هذه القضية، فبينما تتعالى أصوات اليهود بإسرائيل الكبرى الموعودة في التوراة نجدهم يتحدثون عن التعايش السلمي. لقد فضل هؤلاء لمصالحهم الشخصية أن يسقطوا فريضة الجهاد، فبعد أن قالوا: إن الجهاد الإسلامي لا يكون طلبياً وإنما يكون لدفع العدو، فإذا بهم الآن يصفون من يقتل المدنيين الأبرياء من الإسرائليين المحاربين يصفونه بالإرهابي، ووقعوا في حيرة مع الوضوح السافر لحرب أمريكا، ولكنهم يقولون :" أمريكا لا تحارب الإسلام وإنما تحارب الإرهاب"، وما دام الأمريكان يحاربون الأصولية الإسلامية فأهلا ومرحبا، فهي الهم والعبء الذي أراد الجميع التخلص منه:-ولكن الإشكالية الحقيقية والتحدي الذي سيفضح هؤلاء جميعاً، وسيبين لهؤلاء المفتونين بهذه الفكرة والمجتمعين حولها هي الإصرار الواضح على ضرب اليهود والأمريكان لمظاهر الإسلام، وظهور ذلك منهم بشكل جلي يظهر في كتاباتهم (أمثال: فوكويا ما، وهنتجتون)، وفي أقوالهم (بيرلسكوني، وبوش، وشارون)، وأفعالهم التي لا تحتاج لضرب مثل!"قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر" [آل عمران : 118].سوف يزيد في الأيام القادمة جلاء الأمر وستتهاوى الأقنعة عما وراءها، وستظهر القلوب ما في مكنوناتها. ستتهاوى أقنعة هؤلاء الذين يلبسون قناع القومية ليظهر من ورائها العلماني والملحد والعميل والمداهن والمؤمن."تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه" رواه مسلم (144) من حديث حذيفة - رضي الله عنه - .وأيضاً في الحديث الحسن :"ثُمّ فِتْنَةُ الدّهْيْمَاءِ لا تَدَعُ أحَداً مِنْ هَذِهِ الأمّةِ إلاّ لَطَمَتْهُ لَطْمَةً فإذَا قِيلَ انقضت تَمَادَتْ، يُصْبِحُ الرّجُلُ فِيهَا مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً حَتّى يَصِيرَ النّاسُ إلَى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إيْمَانٍ لا نِفَاقَ فِيهِ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لا إيْمَانَ فِيهِ" رواه أبو داود (4242) وأحمد (6168) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.
=============
تقسيم التوحيدي:سلاح أمريكي جديد!
د. محمد يحيى * 18/10/1423
22/12/2002(3/183)
من الشائع في الكتابات السياسية اليوم أن أمريكا تسعى الآن إلى عملية تقسيم واسعة النطاق للعديد من البلدان الإسلامية ، وأولها هو العراق الذي يقال إن الخطة التي تقضي بتقسيمه إلى ثلاثة أجزاء هي دولة كردية ودولة سنية ودولة شيعية ، ويرد في الأخبار كذلك تقسيم السودان إلى جنوب وشمال ، بل وربما إلى دول أخرى في الغرب والجنوب الغربي وحتى داخل الدولة الشمالية نفسها ، وآخر هذه التقسيمات هو تقسيم السعودية إلى دول شرقية تحوي المواد البترولية ودول غربية تضم الأماكن الإسلامية المقدسة كما يسمونها، وحتى هذه الدول الغربية قد تنقسم إلى أجزاء شمالية ووسطى وجنوبية وهناك بالطبع الحديث القديم حول تقسيم مصر إلى دولة قبطية ونوبية وإسلامية( أو بالأصح علمانية ) ثم هناك حديث عن تقسيم الصومال وهو أمر واقع وتقسيم الجزائر بفصل دولة للبربر وتقسيم إندونيسيا ، وقد بدأ بالفعل بفصل تيمور الشرقية كدولة نصرانية وقد يستمر بفصل أجزاء أخرى .
وقد يمتد حديث التقسيم ليطال إيران مثلا بفصل جزء كردي وجزء عربي سني وحتى جزء أذربيجاني وكذلك إلى تركيا بفصل جزء كردي وإلى نيجيريا بفصل عدة دول في الجنوب الموصوف خطأ بالنصراني.
سلاح استعماري
والواقع أن التقسيم والفصل والتجزئة والتفتيت هي من الأسلحة المفضلة لدى الدول الاستعمارية بالذات لضرب الدول والكيانات الإسلامية .
وهو سلاح فعال لإيجاد دويلات صغيرة تقوم على أقليات دينية أو عرقية أو ثقافية غير إسلامية ، معادية للإسلام تقبع في مناطق استراتيجية الموقع أو تملك موارد طبيعية غنية وتكون موالية للغرب وتستخدم سلاحا لضرب ما تبقى من الكيانات الإسلامية الكبيرة والتى تتحول إلى حالة ضعف وتشرذم داخلي وحالة إضراب وفقر بعد فصل الدويلات التابعة .
وعملية التقسيم والتجزئة تحقق أهدافا كثيرة للدولة الاستعمارية ومنها أمريكا فهي كما قلنا توجد دويلات صغيرة تابعة يمكن التحكم فيها وهي سوف تكون بطبيعتها موالية وعملية للأمريكان ومتحمسة في خدمتهم في محاولة لشكرهم ورد الجميل لمساعدتهم كما أنها تكون عادة وكما قلنا قابعة في مواقع استراتيجية أو مالكة لثروات طبيعية ثمينة مما يجعلهم يسيطرون على هذه الثروات ويستغلون الموقع الاستراتيجي لمصلحة سياستهم أو كقواعد لقواتهم ، كما أن التقسيم يضعف الدول الإسلامية ويلقي بها في حالة من الفقر لضياع الثروات والوقوع في حالة من الإضراب العام بعد أزمات الانفصال مما يقضي على أية آمال أو احتمالات لها في التقدم والوصول إلى وضع القوة والاستقلال ..وهناك العديد بالطبع من الفوائد التي تعود على الدول الاستعمارية من ممارسة التقسيم والتجزئة .
تقسيم من نوع جديد
ولكن لا يجب أن يكون الحديث عن التقسيم والتجزئة حديثا مرسلا وسهلا يطلق في كل وقت بلا تمييز ولا تدقيق ، فهناك حقيقة غائبة عن هذا الحديث في كتابات الصحف المستعجلة وهي أن أمريكا كقوة غاشمة استعمارية أكبر قد تجاوزت الآن عملية التقسيم والتجزئة للدولة المستهدفة بمعناها وشكلها القديم غير المميز .
إننا الآن إزاء حالة جديدة وفريدة من التقسيم الجديد النوع يمكن أن نسميه بالتقسيم التوحيدي، أو التجزئة التكاملية، وهي حالة تحقق نفس أهداف النوع القديم من التقسيم، ولكنها تتفادى عيوبه ومنها إثارة الرأي العام فى البلد المستهدف وتحفيزه للرد والدفاع ،ومنها مخالفة القوانين الدولية بشبهات التدخل وغير ذلك، والواقع أن النوع الجديد من التقسيم التوحيدي نتيجة لعيوب النوع القديم أو التقليدي من التقسيم يحقق نفس الأهداف القديمة ويزيد عليها أهدافا جديدة ، كما يحسن من كفاءتها وبذلك أخذ يدخل الساحة الآن وبقوة ، ولكن ما الذي نعنيه بالتقسيم التوحيدي ، إننا نعني ببساطة نوعا من فصل الأقليات وبالذات الدينية عن جسد الدولة أو الكيان الإسلامي الأكبر ووضع هذه الأقلية في حالة قوة وهيمنة وسيطرة من مواجهة الأغلبية المسلمة دون أن يستتبع ذلك الشقاق هذه الأقلية أو الأقليات في هيئة كيان أو دولة مستقلة منفصلة في هذا الجسد، وإنما تظل هذه الأقلية على حالة القوة والهيمنة هذه داخل الجسد الواحد لكي تسيطر وتهيمن وتتحكم في الأغلبية ( المسلمة ) وذلك كله من وراء شعارات الوحدة الوطنية والجسد الواحد والعلمانية بالطبع .
سودان علماني
وهذا النمط الجديد هو بالتحديد ما وجدناه بداية في السودان مع تقوية حركة جارانج إزاء الاتفاقات التي عقدتها حكومة السودان مع هذه الحركة بفضل النفوذ الأمريكي والأوروبي تصايحت أصوات في عدة بلدان عربية تتحدث عن مخاوف التقسيم وفصل الجنوب عن الشمال وكانت الحركة المتمردة تنفي ذلك وتؤكد حرصها على وحدة السودان بينما يشكك البعض في هذه التأكيدات ويصفونها بأنها مجرد ألاعيب سياسية ودعائية لإبعاد الأنظار عن هدفها الحقيقي، وهو إقامة دولة مستقلة في جنوب السودان ، ولكن في الحقيقة فإن حديث جارانج وعصابته حول وحدة السودان هو حديث صحيح حقيقي بل وطبيعي من وجهة نظرهم لأن المسألة فيه تتوقف على نوعية السودان الذي يريدونه موحدا، أنه حسب كلامهم وكلام أنصارهم الأجانب والسودانيين وحتى المصريين من المتعاطفين معهم وبالذات من مجموعة الاستراتيجيين إياهم والطائفيين هو سودان علماني في الشمال تنزع منه الهوية الإسلامية والعربية وتقيد حياته وعقيدته الإسلامية وتمنعها، بينما تطلق كل الحرية للهوية المسيحية المزعومة للجنوب وذلك تحت شعار الحرية وحقوق الأقليات ومنع طغيان الأغلبيات .
إن حركة جارانج قد ذاقت طعم القوة بالدعم الدولي الواسع النطاق والمساعدات الهائلة من كل الأنواع ومن كل الجهات ( بما في ذلك إسرائيل ) لم تعد تكتفي بحلم إقامة دولية مستقلة في الجنوب حتى وإن امتلكت هذه الدولة موارد البترول والثروات الطبيعية لكن القوة العسكرية الهائلة التي أعطيت لها مع تدخل دولة خارجية أخرى معها وآخرها إريتريا، ومع إضعاف الطرف الآخر هو الحكومة السودانية الشرعية ومع خيانة بعض الأطراف السودانية الداخلية والعربية كل هذا أعطىالحركة المتمردة الطموح لكي تسير ، ومن موقع القوة والهيمنة والعلو على كامل أراضي السودان بحيث تصبح هي الطرف الأقوى في معادلة كونفدرالية أو فدرالية يتم التوصل إليها ويقيد الطرف الآخر بدعاوى العلمانية أو مساواة الأقليات أو التعددية وما أشبه بعد تفسير هذه الشعارات على النحو الذي يؤدي إلى تكبيل الأغلبيات وهيمنة الأقليات أو بالأصح إلى تكبيل ومنع وحصار الإسلام والعروبة ( باعتبارها الأطراف المعتدية أصلا والمطلوب تقيدها وعقابها ) ومنح الحرية الواسعة للأقليات ( النصرانية فقط وليست الجنوبية كلها التي تضم المسلمين والوثنيين ) باعتبارها هي الضحية التي طالت معاناتها وجاء آوان تعويضها .
تقوية النخب العلمانية(3/184)
هذا هو ما نعنيه بالتقسيم التوحيدي وهو لن يطبق في السودان وحده بل هناك دول عديدة مرشحة لتطبيقه وهي ليست بعيدة بحال عن السودان ففيها يجرى تشجيع وتكتيل وتقوية الأقليات الدينية أو العرقية أو الثقافية ( العلمانية مثلا ) وتركيز مفاتيح القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في يدها، مع إضعاف الأغلبيات المسلمة بشتى الوسائل وفي كل الاتجاهات والمجالات تحت شعار المرحلة الرئيسة، وهو ضرب التطرف الإسلامى ومعه كوكبة الشعارات المصاحبة مثل العصرنة والعلمنة والتحديث وما شابه ، لكن عملية تقوية الأقليات وإضعاف الأغلبيات المسلمة لا تصل إلى حد الانفصال الفعلي، أي الرسمي المعلن عنه في هيئة دولة وجيش وعلم واسم ومقعد في الأمم المتحدة ... إلخ، بل تظل في إطار الدولة الأهلية القديمة الواحدة ولكن مع فارق جذري وجوهري، وهو إبعاد الأغلبيات الإسلامية عن السيطرة على أجهزة ومؤسسات هذه الدولة ومنح هذه السيطرة للأقلية النخبوية العلمانية المتغربة ( التي لا تزال تحمل أسماء إسلامية تفاديا للإثارة النهائية للجماهير الإسلامية ) والتي تحكم ومعها الأقلية القوية تحت شعارات المساواة والديمقراطية بمفاهيمها المزيفة والمشوهة وليس الحقيقة .
وبهذه الطريقة تصل الأقليات ومعها القوة الاستعمارية الاستكبارية الكبرى المؤيدة لها ( أمريكا ) إلى نفس أهداف الانفصال والتقسيم لكنها تضيف إليها ميزات جديدة وهي أن الأقليات لا تقيم دولة خاصة بها تنعزل فيها وتتغلف فيها على نفسها بحيث تتولد داخلها صراعات وانقسامات وضغوط تضعفها أو بحيث تدخل في حرب قد تفضح مخططات ومصالح الدولة الكبرى المشجعة لها وإنما تكون لها قوة وهيمنة وسيطرة داخل الدولة الواحدة الأصلية على الأغلبية الضعيفة وبذلك يحدث لها أمران أولهما تماسك قوتها الداخلية في وجه العدو الإسلامي والثاني هو توجيه أية قوى داخلية شرسة نحو الهيمنة على الإسلام المحيط بها .
تحكم الأقلية في الأغلبية المسلمة
كذلك فإن هذا الترتيب وهو التقسيم التوحيدي يتجنب إثارة مشاكل تترتب على الانقسام التقليدي كما أنه في الوقت نفسه يضمن وجود الأقليات الدينية القوية داخل الدولة الموحدة لكي تحكمه وتربطه الأغلبيات الإسلامية وتسيطر عليها بالمشاركة مع النخب العلمانية المتدربة التي تحمل أسماء إسلامية .. ذلك لأنه لو انفصلت هذه الأقليات الدينية في دولة خاصة بها فإنه سوف ينشأ رد فعل مضاد داخل الدولة المتبقية ذات الأغلبية المسلمة الصافية يطالب بإقامة حكم إسلامي صريح في مقابل الدولة الدينية الجديدة ، وأمريكا بالطبع لا تريد مثل هذا التطور بل تريد أن تهيمن العلمانية المتغربة على أمور الحكم في البلدان الإسلامية وتريد في الوقت نفسه أن تصل الأقليات الدينية غير المسلمة إلى وضع من الهوية الدينية الخاصة بها والقوة والاستقلالية القائمة على هذه الهوية الدينية ، والحل السحري لتحقيق ذلك هو ذلك التقسيم التوحيدي الجديد الذي يبقي الأقلية رسميا داخل الكيان الموحد القديم لكنها تبقى في موضع القوة المسيطرة أو الفعالة المتمتعة بالهوية الدينية المعلنة تحت دعاوى المساواة بينما لا يسمح هذا الوضع برد فعل إسلامي يطالب بإدارة دولة إسلامية في مقابلة الدولة النصرانية أو الأقلية؛ لأنه ببساطة لا توجد مثل هذه الدولة، وتظل هذه الأغلبية المسلمة في هذا الوضع تحت حكم النخبة العلمانية المتغربة ومعها حكم الأغلبية الدينية وتكبت مشاعرها وهويتها بحجة مراعاة الوحدة الوطنية من ناحية، وبحجة مراعاة متطلبات العلمنة والتحديث من الناحية الأخرى .
إننا عندما نتحدث عن التقسيم وهو أمر حقيقي وواقع كأداة للقوة المتغطرسة لا يجب أن نبصر كلامنا على التقسيم التقليدي الذي أخذ يختفي من على الساحة بل يجب أن نضع في اعتبارنا التقسيم بمعناه الجديد التوحيدي وهو أخطر بكثير على مصالح الأمة الإسلامية ووجودها نفسه من الانقسام التقليدي .*مفكر إسلامي وأستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة
==============
المسلمون في جيانا .. نشاط كبير لإثبات الهوية
عبد الحي يوسف 26/3/1424
27/05/2003
تصل نسبة المسلمين في جمهورية (جيانا) إلى 10% من مجموع السكان البالغ عددهم 800 ألف نسمة, وتقع (جيانا) في الجزء الشمالي من أمريكا اللاتينية, وتحدها شرقا (سورينام) والتي كانت مستعمرة هولندية في السابق, وغرباً فنزويلا, وشمالاً المحيط الأطلسي, وجنوباً البرازيل, وتبلغ مساحة (جيانا) -التي كانت في السابق مستعمرة بريطانية- حوالي 83 ألف ميل مربع, ويقيم معظم السكان في شريط ساحلي ضيق، ويعمل غالبيتهم في زراعة قصب السكر والأرز اللذين يمثلان العمود الفقري لاقتصاد البلاد وعاصمتها (جورج تاون).
ومن الناحية التاريخية, فإن (جيانا) تربطها علاقات ببريطانيا وهولندا وإسبانيا وفرنسا والبرتغال, وقد جُلب إليها العمال من أفريقيا؛ للعمل في مزارع السكر، ومن ثم تم جلب أيدٍ عاملة من الهنود الأمريكيين والهنود الشرقيين والأفارقة والبرتغاليين, وقد تمخَّض عن هذا الخليط البشري ازدهار عدة ديانات من بينها الإسلام والمسيحية, وتعتبر اللغة الإنجليزية اللغة الرسمية في (جيانا) إلى جانب انتشار بعض اللهجات.
وقد مر اقتصاد البلاد بفترة عصيبة، بدأت منذ السبعينيات عند نشوب الأزمة النفطية في العالم, و استمرت لمدة ثلاثة عقود, وتوجد في (جيانا) تنظيمات إسلامية نشطة, أبرزها (المنظمة الإسلامية المركزية) التي رأت النور في عام 1979م، ويرأسها حالياً الحاج فضيل محمد فيروز, فهي تتعاون مع كافة الهيئات والتنظيمات الإسلامية الأخرى لخدمة المسلمين في كافة أنحاء (جيانا), ويشهد المسلمون وغير المسلمين بالجهود التي تبذلها في مجال التعليم، وتخفيف معاناة الفقراء، ونشر الوعي الإسلامي من خلال نشر برامج إذاعية وتلفزيونية، وتوصيل منشورات إسلامية إلى بيوت المسلمين وغير المسلمين، بهدف دعوتهم إلى الإسلام.
وبجانب ذلك تقوم الجمعيات الإسلامية في (جيانا) بتوزيع أموال الزكاة -شهرياً- إلى أكثر من 900 شخص, فضلاً عن القيام بكفالة 160 يتيما, بالإضافة إلى صرف أجور للائمة والأساتذة في المدارس الدينية.
ومن بين المشاريع المهمة للمنظمات والجمعيات الإسلامية بجيانا تنظيم دورة في اللغة العربية والدراسات الإسلامية لمدة ثلاثة أشهر في كل عام، يشارك فيها طلبة من (سورينام وجامايكا والبهاماس), ويدرس فيها نخبة من المعلمين من ولايات مختلفة, كما تعمل الجمعيات على توفير الكتب الإسلامية؛ لتكون في متناول الصغار والكبار؛ لتعميق الوعي الإسلامي لدى المسلمين, كما أنها تتطلَّع إلى تعزيز طاقم العمل لديها .
وتسعى تلك الجمعيات إلى تطوير برامجها الإعلامية؛ لزيادة المعرفة بالإسلام لدى غير المسلمين، وتطوير برامجها الدعوية، وزيادة عدد الأئمة المعينين لديها, كما تسعى أيضا إلى إقامة مشاريع اقتصادية ومشاريع اجتماعية خاصة بالنساء، وتوفير منح دراسية للطلاب المسلمين في (جيانا) بجامعات العالم الإسلامي
===========
الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلامية في إطار الرؤية المتكاملة
د. عبدالعزيز بن عثمان التويجري
مدخل:(3/185)
تتزاحم المشكلات التي تفرض على الأمة الإسلامية معالجتها بالمنهج القويم، وتتداخل القضايا التي تتطلب البحث والدرس بحلول واقعية تصمد أمام التحديات التي تتكاثر ويتعاظم أمرها ، في هذه الحقبة الدقيقة التي يجتازها العالم الإسلامي ، وفي هذه المرحلة الحرجة التي يمرّ بها المجتمع الدولي ، سواء على مستوى الحكومات والدول ، أو على مستوى المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية، أو على مستوى المؤسسات والهيئات الأهلية.
وكلما أمعنا النظر في المحيط الإقليمي والدولي ، وتأملنا الواقع المعاش في مختلف مستوياته ، وبما يحفل به من تناقضات تتصارع وأزمات تتصاعد ، نجد أن الخطر الأكبر الذي يتهدد الأمم والشعوب في هذا العصر ، هو ذلك الخطر الذي يمسّ الهوية الثقافية والذاتية الحضارية والشخصية التاريخية للمجتمعات الإنسانية في الصميم ، والذي قد يؤدي إذا استفحل ، إلى ذوبان الخصوصيات الثقافية التي تجمع بين هذه الأمم والشعوب ، والتي تجعل من كل واحدة منها ، شعباً متميزاً بمقومات يقوم عليه كيانه، وأمة متفردة ً بالقيم التي تؤمن بها وبالمبادئ التي تقيم عليها حياتها.
ومهما تكن الألفاظ الجامعة التي يوصف بها هذا الخطر الذي بات اليوم ظاهرةً تكتسح مناطق شتى من العالم ، بما فيها المناطق الأكثر نموّاً والأوفر تقدّماً في المجالات كافة ،وأياً كانت طبيعة هذه الظاهرة وحجمها والأدوات التي تستخدم في تحريكها ، فإن مما لاشك فيه أن الهوية والثقافة بخصوصياتهما ومكوّناتهما ومقوّ ماتهما ، هما المستهدف في المقام الأول ، وأن الغاية التي يسعى إليها الماسكون
بأ زّمة السياسة الدولية في هذه المرحلة ، هي محو الهويات ومحاربة التنوع الثقافي ، والعمل على انسلاخ الأمم والشعوب عن مقوماتها ، لتندمج جميعاً في إطار النموذج الأمريكي الأقوى إبهاراً ، والأشدّ افتتاناّ في العصر.
وليست هذه ظاهرة ثقافية وفكرية وإعلامية فحسب ، كما قد يبدو من ظواهر الأشياء ، ولكنها ظاهرة سياسية في المقام الأول ، وظاهرة اقتصادية بدرجة أولى باعتبار أنّ الهدف النهائي الذي تسعى إليه القوى المسيطرة على مقاليد النظام العالمي - الذي هو في حقيقة الأمر نظام غربي المنزع أحادي الرؤية تقوده دولة واحدة انفردت بالقوم الضاربة وبالتحكّم في مسار السياسة الدولية - هو إخضاع حكومات العالم لمنطق القوة والهيمنة والسيطرة ، تحقيقاً لغايات ذاتية تتعارض مع القانون الدولي والقيم الإنسانية.
في ظل هذا المناخ الدوليّ غير المستقر ، يتعاظم الخطر الذي يهدد المجتمعات الإنسانية في خصوصياتها الثقافية والحضارية ، وفي أمنها الفكري والعقائدي وفي هويتها الوطنية وثقافتها القومية ، وهو خطر يتضاعف بقدر ما تتضاءل حظوظ النجاح في كسر صورة الاندفاع لقهر إ راداة الشعوب ،وكبح جماح جنون التطرّف في فرض النظام الأوحد على البشرية قاطبة .
ومن هنا يكون الحفاظ على الهوية الحضارية الإسلامية وعلى الثقافة الإسلامية ضرورة حياة وواجبا إسلامياً في المقام الأول.
وحرصاً منا على ضبط المفاهيم أولاً ، وعلى بيان المعاني الدقيقة للمصطلحات وللألفاظ ، من أجل تحديد الإطار العام للعلاقة بين العناصر الأربعة الواردة في عنوان هذه الدراسة ، وهي :
الحفاظ ، الهوية ، الثقافة ، الرؤية المتكاملة ، فإننا سنتناول ستة محاور رئيسية، هي :
أولاً : معني الحفاظ على الشيء
ثانياً: مفهوم الهوية لغوياً وفكرياً
ثالثاً : دلالة الثقافة ومضمونها
رابعاً: التحديات التي تواجه الهوية والثقافة .
خامساً : العلاقة بين الهوية والثقافة.
سادساً: شروط الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلاميتين.
أولاً: معني الحفاظ على الشيء:
في اللغة ، حافظ يحافظ محافظة وحفاظاً، على الأمر واظب عليه ، وحافظ عليه: صانه ووقاه ، وحافظ عليه راقبه وراعاه. وحافظ على عاداته ثبت عليه ولم يغيرها ، فهو محافظ ، وحافظ الرجل على وطنه دافع عنه ، والحفاظ هو الصائن والواقي. (1).
فللحفاظ على الشيء إذن ، معنىً ينصرف إلى خمسة معا نِ فرعية هي : المواظبة ، والصيانة ، والوقاية ، والمراقبة ، والمراعاة ، ولا يكون لهذه المعاني جميعاً مدلول واقعي، إلاّ إذا اجتمعت ، وتداخلت ، وتكاملت إذا لا معنى للحفاظ على الشيء إذا لم يواظب عليه ، ويصان ، ويوقّى ، ويراقب ويراعى . ويبطل هذا المعنى الجامع الشامل ، إذا انتقى عنصر واحد من هذه العناصر الخمسة التي تدخل في ألفاظ على شيء من الأشياء.
ثم إن للحفاظ على الشيء وجوهٌ عدة ، وهو يتّم على مستويين ، المستوى الداخلي ، والمستوى الخارجي والحفاظ يكون غالباً على ما يستحق الحفاظ عليه ، والمرء عادة يكون شديد الحرص على أغلى ما يملك وعلى أثمن ما يحوز ، ويبذل جهداً في استمرار امتلاكه لما يحرص عليه ، ولا يدخر وسعا ً في الإبقاء على حيازته له ، ويسعى إلى الحيلولة دون صياغة منه ، أو تفريطه فيه ، ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
وهذه الحالة الشعورية تنبثق من الاقتناع بالقيمة التي هي للشيء المحافظ عليه ، والتسليم بأهميته وجدواه وتنبع من الإيمان بقداسة ما يحافظ عليه ، إذا كان عقيدة أو مبدأ ، أو قيمة جوهرية نابعة من الدين ، وبنفاسة ما يحرص عليه ، إذا كان من المنقولات والمحفوظات المادية ، أو التي هي ذات الأصالة والعراقة . وهذا هو المستوى الداخلي للحفاظ على الشيء.
أما على المستوى الخارجي ، فإن الحفاظ على الشيء يتّم بإرادة ذاتية يعبّر عنها عملُُُ يسير في الاتجاه المؤدي إلي تحقيق المراد ، وتتوافر له شروط الجدية والفعالية والتأثير ، مع مراعاة مقتضيات الأحوال ، والتوفر على الإمكانيات الذاتية والموضوعية التي تسمح بالتغلّب على ما قد يعترض السبيل لتأمين الحفاظ على المبتغى ، من صعوبات ومعوّقات.
فالعمل من أجل الحفاظ على الشيء شرط لازمُ ، وكلما ارتفعت قيمة الشيء المحافظ عليه وغلا ثمنه المعنوي والمادي ، اشتدت الحاجة إلى العمل القائم على الإرادة القوية ، والتدبير الحكيم والدقة في تحديد الهدف . ولا أهمية لعمل لا يسعى إلى الحفاظ على شيء ،إذا لم يلتزم هذه الشروط ، ويسير في هذا الاتجاه الصحيح.
وبقدر ما يكون العمل للحفاظ على الشيء ، جدّياً ومتقناً وفاعلاً ، ومؤثراً تكون فرص الوصول إلى الهدف أكثر سنوحاً . وبذلك يتم الحفاظ على المرغوب فيه على نحو يُوصل إلى القصد.
ويقتضي العمل على هذا الصعيد ، الوقوف على الظروف المحيطة ، والمناخ السائد ومعرفة العوامل المؤثرة سلباً وإيجاباً في السعي نحو الغاية المبتغاة ، لأنّ الارتباط بالشيء ، أيّا كانت طبيعته ، عن معرفة عميقة ، أدعى إلى التشبث به، والحفاظ عليه . كما يُشترط في هذا المجال ، القيام بالواجبات التي يقتضيها الحفاظ على ما يرغب فيه،ويحرص عليه سواء عن إيمان واعتقاد، أو عن حاجة ومصلحة ، أو استجابة لضرورة من ضرورات الحياة.
وهذان المستويات ، الداخلي الذاتي والخارجي الموضوعي ، يتكاملان ولا ينفصلان ، وتداخلان ولا يتقاطعان ، وهما أقوى ما يكونان تكاملاً وارتباطاً عندما يكون المحافظ عليه ، أو المرغوب في الحفاظ عليه ، من المبادئ والمقدسات ، ومن القيم والمقوّمات، ففي هذه الحالة يكون الأمر يتعلق بأحد الواجبات الشرعية التي تعلو فوق كلّ الواجبات.
ثانياً : مفهوم الهوية لغوياً وفكرياً:(3/186)
إن فهمنا للهوية ينبني على تراثنا الحضاري، فالهوية في ثقافتنا العربية الإسلامية هي الامتياز عن الأغيار من النواحي كافة0 ولفظ الهوية يطلق على معان ثلاثة : التشخص، والشخص نفسه، والوجود الخارجى0 وجاء في كتاب (الكليات) لأبى البقاء الكفوي، أن ماهية الشيء هو باعتبار تحققه يسمى وذاتاً، وباعتبار تشخيصه يسمى هوية، وإذا أخذ أعم من هذا الاعتبار يسمى ماهية 0 وجاء في هذا الكتاب أيضا أن الأمر المتعقل من حيث إنه معقول في جواب (ما هو) يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن امتيازه عن الأغيار يسمى هوية(2)0
والهوية عند الجرجانى في( التعريفات) الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق(3)0
وتستعمل كلمة(هوية) في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة Identity density التي تعبر عن خاصية المطابقة : مطابقة الشي لنفسه، أو مطابقة لمثيله(4) وفى المعاجم الحديثة فإنها لا تخرج عن هذا المضمون، فالهوية هي : حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تميز عن غيره، وتسمى أيضا وحدة الذات0
ولذلك فإذا اعتمدنا المفهوم اللغوي لكلمة (هوية )، أو استندنا إلى المفهوم الفلسفي الحديث فإن المعنى العام للكلمة لا يتغير، وهو يشمل الامتياز الامتياز عن الغير، والمطابقة للنفس، أي خصوصية الذات، وما يتميز الفرد أو المجتمع عن الأغيار من خصائص ومميزات ومن قيم ومقومات0
وخلاصة الأقوال إن الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت، والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية ، طابعاً تتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى(5)0
فكيف يتسنى المحافظة على الهوية الثقافية والحضارية في ظل الباسطة نفوذها اليوم على المجتمع الدولي؟ بل كيف يمكنكم التوفيق ُ بين مقتضيات السيادة الوطنية ، وبين متطلبات العولمة؟.إن اتجاهات العولمة تسير نحو التأثير السلبي على الهوية والسيادة معاً . وأول ما يثير الانتباه عن التأمل في موقف الغرب من هويات الشعب، هو جمعه بين موقفين متناقضين ، فهو من جهة شديد الاعتزاز بهويته حريص عليه ، وهو من جهة ثانية رافضُ للاعتراف بالهويات الوطنية لشعوب العالم ، لإحساسه بأن العولمة من شأنها أن تؤدي إلي مزيد من الوعي بالخصوصية الثقافية والحضارية . وتلك في نظر الغرب عموماً هي المعضلة الكبرى التي يصدم بها . ويعبّر مفكروه عن هذه الحيرة الفكرية ، بوضوح وصراحة لا مزيد عليهما.
ففي دراسة لصمويل هنتنجتون (SAMUEL HUNTINGTON ) لم يُسلط عليهما الضوء كما جرى معي دراسة له سبق سابقة ، يتبين التناقض الذي تقع فيه القوة الجديدة المنفردة بزعامة العالم ، وتنضح الحيرة العاصفة التي تسود مجتمع النخبة في الغرب . فقد كتب هنتنجتون في عدد شهري ( نوفمبر – ديسمبر 1996 ) من مجلة ( شؤون خارجية ) (6)، دراسة تحت عنوان مثير للغرابة فعلاً: الغرب : متفرد وليس عالميا ًUnique Not universal west The ،يفرق فيها بين ( التحديث ) Modernization وبين (التغريب) westernization ، ويقول : إن شعوب العالم غير الغربية لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب حتى وإن استهلكت البضائع الغربية وشاهدت الأفلام الأمريكية واستمعت إلى الموسيقى الغربية ، فروح أي حضارة هي اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد ، وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والرومانية والمسيحية الغربية ، والأصول اللاتينية للغات شعوبها ، والفصل بين الدين والدولة ،وسيادة القانون ، والتعدّ دية في ظل المجتمع المدني ، والهياكل النيابية ، والحرية الفردية.
ويضيف قائلاً : إن التحديث الاقتصادي لا يمكن أن يحققا التغريب الثقافي في المجتمعات غير الغربية ، بل على العكس ، يؤديان إلى مزيد من التمسك بالثقافات الأصلية لتلك الشعوب . ولذلك فإن الوقت قد حان لكي يتخلي الغربً عن وهم العولمة ، و‘ن ينمّي قوة حضارية وانسجامها وحيويتها في مواجهة حضارات العالم . وهذا الأمر يتطلب وحدة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، ورسم حدود العالم الغربي في إطار التجانس الثقافي.
فهل هذه العولمة التي تسعى إلى تذويب الهويات وطمس معالمها وتهجينها هي صيغة جديدة من صيغ المواجهة الحضارية التي يخوضها الغربُ ، بالمفهوم العام للغرب ، ضد هويات الشعوب وثقافات الأمم ،ومن أجل فرض هيمنة ثقافة واحدة ، وإخضاع العالم لسيطرة حضارة واحدة ؟.
إن الهوية المفروضة على المجتمع الدولي بهذا المفهوم تتعارض ُ – تعارضاً تاماً مع قواعد القانون الدولي ، ومع طبيعة العلاقات الدولية ،بل أنها تتعارض كلية مع سنة التعدّد التي هي من السنن الإلهية، ومع قانون التنوّع الثقافي . والعولمة إذا سارت في الاتجاه المرسوم لها ستكون إنذاراً بانهيار وشيك للاستقرار العالمي ، لأن هذه الهوية المفروضة على المجتمعات الإنسانية والتي تسير في ركب العولمة بهذا المضمون ، تضرب الهوية الثقافية والحضارية في الصميم وتنسف أساس التعايش الثقافي بين الشعوب . كما أن العولمة بهذا المفهوم الشمولي ذي الطابع القسري ، ستؤدى إلى فوضى على مستوى العالم ، في الفكر والسلوك وفي الاقتصاد والتجارة ، وفي الفنون والآداب ، وفي العلوم والتكنولوجيا أيضاً.
وعلى الرغم من ذلك كله ، فإن الإنسانية لا تملك أن تتحرر في الوقت الراهن من ضغوط العولمة الكاسحة للهويات والطامسة للخصوصيات ، نظراً إلى حاجتها الشديدة إلى مسايرة النظام العالمي الجديد في اتجاهاته الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية ، ومواكبة المتغيرات الدولية في هذه المجالات جميعاً ولكنها تستطيع إيجاد تيار ثقافي إنساني مضاد يقف في مواجهة روح الهيمنة التي تنطوي عليها هذه العولمة فكرةً ونظاماً ، وتطيبقاً وممارسةً ، وفي التعامل مع الآثار المترتبة عليها ، في انتظار بروز قوى عالمية جديدة ستكون مناوئة للقوة المتحكمة حالياّ في مقاليد النظام العالمي ، أو على الأقل منافسة لها منافسة النّد للند.
إن طائفة من علماء المستقبليات ومن الدراسيين الاستراتيجيين ، ومعظمهم من الغرب نفسه يذهبون إلى القول بأن تطوراً حاسماً سيقع في ميزان القوى العالمية على المستويين السياسي والاقتصادي في العقد الأول من القرن القادم ، وسيترتب على ذلك ، انقلابُ جذري في توجهات العولمة، وهو الأمر الذي سيكون تعزيزاً وترسيخاً وإعلاءً للشرعية الدولية القائمة على قواعد القانون الدولي ، لا على منطق القوة والغلبة والظفر في معارك الحرب الباردة (7).
ثالثاً: دلالة الثقافة ومضمونها:
الثقافة هي روح الأمة وعنوان هويتها، وهى من الركائز الأساسية في بناء الأمم وفي نهوضها فلكل أمة ثقافة تستمد منها عناصرها ومقوماتها وخصائصها ، وتصطبغ بصبغتها، فتنسب إليها .(3/187)
وكل مجتمع له ثقافته التي يتسم بها، ولكل ثقافة مميزاتها وخصائصها . ويعرف التاريخُ الإنساني الثقافة اليونانية ، والثقافة الرومانية ، والثقافة الهلينية ، والثقافة الهندية ، والثقافة المصرية الفرعونية ، والثقافات الأفريقية وثقافة أمريكا اللاتينية، والثقافة الفارسية. ولما استلم العرب زمام القيادة الفكرية والثقافية والعلمية للبشرية في القرن السابع للميلاد ،ة واستمروا في مركزهم المتميز إلى القرن الخامس عشر منه، عرف العالم الثقافة العربية الإسلامية في أوج تألقها ، حتى إذا ما تراجع العرب والمسلمون عن مقدمة الركب الثقافي العالمي ودبّ الضعف في كيانهم ، وتوقفوا عن الإبداع في ميادين الفكر والعلم والمعرفة الإنسانية ،انحسر مدّ ثقافتهم ،وغلب عليهم الجمود والتقليد ، وضعفوا أمام تيارات الثقافة الغربية العاتية التي أثرت بقوة في آدابهم وفنونهم وطرق معيشتهم.
والثقافة كلمة عريقة في اللغة العربية أصلاً فهي تعني صقل النفس والمنطق والفطانة ، وفي القاموس المحيط : ثقف ثقفاً وثقافة، صار حاذقاً خفيفاً فطناً ، وثقفه تثقيفاً سوّاة، وهي تعنى بتثقيف الإنسان ، تسويته فكراً ووجداناً وتقويمه سلوكاً ومعاملة.
واستعملت الثقافة في العصر
الحديث للدلالة على الرقّي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات .والثقافة ليست مجموعة من الأفكار فحسب ولكنها نظرية في السلوك بما يرسم طريق الحياة إجمالاً ، وبما يتمثل فيه الطابع العام الذي ينطبع عليه شعبُ من الشعوب ، وهي الوجوه المميزة لمقومات الأمة التي تميّزُ بها عن غيرها من الجماعات ، بما تقوم به من العقائد والقيم واللغة والمبادئ، والسلوك والمقدسات والقوانين والتجارب . وفي الجملة فإن الثقافة هي الكلُّ المركّب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات (8).
وتتميز الثقافة عموماً بعدة خصائص ، منها :
1. أنها ظاهرة إنسانية ، أي أنها فاصل ُُُ نوعيُّ بين الإنسان وسائر المخلوقات لأنها تعبير عن إنسانيته ، كما أنها وسيلته المثلي للالتقاء مع الآخرين .
2. أنها تحديدُ لذات الإنسان وعلاقاته مع نظرائه ، ومع الطبيعة ومع ما وراء الطبيعة ، من خلال تفاعله معها ، وعلاقاته بها ، في مختلف مجالات الحياة.
3. أنها قوام الحياة الاجتماعية وظيفةً وحركةً ، فليس من عمل اجتماعي أو فنيّ جمالي أو فكري يتم إنسانياً خارج دائرتها . وهي التي تيسّر للإنسان سبل التفاعل مع محيطة مادةً وبشراً ومؤسسات.
4. أنها عملية إبداعية متجدّدة ، تُبدع الجديد والمستقبليُ من خلال القرائح التي تتمثلها وتعبّر عنها ، فالتفاعل مع الواقع تكييفاً أو تجاوزاً نحو المستقبل، من الوظائف الحيوية لها.
5. أنها إنجاز كمّي ُ مستمر تاريخياً ، فهي بقدر ما تضيف من الجديد ، تحافظ على التراث السابق ، وتجدّد قيمه الروحية والفكرية والمعنوية ، وتوحّد معه هوية الجديد روحاً ومساراً ومثلاً ، وهذا هو أحد محركات الثقافة الأساس، كما أنه بُعدُ أساسُ من أبعادها (9).
وتتسم الثقافة العربية الإسلامية أساساً بسمتين : أولهما هي سمة الثبوت فيما يتعلق بالمصادر القطعية ، وما جاءت به من عقائد وتشريعات وقيم ومناهج وثانيتهما هي سمة التغيير فيما يتعلق باجتهادات المسلمين وإبداعاتهم القابلة للصواب والخطأ ،وبالتالي الاختلاف ، فالجانب القطعيُّ في الثقافة العربية الإسلامية ،يتسم بما يتسم به الإسلام من خصائص بصفته ديناً ومنهاجاً للحياة . وتتجلى هذه الخصائص في : العالمية، والشمولية، والوسطية ، والواقعية ، والموضوعية ، والتنوع في الوحدة (10).
ومصادر الثقافة العربية الإسلامية هي القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبارهما المعين الأساس للعلوم الإسلامية واللغة العربية ، والمرجع الذي يهتدي به المسلم في بحثه عن الحقائق في مجالات المعرفة والوجود والقيم، وفي ما يتعلق بالفكر والواقع والنظر والسلوك.
والقرآن الكريم يُعدُّ المصدر الأساس للثقافة العربية الإسلامية بفضل ما ورد فيه من تعاليم دينية وأخلاقية واجتماعية ، ولكونه صالحاً لكل زمان ومكان ومسايراً لمتطلبات كل عصر ومستجداته.
وتشكّل السنة النبوية المصدر الثاني الأساس للثقافة العربية الإسلامية . وكما اعتمد المسلمون في نهضتهم الفكرية والعلمية والحضارية على القرآن ودعوته ، اعتمدوا كذلك على سنة نبيهم بعد أن جمعوها ودوّنوها وفصّلوا أبوابها واستثمروها في جهودهم العملية ومناهجهم المعيشية . وبذلك تكون الثقافة العربية الإسلامية المنطلقة أساساً من القرآن والسنة ثقافة إنسانية متفتحة ، داعية إلى التعايش والحوار والتفاهم (11).
ويستنتج من هذا كله أن الثقافة العربية الإسلامية تختلف عن الثقافات الأخرى في أن مقوّمات كلً منها تختلف عن الأخرى، فالثقافة العربية الإسلامية إسلامية المصدر ، تستمدّ كيانها من القرآن الكريم والسنة النبوية واللغة العربية ، واجتهادات العلماء ، وعصارة الثقافات التي اختلطت بها وامتزجت عناصرها معها ، بينما نجد الثقافة الغربية على وجه الإجمال ، تستمد ّ مصادرها من الفكر اليوناني، والقانون الروماني ، والأدب اليوناني، واللغة اللاتينية ، وتفسيرات المسيحية التي وصلتها (12).
ولقد وازنت الثقافة العربية الإسلامية بين جوانب العقل ، وجوانب الوجدان ، ورفضت الإعلاء من شأن العقل على نقيض من النقل ، وإعلاء الصوفية للوجدان ، وحافظت على المفهوم المتكامل الجامع. كذلك فقد حرصت الثقافة العربية الإسلامية على ارتباطها بالمصدر الأول من القرآن والسنة على مدى مراحلها (13) . ولم يقع الانفصام بين الجانبين في الثقافة العربية الإسلامية إلاّ في هذا العصر ، وهذا الانفصام هو أحد عوامل ضعفها اليوم. والثقافة العربية الإسلامية عربية في لغتها ، إسلامية ُ في جذورها إنسانية ُ في أهدافها وهي كشأن كل ثقافة تتكون من مقومات أساس : فكرية وروحية ، أهمها العقيدة، وهي الإسلام واللغة العربية وآدابها والتاريخ والتراث ، ووحدة العقلية والمزاج النفسي . وقد تأكّد أنه لا يمكن لأية ثقافة من الثقافات أن تنمو ، إلاّ إذا كانت ذات صلة بدين من الأديان ، فالدين هو الذي يكسب الحياة الاجتماعية معناها ، ويمدّها بالإطار الذي تصوغ فيه اتجاهاتها وآمالها (14).
واللغة العربية مقوّم أساس من مقومات الثقافة العربية الاسلامية، ذلك أن العربية ليست لغة أداة فحسب، ولكنها لغة فكر أساساً0 وحتى الشعوب والأمم التى انضوت تحت لواء الاسلام، وإن كانت احتفظت بلغتها الوطنية ، فإنها اتخذت من اللغة العربية وسيلة للارتقاء الثقافى والفكرى، وادخلت الحروف العربية الى لغاتها فصارت تكتب بها0
ومن اقوى مقومات الثقافة العربية الاسلامية الايمان بالأمة، والثقة فيها0 وهذا الإيمان لابد أن يستمد قوته مكن الإيمان بالله، لأن الإيمان بالله هو الأصل، وهو الينبوع الذى ينبغى أن تًبنى عليه العقيدة، ومن أجله هذه العقيدة أن يؤمن الانسان بأمته، وأن يؤمن العربى والمسلم بأن أمته خير أمة أخرجت للناس0 والإيمان فى الاسلام، كما فى الأديان السماوية – التى جاء بها الرسل- قد دعاء إلى المحبة والإخاء، وهو فى الإسلام بصفة خاصة، يعلم المساواة بين الناس والعطاء قبل الأخذ0 ولذلك فإن التربية الدينية يجب أن تكون أساساً للثقافة العربية الإسلامية (15).(3/188)
والثقافة العربية الإسلامية ليست مجردة، فنحن لانكتفى فيها بالبحث عن أصول الأشياء ولا عن حقائقها وحدها، ولانبحث فيها بحثاً مجرداً، لأن الثقافة جزء من الإنسان، فإذا كان العقل يغذيها، فإنها لاتتبع من العقل وحدة، وإنما تنبع فى النفس البشرية، وتنبع فى الأحاسيس وتنبع فى الذوق، وتنبع أكثر من ذلك فى الوجدان، بل هى أيضاً تتصل بالدجانب الأساس الذى ميز الله به الإنسان عن الحيوان، ألا وهو الضمير 0 إن الثقافة تتصل بالضمير، والضميرُ أعمق وأروع من العقل(16)0
والضمير الإسلامى هو منبع الثقافة العربية الإسلامية0 ولذلك فهى ثقافة الوجدانت الإنسانى وتلك أهم مميزاتها وأوضح خصائصها0
وعلى هذا الاساس، فإن الثقافة العربية، هى ثقافة الأمة العربية، التى هى أمة اإسلام الذى منه اكتسبت صبغتها، وحملت صفتها، واستندت طبيعتاه0 فلم يكن لهذه الأمة كيانٌ قائم الذات قبل الإسلام ، وإنما كانت قبائل وعشائر لاتجمعها عقيدة، ولايوحدها إيمانٌ برسالة سماوية، حتى إذا بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسلام، كان هذا الدينُ الحنيف هو الر سالة الخالدة للعرب0
ولكن كانت الثقافة العربية إسلامية الروح والأصول، مع ذلك ثقافة استوعبتى كل الأمم والشعوب التى انضوت تحت لواء الأمة العربية الإسلامية، ووسعت كل الثقافات التى تعايشت معها، فصارت بذلك ثقافة العرب المسلمين، وثقافة العرب ابلنصارى واليهود، وثقافة كل أهل الأديان وطوائف الملل والنحل التى اندمجت فى الكيان العربى الإسلامى، وعاشت فى ظل الدولة العربية الإسلامية عبر الأومنة والعصور0
إن انتشار الثقافة العربية الإسلامية فى مختلف البلاد التى دخلها الإسلامية، جعل كثيراً من معالم الثقافات المحلية القائمة تتكيف مع مقومات الثقافة العربية الإسلامية، فأصبحت العادات والتقاليد وألعراف تنسجم فى غالب الأحيان مع ثوابت الثقافة العربية الإسلامية، حتى ولو أختلفت فيما بينها فى الممارسة والتطبيق، على أن هذا الاختلاف لايصل الى مجال العقائد والقيم والمقاصد، كما هو الشأن مع الثقافات غير الإسلامية القديمة والحديث(17)0
وبذلك تكون أهم خاصية تتميز بها الثقافة العربية، أنها امتزجت بالثقافات الأخرى التى كانت سائدةى فى عهود الإسلام الأولى، وتفتحت لعطاء الأجناس والأقوام وأهل الديانات والعقائد التى تعايشت مع المجتمع العربى الإسلامى، فصارت بذلك ثقافة غنية المحتوى ، متعددة الروافد، متنوعة المصادؤر، ولكنها ذات روح واحدة، وهوية متميزة متفردة0
كذلك فإن من أهم خصائص الثقافة العربية الإسلامية الانفتاحَ على الثقافات الشرقية والغربية، مع المحافظة على الأصول الثابتة من دون تجاوزها0 وقد واجهت الثقافة العربية الإسلامية مديداً من التحديات فى تاريخا الطويل ، وهى تحديات المذاهب الفلسفية والأديان والدعوات المختلفة التى كان يزخر بها العالم إبان بعث الإسلام، من بوذية، ومجوسية، ووثنية، وهلينية، وهندية، وغارسية، وقد تحولت هذه المذاهب والفلسفات الى قوى غازية، وحاولت جميعها إثارة الشبهات وتحريق القيم الأساس، والإضرار بالأمة والدولة العغربية الإسلامية والفكر جميعاً(18)) ولكن الثقافة العربية الإسلامية إنتصرت على هذه التحديات فى الماضى بفضل مقوماتها الصلبة وخصائصها المتفردة0
ولقد أكسبَ هذا الامتزاج والتلاقح الثقافية العربية الإسلامية ثراءً وغنى، وقوة ومناعة، وهى خاصية فريدة وميزةٌ تكاد أن تكون فريدة فى التاريخ الثقافى الإنسانى 0 ويأتى مصدرُ هذا التنوع الذى يطبع الثقافة العربية الإسلامية التى من خصائصها الترغيبُ فى طلب العلم، والحثُ على النظر والتفكير، والحضُ على التماس الحكمة من أى وعاء أو مصدر كانت، والدعوةُ إلى التعارف بين الأمم والشعوب بما يقتضيه ذلك من تقارب بكل معانيه، إلى جانب النهى عن الإكراه فى الدين، وهو المبدأ القرآنى الذى يمكن أن يكون قاعدة للتعايش الثقافى والفكرى فى إطار وحدة الأصل الإنسانى، وهو المبدأ الأصل الذى يختزل كل معانى حرية الفكر التى هى نقيض فوضى الفكر المؤدية وبصورة تلقائية، الى بؤس الفكر المفضى بدوره الى بؤس الثقافة(19)0
رابعاً: التحديات التى تواجه الهوية والثقافة:-
تتعدد مصادر التحديات التى تواجه الهوية، بقدر ماتضعف المناعة لدى الفرد والمجتمع0 ولكن المصدر الأساس الذى يأتى منه التحدى الأكبر لهوية الأمم والشعوب كافة، يكمن فى السياسة الاستعمارية الجديدة التى تسود العالم اليوم، والتى ترمى إلى تنميط البشر والقيم والمفاهيم وفق معاييرها الجديدة، واسعى إلى صياغة هوية شمولية تفرضها فى الواقفع الإنسانى، فى إطار مزيف من التوافق القسرى والاجماع المفروض بالقوة0
والخطورة فى هذا الأمر، أن قوة الإبها التى تُطرح بها هذه الهوية الشمولية ذات المنزح الغربى، والأمريكى تحديداً، تعمى الأبصار عن رؤية الحقائق على الارض كما هى، مما يؤدى إلى توهم أن هذه الهوية المغشوشة، هى الهوية العصرية ، الهوية الكونية، هوية التحديث والمدنية، الهوية التى ينبغى أن تسود وتقود، ولا هوية الجمود والهمود0
أما كونها هوية عصرية ، فهذا صحيح من بعض الوجوه ، لأنها مفروضة على هذا العصر بقوة الهيمنة والسيطرة والغلبة، وأما كونها هوية كونية، فهذا أبعد مايكون عن حقائق الأشياء لأن فى العالم هويات متعددة، بقدر مافيه من ثقافات وحضارات، أما أنها هوية التحديث والمدنية، فينبغى أن نفهم جيداً أن للحداثة دلالات ومفاهيم ومستويات، فمنها حداثة مادية، وضعية، مقطوعة الصلة بالدين، ومنها حداثة أخلاقية، إنسانية بانية للإنسان بعناصرة المتكاملة وللحضارة فى أبعادها المادية والروحية0
كذلك شأن المدينة فهى على درجات متفاوتة، فليست كل مدنية تُحمد، وهى على كل حال، حمالة أوجه، ففى الحرب العالمية الأولى والثانية، سقط ضحية المدنية فى أوربا واليابان عشرات الملايين من البشر ، وفى هذه المرحلة من التاريخ، تندلع الحروب، وتحتل الدول وتقهر الشهوب ، وترتكب الجرائم ضد الإنسانية بأسم المدينة ايضاً0
لذلك فإن إضفاء صفة المدنية على هذه الهوية الغازية المركبة من عناصر متناقصة والمنطوية على روح العدوان على السيادة الثقافية للأمم واستغفالها والاستهتار بها، تضليل للرأى العام العالمى، وتزوير لإرادة الشعوب، وتزييف للحقائق، واستتهتار بالقيم الإنسانية، وانتهاك للقوانية الدولية، ودفع بالعالم نحو مزيد من الطوارث والحروب والصراعت0
إن إلزام العالم بأسرة، بانتهاج نظام سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى واحد، هو عمل ضد سنن الله فى خلقة، بقدر ما هو خروج على منطق التاريخ وقانون الطبيعة، ولئن كان مصير هذه السياسة الاستعمارية الجديدة سائراً إلى إفلاس لامحالة، فإن هذا لايمنع من استمرارها إلى أمد قد يطول فى طمس الخصوصيات الثقافية والحضارية للهويات الوطنية للأمم والشعوب فى المديين القريب والبعيد0 ولذلك نقول إن الخطر الذى يتهدد الهوية الحضارية والخصوصيات الثقافية، خطر حقيقى واقع فعلاً، ويزحف نحو المزيد من الغزو والاكتساح والعدوان، وهو حقيقة واقعية قائمة فى حياتنا، نعيشها ونشاهد آثارها المدمرة للعقل والوجدان، والمهددة لسلامة الكيان الإسلامى بصورة عامة، باعتبار أن الحرب ضد الكيان الإسلامى بصورة عامة، أن الحرب ضد الهوية، يقصد بها تمهيد الطريق نحو فرض الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والثقافية0(3/189)
لقد استبدل الغرب، خاصة القوى الاستعمارية الجديدة، بالركائز الثقافية والدينية القديمة مقولات جديدة تضع الأخلاق فى خدمة الهيمنة والعنف، والدين فى خدمة نظام رأسمالى منتصر، والثقافة وقيمتها فى خدمة فلسفة القوة، وقد باتت نظرة الغرب إلى ذاته تتسم بنرجسية مرضية يلازمها خوف دائم من فقدان السيطرة والدخول فى مرحلة الافوال والانحطاط، كما قال بذلك أكثر من فيلسوف أوربى وأمريكى،فى أكثر من كتاب ومقالة(20)
خامساً: العلاقة بين الهوية والثقافة:-
ثمة علاقة وثيقة بين الهوية والثقافة، بحيث يتعذر الفصل بينهما ،إذ أن ما من هوية إلا وتختزل ثقافة ، فلا بدون منظور ثقافي ، ولا تستند إلى خلفية ثقافية ، والثقافة في عمقها ، وجوهرها ، هوية قائمة الذات.
وقد تتعدّد الثقافات في الهوية الواحدة ، كما أنه قد قد تتننوّ ع الهويات في الثقافة الواحدة ، وذلك ما يعبّر عنه بالتنوّع في إطار الوحدة ، فقد تنتمي هوية شعب من الشعوب إلى ثقافات متعددة ، تمتزج عناصرها ، وتتلاقح مكوّ ناتها ، فتتبلور في هوية واحدة . وعلى سبيل المثال ، فإن الهوية الإسلامية تتشكّل من ثقافات الشعوب والأمم التي دخلها الإسلام سواء اعتنقته أو بقيت على عقائدها التي كانت تؤمن بها ،ة فهذه الثقافات التي امتزجت بالثقافة العربية الإسلامية وتلاحقت معها ، العربية الإسلامية ، فهي جماع هويات الأمم والشعوب التي انضوت تحت لواء الحضارة العربية الإسلامية، وهي بذلك هوية إنسانية ، متفتحة ، وغير منغلقة.
وفي زمن تُفرض فيه العولمة الغازية للهويات والماحية للخصوصيات الثقاقفية علة العالم يفترض أن تخلق الحداثة بنزوعها الكوني ثقافة عالمية وكونية . وإذا كانت صور من هذه الثقافة قد تخلقت عبر العالم خلال تاريخ الحداثة ، فإن الصورة المعاصرة من عولمة الحداثة قد عجّلت بتكوين هذه الثقافة . ولا تفهم ثقافة العولمة إلاُّ في ضوء مفهوم الثقافة المحلية والوطنية . فتلك الأخيرة تتكون من جماع أسالبيب السلوك والأفكار والرموز والفنون التي تميّز شعباً من الشعوب ، وعلى الرغم من تنوعّها الداخلي تتميّز الثقافة الوطنية بالتجانس ، أما ثقافة العولمة فإنها الثقافة التي تتجاوز الثقافة الوطنية ، متخطية حدود الول، وتنتشر من خلال آليات تدفق السلع والأفراد والمعلومات والمعرفة والصور (21).
وثقافة العولمة التي تتحدي الهوية والثقافة الوطنيتين ، هي ذات الخصائص التالية:
أ) فهي ثقافة يصاحبها في الغالب خطاب تقني وعملي ، فهي تنقل عبر الوسائل الاتصالية الحديثة ، وهي بذلك مصنوعة بحساب.
ب) وهي نخبوية ، تُفرض من أعلي ، من دون أن تكون لها قاعدة شعبية ، أو تعبر عن حاجات محلية ، أو تلتزم بأشكال ومضمون التراث اللثقافي التي تنتقي منه.
ت) وإذا كانت ثقافة العولمة ثقافة نخبوية ، فإنها نساعد على تركّز القوة. والقوة هنا ليست قوة سياسية فحسب ، بل قوة التكنولوجيا المرتبطة بالمشروعات الصناعية ذات الصبغة الكونية كشبكات الحاسوب والإنتنيت ، وهي ما يطلق عليه تقنيات العولمة TEChnologios
Of globalization.
ث) وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بثقافة الاستهلاك Consumer culture ، فالعمليات المرتبطة بنشر الحداثة تساعد على نشر القيم والرموز وأساليب السلوك المرتبطة بالاستهلاك .
ج) وهي ثقافة تعمل على خلق نمازج وصيغة موحدة عبر العالم ، كما تدعم نظاماً للصور الذهنية l mages .حول موضوعات خاصة لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالسوق الرأسمالي (22) .
ح) وتنطوي ثقافة العولمة التي تنبثق من الحداثة المادية بخصائصها تلك ، على مخاطر عديدة تتهدّد الهوية والثقافة الوطنيتين في آن واحد ، مما يؤكد قوة الترابط والتلازم بين الهوية والثقافة أياً كانتا ،وهو الأمر الذي يستدعى تقوية العلاقة بين العنصرين الرئيسيْن من عناصر الكيان الوطني للأمم والشعوب : الهوية والثقافة لأن في الحفاظ على الهوية والثقافة وقايةً من السقوط الحضاري ، وصيانة ً للذات ، وتعزيزاً للقدرات التي يمكن التصدّيّ بها لضغوط التحدّيات مهما تكن.
سادساً: شروط الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلاميتين:
ينبغي أن ننظر إلى الواقع الثقافي والفكري والإعلامي في عامنا من زاوية واسعة ،حتي تتضح لنا الصورة العامة ، وتتبين حقائق الأمور أمام أعيننا ، فنحن نقف اليوم أمام تيار كاسح جارف مندفع ، لا نملك إزاءه إلاُّ التعامل معه بحكمة ويقظة ،ة لأننا لانمتلك شروط المواجهة معه ، ولكننا نتوفر على شروط موضوعية لمواكبته ، والاندماج فيه ، و وللإسهام من موقعن الثقافي والحضاري ، في بناء عالم جديد قوامه العدل والسلام ، والتعايش والتسامح ، والتعاون الإنساني في إطار القانون الدولي ، وتحت مظلة الأمم المتحدة. فهذا هو الأسلوب العملي لتوقي مخاطر العولمة ، وللتغلب على الصعاب والتحدّيات الناتجة عنها ، وللحفاظ على خصوصياتنا الثقافية والحضارية.
