لذا يجب أن ننأى بالإسلام عن المزايدة, وأن يدّنس اسمه ورسمه خلال الحملة الانتخابية من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمرئية في صورة الاستهزاء بالعلماء واللحية والحجاب والعمامة وغيرها عن طريق الهَمَل من السياسيين ومدّعي الفن!
والله سبحانه وتعالى قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله لمن أراد الاستمساك بالعروة الوثقى في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وإعطاء الحاكمية للشعب هو إيمان بالطاغوت وليس كفراً به.
جاء في الدستور الأردني - كمثال لبقية دساتير الدول العربية والإسلامية -: (المادة 24: 1/ الأمة مصدر السلطات. 2/ تمارس الأمة سلطاتها على الوجه المبين في هذا الدستور، المادة 25: تناط السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك، ويتألف مجلس الأمة من مجلسي الأعيان والنواب).
وكذلك شرع الله القتال للقضاء على الفتنة حيث يقول تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
فمن لم يجعل الأمر كله لله فقد أراد الفتنة أو على الأفل فقد ارتضاها.
والأمر الأشد خطراً في الزّج باسم الإسلام في "اللعبة الديمقراطية" والدخول في تحالفات سياسية لتشكيل حكومة أقلية أو حتى الجلوس في المعارضة, ذلك الأمر هو تمييع قضية الولاء والبراء, بالكف عن التشهير بقادة الأحزاب المخالفة للشريعة ونقد برامجها ورموزها؛ وإلا فإنهم لن يدخلوا معنا في تحالف, أو التعرض لإسقاط العضوية ومواجهة المحاكم بتهمة التشهير والطعن, والكفر بالنظام العلماني للدولة.
والله سبحانه وتعالى ينهى عن الركون لهؤلاء في قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}.
ولا ولايتهم وطلب النصرة والعون منهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
وأنّى لمن أراد أن يقيم الشريعة الإسلامية ويطبقها في حياة الناس أن يتحالف أو يستنصر بألد أعدائها الذين يعملون ليلاً ونهاراً لنشر الرذيلة والفساد بين المؤمنين, ويمكرون ليصدوا عن سبيل الله؟! حتى وإن زعموا أنهم مسلمون يصلّون ويعتمرون, والله يبين حكمهم ويفْصل في أمرهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}.
فأولئك الذين يريدون أن يجعلوا أحكام الشريعة عضين فيؤمنون ببعضها فيطبقونه, ويكفرون ببعضها فيهملونه, ويريدون أن يتخذوا بين الشريعة والدساتير الوضعية الأخرى سبيلاً, لا يخرجون عن تلك القاعدة الرّبّانية.
إن الإسلام يفرض علينا أن نعادي طوائف الكفر والظلم والفسوق والعصيان والابتداع في الدين, وأن نفضح سوءاتها والقائمين عليها حتى لا يغتر بهم أحدٌ من المسلمين فيفتن بهم, أو من غير المسلمين فتصده عن سبيل الله, أو يظن أنهم يمثلون الإسلام, ويجب أن نعلنها مدويةً كما أعلنها سيدنا إبراهيم أبي الأنبياء صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه لقومهم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}.
فهل يا ترى يستطيع سالك درب الديمقراطية تطبيق هذه القاعدة؟
إن الديمقراطية تفرض على منتهجها أن يتعامل بأدب ولطف مع الآخرين مهما كانت نوعياتهم.
ومجاملتهم ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم, واستخدام الألفاظ التي تناسب كل قيادي منهم في الساحة على حسب مكانته وسلطته, لا على حسب خلقه ودينه.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجلُ يلقى الرجلَ فيقول له: ياهذا اتق الله ودع ما تصنع, فإنه لا يحل لك. ثمّ يلقاه من الغد وهو على حاله, فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض, ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: (كلا والله لتأمرنَّ بالمعروف, ولتنهنَّ عن المنكرِ ولتأخُذُنَّ على يد الظالم, ولتأطرنه على الحق أطراً, ولتقصرُنَّه على الحق قصراً, أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعضٍ, ثم ليلعنكم كما لعنهم) [رواه أبوداود والترمذي وقال: حديث حسن].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن ناساً قالوا له: إنَّا ندخل على سلاطيننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم)!
قال ابن عمر رضي الله عنهما: (كنَّا نعدُّ ذلك نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) [رواه البخاري].
يقول الشيخ أبو الوليد الفلسطيني حفظه الله في تعليقه على الكتاب: (ومن طالع تاريخ الدولة العثمانية وتأمل في عوامل انهيارها وأسباب سقوطها رأى كيف كانت الحريات المزعومة في الدين والعلم والتجارة وفتح كنوز البلاد للأفرنج باسم السياسة والدبلوماسية وإعطاء الأقليات من اليهود والأرمن وغيرهم الحقوق المدعاة, وكيف كانت تلك الأقليات سبباً في إثارة القلاقل والفتن وضعف الأمن داخل البلاد, وكيف جعل الغرب كثيراً من وزراء الدولة العثمانية ورجالها وبعض رؤساء الدين فيها شبكة لصيدهم وسيفاً مسموماً يطعنون به في أحشاء الأمة حتى الـ الأمر إلى زوال سلطان الخلافة وإبعاد أسرة الـ عثمان من البلاد, ولله الأمر من قبل ومن بعد.(2/114)
فثمار الديمقراطية التي يجنيها المسلمون اليوم مرَّاً وحنظلاً من جنس ما جناه مسلمو الأندلس والمسلمون بعد سقوط الخلافة العثمانية, وإن اختلف الزمان والمكان, والله أعلم) اهـ.
ومن بين المحاذير والسقطات التي لابد من الوقوع فيها للدخول في ائتلاف مع الأحزاب الأخرى, الإقرار بتعيين من يرشحونهم أياً كانت صفاتهم وجنسهم: رجل أو امرأة، طاهر أم فاجر، مسلم أو زنديق. عالم أم جاهل، ونحمّل أوزارهم للدين والشريعة من خلال ربط أنفسنا بهم أمام الرأي العام.
وحتى من داخل الحزب نفسه يتم مراعاة القبلية والعشائرية والشعبية على حساب العلم والكفاءة والأهلية لتولي المناصب القيادية وذلك على الرغم من علم قادة تلك الأحزاب لحكم الشريعة بعدم جواز ترشيح أحدٍ للمسئولية أو العمل وهناك من هو أكفأ وأحق بذلك منه لأن ذلك خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.
عن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعمل عاملا من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين) [سنن البيهقي الكبرى].
وكذلك من الأمور المستنفرة تزكية النفس, لأن كل حزبٍ بما لديهم فرحون يظنون أنفسهم الأكفأ والأخلص والأطهر, والله أعلم بمن اتقى.
ويدخل في ذلك الحرص على الإمارة أو تولي أمر من أمور المسلمين.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لن نستعمل على عملنا من أراده).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستحرصون على الإمارة, وستكون ندامةٌ يوم القيامة, فنعم المرضعة وبئست الفاطمة) [رواهما البخاري].
أضف إلى ذلك الكبر والعجب, والحسد, وحب الظهور... إلخ من أمراض القلوب التي تصيب الإنسان الذي تتابعه الكاميرات ووسائل الإعلام لتكتب أقواله وأفعاله وتنشر صوره في كل تلك الأحوال.
هذا كان بالنسبة لقادة الأحزاب المنضوية تحت لواء الديمقراطية سواء كانت إسلامية أم غير إسلامية.
أما جماهير تلك الأحزاب والمناصرين لها أو الذين يصوِّتون لصالحها, فلهم عثرات وزلات تنتظرهم خاصة تلك الأحزاب التي ترفع شعارات مخالفة لكتاب الله عزّ وجلّ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو التي تدعو إلى القومية والعصبية القبلية وتتاجر بقضايا القبائل والعشائر والعرقيات.
ولعل من أخطر هذه الأخطاء التي قلما ينتبه لها الناس أو يلفت العلماء انتباههم لها ويبينوا لهم خطورتها:
1) التعاون على الإثم والعدوان:
فالذي يؤيد فرداً من الأفراد أو حزباً من الأحزاب, وهو يعلم سوء طويته ومقصده من ترشيح نفسه في الانتخابات, مشارك لذلك المرشح في الإثم ومعاون له على معصية الله إن أساء استغلال مقعده في المجلس النيابي أو الوزارة, لأن "من دعا لظالمٍ بطول البقاء فقد أحب أن يُعْصى الله", فكيف بمن وافقه ونصره, ودعمه ليعصى الله بنفسه ويدفع الآخرين أو يجبرهم على عصيانه؟
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعان ظالماً ليدحض بباطله حقاً فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله) [المعجم الكبير للطبراني].
ولذا يجب على من يفعل ذلك عن علم أم فعله عن جهلٍ ثم علم أن ينكر عليهم ويسعى في تغيير المنكر؛ وإلا فسيشاركهم أوزارهم كاملة من تشريع غير ما أنزل الله وما قد يرتكبونه في حق الأمَّة من سرقة واختلاس ورشوة وخيانة... إلخ.
2) العصبية الجاهلية:
تعتمد معظم الأحزاب في الدول المتخلفة أساساً على نشأتها على خلفية عصبية: إما عصبية عرقية, أو عصبية طائفية, أو عصبية عشائرية, أو عصبية دينية مذهبية... إلخ.
والكل يستميت في الدفاع عن العصبية التي يدين بالولاء لها.
وكل هذه العصبيات في النّار إلا ما كانت "لتكون كلمة الله هي العليا"، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قاتل تحت راية عمّيّة فمات مات ميتة جاهلية).
وهذه العصبية قد توقع صاحبها في كثير من كبائر الذنوب منها:
أ) شهادة الزور:
فكل من يؤيد حزباً أو شخصاً ويمنحه صوته ليدخل المجالس النيابية ويمثل الأمة فيها وهو ليس أهلاً لها, فقد شهد شهادة الزور وهي من أكبر الكبائر.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله, وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس، فقال - ألا وقول الزور, ألا وشهادة الزور, فمازال يكررها) [متفق عليه].
لأن ذلك تعديل لشخص مجروح, وتحسين لشخص مقبوح, وتمكين لفرد مقدوح, لاستغلال المنصب وهو آمن في تحقيق الثراء المحرّم, والكسب غير المشروع, والاستعلاء على الناس بدون حق.
ب) التغاضي عن الأصل والمعدن:
فالأصل في السياسة الحديثة - عامة - والديمقراطية - خاصة - التغاضي عن التفتيش في ماضي الزعامات والقيادات, وما عُلِمَ من سوء منبت أو تاريخ مشين, أو جهالة أصل ونسب, يُنْسى أو يُنَسَّى؛ وآلة الإعلام الجبارة كافية للتغطية على السوءات, وإظهار الهزائم كبطولات, وتحسين الوجه القبيح.
ولكن المؤمن لا يتغاضى عن الأصل خاصة فيمن ينتخبه لأنه سيتحمل تبعة هذا الانتخاب, إنْ قصَّر في هذا الأمر الخطير الذي يتعلق بمصير الأمة.
فالمؤمن مكلف في الأمر المتعلق به شخصياً في مثل قضية الزواج أن يُحْسِن اختيار الزوجة, لقوله صلى الله عليه وسلم: (تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم) [المستدرك على الصحيحين].
فكيف بمن يتعرض لقيادة الأمة ويؤتمن على أعراض المؤمنين جميعاً وأرواحهم وممتلكاتهم؟
والذي يتقدم لإمامة المسلمين وقيادتهم لابد وأن يكون حسن السمعة طيب المنبت.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس معادن, خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا, وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهيةً, وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجه) [رواه البخاري].
فأبناء سلالة الخيانة والزندقة وجهالة الأصل لا يؤمل فيهم خيرٌ, ويجب أن ينحّوا عن التحكم في رقاب المسلمين وأموالهم.
ج) المخاصمة بالباطل:
يقول الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}.
قيل في سبب نزول هذه الآيات أن طعمة بن أبيرق وكان من المسلمين سرق درعاً وخبَّأها عند يهودي, فوجدت عند اليهودي, فرماه "طعمة" بها, وحلف أنَّه ما سرقها. فسأل قومه النبي صلى الله عليه وسلم أن يجادل ويخاصم عنه ويبرئه, فنزلت تلك الآيات.
قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشرٌ, وإنه يأتيني الخصم, فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض, فأحسب أنه صدق, فأقضي له بذلك. فمن قضيت له بحق مسلمٍ, فإنما هي قطعة من النّار, فليأخذها أو ليتركها) [رواه البخاري].
فمن يدافع عن فرد من الأفراد وينصره وهو يعلم منه سوء السلوك والأفعال. أو عن حزب من الأحزاب وهو يعلم من دستور الحزب وقانونه الأساسي, وبرنامجه الذي طرحه أنه مخالف لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وشريعته, ويبغي الفساد في الأرض؛ فهذا ممن يخاصم بالباطل, ويشترك في الإثم هو والقائم به سواءٌ.
د) الطاعة في إطفاء السُّنة ومعصية الخالق:(2/115)
من بين المسلمات في النظام الديمقراطي الالتزام بمبادئ الحزب وقراراته التي اتخذت بالأغلبية, وعدم الخروج عن الطاعة للمحافظة على وحدة الصف مهما كانت تلك المبادئ أو القرارات مخالفة للشرع أو حتى القناعة الشخصية, وبذلك يقع الناخب أو العضو في الحرج بين أن يعصي الله عزَّ وجلَّ إن أطاع سادة الحزب وكبراءه.
وقد قال رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم لسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه: (سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السُّنة ويعملون بالبدعة, ويؤخرون الصلاة عن وقتها)، فقلت: يارسول الله! إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: (لا طاعة لمن عصى الله) [خرَّجه أحمد وابن ماجه والطبراني وصححه أحمد شاكر رحمه الله].
وبين أن يتعرض للحرب من قادة الحزب وكوادره العليا مادياً وإعلامياً إن خالفهم في ذلك, خاصةً إن ارتبط الرفض بمحاولة تغيير ما يعتقد عدم صحته شرعياً أو منطقياً, وتكوين جبهة معارضة داخل الحزب أو الجماعة, وغالباً ما ينتهي به الأمر إما في السجن وإما في القبر, فإن كان العضو ذا شوكة ووراءه من يدعمه ويحرِّضه من أتباع الزعيم أو الحكومة فغالباً ما ينشق عن الحزب الذي ينتمي إليه ويكوِّن حزباً جديداً وربما يأخذ نفس الاسم مع إضافة بسيطة حتى يتميز عن الحزب الذي انشق عنه.
ه) قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق:
لعل من أخطر مظاهر التنافس الحزبي والأثر المدمّر للديمقراطية الزخرفية - خصوصاً - هو وقوع مصادمات مسلحة بين أنصار الأحزاب المتنافسة, وأحياناً سقوط قتلى وجرحى من الطرفين, وهذا من أبشع ما يمكن أن يقع فيه المسلم دفاعاً عن باطلٍ - أو حتى ما يظنه حقاً - تجاه أخيه المسلم, لأن الانتماء لحزب منافس أو العمل لحسابه لا يبيح دم المسلم, إلا إذا انتمى إلي حزب كافر عندنا من الله فيه برهان مع قيام الحجة ووضوح المحجة وانتفاء عوارض الجهل والتأويل والإكراه وغير ذلك مما هو معروف مقرر في مواضعه عند العلماء, أو فعل ما يستوجب عليه القتل طبقاً لأحكام الشريعة.
قال الله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) [رواه البخاري].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم لكبَّهم الله جميعاً على وجوههم في النّار) [رواه الطبراني في الصغير].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ بالسيوف).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).
وإذا استطردنا في ذكر الآيات والأحاديث التي تحذر من ذلك فسيخرج الموضوع عن إطاره, ويكفي أن المقتول يأتي يوم القيامة حاملاً رأسه في يده يقطر دماً, وهو يجرُّ قاتله فيقول: (يارب! إن هذا قتلني)، فيقول الله له: (لم قتلته؟)، فيقول: (قتلته لتكون العزة لفلان)، فيقول: (إنها ليست لفلان)، فيبوء بإثمه [السنن الكبرى].
يقول الله جلّ وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}.
ومعنى الآية: من كان يريد الشرف والمنعة فيجب عليه أن يكتسب العزّة من الله تعالى, فإنها له, ولا تُنال منه إلا بطاعته.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (كل عزٍّ ليس بالله فهو ذلٌ).
سئل أحد الأئمة: من هم سفلة السفلة؟ قال: (الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم)!
فهذا المسكين الذي ظلم نفسه وأوردها المهالك وباع دينه وآخرته بدنيا غيره من الساسة والمسئولين, وسفك من أجلهم الدَّم الحرام, سيأتي يوم القيامة مفلساً, فلم يكف إفلاسه في الدنيا وشقاؤه وكده فيها, حتى أضاف إليه إفلاساً في الآخرة.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟)، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: (إنَّ المفلس من أمتي من يأتي بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ, ويأتي قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, فيُعْطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإنْ فنيت حسناته قبل أنْ يقضي ما عليه, أُخِذَ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) [رواه مسلم].
وفي الوقت الذي يعاني فيه شظف العيش ويفتقد أدنى مقومات الحياة الكريمة فإنَّ قادة الحزب وكوادره العليا يرفلون في النعيم ويتمتعون بزهرة الحياة الدنيا من ملبس ومأكل ومسكن ومركب وأزواج مستفيدين من التبرعات والمساعدات التي يجمعونها باسمه هو والكادحين مثله.
[6] تيسير الكريم الرحمن للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، ص 62.
[7] في ظلال القرآن: 1/471.
==============
مَنْ يتبنَّى للأمَّةِ مشروعَاتِها؟
أحمد بن عبد المحسن العساف
تتميزُ أمةُ الإسلامِ بتعدادِها الضخمِ وكثرةِ الشبَّان والأطفالِ خلافاً للأممِ الكافرةِ الهرمة؛ كما تختصُ الأمةُ المحمدية بتعدُّدِ مجالاتِ خدمةِ الشريعةِ الإسلاميةِ وكثرةِ ميادينِ البذل والعطاء والجهادِ إضافةً إلى رغبةِ السوادِ الأعظمِ من جماهيرِ المسلمين تقديمَ شيءٍ لصالحِ دينهم ومجتمعاتهم، وهي رغبةٌ ملحةٌ لدى الكثيرين أيَّاً كان مستوى تدينِهم لعظمِ أثرِ العاطفةِ الدينيةِ على أغلبِ المسلمين ، وما أكثرَ ما يترددُ سؤالِ الملهوفين بصيغٍ مختلفةٍ عن كيفيةِ خدمةِ هذا الدين . وإنَّ هذا الشلالَ المتدفقَ من الطاقاتِ والقدراتِ لجديرٌ بالاستغلال ضمنَ مشاريعِ الأمةِ الإسلامية حتى لا يضيعَ هباءً أو نهبَ قُطَّاعِ الطرقِ من أهلِ الشبهِ والشهوات.
لقدْ قامَ الإمامُ العبقري البخاري بخدمةٍ عظمى حينَ جمعَ الصحيحَ من حديثَ رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم-بعدَ كلمةٍ سمعها من إسحاق بن راهويه؛ وحملَ الشهيدُ نور الدين رايةَ الدفاعِ عن بلدان المسلمين حين دهمها المدُّ الصليبي الحاقد دون أنْ يلتفتَ لكثرةِ الخونة والمرجفين؛ وجمعَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ الجهادَ من أطرافه بالعلمِ والعمل والصبر والاحتساب حتى غدتْ مؤلفاتُه ومواقفه مورداً عذباً ومنهلاً مزدحماً من طلابِ العلمِ والعمل.
وفي هذه العصورِ المتأخرة نهضَ الإمامُ محمد بن عبد الوهاب بدعوةٍ سلفيةٍ إصلاحيةٍ بعدما رأى الضلالاتِ والشركياتِ والبدعَ في العالمِ الإسلامي فكانتْ دعوتُه نبراساً لغيرها وصارتْ شوكةً في حلوقِ الأعداءِ من الكافرين وأتباعهم المنافقين ، كما استفرغَ الإمامُ الألباني جهدَه لتنقيةِ السنَّة النبويةِ المشرَّفةِ مما علقَ بها من الأخبارِ الضعيفة والموضوعة في مشروعٍ علمي حديثي ضخم ، وللإمامِ عبدِ العزيز بنِ بازٍ أثرٌ لا ينكرُ في استنقاذِ الفتوى من التعصب المذهبي وردِّها للكتابِ والسنةِ وإجماعِ الأمة .
وإنَّ أمةً أنجبتْ هؤلاءِ الأفذاذِ وغيرهم-رحمة الله ورضوانه عليهم-لقادرةٌ على إنجابِ آخرين يحملونَ على عواتقهم همَّ الأمةِ الإسلاميةِ ومشاريعها في مختلف الجوانبِ والتخصصات والاهتمامات؛ وَكمْ تركَ الأولُ للآخرِ إذا صدقتْ العزائمُ واستيقظتْ الهمم؛ وهذه المشروعاتُ تحتاجُ عونَ وبذلَ شرائحِ الأمةِ كلِّها ؛ فمنها على سبيلِ المثالِ لا الحصر:
• مشروع رحمة الشعوب والعدل معها والأمانة في حمل مسؤولياتها.
• مشروع التطبيق العملي الكامل للشريعة الإسلامية.(2/116)
• مشروع الدفاع عن بلدان المسلمين المحتلة بالنفس من قبل أهلها ابتداءً وبالتأييد من كل مسلم.
• مشروع مقاومة الاعتداء على نبي الرحمة والملحمة صلى الله عليه وسلم.
• مشروع تخريج طلاب علم متميزين وحفاظٍ للقرآن والسنَّة متقنين.
• مشروع الحفاظ على الهوية الإسلامية من المسخ والطمس والتشويه.
• مشروع تربية الجيل على الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة.
• مشاريع الأوقاف والحبوس لصالح العمل الإسلامي والخيري.
• مشروع إرشاد وتوجيه الصحوة الإسلامية.
• مشروع إشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
• مشاريع الإصلاح المتخصصة ( التعليم-الإعلام-الاقتصاد-التربية-الطب-...).
• المشاريع الإعلامية بمختلف أشكالها.
• مشاريع المرأة المسلمة .
• مشاريع الدفاع عن المرأة المسلمة.
• مشروعات الترفيه التربوي والتعليمي.
• مشروعات الارتقاء السلوكي والفكري لأفراد المجتمع المسلم.
• مشروعات القراءة والتفكير.
• المشاريع التقنية والصناعية.
• مشاريع رعاية الإبداع والتفوق.
• مشاريع تعزيز القيم والآداب.
• مشاريع الحفاظ على العقيدة الإسلامية.
• مشاريع الدعوة.
• مشاريع القوة البدنية والاستعداد العسكري.
• مشاريع تأهيل الفقراء والأيتام .
• مشاريع إطعام المساكين وكسوتهم.
• مشاريع غوث المنكوبين والمحتاجين.
• المشاريع الاجتماعية.
• مشاريع ا لحفاظ على اللغة العربية وآدابها.
• مشاريع القضاء على العنوسة.
• مشاريع تخفيض معدلات البطالة.
• مشروعات فضح أعداء الأمة من داخلها وخارجها.
• مشاريع مراكز الأبحاث والدراسات والرصد.
• مشاريع مراكز دراسات المستقبل.
وأجزمُ أنَّ في عقولِ المسلمين المزيدَ من الأفكارِ والمشروعاتِ الناجحة؛ كما أنَّ بعضَ ما ذُكرَ أعلاه قدْ يكونُ قائماً ويحتاجُ منَّا الدعمَ المعنويَّ أو المادي، وأكثرُ هذه المشروعات تحتاجُ إلى جهدٍ جماعيٍّ مؤسسي؛ ولا بدَّ فيها من جهودٍ مشتركةٍ بينَ العلماءِ والحكامِ والأثرياءِ والمفكرين والمؤسساتِ إضافةً إلى أفرادِ المشروعِ والقائمين عليه، ويجبُ أنْ تكونَ هذه المشروعاتُ مخططةً بإحكامٍ وتوقيتٍ مناسبٍ وفريقِ عملٍ متكاملٍ مع أهميةِ التأكيدِ على الصبرِ والمجاهدةِ والتأنَّي في بلوغِ الغايةِ ورؤيةِ الثمرةِ فما لا يدركُ في دنيا الناسِ لا يضيعُ عندَ ربِّ الجنِّةِ والنِّاس.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 06 من شهر رجب الحرام عام 1428
ahm_assaf@yahoo.com
============
حرية الفكر
د. جواهر بنت عبدالعزيز آل الشيخ
أيتها الحرية: كم منْ دماء بريئة تُسفك باسمك! وكم من شعارات رنانة تُطلق تحت لوائك! وكم من كلمة حقّ أريد بها باطل تُسوّقُ في مزادك! الجميع يتسابقون زرافاتٍ وآحاداً للفوز بك، وحُقَّ لهم ذلك.
إلا أن قيدك الفريد اللطيف الذي قد يرضى به ذوو الألباب من خلق الله هو القيد الشرعي الذي فرضه ربّ الأرباب، محاطاً بالترغيب قبل الترهيب، لذا فقد حُفت الجنة بالمكاره وحُفّت النار بالشهوات.
ولو كان الخالق يريد لخلقه الحرية المطلقة في العبادة والأفعال فيعبدوا ما شاءوا ويقدّسوا من أرادوا، لما بعث لهم أنبياءه بدين (التوحيد) الذي هو حق الخالق على العبيد، ولما حرّم عليهم الخبائث وقيد لهم الشهوات.
فمفهوم الحرية إذن ليس على إطلاقه، ولا يعني الإباحية الدينية والجنسية كما يتوهم البعض من قاصري التفكير أو متسرعي الرأي، بل له ضوابط وحدود على وجه التأكيد والضرورة.
ولكن الشيء الخطير حقاً هو الذي يتداوله مثقفو كل عصر حسب المصطلحات (الموضة) فكرياً وسياسياً واجتماعياً بل ودينياً، أما اليوم فأشهر المصطلحات التي تثير التساؤل الذي لا يخلو من ألم هو مصطلح الأيديولوجيا حيث كثر حوله الجدل المخيف، وكان في الماضي يكرره الشيوعيون الإلحاديون الذين يرون أن الدين هو أفيون الشعوب، أما أن يردده كتّاب هذا العصر القائم في أساسه على تكتلات دينية في غايات التعصب تعيد إلى أذهاننا حروب الماضي الدامية بلا هوادة على أساس عرقي وعقدي في جميع أقطار المعمورة، فهذا هو المثير للدهشة حقاً؟!
ثم إن الحياة الدنيوية دون أمل أخروي لهي في غاية القسوة والضياع، وكم سمعنا تلك المقولة التي تطالبنا بأن نعمل الخير ونرميه في البحر! ولكن ما أشد وقعها على النفس البشرية التي جُبلت على الرغبة والرهبة والوعد والوعيد، فما أحوجنا إلى وجود العقيدة السليمة المقنعة في حياتنا فنعمل الخير ونضعه في مصرف الآخرة لكي يربو ويربو فتشعر معه الروح بالطمأنينة والسكينة، ولا نكون ممن كان مصيرهم هو المتمثل في الآية الكريمة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}، ويا لها من نهاية بائسة لمن يتوهم النتيجة لصالحه وقد ضلّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يُحسن صُنعاً.
والأمر اللافت حقاً هو نجاح (الحرب الإعلامية) نجاحاً باهراً فاق في اكتساحه نجاح الحرب العسكرية المعاصرة نفسه رغم ضراوتها وقسوتها، ولم نكتف بالتوقف مذهولين عن أي ردة فعل إيجابية، بل قمنا مهرولين نصفق (للمنتصر الغالب) مؤيدين مناصرين بدرجة مذهلة تفوق التصور، بل قام البعض منا يروج لأفكاره ومعتقداته وكأنها عقائد سماوية مقدسة، ورغم ذلك أطلق هؤلاء المنساقون خلف الراعي الأكبر، عبارة (ثقافة القطيع) على القلة المتمسكة بثوابتها والعاضة على قناعاتها التي ستحاسب - يوماً ما - عنها! فهل مفهوم القطيع ينطبق على الأكثرية التابعة أم على الأقلية الثابتة؟
أما إذا كان الابتداع والانحراف الفكري الذي يريده البعض من المنخدعين: هو ابتداع أمثال ستالين ولينين، أو علم دارون، أو غرور مسيلمة، فيا له من شذوذ نفسي أصبح أضحوكة للتاريخ، ومثاراً لتندر أحفاد المنخدعين، فكم من نظرية بشرية أصبحت زبداً ذهب جفاء، أما ما ينفع البشرية فيظل ثابتاً رغم مرور الأزمنة. فما أحوجنا ونحن أمام مفترق الطرق أن تكون لنا شخصيتنا الإسلامية التي تحمينا من ضياع الهوية قبل أن يأتي اليوم الذي تبرأ فيه الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا.
===========
العلمانية إلى أين ؟
محمد جلال القصاص
في استطلاع للرأي أجري في أمريكا قبل الإنتخابات الأخيرة بثلاثة أشهر تقريبا وجد أن 70 % من الأمريكيين المسجلين على قائمة اللوائح الانتخابية الأمريكية قالوا : إن الرئيس الأمريكي المقبل يجب أن يحدد سياسته بناءا على قناعات دينية ( المجتمع العدد 1627 ص 28 ) .
وفي الانتخابات الأخيرة رأينا عقد ما يشبه المؤتمرات الانتخابية في الكنائس ، وتصويت جماعي من المنظمات الدينية لجورج بوش .
ولم يستطع كيري الثبات على خطابه العلماني الذي ابتدأ به حملته الانتخابية فأخذ هو الآخر يتلو ما يحفظه من وصايا ( الرب ) ويزور الكنائس .ورأينا المناظرات الأمريكية بين المرشحين تنتهي بدعوات مثل " فليحمِ الرب أمريكا " .
نعم اختيار الشعب الأمريكي بوش تعبير واضح عن صحوة دينية لدى الشعب الأمريكي .
والأمر ليس خاص بأمريكا وحدها وإنما بكل عباد الصليب وفقط أشير اشارات إلى مظاهر هذه الصحوة.
على المستوى الرسمي ( الحكومات) .(2/117)
في فرنسا التي تتشدق بالعدل مُنع الحجاب في المدارس والجامعات ، وبريطانيا جنبا إلى جنب مع أمريكا ـ والأمر لا يتعلق بشخص "بلير " كما يحلو للبعض أن يصوره . بل بمن اختار بلير فترتين متتاليتين ومن سكت عليه أعني الشعب بعد كل ما اقترف فهذا كله تعبير واضح عن وجه الشعب البريطاني المعادي للإسلام ـ. وأوروبات جميعها لا تريد تركيا ـ وهي بعلمانيتها كما هي ـ فقط لكونها تحمل الهوية الإسلامية تاريخيا. أقول :وجه أوروبا الصليبي لا يخفى على أحد ولكنه متوارى خلف السيطرة الأمريكية , وإلا فأين أوروبا مما يحدث للعالم الاسلامي ومصالحها مرتبطة به ؟! .
وانحسار العلمانية على مستوى الأفراد والمؤسسات الأهلية أوضح :
فقد رأينا الدبابات الأمريكية على أبواب الفلوجة ترفع الصليب ، ومعها الرهبان والحاخامات .
ومن قبل رأينا قطعان المنصرين وهي تقف خلف الجيش الأمريكي تنتظر إرهاب هذا الشعب وتجويعه لتقوم بتنصيره .
ومن يقرأ عن التنصير المنتشر كالجراد في بقاع العالم الإسلامي التى تعاني من الفقر وما يصرف عليه وما تقدمه دول الغرب من تسهيلات لهؤلاء الضالين المضلين يعلم أن الأمر ليس عملا فرديا أو محدودا بل توجه عام لدى هذه الأمم ورغبة جاده في هدم كيان الإسلام " والله متم نوره ولو كره الكافرون "
بل ومِن قراءة أولية لنجاح بوش في الانتخابات الأخيرة يتبين أن الشعب الأمريكي اختار بوش الصغير وهو يعرف تماما توجهه الديني المتشدد ، وأنه يتجه إلى تقليص حريتهم المزعومة بموقفه السلبي من الشواذ وموقفه الداعم للتعليم الدين ( المسيحي ) في المدارس وموقفه الإيجابي من الإعدام ، اختار الشعب الأمريكي بوش الصغير ولم يلتفت إلى ما حلَّ به من مصيبة إقتصادية حيث تحول فائض الموازنة في عهد كلينتون من 463 مليار دولار تقريبا إلى عجز بلغ 1200 مليار دولار في آخر فترة بوش الأولى . ولم يتأثر الشعب الأمريكي بارتفاع أسعار النفط وزيادة معدل البطالة ، نعم اختاره وهو يعلم تماما أنه يرفع حربا صليبية على الإرهاب ـ الذي لا يعني في حس الشعب الامريكي إلا الإسلام ـ .
ولا يقول أحد أن بوش لم يأخذ إلا ما يزيد عن النصف قليلا من أصوات الشعب الأمريكي . فلم يكن الشعب يختار بين ضدين ( بوش وكيري ) بل متماثلين يختلفان في الوسائل لا الأهداف . وهم اختاروا الأشد .
وليس يجدي ما يذهب إليه البعض من تبرئة الشعب الأمريكي والشعوب الغربية عموما بدعوى أن هذا كله بسبب التضليل الذي تمارسه القيادة عليهم من نقل صورة مشوهة لهم عن الإسلام وأهله .
أقول : هذا تفسير وليس تبرير , فالحال هكذا منذ كانت الدنيا . والقرآن يخبرنا بأن الملأ الذين استكبروا يمكرون على شعوبهم "...قال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا ..." " قالوا إنكم كنتم تنأتوننا عن اليمين ", وجهنم تجمع الصنفين . ولا ييظلم ربك أحدا.
وما يعنيني في هذا التقرير هو أن المد الديني عند النصارى في كل بقاع العالم يتزايد مما يشي بأن طور العلمانية قد آذن بالانتهاء وأن الصراع قد بدأ يعود عَقَدِيَّا كما كان .
هذا على صعيد النصارى .
وغني عن القول أن اليهود تُحركهم معتقدات توراتية وأنهم ما جاؤا لفلسطين إلا لتحقيق نبوءات توراتية يشهد لذلك عَلَمُهم ذو .الخطين الأخضرين.( النيل والفرات ) , وخارطة إسرائيل الكبرى على الكنيست ( الإسرائيلي ) والعملة اليهودية تشهد بذلك .
ومشكلة المشاكل التي استعصت على الحل طوال قرن أو يزيد من الزمان أعني الشرق الأوسط لاتعني عند اليهود والأمريكان إلا (إسرائيل الكبرى ) ... ( مملكة الرب ) التي عاصمتها القس وحدودها النيل والفرات وأجزائها التي لا تتجزأ منها القدس والطور(طور سيناء )، وكل اليهود على قولة واحدة وهي : أنه لابد من (مملكة الرب .. إسرائيل الكبرى) . ويشاركهم في هذا الإنجليين من النصارى بوش ومن معه ، وعند الشيخ الدكتور عبد العزيزمصطفى كامل في كتاب ( حمى سنة 2000 ) ما ينِّور العقول ويشرح الصدور لمن أراد أن يستيقن أو يستزيد .
أما المسلمون فـ (الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة ).والملاحظ أن المد الدعوي يتزايد يوما بعد يوم ، فالقومية العربية رحلت ودارت عليها عجلة الأيام ، وها هي ذا الأجيال الناشئة تلعنها بعد أن أضاعت المقدسات وأهدرت الثروات ولم تنتصر على عدو قط ؛ بل لم يكن لها عدو إلا أبناء أمتها ممن قالوا ربنا الله .فاليوم بعد أن خزلت العراق ( الشقيق ) ووضعت يدها في يد اليهود ولم تعد تشجب مايحدث بمجرد الكلمات وبعد وقوفها في صف من كانوا أعدائها حربا على أبناء دينها وبعد أن أفلس منظريهم ولم يعد عندهم مشاريع فكرية جديده يضحكون بها على العوام لم تعد تثق فيهم الجماهير ولا فيمن ينتسب إليهم من علماء الدين ( الرسميين ) ،. وبدأت الجماهير تنفض أيديها منهم وتصغي إلى الخطاب الإسلامي .
فالعلمانية في الأمة الإسلامية شدت رحالها ، ولم يعد إلا إرهاب السلطان وعربدة الأقلام التي تحتمي بحمى القانون . كل هذا جعلني أقول : أن طور العلمانية في طريقه للأفول ، وأنها ستعود كما بدأت .. إيمان وكفر .
=============
أوينكأ الجرح... يا مسلمون
أ. سارة السويعد
يا أمة الحق إن الجرح متسع *** فهل ترى من نزيف الجرح نعتبر
ماذا سوى عودة لله صادقة *** عسى تغير هذي الحال والصور
عذرا أيها القارئ سأنكأ جرحي وجرحك ، ولنرى كيف سنضمد الجراح ونزيل بقايا أثرها من جسد أمتنا ؟.
لست هنا بصدد الحديث عن كره اللوبي الصهيوني للإسلام ورموزه ، ولست أيضاً مؤيدة للاندفاعية المؤقتة من أبناء شعبنا الحبيب ، ولكن تطاول من جعلوا شعار الديمقراطية والحرية في دستورهم على جناب إمام المرسلين وخاتمهم أفزعني فهب مدادي ناقمً ًمستنكراً .
ولربما تكلم الكثير عن تقديس هؤلاء لمفهوم حرية التعبير ، ومفعول المقاطعة معهم ، ولكني أتحدث هنا عن أمر آخر أرجوا............. أن يُفهم!!
فإن تعجب فالعجب قولهم :
"السخرية موجودة ومنتشرة حول العالم بأسره ، ولكن لا أحد يسمح لنفسه بالسخرية من الإسلام" !!
"أيها المسلمون كونوا أكثر تقبلا للنقد " !!!
ما سبق كانت أهم عبارتين دار مقال رئيس تحرير صحيفة ( يولاندز بوستن ) الدنماركية حولها ، في ذات اليوم الذي نُشر الرسم الكاريكاتوري فيها .
فيا رئيس التحرير ويا شعب الدنمارك والنرويج ويا كل أوروبا ... رغم ما نعيشه من حرية إلا أن هناك مقام تنثني الحرية إجلالا له ، فالحرية كل الحرية في منع التعدي عليه وتُجمع كل الثقافات على ذلك وهذا ما نؤمن به حقاً .
يا رئيس التحرير ويا شعب الدنمارك والنرويج ويا كل أوروبا .... كلنا قساوسة ،كلنا نعيش بالتاريخ المظلم ،كلنا نعيش جنون العظمة ،كلنا كذلك إذا كان الأمر في الإسلام وفي نبينا عليه الصلاة والسلام ، ولا نرضى عن ذلك تحولاً وتغيراً..
إن المتصفح لصحافتنا اليومية العربية والعالمية ينتابه شعور بالأسى لمدى تدني مستوى الأطروحات المكتوبة بدعوى الحرية ، يجد النقد المسيء فضلاً عن الاستهزاء بالثوابت ، والهيئات إلا من قلة قليلة ولا حول ولا قوة إلا بالله .
يا رؤساء التحرير أعتمتم جمال صاحبة الجلالة ، جعلتموها مرتعاً قذرً للاستهزاء والسخرية والتيار المنحرف ، صنعتموها ملاعباً لتراشق السب والشتم في الدين وأهله ....... ورموزه وأعلامه ..(2/118)
والآن حينما تطاول الداخل على عادات أصبحت مسلمات، وعلى ثوابت أساسيات ، ومناقشة فاعليتها في عصر التقدم والانفتاحية مثل قيادة المرأة للسيارة ، وفتح الاختلاط ،ومكانة المرأة في مجلس الشورى وغيرها كثير والله المستعان بأداة سلب المرأة مكانها الممكنة ..!!
فهل يا ترى يترك الخارج الجراءة ، وتوسيع الدائرة في المغالطات .. لا أظن ذلك !!
بل تجرئ وقفز ويا للأسف متطاولاً على خاتم المرسلين ونبي المسلمين بصور كاريكاتورية .
أيها القارئ .. مهما خدرتنا الأحداث سنفيق ،
ولعلنا اليوم في هجمة محنكة من الدنمارك والنرويج و ولا ندري فربما كانت دول أخرى تحاول التطاول.
أفقنا وسنفيق لنهاجم بفكرنا الصحيح
لن نظل مدافعين فقط .... ..........فلتدركوا ذلك !!
سنوقف صحافة الخارج ،
ولن نتوانى عن صحافة الداخل !!
فحرية الفكر لا تعنى المغالطات !!
وتقديم الفكر على مأدبة القارئ ......لا تعني بوح الفساد ونكران الهوية!!
بالأمس يتقدم معاذ ومعوذ وهما صغيران يخترقان الصفوف ليسجل التاريخ منافحتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبا جهل حين سبه بقول كل واحد منهما (لا نجوت إن نجا ) رضي الله عنهما وأرضاهما !!
ياه ما أروع الفداء ، ونحن اليوم وغداً سننافح كلنا نساء ورجال ، شباب وشيبة ،صغارا وكباراً ، فداءاً لحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وحين تجد التكاتف من الحكومة و المؤسسات التجارية بالمقاطعة ، والمنافحة لمقام شفيعنا يوم القيامة ، و تطالعنا الصحف والمنتديات بخسائر مالية مؤكدة للتراجع الاقتصادي لهم من الشعوب العربية ، ندرك حينها صور من الفداء .
وحين تخط صحيفتهم الاعتذار يبتسم الثغر،
ولا يتراجع جسد ،
وهذا المؤمل ........................فالاعتذار نتيجة نحتاجها، ولكنها لا تكفي
فالعودة للإساءة قد تكون مستساغة -وهذا ممنوع قطعاً- حين نرضى بالاعتذار فقط.
أقرأ ما قال كلينقين بيرق : "هناك خطر من أننا في الدنمارك لم نقدر الإساءة التي سببتها الرسومات ، ليس لمسلمي الدنمارك وحسب ، بل لكل مسلمي العالم . يجب أن نأخذ التهديد بجدية" .
واتجه لمصحفك لتقرأ سورة الفتح ، واتبعها بسورة الحجرات ، ثم تأمل حتى رفع الصوت مًنع منه الصحابة رضوان الله عليهم ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .... الآية ) والآيات في مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة يكفك منها ما وقعت عيناك من القرآن الكريم
وبعدها هل ستحتاج للإقناع بشناعة عملهم..!!
**حتى لا ينكأ الجرح من جديد.. عدة أمور أوجزها ولعل الأمر واسع .
* صاحبة الجلال من يعيدها للجلال لا للسباب ، وطرح الثوابت والجراءة المدمرة فهل من قوانين دولية وآخرى شرعية .
* المسلم هو من يميت جذوة التطاول على مقدساته ورموزه ، وهو من يوقدها ...فأنظر لنفسك أيهما أنت .؟!
* حرية التعبير موجودة عندهم ، وليست محرمة عندنا شرعاً وحكومة، ولكن المغالظات ممنوعة على الكل.
* رموز الإسلام رسل وصحابة وتابعين وأعلام ننافح عنهم وبقوة .
* الإرهاب والغضب المغلف بالجريمة لا نرضاه ، فالإسلام يدعو لتبصرت المخالف أولاً ، وما أروع ما سمعت عن دار للنشر والتوزيع تستعد لإرسال كتب الشيخ أحمد ديدات رحمه الله باللغة الدنماركية لهم فالمؤازرة المؤازرة .
* واجبنا في الدعوة هل هو واجب اندثر مع انفتاحية الحضارات واندماجها ، فماذا قدمنا ؟.
* أيتها المرأة كنت أما أو زوجة أو ابنه انطلاقتك نريد ؛ ابني الأساس، وتعاهدي الغرس فيمن حولك فحق الرسول صلى الله عليه وسلم عليك عظيم .
* الإندافاعية لا نريدها ولا نحض عليها ولكن هل سيظل ديننا محط نقد السفلة في الداخل والخارج.
ختاماً...... وأعلموا أن مهابة الدين تزرع ، حتى لو لم يسلم المخالف .....حين يهابه أبناءه .
كتبت : أ. سارة السويعد
موقع قافلة الداعيات
=============
ماذا وراء الدعوة إلى تغيير مناهج التدريس ؟
يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تلك الادعاءات التي توجهها الولايات المتحدة الأميركية للدول العربية والإسلامية متهمة برامجها التعليمية بالإرهاب والفساد وإنها هي التي تقوم بتخريج جيل من الشباب الارهابي ، لذلك دعت الولايات المتحدة تلك الدول إلى السعي لتغيير مناهجها التعليمية والعمل على تنقيتها من الأسباب المؤدية إلى الإرهاب ، متناسية بذلك تلك البرامج الارهابية التي يتلقاها الطفل اليهودي في مدرسته منذ نعومة أظفاره ، والتي تجعله يناصب العداء لكل من هو غير يهودي باعتبار أنه من شعب الله المختار ، الأمر الذي يدل على أن الهدف من وراء الدعوة إلى القضاء على الإرهاب ليس المقصود من ورائه القضاء على الإرهاب بالفعل وإنما هذه الدعوة ما هي إلا حلقة من حلقات مخطط الغزو والسيطرة على العالم الذي تسعى إليه الولايات والمتحدة .