إن المنهج الذي ندعو إلى اعتماده في معالجة المشكلات الناتجة عن اكتساح نظام العولمة للهوية والثقافة الإسلاميتين في هذه المرحلة الدقيقة ، يقوم على قاعدة التكامل في البحث عن الحلول للأزمات الحضارية والمشكلات الثقافية ، وينطلق من الرؤية الشمولية إلى الواقع المعيش ، بحيث لايمكن بأي حال ، الفصل بين الأوضاع السياسة والاقتصادية والاجتماعية ، وبين الأوضاع الثقافية والفكرية والإعلامية ، لأنه لاسبيل إلى تقوية الذات بتحصين الهوية والثقافة العربية والحفاظ عليهما ، في ظل أوضاع غير منسجمة مع طموح الأمة، وفي ظروف ليست مواتية، من نواحي كافة .
أن العالم الإسلامي محكوم بظروف صعبة على الأصعدة جميعاً، وينبغي أن نكون صرحاء مع أنفسنا ، نسلم بأن الدولة السبع والخمسين الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، تعاني من مشكلات اقتصادية صعبة ، وبعضها، بل أغلبها، يحتلّ المرتبة الدنيا في السجل الذي تنشره الأمم المتحدة في تقريرها السنوي عن التنمية البشرية في العالم، وتنصف غالبية هذه الدول ضمن الدول ضمن الدول التي تعيش تحت خط الفقر ، إلى جانب المشكلات السياسية التي تعم معظم االبلدان الإسلامية، والتي تنتج عن الازمات والصراعات والحروب، مما يتسبب في عدم الاستقرار، وفي ضياع فرص التنمية، وفي هدر الطاقات والقدرات .
ولا مجال للحديث عن الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلاميتين في ظلّ هذه الأوضاع ، فالمجتمعات الضعيفة الممتخلفة عن ركب التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، لا تقوى على الدفاع عن خصوصياتها الثقافية وموروثها الحضاري، ولا تملك أن تصدّ الغارات الثقافية والإعلامية التي تواجهها من كل حدب وصوب، ولن تسطيع أن تقف صامدةً في معترك السياسة الدولية بأمواجها المتلاطمة، حفاظاً على مصالحها الحيوية .
ولذلك نرى أن السبل التي يتعيّن على العالم الإسلامي أن يسلكها للحفاظ على هويته وثقافته الإسلاميتين،هي ما يلي :
أولاً : إصلاح الأوضاع العامة إصلاحاً رشيداً شاملاً، في إطار المنهج الإسلامي القويم ، وبالأسلوب الحكيم، ومن خلال الرؤية الشاملة إلى الواقع في جوانبه المتعدّدة، من أجل اكتساب المناعة ضد الضعف العام الذي يحدّ من حيوية الأمة ويشلّ حركتها الفاعلة والمؤثرة .
ثانياً : إيلاء أقصى الاهتمام بتطوير التعليم ، والنهوض به، وتحديث مناهجه وبرامجه، مع التركيز على التنعليم النافع الذي يفيد الفرد والمجتمع ، والذي يربي الأجيال على ثقافة العصر ويفتح أمامها آفاق المعرفة .(3/190)
ثالثاً : تقوية التعاون بين الدول العالم الإسلامي ، وتعميق التضامن الإسلامي ، وتحقيق التكامل فيما بينها، وتعزيز العمل الإسلامي المشترك، في إطار تنفيذ الاستراتيجيات التي وضعتها المنتظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وصادق عليها مؤتمر القمة الإسلامي في دوراته المتعاقبة .
رابعاً : تسوية الخلافات بين الدول العالم الاسلامي ، والاحتكام إلى مبادئ الإسلام الخالدة لفضّ النزاعات، ولإقامة علاقات أخوية متينة، تحقيقاً للمصالح المشتركة، وجلباً للمنافع، ودراءاً للأخطار التي تهّدد الأمم الإسلامية قاضبة .
فبانتهاج هذه السبل المستقيمة ، تتقوى الذاتية الثقافية، وتصان الهوية الحضارية، وتحفظ الحقوق، ويتعزَّر حضور الأمة الإسلامية في الساحة الدولية فاعلة ومؤثرةً ومساهمة في الحضارة الإنسانية الجديدة .
1. حسن سعيد الكرمي، الهادي إلى لغة العرب،ج1 .
2. أبو البقاء الكَفَوي ، الكليات، ص : 961، تحقيق د. عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت 1995م .
3. الشريف علي بن محمد الجرجاني، التعريفات،ص : 257 ، دار الكتب العلمية، بيروت ، 1995م ز
4. الموسوعة الفلسفية العربية ، المجلد الأول ص: 821، معهد إنماء العربي، بيروت ، 1995م .
5. د. محمد عمارة، مجلة (الهلال) القاهرة، فبراير 1997م.
6. ..........
7. د. عبد العزيز بن عثمن التويجري، الحوار من أجل التعايش، ص69، دار الشروق ، القاهرة ،1998م .
8. مَعْلمَة الإسلام، أنور الجندي، المجلد الأول ، ص : 524 - 225 ز المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1980م.
9. الخطة الشاملة للثقافة العربية، نشر المنظمة العربية للتربية والعلوم الإسلامية والثقافة ، الطبعة الثانية ، تونس 1996م م ص :16 .
10. الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي، نشر المنظمة للتربية والعلوم والثقافة __ إيسيسكو __ الرباط 1997م .
11. المصدر نفسه، ص :52-53.
12. مَعْلمَة الإسلام، ص : 525.
13. المصدر نفسه ، ص : 530 .
14. المصدر نفسه ، ص : 532.
15. د. سليمان حزّين، أرض العروبة : رؤية حضارية في المكان والزمان . الفصل العاشر عن مقومات الثقافة العربية ودورها في حياتنا القديمة والمعاصرة ، ص: 255، دار الشروق، القاهرة الطبعة الأولى 1993م .
16. المصدر نفسه، ص : 56 .
17. الاستراتجية الثقافية للعالم الاإسلامي، ص56 .
18. مّعْلمَة الإسلام ، ص : 234.
19. د. عبد العزيز بن عثمان التويجري ، مصدر سابق ، ص:104.
20. مسعود ضاهر ، عرض كتاب ( شرق وغرب : الشرخ الأسطوري ) لجورج قرم ، مجلة ( المستقبل العربي ) ، العدد :297، بيروت ، نوفمبر 2003م.
21. د. أحمد زايد ، عولمة الحداثة وتفكيك الثقافة الوطنية، مجلة ( عالم الفكر ) ، المجلد 32، العدد : 1، يوليو __ سبتمبر 2003م ص : 14، الكويت . .
22. مصدر سابق ، ص : 18-17 .
موقع الإسلام اليوم
===============
ثقافة الحِوار لا ثقافة الخُوار...!!
* خالد بن عبد العزيز أباالخيل 11/11/1427
02/12/2006
من أكثر المصطلحات حضوراً في الساحة الفكرية اليوم: مصطلح الحِوار.. ولأنه مصطلح فضفاض في وضعه اللغوي استطاعت بعض التيارات توظيف هذا المصطلح لنشر أدبياتها وتسويقها بحجة ممارسة ثقافة الحوار، وتعدّى الأمر عند هؤلاءـ في بعض الأحيان ـ إلى نفي المخالف واتهامه بالإقصائية ومصادرة وطنيّته والاستعداء عليه.
وفي المقابل فرِقت طوائف كثيرة من الحوار بدعوى الخصوصية و الحفاظ على المكتسبات والحرص على الهويّة! وكان نتاج ذلك أن خرج من رحم أولئك قوم يرجمون بالتهمة كل من يمارس الحوار أو يدعو إليه!
وفي اعتقادي أن الطائفة المنصورة هي الطائفة التي تؤمن بالحوار كهدي نبوي وتمارسه كقيمة ثقافية وأخلاقية. وتتحرّر من كل الأوهام والأراجيف التي تحول بين صوت الحق وآذان الخلق.
لكن لابد من التأكيد على أنه يجب ـ حتى لايتحول الحوار إلى جدل عقيم ـ أن يكون للحوار سقف يتفق عليه الجميع وينطلقون منه ويتحاكمون إليه.
ولأننا في بلد مسلم، تحكمه شريعة الله تعالى، وينتمي أهله إلى هوية واحدة، وهي الهوية الإسلامية، فإن كل حوار ـ يجري في داخل البلد ـ لابد ـ لكي تظهر ثمرته ـ أن تؤمن جميع الأطراف بهذه الهوية ديناً وممارسة.
إن ثقافة الحوار ليست ثقافة لفظية فحسب إنما هي ثقافة سلوك وأخلاق، ونخطئ تماماً إذا اختصرنا هذا المصطلح الكبير على اللفظ فقط. ولذا لابد من التأكيد على المبدأ الأخلاقي في الحوار، وهذا المبدأ يجب طرده حتى مع أولئك الذين لا نكاد نتقاطع معهم في دين أو لغة. وأتذكر هنا كمثال بارز قصة عتبة بن ربيعة مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ عندما أشتدّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش في أول البعثة، فاجتمع عقلاء القوم وقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة فليأت هذا الرجل الذي قد فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا فليكلّمْه، ولينظر ماذا يردّ عليه. فأتاه عتبة بن ربيعة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول -الله صلى الله عليه- وسلم، فقال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبت، وإن كنت تزعم إنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرّقت جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعِبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلاّ مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل إن كان بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش مالاً، وإن كان بك الباءة فاخترْ أي نساء قريش شئت فلنزوجنّك عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفرغْتَ يا أبا الوليد؟) قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم)حتى بلغ (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) فقال عتبة: حسبك حسبك.. والقصة بتمامها رواها عبد بن حميد في مسنده وابن إسحاق في مغازيه.
فعتبة هنا في هذا العرض السخيّ كان مراده أن يشتري ذمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ومبادئه ليصرفه عن مراده في تبليغ رسالة ربه.. ومع هذا العرض الموغل في الدناءة من حيث المعنى ومن حيث اللفظ؛ إلاّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مستمعاً رائعاً لما يقول ..و واسع الصدر في احتمال خصمه.. فلم يشغب عليه في الحديث أو يقاطعه، بل بعد أن انتهى بادره بعبارة غاية في اللطافة وتوحي ـ بأدب بالغ ـ بأنه مازال المجال مفتوحاً لأن تقول بقية مقالتك: (أفرغت يا أبا الوليد؟) !
وفي هذه القصة دروس مهمة، منها:
أنه يجب أن يكون أهل الحق والصدق هم أوسع الناس صدراً في تحمّل المخالف.
ومنها: أن التأدّب مع المخالف وإعطاءه منزلته التي يستحقها لايعني أبداً موافقته على ما يقول.
ومنها: أن من يحمل رسالة الحق والخير يجب أن يكون أكثر الناس تجرداً من حظ نفسه والانتصار لها.
وثمة أمر مهم لايمكن تجاهله في أثناء الحديث عن الحوار، وهو أن مِن أخطر ما يسقط الحوار من أصله ويجرّده من قيمته، هو تصنيف الناس وتحزيبهم، والطعن في النوايا، والرجم بالغيب، والتذاكي في قراءة مابين السطور، وتقديم سوء الظن على حسنه.(3/191)
والأصل بالمؤمن أن يكون حسن الظن بإخوانه ملتمساً لهم المعاذير، وأن يدرك أن سوء الظن لايعني الذكاء دائماً كما أن حسنه لايعني البلاهة أيضاً.. ومن خدعنا بالله انخدعنا به ـ كما قال الفاروق رضي الله عنه.
ومما يجب إدراكه وفهمه أن عدم وصولنا إلى نقطة اتفاق مع المخالف لايعني أن نضعه في الخانة السوداء.. إذ إن دون ذلك منطقة رمادية تسمح باستيعاب الجميع.
وإن ممارسة العنف في الحوار ـ بتحويله إلى (خُوار) وصَخَب وهتاف ـ هو مؤشر إفلاس ثقافي لاينبغي لأهل الحق والعدل أن يسمحوا لغيرهم أن يصفهم بمثل هذا..
وبغض النظر عن موقفنا من طرف دون آخر فإن مانراه اليوم أو نسمعه من تحويل الحوارات الثقافية إلى تعبئة جماهيرية واستعداد سريع للصراع هو يعبر ـ بكل تأكيد ـ عن أزمة أخلاقية قبل أن تكون أزمة معرفية ... وعلى حَمَلَة الحق ونور الإسلام أن يدركوا أن صفاء النية في الحوار يلزم منه الرفق بالمخالف ورحمته والحرص على استصلاحه وهدايته، وذلك كله لا يحصل بالصّراخ والزعيق والهتاف! بل ربما حصل بخلافه.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في (مجموع الفتاوى16/96 ) ـ : "وأهل السنة و العلم والإيمان يعلمون الحق، و يرحمون الخلق، ويتبعون الرسول فلا يبتدعون، و من اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه. وأهل البدع مثل الخوارج يبتدعون بدعة و يُكفّرون من خالفهم، و يستحلون دمه، وهؤلاء كل منهم يرد بدعة الآخرين، و لكن هو أيضاً مبتدع فيردّ بدعة ببدعة، و باطلاً بباطل... و الله يحب الكلام بعلم و عدل، و يكره الكلام بجهل و ظلم، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان فى النار و قاضٍ في الجنة".
والله المسؤول أن يجمع ماتفرّق من أمرنا على الخير والهدى.
*محاضر في قسم السنة . جامعة القصيم .
===============
فى ندوة (الحرب الثقافية الباردة)
علي المهدي ... ... ... ... ... 12/5/1423
... ... ... ... ... 22/07/2002
- الاستيلاء على عقول البشر هو هدف الحرب الثقافية الأمريكية.
- المطالبة بتغيير المناهج الإسلامية يصب في الحرب الثقافية على المسلمين.
- الهيمنة الثقافية تمهيد للسيطرة الاقتصادية والسياسية .
- هذه بعض أساليب الغزو الثقافي .
الإسلام اليوم -كتب : علي المهدي :
شهد العالم على مدى تاريخه الطويل أنواعاً مختلفة من الصراعات فهناك الصراع على الأرض ، والصراع على المياه والصراع على الأسواق ، ومصادر المواد الخام ، ولكن أكثر هذه الصراعات خطورة هو الصراع الفكري الذي يهدف للسيطرة على العقول لفرض عقائد أو منظومات قيم أو ثقافات معينة على الآخرين ، وهذا النوع من الصراع تتنوع أدواته وسائله وهو يعتمد على الفكرة والمعلومة والصورة للوصول إلى الهيمنة الثقافية على عقول البشر ومن يملك العقول يستطيع أن يسيطر بعد ذلك على الثروات والأراضي والأسواق بدون طلقة رصاص أو دانة مدفع.
وقد عقد اتحاد الكتاب المصريين بالقاهرة ندوة حول كتاب (الحرب الثقافية الباردة) وهو عنوان ترجمة الكتاب الأصلي للباحثة البريطانية الشابة فرانسيس سورين سندزر (من دفع للزمار ؟ ) والذي تروى فيه بالوثائق والمستندات الدامغة قصة الحرب الثقافية التي تشنها أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية للسيطرة على عقول شعوب العالم.
الهيمنة الثقافية الأمريكية
في مستهل الندوة أوضح الروائي فؤاد قنديل مقرر اللجنة الثقافية باتحاد كتاب مصر أن المؤلفة البريطانية بذلت جهوداً مضنية لتوثيق كل كلمة قالتها في كتابها ، الذي يقع في خمسمائة صفحة ، وشملت الوثائق مستندات حصلت عليها من أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية، بعد أن تم الإفراج عنها بمضي المدة القانونية ، وأن تلك الأجهزة تخفت وراء واجهة تحمل عنوان (مؤسسة الحرية الثقافية) والتي من خلالها استطاع رجال المخابرات التسلل إلى كل قطاعات الفن والثقافة والفكر في كثير من دول العالم ؛ لمحاربة الشيوعية في البداية ، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بدأت تلك الأجهزة في محاولة بسط الهيمنة الثقافية الأمريكية على شعوب العالم ، تلك الهيمنة التي تمهد للسيطرة الاقتصادية والسياسية في مرحلة لاحقة .
وفى كلمته أشار طلعت الشايب المشرف على إصدارات المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة وهو مترجم كتاب (من دفع للزمار ؟) إلى أن ما يحدث اليوم من سيطرة أمريكية ثقافية واقتصادية هو ثمرة العمل الذي تم على مدى نصف قرن من الزمان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وكان يقوم على استمالة وتجنيد عناصر من اليساريين السابقين ، والمعارضين والفنانين والمفكرين في العديد من دول العالم ، وتم ذلك سراً ، وكان التمويل تقوم به مؤسسات أمريكية مخابراتية بعضها حقيقي والآخر وهمي تحت أسماء مستعارة ، ولكن الواجهة الكبيرة التي كان يتم ضخ الأموال عبرها هي (وكالة الحرية الفكرية) بهدف توجيه هؤلاء المفكرين والفنانين نحو رؤية أكثر توافقا مع الطرح الأمريكي الذي يقوم على الترويج لفكرة أن أمريكا هي المنقذ وهى التي تمثل عصر التنوير.
وأضاف طلعت الشايب بأن التمويل اتسع ليشمل الإنفاق على العديد من المؤتمرات والندوات والمعارض الفنية فى مناطق مختلفة من العالم ، وطبع الكتب والمجلات التي تروج للثقافة الأمريكية تحت واجبات مختلفة ، وفى مرحلة مبكرة سعت المخابرات الأمريكية للتعاون مع الخارجية البريطانية وتم تشكيل إدارة (للعمليات القذرة) تشكلت من أبناء الصفوة في المجتمع الأمريكي والعاملين في مجال القانون والفن والمتفوقين علمياً ، وكان رونالد ريجان مسئول الدعاية في منظمة الحرية الثقافية ، وامتدت فروع تلك المنظمة وبلغ عددها عشرين فرعا في كل أنحاء العالم وأنشأت 20 مجلة منها مجلة (حوار) في بيروت ومجلة (شعر) في القاهرة.
التزام الصمت
وأشار طلعت الشايب إلى الصمت المريب الذي التزمت به الهيئات والمؤسسات الغربية تجاه كتاب " سوندرز" ، ويرى أنه من المؤكد أن أحدا لن يجد أي حجة يدافع بها عن الحرب الثقافية التي تقودها المخابرات الأمريكية على شعوب العالم ؛ لأن الكتاب موثق بأدلة ومستندات دامغة ، ولعل بيان المثقفين الأمريكيين الذي نشر مؤخراً والذي يؤكدون فيه عدالة الحرب التي تشنها أمريكا ضد الشعوب المسلمة تحت زعم محاربة الإرهاب نموذج واضح كل الوضوح لمساندة المثقف الأمريكي لصاحب القرار السياسي ، وتبرير القتل من أجل بقاء السيطرة للحضارة الغربية .
وتحدث الدكتور عبد العزيز حموده الناقد والعميد السابق لكلية الآداب جامعة القاهرة ومؤلف كتابي (المرايا المحدبة) و (المرايا المقعرة) في كلمة وضح فيها مذهب الحداثة الذي حولت المخابرات الأمريكية برامج نرويجية ونشرته، فأوضح أن الولايات المتحدة تسعى لفرض منظومتها الثقافية اتباعاً لمقولة " فوكوياما" حول نهاية التاريخ ، وضرورة عولمة الثقافة باعتبار شعوب العالم قطع تتحرك على وقعة الشطرنج التي تهيمن عليها المخابرات الأمريكية.
وتساءل ماذا نحن فاعلون ؟ وأجاب عن تساؤله قائلاً :(3/192)
علينا أن نتعلم كيف نخاطب الآخر بلغته ؛ فالعزلة والتقوقع صارا ترفا مستحيلاً . وخطورة كتاب "سوندرز" أنه ملئ بالوثائق الدقيقة حول شيكات وأموال أنفقت واسماء من كلفوا تلك الأموال في مختلف أنحاء العالم ، وهذا يحفزنا إلى التدقيق في الأنشطة الثقافية التي تروج للفكر الغربي ، والتي يتولاها أفراد من بنى جلدتنا ويهدفون من أنشطتهم إبعادنا عن هويتنا العربية الإسلامية والحاقنا بالمنظومة الثقافية الغربية تحت حجج وأسانيد زائفة ، وآن الآوان أن نشجع البحوث والكتابات التي تصب في دعم وتأكيد تلك الهوية خاصة في نفوس النشء.
ومن جانب أوضح الدكتور عاصم دسوقى أستاذ التاريخ بجامعة حلوان أن فكرة إعادة تشكيل عقول العالم الثالث ليست جديدة ، و فكرة الاحتواء والاستيعاب هي قديمة منذ ظهور الاستعمار العسكري ثم بعد الثورة الصناعية وقد اكتشف الأوربيون أنهم مكروهون من الشعوب التي استعمروها ؛ لوجود قواعد عسكرية ، وبعد قيام حركات التحرر الوطني خرجت تلك القواعد ، وبعد التقدم الذي شهدته تكنولوجيا الأسلحة فقد أصبحت تلك القواعد بلا فائدة بعد أن أصبح هناك حاملات الطائرات والصواريخ العابرة للقارات.
تعدد أساليب الغزو الفكري
يضيف الدكتور عاصم دسوقى قائلا ..وحل الاستغلال الاقتصادي من جانب الغرب محل القواعد العسكرية ، وجاءت ظروف الحرب العالمية الأولى مواتية لأن تخرج الولايات المتحدة الأمريكية من عزلتها لتأخذ وضعها كقوة عالمية، وجاء الاعتماد على العمل الثقافي كوسيلة من وسائل الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ونجحت أمريكا نجاحا باهراً في محاربة المنظومة الشيوعية وسقط الاتحاد السوفيتي أخيراً لتنفرد الولايات المتحدة بموقع القطب الواحد المهيمن على شئون العالم
وأساليب الغزو الفكري تعددت وتنوعت منها :
إقامة الجامعات الغربية فى البلاد العربية ، وإرسال البعثات إلى أمريكا وأوروبا وهناك يتم غسل مخ المتبعث ليكره لغته وتراثه وينهمر بالغرب وثقافته ، ويعود للوطن داعيا مخلصا لتلك الثقافة التى تتصادم مع ثقافتنا العربية الإسلامية.
وأكد الدكتور عاصم دسوقي أن الغزو الفكري أخطر من الغزو العسكري وممن تنبهوا لفاعلية السلاح الثقافي برتمرند راسل عندما كتب (حكومة العالم) حيث طالب فيه بتخفيف جريمة البطولة من كتب التاريخ طاعة قيم البطولة والتضحية التي يتعلمها النشء منذ أيامهم الأولى هي التي تعطيهم المناعة ضد التشبع بالقيم الغربية ، ولعل هذا هو السبب في المحاولات الأمريكية التي تهدف إلى تغيير مناهج التعليم الديني والمقررات المتعلقة بالتاريخ الإسلامي في البلدان الإسلامية.
وحذر الدكتور دسوقي من الرضوخ للطلبات الأمريكية فالتاريخ والدين هما أساس الهوية العربية الإسلامية وتغيير مناهجهما يعنى ضياع تلك الهوية والقبول بالتغريب الكامل للأجيال القادمة ، وينبغي التنبيه إلى أن السياسة الأمريكية تستهدف تفكيك الرابطة القومية والعقائدية التي تربط العرب والمسلمين بعضهم ببعض ؛ حتى يتحولوا إلى كيانات هزيلة مفككة ، يسهل السيطرة عليها لصالح المشروع الصهيوني الذي يقوم على التوسع وخدمة أطماع الغرب فى المنطقة ، ولعل تشجيع الغرب للحركات الانفصالية فى أندونيسيا والجزائر والسودان ، وتمويل ودعم الثقافات الامازيقية والنوبيين والكردية وغيرهما هي دليل على أن الهدف هو تقسيم العالم الإسلامي إلى كيانات صغيرة خاضعة للكيان الصهيوني
=============
رئيس جبهة تحرير مورو الإسلامية في حوار شامل
الاسلام اليوم - حوار عبر الانترنت 23/3/1423
04/06/2002
المسلمون في الفلبين شعب مجاهد يبلغ تعداده ستين مليونا ،وتنقسم الفلبين إلى ثلاث جزر رئيسة هي جزيرة لوزون في الشمال، وجزيرة بيسايس في الوسط، ثم جزيرة مينداناو في الجنوب وهي التي يسكنها المسلمون..
ويعرف مسلمو جنوب الفلبين الذين يسكنون منطقة مينداناو باسم مسلمي مورو.
وقد قدم مسلمو مورو خلال ربع القرن الأخير الذي بدءوا فيه جهادهم لنيل استقلالهم حوالي مليون شهيد.
فماذا عن آلام هذا الشعب المسلم وآماله؟ وماذا عن أحلامهم وأحوالهم؟ وماذا عن مساجدهم ومدارسهم والدعوة الإسلامية بينهم؟ وما هي قصة جهادهم والتي وقعوا خلالها ثلاث اتفاقيات لوقف إطلاق النار والحكم الذاتي ولا يكتب لها النجاح ؟
نتعرف على كل هذه الأمور من خلال حوارنا عبر الإنترنت مع سلامات هاشم رئيس جبهة تحرير مورو الإسلامية .
سؤال:هل لنا أن نتعرف على بداية دخول الإسلام إلى بلادكم؟
جواب:الفلبين التي يدين 80% منها الآن بالنصرانية كانت حتى وقت قريب مملكة إسلامية، فقبل الاكتشافات الجغرافية التي قادها المستعمرون البرتغاليون والأسبان والتي جلبت المنصرين لينشروا النصرانية بقوة السلاح وقمع المسلمين ،كان الإسلام هو الديانة الوحيدة ،والعاصمة الفلبينية "مانيلا" كان اسمها الإسلامي "أمان الله" وقد بدأ دخول الإسلام الفلبين في الفترة ما بين القرنين السابع والثامن الهجريين، على يد التجار المسلمين الذين دخلوا تلك الجزر، وتم تسجيل دخول الإسلام رسميا إلى الفلبين عام 1380 ميلادية على يد الشيخ العربي المسلم كريم المخدوم ، ولغة أغلب المسلمين في الفلبين تكتب بحروف عربية.
والمناطق التي يسكنها المسلمون في جنوب الفلبين تتمتع بثروات طبيعية هائلة، تساهم بمقدار 70% في خزانة الفلبين خاصة بعد اكتشاف كميات من النفط تعد من أكبر المخازن الطبيعية للنفط في العالم، وتنتج منطقة مينداناو المسلمة 56% من الذرة و 55% من البن و 55% من جوز الهند و 50% من الأسماك و 100% من المطاط و 100% من الموز و 39% من اللحوم و 29% من الأرز وربما كان هذا هو السبب الذي جعل حكومات الفلبين المتعاقبة لا تنفذ اتفاقيات السلام؛ حتى لا يحصل مسلمو مورو على استقلالهم ويتمتعون بثرواتهم.
"جهاد ضد الاستعمار النصراني"
سؤال:لمسلمي الفلبين تاريخ طويل من الجهاد ضد الاستعمار الأسباني والأمريكي والياباني ما هو تاريخ ذلك؟
جواب:بدأ الاستعمار الأسباني لبلادنا منذ عصر الكشوف الجغرافية التنصيرية، حيث استعمر الأسبان هذه البلاد على يد القائد الأسباني الشهير "ماجلان" عام (940هـ - 1521م) ودخل المسلمون في حرب شرسة مع المستعمر الأسباني وقتلوا ماجلان فأرسل الأسبان حملة عسكرية قوية للانتقام، لم ترحم الأطفال والنساء والشيوخ. واستمر الاستعمار الأسباني 375 عاما، وفي عام 1898 باع الأسبان الفلبين للأمريكان بمبلغ عشرين مليون دولار وسيطر الأمريكان على الفلبين وخاض المسلمون ضدهم نضالا طويلا استمر 47 عاماً. ومع بداية الحرب العالمية الثانية احتل اليابانيون الجزر الإسلامية في الجنوب ودخلوا في حروب ضد المسلمين انتصر المسلمون في كثير منها حتى حصلت الفلبين على استقلالها عام 1946.
سؤال:ومتى بدأ جهاد المسلمين في جنوب الفلبين، لإقامة دولتهم المستقلة ؟
جواب:تبلورت فصائل جهاد المسلمين عام 1962 في جبهة تحرير مورو التي شكلها مجموعة من الطلبة الدارسين في الجامعات والمعاهد خارج الفلبين. وبدأ عمل الجبهة العلني عام 1968 بقيادة نورميسواري وسلامات هاشم وخاضت حروبا طويلة ضد حكومة الفلبين أجبرتها على الجلوس إلى مائدة المفاوضات.(3/193)
وخلال مسيرة الجهاد هذه تم التوقيع على ثلاث اتفاقيات للسلام بين مسلمي مورو وحكومة الفلبين لكن لم يكتب لأي منها النجاح، ففي عام 1976 وفي عهد الرئيس فرديناند ماركوس توصل الجانبان إلى اتفاق يقضي بإقامة حكم ذاتي للمسلمين في 13 محافظة و 9 مدن وهي غالبية المناطق التي يتركز فيها المسلمون وتم التوقيع على الاتفاقية في طرابلس بليبيا بتدخل منظمة المؤتمر الإسلامي وبعض البلاد العربية. وفي عهد كروازون أكينو (1986-1992) بدأت المفاوضات بين الطرفين لتنفيذ اتفاق طرابلس لكن الحكومة ماطلت وعرضت تنفيذ الحكم الذاتي في أربع محافظات فقط. وفي عهد حكومة الرئيس فيدل راموس (1992-1998) وعقد الطرفان عام 1994 اتفاقا جديدا ينص على وقف العمليات الحربية وتشكيل مجلس جنوب الفلبين للتنمية والأمن لكنه لم ينفذ. ومع تصاعد الجهاد الإسلامي تم التوقيع على اتفاق آخر عام 1997 لكنه فشل أيضاً.
سؤال:جبهة تحرير مورو انقسمت خلال جهادها إلى نصفين.. نصف وطني بقيادة نور ميسواري ونصف إسلامي بقيادتكم بالإضافة إلى وجود حركة أبي سياف.. ألا يعد ذلك انشقاقا في صفوف المجاهدين له تأثير سلبي على جهادهم؟
جواب:انفصلت جبهة تحرير مورو الإسلامية عن جبهة تحرير مورو الوطنية عام 1977 وكان لدينا مبررات قوية في الانفصال بعد أن اكتشفنا مبكراً خداع ومماطلة الحكومة الفلبينية واعتزامها إدخال القضية في دوامة المفاوضات والاتفاقيات التي لا جدوى منها. .أما حركة أبي سياف فمحدودة جداً، ولم تصل بعد إلى مستوى التنظيم الشامل. لكن بفضل الله لم يتأثر الجهاد
استعادة الهوية الإسلامية
سؤال:بعد ما يقرب من ربع قرن من الجهاد الذي قادته جبهة تحرير مورو.. ما هي أبرز الإنجازات التي تحققت؟
جواب:تم تحرير 46 قاعدة عسكرية.. وهذه القواعد لم تعد قواعد عسكرية فحسب بل تضم الكثير من المزارع الشاسعة التي أصبح يعيش فيها مسلمو مورو حياتهم اليومية ووفرت لهم قدراً كبيراً من الاستقرار.
لقد كاد المسلمون في منطقة مورو يفقدون هويتهم الإسلامية بسبب محاولات الحكومة الفلبينية لمحوها وإذابتها. وبعد الحرب أصبح المسلمون يفضلون تسميتهم مسلمي مورو بدلا من مسلمي الفلبين؛ وذلك للتأكيد على وجود هوية خاصة ومميزة لهم لدرجة أن بعضهم رفض الهوية الفلبينية، أما الذين يتجنسون بالجنسية الفلبينية فإنما يفعلون ذلك لتسهيل المعاملات الرسمية. وقبل الحرب كانت الأغلبية النصرانية تنظر إلى المسلمين نظرة احتقار ولكن تغيرت هذه النظرة بعد الحرب وصاروا ينظرون إلينا على أننا أعداء أنداد لهم.
وبعد ظهور جبهة تحرير مورو الإسلامية والانتصارات الكبيرة التي حققتها تغير الحال وأصبح النصارى يتقربون لنا، وأصبحت قاعدة أبي بكر الصديق التي بها المقر العام للجبهة هدفا لكبار رجال الدولة يقومون بزيارات مجاملة لنا.
كما أن النصارى الذين يسكنون في منطقة مورو والذين كانوا من قبل ألد أعداء لنا أصبحوا مؤيدين للجبهة ويدفعون لها التبرعات كما يفعل المسلمون بل إن كثيرا منهم انضم للجبهة.
ونتيجة لحركة الجهاد حررنا بفضل الله مناطق واسعة من البلاد التي اغتصبتها الحكومة الفلبينية من قبل، وتمكنت جبهة تحرير مورو الإسلامية من إقامة دولة إسلامية تتوافر فيها العناصر التي تتكون منها الدولة ولا ينقصها إلا الاعتراف الدولي.
واستطاع المسلمون لأول مرة أن يقيموا حكم الله وأن يطبقوا الشريعة الإسلامية ، فلأول مرة يعدم القاتل ويجلد الزاني وشارب الخمر ، ولأول مرة يتم تكوين مجتمع يحرم شرب الخمر والدخان والاختلاط، وبالإضافة إلى ذلك تمكن المسلمون من القضاء على كثير من البدع والخرافات والتقاليد المنافية للإسلام، واستطاعوا أن يصححوا عقيدتهم.
" المؤامرات الصليبية والصهيونية "
سؤال:وماذا عن المؤامرات الصليبية والصهيونية التي تحاك ضدكم؟
جواب:مع تصاعد عمليات الجهاد من طرف مورو الإسلامية تصاعد التصدي من الجانب الفلبيني الذي شكل عام 1977 منظمة "إيلاجا" الإرهابية لقتل النشطاء الإسلاميين وتنصير المسلمين ، وقد جاء نشاط هذه المنظمة في نفس الوقت مع وجود منظمات تنصيرية غربية أخرى تقوم بنشاط واسع تحت حماية الحكومة وبرعاية مجلس الكنائس العالمي.
ولم تكن الصهيونية بعيدة فقد قامت قوات إسرائيلية خاصة بتدريب قوات فلبينية خاصة أطلق عليها اسم "الجيش الأصفر" قامت بعمليات قتل للمسلمين وتوطين للنصارى في محافظة "ديباو" المسلمة حتى صار المسلمون فيها أقلية 40%بعدما كانوا أغلبية.
" أهداف تم تحقيقها"
سؤال:ما هو تقييمكم للأوضاع الحالية وهل لديكم برنامج لتحقيق أهدافكم؟
جواب:تحظى جبهة تحرير مورو - بحمد الله- بدعم وتأييد واسع من جموع الشعب المسلم في مينداناو، ولدينا برنامج متكامل يعتمد على أربعة محاور، هي التحول الإسلامي وتقوية التنظيم والاكتفاء الذاتي وبناء قوة عسكرية متطورة ، وبالنسبة للتحول الإسلامي فقد تم إقامة أربعة آلاف مسجد في أنحاء مورو وتم أيضا إنشاء خمسمائة مدرسة ابتدائية وإعدادية يدرس بها نحو ثمانية آلاف طالب وطالبة ، كما أقيمت مائة وخمسون مدرسة ثانوية وبعض الكليات المتوسطة التي يدرس بها ثلاثون ألفا.
كما تم تنظيم عدد كبير من حلقات تحفيظ القرآن درس فيها مائتا ألف متعلم، كما تم تنظيم أربعين ألفا من الطلاب والطالبات الذين يدرسون في الجامعات والمدارس الحكومية العلمانية بقصد تربيتهم إسلاميًا، وقام البنك الإسلامي للتنمية بجدة ببناء جامعة المخدوم، وتولت هيئة الإغاثة الإسلامية إدارتها، وتم إنشاء مبنى خاص للبنات تابع للجامعة في قلب مدينة زامونغا مما سهل حل مشكلة الاختلاط التي كانت موجودة في الجامعة وأقيمت بالجامعة، مكتبات ومعامل وتضاعف عدد الطلاب بها وأصبحت الجامعة منارة لتخريج الكفاءات الإسلامية.
وهكذا يتحول مجتمع مورو إلى مجتمع إسلامي صحيح بصورة تدريجية، فالمسلمون يقبلون على تعلم الإسلام وغير المسلمين يعتنقون الإسلام كل يوم كما أصبح الحجاب منتشرًا وأصبح الكتاب الإسلامي موجودًا والحمد لله، وبالنسبة للاكتفاء الذاتي فإن عدد العاملين التابعين للجبهة بلغ 2.5 مليون عامل يعمل 75% منهم في الزراعة و 25% في المجالات الأخرى، وقد تم فلاحة 25 ألف كيلو متر مربع نزرع بها محاصيل صالحة للغذاء كالأرز والذرة والموز وغيرها وعن طريق ذلك استطاعت الجبهة تحقيق الاكتفاء الذاتي الجزئي من الموارد الغذائية الضرورية، أما فيما يخص تقوية التنظيم فقد تم تكوين 13 قيادة ولجنة إقليمية تغطي 18 محافظة وتم تكوين 337 لجنة إدارية على مستوى البلدية بالإضافة إلى 7274 على مستوى القرية. وهذه اللجان كلها تحت إدارة اللجنة المركزية التي تضم مجلس الشورى واللجنة التنفيذية وعدد العاملين فيها 1500 عامل.
أما فيما يخص بناء القوة العسكرية فقد تم تنظيم 30 ألف مجاهد و 60 ألف احتياطي و 200 ألف من المليشيات غير النظامية التي يمكن استخدامها في ساعة الصفر ، ومجموع العاملين المدنيين والعسكريين في جبهة تحرير مورو الإسلامية حوالي 1.4 مليون عامل .
سؤال:ماذا عن جهادكم بعد تجربة نور ميسواري ؟(3/194)
جواب:ميسواري يواجه الآن تهمة التمرد على الحكومة، بعد هروبه من الفليبين إلى السواحل الماليزية لولاية "صباح" حيث ألقت الشرطة الماليزية القبض عليه في يوم 24-11-2001، وهي التهمة التي قد يواجه بسببها السجن لفترة طويلة، وقد كان ميسواري حاكما لمنطقة الحكم الذاتي لمسلمي "مينداناو"، التي تضم أربعة أقاليم جنوبية مسلمة منذ عام 1996 حتى تم إقصاؤه في نوفمبر 2001. وهنا اعترض ميسواري ودخل في صراع مع حكومة مانيلا ، وقد وقعت مواجهات بين الجيش الفلبيني ومؤيديه آنذاك أسفرت عن وقوع 200 قتيل من الطرفين . وتجربة ميسواري درس قاسي لجهاد مسلمي مورو يؤكد أن المفاوضات والتعاون مع مانيلا لن يؤديا إلى حلول ولا حل إلا في الجهاد ووحدة الصف ومساعدة إخواننا العرب والمسلمين، واعترافهم بنا في المحافل الدولية .
=============
محنة مسلمي السنغال في ظل هيمنة الفرانكفونية
حوار: عبد الرحمن أبو عوف 27/11/1427
18/12/2006
أكد الشيخ سيد غالي لو رئيس المجلس الوطني الإسلامي في السنغال أن مسلمي البلاد يواجهون أوضاعًا سياسية واجتماعية واقتصادية صعبة، بسبب سيطرة النزعة الفرانكفونية وهيمنة الموالين لها على مقدرات الشعب السنغالي، وهو ما يُعدّ خصمًا من رصيد المسلمين وأصحاب الثقافة العربية والإسلامية.
وتابع الشيخ غالي في حوار مع (الإسلام اليوم) أُجرى معه على هامش مشاركته في المؤتمر العالمي العاشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي بالقاهرة:
بالتأكيد إن وجود رؤساء جمهورية مسلمين في السنغال لم يخفف من وطأة الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون في السنغال؛ إذ إن ضيوف وواد من عرابي الفرانكفونية، والذين يفضلون ألاّ يكون للإسلام أدنى تأثير في حياة الشعب السنغالي، ناهيك عن أن عهدهما شهد سيطرة الفرانكفونيين على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في السنغال، ولفت رئيس المجلس الوطني الإسلامي إلى أن الثقافة العربية والإسلامية تواجه تحديات كبيرة في السنغال، فمن يمثلون هذه الثقافة لا يشغلون مناصب مرموقة، ولا يحصلون على وظائف في الدولة وتضربهم البطالة بعنف، في وقت يحصل غيرهم على أعلى المناصب، حتى ولو لم يكن لديهم كفاءة لشغل هذه المناصب.
وأوضح الشيخ غالي لو أن التآمر على الإسلام والعربية على الرغم من ضراوته لم يحقق ما كان يسعى إليه أرباب الفرانكفونية، فهناك إقبال غير مسبوق على تعلم العربية، وكذلك حفظ القرآن والدراسات الإسلامية، في تأكيد واضح على أن الهوية الإسلامية للسنغال تُبعث من جديد.
والتفاصيل الكاملة للحوار في السطور التالية:
في البداية هل تلقي لنا الضوء على أوضاع الشعب السنغالي المسلم؟
أولاً السنغال تُعدّ إحدى دول الغرب الإفريقي، حيث يشكل المسلمون 95 % من مجمل سكانها، البالغ أحد عشر مليوناً ؛ فيما يشمل الـ 5% الباقية مسيحيين كاثوليك، ووثنيين لا دينيين؛ وللسنغال ظروف خاصة لها، فعلى الرغم من الأغلبية الساحقة للمسلمين إلاّ أنهم يعانون اضطهادًا رهيبًا وغير مسبوق، ويتحمل مسئولية هذا الاضطهاد قوات الاحتلال الفرنسي التي أحكمت سيطرتها على بالسنغال لمدة ثلاثة قرون، خلفت وراءها بيئة ثقافية وسياسية واجتماعية طاردة للإسلام وداعمة للفرانكفونية ومن يسيرون في دربها.
ولك أن تستزيد من حجم المأساة فتعلم أن أي سنغالي حصل على أعلى الشهادات وحتى ولو كانت درجة الدكتوراه في اللغة العربية والثقافة الإسلامية لا يجد فرصة عمل إلاّ نادرًا ولا يتجاوز العمل في مدرسة، بعكس من يحمل حتى ولو مؤهلاً متوسطًا أو حتى تحت المتوسط في اللغة والثقافة الفرنسية؛ فتُفتح له الأبواب الموصدة.
وقد عزز الدستور السنغالي هذا الأمر بالتأكيد على أن الفرنسية هي اللغة الرسمية، من هنا فإن المسلم مضطهد ثقافيًا وسياسيًا؛ إذ يُمنع تأسيس الأحزاب على هوية إسلامية، فيما يُسمح بتأسيس أي أحزاب على أسس شيوعية أو فرانكفونية .
علمانية فرانكفونية
أليس مستغربًا ما تقوله في ظل اعتلاء مسلمين منصب الرئاسة في ربع قرن الأخير؟
هذا ما يزيد الطين بلة، فقد سبق عبده ضيوف وعبد الله واد الرئيس سنيجور الذي حكم البلاد عشرين عامًا وضع فيها أسس اختراق الفرانكفونية للمجتمع السنغالي، في أبشع صورة خصوصاً أنه كاثوليكي متعصب جدًا، ولم يختلف الأمر مع عبده ضيوف وواد، فالاثنان على الرغم من أنهما مسلمان غير أنهما علمانيا النزعة، فرانكفونيا الهوى، إضافة إلى أنهما متزوجان من زوجات مسيحيات وهاتان الزوجتان ليستا ككل الزوجات، فهن الدجاجة التي تلعب دور الديك وتسيطران سيطرة تامة على الحياة السياسية من اختيار الوزراء وكبار المسؤولين بشكل كرّس سيطرة الهوية المسيحية والفكر الفرانكفوني.
ما حجم تجذّر الفرانكفونية وهيمنتها في المجتمع السنغالي؟
عرابو الفرانكفونية في منطقة الشرق الأوسط وإفريقية أربعة يأتي على رأسهم سنجور والحبيب بورقيبة وشارل حلو، خصوصاً جامبي وتسنجور الذي استحوذ على مكانة رفيعة لدى الفرانكفونيين الذين أنشؤوا جامعة باسمه في الإسكندرية، وليس باسم كندي أو فرنسي، من ثم فإن الفرانكفونية اخترقت مجتمعنا بشكل رهيب وغير مسبوق، فالمحلات أسماؤها فرنسية والشوارع ووسائل الإعلام؛ لدرجة أنك حين تتجول في العاصمة دكار فتتخيل أنك في باريس أو مارسيليا.
هذا الانتشار الرهيب .. هل امتد إلى التعليم ومؤسساته؟
التعليم من أشد المجالات تأثرًا بالفرانكفونية ، حيث ينتشر في السنغال التعليم الملائكي أو العلماني ، ويشمل جميع المدارس الحكومية والخاصة، الذي تلعب فيه الفرنسية الدور الأكبر، وهو التعليم المعترف به لدى الدولة، أما التعليم الديني الإسلامي فلا تعترف به الدولة، ولا يُقدم له أي دعم، مستندين إلى أن الدستور ينص على أن السنغال دولة علمانية.
ثورة وغضب
ما موقف المسلمين من هذا التغييب الحكومي غير المسوّغ؟
لقد استمر الوضع السابق في العقود الخمسة الماضية، إلى أن ثارت الأغلبية المسلمة، وهددت الحكومة بأنها لن تدفع بأبنائها إلى المدارس إذا لم تدخل العربية والمواد الشرعية الإسلامية في هذه المدارس.
وهو ما أجبر الحكومة على الانصياع لمطالب الأغلبية المسلمة، غير أن الحكومة اشترطت حتى على المدارس الأهلية تدريس المنهج الرسمي الفرانكفوني حتى لو كانت هذه المدرسة إسلامية.
ولك أن تعرف الموقف المؤسف للدولة السنغالية من التعليم الديني لدى زيارة الرئيس السنغالي عبد الله واد للقاهرة، حيث عقد لقاء مع عديد من الطلاب السنغاليين الذين يدرسون في الأزهر، وطالبهم بالعودة للسنغال للعمل في مجال الزراعة، بدلاً من إضاعة أعمارهم في تعليم ديني لن يوفر لهم عملاً ولا مستوى معيشة مناسبًا.
وكذلك يجب أن تعرف أن يوم الجمعة هو يوم عمل في السنغال، أما يوما الإجازة الرسمية فهما السبت والأحد، حيث يحصل المسلمون على ساعتين راحة يوم الجمعة لأداء الصلاة؛ على أن يتم تأخير ميعاد الدوام من الثالثة إلى الخامسة لتعويض الساعتين اللتين يؤدون خلالها الصلاة.
صحوة إسلامية
لا شك أن هذا المد الفرانكفوني الكبير قد أثر على وضعية اللغة العربية في السنغال؟(3/195)
نعم كان تأثيره فظيعًا، فقد كانت العربية هي اللغة الأولى والرسمية في السنغال قبل الاستعمار الذي حاصرها ومنع انتشارها في السنغال لعقود طويلة، غير أن هناك إقبالاً كبيرًا عليها في الآونة الأخيرة، وعلى حفظ القرآن في الكتاتيب التي أُعيد افتتاحها، ونجحت في جعل ثلث الشباب السنغالي يقبلون على العربية والقرآن، بعد أن كان هذا الإقبال قد تراجع على إثر الدعاية السوداء بأن العربية والإسلام لا يُؤمّنان مستقبلاً، كما زعم الرئيس عبد الله واد لدى زياراته لإحدى المؤسسات الإسلامية، وزاد بالتهكم على الإسلام والقرآن.
وماذا عن الأوضاع الاقتصادية لمسلمي السنغال؟
شديدة الصعوبة ويعاني أغلبية المسلمين من الفقر والعوز والمرض، وتنتشر البطالة بين صفوفهم، وهو ما كانت المساعدات الدولية العربية والمسلمة تحاول أن تخفف من وطأته عليهم، ولكن هذه المشاكل لا تزال مستمرة وتلقي بظلال ثقيلة على المسلمين.
التنصير في السنغال
كل ما تقوله يوفر بيئة حاضنة للمنظمات التنصيرية التي تتخذ من هذه الأوضاع وسيلة لتحقيق أهدافها عبر غزو منظم.. فماذا عن التنصير؟
التنصير في السنغال لا يحتاج إلى غزو، فالمئات من المنظمات التنصيرية تعمل في السنغال على قدم وساق، ولا تجد هذه المنظمات أدنى صعوبة، فالأثرياء من أبناء المسلمين يذهبون إلى هذه المدارس لتلقي علومهم، وهناك إقبال على المستشفيات التي تحمل شعار الصليب الأحمر؛ في وقت لا توجد المستشفيات التي تحمل شعار الهلال الأحمر.
كما أن الأعياد المسيحية تحوّلت إلى أعياد رسمية، وليس عيدي الفطر والأضحى، وعلى الرغم من ذلك فإن إستراتيجية التنصير في السنغال تعتمد على إيجاد تباعد وهوة بين المسلم ودينه الحنيف، بحيث لا يلعب الدين دورًا في حياته، وهو ما يُعدّ أفضل لديها من أن يكون مسيحيًا.
كذلك ينتشر المنصرون بين القبائل الوثنية، فهم يفضلون استمرارها في عبادة الأصنام دون اعتناق الإسلام الذي يُعدّ الدين الأكثر اعتناقًا في أوساط الوثنيين.
في ظل هذا المد التنصيري ألا يُواجه هذا بعمل خيري إسلامي؟
الجمعيات الخيرية الإسلامية كانت تقوم بدور فاعل في السنغال نحو كفالة الأيتام وإنشاء المدارس والمستشفيات وإغاثة الملهوف وحفر الآبار، إلاّ أن هذا العمل قد تراجع في الآونة الأخيرة من أحداث سبتمبر، ولم يبق منه إلاّ اليسير، وأُصيبت معظم الجمعيات الإسلامية بالشلل، وأغلقت أبوابها باستثناء الندوة العالمية للشباب الإسلامي ولجنة مسلمي إفريقية.
تحدثت طويلاً عن سيطرة الاتجاه الفرانكفوني، غير أن الدول العربية والإسلامية ما زالت تحتفظ بعلاقات وثيقة مع نظام الحكم لديكم؟
الدول العربية والإسلامية مجتمعة تؤيد جميع الحكومات التي تعاقبت على السنغال منذ سنجور وعبده ضيوف ووصولاً إلى عبد الله واد، وتغدق عليها المساعدات التي لا تستفيد منها الأغلبية المسلمة، وكذلك منظمة المؤتمر الإسلامي التي حظيت السنغال باستضافة اجتماعين كبيرين لها في أقل من عقد واحد وهو أمر غير معهود؛ فضلاً عن أن السنغال كان مقررًا أن تستضيف كثيراً من اجتماعات المؤتمر الإسلامي في الفترة الأخيرة، غير أن تأخر بعض الأعمال الفنية قد حال دون عقده.
ويمكن أن نفسر هذا السعي من جانب الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي بالخوف أن تقع السنغال بالكامل في براثن الفرنسيين والأمريكان.
النفوذ الصهيوني في الغرب الإفريقي
تحدث مراقبون كثيرًا عن تحوّل داكار العاصمة السنغالية إلى مركز للنفوذ الصهيوني في الغرب الإفريقي .. كيف ترد على هذا القول؟
الوجود الصهيوني في السنغال قوي جدًا، وتمارس الأجهزة الاستخباراتية نشاطًا واسعًا، خصوصًا في المشاريع الكبيرة مثل الزراعة والمياه والإسكان وإنشاء المستشفيات، كما أن لهم دورًا بارزًا في الإعلام ولهم محطات إعلامية خاصة بهم، ناهيك عن النفوذ السياسي الكبير لهم في البلاد.
بعد كل هذه التطورات والأحداث .. كيف ترى مستقبل الإسلام في السنغال؟!
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) صدق الله العظيم، فعلى الرغم من كل المؤامرات والسيطرة الفرانكفونية فإن للإسلام مستقبلاً متميزًا في السنغال، وليس أدل على ذلك من إقبال الشباب على التعليم الديني، على الرغم من أن الدولة لا تعترف به، وكذلك الإقبال الرهيب على الكتاتيب وحفظ القرآن، وهو ما ينبئ بوجود أجيال قادرة على التصدي للمد الفرانكفوني الرهيب.
==============
هاجس الهوية وإشكاليات الفكر السياسي العربي...
قضايا الانتماء والتفاعل
عبد الرحمن حللي*
كان إحياء الهوية الاسلامية التي باتت مهددة من جانب التيارات الفكرية التي اجتاحت ديار المسلمين، الهدف الأساس من السعي لإقامة الحكم الإسلامي، فاتجهت الحركات الاسلامية الى التركيز على الهوية بدل الاجتهاد والاصلاح الذي بدأ قبل سقوط الخلافة وتوقف وتضاءل مع حدوث ما هو أهم وهو هوية المجتمع والدولة، فكان السعي سياسياً اجتماعياً في آن معاً، فقد جعل سقوط الخلافة المسلمين في مواجهة مع العالم، وظهر للمسلمين فجأة أنهم أمام تحول جذري لكيانهم السياسي والاجتماعي فكان رد الفعل الطبيعي عودة الى الذات، هذا المدخل جعل الفكر الاحيائي الاسلامي يقوم على مقولة الهوية، والتي برزت بالخصوص على الصعيدين الفكري والسياسي.
فمثلاً الدراسات الناقدة للحضارة الغربية أو المجلِّية لخصائص الحضارة الاسلامية كانت تدور في فلك الهوية، لذلك ظلت ثنائيات مثل الاسلام والغرب أسيرة ثنائية الاسلام والفكر ودار الاسلام ودار الحرب، ولم تفلح المقاربات في الوصول الى تجسير الهوة بما يخدم الهوية ذاتها أو الوعي بها، فضلاً عن تطوير الوعي السياسي أو الحضاري لمسيرة العالم، إذ أورثت القطيعة تلك تصوراً مغلقاً للهوية استبعد فيه البعد الانساني والفطري في الهوية الاسلامية والذي يتساوى فيه الجميع ومن خلاله يخاطب الانسان بالمبادئ والقيم الاسلامية، وحتى لم تستطع تلك الدراسات ان تستثمر ما هو مشترك من القيم لتقحيقها، إنما تجاذبت تلك القيم وحاولت إثبات الأسبقية فيها بغض النظر عن الفاعلية في تحقيقها، فإشكالية المرجعية كانت واحدة من هواجس الهوية المبحوث عنها في كل شيء.(3/196)
وفي الجانب السياسي كان الهدف من الوصول الى الحكم هو تحقيق الهوية التي تماهت مع العقيدة ومستلزماتها، فظهرت مشروطات عقدية لم تكن معروفة من قبل كالولاء والبراء، والذي جعل الحراك السياسي في المجتمعات الاسلامية مقيداً بمقولة الإيمان والكفر وهو حكم لا يقتصر على الأفراد بل يعم الدولة وأحياناً المجتمع، حتى ان التعاطي السياسي بتأويل كان كافياً لدى البعض للتصنيف العقدي، ولئن كانت هذه رؤية واضحة لدى المتطرفين من الاسلاميين الذين يستحلون دماء السياسيين على قاعدتها، فإن رؤية معظم الاسلاميين في مقاربة العمل السياسي السلمي قامت على مبدأ المصلحة أو التدرج وتقديم الأولويات، أما التنظير السياسي الاسلامي فلا يزال خطابه ينقصه الكثير من الوضوح والتماسك تجاه الرؤية السياسية المعاصرة، فهو من جهة مشغول بهاجسي الهوية والشرعية ببعديهما المطلق، وكلاهما يصطدمان مع آليات العمل السياسي المعاصر المحلي والدولي، لكن ذلك لا يعكس عجزاً اسلامياً في التعامل العملي مع تلك الاشكالية، فقد أثبت التجارب قدرة الاسلاميين على التكيف مع الشروط السياسية المعاصرة بل والنجاح في تحقيق مصالح اسلامية بعيدة المدى (النموذج التركي)، وتحقيق أكبر قدر ممكن من القيم الاسلامية التي فشلت الرؤى الاسلامية المتشددة في تحقيق بعضها.
هاجس الهوية الذي التصق بفكرة الخلافة بعد سقوطها أورث رؤية أحادية لنظامها وتأويلاً مشتركاً للتاريخ يحفظ توازن النظرية السياسية، ولم يكن ممكناً طرح رؤية نقدية لهذا التصور طالما أصبح يشكل مرجعية الحركة السياسية الاسلامية ونظامها الأساسي، فكان أي طرح نقدي يعني انشقاقاً سياسياً على أرض الواقع، وهذه احدى خلفيات الانشقاقات التي عرفتها الحركات الاسلامية المعاصرة، تلك الانشقاقات كانت تتوزع بتدرج على صعيدين: الأول ينزع بالرؤية السياسية الى الزوايا الأضيق الملتصقة بالهوية والمماهية بين جميع مفردات العملية السياسية: العقيدة والخلافة والحاكمية والشريعة والجهاد من أجلها...، كل تلك المفردات كانت كلاً لا ينفصل، وهي تكون أو لا تكون، فتمت المفاصلة بين المؤمن بهذه الرؤية وبين المجتمع الجاهلي الذي لا يجسدها، أما الصعيد الثاني من الانشقاقات فكان في الاتجاه المضاد الموسع من معنى الهوية والفاصل بينها وبين النظر السياسي وتوسع هذا الانشقاق احياناً ليتماهى مع العلمانية الفاصلة بين الدين والدولة.
ان العنصر الأهم الذي فعَّل هذا الجدل هو المتغيرات القسرية التي جدَّت في حياة المسلمين في جميع ميادينها، ولم يكن هناك بد من التعاطي معها، فالتعاطي الايجابي كان يفترض رؤية مرنة تتفهم تلك التحولات المقترنة بتحولات عالمية لا قبل للمسلمين بها، وهم لم يصحوا بعد من صدمة تحول مجرى التاريخ من مركزيتهم الى المركزية الغربية، أما التعاطي السلبي مع تلك التغيرات ورفضها فكان يعني الاصطدام والعنف والانزواء لأن حركة التاريخ لا تسير وفق ارادات الأفراد والامنيات إنما وفق سنن كونية، ومن لم يفهم هذه السنن ظن ان التغيير ممكن بجهود فئة محددة ومن خلال تغيير نظام حكم في بلد معين أو إقامة نظام آخر على أسس اسلامية.
ان انشغال الفكر الاسلامي بهاجس الهوية جعل التنظير السياسي الاسلامي يغفل عن الاجابة عن أسئلة كثيرة فرضها سقوط الخلافة والتحولات العالمية، وكان يمكن لهذه الأسئلة ان تجد إجابات متقدمة لو استمر فكر الاصلاح الذي بدأ في القرن التاسع عشر، وأبرز علامة على هذه الاسئلة طبيعة تصور العالم المعاصر ومقايسته الى العالم القديم، وبناء الفقه السياسي المعاصر استناداً الى معطيات واقع الفقه القديم، على رغم الاختلاف الشاسع في طبيعة وبنية كل، مع غفلة عن حركية الفقه القديم في التعامل مع المتغيرات التي كانت تطرأ، ولعل أبسط مثال يمكن الاستشهاد به اليوم مفهوم الدولة الاسلامية ذاته، فهل تكون الدولة اسلامية بتاريخية الأرض أم بقوانين الحكم أم بدين الحاكم أو المحكوم أم بدستور البلاد أم بجميع ذلك؟ تلك أسئلة لم تكن مطروحة في ظل الخلافة، إذ كانت كل تلك العناصر مجتمعة عملياً، أما اليوم فكلها متشتتة، وبالتالي فنحن أمام مجتمعات إسلامية تحكمها دولة وقوانين علمانية، كما أننا بصدد أقليات إسلامية في مجتمعات غير إسلامية تحكمها أنظمة علمانية أيضاً، وقد يتاح للمسلم في الحال الثانية إقامة شعائر دينه وتحقيق القيم الاسلامية بطريقة لا تتاح في الحال الأولى، ففي أي من الحالين ستعتبر الدولة الاسلامية؟ وبالتالي مفهوم الأمة والجماعة هل سيكون مقيداً بحدود سياسية أو جغرافية؟ أسئلة كثيرة في العمق لم يسمح الزمن بالإجابة عنها نظراً الى تسارع متغيراته، لكن اللافت ان الاحكام المطلقة على العالم لا تزال مستمرة في وقت يعيش أضعاف عدد المسلمين في العالم العربي في ظل حكومات وبين مجتمعات لا نصفها بالإسلامية.
ان مفهوم الدولة الحديثة التي أعقبت الاستعمار لا يمكن بحال مقايسته الى شروط دار الإسلام والخلافة، ولا بد من مقاربة جديدة للمفهوم المعاصر للدولة وآلية التعاطي السياسي الاسلامي معها، وهذا لا يعني مفاضلة بين الحاضر والماضي، إنما لا يصح منهجياً تصور الدولة الحديث على أنها استمرار للماضي والتعاطي معها على هذا الأساس، ثم الحكم على العلاقات الدولية بناء عليه، وهذا لا يقتصر على التصور السياسي بل يستتبعه الكثير من الأحكام التعبدية والاجتماعية والاقتصادية، فمثلاً هناك من العلماء اليوم من لا يوجب صلاة الجمعة على المسلمين في الغرب لأن ديارهم ليست ديار إسلام، وهذا يستتبع حكماً آخر هو وجوب الهجرة من تلك الديار، في الوقت الذي يوفد فيه المسلمون نخبة أبنائهم الى العرب لاستيراد العلم والطب وتطوير مجتمعاتهم... أليست مفارقة حادة
================
صراع الهويات.. وخصائص الهوية الإسلامية ...
الاربعاء:12/05/2004
(الشبكة الإسلامية)
قضية الهوية قضية محورية، أزعجت كل الناس، إذ إن كل جماعة أو أمة تعوزها الهوية المتميزة ليمكنها المعيشة والمحافظة على وجودها؛ فالهوية هي التي تحفظ سياج الشخصية، وبدونها يتحول الإنسان إلى كائن تافه فارغ غافل تابع مقلد؛ لأن للهوية علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية، وبالتالي تحديد سمات شخصيته فتجعله إنسانًا ذا قيمة ولحياته معنى وغاية.
والهوية معناها: تعريف الإنسان نفسه فكرًا وثقافة وأسلوب حياة.. أو هي مجموعة الأوصاف والسلوكيات التي تميز الشخص عن غيره.
وكما أن للإنسان هوية كذلك للمجتمع والأمم هوية.. فهناك مجتمع إسلامي، ومجتمع علماني، وهناك النصراني، وأيضا الشيوعي والرأسمالي.. ولكل منها مميزاتها وقيمها ومبادؤها.
فإذا توافقت هوية الفرد مع هوية مجتمعه كان الأمن والراحة والإحساس بالانتماء، وإذا تصادمت الهويات كانت الأزمة والاغتراب. ومن هنا يمكنك فهم معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا؛ فَطُوبىَ لِلْغُرَبَاءِ"[مسلم].
هذه الهوية هي التي تتبناها النفس، وتعتز بالانتساب إليها، والانتماء لها، والانتصار لها، والموالاة والمعاداة على أساسها، فبها تتحدد شخصية المنتمى وسلوكه، وعلى أساسها يفاضل بين البدائل.
وبالنسبة للمجتمع تعتبر الحصن الذي يتحصن به أبناؤه، والنسيج الضام، والمادة اللاصقة بين لبناته، فإذا فقدت تشتت المجتمع، وتنازعته المنتاقضات.(3/197)
ولا شك أن مقومات الهوية هي العناصر التي تجتمع عليها الأمة بمختلف أقطارها من وحدة عقيدة، ووحدة تاريخ، ووحدة اللغة، والموقع الجغرافي المتميز المتماسك، وأعظمها لا شك هي العقيدة والتي يمكن أن يذوب فيها بقية العناصر.
والهوية الإسلامية في الحقيقة هي الانتماء إلى الله ورسوله وإلى دين الإسلام وعقيدة التوحيد التي أكمل الله لنا بها الدين وأتم علينا بها النعمة، وجعلنا بها الأمة الوسط وخير أمة أخرجت للناس، وصبغنا بفضلها بخير صبغة (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)[البقرة:138]
خصائص الهوية الإسلامية:
1 ـ أنها هوية العقيدة: فينضوي تحتها كل مسلم أيًّا كان مكانه أو شكله أو لغته؛ فلأهل الإسلام مميزاتهم الخاصة بهم، والتي تجعلهم كلهم تحت مسمى واحد ومعتقد واحد هو سماكم المسلمين من قبل. (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92].
أنها لازمة لكل مسلم: لا يجوز لمسلم الخروج عنها، فهي فرض لازم (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[الأعراف:158]. " وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ يَهُودِيّ وَلاَ نَصْرَانِيّ، ثُمّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ".
أنها متميزة عمَّا عداها: وهذا التميز هو الذي يعطي كل قوم مقومات بقائهم، ويحفظ عليهم ثقافتهم وإيدلوجيتهم، فلا يذوبون في غيرهم ولذا شمل هذا التميز كل جوانب الحياة بداية من العقيدة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[الكافرون:6]، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)[الفاتحة:6، 7]. ونهاية بالشكل الظاهر في الملبس والهيئة " إياكم وزي الأعاجم"، ومرورا بكل أمور الحياة العملية "ليس منا من عمل بسنة غيرنا".[الطبراني في الجامع الصغير]. (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[يونس:41].
أنها تستوعب حياة المسلم كلها وكل مظاهر شخصيته: فهي تامة الموضوع محددة المعالم تحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وغايته في الحياة: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162، 163].
هي مصدر العزة والكرامة: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)[الأنبياء:10]، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)[المنافقون:8]، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)[فاطر:10]، (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)[النساء:139]. وقال عمر رضي الله عنه: إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله.
تربط بين أبنائها برباط وثيق: فتجعل الولاء بين أتباعها والمحبة بين أصحابها وتربط بينهم برباط الأخوة والمحبة والنصرة والموالاة، فهم جسد واحد (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]، (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)[آل عمران:103]، (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)[الحجرات:11]، "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. "المسلم أخو المسلم".
صراع الهويات
لقد أدركت كل الأمم أن قضية الهوية قضية محورية، وأن من لم ينتبه إليها سيذوب حتمًا في ثقافة غيره، وستتلاشى مميزاته الخاصة ليكون ذيلاً أو ذنبًا.. وأعداء الأمة لم ولن يتركوها على هويتها الإسلامية وعقيدتها التوحيدية وثقافتها الإيمانية،بل يكيدون الليل والنهار، ليزحزحونا عنها ويطمسوها عنا قال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)[البقرة:217] (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[البقرة:120] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)[النساء:89] (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)[البقرة:109]
والذي ينبغي أن ينتبه له أهل الإسلام أن الآخرون يحرصون على هوياتهم مع اجتهادهم في تذويب هوية المسلمين وطمس معالمها والنأي بهم بعيدا عن دينهم حتى لا يعود الإسلام إلى الساحة مرة أخرى وهذا واضح من خلال تصريحاته القوم وكلامهم:
في آخر عام 1967وفي محاضرة في جامعة برنستون الأمريكية صرح أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل حينها: " يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة ، وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل ، ولذا كان من أول واجباتنا أن نبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي".
وفي صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 18\3\78 : " إن على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب ، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاما، ويجب أن يبقى الإسلام بعيدا عن المعركة إلى الأبد ،ولهذا يجب ألا نغفل لحظة واجدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش فإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا" اهـ.
وفي كتابه انتهز الفرصة" يقول الرئيس الأمريكي نيكسون : إننا لا نخشى الضربة النووية ولكن نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب". وقال أيضا : " إن العالم الإسلامي يشكل واحدا من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين".
وقال إيوجين روستو مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون لشئون الشرق الأوسط: "إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي ، فلسفته ، وعقيدته ونظامه ،وذلك يجعلها تقف معادية للعلام الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي.
وقد صرح مسؤول في الخارجية الفرنسية من فترة بـ: "أن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدًا مباشرًا عنيفًا هو الخطر الإسلامي... ".
اهتمام كل أمة بهويتها
الأمم التي تريد أن تبقى هي التي تحافظ على هويتها، ولذلك لا عجب أن تحاول كل دولة أو أمة أن تصون لأتباعها هويتهم وتحميهم عن غزو الثقافات الأخرى لثقافتهم.. فعندما رأى الفرنسيون أن اتفاقية الجات تؤدي إلى دخول المواد الثقافية الأمريكية بمعدلات كبيرة لفرنسا مما يشكل تهديدا صارخا لهويتهم القومية ، رفضوا التوقيع على الجزء الثقافي من الاتفاقية وطالبوا بتخفيض تلك المعدلات.(3/198)
وأما الدولة اللقيطة فحدث ولا حرج عن تمسكها بهويتها، فهي لم تقم إلا على أساس الدين اليهودي، وتحمل اسم نبي الله يعقوب "إسرائيل"، وليس لها دستور لأن دستورها التوراة ، ويتشبث اليهود بتعاليمها في السياسة والاجتماع وحياة الأفراد أو هكذا يظهرون، وقد أحيوا اللغة العبرية التي انقرضت من ألفي سنة لتكون لغتهم الخاصة ولغة العلم عندهم .
يقول "أدولف كريمر" اليهودي: " جنسيتنا هي دين آبائنا ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية أخرى"
وعندما قال رئيس وزراء إحدى الدول العربية في ندوة في جامعة تل أبيب: "إننا في (بلدنا) نفرق بين الدين والقومية ، ولا نقبل أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية " رد عليه ديفيد فيثال قائلا : "إنكم أحرار في أن تفصلوا بين الدين والدولة، ولكننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط".
وأعجب من هذا أن يقوم الهندوس في بلاد الهند بمنع بيع الزهور في يوم عيد الحب " فالنتاين" وحرق المحلات التي تبيعه لأن ذلك ليس من الهندوسية ويحارب الثقافة الهندية.
وهذا كله إن دل فإنما يدل على مدى محافظة كل أمة على هوية أبنائها وحمايتهم من السقوط في هوة الانبهار بثقافات الآخرين .. فمتى نهتم نحن لهذا ونحوط أبناء أمتنا ونحميهم من الوقوع في هذه الحمأة..؟!
=============
درس فلسطيني في الهوية
السبت :10/08/2002
(الشبكة الإسلامية) القاهرة ـ ممدوح الشيخ
قبل قليل من إعلان فوزه بجائزة سلطان العويس أصدر المفكر العربي الإسلامي المرموق الدكتور عبد الوهاب المسيري عملا مهما هو كتابه " فلسطينية كانت ولم تزل : الموضوعات الكامنة والمتواترة في شعر المقاومة الفلسطيني " ، والكتاب يعيد مؤلفه إلى تخصصه الأكاديمي الأصلي كأستاذ للأدب ، بعد أن شغلته لما يقرب من عشرين عاما موسوعته عن الصهيونية . والكتاب يحمل أكثر من رسالة ينبغي التوقف عندها ، فمؤلفه أصدره في طبعة فاخرة على نفقته الخاصة وقرر أن يخصص عائدة بالكامل لدعم الانتفاضة الفلسطينية .
وعلى مستوى المضمون يثير الكتاب قضية شديدة الأهمية هي علاقة اللغة بالهوية ، والعبارة التي لفتت نظري في الكتاب هي قوله : " واهتمام الفلسطينيين بالبعد القومي في نضالهم ضد المحتل يفسر ـ ولا شك ـ ظاهرة قد تبدو لأول وهلة غريبة ، هي أن معظم شعر المقاومة الفلسطيني قد كتب بالفصحى وليس بإحدى العاميات الفلسطينية المحلية " . والملاحظة جديرة بالتأمل ، وبخاصة عندما يسجلها مفكر أعطى عمره للصراع العربي الصهيوني بما يعنيه ذلك من ضرورة إحرازه دراية عميقة بكل جوانبه ، وهو فوق ذلك ناقد متخصص يرى حالة تشكل استثناء في تاريخ أمثال هذه الظاهرة .
فالأدب الذي يستهدف تحريك الجماهير من الطبيعي أن يقترب منهم وأن يستخدم لغة قادرة على التأثير فيهم . وأدب المقاومة الفلسطيني بهذا المعنى يقوم بمهمتين تاريخيتين: أولاهما: حشد الجماهير ، وثانيهما: تمتين الروابط بين الفلسطينيين وهويتهم .
والفصحى ، كوشيجة تربط فلسطين بمحيطها العربي ، تؤكد علاقة الجزء والكل ، وتعطي المقاومة بعدًا لا غنى لها عنه ، وتعيد صياغة ما شوهته السياسة . وهذا البعد يبدو أن إدراكه لا يقتصر على مبدع شعر المقاومة بل يشمل المتلقي بالقدر نفسه .
وبحس المفكر يضع المسيري الأمر في سياقه الأعم مؤكدًا أن من يحاولون تشجيع اللهجات العامية العربية المختلفة ويعتمدون المبالغ الطائلة لوضع معاجم وقواعد لها يساهمون في ترسيخ واقع التجزئة ، كما أنه يرصد سنة من سنن الصراع هي أن الهزيمة تبدأ من الداخل ، وأن ميدان الهوية هو الذي يحسم الصراع .
ورغم كثرة ما كتب عن أدب المقاومة الفلسطيني فلم يستلفت نظر أحد من قبل هذه الظاهرة التي هي بالفعل غريبة ، ما لم توضع في سياق صراع الهوية ، فتكتسب معناها . وربما كان مما يعيننا على استيعاب مغزى هذا الدرس أن نتأمل حالة أدبنا العربي وحالة الاستلاب و الاغتراب التي يمر بها ، حتى إن النقاد أنفسهم يتحدثون عن هذا "الأدب العربي" الذي لا تهزه دماء الشهداء .
==============
المسلمون في بريطانيا .. الهوية والدولة
الثلاثاء:06/08/2002
(الشبكة الإسلامية) دمشق ـ عبد الرحمن الحاج
ـ بنية الدولة البريطانية سمحت بإنشاء أرضية للجاليات الإسلامية البريطانية تساعدها على المحافظة على عاداتها وشعائرها وهويتها.
ـ الحكومة البريطانية تعمل على إعادة تحديد الجنسية الإنكليزية على قاعدة القيم.
ـــــــــــــ
ضمن سياق سلسلة المحاضرات والندوات حول "الجاليات الإسلامية في أوروبا الغربية: مشكلات التأقلم والاندماج" التي تقيمها كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية في بيروت ألقى الدكتور تيم نيبلوك من جامعة اكستر (انجلترا) محاضرة بعنوان "المسلمون في بريطانيا: الشخصية المجتمعية والدولة البريطانية" في قاعة المحاضرات في قسم المكتبات ومراكز التوثيق، بحضور حشد من رجال الفكر والسياسة والإعلام وشخصيات اجتماعية وفي مقدمتهم السفير البريطاني في لبنان، قدم لها توفيق حوري رئيس مجلس أمناء المركز الإسلامي للتربية.
قسّم نيبلوك علاقة بريطانيا مع العالم الإسلامي إلى ثلاث حقب:
- الحقبة الأولى من بداية القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن الثامن عشر، معتبراً أنها مرحلة القوة الملاحية عند المسلمين، الذين استطاعوا المس مباشرة بالملاحة الإنكليزية ووصلوا حتى شواطئ بريطانيا ، في ظل علاقة غير متكافئة يميل فيها الميزان العسكري والتجاري والثقافي والاجتماعي لمصلحة المسلمين، إلى حد أن البريطانيين الذين كان يتم أسرهم كانوا يعتنقون الإسلام ويُعتبرون من وجهة نظر المؤسسات المسيحية البريطانية من المرتدين. وعندما حاول الملك شارل الثاني إنقاذهم بواسطة الكابتن هاملتون في الجزائر رفضوا العودة إلى بريطانيا ، وفضلوا البقاء حيث هم كمسلمين.
- الحقبة الثانية بدأت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر مع التوسع الاستعماري البريطاني، وقد شكل مرحلة سلبية في العلاقات ؛ لأن متطلبات الحكم والسيطرة الإمبريالية شجعت على ازدراء الحضارة الإسلامية ، وعلى تصويرها كحضارة غير عقلانية وصارمة وغير عصرية ، مع محاولة استعلاء عليها من قبل الجهة الحاكمة•
- الحقبة الثالثة وهي الحاضرة ، حيث انتهت السيطرة الاستعمارية، في حين أن العلاقة مع المسلمين صارت مسألة مركزية للمجتمع الإنكليزي بعدما زاد حجم الوجود الإسلامي في بريطانيا، صار الأمر موضع إعادة دراسة للعلاقات بين الجميع بعد أحداث 11 أيلول بصورة خاصة•
تطرق تيم نيبلوك إلى القوانين البريطانية التي تحرّم المس بالمقدسات الدينية، ومرسوم العلاقات العنصرية ، والتمييز العنصري، وكيفية تعاطي المسلمين معها وإفادتهم أو عدم إفادتهم منها، وفقاً للمشكلات التي يتعرضون لها، مركزاً على أربع مسائل مهمة، هي:
أولاً: مفهوم الجنسية البريطانية : الجنسية الإنكليزية محدودة القدرة كوسيلة للاندماج في المجتمع الإنكليزي لحامليها، ومجرد حمل جواز السفر البريطاني لا يعني الحصول على الشعور بالمواطنة الكاملة، ولذا تعمل الحكومة البريطانية على إعادة تحديد الجنسية الإنكليزية على قاعدة القيم، بعد بروز دعوات الاستقلال الكامل في اسكتلندا وويلز.
ثانياً: التمييز العرقي والتمييز الديني: تتم حالياً مناقشة إمكانية العمل بقانون عدم المس بالمقدسات الدينية ليشمل الديانات الأخرى إلى جانب المسيحية.(3/199)
ثالثاً: الظاهرة الإسلامية، حيث يعتبر البعض أن الفجوة بين الجماعات المختلفة هي نتيجة لسياسة الدولة.
رابعاً: وضع المسلمين الاجتماعي (الطبقي) ومشكلة الاندماج في المجتمع العام.
واعتبر نيبلوك في الخلاصة أن بنية الدولة البريطانية سمحت بإنشاء أرضية للجاليات الإسلامية البريطانية تساعدها على المحافظة على عاداتها وشعائرها وهويتها.
=============
أزمة الهوية الإسلامية في البلدان المغاربية
السبت :29/06/2002
(الشبكة الإسلامية) - الرباط
تتعدد الأخطار المحدقة بالهوية الإسلامية في منطقة المغرب العربي لأسباب متنوعة، ويأتي على رأس الأخطار الخارجية ذاك المتمثل في الغزو الثقافي الهادف إلى تغيير منظومة القيم الأصيلة، فيما تبقى الأدهى والأمر هي الأخطار الداخلية التي يشكلها وكلاء الاستعمار من أبناء البلاد.
الأخطار الخارجية
الباحث الإسلامي محمد يتيم، عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح ورئيس تحرير جريدة " التجديد" المغربية، يقول في هذا الصدد : إن الأخطار الخارجية، ثقافية أو لغوية أو دينية أو سواها، كانت دائما موجودة، وإن وجود تيارات فكرية أخرى، أو منظومات حضارية أخرى، هي سنة من سنن الوجود الاجتماعي البشري، وهو ما جاء ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى : "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا" وهو تأكيد واضح على وجود مخاطر خارجية تتهدد الوجود الحضاري الإسلامي فالعالم الإسلامي كان دائما عالمًا مفتوحاً.
وإذا رجعنا إلى التجربة الإسلامية الأولى في مكة المكرمة، نلاحظ أن هذا الدين الحنيف نزل في جو معادٍ، كان المشركون يعادون الدعوة، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة حيث وجد اليهود الذين عقد معهم عهدا سرعان ما خانوه، ,إذا رجعنا إلى غزوة الخندق وجدنا أنها مؤامرة عالمية، في ذلك الزمان، تحالف فيها المشركون مع اليهود، ثم تحالف معهم المنافقون الذين ينتسبون للإسلام ظاهريا لكن قلوبهم مع أعداء الأمة فالأخطار كانت دائما موجودة، والآخر كان دائما موجودا.
صحيح أن الإسلام خرج من شبه الجزيرة العربية، لكنه لم يكن دينا عربيا فقط، وإنما هو لجميع الأجناس التي دخلته بثقافاتها، فتجمعت تحت لوائه الثقافة الفارسية، والثقافة الرومانية، والثقافة اليونانية بفلسفتها وبتصوراتها، ومن خلال هؤلاء وأولئك دخلت منظومات دينية أخرى من وثنية ومجوسية ويهودية ونصرانية، لكن هذا كله وجد ذاتا مسلمة قوية ومحصنة، صحيح أن أشكالا من التأثر بهذه المنظومات كانت تظهر من حين لآخر في الحياة الثقافية، وحتى في الحياة السياسية، لكن رغم ذلك، نجد أن الإسلام، حيث كان يشكل قوة حضارية، كانت له قدرة على الاستيعاب، لأن المسلمين كانوا قادرين على احتواء كل الأخطار الخارجية.
والفرق الآن هو أننا نوجد في مرحلة حضارية، وفي مرحلة ثقافية مغايرة، تشكو فيها ذواتنا من اهتراء من الداخل، ولا تقوى على المقاومة، لذلك فإن هذه الأخطار يبدو أثرها واضحا في جسمنا الحضاري وفي جسمنا الثقافي.
ولا يمكن أن نتحدث عن أثر التحول من وضع الريادة الحضارية إلى وضع التبعية الحضارية، دون أن نتحدث عن عامل الاستعمار الذي هيمن على هذه المنطقة ردحا من الزمن، يختلف باختلاف دولها، وهذا الاستعمار علينا أن نفهمه في إطار صيرورة معينة، فهو إنما جاء نتيجة لما يمكن اعتباره بالوهن الذي أصاب الذات الحضارية الإسلامية بهذه الديار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأَكَلة إلى قصعتها. قالوا : أَمِنْ قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : بل إنكم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا وما الوهن يا رسول الله؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت".
فالظاهرة الاستعمارية جاءت نتيجة تغيرات وقعت في البنية الإيمانية والنفسية والفكرية لأبناء هذه المنطقة، كما وقعت في اهتمامات الإنسان المسلم، الذي لم يعد ذلك المرتبط بالآخرة، المستعد للجهاد وللتضحية في سبيل الله، وغير المرتبط بمتاع الدنيا وزخرفتها، وإنما أصبح إنسانا دنيويا استهلاكيا، همه إرضاء نزواته الشخصية، فما عاد يعيش لقضية الأمة، وإنما أصبح يعيش لذاته الصغيرة، لذلك وقع ضعف وخلل، فتفككت القوة الروحية، وضعفت الفكرة الإسلامية، ووقعت انحرافات فكرية وسلوكية جماعية وفردية، وبالتالي تفككت شبكة العلاقات داخل المجتمع الإسلامي، كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي، وظهرت فينا القابلية للاستعمار.
في هذه الأجواء جاء الاستعمار نتيجة لما سبق، فقام بتفكيك ما تبقى من منظومة القيم داخل المجتمعات الإسلامية، فكك المؤسسة التقليدية وفكك التعليم، وفكك النظام السياسي، وكانت عملية التفكيك منهجية طالت جميع مجالات الحياة، وبدأ الاستعمار يرسي مؤسساته في الاقتصاد، فظهر النظام الربوي مثلا، وفي مجال التعليم جاءت المدرسة الاستعمارية لإلغاء المدرسة الإسلامية، التي كانت منتشرة في مختلف دول المنطقة.
ويقول هذا الباحث : إن الاستعمار العسكري والاقتصادي، إنما كانت غايتهما تحقيق الاستعمار الثقافي، الكفيل بتغيير منظومة القيم الأصلية، لتيسير التبعية، فنشأ فينا، وهذا هو الأخطر، ناس يتكلمون بألسنتنا، ويسمون بأسمائنا، لكن قلوبهم قلوب الأعاجم، وأصبح بيننا ناس يدافعون عن الاستعمار، في وجه الدعوة لتطبيق الشريعة.
وهكذا فإن ثمار الاستعمار تمثلت في النخبة التي تولت الحكم في المنطقة، ليس الحكم السياسي بمعناه الضيق، وإنما بمفهومه الواسع الذي يشمل السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية ، هذه النخب تشكلت تحت عين الغرب وبرعايته، وبالتالي فبعد خروج الغرب من الباب، عاد من النافذة عبر هؤلاء الذين نسميهم وكلاء الاستعمار داخل دول المغرب العربي.
فالنخبة الفرنكفونية تجد نفسها اليوم، ربما دون وعي، موالية للغرب فكريا وثقافيا، وتدافع عن قيمه، وهذا من أخطر آثار الغزو، لأنه في تغلغله تسلح بالمدرسة، التي ما يزال الصراع قائما بشأنها مع المستعمر إلى اليوم، فلا يزال وكلاء الاستعمار من أبناء المنطقة، يصرون على أن تبقى الهيمنة للغة الفرنسية في مناهج التعليم وفي وسائل الإعلام وفي الاقتصاد الوطني، وكل المحاولات التي تم بذلها لتعريب الحياة العامة في دول المغرب العربي، ظلت تصطدم بالتدخل الفرنسي السافر من جهة، وبوكلاء الاستعمار من جهة أخرى.
الأخطار الداخلية
ورغم ما يبدو من فداحة الأخطار الخارجية، فإن أول ما يتهدد الهوية الإسلامية في البلدان المغاربية، هي الأخطار الداخلية بالأساس، فحينما تكون ذواتنا قوية ومحصنة، فإن الأخطار الخارجية سيبقى أثرها محدودا، أما عندما نفتقد الحصانة الكافية لمقاومة الأخطار الخارجية فإننا نصبح مجرد قصبة في مهب الريح.
فالمشكل الأساسي ليس في الأخطار الخارجية، وإنما في ذواتنا نحن، وهل هي صلبة كالنخلة التي تأتيها العواصف العاتية فلا تحركها، المشكل هو في دواخلنا، مصداقا لقوله تعالى: " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم : أنى هذا قل هو من عند أنفسكم".
فحينما تكون ذواتنا غير محصنة، وحينما لا نكون مهيئين لنتفاعل مع الثقافات والتيارات الخارجية، فإننا نكون عرضة لكل الآفات.(3/200)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحركة الوطنية نفسها لم تكن في مستوى المسؤولية التاريخية، فالمدرسة الفرنسية في المغرب العربي لم تنجح فقط بسبب الدعم اللامحدود من الدولة الفرنسية، ولكن أيضا لتوفرها على مقومات المعاصرة، بينما نجد أن الحركة الوطنية، في مواجهة الغزو الثقافي الأجنبي، وقفت عند خطاب المحافظة على الهوية، بيد أن الهوية ليست شيئا محنطًا، ولكن ينبغي أن تكون شيئا فاعلا ومتفتحا وقويا، وبالتالي لا بد أن تستجيب لمتطلبات العصر، خاصة في المجالات الفكرية والعلمية والاقتصادية وهو ما لم يحدث للأسف.
ويستبعد محمد يتيم إدراج التطرف الديني ضمن الأخطار التي يمكن أن تهدد الهوية الإسلامية في البلدان المغاربية، مشيراً إلى أن الهوية إذا كانت مبنية على أسس راسخة، لا يمكن أن نخاف عليها من أي تطرف، وموضحا أن التطرف الذي يوصف بـ" الديني" هو في واقع الأمر مسألة اجتماعية وظاهرة سياسية.
وعموماً فإن التطرف، دينياً كان أو سياسيًا أو عرقيًا، لا يشكل خطرا إلا حين يتحول إلى عنف، أي حين يتحول إلى حركة مادية رافضة لوجود الآخر، ومطالبة بإقصائه، وما دام مجرد خطاب نظري، فلا يشكل خطرا حقيقيا على الهوية الإسلامية، لأن التاريخ يصفي الحركات المتطرفة، وقد ظهرت في التاريخ الإسلامي حركات متطرفة، نظريا وعمليا، ولم تهدد هذه الهوية.
إضافة إلى أنه لا يمكن للتطرف أن يتحول إلى عنف إلا إذا سدت في وجه الناس سبل التعبير، إلا إذا كان هناك استبداد، وبالتالي فالخطر ليس في التطرف الديني، أو السياسي أو العرقي، وإنما هو في التطرف الاستبدادي فإذا وجدت هناك أنظمة استبدادية تسد جميع المنافذ، فإن التطرف يكون تعبيرا سياسيا أكثر منه تعبيرا دينيا.
والتطرف الديني، بالمعنى المتداول، موجود لدى أشخاص لديهم فهم منغلق للإسلام، يتغذى على أوضاع مأزومة، ومتى تغيرت هذه الأوضاع من الناحية الاقتصادية والسياسية، فلا يمكن لهذا التطرف أن يعيش.
ومن المستبعد أن يستسلم المغاربة لأي نوع من أنواع التطرف لأنهم على امتداد التاريخ كانوا ميالين إلى الوسطية والاعتدال، وكثير من الحركات الإسلامية المتطرفة التي ظهرت في المشرق لم يظهر لها أثر في المغرب، أما ظاهرة العنف التي تجتاح الجزائر، فلم تنجم عن التطرف الديني كما يروج البعض، وإنما جاءت ردا على الانقلاب العسكري على الديمقراطية، لمنع الجبهة الإسلامية للإنقاذ من استلام الحكم، أي أنها جاءت ردا على قمع إرادة الشعب الجزائري التي عبر عنها في صناديق الاقتراع.
ويرفض هذا الباحث الإسلامي، بأي شكل من الأشكال، أن يدرج الانتماء العرقي ضمن الأخطار التي تواجه الهوية الإسلامية في المغرب العربي، مؤكدا أن الأمازيغيين متشبثون بالإسلام قدر تشبث العرب به، وأن كثيرا من أعلام الحركة الإسلامية في المنطقة هم أمازيغيون.
ولمواجهة الأخطار المحدقة بالبلاد الإسلامية، يدعو محمد يتيم إلى قيام جبهة وطنية لحماية الهوية الإسلامية، موضحا أن لا خوف على الهوية الإسلامية في المغرب، لأنها هوية متأصلة، ومعتقدا أن هذه الأخطار المحدقة هي أخطا
==============
المرأة الفلسطينية في الخط الأخضر حارسة بوابة الهوية
الخميس :13/06/2002
(الشبكة الإسلامية) القاهرة ـ نور الهدى سعد
الفلسطينيون لا يحاربون على الجبهات العسكرية فقط، فهناك ساحات معارك كثيرة تتكامل جميعها لتحقق هدف النصر إن شاء الله، فالاعتماد على الذات اقتصاديا معركة تحد يتحقق معها الاستقلال الاقتصادي الذي يغني الشعب الفلسطيني عن التعامل مع العدو بيعا وشراء وتجارة.
والحفاظ على الهوية الإسلامية معركة أخرى في مواجهة مخطط التهويد، الذي يجري في أرض الإسراء على قدم وساق، هذه المعركة تخوضها المرأة الفلسطينية بشموخ، ووعي، وتخطيط، وذكاء، وإصرار، مما يؤكد أن البيت الفلسطيني سلاح ماض، وحسبه شرفا أنه مزرعة الاستشهاديين والاستشهاديات الأبرار.
والمرأة في الخط الأخضر أو ما يسمي بمناطق عرب 48 أكثر تفاعلا ونشاطا في معركة الهوية لقربها المباشر من العدو، ولتفرغها النسبي الذي فرضه عليها خضوعها للقوانين الإسرائيلية، وصعوبة قيامها بأنشطة جهادية، مما جعلها تركز جهدها في العمل الاجتماعي العام الذي تتعدد روافده، ولكنها تصب جميعا في نهرالحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية لفلسطين.
تعبئة الطلاب إسلاميا
حول دور نساء الخط الأخضر في معركة الهوية، التقينا السيدة فتحية الغبارية - رئيسة جمعية "سند" إحدى الجمعيات المعنية بالأسرة والطفولة، والسيدة ختام دحلة الصحفية بمجلة إشراقة الصوت النسائي للحركة الإسلامية لعرب 48.
تقول السيدة فتحية: إن الجهد النسائي، ونشاط الجمعيات الأهلية يتفرع إلى قسمين: الكفالة المادية، والعمل الدعوي العام، فالوضع الاقتصادي في فلسطين بشكل عام متأزم، وهناك أطفال مصابون بأمراض صعبة العلاج، منهم من يتكلف علاجه 1600 جنيه كل عشرة أيام، كما يحتاج الرضيع إلى حليب بـ 400 جنيه شهريا، ومن خلال التبرعات يتم تغطية الاحتياجات الغذائية والدوائية للأسر الفقيرة أو المعدمة خاصة التي توفي عائلوها.
أما الشق الاجتماعي الدعوي، فيعتمد على تقصي الواقع وملاحقته بمشاريع إصلاح طويلة وقصيرة الأمد، فهناك - مثلا - نشاط صهيوني منظم لإفساد الشباب الفلسطيني والترويج للصداقة بين الفتيان العرب، والفتيات الإسرائيليات والعكس.
وتتم مواجهة هذا النشاط - والكلام للسيدة فتحية - بعقد الندوات الدينية والثقافية، وتعبئة الطلاب إسلاميا قبل الالتحاق بالجامعة، وتبني مجموعة قضايا ملحة مثل التثقيف الجنسي برؤية إسلامية، والمرأة الفلسطينية، ومواجهة تحديات الداخل، والسعي لاستصدار فتاوى تحسم بعض المشكلات القائمة مثل: فتوى إباحة تبني الأطفال اللقطاء لعرب الداخل، وذلك لتفويت الفرصة على المؤسسات الصهيونية لكفالتهم ، وتشويه هويتهم، وكذلك مشروع "أبناؤنا في خطر" الذي يحاول البحث عن حلول لجميع مشكلات الأطفال والشباب، خاصة ما يتعلق بالتعليم ومناهجه وفرصه، فالتعليم مكلف جدا، خاصة أن القروض ممنوعة لطلبة الجامعة من العرب، كما أن مناهج التربية الدينية قاصرة جدا، وهناك سطوة للغة العبرية لدرجة أننا يمكن أن نجد طفلا عربيا مسلما يصلي مع الأطفال اليهود؛ لأنه لم يدرس الصلاة في مدرسته، وهذا يضاعف العبء على البيت الفلسطيني الذي عليه أن ينشيء أبناءه دينيا، ويصحح لهم ما يتلقونه من مفاهيم زائفة، ومشوهة في مناهجهم التعليمية في الوقت نفسه.
خصوصية البيت الفلسطيني
وتتحدث السيدة فتحية عما يواجه الأسرة المسلمة في فلسطين من تحديات، مشيرة إلى مؤامرات إفساد الشباب، وتعقيم النساء المسلمات اللاتي يذهبن للعلاج من عوارض نسائية في مراكز طبية يهودية؛ حيث تقتصر التخصصات النوعية في الطب على اليهود.(3/201)
وتحكي عن سيدة واجهت صعوبات في الحمل، وقال لها الطبيب اليهودي: يمكن أن تحملي بسهولة، ولكن إذا لم تتمسكي بالنواحي الأخلاقية، وعندما استفسرت منه عما يقصد صارحها بأنه يمكن أن يزرع لها بويضة ملقحة من رجل يهودي فرفضت السيدة، وغادرت العيادة، وانتشرت قصتها فامتنعت النساء المسلمات عن الذهاب إلى المراكز الطبية اليهودية للعلاج، وتضيف أن تعليم الفتاة الفلسطينية يواجه صعوبات مادية كثيرة، بينما تمول الوكالة اليهودية تعليم اليهوديات بسخاء، وفي كافة التخصصات، كما أن الإعلام الصهيوني يتفنن في زعزعة القيم الإسلامية، وتشويه الأسرة المسلمة، وإظهار الإسلام على أنه دين الجنس والإرهاب، وجرائم الشرف والخيانات الزوجية.
أما السيدة ختام دحلة فتؤكد أن جهود الجمعيات النسائية في الخط الأخضر في مجال المرأة والطفولة أسفرت عن زيادة ملحوظة في وعي النساء، والتزامهن فزاد بشكل ملحوظ عدد المحجبات، وبدأ البيت الفلسطيني يأخذ شكلا جديدا في تأثيثه من خلال تخصيص أماكن للنساء توفر الخصوصية، وعدم خدش الحياء، كما زاد الإقبال على حفظ القرآن والتفقه في علوم الدين، وتضاعف عدد النساء المنخرطات في دروس المساجد; حيث تتبنى الحركة الإسلامية مشروع تحفيظ القرآن للنساء، كذلك تكشف مهرجانات الطفولة التي تعقد بين حين وآخر عن مدي وعي الطفل الفلسطيني بقضيته، وعن المواهب الأدبية والفنية لأطفال فلسطين، والتي يعبرون من خلالها عن حبهم للأقصى واستعدادهم للجهاد من أجله.
وحول مجلة "إشراقة" كمؤشر على دور الإعلام النسائي في الحفاظ على الهوية، تقول السيدة ختام دحلة: إن المجلة تهتم بالأسرة الفلسطينية من أضيق إلى أوسع الدوائر، من العلاقات الأسرية والزوجية إلى التربية، ودور الأسرة في مواجهة التحديات الثقافية فضلا عن تنوع قضاياها، وأبوابها وحرصها على تناول الموضوعات الملحة والمهمة مثل قضايا المراهقة، والتصدي لتعديلات قانون العائلة الفلسطيني والعلاقات بين الجنسين، وغير ذلك مما يجعلها صورة إعلامية صادقة عن واقع المرأة الفلسطينية.
وقود الانتفاضة
الأسرة الفلسطينية كبيرة العدد، ويقف وراء ذلك فلسفة ورؤية واضحة، فالمرأة في هذه الأسرة تدرك أن عليها أن تشارك في جعل الميزان السكاني لصالح الفلسطينيين، وأن الطفل الفلسطيني ليس مجرد "عزوة" أو موضوع للتفاخر، وإنما هو وقود للانتفاضة والجهاد، فالأم تقدم فلذاتها واحدا تلو الآخر للأقصى، فإذا استشهد واحد كان شقيقه مشروع شهيد وهكذا.
من هنا فإن للسيدة فتحية 16 شقيقا وشقيقة، والسيدة ختام هي صغرى أشقائها وشقيقاتها الـ 1
==============
أفغانستان .. الهوية الدينية والعرقية
الاربعاء:17/04/2002
(الشبكة الإسلامية) إعداد / جاد الكريم المطاوعي
هل تملك غير كلمة (آهٍ) يتهدج بها صوتك الخافت وأنت تحت تأثير الحمى التي سرت في جسدك المثخن بالجراح وليس هناك من حبيب أو قريب يخفف آلامك ويجفف دموعك .. ؟ إنها دموع الألم لجفاء الأهل والجيران .
أفغانستان جرح المسلمين النازف دومًا ، فلا يكاد يندمل حتى يرجع لسيرته الأولى أشد نزفًا وإيلامًا .
كتب على أهله طبيعة قاسية كأنما ألقيتهم في صحراء قاحلة لا زرع ولا ضرع ولا ماء ولا أنيس ، بل تكاد الوحوش الضواري تفتك بهم في وضح النهار.
أفغانستان أنة صامتة تخرج من قلب حزين مكلوم توشك الهموم أن تقتله، فلا يملك إلا أن يصرخ بصوت مهتدج (آهٍ) يا أفغانستان .
شمس الإسلام تشرق على البلاد المعلقة:
يقال : إن " أفغان " هو حفيد "بنيامين بن يعقوب عليه السلام " الذي رحل مع أبنائه الأربعين عندما حلت الكارثة ببني إسرائيل ، واتجه إلى هذه المنطقة الواقعة شرق بلاد فارس ، وأقام فيها ، ويقال عنها : إنها بلاد منحوتة في الصخر اعتلت هضابها جبال شماء من " البامير " التي يطلق عليها بعض الجغرافيين "سقف العالم " إلى الهندكوش والهملايا ، وهي الملابسات التي أوحت لبعض الجغرافيين اعتبار أفغانستان "بلاد الإسلا م المعلقة " .
تتابعت على أفغانستان ديانات مثل : البوذية والزرادشتية والمسيحية النسطورية ، وحتى عبدة النجوم والأوثان ، وقد دافعوا عن دياناتهم تلك واحدًا تلو الآخر إلى أن وصل إليهم الإسلام عبر سِجِستان وخراسان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ومن بعده عثمان بن عفان ، رضي الله عنهما ، إلى أن استقر وتمكن على أرضها في منتصف القرن الثاني الهجري ، ومنذئذٍ صار الأفغان هم رافعي لواء الإسلام والذائدين عن حياضه في آسيا ، تشهد بذلك فتوحات الغزنويين والغوريين والهوتكسيين والأيداليين ، التي وصلت إلى ربوع الهند.
لمحة قبل إلغاء الخلافة :
لم تكن بلاد الأفغان بمفهومها الآن قائمة كإقليم خاص قبل نهاية القرن الثالث عشر الهجري ، وإنما كانت أجزاء منها تخضع للفرس وأخرى للهند ، وكانت بلاد الأفغان قد خضعت لحكم التيموريين في نهاية القرن الثامن الهجري ، فلما انقسمت دولتهم وضعف أمرها بعد وفاة مؤسسها انقسمت إلى إمارات ، فكانت هَرَاه تتبع خراسان تحت حكم التيموريين ، في حين تمكن " محمد بابر شاه ظهير الدين " أن يضم كابول وغزنة إلى سلطانه .
أما قندهار فقد استولى عليها الصفويون وخلفهم عليها الأوزبك ، فالمغول في الهند عام 1021هـ ، وهم الذين سلموها إلى الصفويين عام 1038هـ ، وقد شمل سلطانهم بعد ذلك أكثر الأجزاء التي تعرف اليوم باسم أفغانستان .
21 عرقًا وملة .. والباشتون الأكثر :
رغم أن التنوع العرقي يعد إحدى السمات الأساسية لدول القلب الآسيوي ، فإننا نجده أوفر وأعمق في أفغانستان ، التي يتعايش فيها الآن 21 عرقًا وملة . لقد سمحت الطبيعة الجغرافية لتلك الكيانات أن تحتفظ باستمرارها وتماسكها ، بحيث صارت الجبال والوديان والأحواض الهضبية بمثابة عوازل طبيعية احتمت بها مختلف الأعراق ، حتى جنبتها الذوبان أو الانقراض .
يعتبر البشتون أكثر تلك الأعراق - وأغلب عناصر طالبان منهم - ويعيشون في شمال جبال هندكوش وإلى الجنوب منها ، وهم مزيج من العناصر التركية والفارسية ، ويعرف الفرع الجنوبي من هذه القبائل باسم الغلزة ، وتنتشر أيضاً في شمال غربي باكستان في مناطق الحدود ، ويعرفون باسم البتان . ويأتي الطاجيك في المرتبة الثانية ، وهم عناصر فارسية ، ويعيشون في الأودية العليا من إقليم بادخشان ، ويمتدون إلى الغرب. ثم الشيعة وهم موزعون على أعراق ثلاثة: الفارسوان - القزلباشي - الهزارة .
ثم الأوزبك والايماق وهم أقرب إلى العنصر التركي (5,3%) . وهناك البلوش والتركمان والقرقيز والبراهي والمغول والكوجار والسيخ .. إلخ
وقد استأثر الباشتونيون تاريخيًا بالحكم في أفغانستان منذ ظهورها كدولة مستقلة على يد " أحمد شاه الأبدان " قبل أكثر من 300 سنة ، وتحديدًا عام 1747م ، وحتى الملك " ظاهر شاه " الذي ظل يحكم البلاد (40) عامًا ، ثم " نجيب الله " من بعده ، ولم يشذ عن هذه القاعدة سوى قائد طاجيكي يدعى "السقا باشا" ؛ حيث حكم أفغانستان عام 1939 لتسعة شهور فقط ، ولما لم يحظ بقبول الباشتو قاموا بإعدامه ، بينما كان الاستثناء التاريخي الثاني والأخير ، هو " برهان الدين رباني " (طاجيكي ) الذي تميزت فترة حكمه بالاضطراب وتصاعد الشكوى المتبادلة بين كابول وإسلام أباد ، وذلك بسبب الخسائر التي كان يتحملها اقتصاد الأخيرة نتيجة إعادة تهريب البضائع الأفغانية وقدرها البنك المركزي الباكستاني بـ (3.5) مليار دولار أمريكي .(3/202)
هذه المجموعات العرقية المتنوعة احتفظت بخصوصيتها على مدار القرون المتعاقبة ، وكانت التضاريس الجغرافية بمثابة الأوعية التي ساعدت على تثبيت تلك الخصوصية ، حيث وجدت كل مجموعة عرقية " ملاذًا " خاصًا بها في هضبة أو واد أو جبل أو سفح … إلخ . ولم يمنع ذلك من تداخل تلك الأعراق في بعض المدن الكبرى ، مثل كابول ، ومزار شريف ، وهيرات ، وقندهار ، وجلال أباد .
القاسم المشترك بين الجميع كان الإسلام ، فهناك قلة محدودة من اليهود والسيخ ، ولهم كياناتهم المستقلة ، ولذا لم يعد الإسلام في أفغانستان دينًا فقط ، ولكنه صار هوية جامعة وعقدًا فريدًا التأمت في ظله مختلف الأعراق ، ولهذا ظل التمسك به هو القاسم من انفراط العقد وانهيار الدولة.
من جهة أخرى يسود اعتقاد بأن هذا التعدد العرقي الواسع داخل أفغانستان هو الذي يقف حائلاً في وجه أن تضع الحرب أوزارها بين الفصائل الأفغانية المتناحرة ، بيد أن هذا الاعتقاد قد يتلاشى أمام حقيقة أخرى يدركها كل الملمين بطبائع الشعب الأفغاني ، ألا وهي أن الكراهية لعدو مشترك تغير لديه دائمًا كل الحسابات والتحالفات والولاءات ؛ إذ سرعان ما تذيب هذه الكراهية كل جليد الولاءات العرقية ، وتصهر الفصائل الأفغانية في بوتقة واحدة لمواجهة هذا العدو . والدروس التي لقنتها أفغانستان الفقيرة للإنجليز قديمًا والروس حديثًا تمثل شاهدًا واضحًا على صدق تلك المقولة .
وصحيح أن كل مبادرات ودعوات المصالحة قد فشلت في إحلال السلام بين الفصائل الأفغانية ووقف رحى الحرب الطاحنة بين العرقيات المختلفة ، لكن يظل صحيحًا أيضًا - وبنفس القدر - أن التدخل المزعج والدائم لدول الجوار وتغذيتها للعرقيات المتباينة بالسلاح ، ظل سببًا رئيسيًا وراء استمرار المحرقة الدائرة منذ أكثر من عقدين .
وقد لعب خط ديوراند الذي ابتدعته بريطانيا خلال احتلالها شبه القارة الهندية دورًا رئيسيًا في ضم أجزاء من الأراضي الأفغانية إلى باكستان ، مما أدى إلى تقسيم الباشتون وتوزيعهم بين أفغانستان وباكستان التي لا تزال تتهم بميلها إلى الباشتون ومن ثم بأنها هي التي صنعت حركة طالبان والتي تعني بلغة الباشتون " طلبة المدارس الدينية " .
المصادر:
- منظمة المؤتمر الاسلامي
- التاريخ الاسلامي المعاصر- محمود شاكر
- فهمي هويدي - صحيفة الشرق الأوسط اللندنية بتاريخ6\12\1998م
- مجلة المجتمع الكويتية -العدد رقم 1474
=============
الحفاظ على الهوية العربية يستلزم التصدي للعولمة
الاربعاء:18/07/2001
(الشبكة الإسلامية) ميدل إيست
القاهرة - أكدت دراسة إعلامية متخصصة أنه على الرغم من الآثار الإيجابية للعولمة في المجالين الإعلامي والثقافي في المنطقة العربية إلا أن لها الكثير من الآثار السلبية التي ينبغي على المجتمعات العربية التصدي لها من اجل المحافظة على هويتها.
وذكرت الدراسة التي أعدتها الدكتورة ماجدة صالح الأستاذة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة أن الآثار الإيجابية للعولمة في المجالين الإعلامي والثقافي شملت إحداث تغييرات نوعية في أنماط ومستويات الخدمة الإخبارية التي تقدمها وسائل الاتصال وظهور ما يعرف بدبلوماسية الاقمار الصناعية والإعلام الالكتروني.
ورأت الدراسة التي جاءت تحت عنوان : الآثار الإعلامية والثقافية للعولمة على دول المنطقة العربية وإمكانية مواجهتها" إن العولمة مرادف "للأمركة" وهو مايعني سعى القطب الاوحد، اي الولايات المتحدة، إلى فرض سيطرتها على العالم في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية خاصة بعد سقوط نموذج الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد المعسكر الاشتراكي.
ولاحظت الدراسة انه من المثير للانتباه رواج الثقافة الاميركية في المنطقة العربية بالرغم من تدنى مستواها سواء بمقارنتها بالانشطة الثقافية داخل الولايات المتحدة او بما تصدره الدول الاوروبية للمنطقة العربية.
وارجعت رواج الثقافة الاميركية في الدول العربية لعدة اسباب من اهمها ادراك الولايات المتحدة مبكرا ان الثقافة المتدنية اكثر رواجا من الثقافة الراقية التي تنحصر بين الدوائر الفكرية والمثقفين ، فضلا عن ان طبيعة المجتمع الامريكي الذي يضم انتماءات عرقية متباينة وقادرة على استيعاب جميع الهجرات الوافدة اليها وبالتالي فهو مجتمع منفتح استطاع ان يضع ثقافة واسعة الانتشار.
وذكرت الدراسة الاعلامية ان من اسباب رواج الثقافة الامريكية في المنطقة العربية توافر الامكانيات المادية والعلمية التي دعمت المنتجات الثقافية الاميركية من سينما وتلفزيون وموسيقى، اضافة الى تفوق الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن الماضي في مجال التعليم العالي والبحث العلمي على اوروبا.
واوضحت الدراسة انه يوجد ما يقارب 120 الف جامعة ومعهد تفتح ابوابها امام جميع الدارسين من انحاء العالم وتقوم بتخريج الآلاف ليعودوا الى بلادهم حاملين معهم الثقافة الامريكية ويقوموا بنشرها بين مجتمعاتهم ، واصفة الثقافة الامريكية بـ "النمطية والسطحية" باعتبارها تساعد على انتشار ثقافة الاستهلاك وتقتل الابداع وتجعل المتلقي سلبيا.
ثقافات لا تقبل الخضوع لأميركا:
وذكرت الدراسة ان الدول الغربية واليابان وكندا واستراليا استشعرت "خطر الغزو الثقافي الاميركي " وتصدت له واخذت تشجع انتاجها المحلى وتنتقى الافضل فيما ظلت الدول النامية - وتحديدا المنطقة العربية - عاجزة عن اتخاذ القرار الحاسم للحد من هذه الظاهرة.
واستشهدت باحصائيات منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( يونيسكو) عن دول المنطقة العربية والتي بينت ان شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث اجمالي البث كما في مصر وسوريا، اونصف اجمالي البث كما في تونس والجزائر ، اما في لبنان فان مواد البث المستوردة تصل نسبتها الى58.2 بالمائة.
ولاحظت الدراسة ان وسائل الاعلام العربية لا تكتفي بهذا التدفق الاعلامي والثقافي الاجنبي بل تقدم اغلب البرامج الاجنبية بلا ترجمة الى اللغة العربية، وان اخطر ما في الامر ان ثلثي برامج الاطفال تبث بلغة اجنبية، مشيرة الى تراجع وسائل الترفيه الشعبية التقليدية كالحكايات والفرق الجوالة والغناء الشعبي.
ورأت ان التيار الاسلامي الذي يعد من اكثر التيارات تشددا بشأن الهوية والثقافة اتجه نحو الاستفادة من ايجابيات العولمة دون سلبياتها باستخدام التقنيات الحديثة وشبكات الانترنت في الدعاية لنفسه وترويج خطابه السياسي والتنسيق فيما بين اجنحته.
ولاحظت الدراسة ايضا ارتفاع العديد من الاصوات في الدول العربية كافة تنادى بالتمسك بالهوية القومية في مواجهة مشروع "الشرق اوسطية" الذي يهدف الى استبدال هوية المنطقة بهوية اخرى تضم اسرائيل ، مشيرة الى ان الدول العربية كانت من اوائل الدول التي طرحت على منظمة اليونيسكو فكرة الخصوصية والذاتية الثقافية.
واوضحت ان الخلافات السياسية بين الدول العربية عاقت خروج مشروع حضاري حول الخصوصية الثقافية العربية كان من الممكن ان ينجح في اجتذاب جميع النخب الثقافية.
واكدت الدراسة ان آليات مواجهة الغزو الثقافي الاميركى تتطلب انماء الذاتية الثقافية العربية اضافة الى بناء قاعدة تكنولوجية علمية عربية.(3/203)
ودعت الى تبنى مفهوم صحيح للديمقراطية، مشيرة الى ان المشكلة التي تواجه الثقافة العربية لا تكمن فقط في مسالة حرية وسائل الاعلام او انفلاتها بقدر ماتكمن في مسألة حرية المواطن وتأهيله في مجال المشاركة الديمقراطية في مجتمع
==============
البُعد الإنساني في الهوية العربية الإسلامية
السبت :16/06/2001
(الشبكة الإسلامية) - دمشق
العنوان : البُعد الإنساني في الهوية العربية الإسلامية.
تأليف : جودت سعيد.
الصفحات : 64 صفحة.
قياس : 12 × 17.
الناشر : مركز العلم والسلام للدراسات والنشر.
ماهو البُعد الإنساني، وما هي الهوية العربية الإسلامية؟ أين هو البعد الإنساني؟ وأين هي الهوية العربية الإسلامية؟ أين الوجود السنني الكوني؟ أين المكان والزمان اللذين ضيع فيهما العرب والمسلمون هويتهم؟
الأبعاد في الوجود هي : الطول، العرض، الارتفاع، الزمان، وقد أضاف المؤرخ جون آرنولد توينبي بعدين آخرين فقال: هناك بُعد خارج عن نظام المادة وهو بعد الحياة... أما البعد السادس فهو في قمة الأبعاد وهو البُعد الإنساني. وقد انصبت هذه الدراسة على محاولة بحث هذا الموضوع لتقريب مفهوم البُعد الإنساني وبُعد الإنسان إلى الأذهان، ليتم لنا فهمه أولاً ثم لننتقل إلى أنفسنا فنقيسها به، ونكشف ما لدينا من البُعد الإنساني..
=============
مسلمو أوروبا .. الهوية والمواطنة
الاثنين :19/03/2001
(الشبكة الإسلامية) لندن
عقد في لندن مؤخرا مؤتمر بعنوان " ( المسلمون في أوروبا - التعددية الثقافية والهوية والمواطنة ) ، وذلك بدعوة من جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في بريطانيا ، وبالتعاون مع المركز الإسلامي في دبلن بايرلندا ، وحضر المؤتمر عدد من خبراء الاجتماع المسلمين من البلدان الأوربية ، وتمت مناقشة أوضاع المسلمين الاقتصادية والاجتماعية والمواطنة الجديدة للمسلمين في أوربا والتي يبلغ تعدادهم فيها أكثر من 20 مليونا وهم في تزايد مستمر مما جعل المسلمون ينظمون أنفسهم في جمعيات ومؤتمرات تدرس حاجاتهم المستقبلية .
ومن الجدير بالذكر أن الاهتمام بتوطين الإسلام في أوربا بدأ يأخذ منحى جديدا في العقد الأخير من حيث وضع الخطط وإقامة المؤسسات ورسم الاستراتيجيات وإنشاء المراكز وتنفيذ الفعاليات التي تساهم في الاندماج الإيجابي للمسلمين في هذه البلدان مع المحافظة على التراث والعقيدة والهوية والثقافة الإسلامية .وفي نفس السياق تنظم الجمعية نفسها مؤتمرها السنوي الثالث عن " الوحدة التعددية : الإسلام والمسلمون وتحديات العولمة " وذلك في الفترة من 20 - 21 / 10 2001 في لندن .
ويهدف هذا المؤتمر إلى المناقشة التحليلية النقدية لعلاقة الإسلام بقضايا الوحدة والتعددية ، كمل يسعى المؤتمر بهذه المناقشة إلى تحديد الموقف الإيجابي والبناء لمساهمة الإسلام في معالجة التحديات التي تواجه المجتمعات المسلمة المعاصرة .
وتدعو الجمعية الراغبين من المختصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية إلى المشاركة في أعمال هذا المؤتمر بتقديم أوراقهم البحثية إلى الجهة المنظمة للمؤتمر على أن يرسلوا ملخصاً لأبحاثهم في حدود 300 كلمة حيث حدد تاريخ تسليم ملخص الأول من مايو " المقبل . بينما حدد تاريخ تسليم الأبحاث في الأول من أغسطس القادم .
ومن الجدير كره أن هذا المؤتمر سيناقش محاور حول الأبعاد الدينية والتاريخية والأبعاد النفسية والروحية والأبعاد الاقتصادية والأبعاد القانونية والاجتماعية والأبعاد التعليمية والعلاقات الثقافية والفنية وقضايا حقوق الإنسان والمسؤولية الاجتماعية ، كل ذلك في إطار المحور الرئيسي للمؤتمر عن الوحدة والتعددية في الإسلام ومدى استفادة المسلمين في أوروبا من ذلك في الوقت الحاضر
============
الهجرة من بلاد الكفر إذا خشي على نفسه الفتنة
تاريخ الفتوى : ... 21 ذو القعدة 1424 / 14-01-2004
السؤال
. أعيش في الغرب و حائرة كيف أتعامل مع غير المسلمين دون أن أغرس كره الإسلام في قلوبهم (إذا انطويت كلياعلى نفسي) و دون أن أفقد هويتي كمسلمة,
2 .أيضا كيف السبيل للحفاظ على الأبناء في مثل هذه المجتمعات دون أن يشعروا بالغربة في بلاد نشأتهم (أي بلاد الغرب)؟ هل منعهم من مخالطة غير المسلمين هو الحل؟ أم كيف السبيل لتريتهم خاصة إذا كان الوالدان مضطرين للعيش في الغربة لظروف قاهرة؟
أفيدونا مأجورين.
الفتوى
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فمن لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه في بلاد الكفر أو كان يخشى على نفسه الفتنة، فإنه لا يجوز له البقاء في تلك الديار، ويجب عليه أن يهاجر عنها إذا استطاع ذلك، ومن كان يستطيع أن يقيم شعائر دينه ويأمن على نفسه، فإنه يستحب له أن يهاجر عن دارهم.
وأما عن التعامل مع غير المسلمين في دار الكفر، فلا بد من أن يتضح عند كل مسلم أن الولاء والبراء -أي الحب في الله والبغض في الله- هو أوثق مراتب الإيمان، فلا بد من بغض من أبغضهم الله.
قال الله سبحانه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22]، ولا يلزم من هذا إساءة الخلق معهم، بل ينبغي أن يتعامل معهم بالحسنى ويدعو إلى الإسلام بالرفق واللين، ولا تجوز مخالطتهم حال معصيتهم إلا لأجل دعوتهم ونهيهم عن المنكر، وبهذا يكون قد جمع المسلم بين إعطاء صورة جيدة عن الإسلام لدى الكفار وبين المحافظة على الهوية والذات، وأما عن الأولاد، فإن الأمر أشد خطورة، ولذا، فلا بد من الحرص عليه وتنشئتهم التنشئة الإسلامية وإدخالهم المدارس الإسلامية، وتهيئة البيئة الصالحة والأصدقاء الصالحين لهم، فإذا لم يمكن ذلك ورأى المرء أن أولاده قد انحرفوا وانصهروا في المجتمع الكافر، فإن الهجرة حينئذ لازمة ولا محالة "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، وراجعي لمزيد فائدة الفتاوى التالية: 2007، 30837، 10875.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
===============
الهوية من مقومات التميز والبقاء للأفراد والأمم
تاريخ الفتوى : ... 14 رمضان 1425 / 28-10-2004
السؤال
/هل يحتاج الإنسان إلى هوية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا بد للإنسان من هوية تميزه عن غيره، وبها يعرف عقيدة وفكرا وثقافة ومنهجا في الحياة، كأن يقول مثلا أنا مسلم، أو يزيد: منهجي الإسلام، أو يزيد الأمر دقة فيقول: أنا مؤمن ملتزم بالإسلام، من أهل السنة والجماعة.
وكما ينبغي أن يكون للفرد هوية تميزه عن غيره ويعرف بها، كذلك ينبغي أن يكون للمجتمع والأمة هوية مستقلة تتميز بها عن غيرها، وإلا تشابهت الأمم كالأسماك في الماء.
هذا، وكلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع تعمق إحساسه بالانتماء لهذا المجتمع واعتزازه به وانتصاره له، أما إذا تصادمتا فهنا تكون أزمة (الاغتراب) قال صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. رواه مسلم. وفي بعض الروايات: أناس قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم رواه أحمد وصححه الألباني.(3/204)
ونظرا لأن للهوية علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلّماته الفكرية، فإنها هي الموجه لاختياره عند تعدد البدائل، وهي التي تجعل سلوكه ذا معنى وغاية، كما أنها تؤثر تأثيرا بليغا في تحديد سمات شخصيته وإضفاء صفة الثبات والاستمرار على هذه الشخصية، فلا يكون إمّعة ولا منافقا، ولا ذا وجهين.