إن التعليم كما هو معلوم هو أحد المحاور الرئيسية في تكوين الإنسان، وهو التي يعمل على صياغة العقول والنفوس ويزرع القيم والأفكار والمبادئ التي تتكون منها شخصية الإنسان في المستقبل ، والمثل يقول : "العلم في الصغر كالنقش في الحجر " ، من هنا يدرك كل غاز او مستعمر يسعى إلى تغيير عقول الأشخاص إلى أنه لن يتمكن من هذا الأمر بقوة السلاح وإنما بتعديل مناهج التدريس في البلد الذي استعمره ، وذلك بهدف تمييع عقائد شعوب ذلك البلد المغزو ، وإفراغ عقول أبناءه من المعاني والقيم التي تأسس عليها ، وبهذه الطريقة يضمن المستعمر تبعية جيل كامل لفترة طويلة من الزمن .
لهذا نجد قساوسة الغرب يؤكدون على هذا الهدف عند حديثهم عن الدعوة في البلاد التي فتحوها ، فلقد ذكر القسيس الدكتور صموئيل زويمر هذا الأمر بشكل صريح عندما قال : " ليس غرض التبشير التنصير ولكن أقصى ما يجب على المبشر عمله هو تفريغ قلب المسلم من الإيمان " .
وقال أيضا موجهاً حديثه للمبشرين : " إنكم أعددتم شباباً في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله ، ولا يريد أن يعرفها ، واخرجتم المسلم من الإسلام ، ولم تدخلوه في المسيحية ، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراد له الاستعمار ، لا يهتم للعظائم ويجب الراحة والكسل ، ولا يصرف همّه في دنياه إلا للشهوات " .
لذا يلاحظ في تاريخ الاستعمار أن حركة تعديل مناهج التدريس كانت من أولى اهتمامات المستعمر ، ففي مصر وضع المستر ( دنلوب ) بنفسه مناهج التعليم التي ترضي المستعمر الانكليزي من جهة ، وتؤدي إلى خلق شعارات جديدة يلتف حولها الشعب المصري من جهة أخرى ، ومن هذه الشعارات المرفوعة ، شعارات الفرعونية ، وشعار مصر للمصريين وغير ذلك من الشعارات البعيدة عن الإسلام .
هذا وقد نجحت الولايات المتحدة اليوم - تحت ستار القضاء على الارهاب -إلى جعل مصر تقوم بشطب الآيات التي تحث على الجهاد من كتب التربية والتعليم ، كما قامت أيضاً بوضع كتاب تاريخ يدرّس في بعض المدارس اللبنانية يقوم بتصنيف حزب الله وحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي على انهم منظمات إرهابية .
وهذا إضافة إلى كتاب آخر كان قد أثار العام الماضي موجة احتجاج كبيرة في لبنان بسبب اعتباره الخلافة العثمانية احتلالاً، واحتفائه بالمحتل الفرنسي!(2/119)
ومن الملاحظ ان بعض هذه الكتب تنتمي إلى منظمات دولية كمنظمة الأونسكو التي تعتمد كتبها لدى شريحة كبيرة من الناس باعتبار أن لهذه المنظمة وزن وثقل في الساحة التربوية ، إلا أن ما يحصل هو أن هذه المنظمة تقوم بتمرير عقيدة الغرب في كتبها ، حتى انها كثيراً ما تهزأ بالرموز الإسلامية ، وهذا ما أشار إليه السيد "عبد المجيد ذويب " في دراسته النقدية لبعض الكتب المدرسية التي وضعتها منظمة اليونسكو في مصر ، فكان مما وجده في احد كتب التاريخ فصل يتحدث عن "الإسلام" يصوّر فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بشكل يصدم مشاعر المسلمين، كما وجد أيضاً صورة أخرى لرجل يقرأ القرآن وهو في وضع يدعو إلى السخرية والازدراء وفي شكل كاركاتيري بشع ، إضافة إلى صورة أخرى لمسجد الصخرة المعلقة في القدس ، وقد وضع بجانبها صورة لليهود يصلون عند حائط المبكى ...
وبخصوص الكلمات المستخدمة عن مشاعر اليهود الدينية فقد وصفها الكتاب بأنها حارة ومتوقدة " ما زال هناك يهود مخلصون يقيمون الصلاة في أيامنا هذه " أما إذا جاء ذكر المسلمين فإن حرارة الإيمان والإخلاص يحل محلها الوصف بالتعصب " سيطرة الدين على الإنسان هو هذا التعصب الذي يفجر الرغبة في العدوان والإرهاب".
إن إصرار الولايات المتحدة الأميركية على تغيير مناهج التعليم ، وإنفاقها مئات الملايين من الدولارات من أجل إنجاح مهمتها ، إنما يدل على أهمية هذا الفعل من أجل ضمان نشأة جيل عربي مسلم في الهوية وأميركي في الجوهر ، يسكن في مصر أو في لبنان أو في أي بلد عربي ولكنه يملك عادات وقيم المجتمع الأميركي ، ينتمي إلى سلالة عمر بن الخطاب وعلي بن ابي طالب وصلاح الدين ، ولكنه يؤمن بأن النصر لا يكون إلا على يد ذلك الأمريكي الكاوبوي البطل الذي لا يهزم ولا يقهر، يأكل الهمبرغر والكنتاكي ويؤمن بأن كل دعوة إلى العودة إلى الأخلاق والقيم دعوة إلى الرجعية والتخلف والتقهقر ، يؤمن بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة ولا معرفة لديه بمعاني التضحية والتسامح والتعاون .
إن رفض الأمة الإسلامية لتلك الدعوة الغربية إلى تعديل المنهج التربوي لا ينفي كون هذه المناهج لا تحتاج إلى تعديل ، وإنما الاعتراض هو على سعي تلك الدول إلى تفريغ المناهج الجديدة من كل ما يرتبط بالتاريخ والحضارة والنظرة الإسلامية العامة للكون والوجود ، وإبدالها بالنظرة الغربية المختلفة عنها في الجوهر والهدف ، ويمكن تلخيص هذا الاختلاف في نقاط ثلاثة خطيرة ذكرها الكاتب أنور الجندي:
أولا : من ناحية النظرة إلى خالق الكون .
ثانياً : من ناحية النظرة إلى الإنسان وهدفه في الحياة .
ثالثاً : من ناحية النظرة إلى الأخلاق والمسئولية الفردية .
وهذه النقاط الثلاثة متداخلة ومتماسكة بشكل كلي ، والمسلم إذا تخلى عن واحدة من هذه النقاط عاش خللاً عقائدياً وسلوكياً هاماً ، لذلك نجد المفكر الغربي يدرك تماماً انه لن يتمكن من تغيير نظرة المسلم إلى خالق الكون وإلى الهدف من وجوده على هذه الحياة الدنيا إذا كان يتمتع بالأخلاق والقيم الإسلامية ، لذا نجده أول ما يدعو إليه هو إفساد أخلاق المسلم ، لأنه بذلك يضمن تخلخل عقيدته ويستطيع بالتالي السيطرة عليه سيطرة تامة ، أما سبيل الإفساد الذي يتبعوه فهو هذا السبيل الذي وضعه ساستهم اليهود من قبل وهو سبيل الجنس والمال.
هذا وقد اعتمد اليهود ومن والاهم، من أجل نجاح مهمتهم ،على المرأة التي تشكل الركن الأساسي في صلاح الأسرة والمجتمع أو فسادهما ، من هنا بدأت الدعوة إلى المطالبة باعطائها حريتها وحقوقها المزعومة والتي من بينها حقها في التعليم ، يقول القس صموئيل زويمر موضحاً السبيل إلى السيطرة على الشعوب الإسلامية : "ان أقصر طريق إلى ذلك هو اجتذاب الفتاة المسلمة إلى مدراسنا بكل الوسائل الممكنة، لأنها هي التي تتولى عنهم مهمة تحويل المجتمع الإسلامي وسلخه من مقومات دينه " .
ولم يكتف هؤلاء بالدعوة إلى تعليم المرأة بل دعوا إلى الاختلاط بين الشبان والشابات في المدارس حتى أن الولايات المتحدة طالبت بتعميم الاختلاط بمدارس التعليم الإساسي في مصر ، وذلك في مقابل ما تقدمه من معونات لبرامج التدريب المهني ، " ويلاحظ أنه بعد أن تمت المؤامرة وشاع الاختلاط توقفت المعونة الأميركية الخاصة ببرامج التدريب المهني ".
وقد أوردت إحدى الدراسات التي أجريت نماذجاً عن المآسي التي جرّها الاختلاط في المراحل المبكرة من التعليم ، فكان مما أوردته ما يلي : " طلاب يغلقون الفصل على مدرسة متبرجة ويحاولون اغتصابها ، طالب يقتل زميله من أجل صديقته بالفصل ، تفشي مرض الايدز بين طلاب وطالبات جامعة سانجور بالاسكندرية ( 8 حالات في وقت واحد ) " .
نقطة أخيرة نذكرها لبيان خطورة تغيير مناهج التدريس وهو ما يُسعى إليه من تغيير صورة الأطفال عن المرأة ودورها في المجتمع، وهو ما يسمونه بتغيير الأدوار النمطية ، فقد أوردت إحدى الدراسات صورتين من كتاب الصف الأول الابتدائي في مصر تحت عنوان : "مدرسة جدي " ويظهر في الصورتين حجرتين دراسيتين يدرس بها مادة التاريخ ، الصورة اليمنى تمثل العصر الحديث عام 1991 والصورة اليسرى تمثل عصر قديم عام 1930 زمن جدي ، وكتب فوق الصورتين أسئلة ليجيب عليها التلاميذ بعد المقارنة بين الصورتين فيذكر التلميذ أوجه الخلاف بين التعليم قديماً والتعليم حديثاً وأيهما يفضل القديم ام الجديد ؟ يظهر في الصورة الأولى صف تدرِّس فيه معلمة سافرة ولكن وجهها ضحوك ، والصف مكّون من طلاب من الجنسين ، بينما معلمة الصف الثاني محجبة وجهها عبوس والطلاب من صنف واحد ، من هنا يأتي تساؤل القائمين على الدراسة عن أهداف وزارة التربية والأزهر من وراء الأسئلة التي توجه إلى الطلاب، فكان من الأسئلة التي أوردوها ما يلي : " ما هي الإجابة التي نتوقعها من التلاميذ ؟ وما هي المفاهيم التي تريد أن تغرسها في عقول النشء ، أتريد وزارة التربية والأزهر أن يتعلم النشء ما يلي : إن السفور والعري أفضل من الحجاب والاحتشام ؟ إن الحجاب موضة قديمة انتهت منذ أيام جدي وأن السفور هو لباس العصر ؟
إن الاختلاط بين البنين والبنات جائز ، إن المعلمة المتحجبة خطها رديء ووجهها عابس وان المعلمة المتفرنجة خطها جميل ووجهها باسم ؟ إن كتابة التاريخ الهجري رجعية وتخلف ؟ " .
فهل بعد هذه الأدلة من كلام عن الأهداف المتوخاة من وراء تعديل مناهج التدريس ؟
د. نهى قاطرجي
==============
مذكرات عادل كامل-البحريني- العائد من غوانتنامو
بسم الله الرحمن الرحيم
1/4
((( التعريف )))
الاسم/ عادل كامل عبدالله، أبلغ من العمر 41 عاماً.
ولدت ونشأت في فريج العمامرة بالمحرق، وهو حي بسيط يتصف كما هو حال فرجان المحرق بترابط أهله وفطرتهم السليمة وخلقهم الأصيل، وقد أعانتني تلك الصفات على أن أكون محافظا على الصلاة والصيام منذ كنت صغيراً.
تخرجت من مدرسة المنامة الثانوية التجارية عام 1983م.
كنت أعمل في قوة دفاع البحرين حتى سفري إلى أفغانستان. متزوج ولي ابنة واحدة تركتها وهي في الصف الخامس الابتدائي وعمرها عشر سنوات وعدت إليها وهي في الرابعة عشرة من عمرها وبالصف الثالث الإعدادي، وهي ابنتي الوحيدة التي أعطيتها وما زلت كل محبتي. كنت حنوناً عليها، كثير المزاح معها، وكثيرا ما كنت آخذها للحدائق العامة وللسباحة بالبحر، فقد كانت وهي صغيرة تحب السباحة وركوب الخيل، وكانت هي كذلك تحبني كثيرا ولا تفارقني.(2/120)
((( قرار السفر إلى أفغانستان )))
عندما بدأ الأفغان بالنزوح من مدنهم وقراهم جراء القصف الأمريكي لأفغانستان في عام 2001م ، رداً على الهجوم الذي تعرضت له أمريكا والذي حمّلت الإدارة الأمريكية مسؤوليته المسلمين، كانت محطات التلفزيون ووكالات الأنباء تنقل الوضع المأساوي وحالة الهلع والخوف الذي يعيشه الأفغان والرعب مما قد يصيبهم إذا تعرضوا لهجوم من قبل القوات الأمريكية، فقد جرب الأفغان حياة اللاجئين وعاشوها لسنوات طويلة.
عندها قررت بشكل جازم أنه لابد من أن يكون لي دور إيجابي في مساعدة هؤلاء المساكين، لا أدري ماذا يمكنني أن أفعل بالتحديد ولا كيف السبيل، فأنا لست من العاملين في الحقل الإغاثي ولا أنتمي إلى جمعية من الجمعيات الخيرية،
فماذا عساني أفعل؟
ولكن هذا التفكير السلبي لم يثنني عن القرار الذي كنت قد اتخذته بشكل جازم ألا وهو التوجه على الفور إلى أفغانستان لمساعدة الناس والوقوف بجانبهم. بدأت على الفور في تأمين حاجيات أسرتي وذلك حتى لا يضطروا إلى طلب العون من أحد، فلا يعقل أن أذهب لإغاثة البعيد وأترك أمي وزوجتي وابنتي عالة على الآخرين.
كما قمت بطلب بعض المساعدات المالية من الزكوات والصدقات من أهلي، لتوزيعها على المحتاجين. كنت في ذلك الوقت في إجازتي السنوية التي لم أكن قد طلبتها من أجل السفر، ولكنها تزامنت مع عزمي على السفر، فأعددت مستلزمات السفر وتوكلت على الله واشتريت تذكرة السفر إلى إيران لدخول أفغانستان عن طريق الحدود البرية بين البلدين.
((( الوصول إلى إيران ثم إلى قندهار )))
في شهر أكتوبر 2001م وصلت إلى مدينة مشهد الإيرانية والقريبة من الحدود مع أفغانستان، وقمت بالسؤال عن الطريق المؤدية إلى الحدود الأفغانية وكيفية الدخول إلى أفغانستان بشكل صحيح، وذلك حتى لا أعرض نفسي لمخالفات مع الإيرانيين مما قد يعرقل وصولي إلى أفغانستان وهو الهدف الذي أتيت من أجله. لذلك فقد اضطررت للمكوث في إيران قرابة الأسبوعين حتى تمكنت أخيرا من دخول الأراضي الأفغانية. مررت بالعديد من مدن أفغانستان وقراها وشاهدت الوضع المأساوي الذي يعيشه الأفغان، والفقر الشديد الذي يعانونه، ورأيت الدمار والخراب الذي تعرضت له الكثير من المناطق جراء الهجمات التي قام بها الطيران الأمريكي الهمجي.
كان مسيرنا خلال رحلة الدخول إلى أفغانستان بالنهار بسبب حظر التجول ومنع تحرك السيارات ليلاً، وذلك لأن الطائرات الأمريكية كانت تقصف أي هدف يتحرك ليلا سواء كان مدنيا أو عسكرياً، ولم تسلم القوافل الإغاثية من التعرض للهجمات الصاروخية الأمريكية.
((( الرحلة إلى قندهار )))
كانت وجهتنا مدينة قندهار والتي تعد من أكبر المدن الأفغانية، استغرقت الرحلة عن طريق حافلات النقل العام من الحدود الإيرانية إلى مدينة قندهار حوالي اليومين.
كنا نبيت بالمساء في الاستراحات التي على الطريق حتى يبزغ الفجر ثم نواصل طريقنا نهارا. كانت الطريق آمنة ولم نتعرض لأي مشاكل كقطاع الطريق والعصابات أو القصف الجوي.
ومررت على الكثير من الأحياء والمباني والمنازل والسيارات المدمرة والتي قصفت ليلا.
وقد رأيت أثناء مروري بالقرى الأفغانية الفقر الشديد الذي تعاني منه الأسر الأفغانية والحالة المتردية للبيوت والبنية التحتية لهذه المناطق، فقمت بتقديم بعض من المساعدات والصدقات التي أحضرتها معي لهؤلاء المحتاجين الذين كانت علامات الفقر والعوز واضحة على وجوههم. وفي قندهار استقر بي المقام بأحد الفنادق المتواضعة، وقمت بالاتصال بأهلي بالبحرين لكي أطمأنتهم على وصولي. وقد تجولت في مدينة قندهار ومررت بمكتب الصليب الأحمر الذي كان مغلقا في ذلك الوقت، ثم تجولت في أحياء المدينة التي بدت لي مدينة قديمة المباني والشوارع. وكانت الشوارع والأسواق مزدحمة بالناس.
((( إلى العاصمة كابول )))
بعد أن مكثت في قندهار عدة أيام قررت الانتقال إلى العاصمة الأفغانية كابول لتقديم المساعدة والوقوف على الوضع الإنساني، حيث من المعلوم أن العمل الإغاثي يتركز عادة في العاصمة أكثر من غيرها من المدن الأخرى والمناطق الريفية. وصلت إلى العاصمة كابول بعد رحلة استغرقت يوما كاملا بواسطة الباص ومكثت فيها عدة أيام، قدمت خلالها بعض المساعدات والصدقات للمساكين والمحتاجين. ورغم سماع أصوات الانفجارات والقصف من المناطق البعيدة، فقد كان الوضع العام في العاصمة كابول شبه مستقر وكانت الحياة طبيعية. كانت كابول مختلفة تماما عن مدينة قندهار، فكابول مدينة منظمة حديثة، شوارعها مرصوفة وواسعة ونظيفة ومشجرة بالأشجار الجميلة، كانت المباني جديدة وجميلة.
وكنت أرى الناس وهم يتجولون في شوارع العاصمة، وكانت الأسواق مليئة بالبضائع وكانت النساء يشترين من الأسواق بكل أمان، قد كنت أرى الأطفال وهم يلعبون بفرح وأمان فتذكرت ابنتي هاجر وتمنيت لها السعادة والخير.
كان الناس يلبسون ملابس نظيفة على خلاف ما رأيته في قندهار.
كانت الجبال تحيط بالعاصمة كابل، لذا فقد كان جوها بالنهار جميلا ومائلا إلى البرودة، وأما بالليل فقد كان الجو بارداً. وكان الهواء نظيفا نقيا، أما قندهار فقد كان طقسها حاراً بالنهار ومعتدلا بالليل، وأما الهواء فلم يكن صحيا بل كان مغبرا لأن الشوارع لم تكن مرصوفة بل كانت تعلوها الأتربة.
((( الخروج من كابول )))
كانت الأحداث في أفغانستان تتسارع بشكل غير متوقع، وأيقن الناس أن كابول ستسقط لا محالة في أيدي الميليشيات الشمالية التي يطلقون عليها لقب المخالفين.
كانت الميليشيات الشمالية تنتمي إلى العرق الطاجيكي والفارسي وكان هؤلاء يكنون عداوة شديدة جداً للعرب ويحمّلونهم مسئولية مقتل القائد الأفغاني الطاجيكي أحمد شاه مسعود، لذا فقد كانوا يتحينون الفرصة ويتمنون أسر أي عربي للانتقام لمقتل قائدهم وزعيمهم. فلما أحس العرب بأن الوضع لم يعد آمنا، بدؤوا بالخروج من أفغانستان، وعندها قررت عدم البقاء في العاصمة فخرجت إلى المناطق الريفية على أمل أن أتمكن من مغادرة أفغانستان إذا ساءت الأحوال. وقد صدقت التوقعات، فبعد خروجي من كابول بأيام قليلة، سقطت العاصمة الأفغانية في أيدي الميليشيات الشمالية التي عاثت فيها فسادا ودماراً، وقامت بالانتقام من العرب الذين وقعوا في قبضتهم، وقاموا بقتل العديد من الأفغان من الأصول البشتونية، والذين يسكنون المناطق الجنوبية والشرقية المحاذية لباكستان. كان الشماليون يقتلون الناس على الهوية وعلى الهيئة، لذا فقط سارع الكثيرون من الأفغان إلى حلق لحاهم ولبس البنطلون بدلا من اللباس الأفغاني التقليدي وذلك حتى يسلموا من القتل والانتقام العشوائي.
((( البحث عن العرب )))
في ظل هذه الفوضى العارمة، كان قرار التحرك شمالاً أو جنوباً وشرقاً أو غرباً ليس سهلاً، فقد
يقودك الطريق إلى بر الأمان، وقد يوقعك في أيدي القوت التي تبحث عن العرب لقتلهم أو تسليمهم للأمريكان للحصول على المكافآت المالية التي رصدت لمن يأتي بأي عربي حيا أو ميتاً.
أصبح العرب بين فكي كماشة، فالأمريكيون يودون البطش بهم انتقاما لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، والميليشيات الأفغانية الشمالية يبحثون عنهم لينتقموا لمقتل أحمد شاه مسعود والحصول على الجوائز والمكافآت.(2/121)
ورغم عدم صلتي لي بهجمات سبتمبر ولا بمقتل مسعود، إلا أن كوني عربياً كان يكفي لتعرضي للخطر، لذا كان الوضع يستدعي الخروج بسرعة من هذا المأزق، فكيف سيفهم الأمريكان والشماليون أنني بريء من كلتا التهمتين .
كان من حسن حظي أن التقيت في هذه الأثناء بالأخ عمر رجب الكويتي والأخ عبد الهادي السبيعي السعودي، فقررنا التحرك معاً وبدأنا نتنقل ببطء وحذر من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى أخرى أملا في الوصول إلى الحدود الباكستانية.
((( الاستعانة بدليل أفغاني )))
بلغ القصف الأمريكي ذروته، وكانت الطائرات تقصف كل شيء بشكل عشوائي ودون تمييز، وسقط آلاف الضحايا من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ.
وقد سمعت من الإعلامي سامي الحاج مصور قناة الجزيرة والذي التقيته في معتقل غوانتنامو، بأن بعض القرى قد مسحت عن بكرة أبيها. وقد صورت قناة الجزيرة بعض هذه المجازر وغطت الأحداث بالتفصيل، فعاقبت القوات الأمريكية قناة الجزيرة بإيداع سامي الحاج معتقل غوانتنامو، رغم كونه مجرد إعلامي ينقل الحدث بكل موضوعية وحرفية.
وصلنا مع الأخوين عمر وعبدالهادي إلى إحدى القرى، ولما علم الأهالي بوصول ضيوف من العرب استقبلونا أحسن استقبال وأكرمونا وضيفونا في بيوتهم. وفي اليوم التالي أخبرناهم بأننا قد نتعرض للخطر إذا ما وقعنا في أيدي المخالفين، فطمأنونا ووعدونا بأنهم سيساعدوننا في الوصول إلى باكستان.
وبالفعل فقد كلفوا اثنين من رجال القرية ليرافقانا أثناء رحلة الخروج.
ولأن السفر بواسطة السيارات غير آمن وذلك لوجود الكثير من الحواجز العسكرية في الطريق، كان من الأسلم لنا أن نخرج مشيا على الأقدام عبر القرى حتى نصل إلى باكستان.
وقد أمّن لنا أهل القرية الملابس الأفغانية وزودونا بالطعام والشراب والملابس الشتوية وقاموا بالواجب نحونا خير قيام فجزاهم الله خيرا.
كان الدليلان يعرفان القرى التي نمر بها ويتجنبان المرور بالقرى غير المأمونة والتي قد يغدر بنا أهلها.
وكان الناس في القرى التي نمر بها يكرموننا ويقدمون لنا الطعام والشراب والمأوى والمبيت، وبقي هذان الدليلان معنا حتى اقتربنا من إلى الحدود الباكستانية. جاء بعد ذلك أحد الأفغان وعرض أن يقوم بتوصيلنا إلى سفارات بلادنا مقابل مبلغ من المال، وقد أراد الدليلان أن يقدما له المال، ولكننا شكرناهم وأخبرناهم بأننا سنقدم له المال بأنفسنا عندما نصل إلى سفاراتنا آمنين. بدأنا السير مع الدليل الجديد عبر المناطق الحدودية الوعرة حتى دخلنا الأراضي الباكستانية.
خلال رحلة الخروج قطعنا الكثير من الوديان والغابات والجبال والأنهار.
كان الجو باردا جدا، وقد نزل علينا المطر والثلج. وقد اضطررنا في المراحل الأخيرة من الرحلة أن نمر عبر جبال وعرة شاهقة جدا بلغ ارتفاعها حوالي أربعة آلاف متر.
كنا نسير في الثلج الذي يصل مستواه إلى الركبة، وأحياناً إلى الفخذ والحوض.
كانت الرحلة في غاية الصعوبة والمشقة حتى أن الدليل قد اضطر إلى الاستعانة بأدلة آخرين، لتجنب الوقوع في الحفر والسفوح والوديان المغطاة بالثلوج مما يعني موتا محققا.
كان مسيرنا بالنهار حيث أن المشي بالليل كان في غاية الخطورة للأسباب التي ذكرتها آنفاً.
كان شهر رمضان قد دخل علينا أثناء هذه الرحلة، وقد صمنا بعض الأيام واضطررنا للفطر في أيام أخرى وذلك من شدة التعب والجوع، وقد أنهينا في معتقل غوانتنامو قضاء الأيام من شهر رمضان والتي لم نستطع صيامها في أفغانستان.
كان الناس في القرى التي نمر بها في هذه الجبال يرحبون بنا خير ترحيب ويقدمون لنا كل مساعدة ويكرموننا أفضل إكرام رغم فقرهم وحاجتهم. وكان شيوخ القرية وكبراءها يحتفون بنا ويخرجون معنا ويثنون على العرب وما قدموا من مساعدة للشعب الأفغاني، وكانوا يبدون لنا أسفهم الشديد لأنهم لا يستطيعون أن يقدموا لنا المساعدة على أكمل وجه ولا الوقوف معنا في هذه المحنة وذلك بسبب ما تمر به البلاد من فوضى عارمة وتدخل أجنبي، وكانت القرى التي تساعد العرب أو تؤويهم تتعرض للقصف والتدمير، وقد مسحت قرى بأكملها من الخريطة لأنها آوت بعض العرب، حيث قام الوشاة من ضعاف النفوس بالتبليغ عن هذه القرى واتهموا أهلها بالتعاون مع الطالبان، فقام الأمريكان بقصفها بالطائرات ودمروها عن بكرة أبيها. وهذه طبيعة الجنود الأمريكان، فهم من شدة جبنهم لا يواجهون أعداءهم وجها لوجه ولكن يقصفون القرى من بعيد فيقتلون النساء والأطفال والشيوخ.
((( الاختباء عن أعين المرتزقة )))
وعلى النقيض من تلك الصور الرائعة في حب الأفغان للعرب واستعدادهم للمساعدة وتقديم أي خدمة نطلبها، بل وقد كانوا يقولون لنا بأنهم سيفدوننا بالأرواح والأولاد لأننا في نظرهم أبناء الصحابة وقد أتينا من بلاد العرب لمساعدتهم ونجدتهم، كان بعض الأفغان والباكستانيين يتجولون بحثاً عن العرب طمعا في الحصول على المكافآت المالية التي يقدمها الأمريكان لمن يسلم العرب. ورغم حاجتنا إلى الطعام والراحة، فقد كان من الطبيعي أن نختبئ عن الأنظار.
وكنا بدلا من أن نستعين بالمارة، كنا نختبئ عنهم خشية أن يكونوا من المرتزقة المندسين بين النازحين من الأفغان.
ففي حين كان بعض الأفغان يبحث جاهدا عن العرب لتسليمهم للأمريكان، كانت الغالبية من الأفغان يحبون العرب كثيرا ويحتفون بهم ويجلسونهم في صدر المجلس إذا زاروهم، وكان العربي إذا تكلم أصغى الأفغان إليه وأخذوا كلامه بالتصديق والتسليم المطلق. دخل علينا عيد الفطر ولكن لم يكن له طعم العيد الحقيقي عند الأفغان، فرغم أن الناس كانوا يحاولون الفرح والسرور بمقدم العيد، كان سقوط الضحايا الكثيرون من أبنائهم بل وسقوط أفغانستان كلها في أيدي القوات الأمريكية الغازية قد أطفأ الفرحة الحقيقية من قلوبهم ووجوههم.
((( في أيدي القوات الباكستانية )))
بعد مسير طويل رأينا من بعيد نقطة حدودية للجيش الباكستاني، فكان أمامنا خياران فإما أن نذهب للجنود الباكستانيين ونخبرهم بأننا من العرب وأننا نريد الوصول إلى باكستان ومن ثم إلى سفارات بلداننا، وإما أن نختبئ عن أنظار الجنود ونواصل المسير حتى ندخل إلى الأراضي الباكستانية. وحيث أن أوراقنا كانت سليمة وأن دخولنا إلى أفغانستان قد تم بشكل سليم وقانوني، ولأن التعب قد بلغ منا مبلغه ولم نعد قادرين على مواصلة السير نحو المجهول، ولأن الأفغان والمرتزقة والأمريكان والجوع والعطش والتعب كانوا جميعا أعداء لنا يلاحقوننا، فقد قررنا الذهاب إلى الجنود في تلك النقطة لنطلب منهم توصيلنا إلى سفارات بلادنا في باكستان، وارتحنا لهذا القرار الذي لم يكن أمامنا خيار آخر أفضل منه في تلك اللحظة.(2/122)
استقبلنا الجنود الباكستانيون استقبالا طيباً وقدموا لنا الماء والطعام وكان الطعام عبارة عن الخبز والعدس، وأخبرونا بأن نأخذ راحتنا في التجول واستخدام دورات المياه، وطمأنونا أن الأمور ستسير على خير ما يرام، وأنهم سيأخذوننا في الصباح إلى الشرطة حيث سيتم استجوابنا بشكل سطحي لتحديد هوياتنا ثم ستقوم السلطات المختصة بتسليمنا إلى سفارات بلداننا. كان في هذه النقطة الحدودية ضابط باكستاني يتحدث الإنجليزية وكان يطمئننا ويقول بأن الأمر سينتهي على خير، وطلب منا أن نسلمه ما نحمله من أمانات وأغراض شخصية في حوزتنا، حيث سيسلمنا للشرطة الباكستانية والتي ستقوم بدورها بتسليمنا لسفاراتنا، فأعطيته ما كان بحوزتي من جواز السفر والبطاقة الشخصية ورخصة القيادة، وكان يعد معي أموالي الخاصة ويسجل كل شيء في ورقة، ثم وقع على الورقة وطلب مني أن أوقع كذلك ثم وضع الأمانات في كيس من البلاستيك.
((( الغدر الباكستاني )))
بقينا في النقطة الحدودية حتى صباح اليوم التالي في انتظار السيارة التي وعدنا الضابط بتوفيرها لنقلنا إلى مركز الشرطة، ولكن السيارة تحولت إلى طائرة عمودية أرسلتها القوات الباكستانية مع فرقة من القوات الخاصة المسلحة التي ترتدي الملابس السوداء وقد تكون القوات الخاصة بمكافحة الإرهاب، وكان عددهم حوالي الخمسة عشر جنديا، وتسلمونا من النقطة الحدودية، عرفنا حينها أننا قد تعرضنا للغدر والخديعة. قام الجنود بربط أيدينا وأرجلنا من الخلف بحبال غليظة وغطوا أعيننا، ثم حملونا حملاً ورمونا داخل الطائرة. وتم تعيين أربعة جنود داخل الطائرة لحراسة كل واحد منا حيث جلس الجنود على ظهورنا طوال رحلة الطائرة، فكان الأمر شاقا علينا وكانت مفاجأة غير متوقعة.
هبطت الطائرة في مطار بيشاور حيث أخرجونا من الطائرة ورمونا رميا مرة أخرى على أرض المطار وبقينا في العراء مدة ساعتين دون أن يكلمنا أحد من الجنود، وكان ذلك اليوم هو يوم الجمعة حيث كنا نسمع الخطباء يخطبون من المساجد القريبة من المطار. ثم تم حملنا من جديد في إحدى الشاحنات مع عدد من الجنود، ولم نتمكن من معرفة عددهم لأن أعيننا كانت معصوبة، وسارت بنا الشاحنة حوالي عشرين دقيقة إلى أحد مراكز الشرطة، حيث فكوا أرجلنا وقادونا ونحن موثقي الأيدي ومعصوبي الأعين إلى زنازين وهناك فكوا أيدينا وأعيننا فاكتشفنا أننا قد تم إيداعنا في زنازين تقع تحت الأرض عليها أبواب حديدية وعددها حوالي ستة زنازين صغيرة وكنا أربعة ألأشخاص في زنزانة واحدة. كانت أرضية الزنزانة وسخة جدا، ومفروشة بسجادة شديدة القذارة. فطلبنا من الحراس أن يعطونا بعض البطانيات فادعوا عدم توفر أي بطانيات لديهم، فطلبنا منهم أن يشتروا لنا من أموالنا بعض البطانيات فرفضوا.
وكان في الزنزانة المجاورة بعض الإخوة الباكستانيين الذين سجنوا لأنهم ساعدوا العرب على الخروج من أفغانستان إلى باكستان، فلما سمعونا نتحدث مع الحراس بشأن البطانيات، تبرعوا ببعض ما عندهم من البطانيات والوسائد والفرش وطلبوا من الجنود أن يقدموها لنا. بقينا في هذا المركز قرابة الأسبوع، كانت المعاملة في هذا السجن سيئة جدا، فلم يكونوا يسمحون لنا بالذهاب إلى الخلاء إلا قليلا، وأما الطعام الذي يقدم لنا فكان سيئا جدا، وهو عبارة عن عدس حار جدا ورغيف واحد في الغداء والعشاء، وأما الفطور فرغيف خبر واحد وبعض الشاي. ولم يكونوا يسمحون لنا بالخروج للوضوء بل كانوا يحضرون لنا الماء في قوارير لنتوضأ في الزنازين وكان ذلك صعبا لأن الماء يتجمع في الزنزانة الضيقة فتضايق المعتقلين ولكن لم يكن أمامنا خيار آخر، وكنا نصلي في الزنزانة صلاة الجماعة والحمد لله. وتم التحقيق معنا من قبل جهاز الاستخبارات الباكستانية الذين أخبرتهم بأنني قد ذهبت إلى أفغانستان من أجل تقديم العون والمساعدة للشعب الأفغاني، فوعدونا خيراً وأخبرونا أنهم سيقومون بالاتصال بسفارات بلداننا لاستلامنا وإرسالنا إلى بلداننا ولم يوجهوا لنا أي اتهام.
2/4
((( اللقاء الأول مع الأمريكان )))
خلال الفترة الذين قضيناهما في سجن بيشاور، أخذنا الباكستانيون لمقابلة أشخاص في جهة لم يحددوها للإجابة على بعض الأسئلة البسيطة التي ستوجه لنا. تم أخذنا إلى إحدى الفيلات، وفوجئنا بأننا نتقابل وجها لوجه مع المحققين الأمريكان، ولكن لم يكن أمامنا خيار آخر سوى التعاون مع المحققين. تم التحقيق معي من قبل رجل وامرأة من المخابرات الأمريكية، كان المحقق من أصل لبناني واسمه عباس ويبلغ من العمر حوالي الخمسين سنة، أبيض اللون مائل إلى الحمرة، وكانت علامات الحقد والبغض تبدو على وجهه، وكان يتحدث العربية بطلاقة ولكن باستهزاء وتكبر وغطرسة، أما المرأة فكانت تتحدث العربية قليلا.
وكنا نأمل أن يتم توجيه بعض الأسئلة العامة لنا ثم يطلق سراحنا.
سألنا الأمريكان عن الاسم والجنسية والعمر والمؤهل وسبب الذهاب إلى أفغانستان وكيفية الدخول وتاريخ الوصول إلى أفغانستان.
بعد الانتهاء من التحقيق، أعادونا إلى سجن مركز الشرطة وبقينا هناك مدة يوم أو يومين. عاود الباكستانيون التحقيق معنا خلال فترة مكوثنا في هذا السجن ثلاث أو أربع مرات.
ثم أحضر لنا الباكستانيون ملابس زرقاء وقالوا لنا بأن ملابسنا التي نلبسها وسخة وأنهم سيقومون بغسلها ثم سيعيدونها لنا. لم تنطلي هذه الخدعة علينا، بل زاد يقيننا من خبث الباكستانيين وغدرهم، ولكن لم تكن أمامنا حيلة أو خيار إلا الاستجابة لمطالبهم طمعاً في انتهاء هذا الكابوس.
((( في قبضة القوات الأمريكية )))
لبسنا الزي الأزرق وهو عبارة عن قطعة واحدة مصنوعة في الكويت.
ثم تم إخراجنا من السجن واحدا تلو الآخر، وتم تقييدنا بالقيود من خلف ظهورنا وتم تعصيب أعيننا وأدخلنا في ميني باص. كانت الساعة حوالي العاشرة ليلاً، وكانت وجهتنا مطار بيشاور الباكستاني. عندما وصلنا إلى المطار سمعنا أصوات الجنود الأمريكان، فتيقنا أننا سنسلم للقوات الأمريكية وأن وعود الباكستانيين بتسليمنا لسفارات بلداننا كانت أكاذيب وخداع.
ورغم أننا كنا نطمئن أنفسنا بأن الباكستانيين لا يمكن أن يسلمونا للأمريكان لأنه لا يعقل أن يسلمونا للكفار الذين يقاتلون الله ورسوله والمسلمين.
ثم إن الباكستانيين قد حققوا معنا بما فيه الكفاية، وأكدوا لنا بأننا أبرياء، وأن رجوعنا إلى بلداننا مسألة وقت، ولكن عندما وصلنا إلى المطار وأصبحنا في قبضة الأمريكان، تلاشت كل الآمال في الباكستانيين وعلمنا أنهم قد خانوا وغدروا، وأيقنا أن مرحلة جديدة من حياتنا قد بدأت منذ تلك اللحظة، وأن الابتلاء الحقيقي قد بدأ الآن، فاحتسبنا ذلك عند الله وصبرنا وقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل، وذكّرنا بعضناً بعضاً بأن الله هو خير حافظاً وأنه هو أرحم الراحمين. كانت أعيننا معصوبة فلم نكن نرى شيئاً، وبدأ الأمريكيون يستعرضون قوتهم وشجاعتهم علينا، فشدوا القيود علينا أكثر واستخدموا معنا وسائل عنيفة وعاملونا بقسوة وشدة، ولم يكن هذا بمستغرب فهم يعتبروننا إرهابيين نستحق القتل والإبادة.
((( الترحيل إلى قندهار )))
تم إدخالنا إلى طائرة شحن عسكرية ذات مراوح وتم إجلاسنا على أرضية الطائرة الصلبة.(2/123)
لم نكن نحن الثلاثة الوحيدون الذين أحضرنا إلى الطائرة فقد اتضح أن عددا من الإخوة العرب قد تم إحضارهم من أماكن وسجون مختلفة في نفس الوقت، حيث كنا نسمع أصواتهم وتقييدهم ولكننا لم نستطع أن نراهم لأن أعيننا كانت معصوبة، ولأن الأمريكان غطوا رؤوسنا بأكياس من الخيش قبل الصعود إلى الطائرة. كانت الرحلة متعبة جداً بسبب القيود الشديدة وطريقة الجلوس على الأرضية الصلبة للطائرة، ولأن الرحلة كانت طويلة والجو كان بارداً، ولكن الله منّ علينا بالصبر والثبات والحمد لله رب العالمين. كانت الوجهة مطار مدينة قندهار الأفغانية.
استغرقت الرحلة حوالي الساعة والنصف، كان ذلك اليوم هو الثامن والعشرين من شهر ديسمبر عام 2001م. تم إنزالنا من الطائرة وإجلاسنا على أرض المطار حفاة الأقدام، وكنا نلبس الزي الأزرق الذي وعدنا الباكستانيون بأنه لباس مؤقت. بقينا جالسين في أماكننا عدة ساعات، ثم نقلنا إلى منطقة أخرى من المطار وبطحنا على الأرض على بطوننا في البرد الشديد لعدة ساعات إضافية.
ثم أخذونا لتحقيق أولي لتحديد هوياتنا وأسمائنا، وقد تعرضنا خلالها للضرب الشديد والإهانة، تم إيداعنا بعد ذلك في معتقل عبارة عن منطقة حجز مسورة بالأسلاك الشائكة وليس بها أي شيء، فكنا نفترش الأرض ونلتحف السماء، ولكن شعورنا بأن الله معنا خفف عنا كثيرا من المعاناة. وفي هذا المعتقل تعرفت للمرة الأولى على الأخوين البحرينيين عبدالله النعيمي وعيسى المرباطي ولم أكن أعرفهما من قبل. جلسنا تلك الليلة في المعتقل حتى أسفر نور الصباح وكانت الحراسة علينا مشددة جداً.
بعد بزوغ الفجر رأينا عدداً كبيراً من الإخوة العرب الذين اعتقلوا من أماكن متفرقة. تم التحقيق معنا مرة أخرى في اليوم الثاني، كانت الأسئلة تركز على السيرة الذاتية ولماذا ذهبت إلى أفغانستان ومتى، ولماذا خرجت من أفغانستان؟ ومتى؟ وكيف؟.
بقينا في معتقل قندهار قرابة الثلاثة أسابيع تعرضنا خلالها إلى صنوف العذاب.
كان من المضايقات التي تعرضنا لها أنهم لا يقدمون لنا من الطعام إلا القليل من الوجبات العسكرية، وكانوا يمنعوننا من النوم بالليل حيث كانوا يوقظوننا أكثر من خمس مرات كل ليلة بحجة التأكد من عدد المعتقلين وعدم هروب أحد منا، وكانوا يزعجوننا بالأصوات الصاخبة والأنوار العالية.
تم تعذيب المعتقلين بالكهرباء والضرب والوضع في السجن الانفرادي لفترة طويلة، كان السجن الانفرادي عبارة عن صناديق خشبية مصمتة تماماً، وكانوا يحرموننا من الطعام لمدة يومين أو ثلاثة.
((( إلى غوانتنامو )))
في أحد الأيام أخذت أنا وبعض الإخوة ليلاً من بين باقي المعتقلين، وبعد تقييدنا بشدة، تم نقلنا إلى معتقل آخر شبيه بالمعتقل الأول من حيث كونه منطقة محاطة بأسلاك شائكة حيث بقينا فيه حتى صباح اليوم الثاني.
وفي الصباح تم تقييدنا من الخلف وأخذنا إلى داخل الخيام الملحقة بالسجن حيث تم حلق شعر رأسنا ولحانا ثم ألبسونا ملابس برتقالية بدلاً من الملابس الزرقاء. لم نعرف حتى تلك اللحظة ما الأمر أو إلى أين سيتم نقلنا.
في هذا المكان تعرفت للمرة الأولى على أخي جمعة المرباطي الذي كان رفيق دربي إلى معسكر غوانتنامو وكنا أول البحرينيين الذين نقلنا إلى ذلك المعسكر، وثالث دفعة من المعتقلين الذين أرسلوا إلى معتقل غوانتنامو
تم إغماض أعيننا وآذاننا وأفواهنا، ثم قيدونا مرة أخرى ولكن هذه المرة بطريقة أشد حيث استخدموا قيوداً حديدية وأقفالاً، ثم ربطت أيدينا إلى بطوننا بسلاسل وأقفال، ثم وضعونا في ساحة خلفية من المطار، وبقينا جالسين في العراء من العصر وحتى منتصف الليل تقريباً ونحن معصوبي الأعين والآذان. أخذنا إلى إحدى طائرات الشحن العسكرية وكانت المقاعد على جانبي الطائرة، وتم تقييد أيدينا إلى المقاعد وأرجلنا إلى أرضية الطائرة، وفي هذه المرة قاموا بتكميم أفواهنا بكمامات. أقلعت الطائرة مدة ثلاث ساعات ثم حطت في أحد المطارات، حيث نقلنا إلى طائرة شحن عسكرية أخرى دون أن يرفعوا الغطاء عن أعيننا أو يفكوا قيودنا.
تم تقييدنا من جديد كالمرة الأولى ولكن بطريقة أشد، وكانت المقاعد في هذه الطائرة أسوأ من المرة الماضية فهي عبارة عن قماش فقط، انتظرنا في الطائرة قرابة الست ساعات وحتى الفجر حسب اعتقادي، فصلينا الفجر ثم أحسست بشروق الشمس.
أقلعت الطائرة في رحلة طويلة ومرهقة استغرقت قرابة الأربع والعشرين ساعة أو أكثر لم نتمكن خلالها من استخدام دورات المياه ولم يقدم لنا الماء أو الطعام ولم يسمح لنا بالكلام أو الحركة، كان التعب والإعياء قد بلغ مني مبلغه وانتفخت يداي ورجلاي من شدة الربط وطول مدة القيد، كانت وجهة الطائرة هي معتقل غوانتنامو.