وبالنسبة للمجتمع فإن الهوية هي التي تربط بين أفراده والتي إذا فقدت تشتت المجتمع وتنازعته التناقضات.
هذا، وإن أهم مقومات وأركان الهوية هي العقيدة وهويتنا الإسلامية تنبثق عن عقيدة صحيحة وأصول ثابتة تجمع تحت لوائها جميع المنتمين إليها فيحيون لهدف واحد هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم وتحريرهم من عبودية غيره.
وفي القرآن مدح وتعظيم لهذه الهوية، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {فصلت: 33}.
ولقد رسم القرآن مفهوم الهوية عند المسلمين، فجعل العقيدة هي معيار الولاء والبراء والحب والبغض، وهي المنظار الذي يرى المؤمن من خلاله القيم والأفكار والمبادئ ويحكم على الأشخاص وينزلهم منازلهم.وما أحسن ما قاله صاحب "الظلال" رحمه الله تعالى: عقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه،وهي أهله.. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج.
والمؤمن ذو نسب عريق، ضارب في شعاب الزمان، إنه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطا ذلك الرهط الكريم نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى احتفاظ هذه الأمة بهويتها وخصائصها ويحذرمن التشبه بالمشركين فقال: "من تشبه بقوم فهو منهم" وذلك لتبقى أمة المسلمين نسيجا وحدها، حتى إن اليهود قالوا: "ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه". رواه مسلم.
ومن بعد النبي صلى الله عليه وسلم قام سلفنا الصالح فمن بعدهم بجهود رائعة في الحفاظ على هوية الأمة وحراستها، فكانوا فرسانا في الدفاع عنها: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ومن أراد أن يفهم قضية الهوية حق الفهم فليدرس كتابه الفذ "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" ومنهم أديب الإسلام مصطفى صادق الرافعي، والدكتور محمد محمد حسين، والعلامة الأديب محمود محمد شاكر، وغيرهم، كثير في الأمة، هذا، ونحيلك على كتاب "هويتنا أو الهاوية" للشيخ محمد إسماعيل، ففيه تفصيلات كثيرة في موضوع الهوية، وكذلك فإن له محاضرة بعنوان "الهوية الإسلامية" تجدينها في موقع طريق الإسلام.
www.islamway.com فإنها نافعة.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى
=============
مفهوم الهوية.. بين الثبات والتحول!
هاني نسيره
جدل الهوية
أتى سؤال الهوية في الوعي العربي الحديث متأخرا عن سؤال النهضة الذي بدأ مع الحملة الفرنسية ولم يرحل معها حين رحلت؛ فقد سيطر على الجميع سؤالها وتوترها الوجودي، وإن صيغ بصيغة البحث عن العلة والسبب (لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟)، فإنه كان تعبيرا عن سؤال الكينونة وتحققها في مسار التاريخ الذي تخلفنا عن ركبه، أي كان سؤال النهضة -بشكل من الأشكال- سؤالا كامنا حول الهوية.
ولم يكن وضوح سؤال الهوية وبروزه على سطح الجدل والوعي العربي الإسلامي، إلا مع حمأة جدل النهضة والتخلف ذاته، ومع تفجر الحديث عن المرجعية التشريعية والقيمية منذ حكم الخديوي إسماعيل في مصر، وإقرار نظام الملة العثماني سنة 1875، وتواتر الحديث عن الرابطة والجامعة السياسية منذ أخريات القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، هل هي رابطة وطنية أم شرقية أم إسلامية... إلخ.
الهوية محملة بالأسئلة
وقد أتى سؤال الهوية "بمدلولاته المختلفة" محمولا على ثلاثة أمور بشكل رئيس:
1- طرح الحداثة الغربية كنموذج يجب تمثله والتزامه، خاصة بعد أن صار تفوق الحضارة الغربية والاستعمار واقعا لا يمكن إنكاره، ما نشط مفهوم الهوية واستعماله كتعبير عن الخصوصية. كما نشط كتعبير عن الانتماء وتجل للحديث عن المواطنة مع قانون الملة سواء في ترويج الاستعمار للأقلية ودعوى حمايتها وهو ما وجد تجاوبا من بعض هوامش الأقليات مثل الجنرال يعقوب مع الحملة الفرنسية أو الدكتور أخنوخ فارس، أو نشاط الإرساليات التبشيرية أو حديثه عن عوائق التقدم الثقافية "اللغة الفصحى - الشريعة وحرية الرأي والتعبير - الأتراك والخلافة العثمانية..." وغير ذلك.
2- ما جد من أسئلة وجدل حول دوائر الانتماء الثقافية والجغرافية المختلفة، التي ضاقت من الدائرة الإسلامية إلى الدائرة المصرية والوطنية في أوائل القرن العشرين إلى المتوسطية في عشرينيات وثلاثينيات القرن إلى الشرقية والعربية في نفس هذا التاريخ وبعده، وما زاد الهوية وسؤالها حضورا هو عدم حسم أي من هذه الدوائر -والتيارات التي تحملها- الإجابة لصالحها؛ فقد استمر الجميع بجوار الجميع ولا يزالون.
3- صعود ما يسمى بعصر القومية دوليا وعربيا، وتصورات الأمة -الدولة كطريق للوحدة- State-Nation خاصة التصور اللغوي والثقافي لها الذي كان حلا لمسألة التنوع الديني بالخصوص وإن فجر التنوع العرقي بشكل آخر(1).
ولكن كان للصعود القومي الذي استمر عقودا، ونجح في الوصول لسدة الحكم في عدد من البلاد العربية منذ الخمسينيات، وما حملته معها من خطاب قومي يعادي الاستعمار وسياساته، كما يتخذ موقفا مضادا لتصورات النهضة والمرجعية الإسلامية والوطنية، في الآن نفسه، وكذلك للتنظيمات + الأقلوية ومطالبها الاستقلالية؛ ففي ظل الصب الوحدوي على المستوى الداخلي وفي وجه الآخرين تفجرت التمايزات والتنوعات الداخلية + الإثنية والدينية والفكرية كل يسائل كينونته ويطرح تصوراته المنطلقة منها لنهضة الوطن أو الدولة.
أولا: مفهوم الهوية بين الثبات والتحول
لا يخرج مفهوم الهوية "Identity" في مدلولاته الحديثة عن التشخص والشخصية وهو ما قال به ابن حزم في "الفصل" حده أنه: "هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهو هو بعينه؛ إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحد البتة، فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر"(2). وهو ما التمسه الأستاذ جميل صليبا حين عرفها بأنها "المميز عن الأغيار"(3). وهي تستخدم بمعنى الهيئة، والأوصاف الظاهرة، ويأتي مقابلا لها الأوصاف النفسية والجوهر. وفي اتجاه المقابلة بينها وبين الغيرية حددها الدكتور جميل صليبا بتحديدها على أنها "المميز عن الأغيار".
ولكن بعيدا عن التصور اللغوي والتقليدي الذي غلب على استعمال المفهوم في علوم اللغة والفقه -مقابلا للهيئة- أو الهوية في بحث الأسماء والصفات(4)، حمل مفهوم الهوية مضامين أخرى عليه وإن ارتبطت بمعناه الثقافي، جعلته يمتد ويؤكد على اكتشاف أمرين مهمين:
1- عناصر التميز للجماعة عن الآخرين، وهي عوامل الثبات فيها.
2- تصورات الجماعة للآخرين وعناصر الاندماج معهم، وفق موقع الذات الذي يحدده العنصر الأول، وهي فعل الثبات في التاريخ وممكناته.(3/205)
وقد ذاع مفهوم الهوية عالميا وعربيا منذ ستينيات القرن المنصرم، ومع الصعود القومي والثوري في منطقتنا، نتيجة حمأة الصراع الدولي أو الثقافي منذ هذا التاريخ، واهتمام العديد من المجالات العلمية بدراسته، حتى يصح في ذلك قول المؤرخ ألفرد كروسر Alfred Grosser يقول: القليل من المفاهيم هي التي حظيت بالتضخم والاهتمام الذي عرفه مفهوم الهوية، حيث أصبحت الهوية شعارًا + طوطميا وأصبح بديهيا أن يحل كل الإشكاليات المطروحة، فصرنا نسمع عن خطاب الهوية، أي تلك الخطابات التي تقوم في أسسها الفكرية على تصور خاص للهوية، يمكن التمثيل لها بالتيارات القطرية والقومية والوحدوية والإسلامية، كما نسمع عن سياسات الهوية أي السياسات التي تمثل الهوية مصدرا لشرعيتها وسندا لها كحقوق الأقليات في تقرير مصيرها أو الصراعات الأهلية وسلطات الحكم الذاتي... إلخ.
والهوية تتحقق في مجال الاتصال بالآخرين، حتى يصح القول إن هوية الفرد الواحد تتبدل حسب اتصالاته ومواقفه ومواقعه المختلفة؛ فالهوية معطى من الآخرين وانعكاس ظاهر وكامن لمواقفنا منهم وردود فعلنا عليهم(5)، فهي رغم ثباتها فإنها صيرورة في التاريخ كذلك.
وتناول مفهوم الهوية تصاعد مع الاستقطاب الحضاري بين الغرب + وآخريه، في ظل الحرب على الإرهاب وانتشار دعاوى الحوار الحضاري، حيث تترادف الهوية فيه مع الثقافة كمنظور ورؤية للعالم.
ومفهوم الهوية ظهر بداية في كتابات الفيلسوف والمؤرخ الألماني الاجتماعي "فلهلم دلتاي" (1833- 1911) وقد جعله ماكس فيبر "Max Weber (1864- 1920) على مستويين يتعلق أولهما بما يطلق عليه دلتاي اسم الصورة الكونية التي تؤلف الكتلة الأساسية للمعتقدات والمسلمات الافتراضية عن العالم الحقيقي الواقعي، التي يمكن في ضوئها وبالإشارة إليها يمكن الوصول إلى إجابات شافية حول مغزى الكون والوجود.
ويتعلق المستوى الثاني بالسياق التصوري - الواعي + والإرادوي الذي تضع فيه الذات الجمعية نفسها ضمن تقسيمات العالم الواقعية أو المركبة من النواحي الثقافية في الأصل، لكن أيضا من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والثقافية(6).
وهذان المستويان أشبه بحديث الفلاسفة عن الوجود بالقوة والوجود بالفعل؛ فالأول هو النظرية الكامنة والثاني هو الموقف الفكري والتأسيس لفعل في العالم ومع الحضارات الأخرى.
فمفهوم الهوية وفق منظور الرؤية الحضارية هو الذي يستحق الجدل وليس منظوره الإستاتيكي الذي تورط فيه العديد من الكتاب العرب تحت شعار "من نحن ومن نكون؟" فمثل هذه الأسئلة في غنى عن أية إجابة مجهدة، والهوية أعمق من سؤال "من نحن ومن نكون؟" حيث إن هذه الأمور الثوابت لا تمثل في الواقع أسئلة فلسفية تستدعي الاختلاف أو التوتر الوجودي الذي يصاحبها ويصاحب مثيلاتها من الأسئلة.
ثانيا: إدارة التعاطي مع الهوية
أ - التناول الإستاتيكي والتبريري:
يتم تناول الهوية إستاتيكيا عن طريق المرادفة بينها وبين دوائر الانتماء، وهو هنا يتماهى مع التحدد العرقي -الذي يصعب تحدده بشكل علمي- والجغرافي بالخصوص.
أما التناول التبريري فنقصد به مرادفة البعض بين القطرية والهوية من قبيل حديث بعض المصريين عن أنفسهم كمصريين فقط كما كان عقب اتفاقية كامب ديفيد، أو حديث بعض العراقيين الآن في ظل التطورات المستمرة منذ حرب العراق 2003 عن عراق ضد العروبة وتكون صيحة "قطريين فقط" هذه مصمتة متجاهلة لعوامل الارتباط والاندماج أحد أشكال هذا التناول الإستاتيكي والتبريري للهوية وليس سوى تكريس لمنظورات سياسية معينة في مواجهة منظورات أخرى ربما في نفس القطر ومتجاهلة للأبعاد التاريخية والثقافية تكوّن القطر المشار إليه، وهو ما يمكن أن يكون مقبولا في حالة واحدة هي المرحلية والتمرحل ولكن لا شك يكون مرفوضا في حالة "الانخلاع" والقطيعة مع توجهات الجميع ودوائر الأمن القومي المختلفة.
ب- الهوية في الجدل الثقافي والسياسي:
يتم تناول الهوية على المستوى الثقافي كمحدد لما يمكن أن يسمى الخصوصية الثقافية أو الشخصية القومية، وبمثل هذا المفهوم يأتي الخوف الشرقي مما يسمى التنميط الثقافي للعولمة أو الخوف من الهجرات في الغرب خاصة في الولايات المتحدة، حيث يأتي حديث أمثال هانتيجتون وبول كروجمان عن الشخصية القومية الأمريكية التي يهددها الازدواج الثقافي واللغوي والتحدي الديمغرافي الناتج عن هجرات الهسبانيك ومن ثقافات أخرى مغايرة.
وهنا يحضر التاريخ والثقافة كعنصر مهم في تشكل الهوية -رؤية وموقفا- يتجلى في نشاطية الجماعات الثقافية في التكتل حول نفسها واتجاه معظمهم لتخليد وحفظ الذاكرة الخاصة بهم، مثلما تقوم به قبيلة الباوهاتان الهندية في الولايات المتحدة من تخليد ذكرى أول وأكبر قبيلة حاربت المهاجر الأبيض سنة 1511 وتؤكد في ذلك على خصوصيتها وذاكرتها بل تميزها.
ويتم الترادف في هذا السياق بين مفهوم الهوية وبين مفهوم الخصوصية الثقافية والحضارية أو الموقف الحضاري والقيمي، وهو أمر مهم أقره العهد الدولي الثاني للحقوق الثقافية والاجتماعية والثقافية، ويعد مخزونه حاملا مهمًّا من حوامل الفاعلية المجتمعية والسياسية، بل الإبداعية لكن شريطة عدم اعتبار هذه الخصوصية خصوصية مغلقة خارج التماس والتطور الحادث.
الثقافات والحضارات ليست أسوارا بين جزر متنافرة ومتحاربة، ولكنها تشكل في التاريخ يحمل من الاتصال والحوار أضعاف ما يحمل من الصراع والحراب.
فالهوية كتشكل ثابت يصير في التاريخ النسبي يخضع لعوامل التحدي والاستجابة حسب السياقات المختلفة التي تتجلى فيها الهوية خطابا وسياسات؛ فكل عناصر الهوية تستدعى في أثناء الحرب وفي أجواء المقاومة من عنصر ديني وثقافي وحضاري وإثني ولغوي، كما تستدعى حسب مستوى الاستقطاب الحادث بين الذات التي تمثلها حينئذ وبين الآخر المستنفر لها؛ ففي الجدل الوطني يأتي جدلها محمولا على حقوق الأقلية والأغلبية وفي الجدل العالمي يأتي في صورة حضارية أو تاريخية.
كما هو الشأن في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر والحديث حول ثنائية الإسلام والغرب أو الدول الفقيرة والغنية، وفي العصر الاستعماري وعصر الحرب الباردة كان الحديث عن الجنوب والشمال، كما كان الحديث عن الشرق التحرري والغرب الإمبريالي، وفي ظل العولمة كان تجليه متنوعا حسب موقع الملتزمين خطاب الهوية ومرجعياتهم "عولمة أم ضد العولمة" شرقيين كانوا أو غربيين؛ فالهوية في عصر العولمة تأكد انتقالها من كونها دوائر انتماء مصمتة إلى كونها رؤية للعالم.
الهوية ومسألة المواطنة
من أكثر المستويات التي يتم استدعاء الهوية في جدلها المستوى المواطني على المستوى الحقوقي والوطني عند الحديث عن المواطنة كمفهوم مركزي في الدولة الحديثة يمثل مع السيادة الوطنية أهم مقومات الدولة القومية الحديثة.
والمواطنة في هذا التصور منتج طبيعي للحق في الجنسية، ولكنها في سياقنا المصري والعربي تأخذ شكلا جماعاتيا متعلقا بالطوائف الدينية والعرقية، ويكون الحديث فيه حول تأكيد هؤلاء هويتهم الطائفية أو بحث هوية الدولة -أي توجهاتها وسياساتها- التي تمثل خطرًا عليها وتنتهك الحقوق الثقافية والاجتماعية وربما الاقتصادية لها.(3/206)
وهنا يكون الانفتاح السياسي شرطًا للمواطنة إذا أردنا أن تكون الدولة حديثة، وهو ما انتهى له واضعو دستور 1923 في مصر حين رفضوا أوصاف أقلية وأكثرية ومعها ما طرحه البعض عن "تمثيل الأقليات" مركزين على الانفتاح السياسي ومناخ الحرية، بعيدا عن منطق المحاصصة التقليدي الذي ما زال يصر عليه البعض.
فالحضور الطبيعي للهوية يكون بحضور الفعل وليس بحضور التاريخ، أما إذا كبت الفعل وقيد حضر التاريخ وقبلياته الإثنية والدينية ما قبل الحديثة حَكَما وموجها، وليس هناك مثل الاستبداد يجمد الطاقة الإبداعية والحضور الفاعل للجماعات والأفراد مما ينشط التصورات الجامدة للهوية والتوجهات المتطرفة في مسألة المرجعية.
ففي هذا المناخ لا تعاني الجماعات الدينية فقط الحضور المتضخم في الهوية، ولكن كذلك الاتجاهات الفكرية والسياسية والأفراد الذين لا ينتمون لدائرة الحاكمين وفق منطق السلطة وفلسفة الأمر.
فالهوية في أبعادها الثابتة ليست مشكلا؛ لأن عوامل الاندماج والاشتراك صارت كذلك ثابتا بفعل التراكم التاريخي، ولكن المشكل هو الفاعلية والحرية المجتمعية والسياسية التي تتيح للجميع التعبير عن كوامنه أو هويته إن صح التعبير.
**المشرف على البحوث في مركز "المسبار" بالإمارات العربية
1- هو تصور يرى أن أول عوامل تشكل أية أمة هو اللغة التي يتكلمها أفراد هذه الأمة، وهو يقدم عنصر اللغة على عنصر "العرق والإثنية" وفي المقام الأول عنصر الدين.
2- ابن حزم: "الفصل بين الملل والنحل" في قسم الكلام عن التوحيد وفي التشبيه، الجزء الأول، تحقيق محمد سيد كيلاني/ دار صادر بيروت 1404 هـ..
3- جميل صليبا، المعجم الفلسفي، مادة هوية، ط دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع سنة 1994 .
4- مثل هذا التطور المفاهيمي نجده في العديد من المفاهيم القديمة شأن مفهوم الأدب الذي يعني الثقافة الآن بعموم، ومفهوم الثقافة الذي لم يكن موجودا بمعناه في تراثنا حيث كان مرادفا للتأدب، أو مفهوم التسامح والتساهل.. هذه المفاهيم التي حملت مدلولات إضافية في تطور الفكر والتاريخ.
5- An introduction of the Concept of Identity , Martin Rost , Independent Centre of Privacy Protection (ICPP , 2003
6- د رضوان السيد: مسألة الحضارة والعلاقة بين الحضارات لدى المثقفين العرب في الأزمنة الحديثة ضمن الصراع على الإسلام الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية، دار الكتاب العربي بيروت سنة 2004، ص 125.
===============
"يوم الأسرة العربية".. والبحث عن الهوية الغائبة
كوثر الخولي
31/01/2005
جمال البح-رئيس منظمة الأسرة العربية
تحت شعار "الأسرة العربية حصن للقيم وحافظة للهوية والثقافة" عقد في القاهرة بمقر جامعة الدول العربية الأحد 30-1-2005 الاحتفال بيوم الأسرة العربية وبالذكرى العاشرة للسنة الدولية للأسرة، وذلك بحضور ممثلين عن الدول العربية بهدف التأكيد على أهمية دور الأسرة العربية في مواجهة الآثار السلبية للعولمة، وضرورة تفعيل دور المواطن العادي ومنظمات المجتمع المدني في الحفاظ على كيان الأسرة، وعدم اقتصار هذا الدور على النخبة فقط.
وعن السبب الذي من أجله عقد هذا الاحتفال أكد "جمال البح" رئيس منظمة الأسرة العربية على أن الأسرة العربية بحاجة إلى المزيد من الدعم والاهتمام والفهم العلمي لقضاياها ودورها ومكانتها في تماسك النسيج الاجتماعي، وفي تنشئة الأجيال وفي التنمية والإنتاج، وكذلك في تكريس وتعزيز القيم.. حيث واجهت الأسرة العربية في العقدين الأخيرين تحديات كثيرة أدت إلى بَهتان صورتها، وانحسار إسهامها في التنمية وشئون المجتمع، وأصبحت عاجزة عن قيامها بوظائفها المختلفة.
ويضيف: ومن أجل هذا تتعرض المنطقة العربية لأزمات ومشكلات وتحديات انعكست بظلالها على الإنسان والأسرة ونوعية الحياة؛ فمن أبرز معالم هذا الواقع في دول عربية عديدة ما تشهده هذه الدول من تراجع في عمليات التنمية وفي دور الدولة، وتقصير في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، وتصاعد معدلات البطالة والتضخم، وتزايد أعداد الفقراء، واتساع الفجوة بينهم وبين الأغنياء، وارتفاع معدلات الطلاق، ومظاهر العنف والجريمة.
النهوض بالأسرة العربية
وأشار "البح" إلى مبادرة تطوير إستراتيجية الأسرة العربية التي تقدمت بها منظمة الأسرة العربية وجامعة الدول العربية بالتعاون مع منظمات إقليمية معنية بشئون الأسرة؛ كاللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا)؛ وذلك بهدف تطوير خطة تنفيذية مستندة إلى الإستراتيجيات الوطنية للأسرة العربية، تتضمن أنشطة ومشروعات وبرامج عملية يتم تنفيذها بمشاركة حقيقية بين الأطراف المهتمة بالنهوض بالأسرة العربية.
وأرجع الدكتور علي أحمد الطراح -عميد كلية العلوم الاجتماعية بدولة الكويت- أسباب افتقاد الأسرة العربية لأهم أدوارها ووظائفها في مواجهة التحولات الاجتماعية والاقتصادية إلى انهيار سلطة رب الأسرة ورقابته على أبنائه، وهو ما لم يرافقه نمو نمط ديمقراطي ومشاركة إيجابية من قبل أعضاء الأسرة.. كذلك الغياب الوظيفي لدور الأب، وتعاظم أدوار ووظائف الأم في الأسرة، وضعف العلاقات الاجتماعية وتصدعها، وسيادة القيم الفردية، وتنامي ظاهرة العنف داخل الأسرة.
ويضيف الطراح أن ازدياد معدلات العنف الأسري لا يمكن أن نفصله عن التأثيرات الشديدة التي تعرضت لها الأسرة العربية من جراء التحولات الاجتماعية والاقتصادية؛ حيث إن ارتفاع معدلات البطالة سواء بين الرجال أو النساء وعلى وجه الخصوص بين الشباب يشكل أحد العوامل الهامة لظهور العنف؛ حيث تولد البطالة الشعور بالإحباط واليأس، وعدم المساواة في فرص العمل، وهذا ينعكس بدوره في سلوك العنف سواء داخل الأسرة أو خارجها.
تحدي التكنولوجيا
وعن أثر العولمة في تهديد قيم الأسرة العربية يؤكد الدكتور "أحمد عبد الرحمن حمودة" مستشار صندوق الزواج والتنمية الأسرية بدولة الإمارات العربية المتحدة أن التنشئة الأسرية من الوظائف الكبرى التي تقع على عاتق الأسرة.. ولكن مع دخول الإنترنت والفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام الحديثة إلى غرف وحياة الأطفال والشباب مباشرة، حاملة إليهم أشكالا وألوانا مختلفة باهرة ومتناقضة مع مقومات ومكونات التنشئة العربية والإسلامية التي تقدمها الأسرة ممثلة في الوالدين، وكذلك المجتمع بمؤسساته وهيئاته المعنية بقضايا التنشئة كالمدرسة والجامعة والمراكز الدينية والاجتماعية والثقافية.
لهذا أصبحت عملية التنشئة معقدة ومرتبكة ومزدوجة المرجعية؛ حيث إن معظم ما تقدمه الوسائل والقنوات والشبكات المعولمة من برامج ومعلومات تنمي قيم الاستهلاك وخلق احتياجات وهمية؛ وهو ما يؤدي إلى التصادم بين الأهل والأبناء، وكذلك إضعاف سلطة الوالدين على أبنائهم.
ويضيف حمودة: إن الفرد في تعريف العولمة ذات مستقلة، وبالتالي لا يشكل مجموع الأفراد مجتمعا واحدا له خصائصه وثقافته ومصيره الواحد، وإنما قد يكون تجمعا لا مجتمعا.. لهذا فإن هذا المفهوم الذي يكرس للفردية يكاد يلغي جميع الوحدات وأشكال التنظيم الاجتماعي القائمة على صلة القربى كالأسرة والعشيرة، ويجردها من دورها ونفوذها في التوجيه والحفاظ على الثقافة والهوية والتكافل الاجتماعي، وكذلك من وظائفها باستثناء وظيفتها البيولوجية، كما أنه يولد العديد من المشكلات الاجتماعية.
=============
المسلمات في هولندا.. طموح يراعي الهوية
2002/01/21(3/207)
د.خالد شوكات- هولندا
ربما تختزل صورة المسلمة لدى الهولنديين - وسائر الغربيين عموما - في مشهد امرأة ترتدي زيا فضفاضا، وتضع غطاء على رأسها، وتمشي على بعد خطوات وراء زوجها، ولا يسمح لها بالخروج إلا نادرا خارج منزلها، وهي داخل المنزل المضطهدة التي يضربها زوجها المتوحش بسبب أو بدون سبب، ولا تزيد وظيفتها على العناية بالأطفال والبيت وانتظار عودة زوجها في المساء!!
وهناك من الهولنديين من يعتقد أن الدين الإسلامي هو السبب في محنة المرأة المسلمة، فيما يرى الأقل تشددا بينهم أن عادات وتقاليد المجتمعات المسلمة في البلدان الأصلية التي قَدِمَ منها المهاجرون المسلمون إلى هولندا، وسواء استقر عندهم أن الإسلام هو السبب أم المسلمون، فإن الثابت بالنسبة للهولنديين هو أن المرأة المسلمة كائن بشري مضطهد ومهزوم.
السير في الطريق المزدوج
وتنشط منذ سنوات أطراف هولندية كثيرة حكومية وغير حكومية، من أجل التدخل في شئون النساء المسلمات، مستغلة الذريعة ذاتها، ومصرة على تجاهل الكثير من الإنجازات والنجاحات التي سجلتها المرأة المسلمة في هولندا، على كافة الأصعدة، وتكريس معالجة فوقية قائمة من جهة على نظرة ثقافية استعلائية ترى في وضع المرأة الغربية غاية ما يمكن أن تطمح إليه امرأة في العالم، ومرتكزة من جهة ثانية على فلسفة اجتماعية يرى فيها المسلمون -والمتدينون عامة- خطرا حقيقيا على قيم العائلة والروابط الأسرية.
وتعتقد كثير من الناشطات المسلمات في هولندا، أن التحدي الحقيقي المطروح على المرأة المسلمة هو النجاح في تحقيق عمل مزدوج يجمع فيه بين معالجة مشاكل اجتماعية عويصة تعاني منها النساء المسلمات في مجالات شتى، ولا يجب التنكر لوجودها أو تجاهلها، وفي الوقت ذاته محاربة الأحكام السلبية المسبقة التي يحملها المجتمع الهولندي عن المرأة المسلمة، التي يجب أن تؤكد اعتزازها بانتمائها الديني والثقافي والحضاري.
وقد أكدت المرأة المسلمة في هولندا إلى حد الآن تشبثها بالسير في الطريق المزدوج، هذا الجامع بين الهوية والطموح نحو الأفضل على كافة المستويات، وضربت خلال العقدين الأخيرين أكثر من مثال يثبت صحة هذا المسار ومصداقيته، وهناك كثير من النماذج يمكن سوقها لنساء مسلمات لفتت نجاحاتهن الانتباه، وأصبحت أسماؤهن تتردد في الأوساط السياسية والإعلامية.
الجيل الثاني.. في البرلمان
"خديجة عريب"، "نباهات بيرقار" اسمان لسياسيتين: الأولى من أصل مغربي، والثانية من أصل تركي، لقد عرفت هولندا إثر الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية سنة 1998، دخول أول نائبة مسلمة لأول مرة في التاريخ السياسي لهولندا - وللدول الغربية قاطبة- قبة البرلمان، حيث نجحت كل من "خديجة عريب"، "نباهات بيرقتار" في الفوز بمقعدين في الغرفة الثانية (مجلس النواب) على لوائح حزب العمل الاشتراكي الحاكم.
وتنتمي كلتا السياسيتين المسلمتين إلى الجيل الثاني المنحدر من جيل العمال المسلمين الأوائل الذين قَدِموا إلى هولندا خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، للعمل في ورشات البناء ومصانع الصناعات الثقيلة والمتوسطة، قبل أن يقرروا لاحقا استقدام عائلاتهم من دولهم الأصلية والاستقرار بشكل نهائي في هولندا، بعد أن تغير قانون التجمع العائلي الهولندي أواسط الثمانينات، وأصبح يسمح للمهاجرين بإلحاق عائلاتهم بهم.
وقد تربت "خديجة عريب" -كما تذكر- في وسط عائلي مغربي محافظ على تقاليد وعادات المغاربة المسلمين، بالرغم من سكنه العاصمة أمستردام، وتزوجت باكرا كما هو شأن الفتيات المسلمات في الدول الإسلامية، وهي اليوم إلى جانب عضويتها في البرلمان الهولندي، زوجة وأم تحرص على القيام بواجباتها في بيتها كأي أم وزوجة مسلمة.
أما "نباهات بيرقتار" فقد وُلدت -كما تقول- لأب مهاجر من أصل تركي، وقد جاءت إلى هولندا صغيرة لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات، وتربت ودرست في مدينة روتردام العاصمة الاقتصادية الهولندية، في إطار أسري تركي مسلم، متشبث بحميمية العلاقة بين أفراد الأسرة، وخصوصا بين الأبناء والآباء.
التواصل بحسب القومية
وتظهر كل من "عريب" و"بيرقتار" حرصا كبيرا على التواصل مع الأقلية المسلمة، كل منهما بحسب الخلفية اللغوية والقومية التي تنتمي إليها، فعريب مشدودة أكثر لهموم المغاربة ومشاكلهم، فيما تعتني بيرقتار بالأتراك، ويكون المغاربة والأتراك كما هو معروف ثلاثة أرباع الأقلية المسلمة التي يناهز تعدادها مليون نسمة.
ويبقى الجامع الأقوى بين السياسيتين المسلمتين إجماعهما في موقفهما السياسي والثقافي على أهمية تمسك الأجيال المسلمة الناشئة بالقيم العائلية التي يحض عليها الدين الإسلامي، واعتبار العائلة العمود الفقري للمجتمع الصالح، وهو تفكير يختلف بوضوح مع الأيديولوجية السائدة اجتماعيا في هولندا، والتي ترى الفرد أولى بالعناية.
وعلى الرغم من أن بعض المسلمين يعتقد أن النائبتين المسلمتين في البرلمان الهولندي، لم تشعا بالقدر الكافي، ولم تشاركا في معارك سياسية للأقلية المسلمة صلة بها، فإن غالبية المسلمين يلتمسون لهما العذر، حيث يتفهمون طبيعة التجربة الأولى وخصوصيتها، وعدم وجود تراث سابق يمكن أن يعينهما، فضلا عن طبيعة النظام السياسي الهولندي التي تربط مصير النواب بأحزابهم، وهو ما يقلل من فرص الحركة والمناورة أمامهما.
"فاطمة".. مستشارة وزير الداخلية
تُعد المسلمة من أصل مغربي "فاطمة العتيق"، أشهر امرأة مسلمة في هولندا، فعلى الرغم من حداثة سنها حيث لم تتجاوز الخامسة والثلاثين بعد، إلا أنها قامت بتقلد العديد من المسؤوليات السياسية الهامة خلال السنوات الأخيرة، من بينها مستشارة وزير الداخلية السابق "ديك ستال" لشئون الأقليات، وعضو المجلس البلدي للعاصمة أمستردام.
ولعل جزءا من شهرة فاطمة العتيق، مرده إصرارها على ارتداء الحجاب، وسعيها المتواصل لإثبات خطأ الأحكام المسبقة التي يحملها الهولنديون عن المرأة المسلمة المتحجبة: "فالحجاب -برأي فاطمة- العتيق دليل على ضمان الإسلام حق المرأة في العمل والمشاركة وبرهان على أسبقية الدين الحنيف في تكريم النساء ودعوتهن للاضطلاع بمسؤوليات في الحياة العامة، لأن المرأة لا تحتاج ارتداء الحجاب في بيتها".
وقد ترأست فاطمة العتيق خلال العقد الأخير الكثير من الهيئات والمنظمات الإسلامية، لعل أبرزها "هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسلامية في هولندا" (NMO)، كما شاركت في العديد من المؤتمرات واللقاءات التلفزيونية، وأجرت معها كبريات الصحف الهولندية حوارات ظهرت في جميعها بصورتها المعتادة، كامرأة مسلمة متحجبة، وهو ما شجع عددا كبيرا من فتيات الجيل الثاني والثالث على التمسك بالحجاب.
وتقول العتيق: "إن قدرة المرأة المسلمة في هولندا على العطاء والحركة والنجاح، مرتبط باستقرارها وتوازنها النفسي والعقلي والثقافي، وهو توازن لا يمكن أن يتحقق للنساء المسلمات بالذات إلا إذا ارتبطن بمرجعيتهن الدينية والحضارية، وفهمن الإسلام فهما واعيا ومستوعبا لحقيقته كشريعة محررة للمرأة وضامنة لاحترامها".
طبيبة ومحامية و…(3/208)
وفضلا عن النماذج السابقة، فإن الزائر العادي حاليا لأي جامعة أو مدرسة عليا في هولندا، لا يمكنه إلا أن ينتبه للعدد الكبير والمتزايد للطالبات المسلمات، وخصوصا تلك الشريحة من بينهن، المتمسكة بارتداء الحجاب، والتي تنحدر في غالبيتها من جيل العمال المسلمين الأول، وبمعنى أن هؤلاء الطالبات لم يأتين إلى هولندا كبيرات، بل غالبيتهن وُلدن في هولندا، وتابعن دروسهن في مدارس أساسية وثانوية هولندية.
ويتوقع المسلمون في هولندا أن تلج بناتهن الطالبات في الجامعات حاليا سوقَ العمل في أدق اختصاصاته وأكثرها رفعة من الناحية العلمية، فالطالبات المسلمات موجودات بأعداد بارزة في كليات الطب والهندسة والحقوق، وسيأخذن مواقعهن كطبيبات ومهندسات ومحاميات أو قاضيات خلال السنوات القليلة القادمة.
وستساعد المدارس الثانوية الإسلامية، التي بدأت في الانتشار تدريجيا بعد تأسيس المدرسة الأولى في روتردام سنة 1999 ـ الطالبات المسلمات المتحجبات على تجاوز الكثير من المعوِّقات والعراقيل التي كانت تعترض طريقهن في سعيهن للوصول إلى الجامعة، حيث كانت المدراس الأخرى تفرض عليهن شروطا لا يرضونها، ومنها ممارسة الرياضة بشكل مختلط والانخراط في نشاطات مدرسية يرون أنها لا تتفق مع ثقافتهن الإسلامية.
ويلاحظ المهتمون بشئون الأقلية المسلمة أن الطالبات المسلمات أكثر تفوقا من الطلاب، وأنهن أكثر اجتهادا ومثابرة، وأكثر وصولا للمراحل التعليمية العليا، ومن ضمنها التعليم العالي، وهو ما سينعكس في المستقبل على سوق العمل، حيث ستكون نسبة العاملات المسلمات فيه أكثر من نسبة العمال المسلمين، خاصة في المجالات التي تتطلب شهادات عليا وتخصصات دراسية راقية.
ولا شك أن كل نجاح تحرزه المرأة المسلمة في هولندا، وتحديدا تلك التي تظهر الاعتزاز بجذورها الدينية والثقافية، سيشعل شمعة في طريق حوار الحضارات والثقافات المظلم للأسف من جراء تمسك البعض بالقوالب الجاهزة والتحليلات البسيطة المتعالية على الآخر والمحتقرة لخصوصيته وطريقة تفكيره وتقديره المختلفة.
=============
المسيحيون العرب.. وقلق الهوية الإسلامية
مصطفى سليمان**
غلاف كتاب الدكتور أندريه زكي
ينتمي القس الدكتور "أندريه زكي" - وهو أحد القساوسة البروتستانت في مصر- إلى مدرسة المسيحية الليبرالية التي تعتمد في أفكارها على مشروع لاهوتي غربي، ويتفق هذا المشروع والمسيحية الليبرالية في أن المرجعية الأساسية للمشاركة السياسية يجب أن تكون للعلمانية والمجتمع المدني.
وإذا عرفنا هذه المدرسة الفكرية في المسيحية، يمكن أن نستخلص المشروع الفكري لـ"أندريه زكي"، والذي أنتجه في كتابه الأخير "الإسلام السياسي والمواطنة والأقليات: مستقبل المسيحيين العرب في الشرق الأوسط"، والصادر هذا العام، ويقع في حوالي (360) صفحة، ويحتوي على معلومات مهمة وبيانات عن المسيحيين العرب.
والكتاب عبارة عن ترجمة لرسالته في الدكتوراة، والتي حصل عليها من إحدى الجامعات البريطانية؛ فهو يتحدث عن مشروع علماني ينصهر فيه المسيحيون العرب ليتمكنوا من المشاركة السياسية الفعالة.
والسؤال المطروح هنا: ما هي أركان هذا المشروع، ودلالته؟ وإلى أي مدى يمكن أن يقود إلى مشاركة سياسية فعالة للمسيحيين العرب؟ وهل يستطيع المسيحيون العرب والمسلمون أن يعيشوا بعيدا عن ديانتهم لتتحقق المشاركة السياسية الفعالة؟.
ربما كانت الإجابة على هذه التساؤلات هي ما يبحث عنه "أندريه زكي"؛ فهو يتحدث عن العلاقة بين الإسلام السياسي والمسيحيين العرب، وتأثير تنامي هذا التيار على المواطنة، ودور المسيحيين العرب السياسي في الشرق الأوسط.
المسيحية السياسية العربية
في البداية رصد "أندريه" حقبة القومية العربية وما أصابها من وهن، كمدخل للإجابة على عدة أسئلة؛ في مقدمتها الدور السياسي الذي يقوم به المسيحيون العرب في المنطقة، وكيف يرون مستقبلهم، وما هو مستقبل المسيحية السياسية، وكيف يمكن تجاوز بعض المشكلات التي حدثت في الماضي، والتحرك للمشاركة بفاعلية في بناء المنطقة؛ بولاء والتزام مطلقيْن نحو أرضها وثقافتها وتاريخها.
والواقع أن " أندريه" -كبعض المثقفين الأقباط- يلقي التهمة على الإسلام السياسي كمعوق في عدم مشاركة المسيحيين العرب في العمل السياسي، ويؤكد أن للمسيحيين العرب دورا محوريا في نشأة فكرة القومية العربية، ورغم ذلك فإن هذا التيار أصابه الوهن؛ بسبب تنامي مفهوم الدولة القومية، وظهور الإسلام السياسي؛ الذي يؤكد على مبدأ الوحدة الإسلامية كأيديولوجية سياسية بديلة للوحدة العربية.
وفي رأيه أن تلك الأيديولوجية الإسلامية استندت إلى فكرة أن القومية والعقيدة وجهان لعملة واحدة، وأن المجتمع الإسلامي أساسه العقيدة لا القومية، وأن الإسلام السياسي يجعل السلطة في أيدي المسلمين فقط، ويضع غير المسلمين في وضع الذمي أو أهل الذمة.
ولا يتجاهل "أندريه" الظروف السياسية الدولية وانعكاساتها على المواطنة، فهو يرى أن المسيحيين العرب يواجهون صعوبات متعددة؛ فهم يعيشون في نظم سياسية يغلب عليها الطابع السلطوي، الذي يسمح بهامش محدود من الحرية، والمجتمع المدني غير متحقق بشكل فعلي، والمعارضة خاضعة لسلطة الحكومة، والأصوات التي تدافع عن حقوق الإنسان تتعرض للتهديد والضغوط، إضافة إلى أن الصراع الكامن بين الإسلام والغرب يجدد خصومة قديمة بين المسلمين والمسيحيين العرب.
و"أندريه" بهذا المعني يتجاهل حقيقة انتماء المسيحيين العرب للحضارة الإسلامية العربية، ويحاول سلخهم عنها، ويتضح ذلك من افتراض غير علمي، وهو أن انتماء المسيحيين العرب للقومية العربية كان بدافع المشاركة السياسية فقط، وهو افتراض غير صحيح من الناحية التاريخية، كما أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ماذا كانت تعني القومية العربية عند المسلمين العرب؟.
ما بعد انهيار القومية العربية
يرى "أندريه" أن القومية العربية ظلت هي الأيديولوجية التي يمكن استخدامها لتحقيق المشاركة السياسية حتى الستينيات من القرن الماضي، وأدى بزوغ فكرة الوحدة الإسلامية وأسلمة القومية العربية إلى ظهور مفاهيم سياسية جديدة، مثل: الناصرية، والبعثية، وقومية الدولة، ومن هنا شعر المسيحيون العرب بالتهديد.
ومع انهيار الأيديولوجية الناضجة، وغياب الديمقراطية، وعجز الدولة عن تقبل الجماعات الأخرى داخلها؛ كل هذه العوامل ساهمت في عرقلة المهمة السياسية للمسيحيين العرب، وجعلتها صعبة وشديدة الحساسية.
ويلاحظ أن "أندريه" يميل إلى تبني فكرة القومية العربية بشكلها العلماني، لتحقيق المواطنة السياسية للمسيحيين العرب، وأنه ليس من أنصار فكرة التقريب بين القومية العربية والإسلام.
ويرى المفكر القبطي الدكتور "رفيق حبيب" أن القومية العربية في مختلف صورها كانت فكرة تقوم على مشروع سياسي غربي، وأخذت منه لب الاتجاه العلماني، ونشط فيه الأقباط، وكان جزء من هذا النشاط هو اختيار الحل العلماني؛ فالقوميون فصلوا ما بين القومية العربية والحضارة الإسلامية، حيث ظلت القومية العربية شعارا سياسيا؛ ومن ثم فهي لم تفشل بسبب محاولة أسلمتها.
المواطنة الديناميكية
والواقع أن "أندريه" يتحدث عن مشروع علماني ينصهر فيه المسيحيون العرب؛ ليتمكنوا من المشاركة السياسية الفعالة؛ ولذا يقف ضد فكرة الأسلمة والحركات الإسلامية.(3/209)
كما أنه يتبنى فكرة نقد النص الديني في المسيحية، لكن من خلال رؤية لاهوتيه، ويرى أن المفهوم العقائدي للمشاركة السياسية سوف يسهم في تطور هذه المشاركة للمسيحيين، ويلاحظ في خطابه السياسي والثقافي تأثره بفكرة القومية الغربية، فيقول: "ويمكننا أن نبرهن أن القومية في الغرب هي نتاج لظروف اقتصادية واجتماعية، بينما القومية في العالم العربي تقوم على اللغة والثقافة المرتبطة ارتباطا وثيقا بالدين؛ فهذه القومية من خلال علاقتها الوطيدة بالدين تحد من التعددية"، ويضيف: إن الترويج للغة والثقافة باعتبارهما الأسس الشرعية الوحيدة لتكوين الهوية، وتجاهل تأثير الدين، أدى إلى ظهور بعض الإشكاليات.
فصِلة القومية الوثيقة بالدين الإسلامي وطبيعتها غير التعددية نجم عنها استبعاد من يتبعون العقائد الأخرى، وهذا المفهوم حصر القومية داخل نطاق المسلمين فقط، ولم ينتج سوى هامش ضئيل من التعددية، كما عمل على تهميش الأقباط والموارنة، وأسس نموذجا للمشاركة السياسية يقوم على التسامح وليس المساواة، وهكذا تبرز الصعوبات التي واجهت المسيحيين العرب من جراء القومية بدلالتها الدينية وطبيعتها المتعصبة.
يؤمن أندريه زكي أن الظروف التي أدت إلى القومية في أوروبا لم تتحقق في العالم العربي؛ ففي أوروبا أدى فصل الدين عن السياسة إلى تدهور الكاثوليكية الشاملة وتشجيع الحس القومي، أما في العالم العربي فقد تفوقت شمولية الإسلام على كل القوميات، ورغم ذلك فهو يرى أن تطلعات الشعوب العربية نحو القومية بدأت تتبخر مع بداية السبعينيات، أي مع بدء مرحلة الإسلام السياسي.
ويرى أن المسيحيين العرب يعيشون في ظل دول سلطوية ومجتمع مدني هزيل، وأن الإسلام السياسي هو العامل الأكثر تأثيرا في صياغة نظام الدولة، والتأثير على المشاركة السياسية، وفي رأيه أن "الدين بطبيعته ليس ديمقراطيا ولا تعدديا"، ثم يصل إلى قمة قناعاته بالمسيحية الليبرالية وعلمنة المسيحية ورفضه للدين كأساس للهوية في الوطن العربي فيقول: "والدين يروج لنظام سياسي يحد من مفهوم الانتماء للدولة، وكذلك من درجة التفاعل والتضامن السياسي".
هجين سياسي
كلام "أندريه" يؤكد أنه إذا كانت القومية العربية قد فشلت؛ لأنه لا يمكن فصل الدين عنها، وفشلت دولة الموارنة المسيحية في لبنان لأنها تجاهلت الطوائف الأخرى؛ فان الدين السياسي في المنطقة لا يصلح كأساس مرجعي لتحقيق المواطنة السياسية التي تقوم على المساواة الكاملة، وليس التسامح.
وأمام هذه النتيجة التي توصل إليها "أندريه" نحت مفهوما جديدا للمواطنة أطلق عليه "المواطنة الديناميكية" وذلك كمخرج -من وجهة نظره- للخروج من مأزق القومية العربية المتأسلمة، والدولة العلمانية الخالصة. وهذا المصطلح ما هو إلا هجين سياسي بين القومية المتأسلمة والعلمنة، وتقوم على مفهوم شامل للمواطنة لا ينحصر في المنحي السياسي وحده؛ فعندما يتحرك النظام السياسي تجاه الديمقراطية ويتولد التنوع والتعددية في مجتمع مدني قوي، يصبح مفهوم المواطنة الديناميكية متاحا؛ ولذا فإن تطوير المجتمع المدني يعد ركيزة أساسية في مفهوم المواطنة الديناميكية.
وهو بذلك يحاول تعريب الديمقراطية الغربية بكل مفاهيمها من الحرية الفردية، وسيادة العقل الإنساني، وإتاحة فرصة أكبر للمجتمع المدني؛ وذلك للوصول في النهاية إلى الديمقراطية الغربية الليبرالية، عبر نحت مصطلحات غير واضحة؛ ومن هنا فإن أسس تكوينه الفكري تغلب عليه، وإن حاول التنصل منها.
ومن ثم فهو يحاول تعريب العلمنة الغربية، والتي تعني فصل الدين عن الدولة، وتطبيق النموذج الغربي في الحكم على المنطقة العربية؛ ليتسنى للأقليات المسيحية المشاركة السياسية في نظم الحكم، ويأتي هذا التعريب عبر ما أطلق عليه المواطنة الديناميكية.
ويرى "أندريه" أن المجتمع مع وجود الدين لديه استعداد للصراع، في حين أن مثل هذا المجتمع مع وجود الجماعات والتنظيمات الجديدة التي تساند قضايا مثل حقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية... إلخ، سوف يتمكن من تجاوز الانقسامات التقليدية، وتجنب الصراعات.
فالمواطنة الديناميكية هي عملية شاملة تتجاوز المساواة لتصل إلى العدالة بواسطة ربط الحقوق السياسية بالحقائق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والمواطنة الديناميكية تعزز التعددية عن طريق الانتماءات المتعددة ومؤسسات الهوية!!.
والحقيقة أن حديثه عن مؤسسات للهوية يثير الاستغراب والسخرية في ذات الوقت! وهل تستطيع الهوية أن تتحكم فيها مؤسسة ما؟.
ماذا يريد؟
إن كل ما يريد أن يتوصل إليه الباحث هو تنحية الهوية الدينية عن المجتمع العربي بمسلميه ومسيحييه، وألا تكون هي الأساس في تعريف الأمة، وهنا تكمن الخطورة؛ حيث إن ما يطرحه يدعو في حقيقته إلى تجاهل تام لحقب التاريخ الإسلامي، والمؤكد أيضا أن هذه المواطنة لم تهتز إلا بفعل الاستعمار، وانهيار الحضارة الإسلامية.
وتتجاهل دراسة "أندريه" تماما أوضاع أهل الكتاب تحت ظلال الحكم الإسلامي، وتتجاهل أن الأقباط شغل البعض منهم الوزراء وصناع القرار في تلك الدولة، كما أن منهم الشعراء والأدباء الذين ساهموا في ازدهار التراث والحضارة الإسلامية، كما أن بعض الاضطهادات التي تعرض لها المسيحيون العرب في بعض الفترات تعود إلى ظروف سياسية، وإلى أهواء الحاكم، وليس للدين الإسلامي ذاته.
ويؤكد الباحث "هاني لبيب" أن المسيحية العربية لم تواجه خطر التقوقع والانغلاق على الذات والانطواء على النفس داخل المجتمع الإسلامي، بل تميزت باندماجها في المجتمعات الإسلامية بوجه خاص في العصر الأموي والعباسي الأول؛ فكانت أقرب روحا إلى المسلمين العرب منها إلى أبناء طائفتها من السريان.
ويرى "لبيب" -أيضا- أن هناك أرضية مشتركة بين التراث العربي المسيحي والتراث العربي الإسلامي، وهو ما يظهر في العديد من المجالات منها الأدب، والفلسفة العامة، والطب والعلوم، أما الاختلاف بينهما فينحصر في الفلسفة الدينية، والتاريخ، والأساليب المتعددة لمعالجة كل منهما لهذه الاختلافات، بالإضافة إلى العبادات والعقائد بين الطرفين.
وبالتالي فإن انسلاخ الأمة من هويتها الدينية لن يحقق المواطنة التي يدعو إليها "أندريه زكي" في كتابه، بقدر ما يغرق الأمة في بحار من تنوع الهويات وتعددها.
كما أن محاولة تحرير اللاهوت العربي وتغريبه كما نَشْتَمُّ من كلامه لن تنجح؛ لأن اللاهوت العربي المسيحي مرتبط بالحضارة العربية، وهو ما يجعله مختلفا عن اللاهوت الغربي المسيحي؛ فمصطلح المسيحية العربية له دلالة قومية.
وكان "إدوارد سعيد" و"قسطنطين زريق" من أبرز المسيحيين العرب الذين تصدوا للتهجم على صورة الإسلام، لأنهما اعتبرا تشويه الإسلام هو تشويه للذات العربية، وعلى هذا النحو كانت المواطنة والهوية؛ فالهوية هنا ليست معطى جاهزا يتسم بالثبات، ولا هي شيء سرمدي يتجاوز الزمن والمكان؛ بل هي وجود تراكمي يضاف إليه ويُنتقص منه، فهي في حال من التكوين الدائم.
فالهوية تراكم تاريخي ممتد في الزمان، يمثل طبقات من الثقافات التي تراكمت وتداخلت وانصهرت مع بعضها البعض؛ وهو ما يعني ضرورة أهمية إدراك عبء هذا التراكم التاريخي؛ لكي لا تُنفى ثقافة لحساب أخرى، ولا يُستبعد عنصر لحساب آخر، ولا تُطرد أحداث من التاريخ من أجل مصالح معينة؛ وبالتالي فإن إعادة هيكلة الهوية وتنحية الدين عنها يعد أمرا خطيرا.
** صحفي مصري.
=============
الهوية السودانية.. صراع ما بعد السلام(3/210)
2005/03/06
مروان الجبوري**
منذ استقلال السودان عام 1956م ظل سؤال الهوية مطروحًا عند النخب السودانية: من نحن؟ ورغم أن الإجابة على هذا السؤال قد حسمت على الصعيد السياسي الرسمي بانضمام السودان لجامعة الدول العربية؛ فإنه لم يحسم على مستوى النخب السياسية والثقافية حيث لا يزال الجدال حول هذه القضية محتدمًا.
ومنذ زمن ليس القريب شهدت صفحات الجرائد السودانية والمنتديات الثقافية ولا تزال سجالات حامية الوطيس حول هذه القضية، وقد كان لهذه النقاشات أبعاد سياسية غير خافية مختلفة بين رؤى عديدة تختلف في تعريفها للهوية السودانية ما بين عروبي يدعو إلى اندماج السودان في محيطه العربي، وأفريقاني يدعو إلى نبذ الهوية العربية والانفتاح على أفريقيا، وبين اتجاه يحاول المزج بين الثقافتين العربية والأفريقية في قالب جديد.
والآن ومع دخول اتفاقية السلام مرحلة التنفيذ هل سنشهد تعريفًا جديدًا للهوية السودانية يتجاوز التعريفات السابقة، أم أن المرحلة القادمة بما تحمله من فرز واستقطاب ستعيد هذه القضية إلى مربعها الأول؟.
تكوين متنوع.. منذ فجر التاريخ
لم يكن السودان المعروف اليوم بجغرافيته يمثل كيانًا سياسيًّا أو ثقافيًّا موحدًا قبل دخول العرب؛ فقد كانت تتوزع فيه أعراق وقوميات متنوعة وعقائد وأديان مختلفة؛ ففي الشمال حيث يعيش النوبيون كانت تنتشر المسيحية الأرثوذكسية كعقيدة واللغة النوبية بلهجاتها المختلفة كلغة للسياسة والثقافة والتخاطب. أما في شرق السودان فتعيش قبائل البجة وهي من الأقوام الحامية لها لغة خاصة وثقافة منفصلة. ومع اتجاهنا جنوبًا نجد القبائل الزنجية بسحناتها المميزة ولغاتها الخاصة، وكذلك الحال في غرب السودان.
وقد أحدث دخول العرب للسودان انقلابا هائلا في هوية هذه المنطقة؛ إذ ولدت مع دخول العرب الهوية السودانية الجامعة لتلك الأقوام والقبائل المختلفة؛ حيث أصبح الإسلام هو الوعاء الرئيسي الجامع لمعظم تلك الشعوب، وأصبحت اللغة العربية لغة العلم والثقافة، فضلا عن كونها لغة التخاطب بين القبائل المختلفة، فكونت بذلك عاملا توحيديًّا على الصعيد الديني والسياسي والاجتماعي.
فبعد توقيع اتفاقية "البقط" بين المسلمين والنوبة عام 652 للهجرة بدأ العرب يتسربون إلى السودان جماعات وأفرادًا حاملين معهم الإسلام ساعين وراء المرعى والتجارة، وبدأ العرب في توطيد نفوذهم السياسي شمال وشرق السودان عن طريق التصاهر مع النوبة والبجة، وقد استغلوا نظام الوراثة عن طريق الأمر السائد آنذاك في السودان، فاستطاعوا حكم مناطق واسعة من السودان، إضافة إلى أن حملهم للإسلام ولثقافة راقية مقارنة مع الثقافات السائدة أهّلهم ليخضعوا الآخرين لهم.
وقد قامت عدة ممالك عربية صغيرة في الشمال والشرق حتى استطاع التحالف بين قبائل العبدلاب العربية والفونج الزنجية عام 1504م من إسقاط مملكة "علوة" النوبية، فقام نتاجًا لهذا التحالف دولة "الفونج" أو سلطنة سنار الإسلامية التي حكمت وسط السودان، ومعظم شماله وامتدت إلى أجزاء من الشرق والغرب.
ولعل مملكة الفونج هي التي صبغت السودان بالصبغة الإسلامية وأعطته الانتماء الحضاري العربي؛ فقد شكل ذلك التحالف العربي الزنجي ميلاد الهوية السودانية الحديثة بشقيها العربي والزنجي.
ثم جاءت الدولة المهدية وغذت الشق العربي في الثقافة السودانية حتى أصبح سائدًا، واستطاعت هذه الدولة أن توحد السودان المعروف اليوم بحدوده المترامية الأطراف (باستثناء الجنوب)، وأعطته نظامًا سياسيًّا وإداريًّا موحدًا، وأصبحت اللغة العربية لغة التخاطب بين جميع السودانيين على اختلاف مشاربهم القبلية والقومية، وفي تلك الفترة ولد السودان الذي نعرفه اليوم بملامحه المعروفة.
ظل الوضع كذلك حتى مجيء الاحتلال البريطاني للسودان، وبعد تأسيس الأحزاب السودانية الكبرى وعلى رأسها حزب الأمة (الذي يمثل طائفة الأنصار)، وحزب الشعب (الذي يمثل طائفة الختمية) الذي تحول بعد ذلك إلى الحزب الاتحادي الديمقراطي، في هذه المرحلة بدأ سؤال الهوية يطرح نفسه وبقوة: من نحن؟ ولعل الاتجاهات السياسية السائدة آنذاك كانت تضفي على هذا السؤال بعدًا سياسيًّا؛ فحزب الأمة الذي كان يقوده عبد الرحمن المهدي كان يدعو إلى الاستقلال والانفصال عن مصر، وقد رفع رئيسه شعار "السودان للسودانيين"، أما الحزب الاتحادي الذي كان يرأسه علي الميرغني فكان من أنصار الوحدة مع مصر.
وحتى تلك اللحظة لم يكن الفرز على أساس الهوية قائمًا؛ فحزب الأمة كان منذ تأسيسه عروبيًّا رغم برنامجه القائم على السودنة؛ فإن مآلات الدعوة إلى السودنة تطورت فيما بعد إلى تيار يدعو إلى تكوين هوية خاصة بالسودان، وبدأ هذا التيار في الانتشار وانتقل ثقله بعد ذلك إلى الحزب الشيوعي السوداني الذي تبنى هذه القضية، ثم ظهرت جماعات سياسية كثيرة تبنت هذا الطرح.
والسودان اليوم يقف على أعتاب مرحلة السلام، عاد سؤال الهوية ليطرح نفسه من جديد وبصورة أكثر حدة تتفاوت في درجاتها بين التيارات السياسية والثقافية المختلفة، ويمكننا أن نجمل الأطروحات والرؤى الموجودة في الساحة السودانية حيال قضية الهوية إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية..
عروبة السودان ليست وهمًا
أول هذه التيارات هو التيار العروبي، وهو موجود في الساحة، وتتبناه قوى سياسية (الإسلاميون والقوميون) وجمعيات ثقافية وأدبية، ويقوم طرح هذا التيار على اعتبار أن السودان بلد عربي من حيث التاريخ والواقع؛ فقد عرف السودان العرب منذ ما قبل الإسلام، ثم لما جاء الإسلام ودخل العرب بقبائلهم المعروفة أحدثوا أهم التغييرات في السودان؛ إذ توحد هذا البلد الشاسع، وأصبحت اللغة العربية هي اللغة الجامعة للسودانيين جميعًا حتى إن القبائل الجنوبية التي تتحدث بلغات مختلفة أصبحت اللغة العربية هي لغة التفاهم فيما بينها.
كما أن التقاليد السودانية دلالة على أصالة الانتماء العربي للسودان؛ فهذه العادات كما يرى أنصار هذا التيار في مجملها عربية، وإن لم تخلُ من تأثيرات محلية بفعل البيئة، وهذا أمر طبيعي كما يقولون؛ فالعروبة مكون حضاري قابل للتفاعل مع مكونات أخرى؛ لذا فقد تفاعل مع الواقع السوداني وأنتج ثقافة عربية بنكهة سودانية.
ويواجه هذا التيار اتهامات على رأسها وصفه بالاستعلاء الثقافي والعرقي، ويحمل أعداء هذا التيار كل مشاكل السودان التاريخية القائمة على التناقضات الخاصة بالعلاقة فيما بين الشمال والجنوب، يحملونه المسئولية عنها.
والمتابع لصفحات الجرائد السودانية والمنتديات السياسية والثقافية يجد أن هذه التهمة أصبحت تلاحق التيارات الداعمة للعروبة في السودان، حتى وضعت تلك التيارات في قفص الاتهام، وانشغلت بنفي التهمة عن العروبة بالاستعلاء وتبرئتها مما حصل من مشاكل بين الشمال والجنوب.
ومع مجيء السلام.. هل سينزوي هذا التيار ويعدل من أطروحاته ليوافق الموجة السائدة، أم أن الفرز والاستقطاب القادمين سيزيدان هذا التيار قوة ويعطيانه مشروعية جديدة تتمثل في الدفاع عن الإسلام والعروبة في وجه مد كاسح يرفض كل ما له علاقة بالعروبة وربما الإسلام؟.
الأفريقانية.. دعاوى التهميش والرجوع للأصل(3/211)
لعل هذا التيار لم يعد يملك قبولا واسعا كما كان سابقا؛ إذ طغت عليه شعارات أخرى، إلا أن هذا التيار ما زال موجودا، ويقدم طرحا يعتبر السودان بلدا أفريقيا بحكم التاريخ والجغرافيا والتكوين السلالي، وأن العرب وافدون على السودان فعليهم الذوبان في ثقافة هذا البلد الذي وفدوا عليه، كما أنهم يحمّلون العرب ما يرونه تهميشا وقع عليهم وانتقاصا من حقوقهم؛ فالعرب في رأيهم قد حكموا السودان منذ استقلاله واستأثروا بثرواته ولم ينل (الأفارقة) من تلك الثروات إلا الفتات.
ويعتبر هؤلاء أن السودان عانى من حكم عروبي استعمر سكان السودان الأصليين، وأن على الأمور أن تعود إلى نصابها باعتبار السودان بلدا أفريقيا والانسلاخ من جامعة الدول العربية وقطع العلاقات المميزة التي تربط السودان بالعالم العربي والاتجاه إلى أفريقيا.
وتجلت هذه الدعوة في جمعيات أدبية وشعراء، من أشهرهم الشاعر محمد مفتاح الفيتوري (الذي تحوّل عروبيا فيما بعد)؛ حيث أصدر عدة دواوين يتغنى فيها بأفريقيا والانتماء إليها، وكذلك فرق موسيقى الجاز التي ظهرت وحاولت أن تضفي بعدا أفريقيا على الثقافة السودانية. ولعل أبرز ممثل لهذا التيار سياسيا هو الحركة الشعبية لتحرير السودان التي وإن تغيرت أطروحاتها تجاه هذه القضية باتجاه السودنة والاعتراف بالثقافة العربية فإن البعض يعتبر ذلك تكتيكا سياسيا وليس نابعا عن قناعة حقيقية.
وقد بلغت بعض الرؤى في هذا المجال حدا من التطرف شبهت فيه السودان بالأندلس التي خرج منها العرب بعد حكم ثمانية قرون تقريبا، وأن العرب في السودان لا بد أن يخرجوا من السودان كما خرج عرب الأندلس.
السودانوية.. الطريق الثالث
ظهر هذا التيار نتاجا للدعوة لمدرسة "الغابة والصحراء" التي دعا إليها رواد الحركة الأدبية الحديثة في السودان، وكان على رأسها شعراء أشهرهم محمد عبد الحي الذي كتب قصيدته الشهيرة "العودة إلى سنار" التي قال فيها:
أنا منكم تائه عاد يغني بلسان
ويصلي بلسان
وسنار (عاصمة مملكة الفونج) في وجدان "السودانويين" رمز لامتزاج العروبة والأفريقانية، هذا الامتزاج الذي أنتج ثقافة سودانية عربية اللسان أفريقية الملامح.
ويرى هذا التيار أن الدعوات التي يصفها بالمتطرفة من الطرفين (العروبيين والأفريقانيين) قد أضرت بالسودان، وأنه لا بد من تجاوز هذين الطرحين إلى طرح أكثر شمولا يأخذ أفضل ما في الثقافتين العربية والأفريقية دون إغفال الخصوصية السودانية، ورغم أن مواقف هذا التيار أقل حدة تجاه العروبة فإنه ما زال يعتبر الانتماء العربي عبئا على السودان، وأن على السودان ألا "يكبل" بهذه العلاقة التي يرون أنها لم تجلب الخير له، كما أنها لم تستطع أن تدمج السودانيين في المحيط العربي.
ولعل "السودانوية" أصبحت موضة في السودان؛ فقد أصبحت الأحزاب والتيارات السياسية والثقافية تتبارى في إثبات ولائها لهذا الاتجاه وما يتبعه من جلد للتاريخ السوداني، ووصمه بحقبة السيطرة الشمالية العربية، وقد تحولت كثير من القوى الأفريقانية إلى الدعوة للسودانوية (الحركة الشعبية نموذجا)؛ وهو ما أضعف التيار الداعي للأفريقانية كما قدمنا، وبغض النظر عما إذا كان هذا الإقبال على هذا الطرح تكتيكا مؤقتا أو إستراتيجية دائمة فإن المتابع للساحة السودانية يجد أن هذا التيار بدأ في البروز والانتشار؛ وهو ما يمهد لمنهج جديد في التعاطي مع قضايا الصراعات الدائرة في السودان.
رؤى متنافرة.. هل بالإمكان التعايش؟
في خضم التنازع الدائر حول هذه القضية يبقى السؤال: هل ستشهد سنوات السلام حسما لهذه القضية؟ وهل سنشهد تعريفا جديدا يأتي كنتاج للحراك السياسي والثقافي والاجتماعي في مرحلة يفترض أن تكون لبناء الثقة؟ وهل ستنتهي الظلامات التي ظل البعض يجهر بها ويرفع بها عقيرته تحت شعار الدفاع عن الهويات المحلية ضد الاستعلاء العروبي والهيمنة الشمالية، أم أن المرحلة القادمة ستعيد كلا إلى معسكره؟ أسئلة نترك للأيام الإجابة عنها.
===============
الأفريقانية والعروبة.. صراع دارفور في مرآة الهوية
2004/08/17
ممدوح الشيخ**
في الحرب العالمية الثانية كان الزعيم السوفيتي ستالين يقول لجنود الجيش السوفيتي إن عليهم أن يحقدوا على الألمان حتى ينتصروا عليهم، وانتهت الحرب العالمية الثانية وزال النظام النازي وبقي الحقد في نفوس الروس. وفي عام 1972 وقّع المستشار الألماني السابق فيلي برانت اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي تنص على تسوية أي خلافات بين البلدين دون اللجوء للقوة، وكانت النخبة السياسية في البلدين من الوعي بحيث أقدما البلدان على عقد الاتفاقية متجاوزين الميراث القديم، أما الجماهير على الجانبين فكانت أسيرة "الحقد المقدس"، وعبّر القوميون الروس عن مشاعرهم إزاء الاتفاق بالبكاء -الحقيقي لا المجازي- فالحقد إذا انتشر وتجذر في وعي شعب تجاه شعب ما فمن الصعب بمكان إزالته، وهو أكثر وسائل الصراع خطورة.
صناعة "الحقد المقدس"
وفي أزمة دارفور لعبت صناعة "الحقد المقدس" دورا كبيرا في الوصول للأزمة الحالية، ولهذه الصناعة أدبيات ومقولات تشكل العمق الثقافي لهذه الأزمة. وسواء قبلنا أم لا فإن الهوية تظل وقودا للصراع حتى لو كانت مجرد لافتة تختفي خلفها المصالح نفطية كانت أو غير نفطية، والصراع السياسي على السودان نموذج مثالي لهذا الصراع بآلياته ومقولاته وأكاذيبه المخترعة بحرفية مدهشة!
الأزمة في دارفور -شأن أزمة الجنوب- جزء من مخطط لإعادة اختراع أفريقيا في ثوب جديد تماما. وقلب القارة الأفريقية يعيش حالة من التمزق والتشرذم غير موجودة في أي مكان آخر في العالم يؤججها بشكل أكثر حدة الصراع الأمريكي الفرنسي، والإطار العام للمخطط عزل الوجود العربي في شمال أفريقيا كمقدمة للتخلص منه نهائيا لاحقا. ويقوم المخطط على تقسيم القارة إلى ست دول بناء على مقاييس للتجانس الثقافي والديني، وفي ضوء هذه الخريطة السياسية تبدو معالم الخريطة الجديدة، حيث تقترح الورقة التي قدمت في مؤتمر كمبالا (1994) إلغاء حدود جميع الدول الأفريقية، وتقسيم القارة على النحو التالي:
1- جمهورية الصحراء وتمتد من مصر حتى موريتانيا، وتضم الجزء الشمالي من السودان.
2- جمهورية أفريقيا الوسطى وتضم أوغندا وكينيا وزائير وتشاد والكاميرون والكنغو وأفريقيا الوسطى، وتضم الجزء الجنوبي من السودان.
3- جمهورية سنغامبيريا (semganmberia) وتضم دول الحزام السوداني من السنغال إلى نيجريا مع استبعاد السودان.
4- جمهورية أريثوميا وتضم دول القرن الأفريقي إثيوبيا إريتريا الصومال.. جيبوتي مع ابتعاد السودان.
5- الجمهورية السواحيلية وتضم الدول الناطقة باللغة السواحيلية.
6- جمهورية موزامبيا وتضم كل دول الجنوب الأفريقي.
وبطبيعة الحال لا يعني هذا أن تغييرات بهذا الحجم ستحدث على الفور بمجرد اندلاع تمرد في غرب السودان، كما لا يعني أن الأهداف البعيدة للمخطط تلغي عدالة مطالب سكان الإقليم، والاختبار الحقيقي هو في القدرة على نزع فتيل الأزمة على نحو لا يخدم المخطط النهائي.
"الصهينة" عبر القيم(3/212)
ولنحقق هذا الهدف ينبغي أولا استيعاب الدرس الخطير الذي تنطوي عليه عملية تسويق "الهوية الجديدة"، والنجاح في دفع جماعات عديدة في أفريقيا لاتخاذ موقف معاد للعرب كعرق والإسلام كدين، وهو أمر يكاد أن يتحول إلى نمط عام متكرر عند أسياسي أفورقي أو جون جارانج أو يوري موسيفيني. والحركة الأفريقانية حركة قومية متطرفة يتزعمها حاليا الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني وهو يرفع شعار "دولة مصد في جنوب السودان تواجه النزعة التوسعية الأصولية العربية". وقد كانت مثل هذه الدعوات تستقبل بقدر كبير من عدم الاهتمام غير أنها انتقلت -مثلا- إلى بربر المغرب الذين تظاهروا في مايو 2002 رافعين شعار طرد العرب من شمال أفريقيا، وللمرة الأولى في تاريخ المغرب الحديث يتوجه الملك إلى القوات المسلحة داعيا إياها إلى الحفاظ على وحدة البلاد.
وفي إطار مخطط طويل الأمد تم بناء ثقافة متكاملة معادية للعرب ورسمت لهم صورة نمطية ننقل بعضا من ملامحها من ورقة بحثية شديدة الأهمية عنوانها: "نحو رؤية إستراتيجية للعلاقات العربية الأفريقية" قدمها كويسي كوا براه (مدير مركز الدراسات المتقدمة في المجتمعات الأفريقية بكيب تاون جنوب أفريقيا) إلى اجتماع خبراء الاتحاد الأفريقي بشأن رؤية إستراتيجية جيوسياسية للعلاقات العربية الأفريقية (22 أيار 2004).
وعلى خلفية الدور الكبير الذي لعبته الصهيونية غير اليهودية في دعم الحركة الصهيونية أدرك الصهاينة أهمية دور "القيم" و"الهوية" في اكتساب الأنصار والحلفاء للمشروع الصهيوني مقدرين الأثر الكبير لفكرة التشابه مع من يسعون للحصول على دعمهم وصياغة تصور قيمي يقنع المستهدفين بأن ثمة "قيما مشتركة"، ولنتذكر النجاح الكبير لفكرة القيم المشتركة المسيحية اليهودية.
وعلى هذا المنوال عمل الصهاينة في أفريقيا رغم أن الأفارقة وقت ميلاد الحركة الصهيونية لم يكن لهم أي وزن دولي يذكر بل كانت أفريقيا كلها مقسمة يبن القوى الاستعمارية الغربية. لكن الدافع المباشر آنذاك كان ما يسمى "مشروع أفريقيا" الذي كان في نظر بعض التيارات الصهيونية بديلا أكثر ملاءمة من فلسطين لإنشاء الدولة اليهودية.
وحسب الدكتور علي مزروعي فإن "مؤسس الصهيونية واصل التفكير في أفريقيا على أنها امتداد ممكن للكيان الصهيوني أكثر من كونها وطنًا لليهود، ولمّا كانت هناك أعداد كبيرة من اليهود الذين أرادوا الاستقرار معًا في مناطق يستطيعون فلاحتها بأنفسهم، ويسمونها وطنًا مشتركًا، فقد اعتبرت فلسطين مكانًا غير مناسب لكل اليهود الذين أرادوا الاستقرار معًا بهذه الطريقة".
وفي إطار حالة التأرجح التي انتهت بالتركيز على فلسطين احتفظت أفريقيا بأهمية خاصة بوصفها مركزا تبادليا أو احتياطيا للصهيونية، أي أن أفريقيا بقيت ذات أهمية خاصة في المشروع الصهيوني حتى بعد الاستقرار على فلسطين كاختيار نهائي. وانفرد التعامل الصهيوني مع أفريقيا بدرجة عالية من الخصوصية وبخاصة في إطار عملية بناء روابط أيدلوجية تربطها بالحركة الصهيونية، ووقع الاختيار على "حركة الجامعة الأفريقية" (ومن رحمها ولدت الحركة الأفريقانية) لتتم عملية توأمة بينها وبين الصهيونية. وتظهر عملية التوأمة هذه في صياغة أساطير ترسخ مقولة التماثل بينهما، كالقول بخضوع كل من اليهود والأفارقة (الزنوج) لاضطهاد مشترك، وأنهما من ضحايا التمييز العنصري، وبينهما بالتالي تفاهم متبادل، وإضفاء مسحة صهيونية على حركة الجامعة الأفريقية، وقد أطلق عليها "الصهيونية السوداء"، وأطلق على أحد زعمائها "النبي موسى الأسود".
في مواجهة الزنوجة
وبعد الحرب العالمية الثانية أدرك الصهاينة أهمية احتواء القيادات الوطنية والمثقفة في أفريقيا مع حركة التحرر فاقتربت من نكروما ونيريري وسنغور وكان وزنهم في حركة التحرر الأفريقية ضروريًّا لتحجيم صلة هذه الحركة بالعالم العربي. وبلغت الآثار لهذه الجهود المنظمة حد العداء السافر في بعض المناطق، ففي مايو 1982 قدم مائة وستة نواب بالبرلمان الفيدرالي النيجيري مذكرة يطالبون فيها الدول الأفريقية ومعها نيجيريا بإعادة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية مع الكيان الصهيوني على أساس أن مصالح أفريقيا السوداء ليست هي نفس مصالح الدول العربية وأن الأفريقانية تختلف عن العروبة.
وقد تحولت الأفكار إلى مشروع سياسي عبر مجموعة من الآليات، فالهجرة اليهودية الأفريقية إلى فلسطين، وبلغت ما نسبته 18% من مجموع السكان اليهود تقوم بدور "الجسر" ثقافيا وسياسيا واقتصاديا بين الكيان وأفريقيا، كما تعتمد الحركة الأفريقانية على شبكة تحالفات؛ ففي جنوب السودان هناك جماعة الدنكا التي تنشر ثقافة الكراهية بين العرب والأفارقة، كما أبقى الكيان على تعاون وثيق مع جماعة الأمهرا الحاكمة في إثيوبيا مستغلا البعد الأيديولوجي فلدى هذه الجماعة مزاعم بالانتماء إلى "الأسرة السليمانية"، وقياداتها يسمون أنفسهم "زعماء إسرائيل".
وفي نيجيريا قامت إسرائيل بمساعدة جماعة الأيبو في الإقليم الشرقي لمواجهة الإقليم الشمالي، ويضم أغلبية مسلمة حتى وصل الأمر إلى حد إعلان استقلال الإقليم الشرقي تحت اسم جمهورية بيافرا عام 1967، واعترفت بها إسرائيل بدعوى أن الأيبو قومية متميزة، كما أطلق الإعلام الصهيوني عليهم "يهود أفريقيا".
ورغم كل ما تملكه الحركة القومية الناهضة وما تتمتع به من دعم إقليمي ودولي فإن مواجهتها تظل ممكنة وبخاصة إذا استطعنا تحديد نقطة الضعف الرئيسية فيها؛ فصراعات المصالح دائما تحتاج إلى أفكار قادرة على اجتذاب الأنصار، وهنا يأتي دور "الفكرة". ونقطة الضعف التي نبحث عنها يشير إليها تاريخ الحركة نفسه، فخلال سبعة مؤتمرات عقدتها الحركة أولها عام 1900 في لندن، وآخرها في كمبالا عام 1994، ولدت فكرة وحدة المصير والهدف بين أفارقة القارة وأفارقة الشتات، وأثناء تطور حركة الجامعة الأفريقية بدأت تظهر فكرة "حركة الزنوجة" في المؤتمر الخامس لحركة الجامعة الأفريقية عام 1945، وفي مؤتمر الحركة السادس (1974) نادى أحمد سيكوتوري بإعلان النضال ضد فكرة الزنوجة التي تعرف الأفريقي بلون سحنته، وقال إن الزنوجة والعنصرية وجهان لعملة واحدة. وهنا مربط الفرس؛ فالحركة التي تشكل خطرا علينا ولدت مصابة بجرثومة فشلها إذا نجحنا نحن في تعرية حقيقتها أمام الرأي العام العالمي، لا من خلال التركيز على علاقتها بالكيان الصهيوني فلهذا المنطق تأثيره في الداخل فحسب، بل من خلال فضح الطبيعة العنصرية للفكرة.
الأفريقانية والعروبة والإسلام
قد يكون ملحًا التساؤل بعد عرض هذه الخلفيات الصادمة التساؤل بوضوح عن الإطار الأنسب للتعامل مع هذه الأزمة المرشحة للتصاعد، فمن البديهي أن من حق الأفارقة أن تكون لهم رؤيتهم القومية المغايرة، ومن طبائع الأشياء أن يسعى الكيان الصهيوني لاحتواء هذه الحركة القومية الناهضة، أما غير الطبيعي فهو أن نتصور أن الأفريقانية الناهضة "ينبغي" أن تكون حليفا للعروبة والإسلام. والحق لا ينتصر بذاته بل بحسن عرضه والدفاع عنه بل القتال عنه بآليات الثقافة والسياسة والإعلام ليكون التحالف الذي ما زال ممكنا بين العروبة والأفريقانية خيارا ينحاز إليه الأفارقة طواعية عبر قناعات مشتركة ومصالح متشابكة.(3/213)
ووصول مقولات العداء للعرب داخل العالم العربي لا تصلح لمواجهته آليات الصراع والاستبعاد بل الحوار والتعاون على أرضية الحفاظ الذي لا مواربة فيه على حقوق الإنسان وقبول التعددية، فبناء سودان تعددي ليس فقط المخرج الوحيد من الأزمة بل الجسر الذي يمكن العبور عليه لتقويض مملكة يهوذا الأفريقية بالآليات نفسها التي بنيت بها. والصراع هنا صراع مركب ممتد تمثل السياسة وجها واحدا له بل تمثله ثمرته، وبدلا من التصلب السياسي الذي يعتبره البعض صمودا في معركة فاصلة نحن أحوج ما نكون لمرونة سياسية شديدة تترافق مع رؤية شاملة ثقافية سياسية لمواجهة الأفكار والبنى التنظيمية وشبكة المصالح التي شيدها الكيان الصهيوني لتكون قاعدة للتشكيل القومي الناهض، والعمل لبناء واقع بديل.
وإذا كان الصهاينة قد نجحوا في تحقيق اختراقات ونجاحات كبيرة فينبغي ألا ننسى في المقابل أنهم قد منوا بخسارة تاريخية في الميدان نفسه بزوال نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي كان أحد أهم مرتكزات المشروع الصهيوني في أفريقيا بل أهم مرتكزاته على الإطلاق.
بقي أن نشير إلى أن "الحركة الأفريقانية" -رغم أهميتها الشديدة- لا يكاد يوجد كتاب واحد بالعربية يتتبعها. وهو ما يؤكد استمرار تصدر ظاهرة الغفلة للمشهد العربي الراهن. وقد جاءت أزمة دار فور لتفجر عدد من قضاياه الملغومة وعلى رأسها إعادة طرح قضيتي الأقليات و"التخوم" (تركيا - إيران - القرن الأفريقي...) وضرورة بناء جسور تعاون حقيقية معها كجزء رئيس من أي تصور لأمننا القومي.
--==============
"الهوية".. البحث الدائم عن الخلاص!
د. السيد نجم
إن الوعي المُشِفّ بين طيات العمل الأدبي عمومًا، ليس إلا وعي الأديب ذاته، ولا يجب أن تكون مقولات الأديب فعلاً مقحمًا على خصوصية العمل الأدبي؛ لذلك يُعَدُّ أدب المقاومة هو شكل الحوار الإنساني المبدع المعبر عن الصراع بين الواقع والمثال أو العقلي والتنظيري المرجو.. بهدف إعلاء شأن الواقع عَلَّه يقترب من المثالي. وتُعَدُّ المقاومة رد الفعل في حالة توافر عنصر "الوعي" بالذات والآخر مع توافر عنصر الرغبة في التجاوز والإنجاز.
وفى قضية "الهوية" يلزم الإشارة إلى مصطلحي "الانتماء" و"الالتزام" مع توجه سياسي واعٍ في إطار ثقافي عام يعي الحضارة الإنسانية وكينونة الذات وخصوصيتها، إلا أن السؤال عن الهوية يُعَبِّر ضمنًا عن الخوف من الغياب في مواجهة "الآخر" خصوصًا خلال فترات التحول في حياة الشعوب.. لكن السؤال نفسه يحمل قدرًا من الطموح والرغبة في التحقق.
أما عن مصطلحي "الانتماء" و"الالتزام"، فقد شاعا في القرن العشرين، حيث لعبت المذاهب الفكرية دورًا في توجيه الأدب، فشيوع الواقعية صاحب الدعوة إلى الانتماء (الذي هو الانتساب إلى الواقع لكونه جزءاً من الإنسانية) مع الدعوة بالالتزام بوجهة نظر أو موقف معين.
كما أنه في معجم "لاروس": الالتزام هو المشاركة في القضايا السياسية والاجتماعية، والملتزم هو الذي يتخذ موقفًا في النزاعات المختلفة معبرًا عن طبقة أو حزب أو نزعة.
وفي الفكر الوجودي للانتماء والالتزام أهمية خاصة، حتى جاء "جان بول سارتر" وقال:
"إن الإنسان مصدر الوجود، فهو الذي يعطى للأشياء معناها، ولا قيمة لأي شيء غير ذات الإنسان؛ لذلك يُعَدُّ حُرًّا.. عليه فالأديب ملتزم إذا ما اختار مهنة الكشف عن سر الإنسان والعمل على كشف ما يراه معيبًا، وهو بنفس الدرجة يُعَدُّ مسئولاً".
لقد بدأ القرن العشرون والعالم العربي يبحث عن ذاته (هويته) في مواجهة الآخر المحتل.. والطريف أن ينتهي القرن ونحن في بداية قرن جديد.. وما زالت القضية (الهوية) محل سؤال، فإن كانت القضية في البداية تبحث عن الخلاص من المستعمر، فإنها الآن تبحث عن الخلاص الثقافي والفكري في ظل ثورتي الاتصال والمعلومات، وهو ما يطلق عليه بالغزو الثقافي والهيمنة الإعلامية، وقد أثارت المخاوف بالتالي: (التعرض لفقدان الهوية العربية والإسلامية حالة من الاغتراب قد تصيب الصغار والشباب، والتأثير على بعض الثوابت الثقافية بالمنطقة العربية.. وغيرها).
ربما تجدر الإشارة إلى بعض الملامح الفكرية في بدايات القرن العشرين، ولتكن تلك المناظرة الفكرية التي دارت بين الشيخ "محمد عبده" والكاتب "فرح أنطون"، حيث كان البحث عن الهوية متمثلاً في فكرة أصول الدولة المدنية.
فقد قال الشيخ بضرورة توافر النظر العقلي لتحصيل الإيمان، والبعد عن التكفير، والاعتبار لسنن الله في الخلق مع عدم إعطاء السلطة للشيوخ وإبقاء مدنيين عليها.
أما فرح أنطون فقال بأن غرض الحكومة المدنية حفظ الأمن بين الناس وحفظ الحرية ضمن دائرة الدستور، والمساواة بين الناس بقطع النظر عن مذاهبهم ومعتقداتهم، وأن للسلطة الدينية اختصاصاتها المحددة.. مع النظر إلى أن العقل البشرى مطبوع على الاختلاف والكون مطبوع على التنوع.
والآن جاء دور الرواية.. الطريف أن فن الرواية لم يكن بالفن الراسخ بعد خلال بدايات القرن العشرين، ويمكن التأكيد بثقة الآن أن هذا الفن ولد وترعرع ورسخ تحت إلحاح الحاجة إلى التعبير الإنساني عن تلك القضايا الفكرية التي راجت في ذلك الحين، وكانت هناك العديد من المحاولات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للتعرف على فن الرواية الذي بدأ بالترجمة ثم المحاكاة الكاملة وغيرها من المحاولات.
إلا أن الراصد لتلك الفترة وما كتب حقيقة في هذا الفن، لا يجد إلا قضية الهوية والبحث عن الذات هي الأصل وهي الدافع الحقيقي وراء روايات كتبت بالفعل (بغض النظر عن البعد التقني والفني الذي وصلت إليه الرواية فيما بعد).
فقد استخدمت الرواية كسلاح له دوره، وهو ما قام به "فرح أنطون" نفسه بعد كل المناظرات الشاقة التي مارسها أمام الشيخ "محمد عبده".. فنشر رواية "الدين والعلم والمال" عام 1903م، ثم رواية "أورشليم الجديدة" عام 1904م ولعلهما من أولى الروايات التي كتبت في مجال المقاومة بإبراز أهمية الإصلاح والنقد الذاتي، والبحث في أثر الصراع بين ذوات "الأنا الجمعي" من الطوائف والفئات والطبقات داخل المجتمع الواحد، وبهدف البحث عن "الهوية".
* رواية "الدين والعلم والمال":
ارتكن الراوي على رموز محددة، حين وقف "حليم" على رأس ثلاث مدن "الدين" و "العلم" و "المال".. وقد غاب التسامح بينهم، فكان الصراع بينهم.
فشخصية "حليم" وهو شاعر فنان وكأن الفن في مقابل التعصب. أما صديقه "جميل" فله دوره المكمل.. وكلاهما يعبران أو يرمزان للحلم أو الصبر والجمال.. وكأنها القيم المطلوبة لتحقيق العدل.
أما شخصية "شيخ العلماء" وهو على رأس مدينة العلم.. فهو يرى بأهمية التسامح بين الناس مع نبذ التعصب. وتبرز الرواية أن العدو الحقيقي للعلم والدين معًا هو الأثرة والشراهة والرغبة في الانفكاك من كل قيد.
* رواية "أورشليم الجديدة":
تتبنى الرواية يوتوبيا "فرح أنطون" للفردوس الجديد على الأرض، فيقول على لسان أحد شخوصه: "إن إصلاح الأرض مسألة هامة، وإن أورشليم القديمة يجب أن تفسح مجالاً لأورشليم الجديدة".
لذلك يختم الرواية على لسان الراوي قائلاً: "ليس لنا الآن أمل (بعد الله) إلا فيك أيها العلم، ولا رجاء إلا في الطبيعة الإنسانية وهي الأقوى؛ لأنها الفاعل".
يقول د. جابر عصفور عن تلك الرواية: "إن أورشليم الجديدة هي الوطن العربي الذي لا بد أن تتآلف فيه الأديان والمعتقدات وتتجاوب على أساس من احترام حق الاختلاف، وأن(3/214)
العدل هو الوجه الآخر للعلم".
سنكتفي الآن بهاتين الروايتين عَلَّهما عبرتا عن "الهوية" في مجال المقاومة والبحث عن الذات الجمعية.. والتراث الروائي مليء بأمثلة أخرى لها وقفات غيرها.
===============
انتخابات البوسنة.. المسلمون انتصروا في تحدي الهوية
21/10/2002
د. حمزة زوبع **
الكبار قبل الصغار اندفعوا لمواجهة تحدي الهوية
وسط عاصفة من التصريحات الملتهبة التي حملت تهديدات مباشرة وغير مباشرة للبوسنيين لحملهم على انتخاب من لا يرغبون في انتخابه (وفق قواعد الديمقراطية الغربية الحديثة!)، وإلا فسيُحرمون من التقدم والتطور واللحاق بركب الحضارة والمدنية، أو كما عبر أحد الصحفيين البوسنيين "اللحاق بآخر القطارات المتجهة إلى أوربا".. في هذا الجو المشحون برسائل ملغومة من الشرق ومن الغرب، من خافيير سولانا وبادي آشدون وروماني برودي وآري فليشر كان على البوسنيين أن يختاروا من اختارهم لهم الغرب، لكنهم أبوا أن ينصاعوا رغم صراحة ووقاحة التهديد، ورغم إدراكهم قوة وجبروت من يهددهم.
هنا يجب أن يثور السؤال المؤجل الذي يستحيي البعض من أن يطرحه في أماكن أخري من العالم.. هل يمكن للشعوب الصغيرة أو الضعيفة أن تقول لا، وأن تمضي في مخططاتها بعيدا عن رؤية القوى الدولية المؤثرة؟ وهل هذا يعدّ تحديا؟ أم أن التحدي هو أن تفرض القوى الأجنبية رؤيتها وأجندتها الخاصة على الشعوب بدلا من أن تساعد هذه الشعوب على تحقيق أجندتها الوطنية؟
هل في اختيار شعب لممثليه ونوابه تحدٍ لدول العالم؟ وهل هذا نقص في الخبرة وضعف في البصيرة كما يرى البعض؟ أم أن حسابات الشعوب مختلفة؟ كما أن مصادر القوة ليست بالضرورة حكرا على جانب واحد، كما أنها ليست محصورة في مصدر واحد، والأهم أن المصادر التي تبدو ضعيفة قد يكون لها الغلبة في نهاية المطاف، ويمكننا اعتبار ما حدث في البوسنة وباكستان والمغرب دليلا على أن الانكماش الذي حدث بعد 11 سبتمبر أعقبه تمدد قد لا يمكن السيطرة عليه لاحقا.
رسالة واضحة
في انتخابات البوسنة الأخيرة كانت الرسالة واضحة بحيث لا تخطئها العين المجردة، فالبوسنيون يعلمون أن عالم ما بعد 11 سبتمبر عالم مختلف بالكلية عن عالم ما قبل 11 سبتمبر، وهم يعلمون قبل غيرهم أن القوة الوحيدة في العالم متوغلة ومتنفذة في النسيج السياسي والإداري للبوسنة، وأن خيوط العمل السياسي التي غزلت في "دايتون" ما زالت في يد الصانع نفسه الذي يمكنه نقض الغزل إن شاء، وهم يعلمون أن أمريكا بإمكانها إحداث التغييرات التي تريدها بالطريقة التي تراها مناسبة لها، ومع ذلك كان قرارهم "لا" بالبنط العريض، لا ينطبق هذا القرار على المسلمين فحسب، بل امتد إلى الكروات والصرب كذلك.
ملامح التحدي
من زاوية التحدي التي خاضها البوسنيون يمكننا قراءة ملف الانتخابات البوسنية الأخيرة من خلال المؤشرات التالية:
-35 مرشحا للرئاسة الثلاثية (مطلوب ثلاثة فقط) أي بنسبة تصل إلى 12 ضعفا.
-7000 مرشح و57 حزبا يتنافسون على مقاعد البرلمان والمجالس النيابية لاتحاد المسلمين والكروات ولصرب البوسنة.
-إقبال ضعيف لأول مرة منذ "دايتون" (فقط 55% من الناخبين أدلوا بأصواتهم).
-الشباب يتراجعون، والكبار يقبلون على صناديق الاقتراع.
-أول انتخابات بوسنية تُجرى بدون مراقبين دوليين.
-طيف من الأحزاب العرقية التي تحاول تجميل تاريخها المتعصب بزرع بعض الأشخاص المعتدلين في قوائمها الانتخابية.
-تحالفات الشيوعيين القدامى مع اليمينيين المسيحيين، ومن يطلق عليهم "المعتدلون" من المسلمين.
-دعم أوربي علني للحزب الديمقراطي الاشتراكي جاوز الخطوط الحمراء.
-قانون يلزم بضرورة أن تكون البرلمانات متعددة العرقيات، في الوقت الذي يخوض الحزب الصربي الديمقراطي الانتخابات وحده فيما يعرف بجمهورية صرب البوسنة.
-المفوضية العليا تعترض على بعض المرشحين الأقوياء من حزب العمل الديمقراطي!
والنتيجة
كما كان الحال في انتخابات 1990 قبيل اندلاع الحرب مباشرة، تحقق فوز للأحزاب القومية جعل البعض يخشى اندلاع حرب جديدة كما اندلعت في التسعينيات. لكن "بادي آشدون" المفوض الدولي للبوسنة قلل من ذلك بالقول: "إنها كانت تعبيرا عن الغضب الشعبي لإخفاقات الحكومة الحالية". وبالطبع فهو يحاول أن يقفز على جزئية مهمة للغاية، وهي التحدي الذي أبداه البوسنيون لمحاولات الغرب فرض خريطة سياسية بعينها.
المفاجأة جاءت عبر السقوط المدوي للحزب الاشتراكي الديمقراطي في البوسنة أمام حزب العمل الديمقراطي الذي أسسه علي عزت بيجوفيتش الذي حوصر حصارا سياسيا لم يُشهد له مثيل، حتى إن وكالات الأنباء الغربية التي غطت الحملات الانتخابية كانت تركز فقط على هتافات المؤيدين "الله أكبر"، وتعتبرها ردة إلى الخلف ورجعية.
ولعل أسوأ ما أفرزته الانتخابات الأخيرة هو كيف أن الغرب الذي يُفترض فيه أن يحارب الفساد والمفسدين وقف وبقوة إلى جانب المرشح البوسني "زالاتكو لاجومزيديا" الذي اشتهر بالفساد، وعيّرته الصحف الأوربية واتهمته بإطلاق يده في السلطة، وبتهديده للصحفيين المناوئين له. وبدلا من أن يكشف الغرب عن فساد زالاتكو قبل الانتخابات (دفاعا عن الحرية والديمقراطية والشفافية) راح يخوّف البوسنيين من عودة الأحزاب القومية (الإسلامية)، وبدأ حملة ترويج لزالاتكو (المفسد حسب شهادة الغرب نفسه)!
ولكن هل ستفرز الانتخابات عودة إلى الماضي وزمن القتل بسبب الهوية؟
لا شك أن هناك تخوفات كثيرة، لكن هذه التخوفات ليس مصدرها الحرص على البوسنة ووحدتها بقدر ما هي محاولة لوصم أي عودة بوسنية للجذور عبر صناديق الانتخابات بأنها ردة للخلف، وكأنه يتعين على مسلمي البوسنة أن يختاروا الأحزاب التي يدعمها الغرب، ويتخلوا عن دعمهم للحزب الذي صمد بهم في وجه الموت، أو أن يوصموا بأنهم رجعيون أو متخلفون، أو أنهم لا يدركون حقيقة الأوضاع، أو أن يتم تضخيم الصورة بحيث يهرب كل من رغب في العودة، ويفرّ كل من يفكر في الاستثمار، والسبب أن الحكومة المقبلة هي حكومة "قومية" أو متشددة دينيا.
ويبدو أن محاولة الغرب قد فشلت وأنه لم يعد أمامه من بد سوى الاعتراف بالخسارة، وأن يتخلى عن التصريحات النارية، وأن يبدأ العمل الواقعي على أرض البوسنة، كما قال بادي آشدون: "الوقت ليس في صالحنا، يجب العمل على تشكيل حكومة تعمل لصالح الشعب".
الخلاصة
رغم أن البوسنيين قد عاشوا تجربة الانتخابات لأربع مرات، فإن المرة الأخيرة جاءت على نحو يدفع المرء إلى التفكير مرات في هذه الظاهرة الإسلامية في البلقان، وخصوصا في البوسنة، فرغم محاولات الاختراق، والتهديد، والسجن، والإبعاد، ورغم الحشد السياسي الغربي خلف مرشحين عُرفوا بأنهم موالون للغرب، ورغم أحداث 11 سبتمبر وما بعدها، فإن الانتخابات أفرزت واقعا جديدا، وأعطت نتيجة، ووجهت رسالة:
الواقع الجديد:
البوسنة كيانات وليست كيانا واحدا، وكل كيان له هوية، والمسلمون يعلمون أن الهدف كان وسيبقى القضاء على هويتهم، لكنهم منتبهون.
النتيجة:
أن الجذور الإسلامية ما زالت حية وقوية ومؤثرة في الواقع.
الرسالة:
ليس معنى الانحناء الاختفاء، وليس معنى النوم الموت، وليس معنى القوة الهيمنة، وليس معنى الضعف الزوال.
============
تركيا بين خيار الهوية الإسلامية والذوبان الأوروبي ... ...
أحمد محمود عجاج(3/215)
هل تدخل تركيا في المنظومة الأوروبية أو بعبارة أدق هل يسمح لها بالدخول؟ هذا السؤال لم يزل يحير القادة الأتراك منذ عقد الستينيات، ولم تفلح كل المحاولات وكل الجهود في ضمان دخول سريع لتلك المنظومة الأوروبية التي يتزايد تأثيرها وترتفع أهميتها يوما بعد يوم.
أوروبا لم تعد تلك المنظومة المتقاتلة والمتناحرة بل هي كيان ضخم لا يضاهيه في القوة إلا أميركا وقد يفوق الأخيرة على النطاق الاقتصادي، ولا عجب إذن أن تطمح تركيا لأن تدخل هذا النادي النخبوي على أمل أن تحقق فيه منافع ومكاسب وأهدافا أخرى.
لكن المشكلة التي تعترض عملية الدخول صعبة ومعقدة ومركبة في آن معا لكن يمكن اختصارها بمعادلة بسيطة تتمثل في ما يسمى عقدة التجاهل وسياسة التستر.
فتركيا تتجاهل أنها دولة مسلمة وتحاول إقناع أوروبا أنها علمانية وأوروبية مثلها مثل غيرها، وأوروبا تتستر على هذا التجاهل وتسايره وتحاول أن تؤكد هي الأخرى أنها علمانية ومنفتحة وليبرالية.
"
يمكن تفهم بعض الشروط الأوروبية المفروضة على تركيا مثل قضايا حقوق الإنسان، لكن ما لا يمكن فهمه أن تصبح عملية الدخول إلى الاتحاد الأوروبي مشروطة بالتخلي عن معتقدات في صميم دين الفرد
وهذا على ما يبدو صميم المشكلة، فلا أوروبا حسمت قرارها ولا تركيا اختارت هويتها، وكان الناتج التضارب في الأقوال والتستر وراء أقنعة زائفة.
السادس من أكتوبر/ تشرين الأول القادم سيكون حاسما لتركيا، لأن المفوضية الأوروبية ستقرر ما إذا كانت حكومة حزب العدالة والتنمية قد وفت بالشروط أم لا، إن وفت بالشروط فسيحال الأمر عندها إلى زعماء الاتحاد في اجتماعهم القادم في ديسمبر/ كانون الأول لإعطاء الإذن بفتح مفاوضات الانضمام للنادي الأوروبي.
لكن قرار البدء بالمفاوضات لا يعني أبدا القبول الحتمي لتركيا، بل قد يستغرق الأمر سنوات إن لم يكن عقدين من الزمن، ولذا لم يكن غريبا أن يشتد التراشق بين الطرفين ويتابعا سياستي التجاهل والتستر.
حدثان وقعا مؤخرا يسترعيان الانتباه هما مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية وتصريح المفوض الأوروبي الهولندي فريتز بولكشتاين، الحدثان يؤكدان صراحة أن سياسة التجاهل التركية والتستر الأوروبية لن يكتب لهما الاستمرار لأن تركيا وإن اختارت التجاهل طواعية فإنها تبقى محكومة في النهاية بمنطق الواقع وقوة التاريخ.
وأوروبا لن تستطيع هي الأخرى المضي قدما في سياسة التستر لأن المواجهة مع الحقائق ستجبرها على التخلي عن تلك السياسة وإعلان ما تضمره علانية، وهذا أمر منطقي لأن السياسة غير الواقعية والصريحة تصبح طلاء سرعان ما يتفتت أمام وهج الشمس وحرارتها الحارقة.
لا أحد ينكر أن تركيا دولة مسلمة ولا أحد يتجاهل أن حزب العدالة والتنمية حزب إسلامي يؤمن بالإسلام ويرى وإن بطرق ملتوية أن الشعب مؤمن ومسلم، وبالتالي لا ضير من إدخال تعديلات قانونية على يد حكومة تدعي على استحياء أنها إسلامية وبقوة أنها ديمقراطية تجسد قناعات الشعب وتستجيب لعقيدته وإيمانه.
ويدرك الجميع أن الشعب فرضت عليه في العقود الكثيرة المنصرمة علمانية لا تحبذها الأكثرية منه وإنما تتعايش معها بواقع قوة العسكر ومنطق الأمر الواقع، لذلك يعرف حزب العدالة والتنمية تماما أن أي سياسات يتبناها يجب أن تستجيب على الأقل لتطلعات وطموحات هذا الشعب، وكذلك أن تراعي في الوقت نفسه حساسيات العسكر، وإلا فإن قادته في أحسن الأحوال سيجبرون بالقوة على الخروج من السلطة وفي أسوئها سيكون مصيرهم لا يختلف عن مصير رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس.
هذه الموازنة أتقنها حتى الآن حزب العدالة إتقانا تاما، وهذه إيجابية تسجل له، إذ استطاع أن يقلص دور العسكر تحت شعار الديمقراطية ويحسن شروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتمكن من إدخال إصلاحات كثيرة كان من الصعب تخيلها في الماضي مثل إعطاء حقوق محدودة للأكراد وإصلاحات في مجالات حقوق الإنسان.
لكن المشكلة لم تعد الآن تكمن في العسكر أكثر مما تكمن في أوروبا حين بدأت أوروبا وبتزايد سياسة الضغط غير المنطقي على تركيا لحملها على التخلي عن قضايا تعتبر في صميمها من صلب الهوية التركية.
قد يمكن تفهم بعض الشروط الأوروبية المفروضة مثل قضايا حقوق الإنسان لكونها قيما عالمية يتوافق عليها البشر من منطلقات إنسانية ومثل قضايا تجارية تتطلب الانصياع لمواصفات معينة حرصا على الصحة العامة أو المنافسة العادلة، لكن ما لا يمكن فهمه أن تصبح عملية الدخول إلى تركيا مشروطة بالتخلي عن معتقدات ذاتية في صميم الفرد وجوهر اعتقاده.
فعندما قررت حكومة حزب العدالة والتنمية تعديل قانون الأحوال الشخصية لتجعل جريمة الزنا جرما يعاقب عليه القانون، لم يعترض العسكر وإنما أوروبا. إذ أعلنت أوروبا بوضوح وعلى لسان المفوضية الأوروبية وغيرها من الساسة البارزين أن إقرار هذا القانون يضر بتركيا ويؤخر عملية انضمامها إلى النادي الأوروبي.
هذا التجريم هو برأي صانعي قرار النادي الأوروبي أمر عفا عليه الزمن ولا ينسجم مع قيم ومثل أوروبا الحديثة، فأوروبا الحديثة لا ترى في المعاشرة الجنسية ضيرا ولا ترى أن المجتمع التركي يجب أن يعارضها لأن معارضته تثبت أنه بعيد عن قيم أوروبا ومثلها.
لقد اختارت أوروبا أن تطرح الدين -كما ترى- جانبا، وعلى تركيا فعل الشيء نفسه لكي تستحق ما هو أقل من الدخول في أوروبا أي مجرد الخطو باتجاه البوابة الأوروبية.
الغريب أن الاعتراض الأوروبي لم يأت من أشخاص معروفين بعدائهم لدخول تركيا للاتحاد إنما من قيادات داعمة لتركيا وتحبذ دخولها مثل بريطانيا، فوزير الخارجية البريطاني المعروف بتفهمه للإسلام، الذي ينتخب في دائرة انتخابية فيها نسبة كبيرة جدا من الناخبين المسلمين، أعلن أن هذا القانون سيضع صعوبات أمام آمال تركيا لدخول الاتحاد.
كذلك أعلن مفوض توسيع الاتحاد الأوروبي فرهاغين الموكل إليه وضع تقرير عن مدى تقدم تركيا أن القانون قد يفهم في أوروبا على أنه إعطاء أولوية للتيارات الإسلامية."
تركيا المسلمة التي تطبق قوانين إسلامية تعيد إلى الذاكرة ماضيا مريرا لا يمكن الترحيب بها في المنظومة الأوروبية على الإطلاق"
لماذا يا ترى جن جنون أوروبا؟ ليس لهذا تفسير إلا سياسة التستر، فأوروبا التي تؤمن بالتعددية والحرية المطلقة للناخبين لا يمكنها أن ترى وسطها كيانا تختار أكثريته إسلاما يعتبر في حقيقته منافسا للتفوق الأوروبي.
وليس بمستطاعها أن تنكر ذلك علانية فكان اللجوء إلى التستر والتخفي تحت شعارات القيم الأوروبية واعتبار أن هذا القانون يلغي الحرية الفردية ويدخل الدين في إطار الحياة العامة وهو ما لا تقبله أوروبا.
لكن ما هو معروف لدى الجميع أن القوانين ليست إلا انعكاسا لرغبات المواطنين وقيمهم، ولا يشك أحد بأن أكثرية الشعب التركي تدين بالإسلام وترغب بتطبيق ما تؤمن به، لذلك فإن الإصرار على إجهاض مشروع تعديل القانون على عكس ما تدعيه أوروبا هو نفسه إلغاء للحرية الفردية والقيم التي يدين بها المجتمع.
كما أن هذا الإصرار لا يفهم إلا على أنه استعلاء ورفض للقيم الإسلامية ودفعها إلى الانسحاب من الحياة العامة وإحلال قيم أوروبا ومثلها مكانها، وكان الأحرى أن تطالب أوروبا باستفتاء على القانون، كما تفعل في بلدانها، لترى ما إذا كان الشعب التركي يؤيده أم لا، لكنها لم تفعل واختارت بدلا من ذلك سياسة التستر والتخفي.(3/216)
أما تركيا فتابعت هي الأخرى سياسة التجاهل ووجدت في الاعتراض قضية يمكن تفهمها والتعامل معها من واقع عقلاني يسمح في النهاية بالتراجع عن بند التجريم في هذا القانون.
وقد أعلن مسؤول تركي في معرض تعليقه على سحب المشروع "المشروع كان سقطة آنية غاب فيها العقل ونأمل الآن أننا تجاوزناها". أما رئيس الوزراء رجب أردوغان فاعتبر أن القانون هو لحماية الزوجات من أزواجهم غير الأوفياء ولم يتجرأ على التصريح بجوهر القانون وبأنه استجابة لتطلعات الناس، إنما اختار توصيفه على أنه يضمن للنساء حقوقا أكثر.
وهنا تبرز المشكلة الحقيقية لسياسة التجاهل التركية التي لا تعير الحقائق الدامغة أي اهتمام وتحيل كل عقبة إلى تأويلات وتخريجات آنية.
فعندما صرح المفوض الأوروبي للسوق الأوروبية الموحدة، فريتز بولكشتاين بأن قبول تركيا في المنظومة الأوروبية معناه التفريط بدماء وأرواح الذين دافعوا عن فيينا عام 1683 أمام الزحف التركي الإسلامي، لم تحرك تركيا ساكنا ولم يسارع قادة أوروبا البارزون لإثبات عكس ذلك.
بولكشتاين كان يعبر عن وجهة نظر يؤمن بها كثيرون ليسوا فقط شعوب أوروبا وإنما قادة أوروبيون وعلى رأسهم واضع دستور الاتحاد جيسكار ديستان الذي أكد صراحة أن النادي الأوروبي هو ناد مسيحي وبالتالي لا يمكن لدولة إسلامية أن تدخله.
والأخطر أن ديستان نفسه واضع الدستور عمل على وضع بند فيه يجعل من دخول تركيا أمرا فائق الصعوبة، فهذا البند "الأكثرية المزدوجة" كما تقول وزيرة الخارجية الإسبانية السابقة آنا بلاثيو لم يكن بريئا على الإطلاق، إنما كان مصمما لعرقلة دخول تركيا، وذلك بربط دخولها باستفتاء شعبي في دول الاتحاد.
يقول ديستان مبررا هذا البند الجديد "الأكثرية المزدوجة" إنه في حال وجود مشروع ضخم كهذا لا بد أن يؤخذ رأي المواطنين فيه.
بعبارة أخرى إن مشروعا ينص على قبول تركيا أمر لا يمكن قبوله على الإطلاق، لأن تركيا في نهاية المطاف دولة إسلامية، فإن قبل الزعماء لأسباب تكتيكية ومصلحيه آنية بتركيا فلا بد من عرقلة ذلك بربط القرار بمواطني أوروبا.
وبالطبع لم تزل أوروبا هي أوروبا المؤمنة بالقيم المسيحية المخففة عما كانت عليه، ولم يزل الشعب كله يرى أن ما يمارسه من عادات وطقوس هي الأنسب ليس فقط له بل لكل البشر.
ولذا فإن بلدا مثل تركيا المسلمة التي تطبق قوانين إسلامية تعيد إلى الذاكرة ماضيا مريرا لا يمكن الترحيب بها في المنظومة الأوروبية على الإطلاق.
ما يخشاه صناع القرار في أوروبا هو امتداد الإسلام البشري في أوروبا، لذا قال بولكشتاين صراحة إن دخول تركيا معناه "أسلمة أوروبا"، فتركيا بتعداد سكانها الضخم الذي يعتبر الثاني بعد ألمانيا تشكل خطرا كبيرا على الهوية الأوروبية، لأن هذا الشعب سينتشر مثل الجراد في أوروبا وبالتالي سيحقق سلما ما عجز عنه أجداده العظام في أوج عزتهم وجبروتهم حربا.
كما لم يجد المفوض التجاري الأوروبي النمساوي فرانز فيشلر ضيرا في القول إن تركيا شرقية أكثر منها أوروبية ونحن بحاجة إلى خطة "ب" للتعامل مع تركيا. لكن أوروبا سارعت إلى القول بأن ما يقوله هؤلاء لا يعبر إلا عن رأيهم ولا يعكس على الإطلاق رؤيتها وإنما الذي تريده من تركيا هو الانصياع لشروط الاتحاد التي لا علاقة لها بهذا كله!! إنها سياسة التستر بعينها.
"
المسؤولون الأتراك يعرفون تماما أن ما تطلبه أوروبا منهم غال وصعب وليس بالوسع طرحه على الشعب للمناقشة فاختاروا التجاهل
"
رغم كل هذه المعطيات الواضحة تابعت الحكومة التركية سياسة التجاهل فاعتبرت ما قيل ينتمي للماضي ولا صلة له بالحاضر، فقد أعلن السكرتير الأول في بروكسل عاصمة الاتحاد رادا على هؤلاء "آسف العالم كله تغير" بمعنى أن هؤلاء لا يزالون يعيشون في الماضي ولا يفهمون الحاضر!!
ولكن الحقيقة المرة أن المسؤولين الأتراك يعرفون تماما أن ما تطلبه أوروبا منهم غال وصعب وليس بالوسع طرحه على الشعب للمناقشة، فاختاروا التجاهل واعتبار أن ما قدموه من تنازلات وإصلاحات كفيل بأن يجبر أوروبا على وقف سياسة التستر والتخفي وراء أقنعة وأسباب واهية.
قد يكون هذا صحيحا لأن المضي بالتنازلات قد يجبر أوروبا في نهاية المطاف على الوصول إلى الطريق المسدود الذي ليس أمامه إلا طرح سياستها والقبول بتركيا.
لكن المشكلة تكمن في أنه حتى على فرض أن القرار الذي سيصدر في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول سيكون مؤيدا (وهذا وارد جدا)، وعلى فرض أن الزعماء الأوروبيين وافقوا في ديسمبر/ كانون الأول على فتح المفاوضات مع تركيا (وهذا صعب للغاية) فإن تركيا لن يكون بوسعها الانضمام حقيقة إلا عام 2025.
هذه المدة الزمنية طويلة جدا ومرهونة بتطورات قد تقلب الأمور كلها رأسا على عقب إضافة إلى أنه آنذاك لن تفيد تركيا من الاتحاد كثيرا، لأن عصر المعونات الاقتصادية يكون قد ولى بموجب عولمة الاقتصاد وشروط منظمة التجارة العالمية. لكن مقابل هذا كله ستجد تركيا نفسها ترمي شيئا فشيئا تاريخها وهويتها.
كما أن من سلبيات هذه السياسة سلب الشعب تطبيق ما يؤمن به ما يخلق على المدى البعيد مجتمعا منقسما على نفسه وشعبا لا تجمعه ضوابط حول هويته.
تركيا بسياسة التجاهل هذه قد تصل إلى ما يسمى لحظة الحسم مع أوروبا لكنها ستجد آنذاك أنها تنازلت عن الكثير وحققت القطيعة مع الإسلام مقابل حلم الدخول في ناد أوروبي يصر قادته على أنه ناد مسيحي!!
___________________
كاتب لبناني
=================
الهوية الإسلامية... وإحياء الأمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لكل أمة من الأمم ثوابت تمثل القاعدة الأساسية لبناء الأمة. وفي طليعة هذه الثوابت تأتي الهويّة باعتبارها المحور الذي تتمركز حوله بقية الثوابت، والذي يستقطب حوله أفراد الأمة. ولا تستحق أمة من الأمم وصف الأمة حتى يكون لها هويتها المستقلة والمتميزة عن غيرها من الأمم.
وإذن فالأمة بنيان يتجمع فيه الأفراد حول هويّة ثابتة، تكون هي الصبغة التي تصبغ الأمة، وتحدد سلوك أفرادها، وتكّيف ردود أفعالهم تجاه الأحداث. فتحديد الهويّة ليس ترفاً فكرياً، أو جدلاً فلسفياً. بل هو أمر جاد يتعلق - بل يقرر - طبيعة الصراع المصيري للأمة مع أعدائها، إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يحدد موقفه من غيره، قبل أن يحدد موقفه من نفسه: من هو؟ ومن يكون؟ وماذا يريد؟ وبدون هذا الحسم للهويّة الذاتية، لا يمكن تحديد موقف فعّال من أي قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة.
والإسلام وحده هو هويّة الأمة الإسلامية وهو عصب حركتها ومحور اجتماعها، وهو القوة الدافعة التي تُفَجّر طاقات الأمة وتُقوّي وقفتها في مواجهة أعدائها. ويوم أن كان الإسلام هو هويّة هذه الأمة، كان المسلمون هم سادة الأرض بحق وصدق وعدل... وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية تحسبها التقدم، وهي القشور والخداع.
لقد بلور الإسلام هوية الأمة الإسلامية، ومنح أفرادها الجنسية الإيمانية، فاجتمعوا حول الإسلام وربط بينهم حبل الله كارتباط الجسد الواحد... ولم يستطيع الغزو العسكري أو الفكري أن يحكم الأمة الإسلامية بغير الإسلام إلا في ظل العصا الغليظة، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والأنظمة الجبرية... حيث تلغى
إنسانية الإنسان، وتطارد حريته، وتصادر هويته!
... واليوم يبقى الإسلام هو وحده المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية... ذلك أن هو هوية الأمة الإسلامية .
=============(3/217)
الالتزام بالإسلام إطارا مرجعيا يحمي أبناء الأمة من الاختراق
الخبراء في ندوة (العولمة وأولويات التربية) مطالبين بتعزيز الهوية وتطبيق التعليم الشامل
طالب عدد كبير من خبراء التربية بتطوير المناهج التعليمية لمساعدة الطلاب على فهم العولمة والتعامل معها, مع الالتزام بالاسلام اطارا مرجعيا لثقافة الأمة وبما يحقق التحصين الكامل لابنائها ويحول دون الاختراق وقال الخبراء في ندوة (العولمة وأولويات التربية) التي نظمتها كلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض يجب ان نعمل جميعا على تكريس فكرة ان الاسلام نظام حياة شامل, مع التركيز على استيعاب التربية لمفاهيم العولمة واتجاهاتها الايجابية وتوظيفها لبناء نظام تربوي متطور يمتلك مقومات المرونة والمنافسة على الساحة الدولية.
واوصى الخبراء في الندوة التي رعاها وزير التعليم العالي د. خالد العنقري بضرورة التحول من ثقافة الحتمية التكنولوجية الى ثقافة الخيار التكنولوجي وكذلك ضرورة صياغة مشروع حضاري لحفظ الهوية الاسلامية مع تنمية روح التسامح في نفوس الناشئة كما طالب المنتدون باعطاء مساحة مناسبة من المناهج لدراسة التاريخ والفكر الانساني, واعداد برنامج تعليمي متكامل لمواجهة مطالب الحياة في عصر العولمة, وادراج موضوع العولمة ضمن الموضوعات التي تدرس لطلاب الجامعة.
وشدد المنتدون على اهمية اعادة النظر في الدور الحضاري للمعلم وعقد ورش عمل لتدريبه حول توظيف عصر العولمة وتكنولوجيا الاتصالات في مجال التعليم وكذلك تشجيع المعلم على الابتكار والتجديد.
وخلص المنتدون الى ضرورة تطبيق استراتيجية التعليم الشامل والاستفادة من فرص العولمة علميا وتقنيا في تحسين اوضاعنا الدنيوية.
وبلغ عدد الاعمال والاوراق البحثية التي قدمها الخبراء للندوة - التي دعمها مدير جامعة الملك سعود د. عبدالله الفيصل - حوالي 80 بحثا وورقة اضافة الى حلقة نقاش (حول الاولويات التربوية في عصر العولمة) شارك فيها الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي والدكتور حمود بن عبدالعزيز البدر أمين عام مجلس الشورى والدكتور الشيخ عبدالله بن صالح العبيد رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الانسان والدكتور صالح بن سليمان الوهيبي أمين عام الندوة العالمية للشباب الاسلامي, وادار الحلقة الدكتور عبدالله الفيصل مدير جامعة الملك سعود.
وشارك ايضا في فعاليات الندوة عدد كبير من اساتذة الجامعات والمهتمين بقضايا التعليم من داخل المملكة وخارجها, بالاضافة الى عمداء كليات التربية في الوطن العربي.
وعن العولمة ومشكلة التربية في العالم الإسلامي بين الصورة التضليلية لمشروع الانبعاث الحضاري وحقيقة قهر الآخر تناول د. علي براجل. المعركة الحضارية المعقدة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي في ظل واقع حضاري ملتهب بنيران أسلحة الصراع الايديولوجي والتطوير التكنولوجي. ويسلط الضوء على حقيقة (العولمة) وما تخفيها من أضرار ومخاطر في محاولة لتفريغ العالم الإسلامي من مضمونه, مشيرا الى خطورة الوضع الذي يتمثل في جعل المنظومات التربوية للدول العربية المقترضة تابعة أو فروعا لمؤسسات التعليم الغربي.
فعن طريق ضغوط هذه المؤسسات وشروطها تفرض أولويات التطوير التربوي دون مراعاة لذاتية مجتمعاتنا او الخطوصية أو الهوية.
ويطرح د. عبدالمجيد عمراني منظورا جديدا لتدعيم الاخلاق في الفكر الاسلامي المعاصر في ظل العولمة وذلك من خلال عدد من التساؤلات أو النقاط هدفها التوفيق بين الاخلاق الدينية وفكرة العولمة يتساءل أو لا.
عما اذا كانت الحضارة الغربية هي التي فرضت علينا فكرة العولمة, واذا كان ذلك كذلك فإن الأخلاق ستصبح معولمة في المستقبل أو ستبقى محل دعوة الى عالميتها. ثم من هم الذين سيقودون الاخلاق المعاصرة في الحضارات مستقبلا. وما هو المنهج الايجابي البديل اخلاقيا الذي ندعو إليه? الى ان يصل د. عبدالمجيد الى مصير الاخلاق الاسلامية في ظل العولمة الجديدة, وتصور الاخرين اخلاقنا الاسلامية.
حفظ الهوية الاسلامية
ثم يعالج د. محمد بشير البشير قضية حفظ الهوية الاسلامية ونشرها في ظل العولمة, فتطرق الى بيان مفهوم الهوية والعولمة, وجوانبها العلمية والعملية, وحقيقة العلاقة بينهما التي تتسم بالتأثير والتأثر.