أنزلونا من الطائرة، وتم ضربنا ضربا مبرحا ونحن معصوبي الأعين والأذن والفم واليدين والرجلين.
ثم وضعنا في باصات وأجلسنا على أرضية الباص حيث لم تكن هناك مقاعد. تم أخذنا بالباصات إلى معتقل X-RAY.
((( معتقل X-RAY)))
كما هو واضح من اسم المعسكر فهو يعني أنه مكشوف تماماً من جميع الجهات، فلا مجال للاختباء فضلاً عن الهرب.
يقع المعسكر في جزء من جزيرة كوبا قبالة ولاية فلوريدا الأمريكية.
وقد تم تشييد المعسكر قريباً من ساحل البحر، وهذا الساحل عبارة عن شواطئ صخرية مرتفعة ومطلة على المحيط الأطلسي. وكانت دوريات خفر السواحل الأمريكية تطوف المياه روحة وإياباً، هذا فضلا عن أبراج المراقبة الكثيرة والتي تحرس المعتقل طوال اليوم.
والمعتقل عبارة عن عدد من الزنازين مقسمة إلى ستة عنابر، وكل عنبر به ستون زنزانة. والمعتقل مبني في أرض فضاء ليس فيه ما يقي من برد الشتاء والمطر أو من حر الصيف والشمس.
والزنزانة مشيدة من الشبك من الجهات الأربع ومن السقف، أما الأرضية فمبنية من الخرسانة.
مساحة الزنزانة حوالي مترين في متر وثمانين سنتيمتراً. للزنزانة باب من حديد وشبك. تحتوي الزنزانة على حصيرة من الإسفنج الرقيق جدا سمكه حوالي نصف سنتيمتر، وقد وضع كل معتقل في زنزانة لوحده وأعطي بطانيتين خفيفتين وشرشف ومنشفة ونعل بلاستك وسطلان أحدهما للماء الذي نستخدمه لكل شيء من الشرب والوضوء والاغتسال والآخر للخلاء وقضاء الحاجة.
وقد كان من أشد الأمور التي تضايقنا، هي أننا لا نستطيع أن نختلي لقضاء الحاجة.
بقينا طوال سنوات الاعتقال بالملابس البرتقالية التي كانت تغسل من حين لآخر وبشكل متقطع.
يمكن اعتبار المعسكر حقل للتجارب النفسية والبدنية على البشر لاختبار قوة التحمل عندهم ولعمل التجارب والاختبارات التي تريد القوات الأمريكية تعميمها في حالة ثبت نجاح التجربة على معتقلي غوانتنامو.
في بداية إيداعنا المعتقل المذكور قام الجنود بضربنا بشدة، ثم عرضنا على الطبيب، وتم تصويرنا وأخذ بصماتنا وتغيير ملابسنا، ثم وضعنا في الزنازين قبيل المغرب.(2/124)
لقد حمدت الله على الطمأنينة والشعور بالثبات والذي كنت أشعر به في ذلك الوقت، والذي كنت في أمس الحاجة له، فليس من السهل أن تتصور نفسك وقد تعرضت لكل هذا الغدر والخيانة ممن تظنهم إخوانك في الدين ثم تجد نفسك في أقصى الأرض بين يدي أعدائك وفي هذه الزنازين القاسية ولا يدري عنك أحد من البشر وما تتعرض له من التعذيب والإهانة طوال الوقت، وأنت بين يدي الجلاد إن شاء قتلك وإن شاء عذبك وإن شاء فعل بك الأفاعيل على غفلة من البشر، ولكن الله شرح صدري وأسبغ علي الثبات والسكينة فحمدت الله منذ اللحظة الأولى على ما أصابني، وتذكرت نبي الله يوسف عليه السلام وقلت في نفسي ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه من الزيغ عن ديني.ويكثر في المعتقل وجود الزواحف والثعابين والعقارب والفئران والحشرات التي تزورنا في الزنازين.
وكانت الأنوار القوية المسلطة والمضاءة طوال الليل لا تمنعنا من القدرة على النوم فحسب، بل وتجلب البعوض الذي يمنعنا من النوم أيضا.
لقد تم تصميم المعسكر بطريقة تهدف إلى زيادة الضغط النفسي على المعتقلين وإضعاف عزائمهم وكسر معنوياتهم، وفوق كل ذلك فقد كان الجنود يتعمدون إزعاجنا وتشغيل مكبرات الصوت العالية لمنعنا من النوم، ولكننا مع الوقت اكتسبنا مناعة ضد كل ما مر ولم نعد نلقي لها بالاً.
((( محققو FBI و CIA )))
بدأ المحققون منذ اليوم الأول في استخدام شتى أساليب الضغط النفسي معنا، فلم يسمح لنا بالوقوف أو المشي أو الانبطاح، ولم يسمح لنا بالحديث مع المعتقلين في الزنازين المجاورة ولا حتى النظر إليهم أو الالتفات لهم إلا بعد مرور خمسة أيام تقريباً من وضعنا في الزنازين، عندها شعرنا بالطمأنينة والراحة النفسية، فبدأنا بالتبسم والسرور النفسي.
وقد أخبرنا المعتقلون الذين أحضروا إلى هذا المعتقل قبلنا، فإنهم لم يسمح لهم بالكلام إلا بعد مرور أسبوعين على اعتقالهم. ولما رأى الجنود هذه الروح العجيبة، كانوا يسألوننا كيف تضحكون وأنتم في هذه الحال، ثم بدؤوا يتشددون في معاملتنا من جديد ويأمروننا بعدم الإكثار من الكلام.
في بداية الأمر كان أمر الاعتقال والسجن شديداً جداً على نفسي، حيث كانت المرة الأولى في حياتي التي أدخل فيها السجن، وكنت أشعر بشيء من التوجس من المجهول، ولكن هذا الخوف والتردد زال بعد ذلك. تم أخذي عدة مرات للتحقيق ولم تختلف الأسئلة عن السابق حيث كانوا يسألونني عن السبب والكيفية التي ذهبت بها إلى أفغانستان، وكنت أجيبهم على قدر السؤال.
وقد تم التحقيق معي من قبل عملاء FBI و CIA، كان المترجم الذي يترجم خلال جلسات التحقيق من أصل عربي واسمه علي. أذكر أن المحققين وعددهم أربعة عندما أخبروني بأنهم من FBI و CIA قلت لهم وما يدريني أنكم كذلك، وطلبت منهم أن يخرجوا هوياتهم لكي أتأكد من الأسماء والصور، فتعجبوا من طلبي ومن ثقتي بنفسي رغم أنني في قبضتهم وبين مخالبهم، وقد استجابوا لطلبي وأخرجوا بطاقاتهم الرسمية. ولأنني كنت موثوق اليدين والرجلين ولم أستطع مسك هوياتهم، قام المترجم علي بإطلاعي على البطاقات الواحدة تلو الأخرى وتعريفي على صاحبها فكنت أتأكد من الاسم والصورة وكان العمل. كان الهدف من التحقيق هو إقناعي بأنني إرهابي مجرم، وأنني قد ارتكبت جرماً عظيماً بحق أمريكا والإنسانية. وكنت أسألهم عن التهمة الرسمية الموجهة إلي، فكانوا لا يجيبون على هذا السؤال بل يقولون بأنني من تنظيم القاعدة ومن أتباع أسامة بن لادن، فقلت لهم أنني لا أعرف القاعدة ولا أسامة بن لادن وأنكم لم قبضوا علي في أفغانستان ولم يكن بحوزتي أي سلاح لحظة القبض علي في باكستان، وكانوا يقولون بأن لديهم أدلة سرية على إدانتي وأنهم لا يستطيعون البوح بها، وأن من واجبي أن أدافع عن نفسي وأن أدفع التهمة الموجهة إلي، فقلت لهم بأنني لا أعرف التهمة بالتحديد وأنكم ترفضون البوح بالأدلة السرية التي تدعون أنكم تملكونها. عند ذلك بدأت بالشد والصراخ عليهم مما اضطرهم إلى إلغاء جلسة الاستجواب وإعادتي إلى الزنزانة.
((( إهانة المصحف منذ الأيام الأولى )))
كانت حوادث إهانة المصحف الشريف تتكرر منذ الأيام الأولى في معتقل غوانتنامو.
وقد وقعت إحدى هذه الحوادث أمامي، حيث كان أحد المعتقلين يضع مصحفه على بطانية، فجاء أحد الجنود وقام بشكل متعمد بحركة استفزازية بهدف إثارة المعتقلين، فسحب البطانية وسقط المصحف على الأرض، فثار المعتقلين وبدؤوا بالصراخ والاحتجاج على هذا التصرف الأهوج، وأخبروه بأن هذا كتاب الله وعليه أن يحترم مشاعر المعتقلين ودينهم، فقال مستهزئاً، هل هذا هو كتابكم المقدس! ثم قام بركل المصحف عدة مرات برجله، فغضب الشباب كثيرا، وطلب مني الإخوة أن أوجه له تحذيرا بألا يكرر هذا الفعل، فتكلمت معه بشدة وغضب، فكان يشتمني ويسبني، فقام الإخوة بالتكبير الجماعي بصوت واحد مرتفع جداً، حتى أصيب السجانون بحالة من الرعب، وبدؤوا يركضون ناحية باب المعسكر طلبا للهرب.
عند ذلك خرج الضباط من مكاتبهم ورؤوا المنظر وما أصاب جنودهم من الرعب وسمعوا أصوات التكبير والضرب على شبك الزنازين فتم استنفار الجنود واستدعيت السيارات العسكرية وتمت محاصرة المعتقل بالأسلحة الثقيلة.
كان الأمر مروعا بالنسبة لهم، ولكن في نفس الوقت ارتفعت الروح المعنوية للشباب عندما اكتشفوا أنهم يملكون السلاح الأقوى وهو سلاح التكبير.
بعد ذلك جاءنا المسئولون ليستفسروا عن سبب الغضب والهيجان، فأخبرناهم بما حدث، وحذرناهم من التمادي في مثل هذا التصرف، فوعدونا بأن هذه الحادثة لن تتكرر وطلبوا منا الهدوء، ولأنني كنت المترجم للإخوة حيث كنت أجيد التحدث باللغة الإنجليزية، ظن الأمريكان بأنني كنت المحرك للشغب والعصيان فقاموا بنقلي من هذا العنبر إلى عنبر آخر.
((( الإضراب عن الطعام دفاعاً عن المصحف )))
لقد تكررت حوادث إهانة المصحف طوال سنوات اعتقالنا رغم الوعود الكثيرة بعدم تكرار هذا الأمر. ومن هذه الحوادث أن الجنود دخلوا زنزانة أحد الإخوة المعتقلين أثناء تأديته الصلاة وقاموا بضربه دون مبرر، ثم دخلوا زنزانة أخ آخر بحجة التفتيش وكان الأخ في تلك الأثناء قد أخذ للتحقيق، وقاموا برمي المصحف وإهانته، وكان سبب هذه التصرفات أنهم أرادوا تحطيم معنويات الشباب. فانتشر الخبر بين المعتقلين في جميع العنابر، وقمنا بالاحتجاج الشديد والصراخ والتكبير والضرب على شبك الزنازين، وحاول الجنود والمسئولون جاهدين تهدئة الوضع ووعدوا بعدم تكرار الحادثة، إلا أن الإخوة لم يقبلوا اعتذارهم حيث لم تمض على الحادثة الأولى سوى أيام قلائل. ثم جاء أحد الجنرالات ومر على الزنازين وطلب من الإخوة الهدوء ووعدهم بالتحقيق في الأمر وعدم تكراره، إلا أن الإخوة لم يقبلوا الاعتذار من الجنرال، ثم تشاورنا وقررنا الدخول في إضراب مفتوح عن الطعام احتجاجا على إهانة كتاب الله الكريم.(2/125)
كانت كمية الطعام في كل وجبة لا تزيد عن كأس سعة مائة ملليجرام، ورغم ذلك فلم نكن نشعر بشدة الجوع بل كنا نشعر بأن الطعام يكفينا لأن الله يبارك فيه. كانت الوجبات المقدمة عبارة عن خبزة واحدة أو توست مع بيضة مسلوقة وكأس من الحليب في الفطور، وأما الغداء فكان قليلا من الكورن فليكس وبسكويت وعلبة زبيب وكمية قليلة من المكرونة، وأما العشاء فكان كمية قليلة جدا من الرز أو اللوبيا، ثم غيروا وجبة الغداء إلى الوجبة العسكرية الجاهزة. وقد اكتشفنا بأنهم كانوا يقدمون لنا الوجبات المنتهية الصلاحية والتي كانت في طريقها للإتلاف، وقد كان بعض المعتقلين يشكون من آلام ومغص في المعدة بسبب هذه الأطعمة التي لم نكن نعلم أنها منتهية حتى أخبرنا عنها بعض الجنود الذين تعجبوا بأننا ما زلنا أحياءً وأننا لم نمت بعد، فلما سألناهم عن السبب أخبرونا بأن ما يقدم لنا من طعام منتهي الصلاحية، وقد استمر الحال ونحن نتناول الوجبات المنتهية الصلاحية أكثر من ستة أشهر، ولما علمنا بذلك امتنعنا عن تناول هذه الوجبات، مما اضطرهم إلى التوقف عن تغذيتنا بالوجبات المنتهية الصلاحية. شارك في بداية الإضراب حوالي مائتا أخ، فشق هذا الإضراب على الأمريكان أكثر من المشقة التي كنا نشعر بها، فقد كنا نتلذذ بالذود عن كتاب الله بهذه الطريقة، ولم تكن لدينا وسيلة سوى الإعلان عن احتجاجنا ورفضنا للطعام والشراب. عندما بدأنا الإضراب عن الطعام رداً على التعدي المتكرر على المصحف، جاءنا الضباط عدة مرات وطلبوا منا إنهاء الإضراب، ولما رؤوا إصرارنا على مواصلة الإضراب، جاءنا الجنرال المسئول عن المعتقل وكان يجثو على ركبته أمام الزنازين مناشداً المعتقلين إنهاء الإضراب، وكان يغرينا بتحسين الوجبات وتقديم الدجاج والسمك والشاي في مقابل أن يهدأ الشباب ويفكوا الإضراب، ولكننا لم نعره أي اهتمام.
واستمر الإضراب وعدم التجاوب لمناشداتهم مدة أسبوع، ثم قامت إدارة المعتقل كبادرة حسن نية بتعليق الكمامات التي توضع على الأنف في جميع الزنازين لوضع المصاحف فيها، ومنعت الجنود من لمس المصاحف منعاً باتاً. فتجاوب عدد من المضربين وأنهوا إضرابهم عن الطعام، ورفض آخرون الاستجابة لهم. وبدأ عدد المضربين يتناقص حتى وصل إلى حوالي التسعين، وأما أنا فقد استمررت في الإضراب قرابة الثمانية أيام. بقي حوالي أربعة أفراد لم يفكوا الإضراب حتى قرابة الشهر ثم بقي شخصان على إضرابهم قرابة الخمسين يوماً، ثم بقي واحد من الإخوة على إضرابه عن الطعام حتى أكمل التسعين يوماً، وقد تمت تغذية المعتقلين بواسطة السيلان عن طريق الوريد وأما الذين ساءت حالتهم فقد تمت تغذيتهم عن طريق السوائل والمغذيات بوضع الأنابيب في أنوفهم. وقد مارس السجانون التعذيب على المعتقلين حتى وهم في هذه الحالة الصعبة، فرغم الحالة الصحية التي وصل إليها المضربون والضعف الجسدي الشديد، إلا أن الأطباء لم يرحموهم، فقد كانوا يغرسون أبر التغذية في أيديهم بكل قسوة وغلظة عدة مرات حتى أن الإخوة كانوا يصرخون من شدة الألم وكان الأطباء يكذبون ويعتذرون بأنهم لم يجدوا الوريد بسهولة. بعد ذلك بدأت إدارة السجن في تحسين نوعية الطعام وكميته، وقدموا لنا الدجاج والسمك واللحم ولكن بكميات قليلة جداً.
كان لحادثة الإضراب فوائد ودروس كثيرة فقد أيقنا أن الله قد أعزنا عندما أعززنا كتابه، وأن عزتنا كانت مرتبطة تماما بعزة القرآن الكريم، وقد استفدنا من هذه الحادثة في التعامل مع إدارة المعتقل وفي التعاطي مع القضايا التي تمر بنا خلال فترات الاعتقال. وقد أيقنا أننا نحن الأعزة وإن كنا في هذه الزنازين، وأنهم هم الأذلة وإن كانوا يلبسون الملابس العسكرية ويتدججون بأحدث الأسلحة. وكنا بعد هذه الحادثة لا نقبل الدنية في ديننا، حيث كنا قبل هذه الحادثة لا يسمح لنا بالصلاة وقوفاً، ولا بالجهر في الصلاة، ولا برفع الصوت في قراءة القرآن، ولا بالتحدث مع المعتقلين في الزنازين المجاورة، أما بعد الحادثة وما تلاها من الإضراب، فقد كان الجنود يطلبون منا الجلوس أو خفض الصوت ولكننا كنا نطردهم ونقسو عليهم، بل وكنا نصلي الصلوات جماعة كل في زنزانته، وكان الجنود يتحاشون التعرض لنا واستفزازنا خشية التمرد والإضراب. وكنا بعد تلك الحادثة نقيم شعائرنا الدينية بكل حرية، ولم يكن أحد منهم يجرؤ على التعرض لديننا خوفاً من الإضراب والتمرد والتعنيف الذي سيناله الجنود من المعتقلين مما يضطره بعد ذلك إلى الهرب والبقاء بعيداً عن الزنازين. وأسأل الله أن يؤجر جميع الإخوة على غيرتهم ودفاعهم عن كتاب الله.
((( ممارسة الرياضة )))
كانت إدارة السجن لا تسمح للمعتقل بممارسة رياضة المشي، وقد تم تحديد مدة الرياضة خلال السنتين أو الثلاث الأولى بحوالي ربع ساعة مرتين في الأسبوع ، ثم في السنة الثالثة أصبح مجموع الفترة التي منحوها لنا للمشي هي ثلاث مرات كل أسبوع ولمدة ثلث ساعة في كل مرة. ومنحونا فترة خمس دقائق للاستحمام بعد كل فترة مشي. كانت ممارسة الرياضة جزءاً من العذاب أكثر منها متعة وتنفيساً، فقد كان المعتقل إذا طلب منحه فترة لممارسة المشي، كان الجنود يشدون عليه أكثر، ويقيدون يده أثناء المشي، ويطلبون منه أن ينكس رأسه، لذا فقد كنت لا أرغب بالخروج للرياضة إلا نادراً، وكان معظم الإخوة كذلك لا يطلبون الخروج للرياضة، وأما بعض الذين كانوا يخرجون للمشي فقد كان مقصدهم رؤية باقي المعتقلين من العنابر الأخرى والسلام عليهم.
((( الخدمات الطبية )))
كانت الخدمات الطبية المقدمة للمعتقلين في غاية السوء، بل إن الأطباء كانوا يشكلون جزءاً من فريق التعذيب.
لقد كان بعض الإخوة يصابون بالأمراض والآلام الشديدة فيطلبون تحويلهم إلى العيادة التابعة للمعتقل، ولكن طلبهم كان يقابل بالرفض دائماً، فإذا ما أصر المريض على زيارة العيادة، كان لا يلقى العناية الطبية ولا التشخيص الجاد ولا الدواء المناسب، بل إن بعض المعتقلين تضرروا من العلاج الذي قدمه لهم الأطباء.
وقد يكون الهدف هو تطفيش المريض وجعله يتجنب طلب زيارة العيادة، وبالفعل فقد كان المعتقلون يتحاشون زيارة العيادة أو طلب رؤية الأطباء قدر المستطاع لانعدام الثقة والأمان منهم. كما أن الأمريكان قد أرادوا أن يجعلوا من المعتقلين حقل تجارب يجربون علينا العقاقير الجديدة قبل بيعها في الأسواق. ومن المؤكد أن الأطباء كانوا يقدمون لنا بعض الأدوية المنتهية الصلاحية. كان الأطباء جزارين كذابين، حيث كانوا يحاولون إقناع بعض الإخوة الجرحى والمصابين بجروح في أرجلهم وأيديهم بأن من الأفضل بتر أطرافهم حتى لا تصاب بالغرغرينا، لكن الإخوة كانوا يرفضون ذلك رفضاً قاطعاً.
وقد كان الأطباء النفسيون يحاولون إيهام المعتقلين بأنهم في وضع نفسي خطير وأنهم ينصحونهم بتناول بعض العقاقير المهدأة، إلا أننا كنا نرفض الموافقة على تناولها.
كان الأمريكيون مجرمون بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، فقد كانوا يتفننون في أساليب التعذيب النفسي والجسدي، ولولا فضل الله علينا وحفظه لنا، لكنا في عداد الأموات، أو ربما أصابنا الجنون والأمراض النفسية والعصبية.
3/4
((( مسيلمة الكذاب في غوانتنامو )))(2/126)
كان في المعتقل مرشد ديني بنغالي الأصل اسمه سيف وهو ضابط برتبة نقيب، وكان يقول لنا أنه أخونا في الإسلام، وأنه يريد مساعدتنا، وأن الإفراج عنا قد أصبح قريباً جداً. وكنا نقول له أنه أشبه بمسيلمة الكذاب، وأنه يجب أن يخجل من نفسه بعمله مع الكفار الذين يعذبون من يدّعي أنهم إخوانه. كان هذا المسيلمة وبعض المترجمين العرب ممن كانوا يعملون مع المحققين يشيعون بين المعتقلين بأن الإفراج عنهم قد أصبح قريباً، وكان بعض الإخوة يتناقلون هذه الإشاعات رغبة في رفع المعنويات، وكنا نحذرهم من تصديق هذه الأقاويل لأنهم إنما يهدفون إلى تهدئتنا بهذه الإشاعات، وأننا لم نر من الأمريكان خيرا ولا صدقاً منذ وقعنا في أسرهم، فلماذا يصدقون معنا هذه المرة.
((( بداية التململ في معسكر X-RAY )))
بدأ الشباب يتململون من طول البقاء في هذا المعسكر الرهيب وعدم معرفة المصير الذي ينتظرنا.
فلم تكن الأمور واضحة ولم تكن تلوح في الأفق نهاية لهذا الكابوس. وبدأنا في التمرد وإزعاج الجنود والسؤال عن مصيرنا، وكنا نقول لهم إن كانت عندكم تهماً محددة ضدنا قدمونا للمحاكمة، وإلا فأطلقوا سراحنا. فكان الضباط والجنود يأتون لنا ويطمئنوننا بأن المحاكمات قريبة وأن من لم تثبت عليه تهمة الانتماء لتنظيم القاعدة سيفرج عنه قريباً، وأن الكونجرس الأمريكي قد بدأ في مناقشة ظروف الاعتقال وسن القوانين المتعلقة بنا.
((( من معسكر X-RAY إلى معسكر دلتا )))
بعد انقضاء أربعة أشهر من الاعتقال في معسكر X-RAY ، بدأ الجنود يتعاملون معنا بلطف وتهدئة، وكانوا يتجنبون استفزازنا، وعرفنا بعد ذلك أن الأمريكان كانوا يجهزون لنا معتقلا جديداً، لأنهم اكتشفوا أن تصميم الزنازين في معسكر X-RAY غير آمن، وأن الشبك المستخدم في بناء الزنازين لم يكن قوياً بما فيه الكفاية، فكانوا يخافون من أن يتمرد المعتقلون ويقوموا بفك الشبك وتحصل مواجهة بين المعتقلين والجنود، لذا فقد تم تصميم معسكر آخر وهو معسكر دلتا حيث تلافوا العيوب في المعسكر السابق، وكان هذا المعسكر أكثر إحكاما وشدة. وقد قضينا باقي فترة الاعتقال في معتقل غوانتنامو في معسكر دلتا، وكانت مدتها قرابة الثلاث سنوات وسبعة أشهر.
((( تصميم الزنازين في المعسكر دلتا )))
كانت الزنزانة في معسكر دلتا مصنوعة من نوع مزعج من الشبك، لأن الفتحات كانت صغيرة وحلزونية الشكل وذات مقاس بوصة مربعة واحدة فقط، فكان يتعب الرائي من داخل الزنزانة إلى الخارج.
كانت مساحة الزنزانة مترين في متر وثمانين سنتيمتر، وكان بالزنزانة سرير حديدي مرتفع عن الأرض قرابة المتر، ويوجد في نهاية الزنزانة مرحاض أرضي ومغسلة صغيرة بها حنفية، والمساحة المتاحة للحركة داخل الزنزانة لا تتعدى متراً مربعاً واحداً تقريباً.
لقد صمم المعسكر دلتا بطريقة تهدف إلى كسر معنوياتنا حيث أن المعسكر يدار من قبل أطباء نفسانيين متخصصين في أساليب التعذيب النفسي التي قد تؤدي بالمعتقلين إلى الانهيار العصبي أو الجنون.
كان الوضع في المعسكر دلتا أكثر سوءاً من معسكر X-RAY.
ان المعسكر مطوقاً بأسلاك شائكة متعددة، وكانت هناك قرابة ستة حواجز أمنية بها حراسات من الأبراج وحراسات بين كل طوق من الشبك وحراسات خارجية وكاميرات مراقبة. كان المعسكر محكماً وشديداً جداً. كانت الإضاءة قوية جدا في المعتقل، وكانت الأنوار موجهة لكل زنزانة على حدة، ورغم أن المعسكر كان مشيّدا على ساحل البحر إلا أننا كنا محرومين من رؤية البحر لأن إدارة السجن قد وضعت سواتر على السياج الخارجي للسجن وذلك لمنعنا من النظر إلى الخارج.
بدأ الجنود يشدون علينا من جديد في محاولة منهم لاستعادة جزء من هيبتهم التي فقدوها في الفترة الماضية، ورغبة منهم في معاقبة المعتقلين على ما قاموا به من تمرد واحتجاجات. ولكنهم لم يفلحوا في هذه المرة كذلك، حيث أننا قد تخطينا مرحلة الخوف من الجنود والعقاب منذ التجارب التي مرت بنا في معسكر X-RAY.
وبدأ الجنود كذلك يتمادون في الاستهزاء بالشعائر الدينية والاعتداء على المصحف، فعاد الإخوة للتمرد والاحتجاج. كانت الإدارة تمنعنا من معرفة الوقت والتاريخ ودخول المواسم الدينية كرمضان والعيد وبداية العام وغيرها، لذلك فقد كنا نعتمد على أنفسنا في تحديد مواقيت الصلاة ودخول الأشهر وحلول المواسم الدينية، وكنا نوفق ولله الحمد إلى ذلك بصورة شبه دقيقة. وقد كانت إدارة السجن تتعمد افتعال المشاكل معنا، فكانوا على سبيل المثال يجعلون المجندات من النساء يتجمعن في أماكن اغتسال المعتقلين من أجل استفزازهم، فكان المعتقلون يرفضون الخروج للاغتسال احتجاجا على تواجد النساء. كما كانت المجندات يرافقن المعتقلين عندما يخرجون لممارسة رياضة المشي، فأضربنا عن الرياضة كذلك. واستمر الإضراب لفترة من الوقت وقمنا بالاحتجاج على هذه الممارسات السخيفة، حتى اضطرت الإدارة للانصياع لمطالبنا ومنع المجندات من القيام بهذه الأعمال.
((( من السجان؟ ومن المسجون؟ )))
كان الجنود يقضون نهارهم وليلهم في اللهو ومعاقرة الخمر والنساء والرقص والملذات التي يظنون أنها ستخفف عنهم ما يقاسون من ضغط نفسي، فقد كانوا في حكم المنفيين مثلنا تماما أو أكثر. فلقد ترك الجنود بيوتهم وديارهم وأسرهم إلى هذا المكان النائي، وواجهوا ظرفا لم يكونوا يتوقعونه من قسوة الحياة وصعوبة التعامل معنا، لذا فقد كانوا يعدون الأيام والليالي للعودة إلى بيوتهم لأن الوقت يمر عليهم ببطء شديد. كان الجنود يمارسون أساليب الضغط المختلفة علينا كجزء من برنامج الترفيه النفسي، ففي الوقت الذي كانوا يشعرون بكل هذا العذاب، كانوا يشاهدون المعتقلين وهم في أحسن حال يصلّون ويقرؤون القرآن ويضحكون وينشدون ويقيمون البرامج الترفيهية ويحتفلون بالمناسبات الإسلامية كالأعياد.
وعندما يبدأ الإخوة في التمرد والصراخ والضرب على الشبك كان الجنود يفرون كالمجانين أو كالفريسة التي تفر من الوحش الكاسر، فألقى الله الرعب في قلوبهم من أناس مأسورين في الزنازين ولا حول لهم ولا قوة لهم.
أدى كل هذا إلى رد فعل عكسي على الجنود، وأصبحنا كأننا نحن السجانين وهم المساجين، رغم ما كان يقدم لهم من تسهيلات وتسلية للتخفيف عنهم مما يمرون به، ولكن السر الذي لم يكونوا يستوعبونه ولا يستطيعون فهمه هو أننا في معيّة الله وهم في معيّة الشيطان. تحول الوضع مع الزمن إلى تجلد وقوة وهمة عالية للمعتقلين، وأمراض نفسية واكتئاب وتعب شديد للجنود، وبدؤوا ينهارون ويبكون ويأتون إلى بعض الإخوة عند الزنازين يشتكون من إدارة السجن، وكانوا يقولون بأنهم يتمنون الموت من سوء الوضع النفسي الذي يمرون به وأنهم نادمون لموافقتهم على العمل في هذا المعسكر.
كان الجنود يدّعون بأن إدارة السجن تفرض عليهم التعامل معنا بهذا الأسلوب، وكان بعضهم يحاول أن يتجنب التصادم مع المعتقلين واستفزازهم. وكان رئيس النوبة عندما يأتي لاستلام نوبة العمل، يأتي إلى المعتقلين يرجوهم أن يكونوا هادئين خلال فترة نوبته في مقابل أن يقدم لهم كل عون ومساعدة لأي طلب يريدونه من زيادة كمية الطعام وإطفاء الأنوار أثناء النوم، وإعادة الأغراض الشخصية للمعتقلين الذين عوقبوا بمصادرتها كالفرش وغيره.(2/127)
وقد أدى هذا الموقف إلى رفع معنويات الإخوة المعتقلين لأن السحر قد انقلب على الساحر وأن الله قد أذل أعداءه وثبّت أولياءه. وبدلاً من أن يتعب الإخوة وينهاروا فإن الجنود هم الذين تعبوا وانهاروا فعلاً. وكنا نذكّر بعضنا بعضاً بأن هذا كله من فضل الله وحده وليس بسبب قوتنا وتحملنا، ولا شك بأن التزام الإخوة بأداء الصلوات المكتوبات والسنن وقيام الليل وصيام النوافل والالتزام بالأذكار في أوقات الصباح والمساء والمداومة على قراءة القرآن وحفظه، كان له أكبر الأثر في تثبيتنا على مبادئنا الإسلامية.
((( مدير السجن الجديد يهودي )))
في أكتوبر 2002م تم تغيير مدير السجن إلى الجنرال اليهودي هود ميللر الذي جاء بكل غطرسة وتجبر وكانت لديه أجندة خاصة لإجبارنا على الانصياع إلى أوامره، ولكن المعتقلين قابلوا هذا الجنرال بمزيد من العناد والتصلب وعدم التنازل أو الرضوخ إلى مطالبه. وعادت الأساليب الرخيصة من الاستهزاء بالدين والشد على المعتقلين واستفزازهم، وكنا نرد عليهم بالرش بالماء والقاذورات من خلف الزنازين ورفع الصوت عليهم والتكبير، وهكذا كنا في كر وفر معهم، هم في الفضاء الفسيح ولكن أرواحهم مهزومة، ونحن في الزنازين الضيقة ولكن أرواحنا محلقة في الأعالي.
((( الزنازين الانفرادية )))
الزنزانة الانفرادية عبارة عن سجن من الحديد المصمت وهي محكمة الإغلاق من جميع الجهات ولا يوجد بها نوافذ. ويوجد بالزنزانة سرير حديدي ومغسلة ومرحاض، بالباب الحديدي للزنزانة فتحة صغيرة عليها شبك وفتحة أخرى لإدخال الطعام وكلا الفتحتين مغلقتين معظم الوقت، أبعاد الزنزانة مترين في متر وثمانين سنتيمتراً.
فإذا ما نقّصنا المساحة التي يوضع بها السرير والمغسلة فإن المساحة المتبقية للمعتقل في الزنزانة الانفرادية للمشي والحركة والصلاة عبارة عن متر مربع واحد فقط. وأما فعبارة عن مكيف، فإذا ما أرادوا مضايقة المعتقل فإنهم يرفعون درجة البرودة بالزنزانة لتصبح كالثلاجة أو كالفريزر، فتتجمد جدران الزنازين الحديدية حتى أن راحة اليد قد تلتصق بالجدران من شدة البرودة، أو يقومون بإغلاق المكيف لتصبح الزنزانة كالتنور من شدة الحرارة.
((( محاولات الانتحار )))
انت إدارة السجن تشيع بأن بعض المعتقلين قد حاول الانتحار وكانت تسرب هذه الإشاعات للخارج، وقد تكون لهذه الإشاعات مآرب متعددة منها كسر معنويات الإخوة ورفع معنويات الجنود، ومنها تشويه سمعة المعتقلين وأنهم لم يعودوا قادرين على الصمود والصبر، ومنها وهو الأهم أن أي معتقل يموت تحت التعذيب سيقولون بأنه قد حاول الانتحار عدة مرات، وأنهم فشلوا هذه المرة في إنقاذ حياته. والحقيقة أنه لم يحاول أي من المعتقلين الانتحار ولم يفكر حتى بذلك، فكيف يعكف المعتقل على حفظ كتاب الله، بل إن غالبية المعتقلين أتم حفظ كتاب الله في المعتقل، مما يدل على الهمة العالية عند المعتقلين، ثم يقدم على الانتحار وهو يعلم أن المنتحر جزاؤه الخلود في النار. وعلى العكس فقد كان الأطباء يعالجون مرضاهم النفسيين من الجنود الأمريكان ويقدمون لهم العقاقير المهدأة، وكانوا يحاولون جاهدين إقناعهم بالعدول عن فكرة الانتحار، وبالفعل فقد أقدم العديد من الجنود على الانتحار ونجح بعضهم في ذلك.
((( إرجاع المصاحف إلى إدارة السجن )))
بعد تكرر حوادث إهانة المصحف تيقنا بأن إهانة المصحف تأتي ضمن برنامج مخطط وليس بسبب تصرفات فردية من بعض الجنود. ومما يؤكد ذلك قيام المحققين بمعاقبة بعض المعتقلين عندما لا يتجاوبون معهم بسحب المصاحف منهم من قبيل الضغط علينا لكي نتجاوب ونرضخ. وكنا نرفض استخدام كتاب الله كوسيلة من وسائل التعذيب والضغط النفسي على المعتقلين. ورغم أن المصحف كان عزاؤنا وملاذنا وسندنا، إلا أننا تشاورنا وقررنا إرجاع جميع المصاحف إلى إدارة السجن احتجاجا على هذا التصرف. ولما رأت الإدارة بأن جميع المعتقلين متفقون على إرجاع المصاحف، رفضت استلام المصاحف وبدأت في السؤال عن السبب، فأخبرناهم بأن القرآن كتاب الله وهو دستور المسلمين وأننا أحرار في قبول المصاحف أو إرجاعها، ولكن إدارة السجن رفضت سحب المصاحف بل وأرسلت قوات الشغب لإدخال المصاحف علينا بالقوة، وقاموا برش مادة خانقة ومخدرة علينا أثناء دخولهم علينا في الزنازين ولكننا أصررنا على إعادة المصاحف حفاظا عليها من تصرفات الجنود الأوباش.
((( الدور المشبوه للصليب الأحمر )))
كان الصليب الأحمر يشارك في الجريمة التي يتعرض لها الإخوة، وفي تلفيق الأكاذيب ضدنا. وكان موظفو الصليب الأحمر يعينون الجنود أثناء التحقيق باستدراج المعتقلين نفسيا للبوح ببعض المعلومات التي لا يتمكن المحققون من الحصول عليها من المعتقلين أثناء التحقيق. وقد ينخدع المعتقل في بعض الأحيان بأن الصليب الأحمر قد جاء لمساعدته ومن ثم يعطيه بعض المعلومات التي يقوم رجال الصليب الأحمر بنقلها للمحققين.
كنا نشكو للصليب الأحمر بأن الماء الذي نشربه في الزنازين كان ملوثا، وكانوا ينفون ذلك بشدة ويدعون أن الماء نقي وصحي، فكنا نطلب منهم أن يشربوا منه ليثبتوا لنا أنهم صادقين، فيرفضون الشرب منه.
كان موظفو الصليب الأحمر يكذبون علينا ويعطوننا الوعود والآمال عن قرب الإفراج عنا إذا ما تعاونا مع المحققين.
لذلك فقد كنا متيقنين بأن هؤلاء يحملون من الحقد على العرب والمسلمين بنفس القدر الذي يحمله ضدنا الجنود الأمريكيون، مما يؤكد أن الصليب الأحمر كان يقوم بدور مشبوه في المعتقل.
((( التحقيق المتقطع )))
لم يكن التحقيق مع المعتقلين يتم بشكل منتظم وإنما كان يتم بشكل متقطع وفي فترات متباعدة، وأما بالنسبة لي فلم تتجاوز عدد مرات التحقيق معي طوال الأربع سنوات ثمانية عشر مرة. كان التحقيق منصبا على السؤال عني وعن وضعي في السجن وأسئلة عن بلدي وعن الوضع السياسي في البحرين والجماعات والتنظيمات السياسية فيها وعلاقتي بهذه التنظيمات.
كانوا يعرضون علي صوراً لأشخاص من البحرين ومن خارج البحرين ولكنني كنت أغمض عيني وأبدأ في قراءة القرآن بصوت عالٍ من باب الرفض لسماع الأسماء ورؤية الصور، وكانوا يقولون لي بأن من مصلحتي التعاون معهم لأن ذلك سيعجل بإطلاق سراحي، فكنت أقول لهم بأنهم يسألون عن أمور لا علاقة لي بها وأنهم اعتقلوني بتهمة الانتماء لتنظيم القاعدة والقتال في أفغانستان، فإن كان لديهم أية أسئلة تتعلق بهذه الموضوعات سأجيب عنها.
لكنهم لم يسألوني قط عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ولا عن أحداث أفغانستان أو الحرب على ما يسمونه بالإرهاب.
((( وسائل التعذيب )))(2/128)
إن وسائل التعذيب التي تمارس ضد المعتقلين كانت متنوعة ومتجددة بشكل دائم، وقد استخدموا أساليب قاسية جداً، منها الضرب المبرح والتقييد إلى الأرض بشكل مسمر لمدة ثماني وأربعين ساعة مع المنع من أداء الصلاة والذهاب إلى الحمام وعدم تقديم الطعام والشراب، ومنها تقييد الرجلين إلى اليدين من الخلف بشكل مؤلم، والتحرش الجنسي من قبل المجندات وتعري المجندات أمام المعتقلين وتلويث أجسادهم بدم الحيض، كما كانوا يهددون المعتقلين بالاعتداء عليهم جنسياً، وكانوا يقومون بإدخال قوات الشغب إلى غرف التحقيق لإرعاب المعتقلين وضربهم، وكانوا يقومون بتشغيل الموسيقى الصاخبة في الليل والنهار على المعتقل أثناء التحقيق معه مع تسليط الأنوار العالية على أعينهم طوال الليل لمنعه من النوم، فإذا ما أغلق عينيه رشوا عليه مادة حارقة في الأنف لإرغامه على فتحهما.
وكانوا يضعون المعتقلين في الزنزانة الانفرادية لفترات طويلة.
وقد وضعوني في السجن الانفرادي مدة شهر كامل، ووضع غيري من الإخوة لمدة تصل إلى ستة أشهر أحياناً وتحت درجات حرارة عالية أو منخفضة، وكانوا يهددوننا بإدخال الكلاب علينا في الزنزانة، وقاموا بمصادرة الفرش وقطعة البلاستيك الرقيقة المفروشة على أرضية الزنزانة لمدة تزيد على الشهر مما يضطر المعتقل للنوم على الخرسانة.
كانت إدارة السجن تتلاعب بالطعام المقدم لنا بحيث تخلط الأرز المطبوخ بأرز غير مطبوخ، أو تخلط الخضروات السليمة بخضروات فاسدة عفنة تفوح منها رائحة كريهة.
وكانوا يزعجوننا أثناء أداء الصلوات بتعمد رفع الصوت وافتعال الإزعاج حتى يشوشوا علينا في الصلاة. وكانوا يغسلون العنابر ويكنسونها في أوقات النوم لمنعنا من النوم، ولكننا ولله الحمد كنا نتأقلم مع الظروف المتجددة.
لقد استخدم المحققون معنا جميع أساليب الترغيب والإغراء، فقد كانوا يمنوننا بإعطائنا الأموال والعودة إلى بلادنا مع توفير متع الحياة الغربية وتم إغراؤنا بالنساء وهم من يدعي حفظ حقوق المرأة والدفاع عن كرامتها، ووعدونا بمنحنا الجنسية الأمريكية إذا قدمنا لهم المعلومات والأدلة التي تدين بعضنا البعض أو تفيدهم فيما يسمونه الحرب على الإرهاب.
ومن أساليب التعذيب النفسي أن يقوم الجنود بإخبار المعتقل بأنه سيفرج عنه ويعطونه ملابس عادية ليلبسها ويأخذونه إلى الطائرة، وعند باب الطائرة يقولون له أنه قد حصل لبس في الأسماء ثم يعيدونه إلى الزنزانة.
ولكننا لم نرضخ لوسائل الترغيب والترهيب. وكانت تصرفات الجنود في نظرنا أقرب إلى تصرفات الأطفال أو المخبولين، وأيقنا بأنهم ليست عندهم مروءة ولا رجولة وأنهم لا يفهمون شرف الجندي الحقيقي، وأيقنا كذلك أنهم جبناء إلى درجة لم نكن نتصورها.
((( البرنامج اليومي من الصباح وحتى المساء )))
شجع المعتقلون بعضهم بعضا على تنظيم الوقت واستغلاله الاستغلال الأمثل لما في ذلك من رفع للمعنويات وطرد للهموم ووساوس الشطان.
فكان البرنامج اليومي حافلاً بالفقرات، فيبدأ بصلاة الفجر ثم الأذكار والتسبيح حتى الشروق ثم نصلي صلاة الضحى حتى وقت الإفطار، ومن بعد الإفطار يبدأ برنامج حفظ القرآن والتلاوة والمراجعة والتسميع.
ثم نقوم بمزاولة بعض التمارين الرياضية في المساحة المتاحة لنا داخل الزنزانة، ثم تبدأ فقرة التواصل والدردشة بين المعتقلين حتى وقت صلاة الظهر ثم الغداء ثم القيلولة وأخذ قسط من الراحة حتى وقت صلاة العصر.
ومن بعد صلاة العصر يبدأ البرنامج الرياضي والثقافي حيث نقوم بحفظ بعض الأحاديث النبوية والأشعار والأقوال، ثم نبدأ بتلاوة أذكار المساء المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقت صلاة المغرب.
ومن بعد الصلاة تبدأ البرامج العامة في كل عنبر كالنشيد الجماعي والاستماع إلى الكلمات والمواعظ والدروس الفقهية وغيرها من العلوم الشرعية التي يقدمها بعض طلبة العلم حتى صلاة العشاء.
وبعد الصلاة تبدأ فترة الهدوء والاستعداد للنوم حتى نقوى على قيام الليل قبل صلاة الفجر. وكان بعض المعتقلين يتسامرون بعد صلاة العشاء لفترة وجيزة ويتحدثون عن مشاريعهم المستقبلية بعد الخروج من المعتقل، فلم يكن هناك مكان لليأس في قلوب المعتقلين، بل كان الجميع على ثقة ويقين بأن السجن وإن طال فإن الله لن ينسانا، ولا بد من بصيص نور في نهاية النفق المظلم. وقد كان هذا البرنامج الحافل والجلسات الجانبية مع الإخوة جميلاً ومفيداً ورافعاً للروح المعنوية لنا جميعاً.
((( المحامين )))
استلمت رسالة من أحد مكاتب المحاماة الأمريكية تعرف بالمكتب والأنشطة القانونية التي يقومون بها، وأنهم يودون تمثيلنا والترافع لصالحنا أمام المحاكم الأمريكية بشكل تطوعي، وقد أخبروني بأنهم سيرسلون لي اثنين من المحامين التابعين لهم للتعريف أكثر بالمكتب ولأخذ موافقتي الرسمية على الترافع عني وتدوين إفادتي عن كيفية الاعتقال والتهم الموجهة لي من قبل المحققين الأمريكيين.