ويتعرض د. ابراهيم شوقار بمنهج تحليلي, للتحديات التربوية في هذا العصر من خلال فلسفة التربية في عصر العولمة, منطلقا في تحليله من اربعة محاور أساسية: هي اولا: العولمة والتفاعل الاجتماعي بين الشعوب مؤكدا أن العولمة لامحالة قادمة.
ثانيا مفهوم التربية ومهمتها في الاسلام. أما المحور الثالث فقد عالج جانبين: جانب يتعلق بأبعاد العولمة وأثرها على التربية في العالم الاسلامي. والجانب الثاني يتناول العناصر التي تشكل العولمة. وفي المحور الرابع والأخير يتناول د. شوقار مقومات فلسفة التربية في عصر العولمة.
ويشر د. سليمان قاسم العيد على أن الاسلام عنى بالتربية الخلقية عناية شديدة باعتبارها جزءا من هوية الأمة مستدلا بالعديد من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية التي تدل على عناية الاسلام بالتربية الخلقية.
العولمة والهوية
وحاول د. خالد عبدالله القاسم الاجابة عن عدة اسئلة حول: العولمة, والهوية, والآثار السلبية للعولمة على الهوية وعما اذا كان لها أثار ايجابية على الهوية, ثم قدم تصورا لسبل التعامل مع العولمة بما يحفظ الهوية, وكذلك سبل الاستفادة من العولمة للحفاظ على الهوية لافتا الى ضرورة الانفتاح على الاخرين والاستفادة من فرص العولمة والتقدم العلمي والتقني, وتطور ثقافتنا وتحسين اوضاعنا.
اما د. غادة مصطفى إسماعيل فقد ركزت على دور التربية الفنية الإسلامية في التواصل الثقافي العولمي. والكشف عن كيفية مجابهة التغير الثقافي للمجتمع من خلال إحدى مؤسساته الاجتماعية, والكشف عن دور الفنون الإسلامية ومحتواها الحضاري في تحديد هوية اجتماعية تجابه التغير الثقافي العولمي.
العولمة وآليات تطوير المناهج
وتناول د. عبدالكريم صالح الحميد الآثار المختلفة للعولمة وبصفة خاصة على آليات تطوير المناهج المختلفة وانعكاس ذلك على طرق وأساليب مختلفة للتدريس مما يؤدي الى ظهور اتجاهات جديدة في التدريس وبناء المناهج. ويرى الدكتور عبدالكريم ان المنهج الدراسي في ظل العولمة يجب ان يراعي العديد من الاعتبارات المهمة والتركيز على دور التدريب في مواجهة المشاكل المحلية بالاضافة الى متطلبات السوق العالمية.
برنامج تثقيفي
ويقدم د. رياض عارف الجبان برنامج تثقيفيا يهدف الى تعزيز وعي طلاب كلية المعلمين في بيشة بظاهرة العولمة, وزيادة ادراكهم لدور التربية والتعليم في مواجهة تحدياتها, والحفاظ على الهوية الوطنية الإسلامية.
ويتناول د. محمد محمد سالم في دراسة تحليلية مناهج الحديث والثقافة الاسلامية وذلك بهدف الوقوف على مدى قدرة هذه المناهج في وضعها الراهن على مواجهة العولمة بمفاهيمها وقيمها.. وخلص د. سالم الى مجموعة من النتائج من أهمها: ضعف مناهج الحديث والثقافة الاسلامية في المرحلة الثانوية في وضعها الراهن على مواكبة العولمة بمفاهيمها وقيمها.
بيئة تعليمية فقيرة معلوماتيا(3/218)
ثم تحدث الدكتور صالح محمد العطيوي عن الشبكة العالمية للمعلومات والنظرية البنائية, موضحا أن بيئتنا التعليمية تفتقر الى جميع العناصر الرئيسة في عصر العولمة والتي تساهم في خلق الافراد القادرين على العمل بكفاءة في ظل العولمة ويرى ضرورة التخطيط لتطوير المؤسسات التعليمية وتطبيق أساليب التعليم والتعلم التي تساهم في تطوير قدرات المتعلمين على تحليل المعلومات ويحقق النهضة للبلاد.
المدرسة وتوطين المعلوماتية
وتناول أ.د محمد شحات الخطيب وأ. حسين عبدالحليم تجربة مدارس الملك فيصل في التعليم الالكتروني والذي يهدف الى متابعة المستجدات على مستوى التقنيات والاتصالات واستغلالها لتطوير عمليتي التعليم والتعلم, وتطوير مهارات استخدام التقنيات لدى المعلم والمتعلم وتنمية مهارات الاتصال (المادي والثقافي), وزيادة المصادر العلمية للمواد الدراسية كما ونوعا, والتحضير والاستعداد للتعامل والتفاعل الايجابي مع المستجدات التقنية والحياتية وغرس القيم الأخلاقية والاتجاهات الايجابية لاستغلال التقنية لخدمة الإنسانية.
الايجابيات والسلبيات
وتطرق د. حسن أبو بكر العولقي الى تعريف مفهوم العولمة وواقع العولمة في الوقت الحالي, وتحديد ايجابيات العولمة وسلبياتها من واقع ما كتب ويكتب عنها مع ربط ذلك بواقع التربية والتعليم في الوطن العربي ونقاط القوة والضعف.
جاهزية الجامعات السعودية
وتناول د. بدر عبدالله الصالح النقاش والحوار حول عدد من القضايا المرتبطة بتبني تقنية الاتصال والمعلومات في التعليم عموما والجامعات السعودية على وجه الخصوص. متناولا محورين أساسيين: الاول تأثير هذه التقنية على التعليم العالي, والثاني أسئلة موجهة للجامعات السعودية حول مستوى جاهزيتها للتغير, وتبنى بيئات التعليم الالكترونية الجديدة.
دور المدرسة
ولفت الدكتور ثناء يوسف الضبع الى دور المدرسة في مواجهة اثار العولمة على الشباب في العصر الحديث الذي يتسم بالتقدم التكنولوجي والانفجار المعرفي والانفتاح الثقافي والمتغيرات السريعة في العديد من المجالات المادية والتقنية والاقتصادية والثقافية, مما يستوجب من المؤسسات التربوية متابعة هذا التطور ودراسة أثره على السلوك والقيم والمنظومة المعرفية والثقافية في هذا العصر.
وقدم د. فهد سلطان السلطان تصورا مقترحا عن أولويات التجديد التربوي للمدرسة في ظل التحديات التي يفرضها نظام العولمة, والتي يجب ان ترتكز على ركيزتين اساسيتين هما: التجديد المعرفي, والتجديد التقني والتكنولوجي.
وعرض أ.د ثناء يوسف الضبع, وأ. الجوهرة فهد آل سعود مشكلة الاغتراب لدى عينة من طالبات جامعة الملك سعود في ضوء متغيرات عصر العولمة والمعلوماتية وما قد ينجم عنه من تأثر الطالبات وإحساسهن بمشاعر الاغتراب.
الثقافة الكونية الجديدة
ويقترح أ.د ريما سعد الجرف طرح مقرر في الثقافة الكونية لكل صف من صفوف المرحلتين المتوسطة والثانوية يهدف الى مساعدة الطلاب في هاتين المرحلتين على فهم العالم كمجموعة من النظم البشرية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية والبيئية والاجتماعية والطبيعية المتصلة والمعتمدة على بعضها البعض, وعلى التعرف على ثقافة وعادات الشعوب الاخرى وأوجه الشبه والاختلاف بينها.
اولويات التربية
وتحدث أ.د عبدالرحمن سليمان الطريري عن اولويات التربية في عصر العولمة من خلال استكشاف رؤى عينه من افراد المجتمع العربي السعودي حيال العولمة في عدد من الجوانب منها: المفهوم السائد حول العولمة وأهدافها والأساليب والعوامل الكامنة وراء ظهور العولمة, والآثار الايجابية والسلبية للعولمة, وكيفية التعامل معها.
وقد بينت نتائج الدراسة اتفاق العينة في ترتيبهم لمفاهيم العولمة وأهدافها وأسبابها وآثارها وأساليبها وطرق مواجهتها والتعامل معها, ولم توجد فروق بين مجموعات العينة إلا عند ترتيبهم للأسباب والآثار.
ويدعو أ.د السيد سلامة الخميسي الى ضرورة ان تراجع التربية العربية فلسفتها وأهدافها حتى تكون مؤهلة لمواجهة تحديات عصر العولمة في اطار الخصوصية الثقافية والتوجهات المستقبلية. مع التركيز على عدد من الغايات التي لابد ان تفي بها التربية هي: إكساب المعرفة, التكيف مع المجتمع, تنمية الذات والقدرات الشخصية, واضاف عصر المعلومات لهذه الغايات بعدا تربويا آخر هو (ضرورة إعداد إنسان العصر لمواجهة مطالب الحياة في عصر العولمة).
مواجهة التحديات
ويلفت الدكتور احمد علي كنعان الى دور التربية في مواجهة العولمة وتحديات القرن الحادي والعشرين وتعزيز الهوية الحضارية والانتماء للامة كما يلقي الضوء على التحديات التي تعيق التربية في الوطن العربي, وكيفية مواجهتها لهذه التحديات, وعلى رأسها الاستلاب الثقافي والهيمنة الأجنبية في ظل العولمة الجديدة وهيمنة القطب الواحد على الثقافات العالمية, وبيان كيفية التصدي لها من خلال تعزيز الهوية الحضارية والانتماء للأمة.
أدوار المعلم والمتعلم
ويقدم د. علي حمود علي رؤية حديثة لأدوار المعلم المتغيرة في ضوء تحديات العولمة, من خلال مناقشة مفهوم العولمة من منظور تربوي ثقافي اجتماعي وتأثيراتها وكيفية التعامل معها, والتحديات التي تواجه تربية المعلم في عصر العولمة, وذلك بالنظرة الفاحصة لمتطلبات العصر واستشراف آفاق المستقبل.
كما قدمت د. منال عبدالخالق رؤية جديدة لدور المعلم في ضوء صراع الدور وأخلاقيات التدريس في عصر العولمة بما يفرضه على المعلم من تحديات ومهام. آخذة في الاعتبار التفرقة بين إجراءات العولمة مثل فتح الحدود وتيسير تدفق الخدمات والسلع بغير قيود وإنشاء شبكات الاتصال العالمية ومؤسسات التجارة العالمية, وبين مذهب العولمة بمعنى القيم الحاكمة التي تبث من خلال العمليات السياسية والفكرية والثقافية والاحداث والانشطة الحياتية, وخلصت الدكتورة منال الى سؤال محدد حول هل بإمكان المعلم أن ينهض بدور جديد يحقق من خلاله تحديثا حقيقيا وجذريا لمؤسساتنا التربوية والثقافية في عصر العولمة.
وتطرقت د. سلوى عثمان وفاتن مصطفى الى مدى إلمام الطالبة والمعلمة بكلية التربية جامعة الملك سعود بمفهوم العولمة ومتطلباته, وتناولت المعايير التي يجب ان توضع في الاعتبار عند بناء برنامج إعداد للمعلمة في ضوء مفهوم العولمة ومتطلباته.
العولمة والتنوع التربوي والثقافي
نحن والعولمة د. نصر الدين بن غنيسة: تناقش هذه الورقة الاشكالية التالية: هل مصير علاقتنا مع الآخر آيلة الى الصراع لامحالة أم أن هناك سبيلا آخر يمكن ان نسلكه نحن والاخرون من أجل تعايش سلمي ألا وهو سبيل الحوار: وذلك من أجل تجاوز ثقافة الانطواء على الذات التي يغلب عليها شعور بعقدة التفوق وفي ذات الوقت تجاوز ثقافة الارتماء في أحضان الآخر المتفوق يعتريه شعور بالدونية.
قراءة نفسية في ملف العولمة
ويحاول د. صلاح الدين محمد عبدالقادر تقديم قراءة نفسية في ملف العولمة كمحاولة لتشخيص وتفسير انتشار أنموذج العولمة تفسيرا يستند الى مفاهيم ونظريات علم النفس وكذلك الكشف عن الاستراتيجيات والآليات النفسية التي تستخدمها العولمة في التأثير على الهوية الثقافية.(3/219)
كما قدم د. سعود بن سلمان ال سعود روية متكاملة لاتقتصر على جانب دون آخر, سعيا الى الظفر باجابات مقنعة, وحلول جدية واقتراحات بناءة, وصياغة محكمة لتلك المشكلة المعاصرة. ومن خلال منهج استقرائي تحليلي نقدي يتصدى لتجلية حقيقة العولمة من منظور إسلامي علمي موضوعي في مباحث ثمانية تناولت مشكلة المصطلح والغموض المحيط به, والقضايا التي أقرزتها العولمة مثل: نظرية نهاية التاريخ, ونظرية صدام الحضارات, والكشف عن البعد الاقتصادي في الهيمنة العولمية على العالم النامي وإبراز البعد السياسي للعولمة في الغاء سيادة الدولة, والطابع الاستعماري في الفكر العولمي, ومخاطر التذويب الثقافي وفقدان الهوية, وبحث دلائل الفلسفة اللادينية والغاية اللاأخلاقية للعولمة اضافة الى الموقف الاسلامي من العولمة.
الشباب والعولمة
وتحت عنوان ماذا يقرأ شبابنا في عصر العولمة تناولت أ.د ريما سعد الجرف: الاهتمامات القرائية.
مبينة عبر دراسة أجرتها ان 77% من طالبات الجامعة يقرأن المجلات النسائية الترفيهية, ويظهر من النتائج اهتمام الطالبات بقراءة المجلات والموضوعات التي تركز عليها وتروج لها القنوات الفضائية والتي تهدف الى تسطيح ثقافة الشباب وصرف انتباههم عن قضايا الأمة.
النظم التعليمية وتحديات العولمة
وتطرق د. عبدالرحمن احمد صائغ الى علاقة العولمة بالتربية من خلال بعدي (تربية العولمة وعولمة التربية), يركز الاول على قدرة التربية على الاستجابة لتحديات العولمة السياسية والاقتصادية والتقنية والحضارية التي تواجهها الأمة العربية, بينما يركز البعد الثاني على قدرة استيعاب التربية لمفاهيم العولمة واتجاهاتها وتوظيفها لبناء نظام تربوي متطور يمتلك مقومات المرونة والمنافسة على الساحة الدولية.
وعن النظام التعليمي في المملكة العربية السعودية وتحديات العولمة تحدث د. صالح علي أبو عراد عن ماهية العولمة وحقيقتها وأهم معالمها, وكذلك الكيفية التي يمكن من خلالها للنظام التعليمي في المملكة تأكيد الهوية الاسلامية في ظل تحديات العولمة المعاصرة.
صياغة جديدة للتعليم
وطالبت د. عزيزة المانع بصياغة جديدة للتعليم في اطار العولمة تنطلق من التعليم الشامل مع تحديد مدى حاجة مدارسنا الى تبني مثل هذا المنظور العالمي للتربية, وتحديد مدى معرفة المعلمين والمعلمات بالتعليم الشامل وأهمية تطبيقه أثناء التدريس.
الاحتياجات التربوية
ثم استعرضت د. فوزية بكر البكر الاحتياجات التربوية التي تفرضها ظاهرة العولمة ومقابلتها بالواقع التربوي في المملكة من خلال استعراض ومناقشة بعض اهدافه وظواهره العامة في المراحل المختلفة.
ولتحقيق اهداف الدراسة تناولت ستة محاور تربوية هي: اهداف التعليم, ومناهج التعليم, ودرجة توافر المعرفة لتحقيق مفهوم التعليم المستمر, وتأثير العولمة على مفهوم المواطنة, وتأثير العولمة على دور المؤسسات التربوية في الاعداد لسوق العمل, وتأثير العولمة على مفهوم وأساليب إعداد المعلمين.
وقد اظهرت الدراسة الحاجة الماسة الى غربلة اهداف التعليم في المراحل المختلفة وما يتبع ذلك من مراجعة تربوية لمحتوى المناهج الدراسية وضرورة مواكبة برامج اعداد المعلمين والمعلمات للمتغيرات العالمية في مفهوم دور المعلم.
===============
كيف استهدف العهد البورقيبي الهوية الإسلامية في تونس؟
- د. محمود الذوادي
الانبهار بالغرب من طرف القيادة السياسية التونسية بزعامة الرئيس بورقيبة لفترة ما بعد الاستقلال ليس بالظاهرة الفريدة في حد ذاتها في العالم العربي والإسلامي المعاصر وان ما يميزها عن غيرها من ردود الفعل عند القيادات السياسية العربية الاخري في المشرق والمغرب العربيين هو درجة شدة انبهارها بالغرب من ناحية وهجومها غير المحتشم علي العروبة والاسلام من ناحية اخري. وهو الامر الذي دفع بتونس بعد تحول السابع من نوفمبر بان تنادي وتعمل علي اصلاح ذات البين بين التونسيين ومعالم هويتهم العربية الاسلامية، وهكذا يمكن القول بان القيادة السياسية التونسية بزعامة بورقيبة تتشابه كثيرا مع القيادة السياسية التركية بزعامة مصطفي كمال اتاتورك. علما ان هجوم هذا الاخير علي الإسلام كان أشرس من الذي قام به بورقيبة. فدعنا نتعرف بشيء من التفصيل علي بعض مظاهر تعامل القيادة السياسية التونسية في ظل العهد البورقيبي مع عناصر الهوية العربية الاسلامية للشعب التونسي.
باديء ذي بدء لابد من الاشارة إلي ان دستور الجمهورية التونسية يعلن صراحة في اول بنوده عن طبيعة الهوية الجماعية للشعب التونسي فيقول تونس دولة مستقلة، دينها الإسلام ولغتها العربية هي شهادة من السلطة الحاكمة الجديدة بعد الاستقلال مباشرة بان الهوية الجماعية للشعب التونسي هي هوية عربية اسلامية في الصميم، اي ان انتماء هذا الشعب هو في المقام الاول انتماء إلي العروبة والاسلام، هكذا اكدت القيادة السياسية التونسية الجديدة برئاسة الحبيب بورقيبة علي الهوية العربية الاسلامية للشعب التونسي علي المستوي النظري أو علي مستوي المباديء العامة. فدعنا ننظر الان إلي مدي تطبيق ذلك التوجه في دنيا الواقع الملموس من طرف تلك القيادة السياسية بخصوص انتساب المجتمع التونسي إلي العروبة والاسلام.
أ ــ التعامل مع الاسلام:
ولنبدأ بتعامل هذه القيادة السياسية الجديدة مع قطب الإسلام في الهوية العربية الاسلامية للشعب التونسي. ولا حاجة هنا إلي القيام بجرد كامل لكل المواقف والسياسات التي تبناها نظام الحكم في العهد البورقيبي ازاء الإسلام ومما له علاقة به. بل نكتفي بذكر خمسة امثلة نعتبرها مؤشرات ذات دلالة واضحة علي طبيعة علاقة السلطة التونسية الجديدة مع الاسلام.
1 ــ لقد قام الرئيس بورقيبة في اوائل الستينيات من هذا القرن بدعوة الشعب التونسي إلي الافطار في شهر رمضان. اذ ان ذلك يساعد في نظره علي كسب رهان عملية التنمية بالمجتمع التونسي. وبذلك يكون بورقيبة الزعيم الوحيد في العالم العربي المعاصر الذي يعلن علي الملأ ضرورة الافطار في رمضان للتغلب علي صعوبات التنمية. ويكون هو ايضا الرئيس العربي الوحيد الذي اجهر بالافطار امام العموم في بعض المناسبات. وقد ناشد الرئيس بورقيبة شيوخ وعلماء مؤسسة جامع الزيتونة لاصدار فتوي في ذلك تبرر وتعطي الشرعية لنداء الرئيس بالافطار في شهر رمضان، ولكن لم تكلل مساعي الرئيس بورقيبة بالنجاح في ذلك في نهاية الامر ولابد ان يكون رفض شيوخ وعلماء جامع الزيتونة سببا رئيسا في تردي العلاقة بين السلطة الحاكمة بقيادة بورقيبة وبين مؤسسة جامع الزيتونة.
2 ــ عملت القيادة السياسية التونسية علي تحجيم دور جامع الزيتونة كمؤسسة تربوية. فتم وضع حد للتدريس والتعليم في المرحلة الثانوية بها مع منتصف الستينيات، وبذلك تحول جامع الزيتونية إلي مؤسسة تعليم عال فقط متمثلة في انشاء ما اصبح يسمي بكلية الشريعة واصول الدين (2).(3/220)
3 ــ وكما اشرنا سابقاً فان نظام الحكم في تونس تحت القيادة البورقيبية كانت تهيمن عليه سلطة اصحاب القرار ذوي التكوين المزدوج الثقافة أو التكوين الثقافي الاكثر تفرنسا، فاقصيت بذلك النخب الزيتونية وتلك التي اكلمت تعليمها العالي بالمشرق العربي من تولي المسؤوليات الهامة في المجتمع. فارسيت بذلك ما يمكن ان نسميه بتقاليد التمييز الثقافي في الوظيفة وتحمل المسؤولية بالمجتمع التونسي الحديث. فاذا كان المجتمع الامريكي ينتقد بسبب سياسات التمييز العنصري المستندة علي اللون، فانه يمكن القول بان العهد البورقيبي قد دشن هو الاخر سياسة الاقصاء الجزئي من عدد كبير من الوظائف والاقصاء الكلي من تحمل المسؤوليات الكبري من قتل التونسيين اصحاب التكوين الثقافي العربي الإسلامي والمتمثل في خريجي جامع الزيتونة وجامعات المشرق العربي. وهكذا يمكن تصنيف هؤلاء علي انهم يمثلون اقلية مهمشة في التركيبة الاجتماعية للمجتمع التونسي الحديث. وكأي اقلية تشكو من اللامساواة فهي مرشحة لكي تصبح مصدر معارضة ومجابهة مع الحكم.
ان لمعاملة النظام البورقيبي لهذه الفئة من التونسيين بالاقصاء والتهميش لا لاشيء سوي تكوينهم الثقافي العربي الإسلامي اكثر من دلالة بخصوص موقف هذا النظام من الهوية العربية الاسلامية للشعب التونسي. فممارسة التهميش والاقصاء، لا تنم بالتأكيد علي ان القيادة السياسية التونسية بزعامة بورقيبة ترحب بكل ما هو عربي واسلامي.
4 ــ لعل اكثر تشريعات القيادة التونسية الجديدة شدا للنظر هي اصدارها لما يسمي بمجلة الاحوال الشخصية والتي تقرر فيها اصدار قانون منع تعدد الزوجات في المجتمع التونسي. وهو قانون تنفرد به تونس بين كل المجتمعات العربية الحديثة. بالنسبة لتحسين وضعية المرأة الاجتماعية والرفع من مستوي حماية حقوقها المدنية في مجتمع عربي اسلامي متخلف.
ومع ذلك فان تقييما اكثر موضوعية لهذا القانون يحتاج إلي معرفة ما ترمز اليه القيادة السياسية من القيام بذلك. فالتشريع الجديد يشير بالبنان إلي انجذاب القيادة البورقيبية إلي روح القوانين الغربية من ناحية وعدم مصالحتها علي الاقل مع روح الفقه الإسلامي التقليدي الغير الاجتهادي، من ناحية أخري ومن ثم فاصدار قانون منع تعدد الزوجات لا ينبغي ان يفهم علي ان تحرير المرأة التونسية هو الهدف الاول والاخير منه. بل يجوز الافتراض بان القصد الرمزي لهذا التشريع يتجاوز ذلك فيمكن النظر إلي هذا التشريع علي انه يمثل محاولة تقريب تشريعات المجتمع التونسي من تشريعات المجتمعات الغربية من جهة وابعادها قدر المستطاع عبر الرموز التشريعية عن الانتماء الإسلامي من جهة ثانية. ومن هذه الخلفية لا يتحمس كثيرا المفكر التونسي الأستاذ محمد الطالبي لقانون تعدد الزوجات وذلك لسببين: (1) ان زواج الرجال من اكثر من زوجة في المجتمع التونسي ظاهرة محدودة جدا. اي انها لا تمثل مشكلة اجتماعية بالمعني السوسيولوجي والاحصائي للكلمة. كما ان نسبة الفتيات التونسيات الحاملات خارج اطار الزواج لا تعتبر مشكلة اجتماعية مقارنة بنسبة نظيراتهن في المجتمعات الغربية الحديثة كالمجتمع السويدي والفرنسي والامريكي والكندي، فان ظاهرة تعدد الزوجات لم تكن هي الاخري بتلك الخطورة في واقع المجتمع التونسي حتي يؤخذ قرار الحظر بتلك السرعة التي تم بها. انا اذكر ان تعدد الزوجات عندما كان مسموحا به في تونس، لم يكن معني ذلك ان كل تونسي متزوج باربع نساء، لان ذلك يستدعي ان يكون عدد النساء في تونس يفوق اربع مرات عدد الرجال، وهذا ما لم يوجد اذن كان التعدد أمراً شاذاً ولقد كان الغرض من التعدد معالجة الحالات الشاذة .
ففي نظر الأستاذ الطالبي لم يكن هناك ما يدعو إلي الفزع والتعجب وانا اطرح سؤالاً هو: هل الافضل ان نعالج الحالات الشاذة عن طريق إباحة الزنا أو إباحة التعدد؟ انه لا ينبغي ان يُفهم من قولي اني ادعو إلي العودة إلي نظام تعدد الزوجات، كل ما في الامر هو اني الاحظ ان تعدد الزوجات لم يكن قضية في تونس. وذلك أنه لم يكن القاعدة بل الشذوذ. وهذا ما يَسَّرَ في اصدار قانون منع تعدد الزوجات وهذا ما يدعونا ايضا إلي التواضع، والا نتحدث بلغة القداسة علي هذا (المكسب) أنا ادعو بقوة والحاح إلي احترام المرأة والعدل والمعادلة بينها وبين الرجل في كل الميادين بدون استثناء. واعتقد اعتقاداً راسخاً ان الإسلام يهدف إلي ذلك في مقاصده. هي القاعدة الاساسية التي منها ينبغي ان تنطلق، غير اني ارفض ان ادين الإسلام لانه يبيح ــ لا يفرض ــ تعدد الزوجات والمباح يمكن ان يؤخذ كما يمكن ان يترك، حسب الظروف والملابسات وما تقتضيه المصلحة ويفرضه الوضع. فالآية الشهيرة في هذا الميدان (النساء 3/4) واضحة: فهي لا تحرم تعدد الزوجات ولا تفرضه وانما نتيجة إباحة احتراز فيها تحريض علي الفردية الزوجية وتفضيل لها لاستحالة العدل. فالعدل بين المرأة والرجل بحق لو انه تم في ظروف مجتمعية كان تضامناً واستقراراً يقتضي الفردية الزوجية انطلاقا مما سبق يمكن لنا ان نمنع مباحا ــ لا ان نحرمه ــ فنمنع تعدد الزوجات طبقا لإرادة مجتمعنا.. من دون ان ندين الإسلام ولا المجتمعات الاخري التي لها اختيارات تختلف عن اختيارتنا انطلاقا من واقعها، وتحليلها لهذا الواقع، فلا الحرية ولا الحق مقصوران علي مجموعة دون اخري. وذلك لان جوهر القضية لا يهم القاعدة وانما الشذوذ (3).
ففي نظر الأستاذ الطالبي لم يكن اذن هناك ما يدعو إلي الفزع والتعجل في اصدار قانون منع تعدد الزوجات اذ ان نسبة القران من اكثر من زوجة تبقي دائما نسبة ضئيلة بحيث لا تؤدي إلي اختلال التوازن الديمغرافي بين الجنسين. فالقانون كان يمكن ان يكون ثوريا بحق لو انه تم في ظروف مجتمعية كان تضامن واستقرار وسلامة المجتمع التونسي مهدداً فعلاً بسبب عامل تعدد الزوجات ولكن ليس هناك ما يدل علي ان الامر كان كذلك. وهكذا فتبني تشريع منع تعدد الزوجات يمثل ملمحاً من ملامح انبهار القيادة البورقيبة بالغرب اكثر من كونه نتيجة لوضع اجتماعي متفاقم في المجتمع التونسي كان لا يسمح بأخذ الوقت لدراسة القضية والبت فيها بعد التروي والنظرة الشمولية. (2) يري الأستاذ الطالبي ان إباحة تعدد الزوجات في الإسلام يُعد استراتيجية لمعالجة الشذوذ البيولوجي الجنسي عند معشر الذكور للجنس البشري. وهذا الشذوذ البيولوجي هو الذي يستدعي التماس حلول منقوصة ومتنفسات يستحيل ان تكون مثالية ومرضية تماما من قبل الجميع ومن طرف كل المجتمعات والمجموعات علي حد سواء، وفي كل الازمنة والامكنة بلا خلاف. فعلاج الشذوذ الجنسي يؤدي حتما إلي حلول منقوصة. الحضارة الاسلامية التمست هذا الحل في نظام عائلي وجدته ولم تخترعه، وهو نظام تعدد الزوجات الذي لم تحرمه واكتفت بتهذيبه والحد منه وادخال عديد الضوابط عليه، واخضاعه للعدل مع التحريض صراحة علي الفردية الزوجية باعتبارها النظام الافضل بالنسبة للزوجة والزوج علي حد سواء.. فنظام تعدد الزوجات كحل استثنائي ومنقوص وكعلاج للشذوذ الجنسي، انما يهدف في الحقيقة إلي حماية الام والابناء، اذ يلزم الرجل تحمل مسؤولية علاقاته الجنسية ادبياً ومادياً، ولا تترك له ذريعة للتهرب منها (4؛.(3/221)
فادانة الإسلام والهجوم عليه في مسألة إباحة تعدد الزوجات لا يمكن تبريرهما اذا ما نظر إلي القضية علي انها مجرد علاج منقوص للشذوذ البيولوجي عند الرجال.. وهو افضل في نظر الأستاذ الطالبي لمعالجة الشذوذ من افساح المجال لتفشي ظاهرة إباحة الزنا (5).
فقرار منع تعدد الزوجات قرار، في رأي الأستاذ الطالبي، تنقصه الرؤية ويفتقد إلي الموضوعية. فهو من ناحية متأثر في العمق بانبهار بورقيبة ورجال ونساء نظامه بالحضارة الغربية، وهو من ناحية ثانية، قرار لا يخلو من عدم التعاطف مع الإسلام وربما حتي العداء له. وهكذا فتشريع منع تعدد الزوجات فيه اكثر من رمز، وبالتعبير السيولوجي، هناك رمز ظاهر ورمز خفي. فالظاهر يرمز إلي الرفع من مكانة المرأة الاجتماعية والرمز الخفي يتمثل في ادانة الدين الإسلامي الذي يتخذ موقفاً مختلفا عن الغرب بخصوص مسألة إباحة تعدد الزوجات.
5 ــ اختار نظام الحكم في تونس منذ فجر الاستقلال يوم الأحد يوم العطلة الاسبوعية وجعل من الجمعة والسبت يومي عمل في الدوائر الحكومية وذلك حتي الساعة الواحدة ظهرا بالنسبة ليوم الجمعة والواحدة والنصف بالنسبة ليوم السبت. لقد ارتبطت ايام العطل بالهوية الدينية للافراد والجماعات في العديد من الثقافات والشعوب. فيوم الأحد هو يوم الراحة الاسبوعية للشعوب المتدينة بالديانة المسيحية. ففي هذا اليوم يذهب عدد اكبر من المسيحيين إلي الكنائس قصد التعبد والاستماع إلي خطب رجال الدين علي منابر تلك الكنائس . فيوم الأحد هو يوم الاله كما تعبر عن ذلك العبارة الفرنسية Le Jour du seigneur وبهذا الاعتبار فيوم الأحد علي المستويين الشعوري واللاشعوري يمثل عنصرا من العناصر المكونة للهوية الجماعية المسيحية. اما يوم الراحة الاسبوعية بالنسبة للشعب اليهودي فهو يوم السبت. فالسبت هو يوم العطلة الاسبوعية الرسمية في دولة اسرائيل. وان العديد من اليهود افراد وجماعات خارج اسرائيل يحترمون علي الاقل بعض الطقوس الدينية المقترنة بيوم السبت في الديانة اليهودية كالامتناع عن سياقة السيارات والخياطة بالنسبة للنساء اليهوديات والقيام بالتسوق والشراء. ويحضرني هنا مثال رواه لي زميل كندي ذو ديانة يهودية يبرز بكثير من الوضوح علاقة يوم السبت (اليوم المقدس عند اليهود) بالهوية اليهودية عند الفئات اليهودية المحافظة علي الخصوص. فيحكي انه خرج يوم سبت لشراء بعض المرطبات لأسرته في احد الاحياء بمدينة منتريال. وعند خروجه من مكان بائع الحلويات التقي بشاب يهودي ينتمي إلي اليهود المتزمتين والذين ينحدرون مما كان يسمي ببلدان اوروبا الشرقية. وهي فئة تلبس ثيابا محافظة بالنسبة للنساء والرجال. وطالما يطلق الرجال لحاهم والشباب الذكور شعر رؤوسهم بحيث تنزل خصائل شعورهم علي آذنهم. وكان لقاء الاثنين عند اشارة الضوء في مفترق شارعين. وعندما اقترح الزميل باللغة العبرية علي الشاب ان ينتظر اشارة الضوء الخضراء قبل عبور الشارع، كان رد الشاب ردا غاضبا وكأنه يقول للزميل انا لا اقبل نصيحة يهودي مثلك يتسوق ويشتري المرطبات (التي كان يحملها) في يوم السبت المقدس . اي ان هوية الزميل لا يمكن ان تكون هوية يهودية حقيقية كاملة طالما انه لا يحترم طقوس يوم السبت المقدس. اما يوم الجمعة فهو يوم العطلة الاسبوعية الرسمية لكل المجتمعات العربية ذات الاغلبية المسلمة في المشرق والمغرب العربيين.
واذا كانت ايام العطل ذات معني رمزي بالنسبة لهوية الفرد والمجتمع كما رأينا في المجتمعات المسيحية وعند اليهود في اسرائيل وعند بعضهم خارج اسرائيل فالتساؤل يبقي مطروحا بالنسبة لمدي تأثر الهوية التونسية الجماعية بهذا الخليط من يوم الأحد ومن اقل من نصفي يومي الجمعة والسبت كأيام عطلة في كل اسبوع. فمن المؤكد ان العطلة الاسبوعية التي يتمتع بها التونسي يوم الأحد لا تجعله يشعر بانه قد صار ذا هوية مسيحية وربما ان اقصي ما تفعله فيه هو شعوره بالحداثة. اذ ان المجتمعات الغربية المعطلة كل احد هي مجتمعات حديثة وعصرية. اما بالنسبة لعطلته يوم الجمعة ابتداء من الواحدة بعد الظهر فيبدو انها لا تقترن بقوة في ذهنية التونسي بمسألة الجانب الإسلامي للهوية التونسية. فالتونسي، من ناحية، يعطل لبعض ساعات فقط بعد الظهر وهو من ناحية أخري يتمتع بالراحة لنفس تلك الساعات تقريبا يوم السبت. اي ان يوم الجمعة لا يكاد يتميز من حيث عدد ساعات الراحة فيه عن يوم السبت الذي هو يوم العطلة لليهود كما رأينا، وبفقدانه للتميز عن يوم السبت علي هذا المستوي فانه من الصعب القول ان عدم العمل بعد الواحدة بعد الظهر في أيام الجمعة يساعد تلقائيا علي تعزيز الشعور والانتماء للهوية الاسلامية عند التونسي. ومما سبق فان هذا الخليط من اقل من نصف الجمعة والسبت ــ ومن يوم كامل الأحد كعطلة اسبوعية ــ لا يكاد يساعد بالمرة علي تعزيز الجانب الإسلامي في الهوية الجماعية التونسية. والاغلب انه يعمل اكثر علي تعميق الشعور بالتذبذب والضياع في الجانب الإسلامي للهوية عند التونسيين افرادا وجماعات.
احالات
1 ــ عبد الحميد الكاتب ــ حكاية اتاتورك والاسلام، دار اخبار اليوم (مصر) كتاب اليوم العدد 344.
2 ــ لقد اعطي قادة تغيير السابع من نوفمبر اسم الجامعة الزيتونية كلية الشريعة واصول الدين.
3 ــ الطالبي، محمد عيال الله، افكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه وبالاخرين، تونس، دار سراس للنشر 1992. ص 124 ــ 125.
4 ــ المصدر السابق ص 126 (5) المصدر نفسه ص 125.
5 ــ الذوادي ، محمود، في سوسيولوجيا اسباب نجاح وتعثر توطين اللغة ــ مجلة (المستقبل العربي) عدد 1990/142 ص 45.
=============
الهوية الإسلامية
الهوية تحفظ سياج الشخصية، وتحدد سماتها. وتعني تعريف الإنسان نفسه فكراً وثقافة وأسلوب حياة.. أو هي مجموعة الأوصاف والسلوكيات التي تميز الشخص عن غيره.
ولا بد للإنسان من هوية تميزه عن غيره، كأن يقول مثلاً أنا مسلم، أو يزيد: منهجي الإسلام، أو يزيد الأمر دقة فيقول: أنا مؤمن ملتزم بالإسلام، من أهل السنة والجماعة.
وكما ينبغي أن يكون للفرد هوية تميزه عن غيره ويعرف بها، كذلك ينبغي أن يكون للمجتمع والأمة هوية مستقلة تتميز بها عن غيرها. فهناك مجتمع إسلامي، ومجتمع علماني، وهناك النصراني، وأيضاً الشيوعي والرأسمالي.. ولكل منها مميزاتها وقيمها ومبادؤها.
وكلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع تعمق إحساسه بالانتماء لهذا المجتمع واعتزازه به وانتصاره له، أما إذا تصادمتا فهنا تكون أزمة الاغتراب. قال صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. رواه مسلم.
ونظراً لأن للهوية علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية، فإنها هي الموجه لاختياره عند تعدد البدائل، وهي التي تجعل سلوكه ذا معنى وغاية، كما أنها تؤثر تأثيراً بليغاً في تحديد سمات شخصيته وإضفاء صفة الثبات والاستمرار على هذه الشخصية، فلا يكون إمعة ولا منافقاً، ولا ذا وجهين.
وبالنسبة للمجتمع فإن الهوية هي التي تربط بين أفراده والتي إذا فقدت تشتت المجتمع وتنازعته التناقضات.(3/222)
هذا، وإن أهم مقومات وأركان الهوية هي العقيدة. والهوية الإسلامية في الحقيقة هي الانتماء إلى الله ورسوله وإلى دين الإسلام وعقيدة التوحيد التي أكمل الله لنا بها الدين وأتم علينا بها النعمة، وجعلنا بها الأمة الوسط وخير أمة أخرجت للناس، وصبغنا بفضلها بخير صبغة. قال تعالى في سورة البقرة: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون.
والهوية الإسلامية تنبثق عن عقيدة صحيحة وأصول ثابتة تجمع تحت لوائها جميع المنتمين إليها فيحيون لهدف واحد هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم وتحريرهم من عبودية غيره.
وفي القران مدح وتعظيم لهذه الهوية، قال تعالى في سورة فصلت: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين.
رسم القران مفهوم الهوية عند المسلمين، فجعل العقيدة هي معيار الولاء والبراء والحب والبغض، وهي المنظار الذي يرى المؤمن من خلاله القيم والأفكار والمبادئ، ويحكم على الأشخاص وينزلهم منازلهم.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى احتفاظ هذه الأمة بهويتها وخصائصها ويحذر من التشبه بالمشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: من تشبه بقوم فهو منهم. رواه أبو داود، وقال عنه الألباني رحمه الله: حسن صحيح.
ومن بعد النبي صلى الله عليه وسلم قام سلفنا الصالح ومن بعدهم بجهود رائعة في الحفاظ على هوية الأمة وحراستها، فكانوا فرساناً في الدفاع عنها. قال تعالى في سورة المدثر: وما يعلم جنود ربك إلا هو.
ومن هؤلاء الحراس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعا
=============
الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين يشعر بقوة انتمائه إلى الهوية الإسلامية
أستاذة كاتبة وغيرها من الخبراء يجمعون الأموال لتعزيز صوت المسلمين وإسماعه
في مدرسة النور الإسلامية في بروكلين بولاية نيويورك
كل الى صفه في مدرسة النور الإسلامية في بروكلين بولاية نيويورك. (©AP Images)
من إليزابث كلاهار، المحررة في نشرة واشنطن
بداية النص
واشنطن، 16 كانون الأول/ديسمبر 2006 - غالبا ما ابتعدت الأجيال الجديدة المتعاقبة من أبناء المهاجرين التي نشأت وترعرعت في الولايات المتحدة عن ثقافة آبائها وبلدانها الأصلية. غير أن الخبراء يعتقدون بأن حال أبناء المهاجرين المسلمين يختلفون ويشذون عن هذه القاعدة.
وتقول الكاتبة جنفيف عبدو، مؤلفة كتاب "مكة والشارع الرئيسي: حياة المسلمين في أميركا بعد 11 أيلول/سبتمبر" إن جيل المسلمين الجديد بصدد "تشكيل هوية إسلامية جديدة." وتدلل على ذلك بالإشارة إلى تكاثر أعداد جمعيات الطلبة المسلمين في الحرم الجامعية واندفاع جيل الآباء المسلمين الشباب نحو بناء وفتح المدارس الإسلامية، والاتجاه السائد بين الفتيات والشابات المسلمات نحو ارتداء الحجاب أو غطاء الرأس على الأقل، حتى ولو لم تكن كبار النساء في أسرهن محجبات. وصرحت جنفيف عبدو في مقابلة مع نشرة واشنطن بأن "المسلمات الشابات أصبحن أكثر تدينا من أهلهن."
وتعتقد الكاتبة عبدو بأن أحداث 11 أيلول/سبتمبر تسببت جزئيا في طفرة الشعور بالاعتزاز الإسلامي عند جيل الشباب الأميركيين المسلمين. فقد اضطرت الهجمات الإرهابية المسلمين إلى "الدفاع عن دينهم وإلى العمل على شرح الدين وتوضيحه، ثم إلى الانقلاب إلى الداخل والانغلاق نوعا ما ضمن مجتمع أكثر تماسكا وتقاربا." وأضافت عبدو أن ذلك لا يعني أن المسلمين قد تخلوا عن كل ما هو أميركي، ولكنهم "ينتقون ويختارون ما يتبنونه من (ثقافة وعادات) المجتمع الأميركي."
وأوضحت عبدو أن نمو الهوية الإسلامية لا يعني أن المسلمين الأميركيين قد أصبحوا متطرفين (راديكاليين)، فذلك لن يحدث. والسبب في ذلك يعود إلى حد كبير، خلافا لكثير مما يحدث في بعض البلدان الأوروبية، إلى أن المسلمين هنا "متعلمون ومهنيون محترفون يتمتعون بالحركة (والتقدمية) الاقتصادية والاجتماعية." ويشير تقرير نشره مركز ودرو ويلسون الدولي للمثقفين في واشنطن في العام 2003 بعنوان "المسلمون في الولايات المتحدة" إلى أن 58 بالمئة من المسلمين الأميركيين متخرجون من الجامعة، وهي ضعف النسبة القومية.
وتستعين عبدو للتدليل على ذلك بإحصائيات مركز جامعة جورجتاون للتفاهم المسيحي الإسلامي التي تظهر أن متوسط الدخل العائلي للمسلمين يزيد 10,000 دولار عن الدخل السنوي لمتوسط دخل الأسر الأميركية على الصعيد القومي.
المسلمون يسعون إلى تعريف غيرهم من الأميركيين بالإسلام
سحر عيسى في إحدى المظاهرات المناهضة للإرهاب في هارتفورد، عاصمة ولاية كنيتكيت
سحر عيسى في إحدى المظاهرات المناهضة للإرهاب في هارتفورد، عاصمة ولاية كنيتكيت. (©AP Images)
تقول جنيف عبدو إنها تعتقد أن المسلمين بحاجة إلى أن يكون لهم صوت في الولايات المتحدة. ولذا فقد انضمت إلى غيرها من الخبيرين بحياة المسلمين في أميركا في مؤتمر لجمع الأموال في متحف الحرية القومي في مدينة فيلادلفيا في 9 كانون الأول/ديسمبر. وستستخدم الأموال التي تم يجمعها لمساعدة مركز دراسة الإسلام والديمقراطية في بدء برامج لتعريف الأميركيين بالإسلام.
وشدد رضوان مصمودي الذي أنشأ المركز في العام 1999 لنشرة واشنطن على أهمية برامج المركز للتواصل مع الأميركيين. وقال إن الأميركيين الذين يتابعون برامج التلفزيون دأبوا منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر على مشاهدة أعمال العنف التي يرتكبها المتطرفون، "ولكنهم لا يسمعون صوت الأغلبية الصامتة، ولذا فهم يجملون الإسلام ويقرنونه بالمتطرفين. ولذا فإن من المهم إبلاغ المسيحيين واليهود وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى بأن الإسلام ضد العنف والإرهاب."
وصرحت أسما أفسارالدين الأستاذة في جامعة نوتردام بولاية إنديانا والتي انضمت إلى جنفيف عبدو في مؤتمر جمع الأموال، لنشرة واشنطن بأن تجارب المسلمين الأميركيين وخبراتهم تختلف وتتنوع اعتمادا على "ما إذا كانوا ملتزمين كليا (بالدين) وما إذا كانوا يعيشون في المدن الكبرى أو المدن الصغرى أو في المناطق الريفية." وأشارت أفسارالدين إلى أن المسلمين الذي يعيشون في مدن كثيفة السكان كنيويورك وديترويت وشيكاغو وواشنطن لهم احتكاك واتصال شخصي بالمسلمين وغير المسلمين مما يسهل عملية إلغاء التشبيهات النمطية.
إلا أن أفسارالدين تضيف أن الإسلام "قادم جديد" على الولايات المتحدة وليس معروفا أو مفهوما بعد كما يجب. ويقدر مركز وودرو ويلسون عدد المسلمين في أميركا بأنه يبلغ 6 ملايين وبأن 70 بالمئة منهم ولدوا في بلدان خارج الولايات المتحدة. وجيل المسلمين الأميركيين هو بصفة إجمالية أصغر من الجيل الأميركي العام.
وأشارت أفسارالدين إلى أن "أثواب الراهبات (الكاثوليكيات) أو طاقية اليهود وعاداتهم انتباه الأميركيين واهتمامهم"، لكن المسلمين بما أنه جيل جديد من موجة جديدة من المهاجرين فإن امرأة مسلمة ترتدي الحجاب يثير وجودها في مركز للتسوق اهتمام الناس ويتنبهون لوجودها.
ووصف مصمودي المال الذي تم جمعه في فيلادلفيا كان "دون التوقعات." وقال إن المركز يسعى لتحقيق أهداف طموحة من بينها عقد حلقات دراسية جامعية وزيارة الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية وتوظيف ضابط ارتباط مع وسائل الإعلام وإعداد فيلم وثائقي حول الزعامات النسائية في المجتمعات الإسلامية وزيادة الاتصال بالكونغرس وإصدار نشرة خاصة وتوسيع مؤتمره السنوي الذي يعقد في شهر نيسان/أبريل في واشنطن.(3/223)
وتحاول أفسارالدين التواصل مع غير المسلمين أثناء فترات إجازاتها أو انتدابها من التدريس في جامعة نوتردام. وقد تحدثت أخيرا في خطاب لها في حلقة دراسية في كلية أماريو بولاية تكساس عن المصاعب التي يواجهها الإسلام وقالت "إن المرء يتلقى في مثل هذه المناسبات أسئلة تعبر عن عداء أساسي." غير أنها أشارت إلى أن عددا كبيرا من النساء صافحنها وحضنها بنهاية حلقة أماريو الدراسية وقلن لها إنهن تعلمن الكثير. وأبلغتها إحدى النساء بأنها جاءت بالسيارة من مسافة 145 كيلومترا كي تستمع إلى محاضرتها.
وختمت أفسارالدين حديثها بالقول إن "الناس يبذلون ما في استطاعتهم للحصول على المعلومات الصحيحة. وصحيح أن ذلك يتطلب وقتا كثيرا، لكن النتيجة مجزية."
نهاية النص
==============
الهوية الإسلامية
ونحن على مشارف بداية العام الدراسي الجديد نتطلع للكثير من الإنجازات الشخصية والعملية والعلمية وفي كافة المجالات الفردية والمجتمعية ولكن تبقى الهوية الإسلامية في ضياع إلا من رحم ربي وجعل دينه حياته كلها فهؤلاء هم السعداء والمحققين لكافة أهدافهم أو معظمها بحول الله تعالى وفضله عليهم ولنا بعد الحرب الشرسة على لبنان وقفات تأمل ووعي لما يدور في الشرق الأوسط كما يطلق علينا الدول الغربية وعلى رأسها قائدة المسيرة أمريكا فمن هذه الوقفات انتشار ثقافة مؤلمة في مجتمعاتنا وهي أن الحرب تجمعنا وأنها هي أساس الشعوب وأن الإنسان كثيرا ما يتأثر بمن كان الأكثر في البروز والحصول على أفضل النتائج وما ارتفاع أسهم وشهرة حسن نصر الله إلا من باب هذه الثقافة وقد أظهرتها نتائج الاستبيانات التي قامت بها بعض الصحف , وظهور سياسة خارجية تعمل على فرض الشكل السائد في هذا المجتمع وذاك من خلال تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية بتبشيرها بولادة شرق أوسط جديد (( الله لا يسهل عليه )) ومن خلال متابعتي لما ينشر في منتدياتنا الطيبة وأقول لمن يقرأ هذه الفقرة بالذات من الأخوة والأخوات الأعزاء والقريبين إلى قلبي هي وقفة فأرجو صادقة أن تقرأ بعين البصيرة والتأمل والتدبر لما بين السطور لا بكلماتها فقط وأن يفتحوا قلوبهم بحب ويقين بصدق نصحي وأخوتي لهم بالحاجة الشديدة لانتقاء ما يكتب وما يقال وما الهدف وهل استنتجت النتائج المتوقعة لهذه الكلمات المكتوبة والأسلوب المعتمد سواء في المحاورة مع الآخرين شيعة كانوا أو حتى سنة وسأحاول أن أبين ما أهدف إليه بهذا المثال في منتدى المرأة المسلمة مثلا وجدت الأخوة الأفاضل يوردون الفتاوى لأسئلة العلماء الأفاضل حول موضوع معين وهذا ذو فائدة ولا شك وهو جميل لما يحمله من مشاعر الحرص والمحبة الأخوية ولكن أتساءل ما الذي جعل هذا الأخ أو هذه الأخت تورد هذه الفتوى بالذات هل لوجود ظاهرة منتشرة في مجتمعنا ؟؟؟ ما هي ؟؟؟ وماهوالسبب ؟؟؟ ما هي الوسيلة المقترحة للمعالجة ؟؟؟ وما هو الحل العملي الآني للعلاج ؟؟؟ وما هو دور الموقع في هذا الشأن بالذات ؟؟؟ وما هي الطريقة الأمثل والأنفع والأنجع للحوار مع الواقعين بمثل هذه الظواهر السلبية ؟؟؟ لا يخفى علينا كمسلمين الإعجاز والأسلوب العلمي والتربوي الكامل في نهج النبي عليه الصلاة والسلام والتنوع الرائع واتخاذ الأساليب المناسبة لعلاج الظاهرة والمحاورة بالتي هي أحسن مع صاحب الحال والوصول للمخالف إلى قناعة ذاتية بكمال هذا الدين والاستقامة الدائمة على الطاعة بحول الله تعالى وقوته وبكمال رؤية النبي عليه الصلاة والسلام للموقف من جميع الجهات وما أجده من حيرة شخصية في وجود ما قد يطلق عليه تسابق لمن يفرض رأيه ووجهة نظره بأسلوب مزعج وكلمات استفزازية أحيانا لا أستغرب بعدها إعراض الطرف الآخر عن ما يريد توصيله له من الخير فالنية الطيبة لا تكفي للتوجيه والإعانة على الوصول للخير بل لا بد من الأسلوب والوعي الكافي وهو ما أريد توصيله بما أكتبه هنا بكل ما أريده وما يدور حولي ليوجه في طريق طاعة الله وحده وإتباع نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام فعلا بالتساؤل الدائم هل فعله النبي عليه الصلاة والسلام واتخذه وسيلة للدعوة ؟؟ وهل يرضا الله تعالى بما أفعله وأقوله وأن نيتي خالصة له وحده ؟؟ وهل سلك السلف الصالح هذا النهج وهذا الأسلوب ؟؟ وألفت نظر الأخوة والأخوات لرفق علمائنا الأفاضل وخشيتهم على هذه الأمة وألمهم لما صارت إليه من خلال ما يعرض عليهم من مواضيع الغاية منها الهاء الناس وابتعادهم عن دينهم ليفقدوا الوعي بهذه الهوية الإسلامية الكاملة فهل نحن مدركون ؟؟؟؟
================
الهوية الاسلامية
البطاقة الشخصية :
الاسم : إنسان - ابن آدم ..
الجنسية : من التراب أتيت وإليه أذهب ..
العنوان : كوكب لأرض ..
بيانات الرحلة :
محطة المغادرة : الحياة الدنيا ..
محطة الوصول : الدار الآخرة ..
(موعد الإقلاع ): وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت
(موعد الحضور ): وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد
المتاع المسموح به :
1 -متران قماش أبيض ..
2 -العمل الصالح ..
3 -علم ينتفع به ..
4 -ولد صالح يدعو له ..
ملاحظة هامة : لايسمح بما عدا ذلك …
شروط الوصول بأمان في هذه الرحلة) : (تعليمات الأمان)
على حضرات المسافرين الكرام اتباع التعليمات الواردة في كتاب الله تعالى وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ....
وأهمها :
1-طاعة الله وحبه وخشيته ..
2 -طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع سنته ..
3 -التذكر الدائم للموت ..
4 -بر الوالدين ..
5 -حل المأكل والمشرب ……...
وغير ذلك من الشروط الواردة في كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم .
ملاحظة هامة لجميع المسافرين :
-الإنتباه إلى أنه لا يوجد في الآخرة مأوى سوى الجنة والنار؛ وعلى كل مسافر أن يختار بينهما قبل السفر ..
-للمزيد من المعلومات وتأكيد سلامة الحجز والوصول بأمان : يرجى الإتصال الدائم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ..
علما بأن الإتصال مجانا ومباشرا ..
والوزن الزائد المسموح من الأعمال الصالحة مسموح به ..
ومن أراد الاستمتاع بالرحلة أكثر .. فليكثر من ذكر الله تعالى والاستغفار والصلاة والسلام على الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم ..
وختاما نتمنى للجميع رحلة ممتعة محفوفة باللطف والسلامة للوصول إلى جنة الفردوس .
المسئول عن الرحلة: كل مسلم يحمل هم الدعوة إلى دين الله تعالى .
لا إله إلا الله محمد رسول الله
أللهم بلغنا الجنة بغير سابقة عذاب و لا مشقة سفر؛ و أجعلنا أللهم من ورثة الجنة و متعنا اللهم بالنظر الى وجهك الكريم
وأرحم اللهم من عمل بها وأعان على نشرها
أمين
وأخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين
وصلاة و سلام على أشرف المرسلين
============
هل تخطت تونس هاجس الهوية الإسلامية؟
من المتفق عليه في علم اللغة والبلاغة أن ظاهرة التكرار تفيد التأكيد على شيء ما، والتأكيد بذاته يعني نفي العكس، وبالتالي فإن كل نص سواء كان خطابا سياسيا أو طرحا فكريا، ليس تلقائيا ولا اعتباطيا، وإنما يقوم على خطة أو أكثر، تعتمد بدورها على جملة من الآليات اللغوية. ويمثل الخطاب السياسي بدوره نصا مليئا بالتلميحات وبالحيل وذلك حسب ما تمليه الاستراتيجية المتبعة داخل الخطاب.(3/224)
فمن تابع أخيرا الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تونس والخطب السياسية التي ألقيت سواء من طرف مرشح التجمّع الدستوري الديمقراطي الرئيس بن علي، أو مرشحي أحزاب المعارضة ومنهم السيد محمد بوشيحة ممثل حزب الوحدة الشعبية، إضافة إلى ممثلي حزبي الوحدوي الديمقراطي والتجمع الديمقراطي التقدمي، سيلاحظ أن هناك شعارا موحدا اجتمعت عليه أغلب الخطب، وهو التأكيد على الحرص الدائم المتواصل للمحافظة على عروبة تونس وهويتها الإسلامية.
وأظن أن مثل هذا التأكيد لا يندرج في إطار الشعارات السياسية الرنانة أو مجرد تذكير بثابت من الثوابت، حتى أن تكراره والتأكيد على أولويته، يجعل الفرد يتساءل عن أسرار هذا الهاجس، وهل تحتاج تونس التي شملها الفتح الإسلامي بداية من حسان بن النعمان عام 697 م ثم مع عمر بن عبد العزيز سنة 720 إلى التأكيد على أسلمتها ؟ أم أن الأصل البربري لشمال إفريقيا، حقيقة تاريخية في أمس الحاجة إلى المراجعة وإلى التذكير بأن تاريخ تونس عاش مرحلة أخرى صارت مع توالي القرون الحقيقة الأكبر؟
ويزداد استغرابنا أكثر عندما نضيف إلى مضامين الخطب السياسية الحالية، مضمون أول خطاب ألقاه الرئيس الحالي بن علي بعد السابع من نوفمبر 1987، إذ أعلن فيه مصالحة تونس مع هويتها العربية والإسلامية، وانطلقت المصالحة ببث آذان الصلاة في التلفزيون التونسي.
من هذا المنطلق يصبح رفع شعار العروبة والإسلام في الخطاب السياسي التونسي الحالي الحاكم أو المعارض، أبعد ما يكون عن بروتوكول، بل نحن أمام تعبيرات سياسة ذات سياق ومدلولات تنكشف بمجرد مراجعة تاريخ علاقة الدولة الوطنية التونسية بالعروبة وبالإسلام، تلك العلاقة التي قيل عنها الكثير، وكتبت في شأنها المقاربات المختلفة والمتضاربة.
فلا شك في أن الهواجس أيضا تحمل تاريخا ما ساهم في إنتاجها وصنعها، وهكذا يصبح سؤالنا حول دواعي تكرار النظام الحالي وبعض النخب السياسية المعارضة التمسك بالهوية الإسلامية لتونس أمرا ضروريا لا سيما أن البند الأول من الدستور التونسي يقر بصريح العبارة بأن الإسلام هو دين الجمهورية التونسية.
ومن الناحية التاريخية نجد أن جامع الزيتونة كان يعتبر منارة في التعليم الديني، وقد بلغت شهرته آفاقا واسعة جعلته يحتل مكانة تضاهي جامع الأزهر. كما عرف تاريخ تونس الكثير من رجال الدين ومن المتصوفة نذكر منهم أبي حسن الشاذلي وعبد العزيز المهدوي. ولم تخلو مرحلة الاستعمار الفرنسي من وجود عدة شيوخ يعتبرون حجة في مجال الدين الإسلامي، نذكر منهم عبد العزيز جعيط ومحمد الطاهر بن عاشور وابنه الفاضل بن عاشور والشاذلي النيفر وغيرهم كثير.
ورغم هذا التاريخ الحافل بالإشعاع الديني، فإن توجهات الدولة الوطنية إبان استقلالها والمتسمة بالعلمانية، أحدثت نوعا من الصدمة جعلت الكثير يتلهى بالصدمة وينسى التاريخ الديني المزدهر.
ويبدو أن المغامرة العلمانية التي خاضها بورقيبة وإعلانه قبل الحصول على الاستقلال التام في الصحافة الفرنسية بأنه يطمح إلى إرساء دولة لائكية، إضافة إلى انبهاره بمصطفى كمال أتاتورك، قد خلقا إرباكا تحول بدوره إلى حرص أحيانا غير مبرر على تأكيد الهوية الإسلامية لتونس. وقد اخترنا الخوض في هذا الموضوع تحديدا ليس فقط بسبب ما ورد في بعض الخطب السياسية في الفترة الأخيرة، بل لأن أبرز فصول المغامرة العلمانية التونسية حدثت في شهر رمضان عام 1960. ففي مثل هذا الشهر المبارك في فبراير (شباط) 1960، أطلق الراحل الحبيب بورقيبة دعوته الشهيرة للإفطار في رمضان وتعمد شرب كأس عصير أثناء تقديمه لخطاب حول نفس الموضوع، بل انه طلب من مفتي الجمهورية آنذاك الشيخ عبد العزيز جعيط، إصدار فتوى للإفطار، ولما رفض قرر إقالته وبقي منصب مفتي الجمهورية شاغرا لمدة سنتين.
ولقد كانت حجّة بورقيبة في دعوته للإفطار أن معركة التقدم التي يسميها بالجهاد الأكبر تستوجب الإفطار.