وفعلا فقد قام اثنان من المحامين بزيارتي في المعتقل في سبتمبر 2004م. وعندما جاء المحاميان عرفوني بأنفسهم وأكدوا التعريف بالمهمة التي حضروا من أجلها، ثم ذكروا لي أنهم يودون التحدث معي بإسهاب عن قضيتي حتى يتسنى لهم الدفاع عني.
فقلت لهم بأنني أود الاطلاع على ما يثبت أنهما المحاميان اللذان ورد اسماهما في الرسالة فأخرجا لي بطاقة التعريف، فقلت لهم بأنني أود أن أرى أي بطاقة رسمية أو جواز سفر أو رخصة السياقة للتحقق أكثر من هوياتهم، فأخرجا لي بطاقاتهما، ولما تيقنت أنهما المحاميان المعنيان وافقت على بدء التعامل معهما وأخبرتهما عن قصتي باختصار من يوم دخولي أفغانستان وحتى ساعة اعتقالي.
تكررت زيارة المحامين لي خمس مرات خلال فترة الاعتقال الأولى في عام 2004 والزيارات الأربع التالية في عام 2005. وكان المحامون في تلك الزيارات يخبرونني بتطورات سير القضية في المحاكم الأمريكية، وأنهم متفائلون بكسب القضية لصالحنا، وأن قضيتي قد عرضت على المحكمة الأمريكية الأولى وانتهت لصالحي، وأنهم ينتظرون نتيجة القضية في المحكمة المتوسطة.
كان المحامون مؤدبين ومحترمين وكانوا يودون خدمتنا وتوصيل ما نرغب من أخبار شفهية لأهلنا حيث لم يكن يسمح لهم بإحضار أية أشياء لنا من كتب أو ملابس أو رسائل من أهلنا، كما كانوا يقولون بأن إدارة المعتقل تفرض على المحامين أن يفصحوا لهم عن أي قضايا تدور أو تناقش بينهم وبين المعتقلين.
كما أخبرنا المحامون بأن هناك حقوق مقررة لنا كمعتقلين ولكن إدارة المعتقل تحرمنا من معرفتها، بل وتحاول أن تضيق على المحامين حتى يتركوا القضية.
كنت أخشى أن يكون هذان المحاميان من عملاء مكتب التحقيقات وأنهما يقومان بتمثيل دور المحامي، حيث لم يكن من السهل أن أثق بأي أحد من الأمريكان بعد المعاناة التي عشتها في قبضتهم طوال هذه السنوات.
كما كنت أجزم في فترة من الفترات أن مسألة المحامين هي جزء من المسرحية الإعلامية التي تمارسها الإدارة الأمريكية على المجتمع الدولي سواء بعلمهم أو بدون علمهم بغرض تخفيف الضغط الذي تتعرض له الإدارة الأمريكية، وكنت أخبر المحامين بهذا الشعور الذي ينتابني، فكانوا ينفون بشدة هذه الظنون ويقولون بأنهم يدافعون برغبة صادقة من المكتب ومنهم شخصيا.
4/4
((( قصة العودة )))(2/129)
قبل أسبوعين من الإفراج عني أراد الجنود أخذي للفحص الطبي وذلك لأول مرة منذ أن أودعت المعتقل، وأخبروني بأنها زيارة روتينية وأن الطبيب يرغب في فحصي، ولكنني رفضت الذهاب لأنني لم أكن أشكو من أي مرض، ولأنني طلبت الذهاب إلى الطبيب مرارا بسبب اعتداء قوات الشغب علي وإصابتي بآلام شديدة في رجلي ، كما اشتكيت سابقا من آلام في الأذن وطلبت زيارة الطبيب ولكنهم لم يستجيبوا لطلبي، وأنا الآن لم أطلب زيارة الطبيب ولم أشتكي من أي مرض وهم يلحون علي بضرورة مراجعة المريض، وقالوا بأن الطبيب يريد فحص أذنك لأنك كنت تشتكي من الألم وذلك رغم مرور أكثر من شهر على طلبي زيارة العيادة، وقد خف الألم فلم يكن هناك داع لزيارة الطبيب.
ثم جاء أحد الضباط الأطباء إلى الزنزانة وطلب مني أن أرافقه للعيادة.
وبعد رفض متكرر، وافقت على الذهاب معهم، فأخذني الجنود إلى العيادة، وبدؤوا بفحص جسمي للتأكد من عدم وجود آثار للجروح أو الإصابة جراء التعذيب، ثم سألوني إن كنت أشتكي من أي شيء، فأخبرتهم بأنني أشتكي من الألم في ركبتي، فقالوا لي بصريح العبارة إننا نسأل عن الجروح الظاهرة فقط والتي يمكن مشاهدتها بالعين، فلما رأوا أن جسدي سليم من الجروح اطمأنوا.
فسألت الطبيب عن سبب هذا الفحص فقال بأن لديهم أوامر لفحصي وليس عندهم علم بالسبب.
وبعد إعادتي للزنزانة جاءني الممرض وأحضر لي شامبو لحساسية الرأس كنت قد طلبته من الطبيب، وقال لي بأنني يمكن أن أطلب أي كمية من هذا الشامبو، فزاد الأمر من استغرابي وقلت لعل الأمر يتعلق بقرب الإفراج عني ولكنني وكلت الأمر لله.
وبعد أيام من هذا الكرم الطبي أخذوني على معسكر آخر حيث قابلت أحد الضباط وكلمني بكل احترام وعرف نفسه بأنه ضابط من الشؤون القانونية وأخبرني بأنهم سيفرجون عني قريبا جدا ولكن لم يحدد لي تاريخ الإفراج.
ثم قال بأن هناك شروطا للإفراج عني وعلي أن أوقع على اتفاق بينني وبين وزارة الدفاع الأمريكية، وسلمني بعض الأوراق المكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية فلما قرأتها رفضت الانصياع لشروطهم وقلت له بأنني لن أوقع على أي أوراق لأنكم كذابون وقد ظلمتموني بوضعي في السجن من غير توجيه أي تهمة لي مدة أربع سنوات، فحاول إقناعي بأن من مصلحتي التوقيع والموافقة ولكنني لم أخضع لكلامه وإغراءاته وتشويقي بقرب الخروج والعودة إلى الوطن، وأن شرط الخروج هو التوقيع على الأوراق.
فقلت له بأنني مستعد لقضاء أربع سنوات أخرى في المعتقل ولكن لن أفرط في كرامتي والثبات على مبادئي.
وفي اليوم التالي أخذوني إلى أحد المكاتب وأخذوا مقاسي ومقاس رجلي وكانوا يريدون أن يفصلوا لي بنطلونا، وأخبروني بأن من الممكن أن أطلب أي وجبة أريدها، فطلبت أن آكل السمك رغبة مني في معرفة صدقهم من كذبهم، فوعدوني بإحضار ما طلبت.
وفي يوم الإفراج أخذوني إلى معسكر إيكو وهو على شاكلة المعسكر دلتا الذي كنت فيه، وأخذوا بصمات أصابعي وعيني إلكترونيا، ولما رفضت فتح عيني للبصمة، أحضروا لي ستة جنود فتعاركت معهم ولكنهم استطاعوا ربطي في الكرسي بعد عراك طويل وأخذوا بصمة عيني.
ثم جاؤوا لي في الليل وعاقبوني بسبب العراك وأخذوا مني كل ما في الزنزانة من فرش وغيره وكانوا متجهمين غاضبين ولكنني لم أعرهم أي اهتمام وقابلت شدتهم بشدة أكثر.
ثم احضروا لي وجبة طعام عادية ولم يحضروا لي السمك الذي طلبته، فرفضت الوجبة وأصررت على إحضار وجبة السمك التي وعدوني بها، وكنت أظن بأن إحضار السمك دليل على أن زعمهم بالإفراج عني حقيقة وليست ضمن الحرب النفسية، فلما رؤوا إصراري على ذلك ذهبوا وعادوا بوجبة السمك المختلفة ولكنهم صادروا العصير والفاكهة والسلطة التي وعدوني بها كذلك. فلما رأيت السمك علمت أن الليلة هذه هي ليلة الإفراج عني ففرحت ولكنني لم أبد لهم أي علامات على سروري.
وقضيت وقتي بشكل طبيعي حتى منتصف الليل حيث جاءوني وطلبوا مني تغيير ملابسي ولبس البنطلون الجينز والتي شيرت الأبيض وقالوا بأنهم سيأتون لأخذي بعد ساعة.
كان الجندي يسألني إن كنت مسرورا بإطلاق سراحي؟
فقلت له : لا فرق عندي بين البقاء والرحيل فقد كنت أخشى أن تكون هذه الحركة ليست حقيقية كما حدث مع غيري من المعتقلين، ولم أكن لأثق في كلامهم إلا عندما أرى أرض البحرين من الطائرة.
فقال لي: كيف لا تفرح وأنت ستذهب الآن إلى بلدك وأهلك بعد طول سجن؟
فقلت له: إنه لا فضل لكم علي فقد سجنتموني ظلما لأربع سنوات ثم ها أنا سأخرج بفضل الله وحده وليس لكم فضل علي ولا منة، ثم جاء الجنود وكبلوني بالحديد في يدي ورجلي وبطني بقفل كبير.
كما فعلوا بي يوم أن أخذوني من قندهار إلى غوانتنامو. كان ذلك قرابة الساعة الثالثة صباحا وكان معي الأخوين عبدالله النعيمي وسلمان الخليفة من البحرين وكان معنا أخ سعودي اسمه ماجد الشمري، حيث وضعنا في باص ورافق كل واحد منا جنديان يحرسانه.
كانت السيارة مغطاة برايبون سميك بحيث لا نرى شيئا بالخارج تقريبا، ثم ربطوا أيدينا وأرجلنا إلى أرضية السيارة.
تم أخذنا إلى مرفأ بحري ونقلنا بالعبارة إلى الجانب الآخر من الجزيرة حيث يقع مطار قاعدة غوانتنامو.
تم إنزالنا في المطار ورأينا الطائرة المعدة لنقلنا وكانت طائرة عسكرية كبيرة لونها أخضر داكن.
تم تسليمنا للجنود عند باب الطائرة وقاموا بتفتيشنا وقسوا علينا في الحديث.
وعند باب الطائرة طلب منهم أحد الضباط أن يغطوا آذاننا وأعيننا كما فعلوا بنا في رحلة البداية ثم قيدوا أيدينا إلى الكرسي وأرجلنا إلى الأرض، فسألناهم لماذا تقيدوننا بهذه الطريقة ونحن في رحلة العودة والإفراج!
فقالوا :بأن هذه إجراءات أمنية لا بد منها.
كان الوقت عند الفجر فصلينا الفجر ثم طارت بنا الطائرة قرابة الاثنتي عشرة ساعة متواصلة حتى حطت في مطار قد يكون في تركيا أو ألمانيا.
وكنا نسأل المترجم عن أوقات الصلاة ونقول لهم بأنه من الضروري أي يخبرونا عن غروب الشمس وغيرها فكان المترجم يخبرنا بالأوقات.
ولأننا لم نكن نستطيع الوضوء فقد كنا نتيمم وذلك بضرب أيدينا على الكرسي قدر استطاعتنا ولكننا ولله الحمد لم نفوت الصلاة حتى ونحن في هذه الحالة.
كما لم يسمحوا لنا باستخدام دورات المياه طوال فترة السفر، وقد أحضروا لنا بعض الفواكه دون أن يسمحوا لنا بفك قيودنا أو رفع الغطاء عن أعيننا لنعلم ما يقدم لنا، فأكلنا بعض الفاكهة ولم نأكل اللحم خشية أن يكون لحم خنزير.
كانوا يشدون السلاسل في أيدينا كل فترة لإزعاجنا وكنا نتج عليهم، فقالوا بأنه إجراء أمني للتأكد من أنها ما زالت مقيدة. كانوا يظهرون لنا الحقد الكثير لأنهم يعرفون أننا في طريق العودة لأوطاننا فكانوا يريدون الانتقام منا وإغاظتنا ولكننا كنا نواجههم بقوة وقسوة ولا نقبل إهانتهم لنا حتى في اللحظات الأخيرة قبل العودة إلى الوطن.
((( في أرض الوطن )))
وصلنا إلى البحرين بعد رحلة استغرقت حوالي أربعة وعشرين ساعة وكنا طوال الوقت مقيدي الأيدي والأرجل ومعصوبي الأعين والآذان والأفواه.
ولما وصلت الطائرة إلى أرض البحرين شعرنا بالفرح الشديد والأمان لوصولنا إلى بلدنا الحبيب
ولما أرادوا إنزالنا من الطائرة أمرهم الضابط الأمريكي بفك قيودنا قبل إنزالنا من الطائرة لكي يظهروا أمام الكاميرات بأنهم قد أحسنوا معاملتنا بالطائرة.
وقد تعذر عليهم فتح الأقفال من أيدينا وأرجلنا، فطلبوا مقصا للحديد من خارج الطائرة لقص الأغلال.(2/130)
تم مسكنا كل واحد من قبل جنديين وكنت أول من نزل من الطائرة وأنزلونا بكل حنان وإنسانية كعادة الأمريكان في الكذب والخداع على العالم.
تم تسليمنا لشرطة البحرين وكان على رأس المستقبلين العقيد عادل الفاضل، كما كان بالمطار عدد كبير من الحضور الذين لم أعرفهم.
أذكر أن العقيد عادل احتضني وقال لي: أهلا بك في بلدك ثم قام الجميع بالسلام علينا وحمدوا الله على سلامة عودتنا إلى أرض الوطن.
أخذنا رجال الأمن بسيارات مدنية، كل واحد منا في سيارة ومعه رجلا أمن بكل أدب واحترام وذهبنا إلى النيابة العامة، وكان في استقبالنا العقيد علي الذوادي والعقيد علي البوعينين والعقيد أحمد بوزيد.
وكان استقبالهم لنا بكل أخوة واحترام وثبتوا لنا محضر وصول بسيط وشكلي وسلموا لي معظم الأمانات التي أخذها مني الباكستانيون، ثم اتصلوا بأهلنا وطلبوا منهم أن يحضروا لي الملابس العربية.
جاء إخواني الثلاثة لاستقبالي وكانوا يبكون من شدة الفرح وعدم التصديق وكنت في غاية الفرح والسرور.
كانت وجهتنا الأولى بيت والدتي حفظها الله حيث اجتمع الأهل جميعا هناك، وعندما وصلنا إلى المنزل كان في استقبالي عدد كبير من المهنئين الذين علموا بوصولنا.
وقد رأى الإخوة أن أجلس في مجلس الجامع المجاور لبيت والدتي لاستقبال الضيوف الذين لم ينقطع توافدهم لعدة أيام، فاستأذنتهم للدخول والسلام على والدتي وزوجتي وابنتي وأخواتي ووالدة زوجتي وباقي الأهل والجيران من النساء اللاتي تجمعن في بيت الوالدة وفي أيديهم المشموم والرازجي والأموال لكي ينثروها علي لحظة دخولي المنزل.
كان الموقف مفرحا بشكل لا أستطيع وصفه، وكان الجميع يبكون بصوت عالٍ.
وكانت ابنتي هاجر تبكي وأنا احتضنها وأطمئنها بأنني قد عدت إليها وهي شابة متدينة وعاقلة وخجولة وقليلة المزاح.
وقد طبخت الوالدة لي غداء كنت أحب أكله من قبل، فاستأذنتها أن أذهب للسلام على الناس ثم أعود، ولكن جموع المهنئين لم ينقطعوا من الظهر وحتى العشاء.
لا أستطيع أن أصف شعوري تجاه أهل البحرين فقد وقفوا معنا في محنتنا ولم ينسونا في غربتنا ولم يبق أحد إلا وأتى للسلام علينا، المسئولون والعلماء والمشايخ وطلبة العلم والنواب والأهالي والصغار والكبار والنساء والرجال والأطفال فجزاهم الله خيرا كثيرا.
وأخيرا وليس آخرا فإن استقبال الحكومة وما قامت بعمله من جهود مشكورة للإفراج عنا وما وعدونا به من تعويض مادي ومعنوي وما وصلنا من سلامات وتحية من كبار المسئولين دليل على طيبة هذه الأرض والوطن ملكا ونوابا وحكومة وشعبا. كما لا يفوتني أن أشكر النائب الشيخ محمد خالد إبراهيم رئيس اللجنة الوطنية لمناصرة الأسرى المعتقلين في سجون غوانتنامو وأعضاء اللجنة والسيد نبيل رجب على جهودهم الطيبة في سبيل قضيتنا.
((( حكايات من معتقل غوانتنامو )))
إن الحوادث التي تؤكد عدم احترام الأمريكان لحقوق الإنسان لا تعد ولا تحصى، وفيما يلي بعض هذه الانتهاكات:
• بينما كان أحد المعتقلين يمارس الرياضة وأثناء المشي داس من غير قصد على طرف وزغة فانقطع ذيلها فأخذ الذيل ورماه، فرآه أحد الجنود فاستدعى على عجل مسئولي السجن وأطباء العيادة النفسية وقالوا له: لماذا حاولت قتل الوزغة؟ فقال: بأن ما حدث لم يكن عن قصد منه، ولكنهم أخبروه بأنه تعدى على هذا الحيوان دون وجه حق وأن عليهم حماية الزواحف والحيوانات، ثم قرروا حبسه في السجن الانفرادي مدة أسبوعين عقابا له على الجريمة التي اقترفها وسحبوا الفرش وأخذوا بنطلونه وتركوه في السجن الانفرادي بملابسه الداخلية طوال هذه المدة.
هذا رغم أن الوزغة لم تمت فكيف لو ماتت!
• أخ آخر دخل عليه عنكبوت سام فحاول إبعادها من الزنزانة ولما لم يفلح ضربها بالنعل وقتلها، فرآه أحد الجنود وبلغ عنه إدارة السجن فقامت بمعاقبته. فانظر إلى هذا التناقض والاستهتار في المفاهيم حين يقوم هؤلاء المجرمون بالتعدي على البشر بالظلم والقتل والاضطهاد ثم يدعون حفظ حقوق الزواحف والعناكب.
• كان أحد الإخوة المعتقلين يجيد التحدث باللغة الإنجليزية وكان كثير التشاجر مع المحققين ويجادلهم بأنهم يكذبون بادعائهم احترام حقوق الإنسان، فليس للإنسان قيمة عندهم في الواقع. فضمروا له العداء وتحينوا الفرصة للانتقام منه.
وفي إحدى المرات حصل بعض الشد بينه وبين إحدى المجندات، فأحضروا له الشغب ودخلوا عليه الزنزانة وقاموا برش المادة الخانقة على وجهه ثم ضربوه ضربا مبرحا حتى أدموه وسال الدم من رأسه وفمه وعينه وأنفه ويديه، وكنا نصرخ ونضرب على الشبك ولكن دون فائدة حتى غاب عن الوعي من شدة الضرب وظننا أنه قد مات، ثم أخذوه إلى العيادة للعلاج وظل هناك لفترة طويلة.
• الشيخ عبدالسلام ضعيف كان سفير دولة طالبان في باكستان وكان المتحدث الرسمي باسمها وهو في عرف الدول يعتبر شخصا دبلوماسيا له حصانة.
رفض الشيخ عبدالسلام الخروج في إحدى المرات للغسل والسبب هو أنهم يعطون المعتقل خمس دقائق فقط للغسل ولكنهم كثيرا ما يقطعون الماء عنا بعد مرور دقيقة أو دقيقتين ويعيدوننا إلى الزنزانة والشامبو لا يزال في رؤوسنا فكنا نعترض على هذا الإجراء التعسفي بالامتناع عن الذهاب للغسل، فأخرجوه بكل قسوة بواسطة قوات الشغب وضربوه ضربا مبرحا وحلقوا شعر رأسه ولحيته ثم سجنوه في السجن الانفرادي.
• كان الجنود يقدمون لنا كمية بسيطة من الطعام بحيث تبقينا على قيد الحياة فقط، وكانت الكمية المقدمة لنا لا تزيد عن مقدار إصبع من أصابع اليد، رغم أنهم يرمون كميات كبيرة من اللحم والدجاج في الزبالة أمام أعين المعتقلين، وعندما نسألهم: لماذا يرمون الطعام ولا يقدمونه لنا؟، يقولون: بأننا لا نستحق الطعام وأننا نأكل أكثر مما نستحق.
وكانوا يسرقون بعض الطعام المخصص للمعتقلين كالزبادي أو الخبز أو البيض، فكانوا يأخذون بيضة واحدة ويعطوننا أخرى، أو يعطوننا خبزة واحدة ويسرقون أخرى، وكانوا في رمضان يخصصون عشر تمرات لكل معتقل، ولكنهم كانوا يقدمون لنا ثلاث تمرات ويرمون الباقي في الزبالة.
وفي الفترات التي أعقبت الإضراب عن الطعام وعدتنا الإدارة بتقديم الكورن فليكس ثلاث مرات في الأسبوع ولكن الجنود كانوا يقدمونه لنا مرة واحدة في الأسبوع ويخفون الباقي ويأكلونه بأنفسهم.
وقد كنا نراهم يضعون البيض المسلوق وعلب الكورن فليكس في حقائبهم ليأكلوها خارج المعسكر. وبينما كان الجنود يشربون الماء الصحي والمقطر كان الماء الموصل بالحنفيات في الزنازين مليء بالأتربة والصدأ والكلور، فكنا نصاب بآلام في البطن عند شربه وكنا نطلب منهم أن يغيروا الماء ولكنهم يرفضون حتى بقينا أكثر من ثلاث سنوات ونحن نشرب من هذا الماء الملوث.
• كان اللباس الذي بلبسه في المعتقل خشنا جدا وهو ثقيل ومزعج، وكنا نصاب بالحكة والحساسية بسبب طبيعة الطقس الحار في غوانتنامو وكانت أجسامنا تصاب بالالتهابات والجروح جراء الحكة بسبب هذا اللباس.
• الإضراب عن الطعام بسبب الاعتقال التعسفي: في شهر يوليو عام 2005 قام الإخوة بتنفيذ إضراب مفتوح عن الطعام شارك فيه أكثر من مائتي أخ، وكان هدف الإضراب هو الاحتجاج على الاعتقال الطويل دون التقديم للمحاكمة.
فجاء المسئولون بالسجن وطلبوا منا فك الإضراب وأن نقدم لهم مطالبنا ووعدونا بتحقيقها.(2/131)
فاتفق الإخوة على تشكيل مجلس يقوم بالتفاوض مع إدارة السجن، واجتمعوا مع إدارة السجن وطلبوا منها أن يقدمونا لمحاكمة عادلة وألا يستمر اعتقالنا لمدة غير محددة، فوعدوا برفع مطالبنا لوزارة الدفاع الأمريكية وأن يتكرر هذا الاجتماع للوقوف على مطالب المعتقلين. فطلب الإخوة منا أن نفك الإضراب وأن ننتظر رد إدارة السجن ليتبين لنا مدى صدقهم وجديتهم.
لكن الجنرال الذي يدير السجن بدأ في التهرب من وعوده بل وعادوا إلى استفزاز المعتقلين، وكانوا يفتعلون المشاكل لإدخال قوات الشغب علينا وضربنا. فعندما رأينا كذبهم عدنا إلى الإضراب والعصيان ورشهم بالماء، فقامت الإدارة بمعاقبة العديد منا بحبسنا في الزنازين الانفرادية، أو نقل البعض منا للعنابر المخصصة للتعذيب وسحب كل أغراض المعتقلين وتركهم على الحديد.
فتشاور الإخوة من جديد، وقررنا الدخول في إضراب مفتوح عن الطعام والشراب، وبدأ الإضراب من منتصف شهر أغسطس تقريبا وشارك فيه أكثر من أربعين معتقلا.
فلما رأت إدارة السجن هذا الإضراب عادت إلى مجلس الشورى وطلبت التفاوض معهم من جديد ولكن المجلس رفض حتى التحدث معهم، فأرادوا أن يشقوا صفنا وذهبوا للمعتقلين في الزنازين وطلبوا منهم أن يختاروا ممثلين جدد لهم ولكننا رفضنا أن نغير المجلس.
ولقد حاولت الإدارة ثنينا بكل الوسائل عن الإضراب ولكن دون جدوى. واستمر الإضراب المميت أكثر من شهرين حتى بعد شهر رمضان.
وكانت الخطة هي أن ننفذ إضرابا مرحليا يتناوب المضربون فيه على الإضراب عن الطعام والشراب لمدة معينة ثم تنضم إليهم مجموعة أخرى وهكذا. قامت إدارة السجن بنقل المضربين بصورة سرية إلى العيادات ليتم تغذيتهم قسرا بواسطة المغذيات عن طريق الأنابيب ثم استبدلوها بالأنابيب المغذية عن طريق الأنف، وكانت تعمل جاهدة على ألا يتسرب خبر الإضراب للعالم الخارجي. وقد نزلت أوزان الإخوة كثيرا جدا، بل نزلت أوزان بعض الإخوة إلى أقل من أربعين كيلوجراما. فشق هذا الإضراب كثيرا على الأمريكان. ولم نسلم أثناء تنفيذ الإضراب من التعذيب الذي كان الأطباء يمارسونه ضدنا، فقد كان الأطباء يأمرون بتقييدنا بشدة إلى الأسرة، وكانوا يختارون الأنابيب الكبيرة لإدخالها في أنوفنا للتغذية، وكانت هذه الأنابيب كثيرا ما تؤذي الإخوة وتجرح أجسادهم وتؤلمهم.
• مصور قناة الجزيرة سامي الحاج تم اعتقال الأخ سامي الحاج من قبل القوات الباكستانية وسلم إلى الأمريكان الذين قاموا بنقله بنفس الطريقة من باكستان إلى قندهار ومن ثم إلى معتقل غوانتنامو.
وكباقي المعتقلين، لم يكن للأمريكان أي أدلة على سامي ولم توجه له أية تهم، وإنما كان السبب أن الأمريكان أرادوا الاستفادة من سامي في نزع معلومات عن قناة الجزيرة وسر النجاح الذي حققته، وإن كانت لهم أي ارتباطات بجهات مشبوهة أو لهم صلات بجهات مشبوهة، وخصوصا بعد أن أجروا مقابلة مع زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وكيف وصلوا له ولغيره من مسئولي القاعدة وطالبان وغيرها من الأمور التي تخص القناة من كيفية وصول أشرطة فيديو عليها لزعماء القاعدة أو الزرقاوي.
وكان سامي الحاج يرفض بشدة التعاون معهم ويصفهم بالمجرمين الذين اختطفوه ليس لتهمة معينة وإنما لابتزازه وإغرائه بالعمل معهم كجاسوس ضد قناة الجزيرة.
لذا فإن الإدارة الأمريكية تواصل سجنه بكل هذا الظلم فقط كعقاب له وللقناة التي يعمل لصالحها رغم عدم قدرتهم على توجيه أي تهمة له.
تعرض الأخ سامي الحاج لمحن عديدة في غوانتنامو، كان من بينها أنه تعرض للضرب الشديد من قبل الجنود لأنه رفض الخروج للاستحمام، وكان هذا من الحقوق الشخصية للمعتقل، وقد أرغم على الخروج للغسل، وبينما كان الجنود يأخذونه إلى منطقة الغسل وكان مستوى منطقة الغسل أقل من مستوى العنابر، جاء الجنود من خلفه ودفعوه على السلم حيث تدحرج من الأعلى إلى الأسفل، وكان موثوق اليدين والرجلين فأصيب في رأسه بجرح غائر وسال الدم من أنفه وفمه، ثم جاء الجنود وأخذوا يضربونه ضربا مبرحا ثم جروه إلى خارج العنبر حيث حلقوا شعر رأسه ولحيته ثم رموا به في السجن الانفرادي. ورغم أن الدم كان ينزف منه، فقد ترك في الزنزانة دون علاج لمدة يومين. وبعد يومين تم إعطاؤه لزقة لوضعها على جرحه دون تقديم أي مساعدة طبية.
• مأساة الأخ مشعل الحربي في عام 2002م وبعد عيد الفطر كان الأخ السعودي مشعل الحربي محتجزا في زنزانة انفرادية في العنبر إنديا، وفي الفترة المسائية وبعد صلاة المغرب، قام أحد الجنود بالاستهزاء بالدين الإسلامي والقرآن الكريم، ثم بدأ بلمس المصحف والاستهزاء به، فغضب المعتقلون وبدؤوا بالصياح والضرب على شبك الزنازين، ولكن هذه المرة أراد القائد الجديد للمعتقل أن يكسر عزيمة المعتقلين بالقوة، فتم جلب فرقة أو فرقتين من قوات الشغب العسكرية، ثم قاموا بإطفاء الأنوار في الزنازين وفي الساحات الخارجية للمعتقل، حتى أصبح عنبر إنديا في ظلام دامس جداً، ثم بدأت قوات الشغب بالدخول على المعتقلين في الزنازين وفي الزنازين الانفرادية الواحدة تلو الأخرى، وفي أيديهم كشافات قوية يوجهونها إلى أعين المعتقلين، ثم يقومون بضرب المعتقل بشكل جماعي، حتى سال الدم من أجساد العديد من الشباب ومن وجوههم وأفواههم وأنوفهم.
وفجأة سمعنا بعض الهمهمات والهمسات بين الجنود وقوات الشغب، ثم أعيدت الأنوار.
كان الشباك في الزنزانة الانفرادية التي وضع بها أحد الإخوة المعتقلين ليست محكمة الإغلاق وكانت قريبة من الزنزانة الانفرادية التي وضع بها الأخ السعودي مشعل الحربي، وقد أخبرنا هذا الأخ وكذلك شاهد آخر من الإخوة أثناء إعادته من غرفة التحقيق بأنهما شاهدا قوات الشغب يخرجون مشعل من زنزانته والدم ينزف من فمه وأنفه ثم حملوه إلى العيادة. وكانت الدماء موجودة في الممرات وفي الزنزانة الانفرادية التي وضع بها مشعل، وقد حضر المسئولون بالسجن للتحقيق في الحادث ورؤية الدماء وأغلقوا الزنزانة، ثم جاء بعض الخبراء الذين يلبسون الملابس البيضاء في اليوم التالي ورفعوا البصمات وأخذوا عينات من الدماء التي في الزنزانة وفي الممرات، واستمرت التحقيقات والتحريات مدة يومين ثم قاموا بغسل الدم من الممرات ومن الزنزانة ثم أقفلوها وشمّعوها بالشمع الأحمر ومنعوا الدخول إليها.
بدأ المعتقلون يلحون في السؤال عن مشعل وتعالت الأصوات المطالبة بمعرفة حالته الصحية، وأشيع بين المعتقلين أن مشعل قد مات تحت التعذيب، وطالبنا المسئولين بالكشف عن الحقيقة، فارتبك مدير السجن والجنود ونفوا أن يكون مشعل قد مات، وأكدوا لنا بأنه في المستشفى وأنهم سيوافوننا بأخباره أولا بأول.
وبعد أسبوع جاء بعض الأطباء ليخبرونا بكذبة من كذبات الأمريكان التي لا تنتهي وهي أن مشعل قد حاول الانتحار في الزنزانة الانفرادية وذلك بشنق نفسه بالمنشفة الصغيرة التي يعطونها لنا والتي لا تكفي حتى للفها حول الوسط ناهيك عن ربطها في السقف ولفها على الرقبة. ولأننا نعرف أن هذا الأمر مستحيل فقد اتهمناهم بالكذب وتلفيق الاتهامات ضدنا وضد أخينا مشعل الذي يتمتع بقوة عزيمته وصبره، وكان هو الذي ينصحنا دائما بالصبر واحتساب الأجر، فكيف سيقدم على الانتحار. والحقيقة أن مشعل قد تعرض للضرب خلال فترة إطفاء الأنوار، وكان الهدف من إيذاء مشعل بهذه الطريقة الوحشية هو إرعاب باقي المعتقلين لثنيهم عن التمادي في العصيان والاعتراض على الأوامر.(2/132)
كان الصليب الأحمر يدافع عن المحققين الذين اعتدوا على مشعل ويلفق الأكاذيب ضده، وكانوا يؤكدون أن لنا بأن مشعل قد حاول الانتحار، فلما رؤوا إصرارنا على الدفاع عن مشعل واتهامنا لهم بأنهم كذابون وأنهم يعينون الأمريكان على تجاوزهم على حقوقنا المقررة دوليا، قام بعض موظفي الصليب الأحمر بالتشكيك في رواية الانتحار وأكدوا لنا بأنه قد تعرض للضرب.
كما أخبرنا هؤلاء بأن مشعل قد يتعرض للموت الدماغي بسبب إصابته البليغة في الرأس وبسبب تعرضه للضرب من الخلف على منطقة النخاع الشوكي، وقالوا بأنه قد أصيب بالشلل الكلي. ولما طلبنا منهم أن يرفعوا تقريراً بذلك اعتذروا بأنهم ينفذون الأوامر التي تأتيهم من رؤساؤهم فقط وأنهم لا يمكنهم تجاوز مسئوليهم.
================
عراق البعث ... أم عراق الإسلام !!
في التاريخ المعاصر ، شهدت الأمة انحرافا عقديا وفكريا ظاهرا ، فقد صادف الانحطاط الذي أصيبت به الأمة الإسلامية في كل جوانب حياتها من فقدانها للمنظومة الجامعة التي تلم شعثها تحت حكومة واحدة ، إلى تأخرها عن ركب الحضارة والمدنية إلى انتشار البدع والانحرافات في أوصالها ، صادف هذا كله قوة في الحضارة الغازية المتجبرة المتكبرة ، المفتخرة بقيمها ومدنيتها وفكرها ، مما جعل كثيرا من أبناء الأمة الإسلامية يفتنون بهذه الحضارة القادمة ....
ولا شك ان المغلوب مولع بتقليد الغالب ، وهو الأمر الذي أشار إليه ابن خلدون رحمه الله في مقدمته الماتعة النافعة حيث أشار إلى نوع الاستلاب الذي يصيب الإنسان المنكسر المهزوم لمن غلبه وتفوق عليه ، وهذا ما يفسر لنا الكثير من شغف أهل الإسلام في هذا العصر بمشابهة الكفار في سلوكهم ، بينما تقرا في التاريخ البعيد ان الافرنجة كانوا يفتخرون لما ينطق الإنسان منهم كلمة عربية ، فيقولها ثم ينتفش فرحا بها !!
وكان من ابرز ما نكأ في الأمة وفتّ في عضدها هو نشوء التيارات الفكرية والقومية العلمانية في العالم الإسلامي ، حيث حكمت دول في العالم الإسلامي بحكم القوميين البعثيين الفاسدي العقائد والسلوك ، وأذاقوا المسلمين الويلات في تلك الدول التي كانت في يوم من الايام من حواضر العالم الإسلامي ، وخاصة دمشق وبغداد .
اما الأولى فقد حكمت من أناس يشكلون ظلمات بعضها فوق بعض ، فهم على قوميتهم واشتراكيتهم فهم مع ذلك نصيرية حاقدين على الملة والأمة ، حيث فتكوا بالمسلمين وأذاقوهم الويلات ، وما أحداث عام اثنين وثمانين الا شاهد على الحقد الدفين لأهل السنة والإسلام في بلاد الشام موئل الطائفة المنصورة ، ومدينة فضائل اخر الزمان .
ولا تسلني عن حماة وحمص وحلب ، وما جرى فيها من سفك الدماء وقتل الأبرياء ، وإهدار الكرامة والحرمات ،
فقد كنت في ذلك الزمن صغيرا ، ومع هذا فقد كان قلبي يتقطع حين اسمع خطبة الشيخ احمد القطان ، تلك الخطبة التي عرض فيها رسالة لاحدى الحرائر الشريفات القابعات في سجون الطاغوت في الشام ، وكيف انها تريد فتوى لتقتل نفسها حيث لا تطيق ابن السفاح من السجانين العتاة يتحرك بين أحشائها !
في ذلك الوقت اسمع صوت المنشد المترنم يصدح بصوته العذب ويقول :
روحي فداؤك طال البعد يا وطني ** دمي حماة ونوح الجسر اغنيتي
مالي اصطبار فراق الشام اتعبني ** ارجوك ارجوك هذا بعض امنيتي
سورية اليوم بركان سيول دم ** شام الرسول منار نار ملحمتي
فهو يقول هذا .. حيث الم الفراق والبعاد يقطع نياط قلوب المشردين من المؤمنين من الشام .. لا لشي الا انهم يقولوا ربنا الله !
وفي الشرق ، حيث العفلقيون يحكمون بلاد دجلة والفرات ، منارة الإسلام ، ومنبع العلم ، حيث درست معالم الديانة من تلك الأرض الحرة الأبية ، وعقول أبنائها العظام ، فاختفت في جنباتها أصوات المآذن ، واخذ الجيل ينشأ على محددات فكر حزب البعث القومي العربي ....ويترنم بـ
آمنت بالبعث ربا لا شريك له ** وبالعروبة دينا ماله ثاني
قال لي احدهم مرة : زرت العراق ، وكنت اتمشى في ميدانها الكبير في قلب بغداد ، فحانت الصلاة ، فسالت العشرات من الناس عن القبلة ، وخاصة ثكنات الجيش البعثي في الميدان الكبير ، فشرقوا بي وغربوا .. ولم يعرف القبلة منهم احد ، ويبدو انه لم يكن في الجوار مسجد !
يقول : فركبت سيارة احدهم وهو الذي قصدته في المدينة ، فلما صعدت السيارة فاذا شريط أغاني ملصق عليه صورة الفنان العراقي سعدون جابر ، فادخله في المسجل ، فاذا هو شريط للشيخ الداعية عائض القرني ، فقال لي : هذا الرجل كلما سمعته بكيت ، ووالله لا ادري من أي بلاد الله هو ، وكان صاحبنا هذا زميلا للشيخ عائض وفقه الله ، فاخبره بمكانه ، ودعوته في تلك الأيام الخوالي ، قبل أزمة الخليج الثانية ! ، فسر الرجل وسعد لما سمع أخبار الشيخ .
يقول صاحبنا .. فبدأ الرجل يتحدث عن النظام الاستحباراتي العاتي في نظام البعث العراقي ، والتوجس الشديد والرهبة الشنيعة التي خلقها النظام في قلوب الناس ، وخاصة ما يتعلق بالتجمعات التي تاخذ الطابع الديني .
قال صاحبي : فقلت له : الا يوجد لكم أي نشاط دعوي او علمي ، فقال : انا وصاحبي قد اتفقنا على ان يمرني في البيت ونخرج نمشي إلى السوق ، وفي اثناء الطريق اسمّع له سورة من القران او آيات منه في الذهاب وهو يفعل هذا في الإياب موهمين الناس باننا نتحدث حتى نفترق عند بيتي !!
هذه صورة بسيطة من وضع العراق ، والا فان المآسي كثيرة ، والتضييق على أهل الإسلام وقتل العلماء ، وانتهاك الكرامة ، والتضييق على الناس في أديانهم وأموالهم ومعاشهم يطول الحديث عنه !
كان العراق والدول العربية قبل أزمة الخليج يتمحورون في فكرهم وسياستهم حول القومية العربية ، ويجتمعون في مظلة الجامعة العربية التي هي في الأصل صنيعة الاستعمار لمهمهة الأمة عن إعادة دولة الخلافة التي فقدتها ، ولتمرير القرارات التي تراد من قوى الاستعمار الغربي من خلال هذه المنظمة !
وفي صبيحة ذلك اليوم دخل صدام الكويت ، وكان دخوله نقطة تحول في فكر العرب ، حيث سقطت القومية العربية ، وسقطت مبادئها ، فمن جهة فقد خان عراب القومية قوميته بانتهاك حرمة جيرانه ، ومن جهة اخرى تجمعت ( العربان ) لقتال عرابهم في معركة تحرير الكويت ، ومنذ ذلك الوقت والفكر القومي العربي يعيش أزمة في الهوية والوجود ، وأصيب كذلك بصدمة قوية في وجدانه وشعوره ، فارتد عن هذه القومية أقوام مؤممين وجوههم إلى الغرب الديمقراطي ، بعد إن فشلت قوميتهم ، وخابت مشروعاتهم !
بعد عام واحد وتسعين ، واندحار صدام حسين وجيشه إلى العراق وطرده من الكويت ، وضرب الحصار الآثم على شعب العراق المسلم ، اختلف الوضع في العراق ، حيث تغير نمط التعامل من قبل النظام العراقي مع الشعب ، وخفت حدة الدكتاتورية ، واتيت فرص كبيرة للتدين في الواقع ، وبدأ الناس يتوافدون إلى المساجد ، وبدأت حلقات العلم في المساجد ، مع توجس شديد وتضييق يختلف عن الوضع العام مما يسمى ( الوهابية ) أو ( السلفية ) في تلك الأرض ، فلم يتح للدعوة السلفية الفرص الكثيرة كما اتيح لغيرها ، مع رجوع عدد كبير من الرافضة إلى السنة وخاصة في جنوب العراق !(2/133)
هذا الكلام ليس فيه تزكية مطلقة للنظام البعثي في العراق ، فلا شك إن ما يصيبه ألان هو لحاق السنة الكونية بالظالمين المستبدين الغاشمين ، الذين أذلوا الناس واستكبروا في الأرض ، ومآل الطواغيت إلى بواروكساد ، وهي سنة الله في الأرض ( الم تر كيف فعل ربك بعاد ، ارم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذي الأوتاد ، الذين طغوا في البلاد ، فاكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد ! ) ، والنظام في العراق لا شك يدخل في هذا دخول أولي ، اذ لا ينسى المرء تلك الاشلاء والجثث لأهل السنة في حلبجة ، الذين قتلوا قتلا جماعيا بشعا ، يقرح افئدة وضمائر النفوس المؤمنة !
أقول هذا مع إيماني العميق بان القضية بالنسبة لأمريكا وإدارتها للحرب مع حلفائها ألان ليست قضية طاغية يزال ، اذ لو كان هذا الهدف بصدق فلربما وجد الإنسان المبرر الكافي لأولئك الذين وقفوا في صف أمريكا في عدوانها على العراق ، ولكن العراق حلقة صغيرة من حلقات ( استراتيجية ) أمريكية استعمارية جديدة في المنطقة الإسلامية ، وقد اتخذت من العراق منطلقا لهذه الاستراتيجية التدميرية ، وهي استراتيجية متنوعة الأهداف ، والمطامع ، ما بين أهداف دينية مرتبطة بالدولة الخبيثة اليهودية ، وما بين أهداف اقتصادية نفطية ، وقبل ذلك ( الحرب على الإرهاب ) والذي يستهدف المسلمين المقاتل منهم وغير المقاتل ، وإعادة صياغة النظام العالمي ، وخاصة غربلة نظام هيئة الأمم المتحدة ، ومجلس الامن الدولي ، وإقامة الديمقراطيات في الشرق الاوسط على غرار الديمقراطية الأمريكية الليبرالية ، وتنصيب حكومات تكون تابعة مباشرة للولايات المتحدة ، إلى غير ذلك من الأهداف التي ليس هذا مجال الحديث عنها !
اضف إلى ذلك ، فان المعركة ألان موجهة إلى أهل العراق المسلمين ، والمتضرر منها هم اولئك الشيوخ والأطفال الذين عاشوا سنوات من القهر والتضييق والأمراض والفقر ، وهم الان يواجهون الترسانة الامريكية والبريطانية الفتاكة ، والتي تمطرهم بوابل من الحمم والنار ، فوجب على المسلمين الوقوف في صف اخواننا اهل العراق لرفع المحنة عنهم وصد عدوان المعتدي عليهم !
إن كل صاروخ يدمر في العراق ، وكل قوة تدك فيه هي في المحصلة النهائية تقوية لدولة اسرائيل ، ومد ذراعها الاقتصادي والسياسي والعسكري في المنطقة ، وهذا لا شك امر خطير على مستقبل المنطقة كلها .
ولذا فاني ادعو إلى عدم النظر إلى هذه المعركة مع الغرب بنظرة مفككة ومجتزئة ، بل لا بد من النظر الترابطي بين كل الأحداث التي تجري في العالم الإسلامي ، وهذا يعطي الإنسان بعدا جيدا في تحليل الأحداث ، ومن ثم إعطاء الموقف الصحيح مما يجري في منطقة الخليج العربي وفي العالم الإسلامي كله .ولو أدرك الحكام خطورة إن تنجح أمريكا في غزوها العراق ، لوقفوا صفا واحدا لافشال المخطط الأمريكي في العراق ، اذ هي نقطة البداية لبيع هؤلاء في سوق النخاسة ، والتحكم بهم بشكل سافر وعلني ، هم وغيرهم من دول العالم ، فوجب اتخاذ ما يلزم من التحالفات الدولية ، والزج بالناس جميعا للوقوف أمام طغيان أمريكا وتجبرها !!
اسأل الله إن يعز جنده ، ويذل أعداءه ، وان يبرم لهذه الأمة الأمر الرشيد الذي يحمي حماها ، ويصاول أعداءها ، ويحيي دينها وعقيدتها .. والله تعالى اعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين !
Dr-estefham
شبكة أنا المسلم
===============
الفريسة الضائعة
عبداللطيف بن هاجس الغامدي
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
أختنا المباركة !
بكِ .. ومعك ..
نستطيع ـ بكلِّ ثقةٍ واقتدار ـ أن نقول لأعدائنا :
يا أعداء الطهر والقداسة !