وإضافة إلى هذه الدعوة كمظهر من مظاهر العلمنة، أباح بورقيبة فائض الأرباح في قوانين البنوك التونسية، وأيضا ألغى اعتماد التاريخ الهجري. من دون أن ننسى برنامج تحديد النسل واسترخاص عام 1961 باستعمال وسائل منع الحمل. وأيضا قرار التعقيم الإجباري لكل امرأة أنجبت ثمانية أو عشرة.
وتزخر التجربة البورقيبية بعدة ظواهر أخرى كتقديس الدنيوي بدل الدين، ولعل موقف بورقيبة من رجال الدين وإطفاء جاذبيتهم الشعبية وعمله على تهميش الأنتلجيسيا الإسلامية واتهامهم بالتعامل مع المستعمر الفرنسي ووصفهم بشتى النعوت التحقيرية والتخوينية، قد عمم فكرة أن الفاعل الديني في تونس لا سلطة له ولا حول ولا قوة، بل لا وجود له داخل الدائرة الرسمية.
إذا كل هذه المظاهر التي اتسمت بتوجهات علمانية قد وسمت علاقة الدولة بالإسلام بريبة ما، وجعلت النخب السياسية تتسابق، كل على طريقتها وبدرجات متفاوتة، في اتجاه تأكيد حقيقة حولتها مغامرة بورقيبة العلمانية إلى ضباب ينتظر أن ينقشع لتظهر الحقيقة صافية. وطبعا لا يفسح المجال في هذه الورقة إلى ضبط المبالغات التي حصلت في هذه المقاربة، وكيف أن التجربة البورقيبية تمتلك في مقابل التوجهات العلمانية، مظاهر أخرى تدعم تواصلها مع الدين الإسلامي في أكثر من صعيد، من ذلك أن خطاب بورقيبة السياسي كان يكثر من استدعاء النوايات الأساسية في الدين الإسلامي ويستشهد بالآيات القرآنية وبالأحاديث النبوية ويحتفل بالأعياد الدينية.
ولكن يبدو أن مغامرة بورقيبة العلمانية، حتى وإن وصفها البعض ومنهم المفكر هشام جعيط، بأنها متصالحة مع الدين الإسلامي، فإنها لم تزل تمثل شبحا لا بد من مطاردته، رغم أن المكاسب التي تعتبر في الظرف الزمني الذي ظهرت فيه علمانية الرؤية والمرجعية، لم تتخل عنها تونس بل واصلت الدرب فيها ولم تقم إلا ببعض التغييرات الطفيفة الشكلية، مع التركيز على مكاسب رمزية مثل بناء جامع في مدينة قرطاج بتونس، يتمتع بهندسة معمارية في غاية البساطة والجمال والاتساع، إضافة إلى تزايد عدد الجوامع وإحداث جائزة دولية سنوية حول أهم بحث في الدراسات الإسلامية.
ولا شك طبعا في أن هاجس التأكيد قد يكون أيضا بغرض سحب البساط من المعارضة ذات الأساس الديني.
لذلك، آن الأوان لتجاوز مثل هذا الهاجس، خصوصا أن الاكتفاء بترديده لن يثبت شيئا، ولن ينفي شيئا آخر. فالجهد الحقيقي يجب أن ينتقل إلى طور أكثر فعالية وجدوى، وهو التعريف بالمدرسة التونسية في الفكر الإسلامي، وهي مدرسة ذات خصوصية وإسهام قابل للتصدير، ذلك أن الإسلام هو دين تونس والعربية لغتها، وهما حقيقتان تاريخيتان لن تمحوهما أي توجهات علمانية أو حتى قرارات سياسية يفسرها البعض أو الأغلبية بأنها تتعارض والواجب الإسلامي.
=============(3/225)
إلغاء الهوية الإسلامية للدول العربية شرط أساسى لتحقيق السلام!! ...
لا أحد يستطيع الإنكار إن إسرائيل تحيا اليوم أفضل أيامها وإن حالنا ليس سيئ كما يزعم زعماء الشاباك فنحن نحيا اليوم فى موقف جيد حيث يؤيدنا الجميع من مختلف أنحاء العالم الجميع يؤيدنا أمريكا والهند وروسيا والصين وحتى ألمانيا يقف العالم كله معنا وبجوارنا ويتهم الإسلام بالإرهاب فماذا يخيفنا وماذا يقلقنا حتى يخرج زعماء الشاباك ليثيرون قلقنا ويخيفونا بهذه الطريقة من عدم استقرار الأمر بين إسرائيل والعالمين العربى والإسلامى ولم يسأل هؤلاء القادة أنفسهم من الذى يقف مع المسلمين حتى نخاف؟!!لا يوجد أحد يقف مع العرب أو مع المسلمين سوى فرنسا وفرنسا لا تستطيع أن تواجه غضب العالم كله!!
الذى لا يعرفه السادة رؤساء المخابرات السابقين إن إسرائيل هى التى تملى الشروط على المسلمين حتى يساعدهم اليهود فى تحسين صورتهم أمام العالم كله.
الذى لا يعلمه ضباط المخابرات السابقين إن إسرائيل أرسلت بتقرير إلى واشنطن يضم شروطها حتى تصنع السلام مع المسلمين ومن أولى تلك الشروط أن ينتشر الجو الديموقراطى فى العالم الإسلامى كله والديموقراطية التى تذكرها إسرائيل لا تريدها ديموقراطية شكلية وإنما ديموقراطية حقيقية وعلى الدول العربية إلغاء المواد الدستورية التى تؤكد هويتها الإسلامية وعليها أيضا أن تلغى كافة المقررات الدينية من المقررات والمناهج التعليمية وأن يتم الغاء التعليم الدينى من كافة الدول العربية ويصبح التعليم قاصرا على التعليم غير الدينى والذى لا يرتبط من قريب أو من بعيد بالدين الإسلامى!!
والشئ الذى أكدت عليه إسرائيل فى شروطها هو ضرورة أن تقوم الدول العربية والإسلامية كلها دون استثناء بفرض الديموقراطية الحقيقية وليست تلك الديموقراطية الصورية التى تحاول الدول العربية والغسلام تصويرها وتسويقها أمام المجتمع الدولى وبالإضافة إلى الديموقراطية الحقيقية فإن إسرائيل تطالب العالم الإسلامى كله بضرورة أن يتم إلغاء كافة الجامعات والمدارس التى تقوم بتدريس الدين الإسلامى وشرائعه وطقوسه على أن تقوم تلك المدارس والجامعات بتدريس المواد المدينة والعلمانية بعيدا عن الدين حتى يبتعد العنف والإرهاب ويجب أن يؤمن العرب والمسلمين بذلك أولا وقبل التنفيذ على أن يلغوا أيضا أى وجود للدين فى مدارسهم وجامعاتهم وهكذا وعندما تلغى جامعة الأزهر والملك سعود والعديد من الجامعات الدينية الأخرى وقتها نستطيع التحدث عن الإسلام!
لم تكتمل شروطنا بعد حتى نوافق على السلام وعلى إنتشال العالم الإسلامى من الهوة السحيقة الواقع فيها حاليا فنحن مازلنا فى إنتظار أن يتحرك المسلمين فى كل مكان من أجل العمل على تحديد نسلهم الذى زاد بصورة مريبة ومخيفة ليس لنا فحسب بل لكل شعوب العالم لهذا يجب على الدول العربية والإسلامية أن يفرضوا قيودا صارمة على الزيادة السكانية الرهيبة التى تتسبب فى زيادة المسلمين ملايين جديدة كل عام وبعد ذلك يجب عليهم أيضا إطلاق الحرية للنساء ليتعلمن ما شئن وقتها فقط نستطيع كإسرائيليين أن نصنع السلام كيفما نريد!
جاى جاخور
يديعوت أحرونوت
=============
تركيا بين الهوية الإسلامية والممارسة العلمانية
في انتخابات تركيا الأخيرة فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية مع رئيس الحزب صاحب الكاريزما الكبيرة داخل الحزب والشعب التركي عامة (رجب طيب إردوغان)، وهذه المرة هي الثانية للحزب في فوزه في الانتخابات التشريعية بعد نجاحات عديدة متمثلة في رفع الاقتصاد التركي والإبقاء على المنجزات الديمقراطية والممارسة السياسية المتعقلة تجاه الجوار كقضية استخدام الأراضي التركية لضرب العراق بعد أن وُضعت القضية في يد البرلمان والعلاقة الدبلوماسية مع الدولة الإسرائيلية. هذه الممارسات وغيرها جعلت من إدارة حزب العدالة التنمية للدولة التركية إدارة تتسم في أكثر جوانبها بالعلمانية مما يجعل الجيش التركي راضيا نسبيا عن مسيرة حزب العدالة والتنمية خاصة أنه الجيش الذي عرف عنه حفاظه على (التركة الأتاتوركية) والقضاء على أية ممارسات دينية في تسيير البلاد سياسياً بانقلابات أربعة شهيرة من قبل هذا الجيش وإعادة الديمقراطية إلى البلاد أو حل الأحزاب ذات الممارسات الدينية السياسية كحزبي: (الرفاه) و(الفضيلة).. التي خرج من رحمهما حزب العدالة والتنمية؛ لكن بروح جديدة ورؤية شبابية ذات سمة براغماتية واضحة _ في رأيي_ في بعض جوانبها لممارسة العمل السياسي كان أهمها التأكيد على علمانية الدولة.
ومع تأكيدات مرشح الحزب الأول للرئاسة (عبدالله غول) المتكررة حول المحافظة على المنجزات العلمانية والتأكيد على مبدأ فصل الدين عن الدولة في ممارسات حزب العدالة والتنمية إلا أن المعارضة مازالت في تشكيك حول هذا الموضوع؛ خاصة بعد مطالبات حزب العدالة والتنمية للتغيير في الطريقة الانتخابية من انتخاب الأحزاب إلى الانتخاب المباشر للرئيس من قبل الشعب، لشكوكهم، شبه الصحيحة، أن الشعب تم العمل على إعادة تأهيله إسلامياً من قبل الأحزاب الإسلامية ضمن الطبقة التحتية عن طريق الخدمات الاجتماعية منذ التسعينات تقريباً مما جعل ظاهرة الحجاب في تزايد، وهي المؤشر بالنسبة للجيش التركي خاصة عندما يكون هذا الحجاب هو رمزاً سياسياً قبل أن يكون خياراً فردياً، لكن الجيش قد بالغ كثيراً في هذا الناحية.
ما يهمنا هنا ليس التجربة التركية أو تجربة هذا الحزب بقدر مايهمنا التصور الفكري والسياسي لمثل هذا الحزب في الممارسة السياسية بين العلمانية أو العمل الديني/السياسي. لقد فرحت الأحزاب الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي بهذا الفوز وهذا النجاح لكونه النجاح الذي يمكن أن يحقق لها الاستمرارية في الممارسة السياسية وصلاحية العمل الديني في تسيير البلاد، وجعلها تنظر إلى أن العمل الديني ممكن له أن يتجاوز العمل المدني؛ بل ويحقق الكثير من الإصلاحات الاجتماعية والسياسية كما هو تصورها.
جميع حركات الإسلام السياسي في طول وعرض البلاد الإسلامية تنطلق من اعتبارات دينية للعمل السياسي بما في ذلك حزب العدالة والتنمية خاصة أنه الحزب الذي عرف عنه نهجه الديني حتى لو لم تكن شعاراته التي يرفعها غير ذلك؛ لكن، وهنا مكمن الرؤية، تبقى الممارسة التي يتعامل معها في حراكه السياسي كان علمانياً فاصلاً الدين عن السياسة أو، على الأقل، هذا ما اتضح من خلال مسيرته.
جاء هذا الحزب من خلال الديمقراطية والعمل المدني المعتدل وحق الانتخاب، فأصبح له الحق كما لغيره في تسيير البلاد بشرط أن يبقي على المنجزات التي حقتها البلاد من خلال العلمانية وهذا ما يبدو أن الحزب قد فهمه فهماً جيداً من خلال مصير الأحزاب الإسلامية الأخرى التي كانت سابقة على تشكيله، فبقاء هذا الحزب يتطلب الإبقاء على العلمانية ممارسةً قبل أن تكون شعاراً؛ في حين جاءت جميع الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي من خلال فكرة المقاومة أو الإرهاب أي من خلال العمل المسلح، وهذا فارق كبير بين وصول هذه الأحزاب ووصول حزب العدالة والتنمية.(3/226)
هذا من جهة.. من جهة أخرى؛ فالحركات الإسلامية التي وصلت من خلال الانتخاب إلى سدة الحكم لم تكن تحمل مشروعا سياسياً مدنياً يمكن أن يحقق لها مكاسب سياسية كحماس مثلاً، وهذا ناتج، في تصوري، عن أن العمل السياسي بحاجة إلى رؤية سياسية مدنية قبل أن تكون رؤية دينية، فالاتكاء على الرؤية الدينية فقط كما هو حال جميع حركات الإسلام السياسي ليس كافياً في تشكيل واقع سياسي أو اجتماعي مقبول، فشعار (الإسلام هو الحل) أو شعار (تطبيق الشريعة) ليس كافياً؛ بل يحتاج إلى برنامج سياسي مقنن وواضح المعالم، وحين يتم تحويل هذه الشعارات إلى برامج سياسية؛ فإنما تنتقل من كونها شعارات إلى كونها حراكاً سياسياً، وطبيعة الحراك السياسي مدني، والحراك المدني هو ممارسة علمانية في وجه من وجوهه، تلجأ فيه الممارسة للسياسي أكثر مما تلجأ فيه للديني.
الهوية الإسلامية تبقى هوية للكل الإسلامي سواء كان حزباً علمانياً أو كان حزباً دينياً، وكما يقول عبدالله غول نفسه في أحد حواراته في الفضائيات فيما أذكر: "إنك لا تستطيع أن تسمي حزبك إسلامياً لأنك بذلك تقتصر الإسلام على ذاتك.." وهذه رؤية متطورة جداً عن جميع الحركات الإسلامية في العالم العربي خاصة، ولذلك فإن فرحة الأحزاب الإسلامية مبالغ فيها كثيراً لكون حزب العدالة ذاته لا يتوافق مع توجهاتها السياسية، فاختيار تركيا لهذا الحزب لم يكن اختياراً للهوية الإسلامية فهي هوية تركيا منذ تأسيسها إلا في ممارستها السياسية، بل ما كان هذا الاختيار اختياراً علمانياً بعيداً عن توجه الحزب الديني، فالمصلحة هي التي تقود الشعب أو الأحزاب لاختيار من يصلح لإدارة الأمور في البلاد.
* كاتب سعودي
5 : عدد التعليقات
التعليقات
اذا كان كلامك صحيحا فلماذا لم يتنازل قادة الحزب عن حجاب نسائهم مع انه كان اكبر وسيلة للطعن في موقفهم السياسي , اما بالنسبة لحماس فيكفي شهادة الشعب الفلسطيني لها بالكفاءة بكل اطيافه وتأييده لها رغم كل الحصار بسببها, ولا ننسى ماليزيا!اما اخوان مصر فلاننسى اكتساحهم للنقابات وتصويت حتى المسيحيين لهم, بشكل عام اثبتت الأحزاب ذات الصفة لأسلامية تفوقها في كل مكان تصل فيه الى المسؤولية.
الاسم ayman dargy
شعار الاسلام هو الحل و تطبيق الشريعة ليس كافيا لعلها زلة من الكاتب لان هذا ليس بشعار هذه عقيدة المسلم الاسلام يكفي وتطبيق الشريعة هو الحل واكبر مثال هذه البلاد حتى وان سقطت لكنها قامت مرة ثالثة واسال الله ان يحفظها ويبعد عنها كل سوء وهي تقول الاسلام هو الحل لكن اذا وجد خلل فهو عند بعض الناس الذين اباحو المحرمات من قيادة المراة للسيارة الى السنما الى الاختلاط الى ترك الامر بالمعرو والنهي عن المنكر قال الله( الذين ان مكنهم في الارض اقامو الصلاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور)
الاسم ابو فاطمة
مبروك لحزب العدالة والتنمية على نجاحاتة ليس فى الأنتخابت فقط بل فى برنامجه السياسي ولأقتصادي والأجتماعى. هذا هوه الفرق بينه وبين الأحزاب والمؤسسات ذات الطابع الديني فلى العالم العربي. والتي لا تملك برنامج سيسيا وكل ماتقوله انها سوف تطبق الأسلام لكن فى الحقيقة هى تطبق الدكتاتورية الأرهابية تحت مسمى الأسلام..
الاسم أبو عمر
لهذا دعونا نرى ماذا فعلت طالبان وحماس وجبهة الأنغاذ الجزائرية والترابي فى السودان وغيرهم فقد قطعوا يد السارق اذا كان من اهل الحاجة, وجلد الزاني اذا لم يحضر صك زواج مسيار أو متعة او كمايقال زواج فرند. وكذلك السماح للملشيات بلقتل والترعيب للناس باسم الأصلاح . كفانا الله واياكم من جنة هؤلئي .
الاسم أبو عمر
أفضل صورة لإسلاميين وصلوا إلى سدة الحكم بحمد الله هي آل سعود مع ابن عبدالوهاب رحمهم الله و حفظ الحي منهم على السنة.... و للأسف فالتيارات الإسلاموية الصحوية التي وصلت إلى سدة الحكم اليوم كلها فاشلة بدأ بالسودان أو بعض الوزراء في الأردن أو (طالبان) أو حماس أو غيرها فكما قيل: الإسلاميون أفضل في المعارضة منهم في الحكم.
الاسم صالح
==============
الهوية الإسلامية
الشيخ محمد إسماعيل
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، لا سيما عبده المصطفى ، وآله المستكملين الشرفَ ، أما بعد
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، ثم أما بعد
فعن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله تعالى عنها قالت ( كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمي مغلسين ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ، فأتيا كالين ساقطين يمشيان الهوينة ، فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فو الله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم ، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي أهو هو ؟ قال نعم والله ، قال عمي أتعرفه وتثبته ؟ قال نعم ، قال فما في نفسك منه ؟ أجاب عدواته والله ما بقيت ) .
كان حيي بن أخطب وأبو ياسر كلاهما يعني من كبار علماء وزعماء اليهود في المدينة ، وحينما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة بكر ذهبا مغلسين ـ الغلس وهو الوقت بعد الفجر مباشرة حين تختلط بدايات الضوء بالظلمة ظلمة الليل ـ فذهبا في هذا الوقت المبكر ومكثا يراقبان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ، فأتيا كالين ساقطين يمشيان الهوينة ـ في غاية الإرهاق ـ فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فو الله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم ، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول أهو هو ؟ قال نعم والله ، أهو هو ؟ يعني أهو النبي المبشر به في التوراة الموصوف بالتوراة بالصفات المعروفة والخصائص المحددة ؟ قال نعم والله يعني إنه لهو النبي الذي بشر به موسى أو بشرت به التوراة ، قال عمي أتعرفه وتثبته ؟ قال نعم ، قال فما في نفسك منه ؟ ـ ماذا عن موقفك ؟ ـ قال عداوته والله ما بقيت ، هكذا يعني جحود اليهود .
الحقيقة إن الشاهد في هذا الحديث هو كلمة "أهو هو ، أهو هو" وإن كان علاقته بموضوعنا ليست علاقة مباشرة لكن نحن نتخذه منطلقاً يعني تبركاً بهذا الحديث ، فقوله "أهو هو ؟" إشارة إلى هوية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه الموصوف في التوراة ، فحديثنا عن الهوية .
الهوية وهي حقيقة الشيء أو حقيقة الشخص التي تميزه عن غيره ، فهي ما هيته وما يوصف وما يعرف به كما دل عليه هذا الحديث ، فالهوية هي المفهوم الذي يكونه الفرد عن فكره وسلوكه الذين يصدران عنه من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي ، بهذه الهوية يتميز الفرد ويكون له طابعه الخاص ، فهي بعبارة أخرى "تعريف الإنسان نفسه فكراً وثقافة وأسلوب حياة" .
يعني نحن إذا أي نحن نسميها بطاقة الهوية ـ البطاقة الشخصية ـ أو بطاقة الهوية التي فيها من هو هذا الشخص ، تطلع عليها تعرف أنه مثلاً مسلم يعمل كذا سنه كذا مولود في كذا يعيش في بلدة كذا وهكذا ، وإن كانت البطاقة الشخصية تحتوي فقط بعض البيانات المحددة ، أما مجال الهوية فمجالها أوسع ، فهي تعبر عن كل كيان الإنسان ، كل ما فيه من الصفات عقلية وجسمية وخلقية ونفسية .(3/227)
فمثلاً حينما يعني يقول الإنسان أنا مسلم ، أنا مسلم هذه انتماء لدائرة كبيرة جداً من دوائر الهوية ، ديانته الإسلام ، أنا مسلم فتعرف أنه مسلم ، أو إذا زاد وقال أنا منهجي الإسلام الذي أحيا به ، فإذا زاد أكثر حدد الدائرة بصورة أدق وأوضح فقال أنا مثلاً مؤمن ملتزم بالإسلام كي يتميز عمن ينتسب إليه بالاسم ، إذا زاد وأوضح فقال أنا مسلم سلفي ، عرفنا بمجرد كلمة سلفي مثلاً إذا أضاف أنه ليس خارجياً ولا معتزلياً ولا مبتدعاً ، وأنه يعتقد في القضية الفلانية كذا وفي القضية الفلانية كذا ، إن هذه الصفة عبارة عن لافتة وتعنون لجملة من الصفات الثابتة التي لا تتغير فيما بين الذين ينتمون إلى هذه الهوية .
الفرد كما أن له هوية كذلك المجتمع والأمة لها هوية مستقلة تتميز بها عن غيرها ، وإلا تشابهت الأمم كما يتشابه السمك في الماء ، وكلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع كلما تعمق إحساسه بالانتماء لهذا المجتمع واعتزازه به وانتصاره له ، أما إذا تصادمتا فهنا تكون أزمة الهوية وأزمة الاغتراب ، وإلى معناها أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء ) وفي بعض الروايات قيل من الغرباء ؟ فقال ( أناس قليل في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) .
الانتماء الوجداني والانتساب إلى الهوية ينبع عن إرادة النفس ، فالنفس تكون راضية بهذا الانتماء إلى هذه الهوية ، قابلة لهذا الانتماء راضية عنه معتزة به ، فهذا الانتماء هو الذي هو الزمام الذي يملك النفس ويقودها ويحدد أهداف صاحب الهوية ، وهو الذي يرتب أولوياته في الحياة ، فتنصبغ النفس به وتندمج فيه وتنتصر له وتوالي وتعادي فيه ، في نفس الوقت تبرأ من الانتساب إلى أي هوية أخرى مضادة أو مزاحمة لهذه الهوية التي يعتز بالانتماء إليها ؛ إذن هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بطبيعة الحال بناء حواجز نفسية بين الشخص وبين كل من يخالفه في هذه الهوية ، وفي نفس الوقت اندماج وتوحد مع الذين يوافقونه في هذه الهوية .
الهوية لها علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية ، الهوية هي التي توجه لاختيار هذا الفرد عند تعدد البدائل ، فأنت إذا عرفت أن هذا هويته مثلاً مسلم يبقى الأصل أن هذا المسلم معناها أنه مثلاً يجتنب لحم الخنزير يجتنب الخمر ، لايفعل كذا وكذا وكذا ، ويعتقد كذا وكذا وكذا ، إذا عُرِضت عليه عدة اختيارت في أي قضية فطبقاً لانتمائه الاعتقادي وطبقاً لهويته فإن هذه الهوية هي التي سوف يعني توجه اختياره أمام البدائل المتعددة ، بعبارة أخرى الهوية هي التي تقوم بتهديف سلوكه ، بتهديف سلوكه بجعل سلوكه ذا هدف محدد في إطار هذه الهوية بحيث يصبح سلوكه ذا معنى وله غاية ، كما أنها تؤثر تأثيراً بليغاً في تحديد سمات شخصيته وإضفاء صفة الثبات والاستقرار والوحدة على هذه الشخصية ؛ بالتالي إذا تحققت له عناصر وأركان هذه الهوية ونتج عنها الانتماء الذي تحدثنا عنه لا يمكن أبداً أن يكون إمعة ، ولا يكون منافقاً ، ولا يكون ذا وجهين يقابل هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ، كما وصف الله تعالى المنافقين { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } فالشخص الذي حدد هويته لا يمكن أن يقع في هذا التذبذب ، لا يمكن أن تضطرب شخصيته ، تكون ثابتة ومستقرة وشخصية واحدة ، لا يمكن أن تتعدد وجوهه كما يحصل للمنافقين والإمعات .
أما بالنسبة للمجتمع ككل فإن الهوية الواحدة أو المتحدة تصبح هي الواحة النفسية التي يلوذ بها أفراد الجماعة ، والحصن الذي يتحصنون داخله ، والنسيج الضام أو المادة اللاصقة التي تربط بين لبناته ، والتي إذا فُقِدت تشتت المجتمع وتنازعته التناقضات .
أهم أركان الهوية ـ يعني الهوية لها أركان عدة لكن أهم أركانها على الإطلاق ـ هو العقيدة ، يليها التاريخ واللغة .
فإذا تحدثنا عن الهوية الإسلامية نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة ـ إن الهوية الإسلامية بضم الهاء طبعاً ـ بحيث تستغني تماماً عن أي لقاح أجنبي عنها وتستعلي عن أن تحتاج إلى لقاح أجنبي يخصبها ، فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة وأصول ثابتة رصينة ، تجمع وتوحد تحت لوائها جميع المنتمين إليها ، وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً لا تملكه أمة من الأمم ، وتتكلم لغة عربية واحدة ، وتشغل بقعة جغرافية متصلة ومتشابكة وممتدة ، وتحيا لهدف واحد هو إعلاء كلمة الله وتعبيد العباد لربهم وتحريرهم من عبودية الأنداد .
أي واحد من جنود الجيش الإسلامي الذي كان يفتح البلاد ويبشر وينشر ضياء ونور الإسلام إذا سألته كان سيردد عبارة يعني ذلك الصحابي الذي لما سُئل ما جاء بكم ؟ قال الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة أو كما قال رضي الله تعالى عنه .
يعرف الهدف بمنتهى الوضوح ، وسلوكه مهدف ، له هدف محدد يحي لأجله ، هذا ثمرة من ثمرات هذه الهوية ، لكننا سنلقي أكثر الضوء على الركن الأعظم من أركان الهوية الإسلامية وهو ركن العقيدة .
فجنسية المسلم هي عقيدته ، جنسية المسلم هي عقيدته ، ووطنه هو دينه الذي هو عصمة أمره ، والهوية الإسلامية في المقام الأول تعني الانتماء للعقيدة انتماءً يُترجم ظاهراً في مظاهر دالة على الولاء لها والالتزام بمقتضياتها ، فالعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت على الإطلاق في هوية المسلم وشخصيته ، وهي أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان ينتمي إلى بني آدم ؛ لأنها انتماء إلى أكمل دين وأشرف كتاب نزل على أشرف نبي صلى الله عليه وسلم إلى أشرف أمة ، أُرِسل هذا النبي إلى أشرف أمة بأشرف لغة بسفارة أشرف الملائكة في أشرف بقاع الأرض في أشرف شهور السنة في أشرف لياليه وهي ليلة القدر بأشرف شريعة وأقوم هدي ؛ ولذلك مدح القرآن الكريم وعظم هذه الهوية فقال تعالى { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين } قال باعتزاز إنني من المسلمين ، أي نعم وإن كان هذه يعني يذكرون هذه الآية في فضائل المؤذن لكن هي بعمومها تشمل كل من ينتمي إلى الهوية الإسلامية ، حتى المؤذن تتجاوب معه كل المخلوقات ، لا يبلغ مدى صوت المؤذن شجر ولا حجر ولا أي مكان إلا وهو يصدقه فيما يقول إذا قال "أشهد ألا إله إلا الله" يقول الشجر والحجر وكل ما يسمعه يقول "صدقت صدقت" ويقره على افتخاره ودعوته إلى هذه الهوية .(3/228)
ويقول الله سبحانه وتعالى مبيناً أنه لا أحسن ولا أكمل من الهوية الإسلامية { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً } وقال عز وجل { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } وقال تعالى { صبغة الله } التوحيد والإسلام والعقيدة هي صبغة الله ، إذا كان النصارى يصبغون أولادهم لينصرونهم بالتعميد والتغطيس فها هي صبغة الله فطرة التوحيد وعقيدة التوحيد { صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون } وقال عز وجل مبيناً شرف هذه الهوية { كنتم خير أمة أخرجت للناس } أمة الإسلام وأمة التوحيد بشروطها هي خير أمة على الإطلاق أُخرِجت للناس ، لماذا ؟ لأنها تجتمع على العقيدة على التوحيد ، لا على عرق ولا حنس ولا وطن ولا أرض ولا كلإٍ ومرعى كما تجتمع الحيوانات ، وإنما على هذه العقيدة وهذا التوحيد ؛ ولذلك قال تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } وقال أيضاً جلا وعلا { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } عدولاً خياراً { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } وقال عز وجل { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } إلى آخره ؛ ولذلك في ضوء هذه الآية الكريمة كان بعض المجاهدين الفلسطينيين يواجه "كاهانا" بقوله "نحن شعب الله المختار" ، كان هو يردد مزاعم اليهود أنهم شعب الله المختار فكان يرد عليه يقول له لا ، بل نحن المسلمين نحن شعب الله المختار ، لماذا ؟ لأن الله تعالى قال { كنتم خير أمة أخرجت للناس } هم يقولون نحن شعب الله المختار بصفة عنصرية ، أنهم شعب الله المختار ، ما عدا ذلك من الأمم أو الجوييم عبارة عن بهائم خُلِقت ليست فيها الكمال البشري وإنما خُلِقت ليركبها اليهود وليسخرها اليهود لعنهم الله تعالى ؛ ولذلك لا نجد في العقيدة اليهودية تبشير باليهودية ، لا يوجد تبشير باليهودية لماذا ؟ لأنهم كما أرد يعني بعض الظرفاء يعلل ذلك في ضوء أخلاق اليهود قال لأنهم يخافون أن الناس يشاركوهم في الجنة ، إذا دخلوا اليهودية واعتنقوها سيشاركوهم في الجنة ، وهم لشدة بخلهم وشحهم يخشون أن يدخل الناس معهم الجنة ، هذا على كل على سبيل المزاح يعني ، لكن كانوا يزعمون أنهم شعب الله المختار ، مختار لماذا ؟ لأنهم فئة مستقلة عنصر معين ، وهو هذا العنصر الإسرائيلي ، أما نحن فنحن بحق شعب الله المختار لا بصفتنا بصفة قومية ولا عنصرية ولا عرقية ، وإنما بصفة التوحيد الذي هو صبغة الله ، وبصفة الهوية الإسلامية .
كيف لا تكون الهوية الإسلامية أشرف صبغة وأحسن دين وأعظم انتماء وهي في الحقيقة انتماء إلى الله عز وجل وانتماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتماء إلى عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين من كانوا ومتى كانوا وأين كانوا ، يقول تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين ءامنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وقال الله عز وجل { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } هذا هو الانتماء لأمة الإيمان { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } إلى آخر الآيات ، وقال تعالى { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } ذهب بعض المفسرين أن عباد الله الصالحين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ودعا الحواريون قالوا { ربنا ءامنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } وقال من آمنوا من النصارى { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } نطمع يعني هذا أمل وغاية من حُرِم منه فإنه يطمع فيه وسعى سعياً حثيثاً إلى الانضواء تحت لواء هذه الهوية الإسلامية ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ، كل مسلم يقول في صلاته "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" انتماء وانتظام في هذا النظام وهذا العقد الذي يضم كل من ينتسب إلى حزب الله عز وجل ، يقول الشاعر
ومما زادني شرفاً وفحراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
الأمر المهم جداً الذي ينبغي أن نلتفت إليه لأنه في غاية الأهمية ونحن نناقش هذا الموضوع أن الانضواء تحت الهوية الإسلامية والاندماج في الهوية الإسلامية ليس أمراً اختيارياً ، هذا الكلام ليس فقط للمسلمين لكن لجميع البشر لكل الناس ، يجب على جميع بني آدم أن ينتموا إلى الهوية الإسلامية ، فموضوع الهوية الإسلامية ليس الانتماء إليها أمراً مستحباً ولا أمراً تكميلياً أو كمالياً ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، يقول الله عز وجل { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته واتبعوه لعلكم تهتدون } والآيات في هذا طبعاً كثيرة جداً في بيان أن دعوة الإسلام دعوة شاملة لجميع البشر أن يندمجوا في الهوية الإسلامية بأن يشهدوا شهادتي التوحيد وينقادوا لحكم الله سبحانه وتعالى ويكونوا من المسلمين ، قال تعالى { وأوحي إلي هذا القرءان لأنذركم به } يعني يا من أنتم حاضرون من قريش { ومن بلغ } يعني ومن يبلغه القرآن إلى أن تقوم الساعة أيضاً أنا أنذره بذلك .
ويقول صلى الله عليه وسلم ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي وبما أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، والحديث رواه مسلم ؛ إذن هذه الأمة محملة برسالة هي إدخال جميع البشر في الهوية الإسلامية ، هذا هو موقعها الطبيعي والقيادي باعتبارها خير أمة أخرجت للناس ، وباعتبارها الأمة الوحيدة المؤهلة لإنقاذ البشرية من الضياع في الدنيا ومن عذاب الآخرة ، هذا هو السبيل الوحيد إلى النجاة في الآخرة أن يذوبوا ويندمجوا في الهوية الإسلامية .
الهوية الإسلامية هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية وتحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وغايته في هذه الحياة { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } وقال تعالى { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } .
هذه الهوية هي مصدر العزة والكرامة { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون } وقال عز وجل { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } وقال عمر رضي الله عنه أيضاً ( إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين فمهما نبتغي العز في غيره أذلنا الله ) .
وهي هوية متميزة عما عداها ، هوية في غاية الوضوح ، لا يمكن أبداً أن تختلط أو تلتبس بغيرها من الهويات ، وهذا هو مبدأ البراءة ، البراءة من الشرك والمشركين يدل عليه قوله تعالى { لكم دينكم ولي دين } والخطاب للكافرين { قل يا أيها الكافرون لا أعبد } حالياً { لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم } الآن { عابدون ما أعبد ولا أنا } في المستقبل { عابد ما عبدتم ولا أنتم } في المستقبل { عابدون ما أعبد لكم دينكم } الباطل الذي أنا بريء منه { ولي ديني } الحق ، نعم .(3/229)
لكي يبقى هذا التميز بين الهوية الإسلامية وما خالفها من الهويات ثابتاً في كل حين فرض الله سبحانه وتعالى علينا معشر المسلمين في كل يوم وليلة أن ندعوه سبع عشرة مرة أن يهدينا الصراط المستقيم ، على الأقل في اليوم والليلة سبع عشرة مرة كلنا يقول { اهدنا الصراط المستقيم } ثم يزيد هذا الصراط وضوحاً ـ هذا من أركان الهوية ـ { صراط الذين أنعمت عليهم } الذين نحن ننتمي إليهم { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } نعم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس منا من عمل بسنة غيرنا ) .
عرف اليهود ذلك وشعروا أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى أن يخالفهم في كل شؤونهم الخاصة بهم حتى ضجر ، ضجر اليهود من ذلك قالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه ، ما يريد هذا الرجل ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه ؛ وذلك حرصاً على تميز الهوية الإسلامية .
وقال صلى الله عليه وسلم ( من تشبه بقوم فهو منهم ) وقد صحت كثير من الأحاديث التي تفصل هذه المخالفة وتحض عليها في كثير من أبواب الدين ، ولولا خشية الإطالة لاستزدنا أحاديث كثيرة جداً في الصلاة في النكاح في سائر الأعمال ، في الصيام في العادات في الأكل في الشرب في الملابس ، يعني حض النبي صلى الله عليه وسلم على التميز عن المشركين وعدم موافقتهم ؛ إذن إذا قلنا أن الهوية الإسلامية هي وطن المسلم أو وطن المسلم هي عقيدته ، جنسيته هي دين الإسلام .
فما علاقة الهوية الإسلامية بالوطنية القومية ؟ هل هي علاقة تعارض ؟ فنقول إن الهوية الإسلامية ابتداءً لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه المسلم ، ولا تعارض حب الخير لهذا الوطن ، بل في الحقيقة إن المسلمين الصادقين هم أصدق الناس وطنية وهم أنفع الناس لوطنهم ، لماذا ؟ لأنهم يريدون لوطنهم سعادة الدنيا والآخرة بتطبيق الإسلام وتبني عقيدته وإنقاذ مواطنيهم من النار ، كما قال مؤمن آل فرعون { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا } أدخل نفسه في جملتهم { فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا } أيضاً هؤلاء هم الذي يحدبون ويجتهدون في حماية أمتهم من التبعية لأعدائهم الذين لا يألونهم خبالاً ، وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون في سورة غافر ، ويتجلى في كل عصر ومصر في مواقف وجهاد رموز الدعوة الإسلامية في كافة البلاد الإسلامية .
إلا أن الوطن الحقيقي في مفهوم الهوية الإسلامية هو الجنة ، لماذا ؟ لأن هذا هو الوطن الأصلي للمؤمنين حيث كان أبونا آدم عليه السلام في الابتداء ، ونحن في الدنيا في حالة نفي عن الوطن ، في حالة نفي عن الوطن في معسكر اعتقال الشيطان عدونا ، فنحن في حالة نفي عن هذا الوطن الحقيقي ، ونحن في هذا المنفى ساعون في العودة إلى هذا الوطن ، والمنهج الإسلامي والهوية الإسلامية هي الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى الوطن الأم .
هذه الحقيقة أو هذا المعنى عبر عنه الإمام المحقق بن قيم الجوزية رحمه الله تعالى بقوله
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
فالجنة هي دار السعادة التي لا يبغون عنها حولاً لا كما قال من سفه نفسه
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
أما في الدنيا فأيضاً الهوية الإسلامية تتحكم حتى في قلوبنا ، في عواطفنا في حب البشر ، فنحن نحب جميع الأنبياء ، ثم هناك مرتبة خاصة للرسل ، ثم بعد ذلك أولو العزم من الرسل ، ثم أشرف المرسلين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد الأنبياء الأولياء ، وأعظم الأولياء على الإطلاق هم الصحابة ، وأعظم الصحابة على الإطلاق هو أبو بكر رضي الله عنه يليه عمر { إن السمع والبصر والفؤاد } حتى عواطفه والحب ليس متروكاً لاختياره ، فالهوية الإسلامية تحدد رقعة المحبة لكل شخص في قلبك وأولويات هذه المحبة وترتيب ذلك .
كذلك بالنسبة للأوطان والأرض ، أحب الأوطان إلى المؤمن أو أحب قطع الأرض إلى المؤمن في هذه الدنيا أولاً مكة المكرمة ثم المدينة النبوية ثم بيت المقدس ، قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن محبته مكة المكرمة مبنية على أنها ( أحب بلاد الله إلى الله ) وانتبهوا لهذا ، بعض الذين يتبنون المفهوم الوثني للوطنية يحاولون أن يستدلوا بالحديث على نقيض ما يدعو إليه ، يحاولون أن يغذوا مفهوم الوطنية الوثنية بالحديث يقولون هذه هي حب الوطن ، هذه هو حب الوطن أحب في حب الرسول إلى مكة لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ، نعم ليس حباً للوطن لكنه لأنها مكة أحب بلاد الله إلى الله ؛ فلذلك كل مسلم يحب مكة المكرمة قبل أي مكان آخر على وجه الأرض ، وكذلك المدينة النبوية الطيبة ، وكذلك بيت المقدس الذي بارك الله حوله ، فمحبتنا لهذه البقاع التي اختارها الله وباركها وأحبها فوق محبتنا لمسقط رؤوسنا ومهبط الطفولة ومرتع الشباب ، أما ما عدا هذه البلاد المقدسة فإن الإسلام هو وطننا وهو أهلنا وهو عشيرتنا ، وحيث تكون شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة فثم وطننا الحبيب الذي نفديه بالنفس والنفيس ، ونذود عنه بالدم والولد والمال يقول الشاعر
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان
وحيثما ذُكِر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني
أما الوطنية بمعناها المحصور في قطعة أرض ، للأسف الشديد إذا سألنا من الذي وضع هذه الحدود الوهمية التي لا نراها إلا على الخرائط ؟ من الذي وضع هذه الحدود ؟ الاستعمار هو الذي قسم هذه الحدود ، ويعني شطرنا بهذه الطريقة ، في حين أننا إذا رأينا الحدود بين دولهم مثلاً في أوروبا أنا رأيت الحدود بين هولندا وألمانيا عبارة عن شارع في وسطه رصيف ارتفاعه يعني حوالي نصف متر أو أقل ، يعني ممكن تضع رجليك تبقى رجل في هولندا ورجل في ألمانيا ، والناس طبعاً بتتحرك بمنتهى الحرية ، هذه هي الحدود بينهم ، والآن هم ساعون في هذه إزالة هذه الحدود بل فعلوا ذلك بالفعل عن طريق الوحدة الأوروبية التي تحققت بالفعل ، فهم بقدر ما اجتهدوا في تمزيقنا كما تمزق الجبن الرومي هم أيضاً يعني يندمجون ويتوحدون ويلغون الحواجز بينهم ، فهذه الحدود هل هي في القرآن ؟ هل هي في السنة ؟ لأ ، هذه الحدود إنما رسمها أعداؤنا فالوطنية بمعناها المحصور في هذه الحدود أو في عرق أو لون أو جنس ، فهذا المفهوم مفهوم دخيل لم يعرفه السلف ولا الخلف .
من أول من أدخل مفهوم الوطنية الوثني في بلاد المسلمين أو في مصر على الأقل ؟ لأ سعد زغلول أيه ، أيوه رفاعة الطهطاوي ، رفاعة الطهاوي لما أرسله محمد علي إلى فرنسا ورجع ملوثاً ببعض الأفكار من فرنسا منها فكرة الوطنية ، وهو أول من بدأ ينفث روح الوطنية بالمعنى الوثني ، الارتباط بالتراب والأرض ، وهذا الكلام استورده من الأفكار التي تأثر بها هناك في فرنسا ، أي نعم فطرأ علينا هذا المفهوم المحدود الضيق ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها الغربيون وأذنابهم لمزاحمة الانتماء الإسلامي وتوهين الهوية الإسلامية التي ذوبت قوميات الأمم التي فتحتها في قومية واحدة هي القومية الإسلامية والوطنية الإسلامية ، ودمجتها جميعاً في أمة التوحيد .(3/230)
وهاك أو هاكم شاهد من أهلها وهو المؤرخ اليهودي "برنارد لويس" ، يقول هذا المؤرخ اليهودي ـ وانصتوا جيداً لما يقول ـ يقول "كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي ، وكيف انتصر النبي وصحبه ، وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية ، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى ، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين ، بل ضد مجموعة أخرى من الأصنام اسمها الدولة والعنصر والقومية ، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام ، فإدخال هرطقة القومية العلمانية أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط ، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً" .
هذا اعتراف صريح من هذا اليهودي بأن الغرب هو الذي زرع ظلماً وعدواناً مفاهيم القومية والعلمانية ليوهن ويضعف الهوية الإسلامية ، ويقرر نفس هذا المؤرخ حقيقة ناصعة فيقول "فالليبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشيوعية والاشتراكية كلها أوروبية الأصل مهما أقلمها وعدَّلها أتباعها في الشرق الأوسط ، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي ينبع من تراب المنطقة ، وتعبر عن مشاعر الكتل الجماهيرية المسحوقة ، وبالرغم من أن كل الحركات الإسلامية قد هُزِمت حتى الآن غير أنها لم تقل بعد كلمتها الأخيرة" انتهى كلام هذا اليهودي ، فهو شاهد فعلاً من أهلها .
أيضاً العقيدة الإسلامية هي المنظار الذي يرى المؤمن من خلاله القيم والأفكار والمبادئ ، من خلالها يحكم على الأشخاص وينزلهم منازلهم ، وهي المرشح ـ الفلتر ـ العقيدة الإسلامية هي المرشح الميهمن الذي يقوم بترشيح التراث التاريخي ، كل تراث كان لأي أمة قبل دخول الإسلام فهذا التراث يخضع لهيمنة الإسلام لابد أن يقوم الإسلام بترشيحه في ضوء عقيدة التوحيد ، فتراث الآباء والأجداد والتاريخ القديم يأتي ويرشح بهذا المرشح
فما وافق العقيدة يقبل وما خالفها يُتخلص منه ويُنبذ ، فالعقيدة هي المرشح الميهمن الذي يقوم بترشيح التراث التاريخي ليحدد ما يُقبل منه وما يُرفض .
مثال فرعون وملأه كانوا مصريين لكنهم كانوا كفاراً وثنيين ، موسى عليه السلام وأتباعه من بني إسرائيل كانوا مؤمنين مسلمين ، فواجب المؤمن ، ما موقفنا نحن في ضوء العقيدة الإسلامية ؟ نفخر بفرعون ونعادي موسى وأتباعه المؤمنين ؟ لأ ، رغم عدائنا لليهود لكن طبعاً هؤلاء اليهود ليسوا مؤمنين ، لكن نقول الذين اتبعوا موسى على دين الإسلام ، فواجب المؤمن أن يعادي أعداء الله ويبرأ منهم ولو كانوا من جلدته ويتكلمون بلسانه ، ويوالي حزب الله وأولياءه من كانوا وأين كانوا ومتى كانوا ، يقول تعالى { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ويحذركم الله نفسه } ويقول تعالى { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } إلى آخر الآيات الكريمات { يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وقال تعالى في الملأ المؤمنين من بني إسرائيل { ولما برزوا لجالوت وجنوده } جالوت وجنوده كانوا فلسطينيين ، كنعانيين فلسطينيين ومع ذلك نحن بقلوبنا نوالي بني إسرائيل المؤمنين ونعادي الكفار ولو كانوا فلسطينيين { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت } إلى آخر الآية .
فإذن نحن حينما نتلوا هذا في القرآن الكريم نعد هذا النصر نصراً لعقيدتنا لديننا هو الإسلام ، هويتنا الإسلامية على هؤلاء الكافرين وإن كانوا فلسطينيين ، أوضح من هذا وأصرح أن نقول إنه لو قُدِر أن الله بعث الآن في هذا الزمان داود وسليمان عليهما السلام إلى الحياة من جديد فنحن نجزم حتماً وقطعاً أنهما سيكونان متبعين لشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصداق قول الله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بُعِث محمد وأنت حي لتؤمنن به ولتنصرنه ؛ إذن يعني داود وسليمان لو عادا الآن لانضما قطعاً إلى المسلمين المجاهدين ، ولما وافقا اليهود في ما يسمونه بإعادة بناء هيكل سليمان ، لماذا ؟ لأن سليمان يعرف أن شريعته نُسِخت وأنه إذا بُعِث بعد محمد عليه الصلاة والسلام فلا مكان له إلا أن يكون متبعاً له ولشريعته ، فسيُبقي المسجد الأقصى ويصلي فيه ويحارب اليهود أعداء الله عز وجل .
ومصداق ذلك أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى صحائف من التوراة في يد رجل من المسلمين من الصحابة رضي الله عنهم غضب أشد الغضب وقال أمتهوكون أنتم ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، لو موسى كان حياً نحن أولى في ضوء الهوية الإسلامية نحن أولى بموسى من اليهود ، ونحن على دين موسى وهم ليسوا على دين موسى ، ولو بعث الله موسى وداود وسليمان لحاربوا اليهود والنصارى والعلمانيين وسائر الملحدين ، ولعبدوا الله في المسجد الأقصى على شريعة الإسلام كما كانوا يعبدونه وحده فيه قبل نسخ شريعتهم ، ولرفعوا راية الجهاد في سبيل تطهير فلسطين من قتلة الأنبياء ، أحفاد القردة والخنازير الملعونين على لسان الأنبياء .
مصداق ذلك أيضاً ليس افتراضاً كما قلنا بفرض أن يعود داود وسليمان للحياة لا سنذكر مثلاً حياً واقعياً سيقع قطعاً وهو أن عيسى عليه السلام حين ينزل آخر الزمان سوف يحكم بالإسلام ويحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام ، ويصلي أول نزوله مأموماً وراء المهدي ، ويقاتل اليهود ، وهو الذي سيقود المسلمين في حربهم ضد اليهود ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام ، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ، قال صلى الله عليه وسلم ( أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي ) فنحن المسلمين أولياء المسيح وأحباؤه ، ونحن أتباعه على دين الإسلام الذي جاء به ودعا إليه المقصودون بقوله تعالى { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } .
وما أحسن ما قال صاحب الظلال غفر الله له "عقيدة المؤمن هي وطنه وهي قومه وهي أهله ، ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأٍ ومرعى وقطيع وسياج ، والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان إنه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } ".
تربط هذه العقيدة الإسلامية التي الركن الأعظم في الهوية الإسلامية المسلم بأخيه ، حتى يصير المسلم وأخيه كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك ورجلك بساقك ، كما قال صلى الله عليه وسلم ( إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .(3/231)
ومن الأشياء البديعة أن القرآن الكريم يعبر يطلق النفس ويريد بها أخاك في الإسلام وفي الهوية الإسلامية تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه ، يقول تعالى { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } والمقصود لا تخرجون إخوانكم في العقيدة في الهوية الإسلامية { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } فأطلق على الإخوان الأنفس ، فانظر إلى قوة الاندماج والذوبان في الهوية الإسلامية ، وقال تعالى { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } والمقصود بإخوانهم خيراً ، فعبر عن الإخوان بالأنفس ، وقال تعالى { ولا تلمزوا أنفسكم } أي لا تلمزوا إخوانكم على أصح التفسيرين ؛ إذن العقيدة كما قلنا هي المادة اللاصقة التي تربط لبنات المجتمع الإسلامي ، وهي إذا وُجِدت فإنها تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية ، تأمل قوله تعالى { لا تجد } لا تجد لا يمكن أن يقع { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } إذ لا رابطة نسبية أقوى من رابطة الأبناء الآباء والأبناء والإخوان والعشائر ، ومع ذلك الإيمان هو الفيصل في هذه القضية ، يقول تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } ويقول تعالى { فأصبحتم بنعمته إخواناً } .
وهذه الرابطة التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة لا إله إلا الله ، هذه الرابطة تجعل المجتمع الإسلامي كأنه كله جسد واحد ، كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، لم تربط فقط بين أهل الأرض من المؤمنين ، وإنما أيضاً ربطت بين حملة العرش ومن حول العرش من الملائكة وبين بني آدم المؤمنين في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف ، هؤلاء ملائكة وهؤلاء بشر من بني آدم ، فرغم الاختلاف في الخلق والتكوين لكن مع ذلك الانتماء للهوية الإسلامية يعني يجعلك يربطك ليس فقط بالمؤمنين على وجه الأرض ، يربطك بكل هذا الكون المؤمن ، بكل هذا الكون ، تشعر بالولاء لا كما يعني يفترض الغربيون الجهلة بالله وبسننه عز وجل ويقولون الإنسان دائماً في حالة صراع مع الطبيعة ، لأ هذه الطبيعة ليست عدواً للإسلام ، بل هي إن جاز التعبير هي مظاهر الطبيعة هي إخوان له في الله وإخوان له في التوحيد ، والأدلة على ذلك كثيرة جداً ، ربما ذكرنا تفاصيلها من قبل في محاضرة لخصنا فيها كتاب عبودية الكائنات ، يعني مجرد مثال سريع نذكره ، يعني الوزغ اللي هو نحن بنسميه البرس ، الوزغ هذا نحن حرضنا الرسول عليه الصلاة والسلام على قتله ، وعلل ذلك بماذا ؟ لأنه كان ينفث النار على إبراهيم وهو لما ألقاه قومه في النار ، فانظر إلى العداوة لهذا النوع من الحيوانات لأجل أنه فعل ذلك مع إبراهيم ، أما الضفدع فكان يأتي بالماء ويحاول أن يطفئ هذه النيران عن إبراهيم عليه السلام فنحن نُهينا عن قتل الضفدع .
مثلاً مظاهر الموالاة حتى مع هذا أحد جبل يحبنا ونحبه ، مثلاً حتى مع الجبل يحبنا ونحبه ، واضح وغير ذلك من الأشياء كثيرة جداً فيها العلاقة بين كل هذا الكون المؤمن ، العلاقة ليست علاقة صراع بالعكس ، بل هي علاقة تآخي وانسجام وذوبان في هذه الهوية الإسلامية .
انظر إلى جبريل عند إغراق فرعون لما أدركه ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام لما أدرك فرعون الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ، يقول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم يقول "فلو رأيتني يا محمد وأنا أدس في فيه من حال البحر مخافة أن تدركه الرحمة" فجبريل كان يعادي فرعون لأنه عتى وطغى ونازع الله سبحانه وتعالى وكفر بالله العظيم ، فجبريل كان يبغضه من أجل ذلك ؛ فلذلك كان أيه يعني جبريل يعني لما خاف خشي أن تنقذه هذه الكلمة التي قالها وهو يهلك ، فكان يأخذ من طين البحر ويدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة وهو ينطق بهذه الكلمة التي قالها عند الإهلاك والتي لا تنفعه قطعاً ، أي نعم .
كذلك إذا أحب الله عبداً في السماء نادى جبريل إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ، ثم ينادي جبريل في أهل السماء في الملائكة وهكذا في كل سماء ثم يُوضع له القبول في الأرض ، هذه مظهر من مظاهر هذا التوحد مع الكائنات من حولنا ، أي نعم .
يقول تبارك وتعالى { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به } وانظر لكلمة يؤمنون به لأنها كما قلنا المادة اللاصقة النسيج الضام { ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا } يؤمنون به وآمنوا هذا هو الرابط العقيدة الهوية الإسلامية { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } .
تأمل قول الله سبحانه وتعالى في أبي لهب الذي هو عم النبي صلى الله عليه وسلم { سيصلى ناراً ذات لهب } وقابل ذلك بمكانة سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي رضي الله عنهم أجمعين ، ما خُوطِبوا أبداً على أساس أن هويتهم أن هذا رومي وهذا فارسي وهذا حبشي ، كلا وإنما كلهم متساوون كأسنان المشط أمام هذه العقيدة وهذا التوحيد ، يقول الشاعر
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
الذي هو عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لكن بسبب الكفر انظر ما آل إليه حاله .
أجمع العلماء على أن الرجل إذا مات ، طبعاً أنتم تعرفون أن الميراث دليل القرابة ، الإنسان يرث من بينه وبينه رابطة قرابة ، الميراث دليل القرابة فحيث لا ميراث إذن لا قرابة ، أجمع العلماء على أن الرجل إذا مات وليس له من الأقرباء إلا ابن واحد كافر فإرثه يؤول إلى إخوانه المسلمين بأخوة الإسلام ؛ لأن هذه هي القرابة ، لإخوانه المسلمين ، ولا يكون الإرث لولده لصلبه الذي هو كافر ، والميراث دليل القرابة ، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية .
ويقول صلى الله عليه وسلم ( المسلمون تتكافأ دماهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ) بصفة الإسلام ، ما قال المصريون ما قال الشاميون ما قال اليمانيون وإنما قال المسلمون وهكذا ، حتى كل خطاب في القرآن { يا أيها الذين ءامنوا } ما يخاطب قوماً بغير الهوية الإسلامية ، اعتبر أيضاً هذا المعنى بقول الله تبارك وتعالى مخاطباً نوحاً عليه السلام في شأن ابنه الكافر { قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } في قراءة { إنه عمِل غير صالح } واضح ، هو طبعاً قطعاً هو ابنه لصلبه ، هو ابنه من صلبه ، لكن الميزان عند الله سبحانه وتعالى وفي ضوء الهوية الإسلامية ومدار الأهلية هو القرابة الدينية { قال يا نوح إنه ليس من أهلك } لماذا ؟ { إنه عمل غير صالح } لم يكن معك على عقيدة التوحيد ولم يكن مندمجاً في الهوية الإسلامية كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه "ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته ، ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته" .
اعتبر ذلك أيضاً بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه الكافرين ، تأمل قوله عز وجل { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برؤاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } .(3/232)
تأمل موقف المسيح عليه السلام مع قومه بني إسرائيل كيف انقسموا فوراً إلى أنصار مؤمنين وأعداء كافرين على أساس موقفهم من دعوتهم إلى الاندماج في العقيدة الإسلامية ، وتأمل كيف أيضاً يأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقتدي بهم في هذا ، يقول تعالى { يا أيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } في الحال صاروا أعداء لما خالفوهم في هذه العقيدة .
الحقيقة هم الكفار يستكثرون علينا هذه الرابطة وهذه الهوية في حين أنهم يعني تصرفاتهم تُبنى على أساس هذه الهوية ، أنا يحضرني الآن أنموذجاً عابراً يعني والحديث ذو شجون لكن لالتزام الاختصار قدر المستطاع اقتصر على ذكر مثالين كيف أن الهوية العقائدية هي التي تهدف وتوجه سلوك هؤلاء القوم .
في كتاب "الصربيون خنازير أوروبا" للدكتور عبد الحي الفرماوي يقول في رحلة من رحلات عبد الناصر لحضور أحد مؤتمرات عدم الانحياز في بلجراد أعد المسلمون في يوغسلافيا ، طبعاً المسلمون طوال عمرهم في يوغسلافيا يعانون أشد العذاب ، وكان من أشد الناس عليهم تيتو جوزيف بيروستي صاحب دعوة عدم الانحياز المعروفة ، فالمهم إن أعد المسلمين في يوغسلافيا قالوا بقى يعني عبد الناصر جاي من مصر بلد الأزهر وبلد الإسلام وفي صداقة حميمة بينه وبين تيتو ، فأعدوا مذكرة لعرضها على الرئيس جمال عبد الناصر بصفته زعيم مصر الإسلامية بلد الأزهر الشريف وموطن الأئمة الأعلام من العلماء والمحدثين والفقهاء ، ومقر مجمع البحوث الإسلامية ومجمع اللغة العربية والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، هذه المذكرة كان الغرض منها أن يتدخل جمال عبد الناصر لدى صديقه تيتو حتى يخفف من وطأة النظام الشيوعي على المسلمين في يوغسلافيا ، لا سيما في البوسنة والهرسك وعاصمتها سرايفو حيث يشكل المسلمون فيها أغلبية ساحقة بالنسبة إلى بقية البلدان الأخرى التي يتشكل منها الاتحاد اليوغسلافي ، اشتملت المذكرة على المعاناة التي يلاقيها المسلمون على يد الشيوعيين اليوغسلاف وعلى حرمانهم من معظم الحقوق المشروعة التي يتمتع بها المواطن العادي ، وعلى القوانين الجائرة التي كان يصدرها تيتو والتي كانت تستهدف المسلمين وحدهم دون بقية الطوائف الأخرى في مجالات التعليم والثقافة والحقوق السياسية والتمثيل النيابي ، وفي التضييق عليهم عند ممارستهم شعائرهم الدينية ، وفي إهمال مساجدهم فلا بناء لجديد ولا ترميم لقديم ، مما جعل معظم المساجد آيلة للسقوط ، وما أن تسلم عبد الناصر المذكرة العادلة من أحد زعماء المسلمين على رأس وفد من علماء سرايفو عاصمة البوسنة والهرسك حتى امتعض وجهه وتقطب جبينه ، وقال بالحرف لرئيس الوفد إن مصر لن تسمح بأن تقحم نفسها في الشئون الداخلية للدول الصديقة وأرجو ألا يتكرر ذلك مرة أخرى ، ثم أنهى المقابلة وزيادة في مضايقة وفد المسلمين الذي جاء بالمذكرة ومجاملة لتيتو ألغى عبد الناصر المنح التعليمية والأزهرية لطلبة المسلمين في البوسنة والهرسك هذا العام .
إن جمال عبد الناصر الذي رفض مذكرة علماء المسلمين في يوغسلافيا هو نفس جمال عبد الناصر الذي استجاب لمطلب نيكيتا خروشوف رئيس الاتحاد السوفياتي في زيارته القاهرة لحضور حفل غمر أنفاق السد العالي بالمياه ، فحين هبط خروشوف إلى مطار القاهرة كان جمال عبد الناصر في استقباله ، وبعد أن صافح كل منهما الآخر وضع خروشوف يده في جيبه الأيمن وأخرج كشفاً بأسماء الشيوعيين المصريين في السجون والمعتقلات وقال في دعابة خبيثة لن أحضر احتفال غمر الأنفاق بالمياه قبل أن يُفرج عن عن إخوانه في العقيدة وفي الهوية ، قال لن أحضر احتفال غمر الأنفاق بالمياه قبل أن يُفرج عن الشيوعيين المصريين في سجون مصر ومعتقلاتها ، وقبل أن يغادر الرئيسان مطار القاهرة كانت التعليمات قد صدرت إلى مدير مصلحة السجون وأجهزة الأمن الأخرى بالإفراج عن الرفاق المحظوظين الواردة أسماءهم في كشف خروشوف ، رغم أن بعضهم كان مداناً بجريمة الخيانة العظمى ، ومع ذلك فلم يعتبر عبد الناصر ما حدث من خروشوف تدخلاً سافراً عرياناً في شئون مصر الداخلية .