موتوا بغيظكم ! فلا يزال فينا ـ من نسائنا ـ من هي شوكة في حلوقكم ، وقذى في عيونكم ، وعقبة في طريقكم ..
فنساؤنا ؛ لآلؤنا المصونة ، ودررنا المكنونة .. لن تمتدَّ إليها أيديكم المنجسة ، ولن تنالها عيونكم المدنسة ..
فسعداً لنا ! وسحقاً لكم !
وأنت يا جوهرتنا الغالية !
جواهرنا إذا سُرقت عُوِّضت .. إلاَّ أنت !
فمن ذا الذي يُعوضنا عنكِ أيتها الشريفة العفيفة ؟!
قال تعالى :{ وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله }
* أختاه !
تأملي معي ذلك المشهد ، ما أبشعه ! وأشنعه !
ذئبٌ يحوم حول فريسته الضائعة .. التي لا راعيَ لها ولا مدافع عنها ..
يعوي بأصواته المفزعة ، ويحوم حولها بخطواته المفجعة ..
أطاب لها الكلام .. ووعدها بوعود أهل العشق والغرام ..
دلاَّها بغرور .. وقاسمها بفجور ..
إنَّه لمن الناصحين المخلصين .. ومن المحبين الصادقين ..
مسكينة !
لانت لقوله .. وصدَّقت معسول حديثه ..
إقترب منها .. رويداً .. رويداً ..
وهي تبتعد عنه ، وتقترب منه ..
خطوةً .. خطوة .. مرَّةً للأمام ، ومرَّة للخلف ..
حتى إذا حاذاها .. وتمكن منها ..
عدى إليها .. وانقضَّ عليها ..
يمزقها بأنيابه .. وينهشها بمخالبه .. ويلغ في دمها بلسانه ..
يتلذذ بتمزيقها .. إرباً .. إربا ..
انكشف قناع الزيف عن وجهه .. فعرفته على حقيقته ..
ولكن ـ ويا للأسف ! بعد أن ضاعت الفرصة للهروب من كيده ، والنجاة من مكره ..
ووقعت الفريسة الضائعة بأيدي الذئاب الجائعة !!
فأيُّ تنغيصٍ للعيش وتكدير للحياة سيهجم كالأسود الضارية على الفريسة المخدوعة لتنهش سعادتها وتمزق راحتها ويقضي على كلِّ آمالها وأحلامها ..
والثمن لهذا الألم الذي لا ينقطع والحزن الذي لا يسكن ؛ ساعة لذة ، ولحظة غفلة ، غابت عن الواقع ، وخلَّفت ـ من بعدها ـ المخازي والمواجع
وعاطفة كالعاصفة .. أتت على كلِّ شيء ، فلم تُبق ـ بعد رحيلها ـ إلاَّ الحسرة والعذاب ، وآثار الدمار والخراب .
والسبب في العرض الذي ذهب ، و الشرف الذي غاب ، قلَّة الخوف من الله ، وغفلة العبد عن خالقه ومولاه .. فلا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله !
قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم }
* أختاه !
الخطوة الأولى من المرأة .. ثم تأتي ـ من بعدها ـ خطوات الرجل !
والشريفة العفيفة تغلق باب الفتنة في وجه كلِّ من يريد بها السوء ، ويسعى أن يجعلها لقمة سائغة بين أنياب الذئاب التي تسعى للوصول إليها حالما تخرج من مخدعها الآمن ، ومسكنها الساكن .
وقليلة العقل وضعيفة الإيمان من تعرض نفسها للبلايا والفتن، والرزايا والمحن ، فلا تستيقظ من غفلتها إلاَّ على بوابة الفضيحة والسمعة القبيحة أو على بوابة الموت والرحيل المر !
* أختاه !
إن للشيطان حبائل ، ولأعوانه وسائل !
والهدف ؛ أن يحيق بك التلف ! فتنبهي !!
فهم ينادون في المرأة ويقولون لها : إذا كنت تريدين أن تكسبي الرجل ، وتدركي محبته ، وتثيري إعجابه : فالبسي كذا وكذا ..من الملبوسات التي تتغير بتغير الفصول والأوقات والأماكن والمناسبات .
فهذا فستان يكشف مفاتن الصدر والنحر ..
وهذا آخر يكشف مفاتن الظهر والشعر ..
وهذا يظهر الساق والقدم ..
وهذا يبرز الجمال ويبين عن الكمال ..(2/134)
وأخذوا ينقصون ثيابها من أطرافها ، ليخرجوا الزهرة من أكمامها ، واللؤلؤة من أصدافها ، فيروها جسداً بلا ثياب ، عارية دون حجاب ، ليعبثوا بها ، ويتلذذوا بمحاسنها ، حتى يملوها ، ويسأموا منها ، فيلقونها تحت أقدامهم ويسحقونها بأرجلهم ، ليبحثوا عن غيرها من الفتيات الضائعات اللاتي في حمى الغفلة راتعات....
فأجابتهم المحرومة ، وانقادت لهم المهزومة ، ضعيفة الإيمان ، مهزوزة الشخصية ، ممسوخة الهوية ، قليلة العقل ..
فغدت لهم مرتعاً خصباً ، وميداناً عظيماً يعبثون بها ، ويستخفون بعقلها ، ويلبسونها متى ما شاءوا ، ويعرونها متى ما أرادوا ، كالهائمة من السائمة .
وحاولوا أن يخرجوها من بيتها ومملكتها الحصينة وقلعتها الأمينة لتخرج لهم سافرة حاسرة ، قد خلعت جلباب الحياء قبل حجاب الثياب .
قال تعالى :{ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً }
ومن تلبيسهم على المرأة المسلمة أنَّهم خدعوها بالادعاءات الكاذبة والدعايات المضللة عبر وسائل الإعلام من مجلات وقنوات وأفلام ، فسمَّوا لها الحب الشهواني والعشق الشيطاني باسم الحب والعلاقات البريئة !
والتعري باسم الموضة والأناقة ..
والسفور بالتحضر والتطور ..
والتمرد على الدين وشرع رب العالمين بالتقدم والتحرر ..
وشنَّعوا على الملتزمة بدينها ، والمستقيمة على أمر ربها ، فنبزوها بالألقاب القبيحة ، وأظهروها بالصور الشنيعة ، ليرجفوا في قلبها ، وليصدوها عن طريقها ، وليصرفوا عنها من تريد أن تسير على منوالها .
فلمزوا الملتزمة بأنها معقَّدة متزمتة !
وطعنوا في المحافظة على دينها وأدبها بأنَّها غير مرغوبة أو محبوبة !
وقالوا عن الستر و الحجاب بأنه تخلُّف ورجعية وعودة للعصور الحجرية !
وقالوا عن الحياء أنَّه هزيمة نفسية وضعفٌ في الشخصية !
يسمون الحقائق بغير اسمها ..
وهذا من تلبيس إبليس ، وتدليس المفاليس !
فكان ماذا ؟!
عثرت في طريق الحق بعض ضعيفات الالتزام ، فزلَّت بهن الأقدام ، ووقعن في جحيم الخطايا والإجرام ..
وسايرن ـ في ضعف بالغ ـ مركب التغريب ، وركبن ـ في بلادة قاهرة ـ مركب التخريب ، فوقعن في الفخ ، وسقطن في المصيدة .
* أختاه !
لو تأمَّلتِ حال بعض الفتيات ، ورأيتِ كيف تعيش ؟ وبماذا تتعلَّق ؟ وبمن تقتدي ؟ لتألمتِ لحالها ، ولتفطَّر قلبك كمداً ونكداً عليها .
فلا تكادين ترينها إلاَّ وهي تجوب الأسواق ، تحوم كالرحى ، وتدور كعقارب الساعة ، بين تلك المحلات التي خدعتها بتلك الإعلانات المشوقة عن التخفيضات المزعومة والتنزيلات الموهومة والتصفيات الكاذبة ، لتظلَّ المرأة أطول وقتٍ لها في أبغض البقاع إلى ربها ، فتُعرِّض نفسها للفتن والمحن ، في مكانٍ نصب فيه الشيطان رايته ، وأطلق فيه جنده و زبانيته .
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنها ـ أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" أحبُّ البلادِ إلى الله مساجدها ، وأبعضُ البلاد إلى الله أسواقُها "
وغدا التسوُّق عندها ليس للحاجة ، وإنما للمتعة والسلوة ، ولقتل الوقت ، وتزجية الفراغ .
فاختلطت الفتاة بالرجال الأجانب ، ومنهم ذئابٌ جائعة تبحث عن فريسة ضائعة .. يبحثون عمَّن نسيت ربها ، وقلَّ دينها ، ورقَّ يقينها ، وغاض حياؤها ، فألقوا عليها شباكهم ، وأوقعوها في شراكهم ، بعد أن خدعوها بمعسول الكلام ، ووعود أهل الغرام الحرام ، فذُبحت المسكينة بسكين الغدر ، وطعنت بخنجر الخيانة ..
فيا ويلها !
يا ويلها يوم زلَّت قدمها .. فوطئتها الأقدام !
ونسيت خالقها ... فذكرتها المجالس بالتقبيح والتجريح ، والغمز واللمز ، والعتاب والملام !
وغفلت عن ذكر ربِّها .. فلاكت سمعتها الألسن ، وطعنت فيها الأفواه بالطعن والاتهام !
وسمعت ما حرَّم الله عليها .. فتسامع النَّاس بخبرها وانكشاف سوءتها بين الأنام !
ونظرت بعينها للمحرمات .. فملئت عينها بالدموع والعبرات !
وتهاونت في حجابها .. فهانت على الله وباءت بخسرانٍ عظيم !
وبذلت عرضها .. فذلَّت بذلك طول عمرها وعاشت في عذاب وجحيم !
ولو أنَّها حفظت دينها ، وصانت نفسها ، ورعت محارم ربِّها ، لحفظها الله من كلِّ سوء ، ولدفع عنها كلَّ شر ، ولكانت في منعة ورعاية وحفظٍ وعناية .
ولكن ؛ أبى الله إلاَّ أن يُذلَّ من عصاه ! ويفضح من تجرأ عليه ! ويكشف سوءة من لم يستح منه !
وما ربُّك بظلاَّمٍ للعبيد .
فما أكثر العِبر ! وما أقلَّ المعتبرين !
وما أبلغها من عِظاتٍ ! ولكن ؛ أين المتعظون ؟!
وما أسوء حياة الغافلين !
وما أقبح عيشة المعرضين !
وما أشنع نهاية الساقطين !
فوا حزناه عليها عندما سقطت ـ بتفريط منها ! فريسة ضعيفة في قبضة ذلك الذئب الخبيث الذي غدا يساومها على عرضها الغالي بعد أن سلبه ونهبه !
ووا حزناه على أهلها الذين وثقوا بها ، واطمأنوا لها ، فسحقت كرامتهم ، وذلَّت رقابهم ، ونكَّست رؤوسهم ..
فالعرض مدنَّس ، والرأس منكَّس !
ووا حزناه عليها يوم يهجم عليها هاذم اللذات ، فيهدم لذَّاتها ، ويلهب في حسراتها ، ويزيد من كرباتها !
ووا حزناه عليها يوم توضع في قبرها لوحدها ، دون أنيس أو جليس !
أين ساعة الفرح بالمعصية ؟! لقد أعقبها ألم طويل وندم مرير .
ووا حزناه عليها يوم توضع في تنور يغلي ، أسفله واسع وأعلاه ضيِّق ، به نارٌ تضطرم ولهب يضطرب ، وفيه أناسٌ عراة ، تصعد بهم النار إلى فوق ، فيصرخون من حرارة النار ولسعها ، ثم تنزل بهم إلى أسفل ، ليستمرَّ بهم العذاب والعقاب ، حتَّى يأذن بخروجهم منه ربُّ الأرباب !
عن سمرة بن جندب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" رأيت الليلة رجلين أتياني ، فأخذا بيدي فأخرجاني إلى أرض مقدسة .. "
فذكر الحديث إلى أن قال :" فانطلقنا إلى ثُقبٍ مثل التنُّور أعلاه ضيِّقٌ وأسفلهُ واسعٌ ، يتوقَّدُ تحته ناراً ، فإذا اقتربَ ارتفعوا حتى كادَ أن يخرُجوا ، فإذا خَمدَت رجعوا فيها ، وفيها رجالٌ ونساءٌ عُراةٌ ... "
ثمَّ قال في آخر الحديث :" ... والذي رأيتَهُ في الثَّقبِ فهمُ الزُّناةُ "
ووا حزناه عليها يوم تنشر من قبرها ، ثم تحشر بين يدي ربها ، لتحاسب على ما فعلت ، ولتسأل عما صنعت !
فأيُّ خجلٍ يعتريها ؟! وأيُّ حياءٍ يحتويها ؟!
إنَّه سؤالٌ ما أصعبه ! وموقفٌ ما أرهبه !
فأين أحبة الليالي الحمراء التي ملئت بما يُغضب رب الأرض والسماء ؟!
أين عهودهم ؟ أين مواثيقهم ؟ أين أيمانهم ؟
ما لهم وقفوا يلعنونها ويتخلون عنها ؟ !
تربت أيديهم وشُلَّت أيمانهم !
يتخلَّون عنها ، ويشهدون عليها ، ويخبرون بفعلها ، ويفضحونها ، فأحبَّة الأمس الغابر أعداء اليوم الحاضر !!
قال تعالى :{ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاَّ المتقين }
ووا حزناه عليها يوم تلقى في نار السموم !
يتأذَّى أهل النار من رائحة ونتن ما يخرج من قيح وصديد من فرجها .. عقوبة لهم ولها !
إذا لم تدركها رحمة ربها ..
فهل لحظة التلذذ بالوهم الكاذب ثمن مناسب لهذا العقوبات والكربات المهيبة ؟!
وهل ساعات التمتع باللذات الزائلة في الحياة العاجلة تستحق هذه الثمن البخس وهذه الخسارة الفادحة ؟!
* أختاه !
على رحاب السوق تدور أغلب هذه الحروب الضارية بين جماعة الذئاب الجائعة وبين الفريسة الضائعة التي خرجت عن حماها الذي ترعاه ويرعاها ، فعدا عليها العدو فأرداها !
أتريدين أن تعرفي بعض أوصاف الفريسة الضائعة التي نخاف عليها من نفسها ، ونخشى عليها من أعدائنا و أعدائها ؟!(2/135)
إنكِ ستجدينها تطوف بالأسواق في تبرجٍ وسفور ! وحبٍّ للظهور ! وقصم للظهور ! دونَ محرمٍ ملازمٍ يدفع عنها صولة الغادر وجولة الماكر .
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : " صنفانِ من أهلِ النار لم أرهما ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساءٌ كاسياتٌ عاريات ، مميلاتٌ ما ئلاتٌ ، رؤوسهنَّ كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا " .
تتحدث مع الباعة في خضوع وخنوع ، وتتعرض للرجال دون رادع من حياء أو وازع من دين ، وإنما في تغنج ودلال ، ولين فاضح في الحركات والخطوات والأقوال والأفعال .
قال تعالى : { فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفًا ..}
تفوح طيباً وتتضوع عطراً ، وتتمايل تبخترًا !
عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أيما امرأة استعطرت ، فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانيةٌ ".
تضرب الأرض برجلها لكعبها العالي ، وكأنما تقول : نحن هنا ! فيا أيها الأسد الضاري لاتعدو داري !
قال تعالى : { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }
قد كشفت حجابها وزينت جلبابها ، فالعباءة مطرزة مزركشة ، مزخرفة مزينة ، مفتحة الأبواب !
والعباءة شرعت لتغطية الزينة ، لا لتصبح في ذاتها زينة ، تلفت كلَّ ناظر ، وتغري كلَّ فاجر !
تفننت في الحجاب ولبست النقاب الذي ما شرع إلاَّ لترى المرأة الطريق ، لا ليراها أهل الطريق ، فأخذ النقاب ـ عندها ـ يتسع من أطرافه ، وغدا التدرج في التبرج سمةً لها ، حتى كشفت وجهها ـ وهو موضع الفتنة فيها ومكمن الجمال عندها ـ ليس تديناً وتعبداً ـ وإنما هوىً وشهوةً ، ومسايرة لمركب التغريب والتخريب الذي يريده أعداء الله تعالى ضد المرأة الشريفة العفيفة .
* فيا أختاه !
أختاهُ لا تستسلمي وخُذي السلاحَ وأقدِمي
لا تذعني لا ترضخي فالعهدُ ألا تُهزمي
أبقي الخِمارَ شعارَ عِزٍّ في الحرائرِ قيِّمِ
أبقي الخمار يغيظهم ويَهُزُّهُم لا تَحجمي
أبقيه يا أختاهُ تفديك العيونُ وتسلمي
* أختاه !
نحن قادمون على الله ، وواقفون بين يديه ، ومعروضون عليه ..
قال تعالى :{ واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }
فهل اتخذنا الحياة الدنيا مزرعة للآخرة ، وتزودنا من الأعمال الصالحات ما يسرُّنا أن نلقاه يوم أن نقف بين يدي الله ؟!
ذلك ما أرجوه وأتمناه !
وإن كانت الأخرى ، فلنتذكر النَّار الكبرى ، التي وقودها النَّاس والحجارة ..
قال تعالى :{ فأنذرتكم نارًا تلظى . لا يصلاها إلا الأشقى }
ولنحسب ـ بصدق وتجرد ـ فداحة الخسارة ، يوم تغلق أبواب الجنان ، ويُطرد عنها من ليس من أهلها ، وتفتح أبواب النيران ، ليلقى فيها من كتب الله عليه العذاب بها ..
فهل تساوي لذائذ الدنيا جميعاً لحظة كهذه اللحظة ؟! وموقف ـ مهيب رهيب ـ كهذا الموقف ؟!
اللهم رحماك !
اللهم رحماك !
اللهم رحماك !
وكتبه
عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
جمعه الله بأحبته في جنات النعيم
جدة ( 21468)
ص . ب (34416)
-================
نحو تطوير معرفي إسلاميٍ لمناهجنا الدراسية
الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية
طالعتنا وسائل الإعلام المختلفة في بلادنا منذ فترةٍ ليست بالطويلة بتوضيحٍ لمهام وأهداف وأعضاء ( لجنة التربية ) التي أُسند إليها مهمة العمل على تنقيح وتعديل وتطوير المناهج والمُقررات الدراسية لمختلف مراحل التعليم في بلادنا تبعاً لما تقتضيه المصلحة العامة التي تفرض القيام بهذه المهمة بين وقتٍ وآخر للتعرف على نقاط القوة وتعزيزها ، وتلمُس نقاط الضعف والعمل على معالجتها ؛ إضافةً إلى أهمية استيعاب هذه المناهج لمختلف المتغيرات الحياتية التي نعيشها في وقتنا الحاضر ؛ لاسيما وأن العالم من حولنا يعيش كثيراً من التطورات المتسارعة في شتى مجالات الحياة وميادينها ؛ مع مراعاة التمسك والمحافظة على الثوابت والمقومات والمبادئ والقيم الرئيسة لأُمتنا الإسلامية ، والاهتمام بحاجة ومُتطلبات سوق العمل المُعاصرة من الطاقات والمواهب المؤهلة علمياً وعملياً ومعرفياً ؛ والتي تكفل - بإذن الله تعالى - توفير الفرص الوظيفية اللازمة لأبناء هذه البلاد سواءً في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص .
وانطلاقاً من كون وزارة التربية والتعليم في بلادنا تتبنى مشروعاً شاملاً لتطوير المناهج الدراسية وإعادة النظر في مناهج التعليم ومُقرراتها ، وحيث إن مشروع تطوير المناهج قد وصل إلى مرحلة إعداد المواد التعليمية وتأليف الكتب والمقررات والمواد التعليمية ، وتم تشكيل مجموعة من اللجان لإعداد وتأليف هذه المواد ؛ فإنني أطرح اقتراحاً أرى أن على السادة أعضاء لجنة التربية وغيرهم من الأعضاء في فرق العمل المختلفة لهذا الشأن أن يولوه اهتمامهم وعنايتهم الخاصة لأهميته القصوى ، وخصوصيته الفريدة التي تفرض علينا جميعاً عدم تفويت الفرصة العظيمة التي توجب علينا استثمارها واغتنامها بشكلٍ إيجابيٍ في هذا الشأن سواءً على مستوى التعليم العام أو التعليم الجامعي لما في ذلك من خدمةٍ لما يفرضه علينا ديننا الإسلامي العظيم ، وتحقيقٍ لما ننشده جميعاً لبلادنا ومجتمعنا من تقدمٍ ورقيٍ حضاريٍ قائمٍ على أُسسٍ راسخة وركائز ثابتة .
ويتمثل هذا الاقتراح في أهمية الأخذ بعين الاعتبار [ عند تطوير مناهج بعض المواد الدراسية مثل : مواد العلوم ( الأحياء ، والكيمياء ، والفيزياء ) ، ومادتي الجغرافيا والجيولوجيا ] تحقيق الإفادة العلمية المطلوبة من مُنجزات وأبحاث هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنة التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى سنة 1406هـ ، والتي تضم في عضويتها عدداً من العلماء المبرزين في مختلف بلدان العالم الإسلامي ، وتتخذ من رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة مقراً لها ؛ لاسيما وأن من أبرز أهداف هذه الهيئة كما تُشير إلى ذلك بعض مطبوعاتها تتمثل في ما يلي :
1- صبغ العلوم الكونية بالصبغة الإيمانية ، وإدخال مضامين الأبحاث المعتمدة في مناهج التعليم في شتى مؤسساته ومراحله .
2- نشر هذه الأبحاث بين الناس بصورةٍ تتناسب مع مستوياتهم العلمية والثقافية " ( 2 ) .
ولعل مما يُبرر العناية والاهتمام بهذا الاقتراح أننا - ولله الحمد والمنة - أبناءُ مجتمعٍ مسلمٍ ومُتميز في كل جزئيةٍ من جزئيات حياتنا ، ونعلم يقيناً أنه لا يمكن أن تكون لنا عزةٌ أو رفعةٌ أو كيان إلا بالمحافظة على معالم ديننا الحنيف ، والاعتزاز به ، والتمسك بتعاليمه السامية وهديه المُبارك . ثم إن لائحة المشروع الشامل لتطوير مناهج التعليم التي أعلنت عنها وزارة التربية والتعليم ( المعارف سابقاً ) ،قد نصت في البند الثالث تحت عنوان مرجعيات التطوير على أن " وثيقة سياسة التعليم في المملكة تُعد المرجع الأول الذي يعتمد عليه مشروع التطوير الشامل للمناهج " ( 3 ) .(2/136)
وهذا يعني أن الإفادة من نتائج الأبحاث المعتمدة في المجالات العلمية المختلفة من قبل هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسُنة ، والعمل على إدخالها ضمن المناهج التعليمية في مختلف المراحل الدراسية في بلادنا أمرٌ مطلوب وهام جداً لنا في هذه المرحلة الحضارية التي - لا شك - أن التطور العلمي المعاصر قد شمل كل جزئيةٍ وكل شأن من شؤون الحياة فيها .
من هنا فإن تضمين مناهجنا لنتائج هذه الأبحاث والدراسات العلمية الحديثة سوف يُحقق الكثير من الميزات والخصائص التي منها :
أولاً / الإقدام على خطوةٍ مباركةٍ وخصوصية مُميزة في مجال تطوير المناهج التعليمية من منظورٍ إسلامي صحيحٍ وغير مسبوق ؛ وليس غريباً أن تكون المملكة العربية السعودية هي صاحبة التميز والريادة في هذا الشأن .
ثانياً / تأكيد الهوية الإسلامية التي ينبغي أن تنفرد بها مناهجنا التعليمية في مختلف المجالات والميادين العلمية ؛ ولن يتحقق ذلك إلا من خلال العمل الجاد لتوجيه مختلف المعارف والعلوم في مناهجنا التعليمية ومقرراتها الدراسية توجيهاً إسلامياً صحيحاً نابعاً من كتاب الله العظيم ، وسُّنة رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم .
ثالثاً / العمل على تصحيح مسار العلم التجريبي في العالم المعاصر ، والحرص على كشف الحقائق العلمية الكونية المختلفة للناس في كل مكان ، من خلال تقديم خلاصة ما توصلت إليه الأبحاث والدراسات والتجارب العالمية المعاصرة التي تهتم بها هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنة وغيرها من المؤسسات والمنظمات العلمية ذات العلاقة .
رابعاً / محاولة العودة مرةً أُخرى إلى مركز القيادة الأُممية التي أشار إليها رئيس وزراء ماليزيا ( السابق ) / مهاتير محمد في حديثه لندوة ( الرؤية المُستقبلية للاقتصاد السعودي ) التي عُقدت في وزارة التخطيط منذ عدة سنوات ، حيث قال :
" ويعلم الله أن الأُمة الإسلامية في أَمس الحاجة لدولةٍ مسلمةٍ تكَّون قوةً عالمية ، والمملكة العربية السعودية في موقعٍ جيدٍ لأن تكون قوةً عالميةً إذا ما اختارت لنفسها ذلك ، وأعانتها عليه الأمة الإسلامية في سائر أنحاء العالم " ( 4 ) .
وبعد ؛ فإن هذا الاقتراح يأتي في وقتٍ نحن فيه بأمس الحاجة إلى إعادة النظر في مناهجنا التي كثُر الحديث عنها ما بين مؤيدٍ ومُعارض ؛ والتي آن الأوان لأن نُثبت للعالم أجمع - من خلالها - أننا أصحاب رسالة عالمية هاديةٍ مهدية ، وأصحاب وحيٍ سماويٍ صالحٍ لكل زمانٍ ومكان .
فهل لنا أن نسعد بتحقيقه لنقدم للعالم كله الحقائق العلمية الصادقة مُدعمة بالدليل الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه ؟ !
وهل يُمكن أن نُقدم للعالم من حولنا منهجيةً علميةً صحيحةً تقوم على أساليب ووسائل دعوية قوية ومؤثرة ؟
هذا ما نرجوه ونؤمله من السادة الأفاضل أعضاء لجنة التربية وغيرهم من الأعضاء في فرق العمل المختلفة المعنية بهذا الشأن ، والله نسأل أن يوفق الجميع لما فيه الهداية والرشاد ، والتوفيق والسداد ، والحمد لله رب العباد .
-----------------------
الهوامش :
(1) مجلة مناهج . العدد الأول . ( 1423هـ / 2002م ) . قبل البدء . ص ( 3 ) .
(2) مطوية بعنوان : حقائق علمية في القرآن والسنة بهرت العالم .(د.ت). هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة . ص (5) .
(3) مجلة مناهج . العدد الأول . ( 1423هـ / 2002م ) . المشروع الشامل لتطوير المناهج . ص ( 12 ) .
(4) رسالة المعارف . العدد ( 42 ) ، ( رمضان 1423هـ / نوفمبر 2002م ) . ص ( 12) .
=-=-=-=-=
عنوان الكاتب
الدكتور / صالح بن علي أبو عرَّاد
أُستاذ التربية الإسلامية المُساعد
ومدير مركز البحوث والدراسات التربوية بكلية المعلمين في أبها
أبها _ ص . ب : ( 249 )
E-Mail : abo_arrad@hotmail.com
هاتف جوال رقم [ 0504509749]
أو هاتف وفاكس [ 072285565]
================
"المتمسلمون"
فهد بن محمد الحميزي
لما ذكر مؤرخ الإسلام الحافظ الإمام الذهبي أنواع التواريخ التي تناولت شتى طبقات المجتمع المسلم والتي أوصلها إلى أربعين تاريخاً حتى أنه ذكر منها تاريخ عقلاء المجانين والموسوسين والمنجمين والسحرة . . ليته ـ رحمه الله ـ ذكر منها تاريخ أولئك الخونة الذين سودوا صفحات التاريخ بمواقفهم وعمالتهم . .
هم لم يسقطوا ملوكاً فحسب بل أسقطوا شعوباً وأمماً وخلافات , وللأسف فإن العلماء وسابروا التاريخ وقتها أصيبوا (برهاب سياسي) فتولد عندهم خوفاً من الخوض في مثل هذه القضايا الخطيرة مما جعلها تصبح حبيسة الأذهان . ومن تكلم من العلماء حينها وصدع بكلمة الحق أصبح يترقب (ضيوف الفجر) ممن كابدوا الليل لا بطول قيام وإنما بخبث طوية وفساد معتقد!!
وقد حدثنا التاريخ كثيراً عن أولئك الخونة(المتمسلمين)حدثنا عن عبد الله بن سبأ لما كان يعمل في الخفاء ويُحدث الفتنة كما في حادثة الجمل , وبالثورة والتأليب كما وقع منه حيال عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ..
حدثنا التاريخ عن عبيد الله بن يزيد قاتل الحسين..
حدثنا التاريخ عن أبي دؤاد المعتزلي قاتل القضاة والعلماء..
حدثنا التاريخ عن أبي طاهر القرمطي منتهك حرمة المسجد الحرام ..
حدثنا التاريخ عن الحسين الحلاج صاحب البدعة المكفرة والقول بالحلول والإتحاد ..
وحدثنا التاريخ عن ابن العلقمي الوزير المنافق صاحب الرسائل العلقمية الخائنة لهولاكو...!!
إن التاريخ القديم كما حدثنا عن أولئك الخونة ( المتمسلمين) في الحقبة الماضية , فقد حدثنا التاريخ الحديث عن أسماء سوداء وعملاء مرجفين وطوابير مختلفة الأجناس والتوجهات للإطاحة بدول عربية تنتمي إلى الإسلام ولو بالظاهر أمثال حسني الزعيم, وأديب الشيشكلي, وسامي الحناوي ,وأسعد طلس ـ عميل بريطانيا الوفي ـ ونوري السعيد وأحمد خان قائد اتجاه التغريب في الهند ومؤسس المدرسة الفكرية التغريبية والذي دعا إلى تقليد الحضارة الغربية وإلى تفسير الإسلام تفسيراً مطابقاً لما وصلت إليه المدنية الحديثة في آخر القرن التاسع عشر . وغير هؤلاء الكثير الكثير ممن تعرفهم بلحن القول..!!
ولذلك كتب الدكتور محمد محمد حسين وقتها كتابه القيم "حصوننا مهددة من داخلها" وشنع فيه على الإنهزاميين( المتمسلمين) الذين وقعوا تحت سيطرة الأفكار والنظم الغربية.
ومثل هؤلاء لا ينبغي أبداً أن يذكر أحدٌ لهم سيره وإنما تكفي الإشارة بأسمائهم ، فهم في الحقيقة لا يستحقون أن يرفع لهم ذكر أو شأن وإن كانوا أبقوا بصماتهم في دولهم بصمات الخزي والعمالة والتخريب .
إن بعض هؤلاء العملاء حاول أن يبني له ( قاعدة صلبة ولو على المدى البعيد ) قاعدة ذات نتائج وخيمة وأهداف خبيثة وخطط مدعومة والأثر المترتب على ذلك الإطاحة بكيان الأمة المسلمة .
ولذلك لما حصلت الانقلابات المتتالية في الدول العربية المجاورة في السنوات السابقة كانت قوى الانقلاب فيما تُدعم من عدوٍ خارجي لمصالح ومطامع ثرواتية فيها . وبينما كانت هذه الدول العربية تتقلب بين هذه الانقلابات كانت إسرائيل التي قامت على أكتاف الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية تعد العدة للعدوان والاحتلال وتوسيع رقعتها الجغرافية .(2/137)
إن العدو الآن يتربص بنا وإننا لنعلم أن هناك خططاً تآمرية رهيبة تطبخ بدوائر ( البنتاغون ) والمخابرات المركزية الأمريكية على نار هادئة . وما تقارير مؤسسة راند الأمريكية لدراسات طبيعة الشرق الأوسط والتيارات الإسلامية بها إلا أكبر نموذج مشاهد بهذا التربص فهل لك أن تعي الواقع الذي من حولك ؟!
إن ما كنا نسمعه من أسماء لهولاء العملاء الخونة في بلد عربي مثل مصر أمثال فكري أباضه -صاحب مقالة إن أعظم رجل في التاريخ الحديث هو مصطفى كمال أتا تورك -ومن تصدروا أعمدة الصحف والمجلات في تلك الحقبة أمثال عبدا لرحمن الشرقاوي ويوسف الخال وغيرهم من ( المتمسلمين ) الذين ينتسبون للإسلام اسماً وهم في حقيقة الأمر أعداء حاقدون ، هم أنفسهم -وإن اختلفت أسمائهم -الذين نراهم ونشادهم في قنواتنا وهم الذين اعتلوا أعمدة صحافتنا وفُتح لهم المجال لكتابة ما يريدون .. !! كنا نعرفهم ( طابوراً خامساً ) فإذا بهم طوابيراً منظمة ومدعومة .
ولا زالت ( الصحافة الصفراء ) تخِّرج لنا أسماءً جديدة لهولاء ( المتمسلمين ) وتنشر لهم أفكاراً مستوردة حتى أضحت هذه الصحافة التي تحتضنها بعض البلاد المسلمة حرباً على الإسلام هدفها هدم القيم الإسلامية وتدمير مفاهيمها .
إن الخيانة التي نتحدث عنها هنا ليست قيام بعض الأشخاص بالتجسس لصالح العدو وقت السلم أو وقت الحرب فمثل أولئك يعرفهم الناس وتلفظهم الشعوب , ويحتقرهم كل عاقل ..
إن الخيانة التي نعنيها هي تلك التي يقوم بها أناس من بني جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا ويكيدون في نفوسهم أو عند ملئهم لكل ما يمت للإسلام بصلة , سواءً كانوا حكاماً أو وزراء أو مفكرون أو ليبراليون ( متمسلمون ) .
إن ما حدث من الخيانات منذ قرون وسنوات مازالت تخلف وراءها الآثار السلبية وتؤكد أن الجرح لازال غائراً .. ولا أدل على ذلك من الآثار التي بقيت بعد ( واضح الصقلي) أول من استعان بالغرب ضد أهل الإسلام !!
نعم سيظل ابن سبأ ومن كان على شاكلته رمزاَ لخيانة الضمير قبل خيانة العقيدة وخيانة الوسيلة قبل خيانة الهدف .
* العروض المجانية :
من العروض المجانية التي سجلها التاريخ الحديث ما تلقاه السلطان عبد الحميد الثاني الخليفة العثماني حينما تلقى عروض هرتزل ممثل الصهيونية العالمية ،وكرر إغراءاته لإنقاذ الدولة العثمانية من ديونها ، وتقوية جيوشها وتدعيم اقتصادها ، مقابل (بيع فلسطين!!) والتنازل عن بعض أراضيها .. فما كان أمام السلطان إلا أن يرفض إغراءات العروض الصهيونية ويصمم على الحفاظ على سائر الديار الإسلامية ، فثارت القوى الصهيونية ،وخرجت التسمية الأوربية للدولة العثمانية باسم (الرجل المريض ) وظهر في عالم السياسة ذلك الوقت ما عرف (بالمسألة الشرقية ) والتي سعت فيها أوربا لطرد العثمانيين وتقسيم ممتلكاتهم .
ثم توالت (العروض المجانية) حتى اختير الرجل المناسب في المكان المناسب ـ ممن باع آخرته بدنياه ـ لما لمُع شخص (كمال أتاتورك) ذلك (المتمسلم ) الذي عرف بلقب الغازي لما فُتحت الأبواب أمامه وأُظهر انتصاره على اليونانيين ،ولكنه لم يلبث حتى ظهر على حقيقته ، وأنه صنيعه لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى .
وفي عام 1342 هـ قدم أعظم هديه للغرب (إلغاء الخلافة )و لما أثقلت كاهله العمالة وطمست على قلبه وأعمت بصره وبصيرته قال بعد أن ألقي القرآن ذات مره في يده (إن ارتقاء الشعوب لا يصلح أن ينفذ بقوانين وقواعد سنت في العصور الغابرة ) .
ومثل هذه العروض المجانية ما تقوم به الدول العربية و الشرق أوسطية من القيام بدعوة أبناءها للإبتعاث في الخارج .. والنتيجة أن يصبحوا لقمة سائغة للتغريب ،ويذوب الطرف الأضعف في الطرف الأقوى ذوباناً شبه كامل حيث يترسَّمون خطاهم ويسيرون على منوالهم في كل شيء في النظم و التشريعات و القوانين بل حتى في الزي واللباس وطريقة التفكير . وما نموذج رفاعة الطهطاوي من مصر ، وخير الدين التونسي من تونس ،إلا أكبر شاهد لنقل الحضارة (الباريسية)التي ترعرعوا عليها هناك .
إنما تبثه بعض قنواتنا العربية وما تلاقيه من دعم من جهات مشبوهة لأكبر شاهد على القيام بدور العمالة والخيانة ، لكن بدل أن يقوم بهذا الدور فرد قام به أفراد وجماعات منظمة !! وبدل أن تكون ارتجالية أصبحت مؤسسية وتدار على طاولة النقاش !!
يجلي ذلك ما ذكر في تقرير (RanD2007) من الإشارة إلى الدعم التي تتلقاه قناة الحرة الفضائية وراديو (سوا) ـ و التي تخاطب سكان دول الخليج على وجه الخصوص ـ والذي بلغ (671)مليون دولار في السنة !!.
وهذا دليل جديد على الدعم المستمر لكل ما من شأنه زعزعة الهوية الإسلامية .
* الأفكار التوفيقية :
إن هذه الأفكار نشأة نتيجة الإغراق في التبعية للغرب والتي نستطيع أن نقول أنها بدأت بعد انهيار الخلافة العثمانية حينما واجه الغرب الصليبي والشيوعية والصهيونية الأمة الإسلامية ونشط حينها ( المتمسلمون ) وأصبحوا في حل من القيود ، وأخذت أفكارهم تجد هوى وتأييداَ لدى العامة لتصبح رأياً عاماً باسم التقدمية والنهضة والإصلاح !! وقامت هذه المدرسة الجديدة ذات الأفكار التوفيقية والتي ترمي إلى التقريب بين الإسلام والحضارة الغربية في ميادين الحياة حتى كان من نتاج هذه الأفكار : تفسير النصوص تفسيراً عصريا يلائم الفكر السائد !!
وقد ألجأ الهجوم الفكري في هذه المدارس إلى مواقف دفاعية غريبة عن الإسلام إذ جردته من كثير من أحكامه الصريحة نحو تعدد الزوجات ، والربا ، والتماثيل ، والجهاد ، وأهل الذمة .. فأصبحت هذه الأمور عندهم من نقاط الضعف في الإسلام والتي تحتاج إلى دفاع !!
اسأل الله بمنه وكرمه أن يكفينا شر هؤلاء ( المتمسلمين ) وأن يكبت انتشار أفكار هذه المدرسة التغريبية . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتب
فهد بن محمد الحميزي
Fahad442@maktoob.com
=============
سلاح معاصر اسمه (المرأة)
د. جواهر بنت عبدالعزيز آل الشيخ
يتوهّم البعض أن نصرة المرأة إنما يكون بمخالفتها لفطرتها التي جبلها الله عليها، وذلك بدعوتهم للمساواة المغايرة للطبيعة، والمعترضة على تقسيم الخالق والإيحاء بأنه أول من ظلمها.. تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فهو الذي حرم الظلم حتى على نفسه.
ولكن لو تبصر هؤلاء بعمق لوجدوا أن كلا الجنسين متمم للآخر، مكمل لدوره، فلو كانت الحكمة تقتضي المساواة التامة بينهما لما أوجد الخالق إلا جنس الرجال فقط أو النساء فحسب، ولو تحقق هذا الاختيار البشري القاصر لا نقرضت البشرية وانتفت الحكمة من إيجاد الخليفة في الأرض التي أراد لها مدبّرها أن تمرّ بمرحلة الابتلاء والامتحان، ولما احتاج كل جنس للآخر.
وبما أن لكل منهما دوره البنّاء والحيوي إلا أن هناك من يريد أن يحرف المسار بهذا الدور، إما بحسن نيّة أو بعكسها، فأراد هؤلاء وأولئك أن يتساوى الاثنان في الواجبات والحقوق دون أي تصنيف وبطريقة فجة، ناسين ومتناسين أن هناك أموراً يختص بها كل منهما، ولا يستطيع الآخر التساوي فيها مهما حاول، بل إن فطرته السليمة تجعله يفجع فيما لو انتقل - بعد أن يسير به العمر - إلى الجنس الآخر، كالأمومة وتوابعها على سبيل المثال الأقوى التي اختص الخالق بها الأنثى، وفطرها عليها بالحنان وقوة العاطفة.(2/138)
وفي وطننا المعطاء تنال المرأة حقوقها تامة غير منقوصة بصورة عامة، لم يظلمها الشرع ولا الدولة ولا المجتمع، فالحقوق التي وهبها الشارع الحكيم للمرأة غنية عن التعريف والتفصيل، ولا يوجد دين أو قانون أنصفها كما أنصفها الإسلام العظيم، شاء من شاء وأبى من أبى بقصور فكر وتسرع حكم.
أما الدولة، فتقدم لها الفرص الوظيفية مثل صنوها الرجل تماماً في الرتبة والمرتب، إلا إذا كانت مهناً وضيعة لا ترضاها المرأة لنفسها، أو أعمالاً ذات مخاطر لم تُجبل الأنثى عليها، وكم هناك من امرأة في الشرق والغرب تتمنى أن تحظى بما حظيت به المرأة السعودية.
أما المجتمع فقد أضحت الأنثى فيه سيدته المطاعة في الرأي والتنفيذ والمصلحة، فكم من والد ترك مصالحه الخاصة ليرافق ابنته في عملها أو دراستها، وكم من زوج ضحّى كثيراً لكي يقف بجوار زوجته في طموحاتها، وحتى الأبناء فإن ميلهم الفطري - الذي دعمه الإسلام - هو لأمهاتهم.
أما إن كان هناك جنوح أو شذوذ وضع، فهو لأفراد ضلّوا السبيل، وابتلوا بعاهات نفسية أو مركبات نقص، أو مفاهيم خاطئة، أو أنانية بشرية، أو انحراف خلقي. ومع ذلك فنحن بأمس الحاجة لمعالجة الأوضاع القليلة التي تظلم فيها المرأة سواء أكان عن عمد أو غير عمد، ودون ادعاء التعميم.
وما الهجمة الشرسة على وضع المرأة في بلادنا إلا كيد كائد يرغب في أن يقوّض أسس المجتمع الصالح، لا بهدف الإصلاح، إنما لحاجة في نفوسهم، وإلاّ فلماذا تُخصّ المرأة السعودية بهذا الأمر، مع أن الأنثى مستضعفة في كل مكان؟
ولماذا تكون قضية المرأة المعاصرة هي أول (إصلاحات) المحتلّ حينما يفكر في غزو دولة مسلمة سواء أكان هذا الغزو حربياً أم سلمياً؟
والعجيب أننا لا نجد أن عدد النساء معتليات المناصب الكبرى في (العالم المتقدم) يفوق عدده في بلادنا، ولا عدد المبدعات أو المنتجات عندهم أكثر مما في مجتمعنا طالما أن هناك توازناً سكانياً، فها هي الدول العالمية الإباحية نتلمس فيها المسؤولات على المستوى الوزاري أو الدبلوماسي، فلا نكاد نجد إلا أسماء معدودة على الأصابع دون مبالغة.
ولم نلحظ في ذلك العالم - الذي يتباكى مغرضوه على أوضاعنا - رئيسة دولة أو حتى سفيرة في الخارج، إلا حالات استثنائية في حدود النادرة، فهل الحرية التي يريدون نقلها إلينا قد آتت أكلها في تلك البلاد (المتحضرة) حتى نقتنع بمقولاتهم وادعاءاتهم؟! إلا إذا كانت الحرية تعني الإباحية التي ظلمت فيها الأنثى حقاً.
بل هل وصل بنا الحال أن نروّج لدعواتهم (الرائدة)؟! وهل أوصلنا الانبهار بهم إلى حدّ ضياع الهوية وغياب الشخصية، مما جعلنا نسوّق لأفكارهم بحماقة وجنون واندفاع بعيد كل البعد عن الواقع والمصلحة؟!