طبعاً نفس الشيء حصل لما قدمت مذكرة طبق الأصل من مذكرة عبد الناصر لأحمد سوكارنو وكان مصيرها نفس المذكرة .
الموقف الآخر أيضاً من يوغسلافيا فيما يتعلق بمعاملة تيتو معاملة وحشية للمسلمين ، يعني هذه المذابح الأخيرة لفتت النظر ، أما المذابح القديمة على يد خروشوف وقبله أيضاً بعد الحرب العالمية فما يكاد يسمع عنها أحد شيئاً ، أصلاً في كثير من المسلمين ما كانوا يعرفوا أن يوغسلافيا فيها هذا الكم الهائل من الشعوب الإسلامية في دولة في منطقة البلقان أو حتى في الجمهوريات السوفياتية ، أي نعم لماذا ؟ لأننا نهمل الاطلاع ومعرفة أجزاء جسدنا ، ولا نعرف هويتنا ، أي نعم .
كان هناك كاتب إسلامي يُدعى علي عزت بيجوفيتش اللي هو الرئيس الحالي ليوغسلافيا كان قد ألف كتاباً في سنة (1970) اسمه البيان الإسلامي ، اعتبر تيتو وحكومته الشيوعية هذا الكتاب خطراً يهدد أوروبا الشيوعية ، وماذا قالوا في إدانة هذا الكتاب ؟ قالوا إن هذا الكتاب ميثاق عمل إسلامي يضم المسلمين من أندونيسيا حتى المغرب في اتحاد وثيق متكاتف ، وفور ظهور هذا الكتاب كتاب البيان الإسلامي اعتقلوا صاحبه علي عزت بيجوفيتش وألقوه في غياهب السجون .
خلال إحدى زيارات تيتو المتكررة لمصر طلب الشيخ الباقوري وزير الأوقاف حينئذ من الرئيس عبد الناصر أن يفاتح تيتو في الإفراج عن الزعيم المسلم الذي أُودع المعتقل ويجري تعذيبه في بلجراد ، عندما استفسر جمال من صديقه تيتو عن هذا الموضوع أجابه قائلاً إن هذا الرجل أخطر من تنظيم الإخوان المسلمون عندكم في مصر وهو يطالب بأن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في أي بلد تكون لها فيه الأكثرية العددية ، كما أن هذا الرجل يرفض كل ما هو غير إسلامي في مجتمع المسلمين ، ثم توقف تيتو قليلاً وسأل عبد الناصر لماذا تتوسط له وأنت تتخذ نفس الموقف منهم في مصر ؟ وسكت عبد الناصر لقوة الحجة والمنطق التي تحدث بها تيتو .
خلاصة الكلام يعني هذا موقف عقائدي ينطوي على انتماء لهوية تتجاوز حدود الأرض والأوطان إلى لكي تكون العقيدة هي المسيطرة ، فلماذا يكون ذلك حلالاً لهم حراماً علينا ؟ .
إن الهوية الإسلامية المتميزة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها { صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة } لا يعرفها ثم يرغب عنها إلا من سفه نفسه ، وإلا من استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .(3/233)
إن الذي يفهم معنى الهوية الإسلامية وثمار الهوية الإسلامية سواء في الدنيا أو في الآخرة ، والشرف الذي يناله من تحت لواء الهوية الإسلامية ويكون إنساناً عاقلاً فضلاً عن مسلم مؤمن ، هل يدرك هذه المعاني كلها إنسان عاقل ثم فضلاً عن مسلم مؤمن ثم بعد ذلك يأتي ويقول للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ، لا يمكن أن يصدر ذلك ممن فهم معنى الهوية الإسلامية ، لا يُعرف مفكر أو داعية مسلم مخلص لهذه الأمة قد تلطخ بالدعوة إلى هوية غير الهوية الإسلامية ، وبالعكس العكس هو الصحيح ، الدعوة إلى الهويات المزاحمة والمضادة للهوية الإسلامية لم تترعرع إلا في أحضان أعداء ديننا الذين لا يألوننا خبالاً ، وإلا في كنف الدعاة على أبواب جهنم الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ممن رباهم الاستعمار في محاضنه وصنعهم على عينه وأقامهم وكلاء عنه في إطفاء نور الإسلام ومحو الهوية الإسلامية من الوجود .
ماذا عن موقفنا الآن من الهوية الإسلامية ؟ لا شك أن مواقف المسلمين هم لم يكتشفوا أنفسهم ، ومن المؤلم جداً أن أعداءنا يكتشفوننا بطريقة أفضل منا ، ويفهموننا أكثر مما نفهم نحن حقيقة موقعنا في هذا الوجود ، لكن نحن بلا شك الآن في معظم الشباب العالم الإسلامي بالذات الشباب هناك أزمة هوية أزمة اغتراب ، لماذا ؟ لأنهم يجهلون هذه الهوية ؛ لأنه تم غسيل يعني عقولهم ، فمثلاً هل يمكن أن ترى أن تحكم أن هؤلاء يعرفون معنى الهوية الإسلامية ثم يفعلون هذه الأشياء ؟ كما قلنا مراراً الشاب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه أو في سيارته ويتزين ويفخر بعلم أمريكا ، واضح ويعلقه ؛ ما الذي يمنعه إذن أن يعلق علم إسرائيل ؟ ما الذي يمنعه ؟ بالمرة ، الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم وفي مخبرهم ، المسلمون الذين يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ ثم يفتخرون بأنهم فازوا ، فازوا بجنسية البلاد الكافرة للأسف الشديد ، هل هذا انتماء للهوية الإسلامية ؟ الإنسان طواعية يتخلى عن الجنسية الإسلامية ثم ينضوي تحت لواء ويقسم ولاء القسم الدفاع عن الدولة الكافرة في حالة تعرضها للاعتداء وهو يعني منتسب للهوية الإسلامية ، هذا ضلال مبين ، أي نعم بعض الناس بتشتكي إن بعض الإخوة لما بييجوا من الخارج ممن حازوا أو تلطخوا بالجنسية الكافرة لما يأتوا بيقولوا إن أهالينا لما بنروحوا نزورهم بيقولوا لنا أيه اللي جابكوا هنا ؟ يعني حتى مش المفروض أن يكونوا أهاليهم يكونوا وحشوهم أولادهم اشتاقوا إليهم ، يعاتبوهم أيه اللي جابكم ، يعني فأين الانتماء وأين الهوية في مثل هؤلاء الناس ؟ أي نعم .
أيضاً مثل المذيع ، مذيع يعمل ، يأخذ مذيعاً يعمل بوقاً ينفخ فيه العدو الصائل على المسلمين لأجل حفنة دولارات أو جنيهات استرلينية أو غير ذلك ، يذهب ويقبل أن يعمل مذيعاً بوقاً يستعملونه كآلة لمحاربة الإسلام وتوجيه الحملات الحرب الباردة ضد يعني المسلمين .
طبعاً أقبح ما يكون ضياع الهوية في الشخص الذي يعمل جاسوساً لأعداء أمته وأعداء دينه ؛ لأن هذه من أقبح مسالك مسخ الهوية ، أن يبيع نفسه لأعداء وطنه المسلم من أجل تحصيل متاع .
أيضاً من مظاهر أزمة الهوية أستاذ الجامعة الذي يسبح بحمد الغرب صباح مساء ولا يقبل أي نقد للغرب ولضلال الغرب وضياع الغرب ، هذا يعاني من أزمة هوية .
مدعي الإسلام الذي يقبل الانتظام في جيوش الدولة الكافرة المحاربة للإسلام ، بعض الناس تنضم للجيش الأمريكي تنضم للجيوش الكافرة ، هذا عنده هوية ؟ لا يمكن هذه ضاعت هويته .
كل ما ببغاء مقلد يلغي شخصيته ويرى بعيون الآخرين ويسمع بآذانهم ، وباختصار يسحق ذاته ليكون جزءً من هؤلاء الآخرين { أيبتغون عندهم العزة } هذا نموذج موجود كثيراً الآن وهو إنه حتى في أدق الأشياء يقول لك لأ ما تعملش كذا أحسن الأجانب يقولوا علينا أيه ؟ الأجانب يقولوا علينا أيه ! شيء غريب جداً ، الناس بتحتفل بالاحتلال الفرنسي لمصر ، هؤلاء الضالون فرنسا الآن هذه السنة لأول مرة تطلب رسمياً من مصر أن تحتفل بالحملة الفرنسية بقيادة نابليون على مصر ، يا للمصيبة ! وبعض الناس تحتفل ، ولا يحتفل بالاحتلال إلا الخونة ، يُحتفل باحتلال مصر ! الحملة الفرنسية التي قتلت المسلمين والتي دخلت الجامع الأزهر بالخيول وحولوا الأزهر إلى اسطبل ، فضلاً عن غير ذلك من المسالك التي فعلها نابليون ، ومع ذلك يأتي يوم ونحن نعجب أن عشنا حتى ندرك مثل هذا اليوم ، طول عمرنا الحملة الفرنسية تُوضع في ضمن الأعداء الغازين المحتلين ، أما الآن فيحصل احتفال بهذا الاحتلال ، فالله المستعان .
على أي الأحوال هؤلاء الذين يذوبون في هوية غيرهم يبتغون عندهم العزة في الحقيقة أنهم يعودون مذمومين مخذولين من الفريقين ، ويعاملهم الله بنقيض قصدهم ، هم يريدون العزة عند الكافرين فيتحقق فيهم قول القائل "باء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت عنه ولا أرضى عنه العدا” لأنهم يحتقرون من يتنازل عن هويته .
سنضع يعني شيء نعاير به ـ نعمل معايرة يعني ـ لواقع المسلمين في قضية الهوية في حادثة بسيطة جداً وباختصار لن نطيل فيها .
يعني الحيز الإعلامي الذي لم يسبق له مثيل الذي شغله موت أميرة ويلز في كل أرجاء العالم المنتسب إلى الإسلام وإلى الهوية الإسلامية ، وما صاحب هذا الخبر أو هذا الحيز من الطقوس الكنسية ، قارن بين هذا الحيز وبين الحيز الذي شغله موت الشيخ محمود شاكر رحمه الله في نفس الفترة ، هذا يعني يكشف لنا معنى أزمة الهوية التي نعاني منها .
قضية الهوية هي قضية محورية أزعجت كل الناس إلا أصحابها ، والمشكلة تكمن في أن أكثر المسلمين اليوم لما يقتنعوا أن الأعداء من حولهم على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم لا هدف لهم إلا استئصال شأفة الإسلام وطمس الهوية الإسلامية وصهرها في أتون العالمية الأممية وإزالتها من الوجود ، لماذا ؟ لأنها هي لا غيرها الخطر الماثل أمام القوى الراغبة في احتواء العالم الإسلامي والسيطرة عليه سيطرة فعلية ودائمة ، يقول تعالى { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } وقال تعالى { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } وقال سبحانه { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } .
إن أي جماعة تعوزها الهوية سوف تجد في عالم تحكمه شريعة الغاب من يحاول استئصالها والهيمنة عليها وتذويب شخصيتها عن طريق تدمير البنية التحتية لهويتها العقائدية والثقافية التي تحفظ عليها سياج شخصيتها فيتحول الإنسان إلى كائن تافه فارغ غافل مغسول المخ تابع مقلد .(3/234)
إن هويتنا الإسلامية هي مصدر عزتنا { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } حين تمسكنا بهذه الهوية سُدنا العالم وخافت بأسنا الأمم ، حتى كانت كنائس أوروبا لا تجرؤ على دق نواقيسها حين كانت السفن الإسلامية تعبر البحر المتوسط ، يخافوا يعني أحسن ينرفزوا المسلمين يفتحوا البلد ، فكانوا يتوقفون عن دق أجراس الكنائس إذا عبرت السفن الإسلامية في البحر المتوسط أو مرت بموانئهم ، ومن أراد أن يدرك الفرق بين العزة التي تكتسبها الأمة من الهوية الإسلامية وبين الذل حين تتخلى عن هذه الهوية الإسلامية ينظر إلى النموذج الممسوخ في تركيا ، أقبح صورة لمسخ الهوية وأقبح مثال يمكن أن يُضرب للضياع والذل والهوان والخيانة التي يتلبس بها من تخلوا عن الهوية الإسلامية ، يعني شوف كل الذي فعلوه كل إعلام العالم يشتكي من فساد القنوات الفضائية التركية والانحلال ، بعدما كانت عاصمة الخلافة صارت الآن يخشون من الفساد الذي يُبث منها في كل بلاد العالم ، واضح الذل والهوان كل هذا من أجل أن تخلوا عن الإسلام ، حاربوا الإسلام فعلوا كل ما فعلوا من أجل ماذا ؟ أن يرضى عنهم الغربيون ويدخلون في الوحدة الأوروبية ، التجمع الأوروبي ، لكن مع كل هذا احتقروهم وساموهم سوء العذاب والهوان والذل ، ومع أن الدواء واضح وهو العودة إلى مصدر العزة ، لكن يأبون إلا الذل والهوان ، هذا أقبح نموذج لمسخ الهوية وما يترتب عليه من ضياع وهوان ومذلة ، أي نعم .
حين تخلينا عن هذه الهوية نزع الله من قلوب عدونا المهابة منا ، وقذف في قلوبنا الوهن ، حب الدنيا وكراهية الموت ، يقول صلى الله عليه وسلم ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) فإضعاف الهوية الإسلامية هي عملية انتحار جماعي ، انتحار جماعي ، أي خلل في الهوية هو عبارة عن انتحار سينتهي إلى الضياع وإلى التذبيح ، فإضعاف هذه الهوية أخطر وأشد فتكاً بالأمة من نزع سلاحها .
مما يؤسف له أن أعداءنا يدركون جيداً أن الهوية الإسلامية أقوى سلاح ، الهوية الإسلامية في نظر أعداءنا أقوى من القنابل النووية والقنابل الهيدروجينية والأسلحة الفتاكة كلها ، الهوية الإسلامية هي الأخطر ، وهذا الكلام ليس من جيبي ولا من عندي ، وإنما هاكم بعض تصريحات ساستهم .
ففي آخر سنة سبعة وستين ألقى أباإيبان وزير خارجية الدولة اللقيطة محاضرة بجامعة برينستون الأمريكية ، قال في هذه المحاضرة بعد النكسة مباشرة "يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة ، وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل ـ انظر يتكلم وهو منتصر ، حرب الأيام الستة ، ومع ذلك انظر للخوف من الإسلام مع إنه كان في حالة انتصار يقول ـ يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة ، وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل ؛ ولذا كان من أول واجبتنا أن نبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي" هذا هو يقوله في حق من يسميهم العرب ، مع أن المجتمع اليهودي في فلسطين يتألف من مهاجرين من نيف ومائة دولة مختلفة ، تجمع من الشتات شذاذ الآفاق كما كنا نسميهم ونحن صغار ، لا أدري الآن ماذا يسمون ، شذاذ الآفاق ، من كل أفق أتوا ، من أكثر من مائة واثنين دولة في كل أنحاء العالم دول مختلفة ، يتكلمون سبعين لغة مختلفة من شتات الأرض ، جمعتهم عقيدتهم الواحدة رغم اختلاف اللغات والألوان والقوميات والعناصر والأوطان .
هذا أدولف كريمر يهودي يعلنها ويقول جنسيتنا هي دين آبائنا ، ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية أخرى ، أي نعم ، يعني الدعوة القومية تفكك ـ الشعوبية ـ .
الشيوعية نفسها كانت تحارب القوميات لأنها تقف حاجزاً دون انتشارها وتصدير المذهب الشيوعي ، ومع ذلك مع المسلمين بالذات كانوا يشجعون القوميات ، شجعوا القومية العربية ، شجعوا انفصال باكستان الشرقية عن باكستان الغربية اللي هي أصبحت الآن بنجلاديش ؛ ولذلك الأستاذ يوسف العظم يحكي واقعة أيضاً في أيام حرب حزيران أو يونيو حرب النكسة يعني ، يقول لقد سمعت وزير إعلام عربياً إبان حرب حزيران يقول دعونا من خالد بن الوليد وصلاح الدين ، ولا تثيروها حرباً دينية ، قال ذلك وهو يعلق على ما يذيعه بعض الدعاة من حث للجندي على الثبات ، وتشجيع المقاتلين على الجهاد والاستشهاد ، فقلت لمن كان حولي منهزمون ورب الكعبة ، وقد كان ؛ لأنك تجردت من أقوى سلاح ، السلاح ليس بحده أساساً وإنما السلاح بضاربه وبعقيدته ، العقيدة القتالية التي يُعبر عنها بهذا المصطلح ، فأين العقيدة إذا كنت تقول له شادية معك في المعركة ، أم كلثوم معك في المعركة ، عبد الحليم معك في المعركة ، ودعونا من صلاح الدين وخالد بن الوليد ولا تجعلوها حرباً دينية ، حرباً دينية ! ده اليهود أول ما دخلوا سيناء دخلوا بنسخة كبيرة جداً من التوراة حملوها على أول دبابة دخلت سيناء .
وجاء في صحيفة أحرونوت اليهودية سنة ثمان وسبعين يقول إن على وسائل إعلامنا ألا تنسَ حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب ، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاماً ، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد ، ولهذا يجب ألا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب ، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا .
حينما أراد الشاعر محمد إقبال أن يبين أثر تخلي المرء عن هويته وعن ذاتيته ضرب هذا المثل قال "كانت مجموعة من الكباش تعيش في مرعىً وفير الكلأ عيشاً رغيداً ، ولكنها أُصيبت بمجموعة من الأسود نزلت بأرض قريبة منها فكانت تعتدي عليها وتفترس الكثير منها ، فخطر ببال كبش كبير منها أن يتخذ وسيلة تريح من هذا الخطر الداهم الذي يهددها ، فرأى أن استخدام السياسة والدهاء والحيلة هو الوسيلة الوحيدة ، فظل يتودد إلى هذه الأسود في حذر حتى ألفته وألفها ، فاستغل هذه الألفة وبدأ يعظ الأسود ويدعوها إلى الكف عن إراقة الدماء والعيش في سلام وأمان ودعة ، وإلى أن تترك أكل اللحم ، وأخذ يغريها بأن تارك أكل اللحم مقبول عند الله ، وأخذ يزين لها الحياة في دعة وسكون ، ويقبح لها الوثب والاعتداء ، حتى بدأت الأسود تميل إلى هذا الكلام ، فأخذت الأسود تتباطأ في افتراس الكباش وتتكاسل عن السعي وراء الرزق ، ومالت إلى حياة الدعة والهدوء واكتفت بأكل الأعشاب كما تفعل الكباش ، فكانت النتيجة أن استرخت عضلاتها وتثلمت أسنانها وتقصفت أظفارها ، وأصبحت لا تقوى على الجري ، ولم تعد قادرة على الافتراس ، وبذلك تحولت الأسود إلى أغنام ، لماذا ؟ لأنها تخلت عن هويتها ، عن خصائصها ، فقدت ذاتيتها ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ( ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا ) .
الذي كان يفعله هذا الكبش هو الذي فعله كثير من المستشرقين ، يلقون الشبهة للمسلمين ، هم يعرفون إن عقدة النقص والانهزامية عند بعض المسلمين ومفكريهم ، فيقولوا ده أنتم دينكم انتشر بالسيف ، عندكم شريعة الجهاد دي فيها كذا وكذا وإلى آخر هذا الكلام .(3/235)
هم عارفين رد الفعل نتيجة عقدة النقص ، الشعور بالدونية عند بعض المنهزمين ، فعارفينهم حيردوا بأيه ؟ بإن لأ ده الإسلام يعني دين لا يعرف الجهاد ولا يعرف كذا دي كانت كذا وكذا ويعني هو قبل أن يُوضع الإسلام في قفص الاتهام ويُوظِف نفسه محامياً ليبرئه من هذه التهم ، وبالتالي بدأ بتر مفاهيم الإسلام شيئاً فشيئاً من خلال هذه الحيل الماكرة .
وصلت محاولات طمس الهوية الإسلامية إلى حد أن يضغط علينا قتلة الأنبياء ومحرفوا الكلم عن مواضعه كي نفعل مثلهم ونمارس مثلهم هواية التحريف ، تحريف كلام الله التي طالما تلطخوا بها ، كان من محاور اتفاقية كامب ديفيد ضرورة إزالة المفاهيم السلبية تجاه إسرائيل في الإسلام نظفوا الإسلام من المفاهيم السلبية تجاه اليهود لعنهم الله .
وإسحاق نافون رئيس الكيان اليهودي السابق خطب خطاباً في جامعة بن جوريون أمام السادات في (27/5/79) قال إن تبادل الثقافة والمعرفة لا يقل أهمية عن الترتيبات العسكرية والسياسية ، وصرح أيضاً أمام قيادات الحزب الوطني بمصر في (28/10/80) بأن أي صياغة أدبية أو دينيةتخالف التصورات الإسرائيلية تعد مساساً بالسلام الإسرائيلي .
أيه هي الصياغة الدينية والأدبية ؟ القرآن الكريم ، والآيات التي تسب اليهود وتكشفهم ؛ إذن يحرص هؤلاء على هويتهم وفي نفس الوقت يجتهدون في تذويب هويتنا الإسلامية ، يحرمونه علينا ويحلونه لأنفسهم .
نيكسون في كتابه ( say the moment ) يعني انتهز الفرصة أو الفرصة السانحة ماذا يقول نيكسون ، ونيكسون طبعاً من أخطر رؤساء أمريكا ، نيكسون رجل مفكر يعني له أيدلوجية ومنظر وليس رئيساً عادياً بالذات نيكسون ، يقول في كتابه انتهز الفرصة "إننا لا نخشى الضربة النووية ولكننا نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب" فيعني معناها إن هم ينظرون إلى موضوع الهوية الإسلامية أنها تهدد الهوية الغربية ، فهي مسألة حياة أو موت بالنسبة إليهم ، يقول أيضاً في نفس الكتاب "إن العالم الإسلامي يشكل واحداً من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين" .
بلغ إعجاب كلينتون بالهوية الأمريكية وبعبارة أخرى نقول بلغ اغتراره بهذه الهوية إلى أن وجد في نفسه الجرأة بأن قال "إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري ، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا" قالها بالإنجليزية ( to transform the world in our image ) فيعني لكم أن تتخيلوا كيف تكون صورة هذا العالم الذي يكون نسخة من الغابات المتحدة الأمريكية
وبالأمس قال إيوجين روستو رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية الأمريكية ومستشار جوتسون لشؤون الشرق الأوسط حتى سنة سبعة وستين "إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي فلسفته وعقيدته ونظامه ، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي لفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي ، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية ؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها" .
إذن الصراع هو في الحقيقة صراع هوية وتذويب ، ومنذ زمن قال أحد المسئولين في وزارة الخارجية الفرنسية "ليست الشيوعية خطراً على أوروبا فيما يبدو لي ، فهي حلقة لاحقة لحلقات سابقة ، وإذا كان هناك خطر من الشيوعية فهو خطر سياسي عسكري فقط ، ولكنه على أي حال ليس خطراً حضارياً تتعرض معه مقومات وجودنا الفكري والإنساني للزوال والفناء ، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي ، والمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي ، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص ، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة ، وهم جديرون بأن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون حاجة إلى الاستغراب ، وفرصتهم في تحقيق أحلامهم هي اكتساب التقدم الصناعي الذي أحرزه الغرب ، فإذا أصبح لهم علمهم وإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الفتي وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الروح الغربية ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ" .
هذا كلام مسئول في وزارة الخارجية الفرنسية ، انظر كيف فهمه لقضية الهوية ، هذه هي حقيقة كل ما يجري الآن وما جرى من قبل وما سيجري والله أعلم .
نحن نذكر الصراع السياسي الذي احتدم في كندا حول مقاطعة إيه ؟ كويبك نعم ، في مقاطعة كويبك في كندا حصل صراع سياسي بين المتحدثين بالإنكليزية وبين المتحدثين بالفرنسية الذين كانوا يريدون الاستقلال بهذه المقاطعة ، صراع من أجل الهوية .
فرنسا رفضت التوقيع على الجزء الثقافي من اتفاقية الجات ، والذي يضمن للمواد الثقافية الأمريكية أن تباع بفرنسا بمعدلات اعتبرها الفرنسيون تهديداً صارخاً لهويتهم القومية ، وطالبوا بتخفيض هذه المعدلات انطلاقاً من ماذا ؟ من الحرص على الهوية ، مع أنهم يعني إيه في الهوا سوا .
أما تمسك يهود بهويتهم الدينية فحدث ولا حرج ، فإن دولتهم اللقيطة لم تقم إلا على أساس خالص من الدين اليهودي ، فهي تحمل اسم نبي الله يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وإن كان هو بريئاً منهم براءة الذئب من دم ابنه يوسف عليهما السلام ، إسرائيل ليس لها دستور لأن دستورها هو التوراة ، الدستور في إسرائيل هو التوراة ، ويتشبث يهود بتعاليم التوراة ويعضون عليها بالنواجذ في مجالات العلم والدين والسياسة والاجتماع وفي حياة الفرد اليومية ، حتى اللغة العبرية التي انقرضت من ألفي سنة بعثوها من مرقدها حتى صارت تعلموا بها ، ما حدش قال إن العبرية بقى لها ألفين سنة منقرضة ومش حتتسامى إلى العلم الحديث كما يزعم المنافقون في شأن اللغة العربية ، أصبحت هي لغتهم درسوا بها الطيران والصواريخ وكل العلوم بقيت بالعبرية مع أنها لغة ميتة من ألفين سنة انقرضت العبرية ، بعثوها من مرقدها وألفوا بها أدباً نالوا بها ما يسمى بجائزة نوبل ، وعندما أراد اليهود إقامة سفارة لهم في القاهرة أصروا على أن يكون موقعها على الجهة الغربية من النيل ، رفضوا أن يكون أي مبنى على الجهة الشرقية احتراماً لعقيدتهم في أن حدود إسرائيل الكبرى تنتهي عند الجهة الشرقية من نهر النيل ، وعلم الدولة علم فيه خطين أزرقين إشارة إلى النيل والفرات ومنطقة السيادة بينهما عليها نجمة يعني داود ، أي نعم .
في جامعة تل أبيب عُقِدت ندوة يوم (19/2/1980) حول دعم علاقة السلام بين مصر وإسرائيل أثار اليهود فيها موضوع ما ورد في القرآن الكريم من اتهامات ضد اليهود ، وتناقُلِ هذا في مطبوعات أخرى بمصر ، فقام الدكتور مصطفى خليل ليطمئن اليهود بقوله "إننا في مصر نفرق بين الدين والقومية ولا نقبل أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية" فرد عليه ديفيد فيثال قائلاً "إنكم أيها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة ، ولكننا في إسرائيل نرفض أن نقول إن اليهودية مجرد دين فقط" .(3/236)
فإذا نظرنا إلى مكائد الغرب بهويتنا المسلمة لعلمنا أن هدفهم الأعلى هو طمس الهوية الإسلامية باستبدالها بأي هوية أخرى سواء كانت هوية وثنية أو قومية أو هوية قطرية تفتتنا وتشتتنا أو هوية عالمية تميع انتماءنا لديننا ، المهم هو أن تُمحى الهوية الإسلامية المتميزة ، لماذا ؟ كي يُحال بيننا وبين أن يكون الإسلام عماد الحاضر والمستقبل ، صرنا كمن قيده عدوه بعد أن جرده من سلاحه ، وانتزع أظفاره ، وخلع أسنانه ، ثم وضع الغُل في عنقه والقيد في معصمه ، وإذا به يطالبنا أيضاً أن نشكر له هذا الصنيع ، ونفخر بهذا الغُل ونتباهى بهذا القيد ونعتز بأننا عبيد لهذا السيد ، هذا فيما يتعلق بأعداء الهوية من الخارج على سبيل الاختصار .
فماذا عن أعداء الهوية من الداخل ؟
تشويه الهوية وإضعافها عمل إجرامي تآمري يرقى بل ينحط إلى مستوى الخيانة العظمى لأمة التوحيد ، يقول الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر السابق رحمه الله تعالى يقول “إن البحث عن هوية أخرى للأمة الإسلامية خيانة كبرى وجناية عظمى ، أكبر خيانة ، إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيّر منار الأرض فكيف بمن يغير هوية أمة ويضلها عن طريق النجاة" .
إن التاريخ المعاصر حافل بنماذج بشعة من ممسوخي الهوية الذين كانوا يخربون هويتهم بأيديهم ، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر وإلا فما زالت الشجرة الخبيثة تُخرِج نكداً ، أول ما يقفز إلى أذهاننا من ممسوخي الهوية مصطفى كمال أتاتورك ، مسخ هوية تركيا الإسلامية بالقوة والقهر ، وكان يقول كثيراً وددت لو كان في وسعي أن أقذف بجميع الأديان في البحر ، وهو الذي ألغى الخلافة ، وكان يحسد الرسول عليه الصلاة والسلام ، سمع مرة المؤذن بيؤذن وقال ما أعظم الشهرة التي بلغها هذا الرجل يعني أو كما قال يعني ، ألغى الخلافة وعطل الشريعة ، وألغى نص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد ، ألغى المحاكم الشرعية والمدارس الدينية والأوقاف ، وألغى الأذان باللغة العربية وجعله بالتركية ، وألغى الحروف العربية واستبدلها باللاتينية ، وكان يقول انتصرت على العدو وفتحت البلاد ، هل أستطيع أن أنتصر على الشعب ؟ انظروا هذا بمثل هذه النفسية ماذا يُتوقع منه ؟
العجب العجاب ، نشرت الأهرام بتاريخ (15/2/68) وثيقة نقلتها عن صنداي تايمز تحت عنوان "كمال أتاتورك رشح سفير بريطانيا ليخلفه في رئاسة الجمهورية التركية" حتى الهوية القومية ما أخلصوا لها { فما رعوها حق رعايتها } قالت الصحيفة إنه في نوفمبر سنة (1938) كان أتاتورك رئيس تركيا يرقد على فراش الموت ، وكان يخشى ألا يجد شخصاً يخلفه قادراً على استمرار العمل الذي بدأه ، فاستدعى السفير البريطاني بيرس لورين إلى قصر الرئاسة في استنبول ، وعرض عليه أن يخلفه في منصب رئيس الجمهورية ، وبلباقة رفض السفير وأبرق إلى وزير خارجيته بما دار بينه وبين أتاتورك ، فانظروا إلى ممسوخ الهوية كيف يصل به الحال .
نموذج آخر من تركيا أيضاً أغا أوغلي أحمد أحد غلاة الكماليين الأتراك يقول "إننا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئيهم والنجاسات التي في أمعائهم” هنيئاً لك ، يقول إننا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئيهم والنجاسات التي في أمعائهم .
لطفي السيد خصم العروبة وخصم الوحدة الإسلامية وصاحب شعار مصر للمصريين وصاحب النعرة الفرعونية ، لا نتحدث كثيراً عن لطفي السيد لكن نتحدث فقط عن موقف يكشف عداءه للهوية الإسلامية .
كان لطفي السيد يصف نص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة المصرية كان يصف هذا النص بأنه النص المشئوم ، يسميه النص المشئوم وكفى .
رجل آخر لم يذكر الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى شيخ الأزهر الأسبق لم يذكر اسمه ، لكن حكى في بعض كتبه قال "وقد وصل ببعضهم الشغف بالانحطاط في هوى الأجانب والانغماس في التشبه بهم أن اقترح في غير خجل قلب هيئة المساجد إلى هيئة كنائس ـ أن يغير شكل المساجد لشكل الكنائس ـ وتغيير الصلوات ذات القيام والركوع والسجود إلى حال الصلوات التي تؤدى في الكنائس" .
علق الشيخ الخضر حسين رحمه الله تعالى على ذلك الاقتراح بقوله "وهذا الاقتراح شاهد على أن في الناس من يحمل تحت ناصيته جبيناً هو في حاجة إلى أن توضع فيه قطرة من الحياء" .
طه حسين عميد التغريب وداعية التبعية المطلقة للغرب حتى في مفاسده وشروره ، طه حسين أقر كلمة قالها أحد الطلبة عنده يوماً ، قال لو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه ، أين الهوية ؟! هوية فرعونية .
طالب عميد التغريب قال طه حسين طالب بأن نسير سيرة الأوروبيين ، ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ـ لأ ستكونون عبيداً ، لا يمكن أن يسمحوا لكم أن تكونوا أنداداً ـ طالب بأن نسير سيرة الأوروبيين ، ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، وما يُحب منها وما يُكره ، وما يُحمد وما يُعاب ؛ لذلك قال مستشرق يُدعى ماسنيون قال "لو قرأنا كلام طه حسين لقلنا هذه بضاعتنا ردت إلينا" .
محمود عزمي الذي كان يكره الحجاب ويمقته مقتاً شديداً ـ انظر الهوية ـ يقول "سبب مقتي للحجاب مقتاً شديداً هو اعتباره من أصل غير مصري ، ودخوله إلى العادات المصرية عن طريق تحكم بعض الفاتحين الأجانب ، فكان حنقي على هؤلاء الأجانب الفاتحين الإسلاميين يزيد" أزمة هوية .
القائمة طويلة ، سنجد فيها نماذج مخزية جداً ، طبعاً على رأسهم سلامة موسى ولويس عوض وجرجي زيدان وفرج فودة وحسين أحمد أمين وزكي نجيب محمود وغيرهم لا كثر الله سوادهم .
طبعاً في الجهة المقابلة في معركة الهوية هناك فرسان ، فرسان دافعوا عن الهوية الإسلامية وهم كثر ولله الحمد { وما يعلم جنود ربك إلا هو } على رأسهم رجل كل العصور شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى ، ولشيخ الإسلام جهد مشكور في صيانة الهوية الإسلامية ، ويتجلى ذلك أعظم ما يتجلى في كتابه الرائع "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" .
منهم في هذا العصر طبعاً الأديب البارع مصطفى صادق الرافعي ، منهم الدكتور محمد محمد حسين ، منهم الأديب العملاق الأستاذ محمود شاكر رحمه الله تعالى ، منهم الشيخ أبو الحسن الندوي حفظه الله ، وسائر العلماء والمفكرين والدعاة في كافة بلاد العالم الإسلامي .
الحقيقة المجالات التي كانت مسرحاً لطمس الهوية كثيرة جداً ، والأساليب أيضاً كانت كثيرة والوقت قليل ، بقالنا الآن أكثر من ساعة ونصف .(3/237)
طبعاً أول هذه المجالات العقيدة ؛ لأن العقيدة هي خط الدفاع الأول ، إذا انهار ينهار كل شيء بعد ذلك ، فكانت أحد أساليب طمس الهوية إضعاف العقيدة وزعزعة الإيمان بزرع الصراعات الفكرية التي تشوش الأفكار وتشتت الأذهان ، بعث وإحياء الفلسفات المضادة للتوحيد ، إحياء التصوف الفلسفي ، نشر تراث الفرق الضالة كالباطنية والمعتزلة والرافضة ، إثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة الشريفة ، هدم الثقة في السلف الصالح ، التركيز على عرض ما يناقض التوحيد بصورة تغري بالإلحاد كنظرية داروين مثلاً ، وعرض تاريخ الأمم الوثنية كالفراعنة وغيرهم دون أي نقد ، لا لتستبين سبيل المجرمين ولكن لننبهر ونفخر بسبيل المجرمين ، والله تعالى يقول { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } كي تتجنبوها ، أما نحن فنفصل سبيل المجرمين حتى إن الطلبة في المدارس يعني يحفظون كل محافظة في مصر القديمة كان إلهها اسمه إيه ، وكان إله بتاع إيه متخصص في إيه ، واسمه إيه ، ويحفظون الأناشيد التي كان يُعبد بها هذا الإله دون أي كلمة خدش أو نقد ، فأين نحن من سلوك يوسف عليه السلام حينما شرف هنا مسجون في مصر ، يوسف عليه السلام ذكر هذه الآلهة لكن كيف ذكرها ؟ { يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه } يوسف عليه السلام افتخر بانتمائه إلى أمة التوحيد وإلى هوية الإسلام ، أي نعم { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة ءابائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } إلى آخر الآيات .
من هذه الأساليب تسميم الآبار المعرفية التي تستقي منها الأجيال من المهد إلى اللحد ، أنا أذكر حادثة حصلت من مدة عبر بها أحد الإخوة عن موضوع أزمة الهوية لما كان بيخاطب الأخ عبد المنعم أبو الفتوح لما خاطب السادات ، ما أدري أدركتم هذه الحادثة ؟ نعم ، خاطب السادات وقال له إيه ، السادات طبعاً كان فعلاً في مرحلة كان ديمقراطي بصحيح ما كانش بيمثل ، بس جاء في فترة ما تحملش وقال بقى الديمقراطية لها أنياب وشرسة وبتعض وهكذا فيعني كان في أحد المواقف اللي هي ما كانش فيها تمثيل ولا تصنع يعني هذا الشاب الأخ الدكتور أبو الفتوح واقف على هواه كده من غير ضغوط أو شيء وتكلم وقال له أنا أريد أن أعرف الإعلام ماذا يريد مني ؟ عايز يعني أي هوية أنتمي إليها ؟ يريدني أن أعبد البقر ولا أعبد بوذا ولا أعبد اللاة أو عايزني إيه بالضبط الإعلام ؟ طبعاً غضب غضباً شديداً ، والقصة يعني معروفة لا وقت لذكرها بالتفصيل .
الحقيقة أن هناك محاولة لمسخ الهوية الإسلامية تماماً عن طريق تخريب مناهج التعليم بكافة مراحله ، وهذه أخطر مؤامرة ضد الهوية الإسلامية في هذا الوقت الآن ، وهم يسمونها بكل صراحة تجفيف منابع الإسلام ، هذه المؤامرة لا تبدأ اليوم بل هي تبدأ من أكثر من قرن ، ولا تبدأ من الصفر لكنها تسمتد من معين المنطلقات التي صنعها الاستعمار والاستشراق والتبشير ، يكفي أن القس دنلوب تمكن في عشرين عاماً فقط من تخريب العقول والنفوس والضمائر والعواطف من خلال سياساته التعليمية بصورة ما كانت تحلم بريطانيا بتحقيق ربعها ولو جندت في سبيل ذلك مليون جندي بريطاني .
هذا كرومر وهو رائد التغريب في مصر يقول "إن الحقيقة أن الشباب المصري الذي قد دخل في طاحونة التعليم الغربي ومر بعملية الطحن يفقد إسلاميته وعلى الأقل أقوى عناصرها وأفضل أجزائها ، إنه يتجرد عن عقيدة دينه الأساسية" مناهج التعليم العلمانية .
وهذا المستشرق جب يقول "والسبيل الحقيقي للحكم على مدى التغريب هو أن نتبين إلى أي حد يجري التعليم على الأسلوب الغربي وعلى المبادئ الغربية وعلى التفكير الغربي ، هذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره" وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي ، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من الزعماء الدينيين ، وبعبارة أخرى التعليم الغربي اللاديني عبارة عن الحامض الذي يذيب شخصية المسلم ـ مش في أنواع من التعذيب بيحط الشخص في الحامض المركز ويذوب ، يذوب تماماً ـ فمناهج التعليم بالنسبة للهوية تفعل مثلما يفعل الحامض في تذويب هذه الهوية .
وبعض الكتاب أعتقد من شعراء باكستان القدامى كان له شعر ينتقد فيه مناهج التعليم الغربية ويذكر خطرها على الهوية فيقول ما معناه إن فرعون كان بليداً بالنسبة لما تفعله مناهج التعليم الغربي ، لماذا ؟ قال إن فرعون استجلب لنفسه الخزي والعار لأنه كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، قال لو أنه هداه تفكيره إلى هذا الأسلوب لأساليب التعليم لاستغنى عن ذبح الأبناء تماماً ولما تلطخت سمعته بهذا العار الذي لحق به ؛ لأن هذا كان سيحقق له هدفه يذبح أبناءهم يقضي عليهم أي نعم بدون أن يناله هذا اللوم .
أيضاً محاولة محو ذاكرة الأمة وارتباطها بتاريخها المجيد ؛ لأن التاريخ هو خميرة المستقبل ، التاريخ هو خميرة المستقبل ، وتمجيد كل ما هو غربي وتحقير كل ما هو إسلامي ، يعني إن جرجي ، جرجي زيدان هذا كان عامل طبعاً تعرفون له سلسلة في التاريخ الإسلامي كلها مشوهة ، كلها كذب وتشويه لأداء هذه الوظيفة احتقار التاريخ الإسلامي ، حتى نصر المسلمين في الأندلس ألف قصة كاذبة قال إن انتصار المسلمين نشأ عن إن واحد من الجماعة الأسبان كان يعشق واحدة من المسلمات ومش عارف إنه دخل في الجيش وانضم إليهم وهو سبب حصول هذا النصر بمجرد انضمامه ، فتحوا الأندلس لمجرد إيه ؟ حتى يظهر إن نصر المسلمين في الأندلس مش نصر عقائدي ، لا ده حتى واحد أجنبي هو اللي خلاهم ينتصروا ، طبعاً هذا كلام كذب ، وقصة فتح الأندلس قصة يعني معروفة ، فعملية محو ذاكرة الأمة وارتباطها بتاريخها السابق وتمجيد كل ما هو غربي وتحقير كل ما هو إسلامي ومزاحمة رموز الإسلام برموز ضلالات التنوير والحداثة والعصرانية ، وعرض أنماط الحياة الاجتماعية في الغرب بكل مباذلها وسوآتها بصورة جذابة ومغرية بنموذج الآن إن نحن نكون زي الغربيين نشرب الخمر ، نلعب القمار ، نتهاون في الفواحش ، نلبس ملابسهم ، نتكلم بطريقتهم ، هذه عملية تذويب وقضاء على الهوية الإسلامية .
يقول مستشرق يُدعى شاتلين فرنسي يقول "إذا أردتم أن تغزوا الإسلام وتخضضوا شوكته وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها والتي كانت ـ أي العقيدة ـ السبب الأول الرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم ، وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم ، عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وكتابهم القرآن ، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم ، ونشر روح الإباحية ، وتوفير عوامل الهدم المعنوي ، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك ؛ لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها" .
فانظر إلى هؤلاء اللي بيفرحوا إن الغرب فرحان بيهم ، هم بيصفوهم بإيه ؟ السذج ، المغفلين ، البسطاء ، هكذا نظرتهم لمن يبيعون هويتهم ويتنازلون عنها .(3/238)
أيضاً من هذه الأساليب تجهيل العلم ، العلم يجهل ؟ نعم العلم يجهل إذا قطعت صلته بالله سبحانه وتعالى فيفقد العلم صلته بالخالق ودلالته على التوحيد ؛ لأن العلم في الحقيقة ، العلم بمعنى since يعني مش بس العلم الشرعي الآن بنتكلم عن العلوم الحديثة ، هذا العلم أكبر وأقوى مؤيد لدعوة التوحيد الفطرية ، العلم صباح مساء يكشف لنا عن آيات الله التي أمرنا بأن ننظر فيها كما قال تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وأمرنا بأن ننظر { سنريهم ءاياتنا في الأفاق وفي أنفسهم } كل هذه دلائل تؤكد حقية دين الإسلام وبطلان ما عداه من الأديان ، وأنه هو الوحيد الطريق الوحيد للسعادة والنجاة ، فالعلم في الحقيقة هو في أصله يخدم التوحيد ويخدم دين الإسلام أعظم خدمة ، فماذا يفعلون ؟ يعني يعمدون إلى تجاهل ذكر الله ، افتح كتاب طبيعة أو كتاب أحياء أو أي شيء من هذا ، كل ده خلق الله وكل هذه السنن هي سنن الله ، القوانين دي من الذي وضعها ؟ ما هو العالم قبل ما تُكتشف هذه القوانين بملايين السنين هي تعمل أم لا تعمل ؟ تعمل ، من الذي وضع هذه القوانين ؟ هو الله سبحانه وتعالى ، يتعمدون تجاهل ذكر اسم الله ، لا يمكن ، وإذا واحد ذكر اسم الله يبقى مش بيحترم المنهج العلمي ده بيتكلم عن الغيبيات ونحن لا نعترف إلا بالأمور الحسية ، قُطِعت صلة العلم بخالقه ، وبالتالي لم يعد العلم كما كان ينبغي أن يكون خادماً لدعوة التوحيد وللهوية الإسلامية ، فيعمدون إلى نسبة الآيات الكونية إلى الطبيعة ، الطبيعة عملت الطبيعة سوت الطبيعة كانت ، ومحاولة عزو أحداث الكون إلى الظواهر الطبيعية دون ربطها بمشيئة الله وقدرته عز وجل .
من ذلك أيضاً التآمر على اللغة العربية لشدة ارتباطها بالقرآن والإسلام وأثرها في وحدة الأمة ، وذلك عن طريق التشجيع لللهجات العامية ، والمطالبة بكتابتها بالحروف اللاتينية ، وتشجيع اللغات الأجنبية على حساب لغة القرآن الكريم ، وتطعيم القواميس العربية بمفاهيم منحرفة كقاموس المنجد ، والطعن في كفاءة اللغة العربية وقدرتها على مواكبة التطور العلمي ، وإذا كانت الثقافة هي مجموع القيم التي ارتضتها الجماعة لنفسها لتميزها عن غيرها من الجماعات فإن اللغة هي وعاء الثقافة ومظهرها الخارجي الذي يميزها ، لغة المسلمين لغة العرب ليست مجرد لغة قومية كأي لغة أخرى ، انتبهوا ليست لغة قومية لكنها لغة دينية بمعنى أنها توحد حولها جميع المسلمين عرباً وعجماً ؛ لأنها لغة دينية هي لغة القرآن الكريم .
يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى "اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ، فإن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يُفهمان إلا بفهم اللغة العربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" .
وقال المرتضى "من بغض اللسان العربي ـ اللي بيكره اللسان العربي ـ من بغض اللسان العربي أداه بغضه إلى بغض القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك كفر صراح وهو الشقاء الباقي ، نسأل الله العفو" .
اللغة لها دور خطير في توحيد وتماسك الهوية الإسلامية وتوحيد الأمة الإسلامية ، أنا سأضرب مثالين أيضاً يوضحان لنا هذه الحقيقة ، وللأسف الشديد نضطر لذكر يعني أمثلة من غير المسلمين .
ايرلندا التي رزحت تحت الاحتلال الإنكليزي منذ أوائل القرن الثاني عشر الميلادي وذاقت من الاحتلال الإنكليزي الويلات خصوصاً على يد كرومويل الذي أعمل السيف في رقاب الايرلنديين وشحن عشرين ألفاً ، شحن عشرين ألف من شبابهم وباعهم عبيداً في أمريكا ، ونفى أربعين ألفاً خارج البلاد ، وتمكن من طمس هويتهم بمحو اللغة الايرلندية وتذويبهم في المجتمع البريطاني ، ولما حاول بعض الوطنيين الايرلنديين بعث أمتهم من جديد ، بعث الهوية الايرلندية من جديد أدركوا أن هذا لا يتم ما دامت لغتهم هي اللغة الإنكليزية وما دام شعبهم يجهل لغته التي تميز هويته وتحقق وحدته ، وأسعفهم القدر بمعلم يتقن لغة الآباء والأجداد ، دفعه شعوره بواجبه إلى وضع الكتب التي تقرب اللغة الايرلندية إلى مواطنيه ، فهبوا يساعدونه في مهمته حتى انبعثت لغتهم الايرلندية من رقادها وشاعت وصارت النواة التي تجمع حولها الشعب فنال استقلاله واستعاد هويته ، وكافأ الشعب ذلك المعلم بانتخابه أول رئيس لجمهورية إيرلندا المستقلة هو الرئيس ديفاليرا ، ما الذي وحدهم ، ما الذي أعاد إليهم الهوية ؟ هو اللغة .
ألمانيا التي كانت مقاطعات متفرقة متنابذة إلى أن هب هردل الأديب الألماني الشهير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر هب ينادي بأن اللغة هي الأساس الذي يوحد الشعوب ، والنواة التي تؤلف بينها ، فانطلق الأدباء يعكفون على تراثهم القديم أيام كانوا أمة واحدة ، وقاموا بإنعاش تراثهم الأدبي ونسجوا حوله قصصاً وبطولات خلبت ألباب الشباب ، وتغنوا بجمال بلادهم وأمجاد أسلافهم ، فتجمعت عواطفهم على حب الوطن الكبير ، وتطلعت نفوسهم إلى الانضواء تحت لواء هوية ألمانية واحدة ، الأمر الذي مهد الطريق أمام بسمارك لتعبئة الشعور القومي وتوحيد ألمانيا وإقامة الإمبراطورية الألمانية التي كان بسمارك أول رئيس وزارة أو مستشار يعني لها .
فإذا علمت هذا كيف أن اللغة توحد ؟ سلوك يهود مع لغتهم العبرية التي انقرضت لمدة ألفي سنة ثم أعادوها من رقادها ، فإذا علمت هذا فاسمع وتعجب من المستشرق الألماني كاممفير يقول في شماتة يقول "إن تركيا منذ حين لم تعد بلداً إسلامياً ، فالدين لا يُدرس في مدارسها ، وليس مسموحاً بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس ، وإن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية" .
من هذه الأساليب الاهتمام المبالغ فيه بإحياء الأساطير الوثنية والخرافات الشركية والتنقيب عن الحفريات والآثار الوثنية التي تبرز الهوية غير الإسلامية أو السابقة كالفينيقية أو الفارسية أو الفرعونية أو الكلدانية ، وتسليط الضوء عليها لردها إلى الحياة وربطها بالحاضر بصورة تزاحم بل تتعارض مع الانتماء الإسلامي ، هذا التراث مهما يكن فإن الإسلام يجُب ما قبله ، وإذا كان دين الحق قد نسخ كل دين قبله ولو كان أصله سماوياً فكيف لا ينسخ الأديان الوثنية ؟! إن اعتناق أي أمة للإسلام يشكل فاصلاً عقيدياً وحاجزاً فكرياً بين ماضٍ وثني وبين حاضر ومستقبل مشرق بنور الفطرة والتوحيد ، وهذه الهويات السابقة الجاهلية قضى عليها الإسلام حين صهرها في بوتقة الوحدة الإسلامية ، وما أكثر ما تُستغل هذه الآثار في دعم النعرات القومية لكل قطر واستعلائه بآثاره وأحجاره الخاصة ، وفي ذلك أعظم الخطر على الهوية الإسلامية .
لن ننس أيضاً أن نذكر شاهداً من أهلها وهو المستشرق جب في كتابه ويذر إسلام أو وجهة الإسلام ، وقد كان ـ يقول جب ـ "وقد كان من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن ، فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي أندونيسيا وفي العراق وفي إيران ، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا ـ يعني هو الآن في بداية الأمر كان تقوية الشعور لعداء أوروبا لأنها قومية في هذه البلاد ـ يقول لكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم مقوماتها ، لكن في المستقبل سيضعف الإسلام سيضعف الهوية الإسلامية" .(3/239)
من ذلك أيضاً طمس المعالم التاريخية والحفريات التي تصحح تاريخ العقيدة وتكشف أن التوحيد هو الأصل وأن الشرك طرأ عليه ، وكذلك الوثائق التي تثبت التحريف في كتب أهل الكتاب والتي تدعم الإسلام وتؤيده .
من ذلك يعني نذكر موضوعاً عابراً وهو مؤامرة تزييف تاريخ الإبراهيمية الحنيفية لأن جذور الإسلام هي الإبراهيمية الحنيفية عن طريق نشر فكرة السامية ، السامية فكرة تركز أن هناك أصلاً واحداً مشتركاً بين العرب واليهود علشان كده دائماً يقولوا إيه ؟ يهتموا بحتة سام علشان يخلونا ولاد عم اليهود يجيبوا جذور بعيدة جداً عن الجذر الإبراهيمي ، فهم لا ينسبوننا إلى إبراهيم عليه السلام وملة إبراهيم لكن اليهود شجعوا فكرة السامية ، ليه ؟ تقول فكرة تركز هذه الفكرة على أن هناك أصلاً واحداً مشتركاً بين العرب واليهود وهو سام بن نوح ، في حين أن القصد الحقيقي من ورائها هو التعمية على انتساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وعزو تاريخ إسماعيل وذريته إلى مصدر غامض ليس له سند عملي وبالتالي صرف الأنظار عن هويتنا الحقيقية التي هي ملة أبينا إبراهيم عليه السلام والتي أولاها القرآن الكريم أعظم اهتمام ونسبنا إليها ، وحثنا على اتباعها ، وبرأ إبراهيم من كونه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً ، وطبعاً طه حسين قدم خدمة جليلة لليهود في هذا الموضوع ، كيف ؟ لأن طه حسين شكك في صحة وجود شخصية اسمها إبراهيم وإسماعيل ، وقال إن حكاية الكعبة دي ورحلة إسماعيل للكعبة ده كله يعني قضية مفبركة ، يعني دي عبارة عن إن حد حاول يألفها علشان يربط بيننا وبين إبراهيم وإسماعيل ، هذا كلام طه حسين ، وقال إن للقرآن أن يحدثنا ما شاء عن إبراهيم وإسماعيل ، وللتوراة أن تحدثنا ما شاءت عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا ما شاء عن إبراهيم وإسماعيل ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات حقيقتهما التاريخية ، فالله المستعان ؛ فإذن موضوع السامية من عناصر هذه المؤامرة .
من ذلك أيضاً محاولة تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً قومياً عربياً كما يفعل البعثيون ، البعثيون يريدون أن يبتلعوا الإسلام في بطن القومية
ويزعمون أن الإسلام مجرد مرحلة في تاريخ العروبة ، ومحمد بطل عربي حقق المجد للعرب بعيد بقى عن الدين والجنة والنار وهذه الأشياء ؛ لأنهم كانوا يقولون إيه ؟ إن تسألني عن عقيدتي فأنا إيه يعني يقول بعض الشعر بتاعهم إيه ؟ لأ في واحد ثاني اللي هو ، قال سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم ، يقول الشاعر آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني ، أي نعم ، المهم يعني بعضهم كان يحاول أن يصور الإسلام مرحلة في تاريخ العروبة ، الإسلام ده مرحلة من المراحل فقط ، أيضاً بعضهم يحاول أن يصور الإسلام تاريخ الإسلام على أنه تاريخ صراع بين الطبقات البرولتريا مش عارف وإيه على الطريقة الماركسية ، أو بعضهم يصوره على أنه تاريخ صراع ومناورات بين الأمراء والخلفاء والملوك ، لماذا كل هذا ؟ كي يحال بين الأمة الإسلامية وبين اتخاذ تاريخها الحقيقي منطلقاً للنهوض من كبوتها ، طيب إذا كان كل هذه المناهج مناهج خاطئة في تفسير التاريخ ، فما هو المنهج الصحيح ؟ المنهج الوحيد الصحيح والمثمر ثمرة نافعة وحقيقية في تفسير التاريخ هو النظر إلى كل التاريخ البشري على أنه تاريخ دين سماوي واحد هو الإسلام من لدن آدم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام ، وهو تاريخ الرسالات السماوية المتعددة الداعية إلى دين واحد هو دين الإسلام بمعناه العام ، فهذا هو الموقف الصحيح من قضية التاريخ .
إن التاريخ هو عبارة عن مواقف الأمم إزاء الرسل الذين دعوهم إلى التوحيد ، وكيف أهلك الله الأمم التي نفرت من التوحيد ، وكيف أعز الأمم التي قبلت التوحيد ، كيف أن هذه الآثار تدل على أن الله أهلك الذين حادوا عن التوحيد ، وهكذا محور التفسير الحقيقي للتاريخ هو أنه تاريخ دين الإسلام الذي بعث الله به جميع الأنبياء ، هي رسالة دين واحد { إن الدين عند الله الإسلام } من بداية آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهي عبارة عن تاريخ الدعوة الإسلامية ، والهوية الإسلامية ما بين من قبلوه وانضموا إلى حزب الله وبين من رفضوه وكانوا من أحزاب الشيطان .
من هذه الأساليب طمس المعالم التاريخية التي تؤكد الانتماء الإسلامي كما فعل النصارى في الفردوس المفقود في الأندلس ، حولوا المساجد إلى كنائس ، تطهير العرق بالذبح ، وكما فعل أتاتورك حين حول مسجد أيا صوفيا إلى متحف وإلى بيت للأوثان وطمس منه آيات القرآن والأحاديث ، وأعاد كشف ما كان الفاتحون المسلمون قد طمسوه من الصور التي زعمها النصارى للملائكة ، وكان من يسمونهم القديسين والصلبان والنقوش النصرانية ، وكما فعلت الوحوش الصربية في البوسنة حيث كانت تُختار بعناية المواريث الرمزية والتاريخية الإسلامية ، ثم يتم قصفها وتدميرها لتجريد الذاكرة الجماعية لشعب البوسنة من رموز الهوية الإسلامية ومعالم حضارتها ، وكما يفعل يهود لعنهم الله في القدس وغيرها من مناطق فلسطين السليبة ، في بلغاريا قصة طويلة جداً ما عاناه المسلمين في بلغاريا أخفها قهرهم على تغيير الأسماء لمحو الهوية الإسلامية ، واضح ، وحصل محن شديدة بسبب هذا الأمر .
نحن الآن بدأ المسلمون يشيع فيهم اتجاه تمييع الأسماء حتى تصير الأسماء علمانية ، علمنة الأسماء ، اسم كده إيه مايع ، ما يدل على هوية هذا الذي يُسمى أهو مسلم أم نصراني أم غير ذلك ، تجد بعض الأسماء المحايدة التي لا تعلن عن الهوية الإسلامية بصورة واضحة وصريحة ولن نذكر أمثلة حتى لا نحرج أحداً .
الحادي عشر أو الأسلوب الحادي عشر النشاط التنصيري ، النشاط التنصيري هو يعني أخطر عملية لطمس الهوية ، تحويل من الهوية الإسلامية إلى الكفر ، وطبعاً أسلوب رخيص يستغلون الفقر والمرض كما حدث ويحدث بالذات في إندونيسيا ، وكما حدث فيما قبل في المدارس الأجنبية حيث كانت هناك دعوة صريحة للتنصر ، لكن الآن تم تطوير أساليب هذه المدارس الأجنبية ، تكتفي الآن بقطع صلة التلاميذ بالإسلام وتذويب وتحقير هويتهم الإسلامية ، وصبغهم بصبغة يعني غربية ؛ ولذلك قال أحد المبشرين يوماً "المبشر الأول هو المدرسة" لكن الآن يعني الجامعة الأمريكية أصلها جامعة تبشيرية جامعة إنجيلية اسمها كان الجامعة الإنجيلية ، وكل الأنشطة التبشيرية التنصيرية فشلت فشلاً ذريعاً في كل بلاد المسلمين ، دائماً يعودون بالخيبة والخسران ، ما يكسبون غير واحد مهووس أو جاهل ، لكن واحد يعني ينتكس إلى هذا الأمر فشلوا فلجأوا فعملوا زي الحالة الدفاعية اللي يسموها إيه التبرير اللي هو بتاع ده حتى العنب ده حصرم ، يقول لك الذئب حاول أن يقفز على الشجرة علشان يأكل عنب ، كل ما يحاول فشل ما قدرش يحصل على العنب ، في الآخر مشي وهو بيقول إيه ده حتى حصرم ، هذه حيلة دفاعية لتبرير ، لأ هي اسمها التبرير اللي هو العنب الحلو أو العنب الحامض أي نعم أحسنت ، المهم يعني إن هم يعني لما فشلوا ماذا قال زويمر ؟ قال لهم إن يا جماعة تنصير المسلمين وإدخالهم في النصرانية ده هذا شرف هم لا يستحقونه فلنغير الهدف الآن ، نجعل الهدف هو إبعاد أبناءهم عن الدين الإسلامي ونحولهم عبارة عن أشياء ممسوخة لا هدف لها ولا عقيدة تجمعها ولا هوية لها ، فهذا حصل تطور في أساليب التبشير ، الموضوع طبعاً لا يناسب التفصيل فيه الآن .(3/240)