=============
كيف ننصر الله ..؟
سلمان بن يحي المالكي
لقد قضى الله وقدر أن يكون الصراع بين الحق والباطل ظاهرا متلازما إلى قيام الساعة ما دامت الدنيا ، فمهما صال الباطل وانتفش وكشّر عن أنيابه وانتعش ، إلا أنه أقرب للنهاية والزوال " وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا "[ الإسراء :81 ] والناظر في هذا الزمن يرى أن الصراع بلغ ذروته ومنتهاه ، واستوى على أشده ، حتى أصبح الكفر ملة واحدة ، ضد الإسلام والمسلمين ودعاته الصادقين ، فسيم المسلمون ألوان العذاب ، وعاث الأعداء في الأرض الفساد ، وبلغ المسلمون من الذلة والمهانة واستخفاف أعدائهم بهم وبلغا عظيما ، حتى خيّل لبعضهم أن الحق مع قوته وحقيقته لن ينتصر ، ودب اليأس في صفوف الآخرين وقلوبهم إلا ما رحم ربي ، وأصبح المسلم في هذا الزمن يردد ما كان يردده المسلم قبله في زمن النبوة ونزول الرسالة قائلا : متى نصر الله ؟ إن نصر الله واقع ، وكلمته قائمة ، فمهما رصد الباطل من قوى الحديد والنار ، والدعاية والافتراء ، والحرب والمقاومة ، لخنق الحق وإيقافه ، وزهقه من عالم الوجود ، إلا أن الوعد الذي وعد الله به عباده لا يُخلف ، لكنها السنن تجري جريان الكواكب والنجوم ، فمن منا يتعامل مع هذه الحقيقة ؟
أخي المسلم :
لا شك أن أعز مقاصدك وأشهى مطالبك في هذه الحياة ، أن ترى دينك منتصرا ، وكتابك ظاهرا ، ورايتك خفاقة عالية ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه : هل تتحق هذه الأهداف ، وتلك المقاصد بالدعاوى والأمنيات ، ونحن لم نقدم لدين الله نصرا ؟ أليس الله يقول " إن تنصروا الله ينصركم "[محمد : 7 ] فمتى نصرنا الله حتى ينصرنا ..؟
* أسباب تحقيق النصر .
1. إقامة توحيد الله عز وجل وشرعه في الأرض والحكم به والتحاكم إليه وترك ما سوى ذلك من القوانين الوضعية والأحكام البشرية " وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذي من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون " [ النور : 55 ] .
2. إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والمحافظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " [ الحج : 41 ] .
3. الصدق مع الله عز وجل والتوكل عليه الالتجاء إليه والاعتصام به والخوف منه وحده " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " [آل عمران : 173 ] .
4. التسلح بسلاح الإيمان والتوبة إلى الله والرجوع إليه ويقظة المسلمين مما هم فيه من الغفلة والضياع " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " [ النور : 31 ] .
5. توحيد الصفوف وإصلاح الآخرين ورأب الصدع وتأليف القلوب وجمع الكلمة حتى لا ينخر في سفينة الأمة من يغرقها " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " [ رواه البخاري ح : 481] .
6. التربية الجادة للأمة بإحياء السلوك الإسلامي فيها والقضاء على السيئ منها " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " [ الأنعام : 153 ] .
7. إحياء روح الجهاد في سبيل الله وإعداد النفوس لذلك " انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله "[ التوبة : 41 ] .
8. تقوية الصلة بالله تعالى والتوجه إليه في السراء والضراء والمحنة والمنحة " ففروا إلى الله إني لكم منه نذير وبشير " [ الذاريات : 50 ] .
9. تحقيق مفهوم الولاء لله عز وجل ولمن يحبهم سبحانه وتعالى من الأنبياء والصالحين " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " المائدة : 56 ] .
10. البراءة من كل ما يُعبد من دون الله تعالى والكفر به ومعاداته " إنني براء مما تشركون * إلا الذي فطرني" [ الزخرف : 26ـ27 ] .
11. التضحية بالغالي والنفيس والإنفاق في سبيل الله مع تخليص النفس من الشح وحب الدنيا والركون إليها " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " [ التغابن : 16 ] .
12. إرهاب العدو بإعداد العدة الجسمية والعقلية والعسكرية " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " [ الأنفال : 60 ] .
13. طلب الشهادة في سبيل الله ، والتطلع إليها بشتى الوسائل مع الصدق في النية " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه " [ رواه مسلم : ح 1909 ] .
14. الإلحاح على الله عز وجل بالدعاء بتثبيت قلوب المؤمنين على هذا الدين والانتصار على الكافرين " وقال ربكم ادعوني استجب لكم " [ غافر : 60 ] .
* عوائق في طريق النصر .(2/139)
1. شيوع الشرك والبدع بأنواعها وانتشار الفواحش والمنكرات ومبارزة الله بالمعاصي بشكل ينذر بالعقوبة والخطر" وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ومالهم في الأرض من ولي ولا نصير " [ التوبة : 74 ] .
2. ظهور الفسق والفساد وطغيان الترف في البر والبحر وعلى مستوى الرجل والمرأة والمجتمع والدول " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " [ الروم : 41 ] .
3. شهوة الدنيا والركون إليها والتكالب على حطامها واللهث الشديد وراءها " إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم "[ رواه أبو داود ح : 3462]
4. تحقير النفس والرضى بالدون والحط من قدرها وهمَّتها " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " [ آل عمران : 139 ] .
5. عدم التربية الجادة على طلب العلم الشرعي من مصادره الصحيحة وأصوله العميقة "واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم " [ البقرة : 282 ] .
6. فقد الهوية والتبعية المذمومة والإعجاب بنُظم الغرب وتقاليده " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "[ الرعد : 11 ] .
7. الاستجداء بالكافرين وموالاتهم وطلب النصرة منهم " يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " [ المائدة : 51 ] .
8. إغظاء الطرف عن موالاة المؤمنين في حال محنتهم وحاجتهم للنصرة " ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته ، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله " [ رواه أبو داود ح 4240 ] .
9. الفرقة المشينة في صفوف الأمة مع وجود التشاحن والتباغض والاختلاف " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم "[ الأنفال : 46 ] .
10. عدم إدراك بعض المسلمين لطبيعة المعركة مع اليهود والنصارى وأنها معركة عقيدة ودين وولاء وبراء " ذلك بأن الله مولى الذين أمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " [ محمد : 11 ] .
11. الانخداع ببعض الاستراتيجيات الغربية والمساهمة في تنفيذها كالسلام والتطبيع والتعايش السلمي والوحدة الإنسانية والنظام العالمي الجديد " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " [ محمد : 38 ] .
==============
تحفيظ القرآن .. أرقام وحقائق
محمد الدخيني
القرآن منهاج حياة، ونظام حكم، ومصدر استلهام، والحلقات ومدارس التحفيظ مظهر من مظاهر عناية الأمة بكتاب اللّه تعالى، وفي ذلك اقتداء وتأس بالرسول صلى اللّه عليه وسلم، حيث كان يُسمع لمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دوي كدوي النحل بتلاوة القرآن، وفي ضوء هذا الهدي النبوي، جاءت الحلقات القرآنية المعاصرة إحياء لمنهج الرسول صلى اللّه عليه وسلم في تربية أبناء الأمة على مبادئ القرآن، فقد اعتنى صلى اللّه عليه وسلم بإقراء الصحابة القرآن على نفس الهيئة التي تلقاها في قراءته على جبريل عليه السلام، والتي تعرف في علوم القرآن الكريم والقراءات بـ(العرض والسماع)، ولذلك فإن إقامة حلقات ومدارس التحفيظ في المجتمع المسلم ضرورة شرعية وتربوية، قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهُدًى ورحمة وبشرى للمسلمين} النحل:89، وحلقات التحفيظ ومدارسه من أفضل الوسائل للدعوة إلى اللّه وفق تعاليم القرآن الكريم والتعريف بأركان الشريعة وثوابتها ومقاصدها في الحفاظ على الضرورات الخمس: "الدين، النفس، العقل، والعرض والمال"، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "إن اللّه يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين": مسلم، وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "مَن قرأ حرفاً من كتاب اللّه فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "الم" حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"
وإن من فضائل حلقات تحفيظ القرآن الكريم :
? الاجتماع على تلاوة كتاب اللّه ومدارسته.
? وأنها محل تنزُل السكينة، وغشيان الرحمة واجتماع الملائكة، وسبب ذكر اللّه العبد في الملأ الأعلى.
? تعاون على البر والتقوى.
? ولقاء بين خيرة عباد اللّه في الأرض، بين معلم ومتعلم لأقدس كتاب.
? واعتصام بحبل اللّه، وتمسك بالجماعة، وأمان من الفرقة.
? وهي محطات لاكتساب الأجر والثواب، وتزكية النفوس، وتهذيب الأخلاق.
إن حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية تعد واحدة من المظاهر البينة والأدلة الواضحة على اهتمام أولي الأمر -حفظهم اللّه- بغرس قيم الإسلام في نفوس أبناء المملكة، ويمكن أن القول بأن المملكة -وبكل فخر- هي دولة القرآن الكريم، ومن دلائل العناية بكتاب الله عز وجل ورعايته:
? طباعة المصحف الشريف والعناية بترجمة تفاسيرة إلى كل لغات العالم المنطوقة وكذلك طباعته بطريقة "برايل" للمكفوفين.
? الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم وانتشارها في المناطق وتوزيع فروعها في المحافظات وإنشاء الحلقات في أكثر المساجد في المملكة حتى لا تجد مسجدا يعمر بالصلاة إلا وأقيمت فيه حلقة لتحفيظ كتاب الله..
? مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية لحفظ القرآن الكريم وتلاوته وتجويده وتفسيره.
? مسابقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبداللّه بن عبدالعزيز بالحرس الوطني.
? مسابقة الحرس الوطني لحفظ القرآن الكريم.
? جائزة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز الدولية في حفظ القرآن الكريم للعسكريين.
? المسابقة المحلية على جائزة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز لحفظ القرآن الكريم وتجويده وتفسيره للبنين والبنات.
? جائزة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سعود أمير منطقة الباحة لحفظ القرآن الكريم.
? مسابقة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز لحفظ القرآن الكريم للأطفال المعوقين.
? هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
? برنامج تحفيظ القرآن الكريم لأبناء المسلمين في العالم.
? حلقات القرآن الكريم في السجون ودور الملاحظة.
ولعلنا هنا نقف عند جهود المملكة في نشر تحفيظ القرآن الكريم في بيوت الله عز وجل في الداخل والتي حققت انتشاراً واسعا وحضورا في الكثير من المحافل الداخلية والدولية وانتشار على أصعدة مختلفة بدءاً بالمدن الكبرى إلى المراكز والقرى النائية.(2/140)
وتصديقاً بوعد الخالق جل وعلا: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، وطلباً للخيرية التي وعد بها الرسول صلى اللّه عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، تأتي إنجازات جمعيات ومدارس التحفيظ في جميع مناطق المملكة أبلغ رد على كل من يحاول التشكيك في دور المملكة الداعم للعناية بكتاب الله وتنشئة أبناء المجتمع على هذا المنهج الرباني الذي جعلته أولى المواد المنظمة لسياسة الدولة في الداخل والخارج ، حيث يبلغ عدد جمعيات التحفيظ (13) جمعية رئيسة في جميع مناطق المملكة، وعدد حلقات التحفيظ والدور النسائية التابعة لها وفق إحصاء عام 1424 -1425هـ (24,450) حلقة وداراً نسائية، يبلغ عدد الدارسين بها (503,413) دارساً ودارسة، وقد أتم حفظ كتاب اللّه العزيز من هؤلاء الدارسين خلال عام 1424 -1425هـ (6,381) طالباً وطالبة، بينما بلغ عدد الطلبة والطالبات الذين يحفظون خمسة أجزاء فأكثر من القرآن خلال الفترة نفسها (105,103) من الدارسين في هذه الحلقات، ويبلغ عدد المدرسين العاملين في الحلقات والمدارس التابعة لجمعيات التحفيظ في جميع مناطق المملكة ما يقرب من (20,919) معلم ومعلمة و(1647) موجهاً وموجهة و(4126) موظفاً وموظفة، وهناك جمعيات تحفيظ أخرى مثل حلقات تحفيظ القرآن بالسجون والبالغ عددها (270) حلقة، يستفيد منها أكثر من (8310) من السجناء، وبلغ عدد السجناء الذين أتموا حفظ القرآن كاملاً العام الماضي (225)، بينما زاد عدد من يحفظون خمسة أجزاء فأكثر على (1460) من السجناء، كذلك الأمر في حلقات الدفاع المدني والبالغ عددها (118) حلقة، يدرس بها (2082)، بينما بلغ عدد الخاتمين للقرآن الكريم كاملاً (41) دارساً، وتجاوز عدد الحافظين لخمسة أجزاء فأكثر (120) دارساً خلال نفس المدة (كما ورد في التقرير الإحصائي للمجلس الأعلى لجمعيات تحفيظ القرآن الكريم لعام 1424 -1425هـ)، وتشرف وزارة التربية والتعليم على مدارس تحفيظ القرآن الكريم وتقوم بدور لا يقل عن دور الجمعيات الخيرية، ووفقاً لإحصائية الوزارة لعام 1424 -1425هـ، يبلغ عدد مدارس التحفيظ الحكومية والأهلية للبنين (722) مدرسة للبنين، منها (35) مدرسة أهلية، ويبلغ عدد طلاب مدارس التحفيظ للبنين (83,166) طالباً، وللبنات (769) مدرسة، منها (38) مدرسة أهلية، يدرس بها (89,971) طالبة.
وهذا الوعد الذي قطعه اللّه سبحانه وتعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، يجعلنا جميعاً على ثقة ويقين بأن جميع الحملات التي يشنها أعداء الإسلام ضد القرآن الكريم وأهله والمؤسسات العاملة في مجال تحفيظه ونشره مصيرها الفشل، شأنها في ذلك شأن كل المكائد التي حاكها أعداء الإسلام ضد القرآن الكريم منذ أن هبط جبريل عليه السلام بالوحي وحتى الآن.
وكأي عمل خيري يخدم الإسلام والتوجهات التربوية الدينية تحاول فئات الهجوم على القرآن وعلى جمعيات تحفيظ القرآن الكريم تحديداً وربما كانت الأهداف وراء ذلك أكبر من حلقات التحفيظ ذاتها إذ أن الأمر يتجاوز إلى طمس الهوية الدينية وبناء مجتمع مسلم ظاهريا غير محتوي لقضاياه المختلفة وبعيدا عن القرآن الكريم ولعل حملات الهجوم على القرآن في الماضي بدءاً بتشكيك اليهود وإنكارهم لكلام اللّه، وكذلك حملات بعض المستشرقين التي أساءت للقرآن في بلاد الإسلام دليل على عمق المشكلة.
ثم إن الهجوم على جمعيات ومدارس تحفيظ القرآن الكريم تحديداً في المملكة العربية السعودية واتهامها بتفريخ الإرهاب ينطلق من عداء للإسلام ورغبة في تشويه صورته الناصعة و استغلالا للحرب العالمية ضد الإرهاب الذي أصبح لصيقاً لكل ماهو إسلامي فهذه الاتهامات جزء من الحملات العدائية القديمة.
غير أن ضعف الأداء الإعلامي في التعريف بمناشط جمعيات ومدارس التحفيظ وآليات العمل بها يخدم مثل هذه الحملات المغرضة ويمنحها قدراً أكبر من التأثير.
و هذه الافتراءات لا تنفصل عن الاتهامات الموجهة للعمل الخيري أو مناهج التعليم الديني في المملكة.
المصدر بتصرف
كتاب (البيان في الدفاع عن القرآن- رؤية استطلاعية تحليلية لحملات الهجوم على حلقات ومدارس تحفيظ القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية)
المؤلف الأستاذ سلمان بن محمد العمري
================
رمز التميز
محمد بن سرّار اليامي
وإياك وظهر الحرباء ، فإن لها كل يوم لوناً ، بل كل حين وأوان .
فصاحبة الهوية لها كيانها ومبدأها الذي تريق دمها من أجله ، وتقرب روحها فداء لمبدئها وهي سعيدة ، وخذي على سبيل المثال تلك الصحابية الجليلة التي طعنت من قبلها فخرج الرمح من قفاها وخرت صريعة ليحيا مبدئها ، ويبقى دينها وتفوز بالثبات..
سبحان الله ! أبا الموت تفوز ، ولكنها المبادئ والقيم السامية لا تكون إلا على جسر من التعب .
وهذا الآخر يقول : اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى .
والثالث يقول :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
قوية تنفذ الأحشاء والكبدا
والرابع يقول : إني لأجد ريح الجنة من دون أحد..
والخامس يقول : بخ ...بخ إن أنا بقيت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة.
والسادسة تقول لأبنلئها وقد جهزتهم للجهاد :لمثل هذا اليوم أعددتكم وتضمهم وتشمهم وتقول الموعد الجنة إن شاء الله.
فهل بعد هذا الصبر والثبات على المبادئ والقيم من صبر وثبات ؟
إنها والله الجنة سلعة الله جعلتهم يسترخصون الحياة في سبيل رضى الله والجنة.
أيتها الطالبة للتميز..
دونك ... هويتك الإسلامية السنية السلفية ، تمسكي بها وعضي عليها ... فهي زارعة لثقتك في طريقك ، مثمرة رضى وراحة بالك ، وسلامة صدرك فهويتنا أو الهاوية..
هويتنا رمز تميزنا ، أنقشيها على لوح القلب والمكتب.
===============
قراءة .. في المناهج الشرعية في المملكة العربية السعودية
فهد بن صالح العجلان
هذه دراسة مختصرة مررت بها على المناهج الشرعية الدراسية في مرحلتي المتوسطة والثانوية، أبرزت فيها بعض الجوانب الإيجابية والبنائية التي تشتمل عليها هذه المناهج، والدور التعليمي والتربوي الكبير الذي تقدمه هذه المناهج للناشئة في هذه المرحلة المهمة من عمر الطالب.
وقد كتبت هذه الدراسية قبل ثلاث أو أربع سنوات تقريباً في وقت الهجمة النقدية القاسية التي وجهت للمناهج الشرعية، والتي رمت المناهج بكل عيب ونقص، ونسبت إليها أعمال التفجير والتكفير، والمعتدل من الناقدين من صورها بصورة العاجز عن القيام بأي أثر ملموس في نفع الناشئة، أو جعل دورها محصوراً على الجانب التعبدي فقط دون البيان والتأثير في بقية شؤون الحياة.
فقرأت من المناهج الشرعية ( الفقه - الحديث - التفسير - التوحيد ) في المرحلتين المتوسطة والثانوية، وأظهرت بعض الفضائل والميزات التي تتضمنها هذه المناهج، وبينت الحجم التربوي والتعليمي الضخم والكبير مما في هذه المناهج، على أني قد اختصرت واقتصرت كثيراً إذ إن المادة العلمية والتربوية التي تتضمنها هذه المناهج لا يمكن حصرها بسهولة.
وقد كان الأولى أن أخرج هذه المقالة في أول انتهائي منها إذ كان النقد السلبي ضد هذه المناهج على أوجه، لكني لا أدري لم أخرتها حتى هذا الحين، ولعل في الأمر خير.
وبعد:(2/141)
فهذه بعض ما تضمنته هذه المناهج من إشارات تعليمية وتربوية وفكرية ، يراد بها ذكر شيئا من حسنات هذه المناهج، ولا يعني هذا خلو هذه المناهج من عيوب أو أخطاء، أو استغنائها عن التطوير والتصحيح، فهذا مما لا يمكن أن يرد على بال عاقل، إذ إن من المسلمات الشرعية والعقلية أن الأخطاء لا يكاد يخلو منها بشر، والتصحيح حاجة ضرورية لكل عمل، ولو أن الانتقادات التي وجهت إلى المناهج الشرعية كانت من قبيل النقد والمراجعة والتطوير لاتفق الجميع على شكر صاحبها، ومدح صنيعه، لكن في حال كثير منها - إن لم يكن أكثرها - ما لا يخفى.
أولاً: المناهج .. وتعزيز الهوية
إن من أعظم فضائل هذه المناهج ترسيخها للعقيدة الصحيحة ، وتعليمها الناشئة لمرتكزات العقدية ومبادئها ، فلقد كان لهذه المناهج دور عظيم في تقرير هذا الباب ، بوضوح وشمولية ، وعناية تليق باهمية العقيدة لدى المسلمين
لقد سارت هذه المناهج مسيرا رائدا متكاملا شموليا يوضح مفردات العقيدة ، ويقرر أصولها وقواعدها ، ويوضح مبادئها ، مما هو كفيل بإذن الله لإخراج الناشئ المسلم الملتزم بالعقيدة الصحيحة التي جاءت في الكتاب والسنة
المنهج أولا وقبل كل شي ، يضع أمام الطالب قاعدة ضرورية مهمة ، تضبط له كيفية تلقي العقيدة ، وتطرد معه في جميع العقائد التي يتعلمها ، هذه القاعدة هي أن تلقي العقيدة لا يكون إلا عن طريق الكتاب والسنة، ((توحيد 1ث صفحة 9 ))
وتطبيق هذه القاعدة ، والاقتناع بها ، كفيل بإذن الله أن يحفظ المسلم نفسه من أية زلة في باب العقيدة .
وتأكيدا لهذه القاعدة ، وتنويعا للأسلوب ، تربينا المنهج على تقديم قول الرسول صلى الله عليه وسلم على قول أي احد (( توحيد 3م صفحة 21 ))
وتوضح المناهج النظرة الشرعية الصحيحة التي ينبغي للمسلم أن ينظر إلى الدنيا من خلالها ، فعبادة الله هي الأساس والغاية من هذه الحياة (( توحيد 3ث صفحة 9 ، حديث 2ث صفحة 116 )) ، وهذا من المعتقدات التي يتميز بها المسلم في نظرته إلى هذه الحياة
ثم تقرر أيضا : أن العقيدة هي الموجه والمرشد لهذه الحياة الدنيوية (( توحيد 1ث صفحة 10 ))
وتقرر المناهج أن رابطة العقيدة فوق كل رابطة (( تفسير 3م صفحة 34 ،، تفسير 2ث صفحة 79 و 87 و 129 ))
واهم شي يتعلق بموضوع العقيدة هو ما يتعلق بموضوع ( التوحيد ) ، ولقد أولته المناهج عناية تليق بمكانته وأهميته وخطورته .
فالتوحيد أمر فطري قد جبل عليه الناس (( حديث 2ث صفحة 62 ،، توحيد 1ث صفحة 24 ))
وتؤكد المناهج أن التوحيد هو دعوة جميع الرسل (( توحيد 1م صفحة 12 - 14 ))
مما يعزز في نفس الناشئة أن المنهج الذي يسير عليه منهج قديم قد اتفقت عليه كل الشرائع والرسالات ، فيزاد يقينا وثباتا .
وتوضح المناهج أهمية التوحيد أكثر ، فتقرر انه الأساس لجميع الأعمال (( توحيد 1م صفحة 45 ،، حديث 1ث صفحة 13 ،، توحيد 1ث صفحة 7 ))
ثم يسير المنهج في تقرير التوحيد ، وتوضيح معالمه أكثر ، وذلك من خلال توضيح ضده وهو الشرك
فتحذر مناهجنا من الشرك (( توحيد 1م صفحة 14-15 ،،توحيد 1ث صفحة 43 ،، توحيد 2م صفحة 12 ))
بل وتضع أسوارا منيعة بين المسلم وبين الشرك فتحذر من الوسائل والذرائع الموصلة للشرك (( توحيد 3م صفحة 95 و 125 ))
ثم تفصل المناهج في الشرك وأنواعه وأمثلة كل نوع ، مما يعطي الطالب معرفة متكاملة للشرك ، والتفريق بين الشرك الأصغر والأكبر ، وأحكام كل منهما (( توحيد 3ث صفحة 12 - 15 ))
ومن مميزات المادة الشرعية لمناهجنا ؛ أنها لا تكتفي فقط بعرض العقيدة وأدلتها فقط ، بل تسعى أيضا إلى تربية الطالب على التمسك بها ، من خلال تربيته على الثقة والاعتزاز واليقين التام بهذه العقيدة ، وان تكون راسخة في قلبه ونفسه رسوخا لا يزعزعه أي عارض ، وذلك من خلال أحكام متعددة :-
1- فالمنهج يعلم الناشئ انه لا يستوي أهل الجنة وأهل النار (( تفسير 3م صفحة 54 ))
2- بل ويجزم المسلم على أن النار هي مصير كل كافر (( تفسير 2م صفحة 106 ))
3- ويعرض المنهج صورا من نعيم أهل الجنة (( تفسير 2م صفحة 125-132 ))
4- وفي المقابل صورا من عذاب أهل النار (( تفسير 2م صفحة 139-140 ))
مما يعزز في نفس المسلم الاعتزاز بالطريق الذي يسير عليه ،واليقين بالنهاية التي سيصل إليها .
5- وينهي المسلم عن موالاة الكفار (( تفسير 3م صفحة 60 ،، حديث 3م صفحة 16 ،، تفسير 3ث صفحة 40 ،، حديث 2ث صفحة 11 ))
6- بل وحتى عن التشبه بهم (( حديث 3ث صفحة 176 ،، توحيد 3ث صفحة 121 و 265 ،، فقه 3م صفحة 76 ،، فقه 1م صفحة 91 ،، حديث 1ث صفحة 75 ))
وفي المقابل يقرر موالاة المؤمنين (( تفسير 3ث صفحة 40 )) على أن التفاضل بين المؤمنين إنما هو على حسب التقوى (( حديث 2ث صفحة 139 ))
وهذا يعطي المسلم شعورا بالتميز والاعتزاز الناشئ من تمسكه بهذه العقيدة الإسلامية .
7- ويوضح المنهج أيضا آثار التعلق بغير الله (( توحيد 1م صفحة 62 ))
وهي آثار لا يعرفها من تعلق بالله ، وحقق التوحيد ، وتلقى العقيدة من مصادرها الأصلية .
8- ويسلي المنهج أبناء المسلمين ، الذين يرون انخفاضا للمسلمين في بعض الأزمنة ، يسليهم بان الدين سيعلو ويظهر (( تفسير 3م صفحة 88 ))
9- ومن تعزيز هذا الجانب أيضا : تحذير المناهج من البدع (( توحيد 3ث صفحة 121 ))
10 - وتحذر المناهج الطالب من الشبهات التي تضله عن الطريق المستقيم (( حديث 1ث صفحة 91 ،،حديث 2ث صفحة 72 , 180 ))
وهذا يعزز الثقة واليقين لدى الطالب بالعقيدة التي يدرسها ويتعلمها .
11- وتوصي المناهج ناشئة الإسلام بالصبر على الدين (( تفسير 1م صفحة 61 ))
ومن خصائص مناهجنا الشرعية أيضا ، تربيتها للناشئة على تعظيم الله تعالى ، وإجلاله وتقديره حق قدره ، فتتحدث المناهج عن عظمة الله (( تفسير 1م صفحة 63 ، توحيد 3م صفحة 150 ))
ثم تضع المناهج صورا وأحكاما متعددة تحقق هذا الجانب ، وتربي الطلاب على تعظيم الله تعالى :-
1- فتنهي المناهج عن الحلف بغير الله ، وتوجب احترام اليمين (( حديث 1م صفحة 16 ،، توحيد 3م صفحة 44 و 51 ))
2- وتنهى أيضا عن كثرة الحلف بالله (( توحيد 3م صفحة 127 و 134 ))
3- وتأمر بإجابة من سأل بالله (( توحيد 3م صفحة 97 ))
4- وتنهى عن التصوير لما فيه من مضاهاة خلق الله (( توحيد 3م صفحة 121 ))
4- وتنهى أيضا عن إعطاء ذمة الله من قبل المسلمين لعدوهم صيانة لهذه الذمة والعهد (( توحيد 3م صفحة 13 ))
5- وتحرم أيضا إساءة الظن بالله تعالى (( توحيد 3م صفحة 111 ))
6- وتنهى عن سب الدهر (( توحيد 3م صفحة 57 ))
7- وتنهي حتى عن بعض الأوصاف كقاضي القضاة (( توحيد 3م صفحة 61-62 ))
8- وتتحدث عن الغضب لانتهاك حرمات الله (( توحيد 1م صفحة 64 ))
فهذه بعض الأحكام التي تقررها مناهجنا ، ما بين محرم وواجب ، وكلها تربي على تعظيم الله تعالى وإجلاله.
ثم إن المنهج مع شموليته وتكامله في تقرير العقيدة ، يعطي صورة وسطية معتدلة في تلقي العقيدة ، فالمنهج مع تقريره للعقيدة يحذر من الغلو في الدين (( توحيد 2م صفحة 21 ))
ويضع للطالب منهجا معتدلا متوازنا بين الرجاء والخوف (( حديث 1ث صفحة 32 ،، توحيد 2م صفحة 120 ))
ويسير المنهج أيضا في شمولية لتأصيل بقية العقائد على وفق منهج أهل السنة والجماعة ، فيتعلم الطالب عقيدته كاملة من خلال المفردات الشرعية لمناهجنا ..
فيتعلم الطالب:(2/142)
1- تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة (( حديث 2م صفحة 11 )) ويتقرر لديه هذا المبحث أكثر ، مع تفصيل وتوضيح لأقوال المخالفين في (( توحيد 2ث صفحة ))
2- وأنواع التوحيد (( توحيد 1م صفحة 10-11 ،، توحيد 1ث صفحة ))
3- وأركان الإيمان بتفصيل وتدليل وتوضيح تام (( توحيد 2ث صفحة ))
4- والأسماء والصفات (( توحيد 3م صفحة 35 و 83 ،، توحيد 1ث صفحة 64 وما بعدها ))
5- والبعث (( تفسير 1م صفحة 20 و 26 ))
6- والنفخ في الصور (( تفسير 1م صفحة 21 ))
7- وحجية السنة (( فقه 3ث صفحة 134- 135 ))
8- القران (( حديث 1ث صفحة 37 و 43 ))
9- والحكم بغير ما انزل الله ووجوب التحاكم للشرع (( توحيد 3م صفحة 27 و 32 ))
وتواصل المناهج تقريرها بتحذيرها من نواقض العقيدة ، وخوارم التوحيد :-
1- النفاق (( توحيد 3ث صفحة 23 – 25 ،، تفسير 3ث صفحة 111 ))
2- السحر والكهانة (( توحيد 3ث صفحة 52- 54 ،، توحيد 2م صفحة 54 – 61 و 70 ))
3- التمائم (( توحيد 3ث صفحة 56-57 ،، توحيد 1م صفحة 70 – 72 ))
4- التبرك بالأشجار (( توحيد 1م صفحة 79 ،، حديث 2ث صفحة 45 ))
5- الغلو في الألفاظ (( توحيد 3م صفحة 146 ))
6- دعاء غير الله (( 2م صفحة 12 ))
7- بناء المساجد على القبور (( توحيد 2م صفحة 29 ))
8- ادعاء علم الغيب كالتنجيم وقراءة الفنجان (( توحيد 3ث صفحة 46-47 ))
9- ويفصل المنهج في أحداث اليوم الأخر.
ثم إن المنهج لا يغفل الصراعات التاريخية التي جرت حول قضايا مهمة ، فيضع للطالب المنهج العدل المستقيم في التعامل معها ، ومن ذلك ما يتعلق بأهل البيت ، والصحابة ؛ فيقرر المنهج فضل أهل البيت (( توحيد 3ث صفحة 103 - 104 ،، تفسير 1ث صفحة 17 ))
ويقرر عظيم منزلة الصحابة رضوان الله عليهم (( حديث 1م صفحة 22 ،، تفسير 3م صفحة 94 ،، توحدي 3ث صفحة 105 و 118 ،، توحيد 3م صفحة 132 ))
ويقرر أيضا خطورة تناولهم بالسب والقدح (( حديث 1م صفحة 22 ،، حديث 1ث صفحة 119 ))
وتعلي مناهجنا من شأن الصحابة ، وتتكلم عن بعض صفاتهم وخصائصهم فهم يحرصون على الإقتداء بالنبي صلى الله عليهم (( حديث 2ث صفحة 17 )) ويحرصون على الاستجابة لأوامره (( حديث 2ث صفحة 41 )) ويتسابقون للخيرات (( حديث 3م صفحة 79 و 116 )) وقد تعرضوا للابتلاء والمحن (( حديث 2ث صفحة 54))
وتضع المناهج تعريفات مختصرة لعشرات من الصحابة ، تشتمل على أسماءهم ومولدهم ووفاتهم ، وشي من صفاتهم وأعمالهم ، نجد في مناهجنا تعريفا لكل هؤلاء الصحابة (( أبو بكر، عمر ، عثمان ، علي ، أبو بكرة ، أبو سعيد الخدري ، عبد الله بن عمرو ، عبد الله بن عمر ، عبد الله بن عباس ، عبد الله بن مسعود ، جرير بن عبد الله البجلي ، جندب بن عبد الله ، أبو امامة الباهلي ، حذيفة بن اليمان ، صهيب بن سنان ، أبو موسى الأشعري ، إياس بن ثعلبة ، عائشة ، أم سلمة ، حفصة ، ثوبان بن بجدد ، النعمان بن بشير ، أبو قتادة ، جبير بن مطعم ، خولة بنت حكيم ، سليمان بن صرد ، المغيرة بن شعبة ، عمران بن حصين ، البراء بن عازب ، زيد بن خالد الجهني ، سمرة بن جندب ، عدي بن حاتم ، أبو برزة الاسلمي ، أبو الجهيم الأنصاري ، جابر بن عبد الله ، أبو هريرة ، أبي بن كعب ، أم كلثوم بنت عقبة ، حارثة بن وهب ، و هب بن عبد الله ))
(( حديث 1م صفحة 12 ، 17 ، 21 ، 24 ، 27 ، 33 ، 61 ، 72 ، 75 ، 87 ، 91 ، 97 ،105 ، 107 ، 111 ))
(( حديث 2م صفحة 14 ، 17 ، 19 ، 24 ، 28 ، 34 ، 36 ، 39 ، 45 ، 51 ، 64 ، 97 ، 107 ))
(( حديث 3م صفحة 10 ، 15 ، 18 ، 20 ، 24 ، 29 ، 33 ، 35 ، 38 ، 40 ، 53 ، 55 ، 78 ))
((حديث 2 ث صفحة 8 ، 13 ، 19 ، 28 ، 122 ، 129 ))
(( حديث 3ث صفحة 65 ، 72 ، 76 ، 103 ، 107 ، 115 ، 123 ، 132 ))
وهذا من مناهجنا يحقق فوائدا كثيرة للمتربي الناشئ إذ فيه أولا ربطهم بقدوات وشخصيات عظيمة من تاريخنا الإسلامي ، ثم إن الطالب يستفيد من صفاتهم وأفعالهم لأجل أن يحتذي حذوهم ، ويعزز في نفسه محبة تاريخه والاعتزاز به ، وأيضا يرتبط بمنهج الصحابة وفهمهم في تفسير النصوص وتلقي الشرع لأنه قد جاء من قبلهم .
والمنهج أخيرا لا يكتفي في تقريره للعقيدة ، بالاعتماد على الأدلة النقلية فحسب ، بل انه يقرر ويدعم ذلك بالأدلة النقلية ، تجد ذلك جليا في تقرير القران بالأدلة العقلية على التوحيد (( توحيد 1ث صفحة 32 )) على أن هذه الأدلة العقلية هي من الكتاب الذي لا تؤخذ العقيدة إلا منه .
ثانياً: المناهج .. والتربية على العبادة
وقد اعتنت مناهجنا بتربية الناشئة على عبادة الله ، وبيان الطريق الموصل لها ، وتقرير بعض القواعد والأسس المهمة في العبادة ، وحيث أن العبادة هي الغاية من هذه الحياة ، لأجل ذا فلقد كان لها شأنا مهما في مناهجنا..
ولقد سارت مناهجنا في تقرير هذا الباب سيرا فذا بحق ، ويكفي شاهدا لذلك أن كثيرا من العبادات لم يحسنها الناس إلا من خلال ما درسوه في هذه المناهج ..
المنهج يضع أولا تصورا شموليا للعبادة ، ويوسع أفق الطالب لشأن العبادة ، فيقرر المنهج أن العبادة شاملة لكل شئون الحياة ، بل وحتى المباحات إذا نوى بها الإنسان النية الحسنة (( توحيد 1ث صفحة 46 ))
وفي موضع آخر يذم المنهج من يرى قصر العبادة على المسجد فقط (( توحيد 1ث صفحة 48 ))
وهذه النظرة الشمولية العميقة ، ستفتح آفاقا واسعة لدى الطالب ليتعبد الله بها ، حتى تكون الحياة كلها مجالا خصبا للعبادة ، وحينها سيتسابق الناس إلى العمل والإنتاج الدنيوي مع تمسكهم وحرصهم على الفرائض والسنن ، وكل ذلك تعبدا وتقربا لله .
ويقرر المنهج أيضا منهجا معتدلا وسطيا في العبادة ، فينهى عن التشدد في تطبيق العبادات (( توحيد 1ث صفحة 48 ))
ومن هذه الوسطية : أن المنهج يقرر أن من تقرب إلى الله بأداء الفرائض فهو من أولياء الله (( حديث 3ث صفحة 128 ))
ومنها أيضا : أن العمل القليل المستمر خير من الكثير المنقطع (( حديث 3م صفحة 50 ))
وكذلك : التيسير والتخفيف على أصحاب الأعذار ، كالمرض والخوف والسفر وغيرها ، فقد خففت الشريعة عنهم حتى لا يشق عليهم أداء العبادة (( راجع ذلك بالتفصيل في فقه 1م صفحة 89- 95 ))
فالمنهج هنا لأجل أن يربي الطالب على أن تكون عبادته على الوسطية الشرعية يوجهه بأن لا يغالي في تطبيقها ، وان يحرص على الديمومة ولو قل العمل ، مع الحرص على أداء الفرائض أولا وقبل كل شي ، مع وجود البديل في حال الضعف والعجز ، فهذه الوسطية تجعل شأن العبادة أمرا سهلا ومتيسرا لكل احد .
ومن بديع ما في مناهجنا في شأن العبادات : أن المنهج لا يغفل جانب الحكمة والتعليل حين توضيح العبادة وبيان أهميتها ، فيتربى الطالب على العبادة ، ويستشعر بعض معانيها ، وان كانت هناك جوانب في العبادة لا يدرك الحكمة منها ، إلا أن هناك جوانب أخرى ندرك حكمتها :-
1- فالحكمة من المسح على الخفين .. رفع الحرج (( فقه 1م صفحة 27 ))
2- والحكمة من الزكاة .. حماية المجتمعات الإسلامية من الفساد والإجرام ، و مواساة الفقراء والمساكين (( فقه 2م صفحة 10 ))
3- والحكمة من الصوم .. تذكير بالفقراء (( فقه 2م صفحة 44 ،، حديث 3م صفحة 45 ))
4- ومن منافع الحج .. تحقيق الألفة المودة (( فقه 2م صفحة 70 ))
5- والحكمة من الأضحية .. توسعة على الفقراء والمحتاجين وصلة الأقارب والأرحام (( فقه 2م صفحة 110 ))
6- ومن العقيقة .. صدقة على الفقراء (( فقه 2م صفحة 9 ))(2/143)
7- والحكمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. رجاء نفع المأمور (( حديث 3ث صفحة 143 ))
8- تسوية الصف في الصلاة فيه دلالة على أن المسلمين لا بد أن يكونوا صفا واحدا (( حديث 2م صفحة 35 ))
وهي أيضا تدل على الانقياد والطاعة (( حديث 2م صفحة 37 ))
9- وشرع الأعلام بالأذان للصلوات لتنبه الغافل وتذكير الناسي وتعليم الجاهل (( فقه 1م صفحة 37 ))
10- وشرع التيمم .. دفعا للضرر (( فقه 1م صفحة 32 ))
11- والجمعة لاجتماع الكلمة وتوحيد الصف (( فقه1م صفحة 97 ))
12- والحكمة من مشروعية الطلاق لأجل الاستقرار العائلي والاجتماعي (( فقه 3ث صفحة 63 ))
13- والحكمة من مشروعية العدة حتى لا تختلط الأنساب (( فقه 3ث صفحة 83))
وقد شرحت مناهجنا كثيرا من العبادات والفرائض الشرعية ، وفصلت في حكمها وأحكامها ؛ ومنها على سبيل المثال عدا المباني الخمس
1- الجهاد (( حديث 2ث صفحة 137 ))
2- الدعاء (( حديث 2ث صفحة 61 و 64 ))
3- صلاة الجماعة (( فقه 1م صفحة 81 ))
4- الوضوء (( حديث 2ث صفحة 13 ،، فقه 1م صفحة 20 ))
5- السواك (( فقه 1م صفحة 24 ))
6- صلاة العيدين (( فقه 1م صفحة 102 ))
7- الاعتكاف (( فقه 2م صفحة 66 ))
8- الوتر (( حديث 3ث صفحة 42 ))
9- قيام الليل (( تفسير 2م صفحة 92 ))
10 - التيمم (( فقه 1م صفحة 33 ))
11- صلاة الجمعة (( فقه 1م صفحة 97 ))
12- الصلاة على الجنازة (( فقه 1م صفحة 105 ))
13- الأضحية والعقيقة (( حديث 3ث صفحة 107 و 114 ))
إلى غير ذلك ..
ثالثاً: المناهج .. وتعزيز الأخلاق والآداب العامة
وفي المناهج نجد عناية واسعة بحث الطلاب على الأخلاق والآداب ، وتوعيتهم بها وبأهميتها ،
ففيها نجد جملة كبيرة من الآداب التي تحكم كثير من الأفعال والسلوكيات التي يتعامل بها الناس ويحتاجون إليها ، فتضع آدابا لكل واحدة منها :-
نجد فيها :-
1- آداب الضحك (( حديث 2م صفحة 107 )) 2- آداب العطاس والتثاؤب (( حديث 2م صفحة 74 )) 3- آداب المجالس (( حديث 2ث صفحة 210 و حديث 1م صفحة 93 و تفسير 3م صفحة 24 )) 4- آداب المزاح (( حديث 3ث صفحة 93 )) 5 - آداب الاستنجاء (( حديث 1ث صفحة 78 )) 6- آداب الذبح (( فقه 3م صفحة 48 )) 7- آداب الصيد (( فقه 3م صفحة 60 )) 8- آداب الأكل (( فقه 3م صفحة 40 و 41 و حديث 1م صفحة 97 )) 9- آداب الطعام والشراب (( فقه 3م صفحة 20 و 40 وحديث 3ث صفحة 178 )) 10- آداب المتعلم (( حديث 2ث صفحة )) 11- آداب الزيارة (( حديث 2ث صفحة 102 )) 12- آداب الهدية (( حديث 1م صفحة 109 )) 13- آداب التناجي (( تفسير 3م صفحة 23 )) 14- آداب التعامل مع الخدم (( حديث 3ث صفحة 192 -195 )) 15- آداب الصيام (( حديث 3م صفحة 44 )) 16- آداب النوم (( حديث 3م صفحة 59 )) 17- آداب الضيافة (( حديث 2ث صفحة 106 -108 و فقه 3م صفحة 92 )) 18- آداب حلق الرأس (( حديث 2م صفحة 114 )) 19- آداب اللباس (( حديث 2م صفحة 116 و فقه 3م صفحة 63 و 88)) 20- آداب الكلام والاجتماع (( حديث 2م صفحة 112 )) 21- حقوق الطريق (( حديث 1ث صفحة 82 )) 22- آداب قضاء الحاجة (( حديث 1م صفحة 50 ))
وتتحدث المناهج عن بعض آداب التجار فتقرر منها :- تجنب الغش و تجنب كثرة الحلف و الكسب الحلال وحسن التعامل مع الزبائن وتحري ما ينفع الناس ونفع الزبائن (( فقه 2ث صفحة 18 ))
وتقرر المناهج جملة واسعة من الآداب والأخلاق المهمة ، وتوجه الناشئة لأهمية التمسك بها :-
1- احترام النعمة والمآكل (( حديث 1ث صفحة 79 )) 2- حسن الخلق (( حديث 1ث صفحة 86 و تفسير 1ث صفحة 78 )) 3- الجود والكرم (( حديث 1ث صفحة 108 و حديث 2ث صفحة 34 )) 4- الإيثار (( حديث 1ث صفحة 107 و 109 و تفسير 3م صفحة 46 )) 5- الرجولة وتجنب التكسر والميوعة (( حديث 2ث صفحة 71 )) 6- الشجاعة (( حديث 2ث صفحة 73 )) 7- علو الهمة (( حديث 2ث صفحة 76 )) 8- الاستئذان (( حديث 2ث صفحة 103 و حديث 3م صفحة 92 )) 9- الإعراض عن الجاهل (( تفسير 3ث صفحة 79 )) 10- دفع القبيح بالحسن (( تفسير 3ث صفحة 145 )) 11- التحري والتثبت بالأخبار (( تفسير 3ث صفحة 188 – 192 تفسير 1ث صفحة 95 )) 12- غض البصر (( تفسير 3ث صفحة 205 )) 13- الاستئذان للأطفال (( تفسير 3ث صفحة 28 )) 14- عدم رفع الصوت (( تفسير 3ث صفحة 237 )) 15- مكافأة المحسن عند المقدرة (( توحيد 3م صفحة 98 )) 16- إماطة الأذى عن الطريق ((حديث 2م صفحة 13 و 120)) 17- الاهتمام بشؤون الناس وترك الأنانية (( حديث 2م صفحة 86 )) 18- العفو (( حديث 3م صفحة )) 19- التنافس في الخيرات (( حديث 3م صفحة 79 )) 20- الوفاء بالوعد (( تفسير 2ث صفحة 66 )) 21 - زيارة المريض ((حديث 3ث صفحة 101 )) 22- الرفق في التعليم (( حديث 2ث صفحة 21 )) 23- الحث على العفة (( حديث 2ث صفحة 183 – 186 )) 24- كظم الغيظ (( تفسير 2ث صفحة 134 )) 25- ستر العورات (( تفسير 3ث صفحة 75 )) 26- الابتسامة في وجه المسلم (( حديث 2م صفحة 103 و 108 )) 27- مصاحبة الأخيار وتجنب الأشرار (( حديث 3م صفحة 16 و 30 و 100 و 102 و 103 و تفسير 1م صفحة 151 ))
ونتم هذا المبحث بوصايا للسلامة من أخطار الحوادث نجدها في (( فقه 1ث صفحة 33 ))
رابعاً: المناهج وتوجيه الناشئة
حرصت المناهج كثيرا على توجيه الطلاب الوجهة الصحيحة في عباداتهم ومعاملاتهم وجميع نشاطات شؤون حياتهم ، ومن هذا النصح والتوجيه : تحذيرهم من السلوكيات المنحرفة ، والأفعال الخاطئة ، والتصرفات المختلة ، التي تضر بالفرد أو المجتمع وتخالف الشرع والعادة .
وقد حفلت المناهج بمساحة كبيرة ، ونصائح متعددة كثيرة ، متعلقة بهذه الجانب ، لعلنا نجملها في هذه النقاط :-
أولا : ففي الشؤون العامة .. نجد في مناهجنا توجيها ونصحا عن بعض الأفعال المخالفة والمنحرفة .. نجد مثلا:-
1- التحذير من الرشوة (( حديث 1ث صفحة 133 )) . 2- قول الزور (( حديث 2ث صفحة 176 )) .3- الغش (( تفسير 3ث صفحة 64 )) 4- قتل النفس (( تفسير 3ث صفحة 173)) 5- التزوير(( فقه 1ث صفحة 118)) 6- الاختطاف (( فقه 1ث صفحة 107)) 7- السرقة (( فقه 1ث صفحة 98 – 101)) 8-الحرابة (( فقه 1ث صفحة 104)) 9- الإسراف (( فقه 3م صفحة 69 و تفسير 3ث صفحة 75 و 167 )) 10- الترف (( حديث 1ث صفحة 76 وتوحيد 3م صفحة 133 ))
ثانيا : وفي العلاقات الإنسانية ... نجد فيها ..(2/144)
11- التحذير من التدابر (( حديث 2م صفحة 86 )) 12- التباغض (( حديث 2م صفحة 86 )) 13- النميمة (( تفسير 2ث صفحة 26 و حديث 1ث صفحة 122 و حديث 2ث صفحة 175 )) 14- الغيبة (( تفسير 2ث صفحة 26 و تفسير 1ث صفحة 100 و حديث 1ث صفحة 22 وحديث 2ث صفحة 175 )) ، الأذى (( تفسير 2ث صفحة 26 و حديث 3م صفحة 115 و حديث 1ث صفحة 82 )) 15- السب والشتم (( حديث 3م صفحة 56 )) 16- الاستهزاء بالمؤمنين (( تفسير 1م صفحة 53 و 131 )) 17- المزاح بالأشياء الضارة (( حديث 1م صفحة 79 )) 18- التجسس (( تفسير 1ث صفحة 99 )) 19- الشحناء والبغضاء (( تفسير 1ث صفحة 54 )) 20- الغضب (( حديث 3م صفحة 55 و حديث 2ث صفحة 36 )) 21- حمل السلاح على المسلمين (( حديث 1م صفحة 79 و حديث 3م صفحة 118 )) 22- تتبع العورات (( حديث 1م صفحة 89 )) 23- الاستماع للناس وهو كارهون(( حديث 1ث صفحة 122 )) 24- سوء الظن (( تفسير 1ث صفحة 99 )) 25- السخرية (( تفسير 1ث صفحة 79 )) ،26- سؤال الناس أموالهم (( تفسير 1ث صفحة 89 و حديث 3م صفحة 87 )) 27- احتقار المسلم (( حديث 3م صفحة 88 )) 28-القذف (( حديث 2ث صفحة 176 و فقه 1ث صفحة 81 وتوحيد 2م صفحة 56 )) 29- التحاسد (( حديث 2م صفحة 86 )) 30- التناجي بين الاثنين دون الثالث (( حديث 2م صفحة 112 ))
ثالثا : وفي التعامل مع النفس والذات .. نجد تحذيرا من انحرافات أخرى :
31- الحزن على ما فات (( تفسير 2ث صفحة 38 )) ، 32-الهلع والخوف والجبن (( تفسير 3م صفحة 107 )) 34- كثرة الحلف (( تفسير 2ث صفحة 26 ))
35- السؤال فيما لا مصلحة فيه (( تفسير 1م صفحة 28 )) 36- غلظ الطبع (( تفسير 2ث صفحة 26 )) 37-، تعريض النفس لمواقف الريب (( حديث 2ث صفحة 131 )) 38- الفحش (( حديث 2ث صفحة 176)) 39-جمع المال من أي وجه كان (( حديث 2م صفحة 98 )) 40-السهر (( حديث 1م صفحة 92 )) 41- الشهادة قبل الطلب (( توحيد 3م صفحة 133 )) 42 - الجلوس مكشوف العورة (( حديث 2م صفحة 28 )) 44- النظر للنساء (( حديث 3م صفحة 96 )) 45-استماع لمن يطعن في الدين (( حديث 1ث صفحة 122 )) 47- الاقتراض من غير حاجة (( فقه 2م صفحة 30 )) 48-الاغترار بالنفس (( توحيد 3م صفحة 77 )) 49-الاختيال والبطر (( تفسير 3ث صفحة 174 و 237 ))
رابعا : وفي التعامل مع الضعفة وأصحاب الحقوق .. تجد التحذير من:
50- إهانة الأيتام والمساكين (( تفسير 1م صفحة 82 و 103 و 137 )) 51- منع حق المسكين ((تفسير 2م صفحة 28 )) 52- المن بالعطية (( تفسير 2م صفحة 103 و حديث 2ث صفحة 85 )) 53 - إيذاء الجار (( حديث 1م صفحة 77 و حديث 2ث صفحة 94 )) 54- عدم اداء الدين مع القدرة (( فقه 1ث صفحة 118 )) 55- أكل مال اليتيم (( توحيد 2م صفحة 59 )) 56-الخيانة (( توحيد 3م صفحة 133 ))
خامسا : وفي المحرمات الشرعية وكلّ ما فيها مضرّة بالفرد والمجتمع ...نجد مثلا:
57 - التحذير من الزنا (( حديث 3ث صفحة 70 و 104 )) 58-اللواط (( حديث 3م صفحة 101 )) 59- الدخان (( حديث 1ث صفحة 95- 100 )) 60- الغناء (( حديث 1ث صفحة 119 وتوحيد 1ث صفحة 98 )) 61- الرقص (( توحيد 1ث صفحة 98 )) 62- المخدرات (( فقه 3م صفحة 26 و 24 وحديث 3م صفحة 107 وفقه 1ث صفحة 94 )) 64-المفترات (( فقه 1ث صفحة 96 )) 65-المسكر (( فقه 1ث صفحة 88- 92 )) 66-اكل الربا (( توحيد 2م صفحة 56 )) 67- الفواحش((تفسير 3ث صفحة 64 ))
خامساً: المناهج .. والإنتاج الدنيوي
لم يكن دور مناهجنا الشرعية مقتصرا فقط على دورها الرائد في تعليم الأحكام الشرعية ، وتربية الطلاب عليها ، بل قد أولت الشأن الدنيوي عناية كبيرة ، تعطي الطالب نظرة شمولية متوازنة بين الدنيا والآخرة ، فيعمر الدنيا والآخرة ، ويتمتع بما أباحه الله تعالى .
ويمكنا أن نوجز تفصيل مناهجنا حول هذه القضية المهمة في عدة نقاط :-
أولا : توعية الطالب للنظرة الشرعية للحياة الدنيوية ، حتى يعرف خاصية المسلم في نظرته للحياة وشؤونها ، تجد ذلك في حديث المنهج عن نظرة المسلم للكون والحياة والإنسان (( حديث 2ث صفحة 113 و 114 و 116 ،، توحيد 3ث صفحة 78 ))
ويتعلم الطالب أيضا : أن الإسلام قد شمل جميع شؤون الحياة (( حديث 2م صفحة 66 ،، حديث 3م صفحة 45 و 59 ،، فقه 3م صفحة 73 ))
وعليه : فلا بد أن تكون نشاطات الحياة قائمة على وفق الدين (( حديث 2ث صفحة 116 ))
إن هذه التوعية الإجمالية المنهجية للطالب ، تضبط لدى الطالب قاعدة مطردة ، واصلا واضحا في تعامله ونشاطه في حياته الدنيوية ، إذ ترسيخ مثل هذه المفاهيم يطمئن الطالب أولا أن لا إشكالية موجودة بين الدين و الدنيا ، أو الدنيا والآخرة ، بل هو أمر مضبوط قد أوضحته الشريعة قبل أن يخرج أي تلبيس أو تشويش حولها .
ويزداد اثر هذه التوعية الإجمالية حين تقرر المناهج للطلاب معالما أخرى في الحياة ، تدعوهم فيها للعمل فيها ، والكدح من اجلها ، وطلب الرزق والمعاش ، وتجنب أي إخلال بها ، فتتكمل بهذا رؤية شاملة للحياة لدى ناشئة الإسلام ، بين العمل فيها ولها ، وشمول الإسلام لأحكامها .
ومن المفاهيم الأساسية الإجمالية التي تقررها مناهجنا : كون الغاية من هذه الحياة هي رضا الله (( حديث 2م صفحة 110 ))
ويترتب على هذا المفهوم الأصلي العظيم ، مفهوم آخر تقرره مناهجنا ، وهو مما يتميز به المسلم في نظرته للحياة ، هذه النظرة تكمن في تقرير المنهج أن القوة المادية ليست كل شي (( تفسير 2ث صفحة 123 )) وكذا فليس المقياس بكثرة المال (( تفسير 1م صفحة 82))
ولا شك أن هذه نظرة متميزة ، تدعو المسلم أن لا يظن خسارة دنياه حين يكون اقل مالا أو حظا .
وتكتمل الرؤية أكثر حين توضح المناهج بعض التصورات الأخرى المخالفة للنهج الإسلامي ، في النظرة للحياة ، كالنظام الاشتراكي (( حديث 2ث صفحة 81 ))
والنظام الرأسمالي (( حديث 2ث صفحة 80 )).
والنظرة المادية للحياة (( توحيد 3ث صفحة 76 )).
ثانيا : الحث على جمع المال ، والسعى من اجله .
هذا المعنى من المعاني الشرعية المهمة التي قررتها مناهجنا ، ووضحت أهميتها ، نجد ذلك في تقريرات فريدة في هذا الباب ، تدعو وبقوة إلى العمل والجمع والتملك ، ومع كون هذا شيئا فطريا مركوزا في النفوس ، تسعى له النفوس بفطرتها ، إلا أن المناهج لم تكتف بهذا بل دعت وحثت ووضعت الحوافز ، ونوعت الطرق والأساليب .
نجد في منهجنا قاعدة مهمة في التعامل مع المال وغيره مما هو من الفطرة الإنسانية ، حيث تقرر المناهج مراعاة الإسلام للفطرة البشرية (( حديث 2م صفحة 108 ))
وبالنسبة للمال :-
والمال في نظر مناهجنا هو قوام الحياة الدنيا وزينتها (( تفسير 2ث صفحة 125 ))
والمال محفوظ شرعا (( فقه 1ث صفحة 13 ))
ونجد في مناهجنا الحث على جمع المال (( حديث 1ث صفحة 23 ،، فقه 1ث صفحة 13 ))
وكونه التملك للمال حقا للرجل والمراة (( حديث 2ث صفحة 30 ))
وتقرر طرق التملك للمال (( حديث 2ث صفحة 78 ))
وتتحدث المناهج عن الأمر بطلب الرزق والمعاش (( فقه 3م صفحة 9 ))
بل وتجعل الاشتغال بأمور المعاش وطلب الرزق من الأعذار المشروعة (( تفسير 2م صفحة 99 ))
وفوق ذلك : فالسفر لأجل تحصيل المال يكون الشخص مثابا عليه (( حديث 3ث صفحة 187 ))
وتقرر أهمية المحافظة على المال (( حديث 1م صفحة 44 ))
ثالثا : توسيع دائرة الإباحة والحل .(2/145)
وهذا من يسر الإسلام وسماحته ، أن تجد دائرة الإباحة والحل من أوسع الدوائر الشرعية ، مما يعطي للمسلم مساحة واسعة للعيش والاستمتاع والسعة في حياته الدنيا .
ومناهجنا تسير على هذا الجانب ، فتقرر هذا بشكل جيد ، حين تقرر أن الحل والإباحة هو الأصل ، وبالتالي : فالتحريم والمنع عارض ، ولا بد من وجود دليل يرفع اصل هذه الإباحة ، وهذه من السعة الشرعية الميسرة للعمل والإنتاج .
في مناهجنا مواضع عدة من هذا الباب :-
فيقرر المنهج أن الأصل في الأشياء الحل (( تفسير 3ث صفحة 33 ))
والطهارة (( فقه 1م صفحة 13 ))
وان الأصل في الأطعمة الحل (( تفسير 3ث صفحة 120 ،، تفسير 3م صفحة 10 ))
وكذا الأصل في اللباس (( حديث 3م صفحة 101 و 107 ،، فقه 3م صفحة 62 ))
والأصل في التعامل المالي الحل أيضا (( توحيد 3ث صفحة 70 ))
وان الابتداع في العادات الاباحة (( توحيد 3ث صفحة 116 ))
وليس هذا فحسب ؛ بل إن العادات الدنيوية إذا نوى بها المسلم التقرب إلى الله صارت عبادة (( حديث 3ث صفحة 74 و 125 ،، تفسير 1م صفحة 105 ))
ومن أمثلته : النوم (( حديث 2ث صفحة 104 ))
رابعا : الحث على تعلم العلوم الدنيوية .
إن الموقف من الغرب ، والنهي عن التأثر به ، وتصدير ثقافته وفكره ، والتحذير من ذلك ، إن هذا لا يعني أن نحرم أنفسنا من الاستفادة من العلوم العلمية التي تميز بها ، بل أن هذا من الأمور المهمة التي لا بد لنا من أخذها منهم والاستفادة منها .
والمنهج الديني في مناهجنا يقرر هذا بوضوح ،
فالمنهج يقرر وبعمومية : أن العلوم الدنيوية محمودة (( حديث 1ث صفحة 66 ))
ويوضح أهمية الاستفادة من الكفار وتقليدهم في العلوم النافعة (( توحيد 3ث صفحة 76 ))
وفوق هذا يقرر : أن تقليد الكفار في العلوم المباحة يعتبر من ديننا (( توحيد 1ث صفحة 97 ))
ونجد بعض الأمثلة في مناهجنا لهذه العلوم ا لنافعة ، كتعلم الحاسب الآلي والكهرباء ، إذ يوجه المنهج الطلاب أن تعلمها من صور استغلال الوقت (( حديث 3م صفحة 86 ))
وبعد هذا دعوة من مناهجنا للطلاب في التفوق ، كما تراه من حث عليه في (( حديث 2م صفحة 126 ))
خامسا : الترابط بين الطالب ومجتمعه .
المنهج الشرعي يربي الطالب على الاتصال بمجتمعه ، ومد جسور الترابط والتواصل مع المجتمع والوطن ، وتمديد صلات المحبة والمودة والحرص من الطالب لمجتمعه ؛ والمنهج يسعى لذلك من خلال عدة رؤى شرعية .
ففي المنهج أن حب الأوطان تابع لحب العبد لله تعالى (( توحيد 2م صفحة 101 ))
ويقرر المنهج مفاهيم ضرورية في هذا الباب :-تقرير مفهوم خدمة الأمة والوطن (( حديث 1ث صفحة 72 ))
ومفهوم حق الوطن ((حديث 2ث صفحة 72 ))
وعن نعمة الأمن (( فقه 1ث صفحة 104 ،، تفسير 1م صفحة 124 ))
وعن أداء المصالح العامة ، وكون التقصير فيها من الظلم (( حديث 2ث صفحة 123 ))
ويزيد هذا التواصل كثيرا ، حين تثني مناهجنا على بعض الجوانب الحسنة في بلادنا ، مما يشكل لدى الطالب رؤية ايجابية لبلده ومجتمعه ، تجد هذا الثناء في مواضع مثلا (( تفسير 1ث صفحة 23 ،، فقه 1ث صفحة 95 ،، فقه 2ث صفحة 31 ))
ويتربى الطالب على احترام الأماكن العامة ومنها : دورات المياه العامة ، (( حديث 1م صفحة 42 ، فقه 1م صفحة 18 ))
ومن صور التواصل مع المجتمع : توسيع أفق فكر وفهم الطالب ، بحيث ينظر في الأحكام إلى المجتمع ومدى تأثره ، ففي المنهج حديث عن آثار الزنا على المجتمع (( فقه 1ث صفحة 75 ))
وكذا آثار اللواط (( فقه 1ث صفحة 79 ))
ويضع للطالب في التعامل الاقتصادي آدابا ومبادئ مهمة ، كالأمانة والصدق (( حديث 2ث صفحة 79 ))
وتجنب الغش (( حديث 2ث صفحة 79 ))
وان لا يترتب على المعاملة إضرارا بأحد (( حديث 2ث صفحة 79 ))
وذم الكسب الحرام (( تفسير 3م صفحة 124 ))
فيتصل الطالب بمجتمعه ، بتعامل أخلاقي راقي ، يؤثر فيه حاجة المجتمع على حاجة نفسه وهواها .
ومن المفاهيم المهمة في هذا التواصل ما يقرر المنهج من اهتمام الإسلام بكل حي (( حديث 1م صفحة 112))
سادسا : الحث على العمل والإنتاج .
فالإسلام هو دين الحركة والعمل (( حديث 2ث صفحة 127 ))
وتقرير هذا المفهوم لدى الطالب عن دينه ، سيجعله أكثر نشاطا وإنتاجا ،
وربما يتصور بعض المسلمين أن الزهد في الحياة الدنيا ، وعبادة الله تعالى تنافي العمل والإنتاج والسعي والكدح ،وهذا مفهوم ربما انتشر لدى بعض الناس ، وقد تناولته المناهج بالتوضيح الكافي والعلاج الشافي .
فلا منافاة أصلا بين السعي للرزق وعبادة الله (( توحيد 1م صفحة 109 ))
وتوضح المعنى الحقيقي للزهد وهو ما اشغل عن الله (( حديث 3ث صفحة 84 ))
وان تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية هو من الإيمان (( حديث 2م صفحة 12 ))
والعمل للدنيا والآخرة (( تفسير 2م صفحة 118 ))
وتقرر أن الأخذ بالأسباب المادية لا ينافي التوكل (( تفسير 3ث صفحة 88 ،، توحيد 3م صفحة 105 ،، توحيد 1م صفحة 32 و33 ،، حديث 1م صفحة 18 ))
وتصل ذلك بالنهي والذم للكسل والبطالة (( تفسير 3م صفحة 107 ))
وليس المقصود فقط الإتيان بالعمل ، بل من المهم أن يكون لدينا الحرص على إتقان العمل (( حديث 1م صفحة 51 ))
ويقرر المنهج أيضا أن الترتيب والتنظيم من الإسلام (( تفسير 3م صفحة 84 ))
ويقرر حرص الإسلام على اتخاذ أسباب السلامة (( حديث 1ث صفحة 102 ))
وأهمية الحفاظ على الوقت وعدم تضييعه (( حديث 1ث صفحة 47- 49 ))
ويبرز المنهج للطالب أهمية حصول الاستقرار والإنتاج وعمارة الأرض ويجعله من الأهداف والمقاصد التي يسعى الجميع لها ، فهو يضعه هدفا وثمرة من ثمرات التميز لدى المسلم كما تجده في (( حديث 2ث صفحة 66 ))
ويجعل من ثمرات طاعة ولاة الأمر : اتجاه الأمة للبناء والتنمية (( حديث 1ث صفحة 59 ))
وينهى عن تحديد النسل ، ويجعل من آثاره قلة الإنتاج واشتداد الأزمة (( فقه 3ث صفحة 54 ))
ويذم الربا لكونه وسيلة لهدم النشاط والعمل الشريف واستثمار الأرض (( تفسير 2ث صفحة 109 ))
وتبحث المناهج بعض صور التعامل المعاصرة ، فتكيفها فقهيا ، وتقرر ما يباح مما يحرم منها بناء على الأدلة الشرعية ، ومن تلك المعاملات : القروض المصرفية والكمبيالات والإيجار المنتهي بالتمليك والحوالات والبطاقات المصرفية والبطاقات الائتمانية والأسهم والسندات وشركة المساهمة (( فقه 2ث صفحة 73 – 136))
سابعا : الثناء والحث على الجمال والنظافة .
فيوجه المنهج الناشئة إلى أهمية المنظر الحسن والنظافة (( حديث 1ث صفحة 10 ،، حديث 2م صفحة 114 و 121 ،، حديث 3م صفحة 27 ،، فقه 3م صفحة 71 ))
ويحث على بعض الأفعال الحسنة المتعلقة بذلك ،وينهاه عن ضدها :
فيحث على استعمال فرشاة الأسنان (( فقه 1م صفحة 25 ))
وخلع الجوارب إن كانت رائحتها كريهة (( فقه 1م صفحة 29 ))
وعدم إلقاء شعيرات السواك في المسجد (( فقه 1م صفحة 26 ))
واستعمال الطيب ومدح حسن الرائحة (( فقه 3م صفحة 73 ،، حديث 3ث صفحة 134 ))
وكذا : حلق العانة وقص الشارب والأظفار (( حديث 3م صفحة 28))
سادساً: المناهج وتوثيق رابطة الإخوة بين المسلمين
لمناهجنا الشرعية عناية فريدة بتربية الطلاب وتوعيتهم بأهمية الأخوة الإسلامية ، والسعي لتعليم الطلاب سبل توثيق العلاقة ، وتقوية الأواصر ، بين بقية إخوانه المسلمين ، وتجنب كافة ما يشوش على هذه العلاقة .
تضع المناهج تقريرات عامة ، ووصايا مجملة ترسخ هذا الأمر كمفهوم ومنهج واضح لدى الطلبة ..(2/146)
فتأصل فضيلة المحبة في الله (( حديث 2م صفحة 80 ، حديث 1ث صفحة 62 ))
وتقرر أن إشاعة المحبة والألفة بين المسلمين من الأمور التي يسعى لها الدين (( حديث 2م صفحة 15 ))
وتؤكد على انه يجب أن يكون هناك ترابط بين المسلم وأخيه المسلم (( حديث 2م صفحة 68 و 92))
وان على المسلم أن يسعى دائما لكل ما يجلب المحبة والمودة (( حديث 2م صفحة 73 ))
وان السفر لزيارة الأخ من الأمور المشروعة (( حديث 2م صفحة 81 ))
ويحذر المنهج من كل ما يثير الشحناء والبغضاء والفرقة ، وكل ما يكدر صفاء هذه العلاقة
فيذم المنهج البغض والكره (( حديث 2م صفحة 15 ))
ويشير إلى أن زرع الفرقة بين المسلمين هو من اخطر أسلحة الأعداء (( حديث 2م صفحة 54 ))
ويحذر من الخصومة فيقرر عقوبة المتخاصمين (( حديث 2م صفحة 84 ))
وفوق هذا : لا يكتفي المنهج بذلك ، بل يدعو إلى الإصلاح بين الناس ويقرر أهميته (( حديث 2م صفحة 123 ))
بل ويقرر جواز الكذب من اجل هذا الإصلاح (( حديث 2م صفحة 123 ))
وبعد هذا :-
نجد في مفردات مناهجنا تقريرا لحقوق وآداب كثيرة من حقوق الأخ المسلم على إخوانه ، وحث على الإتيان بها ،ومن هذه الحقوق :-
1- إجابة الدعوة (( توحيد 3م صفحة 98 ، حديث 2م صفحة 67 )) 2 - حسن الظن به (( توحيد 3م صفحة 51 ، حديث 3م صفحة 116 ))
3- محبته (( حديث 2م صفحة 15 ، حديث 2ث صفحة 124 و 143 )) 4- رد السلام (( حديث 2م صفحة 67 )) 5- تشييع الجنازة ((حديث 2م صفحة 67 ))
6- تشميته إذا عطس ((حديث 2م صفحة 67 )) 7- قضاء الحاجات (( حديث 2ث صفحة 11 ))
8- ترك الغل والحسد (( حديث 2ث صفحة 11 )) 9- البشاشة (( حديث 1ث صفحة 64 ))
10- الهدية ((حديث 1ث صفحة 64 )) 11- الدعاء له ((حديث 1ث صفحة 64 ))
12- ستر الأخطاء والعيوب (( حديث 2م صفحة 78 )) 13- تجنب الجدال والخصومة (( حديث 1ث صفحة 85 ))
14- الرفق (( حديث 1م صفحة 103 )) 15- إبرار القسم (( فقه 3م صفحة 97 ))
16- رد الحقوق لأهلها (( حديث 2م صفحة 60 و 93 ، حديث 3م صفحة 101 ، حديث 2ث صفحة 39 ))
17- إخباره بالمحبة ((حديث 1ث صفحة 64 )) 18- النصيحة له (( حديث 3ث صفحة 69 )) 19 - الزيارة ((حديث 2م صفحة 67 ))
سابعاً: المناهج وترسيخ الأصول والمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية
وكما أن مناهجنا الشرعية حرصت على تعليم الطلاب وتربيتهم وتوعيتهم بتفاصيل أحكام الشرع من معاملات وعبادات ، فلقد كان للمناهج أيضا عناية في المقابل بتقرير كليات الدين ، وأصول الشريعة ، ومقاصدها الكبار ، مع ترسيخ مفاهيم وقيم شرعية في نفوس الناشئة .. ويمكن أن نوجز ما طرقته المناهج من هذه الأصول والقيم في نقاط عدة :-
أولا : الوسطية :-
فيقرر المنهج بوضوح أن الوسطية من سمات الشخصية الإسلامية (( تفسير 2ث صفحة 60 ))
ثانيا : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :-
فهو من ميزة هذه الأمة (( تفسير 1م صفحة 95 و 111 ، توحيد 3ث صفحة 135 ))
ثالثا : عظم فضل الله وشمول رحمته :-
نجد تقرير هذا المعنى العظيم في عدة مواضع من مناهجنا الشرعية ، تجدها مثلا في (( تفسير 3م صفحة 130 ، حديث 1م صفحة 26 ، تفسير 3م صفحة 12 ))
رابعا : عناية الشرع بالنظافة والطهارة الحسية :-
و تفصيل ذلك بشكل أوسع وأوضح في بحث المناهج والإنتاج الدنيوي ، ويضاف هنا تقريرات أخرى تجدها في: (( حديث 1م صفحة 41 و 51 و 53 ، حديث 3ث صفحة 133 ، حديث 3م صفحة 22 ))
ويضع المنهج أمام أعين الطلاب أن الإسلام يحرص على تثبيت قواعد الصحة العامة (( حديث 1م صفحة 42 ))
خامسا : العناية بالروابط الأخوية :-
وتفصيل ذلك أكثر سيكون في مبحث المناهج وتوثيق رابط الإخوة بين المسلمين ، ويضاف هنا ثلاثة مواضع تجدها في (( حديث 1م صفحة 77 ، حديث 3م صفحة 16 و 74 ))
ويقرر المنهج حرص الإسلام على الابتعاد عن كل ما يضر بالمسلم (( حديث 1م صفحة 107 ))
سادسا : العدل :-
فقد حث الإسلام على العدل (( حديث 3ث صفحة 79 ، حديث 2م صفحة 90 ))
وحرمت الشريعة الظلم (( حديث 2م صفحة 91 و 122 )) وحكمت بوجوب نصرة المظلوم (( حديث 2م صفحة 99 ))
سابعا : مراعاة المصالح والمفاسد :-
فالشريعة الإسلامية تراعي المصالح والمفاسد (( حديث 3ث صفحة 146 و 184 ، حديث 2ث صفحة 26 ))
وتضع المناهج أمثلة تطبيقية لهذه القاعدة الكلية المهمة ، فمن ذلك أن المنكر يدفع بأيسر ما يمكن أن يندفع به (( حديث 3م صفحة 146 )) وانه يجوز السكوت عن المنكر إذا ترتب على إنكاره منكر أعظم منه (( فقه 3ث صفحة 198 ))
ويؤكد المنهج ذلك بتقرير خطأ من ينظر إلى للمفسدة ويغفل جانب المصلحة الأعظم منه (( حديث 3ث صفحة 185))
ثامنا : الأخلاق والآداب العامة :-
فتجد تقرير أهمية الأخلاق الفاضلة وتريبة الإسلام للمسلمين عليها (( حديث 3م صفحة 86 ، حديث 2م صفحة 12 ، حديث 2ث صفحة 64 ))
ونجد من الأخلاق والآداب :-
1- الصبر (( حديث 3ث صفحة 153 – 158 ، توحيد 3ث صفحة 136 ، حديث 2م صفحة 105 ، تفسير 3ث صفحة 145 ، حديث 1ث صفحة 23 ، تفسير 2ث صفحة 93 و 129 و 149 ))
2- الأمانة (( حديث 3ث صفحة 196 – 199 ، حديث 2ث صفحة 47 )) ومن الأمانة أداء حقوق العباد (( حديث 3ث صفحة 197 ، تفسير 3ث صفحة 16 ))
3- التعاون على الخير (( توحيد 3ث صفحة 135 ، حديث 2م صفحة 53 ، حديث 1ث صفحة 23 ))
4- الحياء (( حديث 3م صفحة 22 ، تفسير 3ث صفحة 50 ))
5- التواضع وذم الكبر ((حديث 2م صفحة 97 و 100 ))
6- سلامة الصدر (( حديث 2م صفحة 112 ))
7- الوفاء بالعهد (( توحيد 3م صفحة 137 و 139 ، تفسير 3ث صفحة 64 )) ويؤكد هذا بذم نقض العهود (( تفسير 3ث صفحة 95 و 144 و 149 و 161 و 173 )) ولا يجوز الغدر بالكفار ولو ظهرت لنا إماراته (( تفسير 3ث صفحة 96 ))
8- الصدق (( حديث 1ث صفحة 52 ، حديث 3ث صفحة 70 )) ويؤكد هذا في ذكر ذم الكذب (( حديث 1ث صفحة 53 – 58 ، تفسير 2ث صفحة 69 ))
وتفصيل ذلك في مبحث المناهج وتعزيز الأخلاق والآداب العامة
تاسعا :حفظ الضروريات الخمس ( الدين ، النفس ، العقل ، النسل ، المال ) :-
وذلك مقرر في (( حديث 3م صفحة 118 ، فقه 1ث صفحة 9 – 14 ))
عاشرا : العناية بتقرير خصائص الشريعة الإسلامية :-
فيتعلم الطالب في هذه المناهج بعض الخصائص الكلية للشريعة التي يدين الله بها ، ومن هذه الخصائص :-
1- كون مصادرها محفوظة (( حديث 2ث صفحة 57 ))
2- وغنى مصادرها (( حديث 2ث صفحة 58 ))
3- وكونها رسالة عالمية (( حديث 2ث صفحة 60 ))
4- وأنها إلهية المصدر والغاية (( حديث 2ث صفحة 57 ))
5- وقيامها على اليسر والسهولة (( حديث 2ث صفحة 60 و 127 ، حديث 3م صفحة 50 ))
6- ومع كونها رسالة وسطية (( حديث 2ث صفحة 59 ، حديث 1ث صفحة 14 ، ))
7- وشاملة لجميع شؤون الحياة (( حديث 2ث صفحة 26 و 128 و 163 ، حديث 1ث صفحة 10 و 79 و 81 ))
حادي عشر : نفع الناس :-
فمن مبادئ الإسلام القيام بحاجات المسلمين (( حديث 2م صفحة 78 و 95 ))
وان أفضل الأعمال ما فيه نفع متعد للآخرين (( حديث 2ث صفحة 127 و 143 ))
ثاني عشر : إكرام المرأة :-
فالإسلام قد سبق غيره في إكرام المراة (( تفسير 2ث صفحة 145 ، فقه 2م صفحة 72 ، تفسير 3ث صفحة 197 ، حديث 2ث صفحة 29 ))
وكونها متساوية مع الرجل في التكليف (( حديث 2ث صفحة 153 ))
وحث على إكرامها زوجة (( حديث 2ث صفحة 154 )) والزم ببرها وأكد حقا حين تكون أما (( حديث 2ث صفحة 154))
ثالث عشر : موافقة الفطرة :-(2/147)
فتوضح المناهج أن الإسلام هو دين الفطرة (( تفسير 2ث صفحة 100 ))
رابع عشر : إكرام الحيوان :-
فيبين المنهج عظمة الدين في الأمر بالإحسان إلى كل حي (( حديث 2م صفحة 119 ))
ويقرر أهمية الإحسان إلى الحيوان (( حديث 2م صفحة 119 ، حديث 3م صفحة 120 ))
ويحكم بحرمة إيذاءه (( حديث 2م صفحة 119 )) ووجوب النفقة على البهائم في (( فقه 3ث صفحة 94 ))
وانه لا يجوز اتخاذ الحيوان هدفا (( فقه 3م صفحة 50 و 60 ))
أو ذبحه لغير الأكل (( فقه 3م صفحة 50 )) ويحرم أيضا لعن الحيوان (( حديث 1م صفحة 111 ))
ثامناً: المناهج .. وعلاقة الحاكم والمحكوم
علاقة الحاكم والمحكوم من القضايا الشرعية التي قررتها النصوص ووضحت معالمها وأعطت كل ذي حق حقه ، وقيام هذه العلاقة على نهج سواء كفيل لان يحفظ بالمجتمع أمنه واستقراره ويدفعه للإنتاج والتقدم بعد توفيق الله تعالى
ولمناهجنا الشرعية نظرات فذة وفريدة في تقرير هذه العلاقة ، وتوعية الناشئة بها ، وبمفاهيمها وأصولها ،
ومن خلال قراءة لمفردات المناهج الشرعية المتعلقة بهذا الجانب يمكننا أن نوجز خطوطها العريضة في النقاط التالية :-
أولا : تقرير أهمية الاجتماع ، ومفهوم الطاعة للأمير .
فيقرر المنهج أهمية الاجتماع (( حديث 1ث صفحة 57 )) ، ومشروعية البيعة (( تفسير 3م صفحة 77 )) ، ويوضح للطلاب مفهوم اتساع دائرة الإمرة (( حديث 1ث صفحة 57 )) ،و طاعة الأمير ولو كان أميرا في سفر (( حديث 1ث صفحة 23 ))
وتؤكد هذا المعنى بتوضيح الحكمة من طاعة ولي الأمر (( حديث 1ث صفحة 60 )) ، وتقرير الآثار الحسنة لطاعتهم والاجتماع عليهم (( حديث 2م صفحة 23 ))
والموقف السليم من المسلم عند وقوع الفتن أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم (( توحيد 3ث صفحة 113 ))
وكذا يجب على الناس أن يصبروا على جور الولاة (( توحيد 3ث صفحة 114 ))
وهذه المفاهيم مما تعزز في نفوس الناشئة مفهوما متأصلا في أهمية الاجتماع والطاعة .
ثانيا : الحقوق والآداب الواجبة للحاكم :-
فيجب الاجتماع عليه (( حديث 2ث صفحة 147 )) ، والجهاد والنصرة معه (( حديث 2ث صفحة 148 )) ، والنصيحة له (( حديث 2ث صفحة 148 )) ، وإقامة الشعائر معهم (( توحيد 3ث صفحة 149 )) والسمع والطاعة له (( فقه 1ث صفحة 110 ، تفسير 3ث صفحة 16 ، حديث 2ث صفحة 147 ، توحيد 3م صفحة 21 و 25 ، توحيد 2م صفحة 25 )) ، وحرمة الخروج عليه (( فقه 1ث صفحة 111 ، حديث 2ث صفحة 149 )) وتوضح حكم من يخرج على الحاكم وهم البغاة (( فقه 1ث صفحة 110 )) والدعاء له (( حديث 1ث صفحة 133 )) ، ومراجعته بالأدب والحكمة (( حديث 2م صفحة 23 )) ،
ومما يختص به الحاكم إقامة الحدود (( فقه 1ث صفحة 63 )) ، والتعزير (( فقه 1ث صفحة 116 ))
وتؤكد المناهج حق الوالي بان من الورع أن يؤتى حق ذي السلطان (( حديث 3ث صفحة 184 )) ، وتوضح من دروس الهزيمة العودة لطاعة ولاة الأمر (( تفسير 2ث صفحة 139 ))
وتدعو للتعاون معهم من خلال إبلاغ الجهات المختصة عمن يجاهر بالمعاصي (( حديث 1م صفحة 114 ))
ثالثا : الحقوق والواجبات للرعية .
فيجب على الحاكم أن يحكم بينهم بشرع الله (( حديث 2ث صفحة 149 )) ، وان ينصح لهم (( حديث 2ث صفحة 150 )) ، وان يرفق بهم (( حديث 2ث صفحة 150 )) ، ويجب أن يقيم العدل فيهم (( حديث 2ث صفحة 150 ))
رابعا : الطاعة في المعروف
فلا تجوز الطاعة في معصية الله ، ولا فيما لا يقدر عليه الإنسان ، أو يضر به (( حديث 1ث صفحة 60 ))
تاسعاً: المناهج ،،، والتعامل مع المخالفين ..
المنهج الدراسي قد سار مسيرا معتدلا في التعامل مع المخالفين بلا تفريط ولا إفراط ، فالمنهج أولا يدعو إلى الدعوة إلى الله وتبليغ دين الله تعالى ، فيقرر المنهج فضل الدعوة إلى الله تعالى (( توحيد 1م صفحة 47- 49 )) ويقرر أيضا تعليم الناس دين الإسلام (( توحيد 1م صفحة 48 ))
وهذا الأسلوب من أهم الأساليب في التعامل مع أي مخالف ، فلا أسلوب ولا منهج أفضل من منهج الدعوة والتعليم بالحكمة والرفق ، إذ فيه تعريف الآخرين بالدين الذي نعتنقه ، وهذا التعريف كاف في إقناع الكثير من المخالفين أو تخفيف شرهم وفسادهم ، إلى كونه اعذارا إلى الله تعالى بقيامنا بهذه العبادة المهمة .
وتؤكد المناهج على أهمية البصيرة في الدعوة وضرورة الحكمة فيها (( توحيد 1م صفحة 49 ،، حديث 1ث صفحة 16 )) ، حتى تؤتي الدعوة أثرها البالغ ، ويضرب لذلك في التعامل مع المخالف الذي يحمل تميمة قد نهت عنها الشريعة ، فتقرر المادة الدراسية أن يكون القطع بالتي هي أحسن لان العنف قد يؤدي إلى المنازعة والشقاق (( توحيد 1م صفحة 72 ))
وتؤكد هذا المعنى أيضا في تقرير أهمية استعمال الأساليب المناسبة من القول الحسن والتعامل الكريم (( حديث 1ث صفحة 16 و 19 ))
وتؤكده أيضا في أهمية الرفق بالجاهل في التعليم ، وبالفاسق في الإنكار (( توحيد 2م صفحة 84 ))
وفيما يتعلق بالخلاف الشرعي المقبول فتتناوله المناهج تناولا فريدا ، فهي أولا: لا تنصر مذهبا على مذهب ، ولا تجد في أي مقرر أية دعوة إلى اعتناق مذهب معين أو تفضيله على غيره ، أو الاستهانة بأية شي من هذه المذاهب ، بل نجد ترجمة واسعة لكل مذهب من المذاهب الأربعة ، وتلامذة كل مدرسة ، وابرز مؤلفاتها في ((مقرر الفقه 3ث صفحة 11 – 21))
ومن تقدير المنهج للعلماء ولأقوالهم حتى وان كانت مخالفة تقريره لأسباب الاختلاف العلماء ، مما هو تقدير لهم وبحثا عن أعذارهم (( فقه3 ث صفحة 17 ))
ويدعو المنهج إلى تلمس الأعذار للعلماء عند المخالفة (( فقه 3ث صفحة 17 ))
وتدعو أيضا إلى قبول أعذار الصالحين إذا اخطأوا عن اجتهاد (( تفسير 3م صفحة 6 ))
هذا فيما يتعلق بالخلاف المذهبي المقبول والمستساغ
وأما حين يكون الخلاف خلافا غير مقبول ، ولا مستساغ ، أو حين يكون المخالف مرتكبا لناقض من نواقض الإسلام واقعا في المكفرات ، فقد سارت المناهج في التعامل مع هذا الخلاف تعاملا شموليا متكاملا ..
فتبدأ المناهج أولا: بوضع العلاج الوقائي في التعامل مع هذه القضية ، وفي تناول المخالف بالحكم أو التكفير ، هذا العلاج يمكن في التحذير من الفتيا وبيان عظم شانها والتحذير من أي تساهل بها
فمن ذلك أننا نجد في مناهجنا تقريرا وتأكيدا على أهمية الفتيا وعظم شأنها (( فقه 3ث صفحة 175 ))
وتحذر أيضا من خطورة الجرأة على الفتيا (( حديث 1ث صفحة 70 ))
بل وتقرر مشروعية الحجر على من يفتي بغير علم (( فقه 3ث صفحة 197 ))
وهذا بلا شك من التربية الوقائية للناشئة ، تضع أمامهم حدودا مانعة من التساهل والاستهانة بالتكفير .
وتتواصل هذه التريبة الشاملة ، والمنظومة المتكاملة ، في التعامل مع المخالف هنا ، بتأصيل عظم شان التكفير ، وخطورة بابه ، والتخويف من اقتحامه
فتقرر المناهج في هذا الباب حرمة دم المسلم وعرضه (( حديث 1م صفحة 82- 83 ))
ثم تحذر المناهج الطلاب من خطورة التكفير وتكرر ذلك (( حديث 1م صفحة 83 ،، توحيد 3ث صفحة 32 ))
وتوجه المناهج بالطلاب وتنصحهم بان نصح المسلم خير من المسارعة إلى تكفيره ((حديث 1م صفحة 84 ))
وتزيد المناهج الطالب تحصينا وحماية في هذا الباب فتوضح أهمية الورع عن أعراض الناس وأموالهم (( حديث 3ث صفحة 186 ))
وتزيد المناهج أيضا في هذه الوقاية فتحذر الطلاب من الغلو (( توحيد 3ث صفحة 112 ))(2/148)
ثم بعد هذه التربية الوقائية ، توضح المناهج المنهج الصحيح في التعامل مع المخالف الواقع في الكفر ، وتربي الطلاب على المنهج الوسط المعتدل المبني على الكتاب والسنة ، بوسطية سنية معتدلة بين منهج الغلاة الخوارج والجفاة المرجئة
فالمنهج لا ينفي وجود التكفير ، ولا ينفيه ، لكنه يضع له شروطا مهمة ، وضوابطا ضرورية لا يجوز الإقدام على التكفير إلا بعد اجتماع هذه الشروط وانتفاء هذه الموانع :-
وقبل أن ندخل في هذه الضوابط نشير إلى تقرير المنهج إلى قاعدة مهمة مطردة وهي : أن أهل السنة لا يكفرون من خالفهم (( توحيد 3ث صفحة 33 )) والى قاعدة أخرى وهي أن المسلم قد يكون فيه شي من خصال الجاهلية ولا يقتضي ذلك كفره (( توحيد 2م صفحة 99 ))
ونعود الآن إلى هذه الضوابط والقواعد المهمة :-
فأولا : لا بد من كون المخالف عالما بكون فعله هذا مخرجا له عن الملة
يوضح ذلك المنهج في تقريره أن لا عقوبة لجاهل (( تفسير 2ث صفحة 80 ))
ويقرر المنهج أن موانع التكفير : الجهل (( توحيد 3ث صفحة 34 ))
ويقرر أيضا عدم تكفير المشرك الجاهل (( توحيد 3ث صفحة 34 ))
وتزيد ذلك بان المشرك لا يحبط عمله إلا حين يكون عالما (( توحيد 1م صفحة 79 ))
وحتى الحدود لا يجوز إقامتها إلا على من كان علما بالتحريم ((فقه 1ث صفحة 62 ))
وثانيا : لا بد من انتفاء موانع التكفير ،
وقد وضعت المناهج موانعا أربعة لا يجوز معها تكفير احد من المسلمين حتى ولو ارتكب مكفرا إلا بعد زوال هذه الموانع وهي ( الجهل والإكراه والتأويل والخطأ ) راجع (( توحيد 3ث صفحة 34 - 35 ))
وثالثا : لا بد من كون الفعل الذي وقع فيه المخالف كفرا ، ولا يعرف ذلك إلا بالدليل الشرعي ، فالتكفير لا يكون بكفر ثابت كونه كفرا بالشرع ، تجد هذا التقرير في مقرر توحيد 3ث صفحة 34
وتزيد هذا المعنى توضيحا فتقرر المناهج أن المعصية لا تخرج عن الإسلام ما لم تكن شركا (( تفسير 3ث صفحة 198))
وحتى لو كانت هذه المعصية شركا اصغر فلا تخرج صاحبها من الإسلام ، ولا يمنع من الموالاة لصاحبها (( توحيد 3ث صفحة 15 ))
ورابعا : تحذر المناهج من تكفير العموم ، وتقرر ا ن هذا من شأن أهل البدع (( توحيد 3ث ))
وخامسا : وحين نشترط إقامة الحجة ، فيقرر المنهج أن إقامة الحجة لا تكون إلا لمن يحسنها (( توحيد 3ث صفحة 26 ))
وأما ما يتعلق بالمخالفين الكفار فيقرر المنهج أولا أساسا مهما في التعامل معهم ،وقاعدة مطردة في هذا الباب وهي انه لا يكره احد على الدخول في الإسلام (( تفسير 2ث صفحة 100 ))
عاشراً: المناهج .. والأسرة .
الأسرة هي اللبنة الأولى ، والنواة الأساس في بنية المجتمع ، وأي نهوض بالمجتمع وارتقاء به لا بد أولا أن يمر عبر الأسرة ، فصلاحها وفسادها سيتعدى إلى المجتمع جميعا ، ولقد عنيت الشريعة بشأن الأسرة ، وأعطت لكل فرد من أفرادها حقوقا له ، وألزمته بواجبات عليه ، ووثقت روابط العلاقة ، ووضعت أسسها وأحكامها ، وتحقيق ذلك كفيل بإذن الله في إخراج أسرة مسلمة سعيدة في الدنيا والآخرة
ولقد سارت المناهج في تقرير شأن الأسرة ، وبيان حقوق أفرادها ، متوافقة مع المنهج الشرعي في هذا الشأن
توضح المناهج أهمية الأسرة ، وان استقرار الأسرة موصل في النهاية لاستقرار المجتمع (( فقه 3ث صفحة 21 ))
وهذا المجتمع المسلم من صفته المحبة والرحمة (( تفسير 2ث صفحة 112 ))
وقد حفظت مناهجنا لهذه الأسرة كيانها وحرمتها ، فحذرت من الطعن في الأنساب (( توحيد 2م صفحة 95 ))
وتحرر مناهجنا الوسيلة الأولى قيام الأسرة ، والطريقة الصحيحة لتكوين الأسر المترابطة وهي النكاح (( فقه 3ث صفحة 26 ))
وفصلت المناهج الأحكام المتعلقة بالنكاح من الصداق (( فقه 3ث صفحة 44 ))
ووليمة النكاح (( فقه 3ث صفحة 47 ))
وأحكام نشوز الزوجة (( فقه 3ث صفحة 58 )).
وللاستزادة من أحكام النكاح (( فقه 3ث صفحة 24-43 ))
ولقد ذم المنهج الأسباب المؤخرة عن الزواج ، وذكر شيئا منها كغلاء المهور والتعذر بالدراسة وعدم تهيأ المسكن ودعا لتجاوزها والتعجيل بالزواج (( فقه 3ث صفحة 28 ))
ولا شك أن تحصين الشاب بالزواج ، وتهيأه لتكوين أسرة جديدة ، لهو من الأسباب المهمة في تحصين المجتمع وحمايته من الفساد والشرور
ثم ان مناهجنا أعطت كل فرد من أفراد الأسرة حقه ، وبينت واجباته ..
فالفئة الاولى : وهم الوالدان ..
وقد فصلت المناهج كثيرا في حقوق الوالدين ، ووجوب برهما ، وحرمة عقوقهما (( حديث 3م صفحة 73 ،، حديث 1ث صفحة 111 ، حديث 2ث صفحة 45 ))
وحثت كثيرا إلى الإحسان إلتهما (( تفسير 3ث صفحة 63 و 166 و 232 ))
والفئة الثانية : وهم الزوجان ..
وقد فصلت المناهج في حقوق الزوج (( فقه 3ث صفحة 59 )) ، وفي حقوق الزوجة (( حديث 2ث صفحة 161 ،، فقه 3ث صفحة 51 )) وفي الحقوق المشتركة بينهما (( فقه 3ث صفحة 52 ))
وقد حرص المنهج على تربية الناشئة على السعي إلى الإصلاح بين الزوجين (( فقه 3ث صفحة 59 ))
والفئة الثالثة : وهم الاولاد ..
فتحدث أولا عن حقوق الأبناء (( حديث 2ث صفحة 167 - 171 )) ووضحت بعض وسائل تربيتهم (( حديث 2ث صفحة 170 )) وقد ذكر المنهج من تلك الوسائل : مراعاة مواهب الأبناء وتوجيهها كمن يهوى مثلا الصناعة ((حديث 2ث صفحة 170 ))
ومن حقوق الأولاد : الحضانة (( فقه 3ث صفحة 98 - 100 ))
ومن رحمة الله ؛ أن محبة الوالد لولده إذا اقترنت بها نية الإصلاح صارت هذه المحبة الفطرية عبادة لله تعالى (( توحيد 3ث صفحة 47 ))
وقد رغب المنهج أيضا في تربية البنات ؛ فذكر عظم فضل من عالى جاريتين (( حديث 2ث صفحة 154 ))
ونهى عن القسوة والغلظة على الأطفال ، وان هذا من مظاهر الرجولة الخاطئة (( حديث 2ث صفحة 79 ))
وكذلك ذم من يوكل تربية أولاده للخدم (( حديث 3ث صفحة 195 ))
الفئة الرابعة : وهم الاقارب والارحام
فنجد الحث على صلة الأرحام (( حديث 2ث صفحة 123 ،، تفسير 3ث صفحة 144 ،، حديث 1ث صفحة 115 )) وكذلك تحث على إيتاء ذي القربى (( تفسير 3ث صفحة 161 ))
وتوضح المناهج فضيلة صلة الرحم (( حديث 2م صفحة 82 ))
وبعض الوسائل والطرق التي تتم بها صلة الرحم (( حديث 3م صفحة 75 ،، حديث 2م صفحة 82 ))
وفي المقابل : ذم قاطع الرحم (( توحيد 2م صفحة 91 ))
وتوضح حقوق الأقارب (( حديث 1ث صفحة 115 ))
وتلزم الغني بالنفقة على قريبه الفقير (( فقه 3ث صفحة 94 ))
هذا غيض يسير من الفيض الكثير الذي تقرّره هذه المناهج، وبه يدرك المنصف الشمول والسعة والثراء الذي تحتويه هذه المناهج، وأن الحملات الموجهة الطاعنة في هذه المناهج لم تكن في كثير منها حملات بريئة ومنصفة، بل كانت وللأسف حملات بغي وعدوان تعمي بصرها عن المنهج العام الذي تسير عليه المناهج، وتكتفي بتتبع بعض العبارات والاشارات التي لا يعرف من المناهج سواها.
وعوداً على بدءٍ، أكرر ما كررته في أول هذه المقالة من أن المناهج بحاجة إلى المراجعة والتطوير ، وأن الطعن الموجه لهذه المناهج لا يجوز أن يكون سبباً للتمسك بالخطأ ، أو الاصرار على الحال، بل ما كان من هذه الانتقادات حقاً فالواجب قبوله، وما كان باطلاً فيرد على صاحبه، ولا بد مع ذلك من الدفاع عن هذه المناهج والذبّ عن الحق الذي تتضمنه وتدعو له.
=============
العظماء دروس تهدي الأمة
أبو محمد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
كثير هم من يدّعون الإيمان .. لكن المؤمنين منهم قليل ..
كثيرٌ هم من يدّعون العظمة .. لكن العظماء منهم قليل ..(2/149)
كثيرٌ هم من يدّعون القوة .. لكن الأقوياء منهم قليل ..
كثيرٌ هم من يدّعون الكرامة .. لكن أصحاب الكرامة منهم قليل ..
كثيرٌ هم من يدّعون السيادة .. لكن السادة منهم قليل ..
كثيرٌ هم من يدّعون الزعامة .. لكن الزعماء حقاً منهم قليل ..
الإيمان، العظمة، القوة، الكرامة، العزة، السيادة، الزعامة .. أقل ما يمكن أن يوصف به قائدٌ شهمٌ من قيادات أمتنا، وبطلاً من أبطال عزتنا .. بطلاً عاش واقفاً كالطود لا يتزحزح ولا يلين .. ومات واقفاً شامخاً كما يموت الرجال والأبطال ..
إنها أقل ما يوصف به أسدٌ من اسود الله ورسوله، فإن لله ولرسوله اسوداً في كل زمان يذودون عن حمى الإسلام وكرامة الأمة، فكان حمزة بن عبدالمطلب على عهد رسول الله أسد الله وأسد رسوله، وكان القائد قتيبة بن مسلم أسد الله وأسد رسوله، وكان الظاهر بيبرس وصلاح الدين ومحمد الفاتح أسوداً لله ولرسوله في أزمانهم، وفي زماننا وعصرنا هذا كان أسد الله واسد رسوله هو شيخنا المجاهد الشهيد احمد ياسين عليه رضوان الله ورحمته، شيخنا الذي ما مات والله، فمن خلّف من بعده رجالاً وأسوداً ما مات، من خلف بعده مجاهدين وأبطالاً ما مات ، من خلّف عقيدة وإيماناً في القلوب ما مات، من خلّف فكرة مضيئة تسري في الأمة ما مات ..
كيف يموت أحمد الياسين وقد خلّف لنا أسداً آخر وبطلاً آخر أقض مضاجع الأعداء وألهب حماس الأمة ووقف شامخاً كالطود في وجه المحتلين الغاصبين، بطلاً لا يرفعه إلاّ إيمانه بربه وثقته بنصره وتأييده، كيف يموت الياسين وقد خلّف بعده أسداً من اسود الله ورسوله الشهيد عبدالعزيز الرنتيسي عليه من الله الرحمة والرضوان، الأسد الذي قدّم حياته ومماته لله رب العالمين وفاءً بما يقوله في كل صلاة (قل عن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).
عبدالعزيز: وثار جسمُك ثورةً = في وجه كل منافق يتشدّقُ
عبدالعزيز: وفي الشهادة مولدٌ = والمسكُ من جسد المجاهد يعبقُ
اخلع ثياب الأرض في ساح الفدا = والبس.. فهذا سندسٌ واستبرقُ
عبدالعزيز: وللشهيد منازلٌ = أولى به بين الأنام وأخلقُ
عبدالعزيز: ومنك يمتليء المدى =عزّا.. وينتفضُ الكيانُ المُطْرقُ
أ لَحِقْتَ شيخك؟! لم تُطق من بعده = عيشا .. فيا للجمع حين يحلّقُ!!
أسدَ الجهاد: وفي خطابك نبرةٌ = شمّاء تلهج بالشموخ فتصدقُ
رحمك الله يا أبا محمد .. ورحم شيخك وقائدنا الشيخ أحمد ياسين ..
ولكن العظماء من القادة والأبطال ليست حياتهم وحدها عظيمة بل وكذلك موتهم .. فحياتهم حياة للأمة وموتهم مشعل الزيت الذي يشعل روح الأمة وينير دروبها.
لذا كم أنتم عظماء يوم وقفتم في خطوط المواجهة الأمامية تذودون عن مقدساتنا وكرامتنا وتشعروننا ببعض من العزة في زمن المذلة والهوان، يوم أن كنتم أنتم وأبناؤكم ونساؤكم وشبابكم وأطفالكم أصحاب الزعامة والقرار يوم تخلى أدعياء الزعامة والقرار.
وكنتم أكثر عظمة يوم أن وحدتم بموتكم مشاعر الأمة فخرجت تهتف باسم الجهاد وحماس والمقاومة ورفض الاستسلام. عظماء ايضاً يوم أن أعطيتمونا دروساً حريٌ بالمسلم أن يتوقف عندها ليعلم كيف يأتي هذا الصمود وهذه الشجاعة، ليس الوفاء للشهداء بتلاوة بيانات الشجب والتنديد والاستنكار، وإنما الوفاء الحقيقي بالسير على طريقهم بالوقوف على الدروس المضيئة في حياتهم باستلهام العبر والمواعظ التي تعود بالنفع علي وعليك وعلى اسرنا ومجتمعاتنا وأمتنا.
لذا نقف مع بعض الدروس من حياة واستشهاد هذين القائدين المغوارين ..
درسنا الأول نأخذه من شيخنا الذي يعلمنا أن سر العظمة والشموخ والقوة والعزة هي بالاتصال الوثيق مع صاحب القوة المطلقة والعزة والعظمة، إنه توثيق الصلة بالله عز وجل، تمتين العلاقة معه سبحانه، أنظر إلى شيخنا المقعد وهو محافظاً على صلاة الفجر في جماعة المسجد .. أنظر وهو تالياً لكتاب الله .. أنظر إليه وهو خاشعاً في صلاته وسجوده لله ..
وثََّقْتَ باللهِ اتصالكَ حينما *** صلََّيْتَ فجرك تطلب الغفرانا
وتَلَوْتَ آياتِ الكتاب مرتِّلاً *** متأمِّلاً تتدبَّر القرآنا
ووضعت جبهتك الكريمةَ ساجداً *** إنَّ السجود ليرفع الإنسانا
صلاة الفجر .. ملتقى الأبرار .. وزاد الأبطال وسر العظمة والرفعة .. وكأن التاريخ يعيد نفسه ليخبر المسلم أن صلاة الفجر هي مصنع الرجال والمجاهدين وسر من أسرار النصر والتمكين، اسمع للتاريخ يروي لنا كيف مات عمر بن الخطاب وهو يصلي الفجر، وعثمان يموت بعد صلاة الفجر وعلي بن أبي طالب يقتل وهو خارج لصلاة الفجر وهاهو أحمد الياسين يستشهد بعد صلاة الفجر إنها ملتقى العظمة وملتقى الرفعة فحريٌ بك أخي وحري بنا جميعاً أن نضيء طرقاتنا إلى صلاة الفجر حتى يضيء الله لنا دروبنا في الدنيا والآخرة، بشّر المشاءين في الظلم بالنور التام يوم القيامة.
درس آخر من شيخنا المقعد في الهمّة والبذل فكم منّا من صحيحً معافىً ولكنه قعيد الهمّة محطم الإرادة، كم منّا اليوم يضيع طاقته وقوته في غير مرضاة الله، كم من ألوف بل ملايين شباب المسلمين اليوم يسخرون طاقاتهم وتفكيرهم فيما لا ينفعهم بل يضرهم ، إن أحمد الياسين سيكون شاهداً علينا وعلى شباب أمتنا يوم القيامة، هذا الرجل المقعد منذ صغره لا يتحرك فيه إلاّ رأسه قدم ما ترون فماذا قدمتم يا شباب، أين انتم في بيوت الله أين انتم وكتاب الله أين أنتم وأخلاق الإسلام أين انتم والدعوة إلى الله، شبابنا اليوم ضائع بين القنوات والمجلات ومحلات الانترنت ضائع في برامج سخيفة تافهة الهدف منها مسخ الهوية وتمييع الجيل وكم هي كثيرة على محطاتنا.
يا أحمدُ الياسين، كنتَ مفوَّهاً *** بالصمت، كان الصَّمْتُ منكَ بيانا
ما كنتَ إلا همّةً وعزيمةً *** وشموخَ صبرٍ أعجز العدوانا
درس آخر من أسد الله ورسوله الشهيد الرنتيسي الذي كان طبيباً حاصلاً على شهادة الماجستير في طب الأطفال درس في التضحية درس في المعنى الحقيقي للحياة والمستقبل، فحياته كان من الممكن أن تكون حياة رفاهية ونعيم لو أنه ركن إلى الدنيا واقبل عليها وترك الجهاد، ولكنه أبى إلاّ أن يعلمنا أن الحياة الحقيقية هي حياة العزة
لا تسقني كاس الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ
وأن المستقبل الحقيقي ليست هذه الدنيا الفانية وإنما الآخرة وما عند الله.
لذا أيها الأحبة علام يجري أحدنا اليوم هنا وهناك بل علام اليوم نقاطع بعضنا بعضاً علام يتقاتل الناس علام يهجر الأخ أخاه علام يتقاتل الناس ويكذبون على بعضهم ويخونون بعضهم أليس على الدنيا الفانية إن الرجال يعلمون علم اليقين أن المستقبل هناك في الدار الآخرة.
وهنا أيضاً درس آخر في أن المتعلمين هم طليعة الجهاد حملة الشهادات العالية هم من يحملون الرايات ويقودون الكتائب في طريق الجهاد، وهذا يرد على زعم المغرضين أن من يقاوم الاحتلال إنما هم من الفاشلين اليائسين الذين ليس لهم خيار إلاّ هذا، وتنبيه لشباب المسلمين أن طلب العلم والدراسة لا يتعارض مع الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله بل يدعم بعضهما بعضاً، وتنبيه أيضاً أن لكل مسلم دور في نصر الأمة فللطبيب دور كما للمهندس كما للمدرس كما .....(2/150)
درسُ آخر تعلمنا إياه زوجة الشهيد البطل الرنتيسي السيدة (أم محمد) وأبناء الشهيد ،هذه السيدة التي هزت بكلماتها الملايين، لقد أصيبت بأعظم مصاب زوجها شريك عمرها وغبنها فلذة كبدها، فما هي ولولت ولا هي صرخت ولا أصيبت بنكسة نفسية، بل إنه الإيمان الذي جعل هذه الزوجة المفجوعة والأم الثكلى ترفع رأسها فخورة سعيدة أن نال زوجها مراتب الشهداء، إنها حفيدة فاطمة وأسماء ونسيبة، إنها تخاطب كل نساءنا عن الدور الحقيقي الذي ينبغي أن يكون للمرأة في بيتها في تربية ابناءها في إخراج أبناء متربين على الإسلام فخورين به عاملين له يضحون لأجله، إن (أم محمد) ما هي إلاّ واحدة من بوارق الأمل في هذه الأمة التي فقدت الأمل، إنها هي وأخواتها على أرض الإسراء من يجعلننا نشعر بالفخر والعزة، ولكن ايضا يشعرننا بالخجل أن ملايين الرجال من هذه الأمة لم يصنعوا عشر ما صنعته هذه الزوجة المجاهدة والأم الصابرة، لم يصنعوا معشار معشار ما صنعت أم البطل القسامي محمد فرحات التي قدمت ابنها فداء للأقصى والإسلام وبعد استشهاده فتحت بيتها لاستقبال الناس لا للعزاء ولكنها كانت تقول من جاءنا معزياً فليدبر ومن جاءنا مهنئاً فليقبل.
لذا أيها الأحبة كيف نحن وبيوتنا وقضية فلسطين ، من منا يعلّم أولاده حب الأقصى ، من منا يعلّم أبناءه حب الجهاد، من منا يعلّم أبناءه معاني التضحية، من منّا في بيته حصالة للنقود يضع فيها الخمسة والعشرة ريالات لأجل الأقصى ويربي أبناءه على ذلك . من منّا يكحل ناظري ابناءه بمنظر المسجد الأقصى كي يعيش الصغير مع هذه الصورة وتسري في دماءه علّه يكون من جند جيش تحرير الأقصى، من منّا يشعل الحماسة في ابنه بأناشيد الحماسة والجهاد وأغاني القدس والتحرير لا الأغاني الماجنة والبرامج الهدّامة.
كثيرة هي الدروس التي تستقيها الأمة من موت العظماء ..
نسأل الله أن يوفقنا ويحفظ أمتنا ويهيئ لها قائداً ربانياً يقودها إليه إن الله على كل شيءٍ قدير ..
==============
إدارة التناقض
أ.د. عبدالكريم بكار
وجود نوع من التناقض بين الأفراد داخل الأمة ، وبين أمة وأمة ، هو معقد من معاقد الابتلاء في هذه الحياة ، وهو أيضاً مدخل كبير للتطور والتقدم الحضاري ؛ فالوعي يتقدم من خلال اختلاف المستويات أكثر بكثير مما لو ساد الحياة التشابه والتماثل . والتناقض بعد هذا وذاك أداة كبرى للتميز ؛ فمن غيره لا يشعر الأفراد ، كما لا تشعر الأمم بالخصائص والميزات الفارقة بينها .
أمة الإسلام هي آخر الأمم ، ورسالتها هي خاتمة الرسالات ؛ ولهذا فنحن ورثة تراث الهداية في البشرية ، وتاريخ البشرية هو تاريخ الرسل والرسالات والنبوة والأنبياء ؛ وهذا يلقي علينا مسؤولية خاصة نحو العالم ؛ إنها مسؤولية الدعوة والهداية والإصلاح والإنقاذ . وحتى نستطيع القيام بهذه المهمة على الوجه الصحيح فإننا بحاجة إلى العديد من الأمور والتي من أهمها :
1 - السعي المتواصل للمحافظة على الهوية التي تعني دائماً وضوح الميزات التي تميّز أمة الإسلام عن غيرها من الأمم على مستوى العقائد والأحكام والآداب ، وهذا سيكون قليل النفع إذا ظل وضوحه على مستوى الكلام ، وإنما يجب أن يتجسد في حياة أكبر شريحة ممكنة من المسلمين ، وهذا ما يؤمِّنه الالتزام الدقيق .
2 - ينبغي أن يهيمن على علاقاتنا بغير المسلمين الإحساس بواجب التبليغ ؛ فأمتنا صاحبة حاجة لدى الأمم الأخرى ، وهذه الحاجة تتمثل في حرصها على أن تصل دعوة الإسلام إذا أمكن إلى كل شخص في العالم ؛ فأهل عصرنا يعيشون أزمات صامتة خانقة ، والإسلام هو المنقذ الوحيد لهم من تلك الأزمات .
3 - التناقض بين الأمم كثيراً ما يفرض أشكالاً من العداء والصراع ، وهناك شواهد كثيرة قديمة ومعاصرة على أن الصراع حين يقوم كثيراً ما يكون قيامه على أسس من الخلاف العقدي أو العنصري أو التاريخي ... لكنه في الغالب يتحول بعد مدة إلى صراع من أجل المصالح ، ومن الضروري عند هذه النقطة أن يظل الصراع مرتبطاً بالتناقض العقدي ؛ لأن ذلك ينبه الخصم إلى أننا نصارع من أجل القيام بواجب ديني دعوي ، وليس من أجل تحقيق مصلحة مادية خاصة ؛ وحين يأخذ الصراع طابع تحقيق المصالح يفقد الكثير من مشروعيته ، ويفقد المساندة التي يحتاجها من عموم الأمة .
4 - في حالة التناقض تكون مقولات المتناقضين أقرب إلى الجلاء والوضوح ، وحين يبدأ الصراع كثيراً ما ينطمس التناقض المنهجي ، وتسود روح الثأر والانتقام ؛ ولذا كان من أدبيات الصراع المسلح لدى المسلمين أن يبدؤوا بدعوة الخصم إلى الإسلام أولاً إعلاناً منهم أنه قتال بسبب التناقض وما يستلزمه ، وليس من أجل مصلحة دنيوية ، وحين أوصى أبو بكر رضي الله عنه جيشه وصيته المشهورة بعدم قتل النساء والأطفال إلخ ... كان يهدف إلى ألاَّ تضيع ميزات جيش المسلمين وأخلاقياته وأهدافه الأصلية من الجهاد في خضم الصراع ومحاولات الغلب والظفر .
5 - الدعوة إلى الله تعالى هي الأساس وانتشارها هو الهدف . وحتى نتيح للناس سماعها ، فيجب أن نهيِّئ الأجواء الملائمة للتبليغ . وحين ينشب صراع فيجب أن يستهدف على المدى البعيد تحقيق تلك الأجواء ؛ ولذا فإن الصراع الشديد والطويل كثيراً ما يطمس معالم التناقض ، ويحرم الدعوة من الهدوء الذي تحتاجه ، وربما كان قبول النبي صلى الله عليه وسلم بشروط قريش المجحفة في صلح الحديبية من أجل تأمين الجو الهادئ الذي يتيح لقريش التعرف على الإسلام .
6 - يأخذ الصراع شكل الطفرة وشكل الانقلاب ، ويتسم القائمون عليه بالحدة وقصر النفس ، وتسيطر عليهم العاطفة ، أما التميز المنهجي والحضاري فيأخذ شكل العمل المتراكم ، ويتحلى أصحابه بروح الثورة والاستمرارية والعطاء على المدى البعيد ؛ ومن المهم ألا نفقد هذه الروح في حمأة الغضب .
7 - نقطة التفوق الكبرى لدى أمة الإسلام اليوم تتمثل في المنهج الرباني الذي تشرُف بحمله ؛ على حين أنها في الميادين الاقتصادية والتقنية العسكرية ضعيفة وعالة على الأمم الأخرى ؛ ولذا فإن من المهم أن نكثّف المجابهة في الساحة التي نملك عناصر القوة فيها ، وأن نكون على حذر ، من أن يجرنا الخصم إلى ساحة تفوُّقه ، فنفقد ميزاتنا ، وتضطرب أمورنا .
والله ولي التوفيق .
==============
معاشر الشباب!
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) مسلم.
هكذا خاطب رسول الله الشباب، ليحميهم من الشهوات المضلة..
وعناية رسول الله بالشباب لم تقتصر على تلك الكلمات، بل تعدت إلى كلمات أخر لا تحصى، بل امتدت إلى التربية المباشرة؛ فجل أصحاب رسول الله هم من الشباب الذين لم يبلغوا العشرين أو الثلاثين، يلازمونه في الحل والترحال، في الجهاد وفي الغزوات، يتلقون عنه، منهم: ابن عمر، وابن عباس، وأسامة بن زيد، وأنس بن مالك، ومعاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب وغيرهم.
إن الحديث عن الشباب اليوم ذو شجون، أو قل ذو حزن وألم، وذلك أنهم اليوم قد غرقوا في ثلاثة أخطاء، كل واحدة منها تحطم آمالهم، وتعرضهم للفتن والمحن والشقاء، ثم تطرحهم بعيدا عن طريق العظماء:
- الخطأ الأول: الإغراق في اللهو واللعب، وتضييع الأوقات فيما يضر ولا ينفع.(2/151)
فكثير من الشباب لم يبق لهم هم إلا قتل الوقت باللعب، بكافة أشكاله وصوره، صار الزمن عدوا لهم، ليس لهم غرض إلا في تبذيره وتبديده، تسأل أحدهم: فيشتكي الفراغ والملل. كل آماله أن يملك سيارة من نوع كذا، أو يسافر إلى بلاد كذا..!!.
هذه الظاهرة خطيرة، تدل على نسيان الشباب مهامهم الجسيمة الموكلة بهم؛ فهم عمود الأمة، وهم رجالها، الأمة كلها تقوم على سواعدهم، عزها في عز الشباب.. قوتها في قوة الشباب، فهم سر بقائها وهيبتها:
- فالشباب هو العنصر القوي النشط الفعال في كل أمة، وهو الذي يبذل بصدق وجد، وهو الذي يعمل لأجل العمل، اليوم يتعلم ويتفقه، وغدا يعلّم ويساهم في بناء الأمة.
- إذا وقع حرب فالشباب هم الحماة، يحمون الدين، والديار، والأعراض، والأموال.
- وإذا ضاقت الأرض بالرزق فالشباب هم السعاة.
فهم أصحاب البذل والتضحية في كل زمان ومكان، فالأمة الراشدة هي التي تعتني بهم، وتسخر كل إمكانياتها لإصلاحهم، لكن المصيبة تكمن فيما إذا لم تدرك الأمة ممثلة في: البيت، والمدرسة، والمسجد والإعلام.. إلخ، أهمية العناية السليمة بالشباب، فأهملت توجيههم وإصلاحهم، فحينئذ يصبح الشاب بلا هدف يعمل لأجله، ولا غاية سامية يسعى لها، فيقبل على اللهو واللعب، وتصبح غايته، فتتدنى همته، ويصير عالة على المجتمع، بل وبالا.
إن من وسائل إصلاح الشباب، وإيقاد الهمة في قلوبهم، وإبعادهم عن الإغراق في اللهو: تذكيرهم بسيرة أسلافهم من شباب الأمة..
- هل تعرف أخي الشاب معاذ بن جبل؟.
إنه صحابي شهد له رسول الله بالعلم وهو لم يبلغ العشرين، فقال: ( أعلمهم بالحلال والحرام معاذ) أحمد..
- وهل سمعت بخبر شباب الصحابة في الغزوات؟.
كانوا يقفون على رؤوس أصابعهم، حين كان يستعرض رسول الله الجيش، خشية أن يردهم لصغر سنهم.
- فهل بلغك خبر ابن عباس ؟.
بلغت همته مبلغا كبيرا، جعلته وهو في مثل سنك أو أصغر، يتوسد باب زيد بن ثابت في الظهيرة، تسفي الريح في وجهه التراب، ينتظر خروجه ليتعلم منه دينه، حتى صار بحرا وحبرا وترجمانا للقرآن.
إنك أخي الشاب، إذا أمضيت عمرك في اللهو واللعب فلن تجني إلا الشوك، ولن تنال إلا الكرب، وأدنى المآسي أن تعيش وتموت عديم الذكر، ليس لك أثر من خير أو بر..
فهلا رفعت همتك، وأنفت من عبث الصغار، وضننت بوقتك، الذي هو رأس مالك في هذه الدنيا؟.
لا أظنك تحب أن تكون مهملا، وضيع المنزلة والمكانة..!!.
إذاً فلتعلم أن ما تحبه وما ترجوه من الرفعة والمنزلة لن يصير إليك إلا بالتعب والجد، ويومذاك ستحمد سهرك الليالي، وجدك في تحصيل المعالي، كما أنك إذا ضيعت وقتك في اللهو، نالك تقلب الدهر، ولعبت بك الأيام، فضاع منك السؤدد، وصرت إلى مهانة، وحينذاك ستندم على لياليك الضائعة، حين لا ينفعك الندم، وستبكي على تفريطك في الأيام الخالية، فهل تحب أن تقف مثل هذا الموقف؟.
- الخطأ الثاني مما يقع فيه الشباب: التقليد.
كم نرى من شبابنا من لا هم له إلا تقليد الكفار، في: ملابسهم، وشعورهم، وحركاتهم، وكلامهم.
فلنسأل شبابنا سؤالا: لماذا هم لا يقلدونكم، لماذا لا يلبسون ملابسكم؟.
هل تعلمون الجواب؟.
الجواب: إنهم لا يأبهون لكم، والسبب أنتم، لما تهاونتم، وهانت أخلاقكم، وأظهرتم إعجابكم بهم، هنتم عليهم، ونقصتم في أعينهم، فاستنكفوا أن يقلدوكم في شيء.
أليس من الواجب أن تعتزوا بدينكم وأخلاقكم ؟!.
- أنتم خير أمة أخرجت للناس.. الله رضي لكم دينكم، ولم يرض لهم دينهم.
- أنتم في الجنة، وهم في النار.
فبالله عليكم كيف رضيتم لأنفسكم هذا الهوان، فصرتم تقلدونهم وكأنه لاحضارة لكم، ولا كرامة ولا دين قويم؟!.
كيف تقلدونهم، وأنتم الأعز ؟!، أليس من الأولى أن تكونوا لهم قدوة ؟.
- أنتم أصحاب النور والقرآن، إنهم ينتظرون منكم أن تمدوا إليهم أيديكم لتخرجوهم من الظلمات إلى النور، فالعجب أنكم صرتم ترجون منهم النور، وكأنكم ظمأى، لم تجدوا في دينكم ما يروي عطاشكم!!.
- أنتم هنا قد تأثرتم بأخلاقهم وعاداتهم، فكيف إذا سكنتم ديارهم وخالطتم شبابهم، ماذا ستصنعون..؟.
لقد نسي شبابنا مبدأ البراء من الكافرين، وأن مودة الكافرين محرمة.
- قال تعالى: { لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله}.
ألم تسمع أخي الشاب إلى قصة إبراهيم الخليل، الذي تمسك بمباديء دينه، ووقف وحده ضد قومه عزيزا قويا، إذ كانوا كفارا وكان مؤمنا، ومن عزته كسر أصنامهم، ولم يبال بسخطهم؟.
- قال تعالى:{ قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين * قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم }.
سماه فتى لتعلم:
- أن الفتى المؤمن يملك من قوة الإيمان ما يزلزل به أركان الكفرة والفاسقين.
- وأن عنده من العزة ما يكسر به أصنام المشركين.
فضعفك لا معنى له، وتقليدك لمن لا خلاق له، دليل على فقدانك الهوية، إضاعتك مباديء دينك القويم.
ألم تسمع إلى قصة أصحاب الكهف الذين هجروا دورهم وقصورهم، وتبرؤوا من قومهم لما رأوا عصيانهم لله ؟.
- قال تعالى: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا }.
- وقال : { نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا، هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا }.
وصفهم بأنهم فتية، ومن السنة قرآءة هذه السورة كل جمعة، لتذكر دوما قصة شباب زكت نفوسهم، وتعالت همتهم، وأنفوا أن يقلدوا أحدا في الكفر، ولو كانوا قومهم: فتتشبه بهم، وتتخذهم لك قدوة.
- الخطأ الثالث مما يقع فيه الشباب: الغزل وهوان الأعراض، وما يتبع ذلك من المنكرات.
إن طائفة من الشباب ماتت الغيرة في قلوبهم، فصاروا لا هم لهم إلا إفساد الأعراض، ولهؤلاء نقول:
- كيف رضيتم هذا لأنفسكم ؟!.
- كيف رضيتم هذا لأخواتكم المؤمنات ؟!.
- كيف رضيتم هذا لأمتكم ؟!.
ألا تعلمون أن هذا المنكر يكتب عليكم الشقاء ؟، خاصة أولئك المجاهرون، الذين يجتمعون على المنكر، والذين لا يتأثمون من ذنبهم، ولا يتحرجون من معصيتهم، وربما استحلوها.
ألا فليعلم كل شاب أن من استحل شيئا محرما في الدين معلوما تحريمه بالضرورة، كالزنا، فقد وقع في الكفر.
فرق بين الذي يعصي فيندم ويبكي ويعزم على عدم العودة، وبين الذي يعصي فيفرح بمعصيته ويصر عليها، فهذا يُخاف عليه من البوار والشقاء في الدنيا والآخرة، ففي الحديث:
- ( كل أمتى معافى إلا المجاهرين، وإن من الجهار أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه) متفق عليه..
فهذا الذي رضي لنفسه هذا الفعل الشنيع، ألا يخاف من عقوبة الله في الدنيا والآخرة، من: جلد، ورجم، ونار تحرق، وعذاب لا يخف ولا يرفع ؟!.
أيها الشاب الواقع في هذا الذنب العظيم، ألا تستحي من نظر الله إليك؟.
ألا تخشى أن ينزع الإيمان منك؟.
في الأثر: (من زنى، أو شرب الخمر، نزع الله منه الإيمان، كما يخلع الإنسان القميص من رأسه )، رواه الحاكم…
فإذا كان قلبك ميتا، فلم تخف عذاب الشرع، ولم تبال بنزع إيمانك، ولم تستح من نظر الجبار المنتقم، ولم تخف من عذاب جهنم، وكنت ممن طبع الله على قلبه فما عدت تفهم موعظة:
ويحك، ألا تخاف من عذاب الدنيا، وأمراضها ؟.(2/152)
أخي!، إن كنت تحب أن تكون تحت عرش الرحمن فأقلع عن العصيان، قال رسول الله: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله [وذكر منهم] وشاب نشأ في طاعة الله عزوجل )، متفق عليه
وفي بعض الآثار أن الله يقول: ( أيها الشاب المتبذل لي، الطائع، أنت عندي كبعض ملائكتي).
وفي أثر آخر أن الله يباهي ملائكته بالشاب الناشيء في طاعته.
ألا تحب أن تكون منهم،كيف وهذا حالك ؟!.
ثم كيف يرضى الشاب لأخواته المؤمنات مثل هذا الأمر الشنيع؟!.
المفترض في المسلم أن يكون حافظا لعرض أخته المسلمة، ينظر إليها نظر الأخ الشفيق، يحميها من كل سوء، فمن المؤلم أن يكون هو المعتدي عليها ظلما وعدوانا، بالتغرير والخداع !!.
وهنا تحذير صارم، قد علم بالتجربة والشرع أن من تعرض لأعراض الآخرين، تعرض الناس لعرضه، ومن زنى يزني به، فلو لم يكن من خطورة الزنا إلا أن الزاني يعرض ـ بفعله المشين ـ أهله: أخته، وزوجته، وأمه وابنته. للزنى لكان ذلك كاف في زجره وردعه.
فيا أخي! قبل أن تقدم على أمر كهذا، تذكر أن لك في البيت أخوات، فاتق الله فيهن ولا تعرضهن للبلايا والمحن. اليوم تعصي، وأنت تلهو وتضحك، وغدا عندما يكبر عقلك، ستبكي ندما، حينما ترى أولادك يفعلون ما كنت تفعله في شبابك.. هل نسيت أن الجزاء من جنس العمل؟..
فيا أخي الشاب! أذكرك الله أن تتقيه في نفسك وأهلك وأخواتك المسلمات، وألا تستعجل شهواتك فتحرم الجنة. -
- ألم تسمع بالحور العين في الجنة ؟.
- ألم يبلغك خبر الكواعب الأتراب، البيض المكنون، اللؤلؤ المكنون؟.
- ألم تتطلع على أوصافهن وسحر جمالهن؟.
إنهن لمن اتقى ربه، واجتنب الزنى..
إنهن طاهرات مطهرات، يرى مسخ سوقهن، لا يحضن ولا يهرمن، أبكارا، عربا أترابا، لأصحاب اليمين..
فكن من أصحاب اليمين، فهو مهرهن، ولا تكن من أصحاب الشمال، فتطرد عن بابهن.
إنك لم تسمع أصواتهن الجميلة: إن لهن أصواتا تسكر القلوب والعقول.
وإنك لم تر نصيف إحداهن، ولم تر أناملهن: إن الدنيا تضيء منها.
لا خبر لك عن نعومتهن، وعن تبعلهن، وعن رقتهن، وعن جمال قدهن، وخصرهن، وأعينهن.
لماذا تزهد في هذا النعيم المقيم؟.
بالله عليك كن عاقلا..
واعلم أن الحياة قصيرة..
وأن الدنيا ارتحلت مدبرة، وأن الآخرة ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
==============
رباط عنق أم اختناق هوية ؟
د / أريج بنت سعد العوفي
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبدالله الهادي الأمين
الحمدلله على نعمة الإسلام التي هدانا الله لها وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
الحمدلله أن جعلنا نوراً يمشي على الأرض بما نحمله من إيمان برب الأرباب وتسليم لله الواحد القهار.
الحمدلله أن منّ علينا بعلم قلوب مؤمنة تواجه أهل الكفر والضلال فما من فائدة علمية أو طبية إلا ونبحث عن أسرارها التي أعطانا الله إياها بفضله وكرمه وجوده .
إن المتأمل في علوم الطب القديمة سيجد أن للمسلمين صولات وجولات أشرقت لها الدنيا ووقف لها العرب والعجم احتراماً وتقديراً وتبجيلاً ، ويشاء الله عز وجل أن تنتقل دفة القيادة الطبية العالمية بشكل عام إلى أيدي العجم لفترة زمنية ليست بالقصيرة ولكن كان للوجود الإسلامي توقيعه الذي لا يجهله العارفون في عالم الطب ويوماً بعد يوم يكبر التواجد الإسلامي مثبتاً للعالم أجمع تميز الطبيب المسلم وإبداعه خلقاً وديناً وعلماً ...
وهانحن نقف الآن على مرحلة زمنية عجيبة ، حيث يواجه المسلمون عموماً معركة إثبات الحق والدفاع عنه وإيصال الرسالة الإسلامية الصحيحة والخالية من التزييف والخداع إلى العالم أجمع وخاصة إلى أؤلئك الذين يرفعون شعارات تتهم إسلامنا بالهمجية والتمسك بالبقاء في مؤخرة ركب التقدم الحضاري والعلمي والثقافي وكأنهم يتجاهلون أن الآية الأولى التي أنزلت على رسولنا الحبيب محمد صلى الله عليه هي ( إقرأ باسم ربك الذي خلق ) فكانت الدعوة الأولى للقراءة والعلم ...
وفي ظل حرص مجتمع الأطباء عموماً على الحفاظ على الصورة السليمة للطبيب المسلم الحق الذي يحرص على التواجد في المحافل الدولية والمحلية تواجداً متميزاً بالعلم والإبداع والاختراع ، تظهر علامة استفهام جلية للكثيرين حول مظهر هذا الطبيب وعلاقته بجوهره ومعدنه الأصيل.
وإننا إذ نتطرق لفئة الأطباء ( رجالاً ونساءاً ) التي تقيم في بلاد مسلمة تنتشر فيها بيوت الله قائمةً بشرع الله تعالى وفيها ما فيها من العادات والتقاليد العربية ، فنحمل لهم سؤالاً فحواه ( إلى متى سنحمل السمت الأجنبي الغربي في مظهرنا داخل طرقات القطاعات الصحية ؟ )
يؤلمنا بحق ان نرى طبيباً متميزاً بعلمه وخلقه ودينه يحرص كل يوم على ارتداء بنطاله وقميصه المزين بربطة عنق حديثة وهو يعيش في وسط مجتمعه المسلم العربي والخليجي تحديداً ، وسؤال يفرض نفسه لمَ هذا الإصرار الدائم على الابتعاد عن الزي المعتاد في هذه البلاد والذي لم يكن يرتدي غيره قبل أن يحمل لقب( الطبيب فلان) ...؟
ونحن هنا لا نتحدث عن حدود البنطال والقميص والتي وردت بعض الفتاوى بأنها صارت زياً معتاداً في بعض بلاد العرب فهي إذن لا تدخل ضمن التشبه بالكفار - إلا لو كان الشخص يهدف لتقليدهم - ، ولكننا نتساءل عن سر تمسك البعض برباط العنق الأجنبي ( ولن يكون الأمر سوى خارجاً عن المألوف المتوقع لكل طبيب عربي خليجي ) ؟!!؟ أهو إثبات حاجة لتواجد الروح الغربية في نطاق عملنا ؟ أم هو هروب من الشعور بالنقص دونها ؟ أم أننا لن نبدع ولن نطبق ما نعلمه إلا بها ؟ أم أنها عادة ألفناها -وهو الأرجح عندي - جيلاً بعد جيل ؟
ولعلك أيها الزميل الكريم تسمح لي بنقل فتوى مفيدة جداً في هذا النطاق ...
السؤال:
أود ان اسأل عن حكم ارتداء البدلة الرجالية وتحديدا تمسك بعض المسلمين برباط العنق مثلا في بلاد مسلمة وخاصة الخليجية حيث ان اللباس الرسمي هو الثوب والعمامة ، فهل من حرج في ارتداء البنطال والقميص فيها وهل من حرج في ارتداء رباط العنق الأجنبي ...؟
المفتى: فتاوى الشبكة بإشراف د. عبد الله الفقيه من موقع الفتوى بين يديك
الإجابة: ' بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فإن الأصل في اللباس أنه من الأمور المباحة حتى يرد دليل على التحريم، وذلك للقاعدة الشرعية العامة: الأصل في الأشياء الإباحة.
وقد ذكر أهل العلم ضوابط عامة للباس الرجال، من هذه الضوابط:
أولاً: ألا يكون فيه تشبه بالنساء، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل". رواه أبو داود بسند صحيح.
ثانياً: ألا يكون ضيقاً فيصف.
ثالثاً: ألا يكون خفيفاً فيشف.
رابعاً: ألا يشابه لبس الكفار، لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها". رواه مسلم.
خامساً: ألا يكون ثوب شهرة، ففي حديث ابن عمر في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس ثوب شهرة، ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله، ثم يلهب فيه النار".(2/153)
فإذا تحققت هذه الشروط في أي نوع من اللباس كان مباحاً، فالجاكيت الأصل فيه أنه مباح، والقول بتحريمه لمشابهة الكفار لا يمكن الجزم به، لأنه لا مانع من أن يكون -أصلاً- من زي المسلمين، فقد قيل إن أصلها من لبس الأتراك وهم مسلمون، فيكون من نوع الزي الذي يفعلونه هم أيضاً.
قال ابن تيمية -رحمه الله- وهو يتحدث عن ضوابط مشابهة الكفار: النوع الثاني: ما ليس في الأصل مأخوذاً عنهم، لكنهم يفعلونه أيضاً، فهذا ليس فيه محذور المشابهة، ولكن قد يفوت فيه منفعة المخالفة، فتتوقف كراهة ذلك وتحريمه على دليل شرعي وراء كونه من مشابهتهم، إذ ليس كوننا تشبهنا بهم أولى من كونهم تشبهوا بنا.
والله أعلم.
أما ربطة العنق:
"فأصل نشأتها بأوربا، ويقال إنها كانت في الأصل رمزاً لطاعة الزوج لزوجته، ثم أخذت في التهذيب إلى ما هي عليه الآن، وقد صارت عادة لدى كثير من المسلمين، وخرجت عن حد الخصوصية بالكفار وعن التشبه بهم إلا إذا لبسها المرء لا يلبسها إلا لأن الغرب يلبسونها فعندئذ يدخل هذا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن تشبه بقوم فهو منهم" رواه أحمد وأبو داود. على أن الأولى للمسلم تركها على كل حال.
ويحرم على المرأة لبسها، لما فيه من التشبه بالرجل، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة المتشبهة بالرجال، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال" رواه البخاري.
وقيل لعائشة إن امرأة تلبس النعل، فقالت: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء" رواه أبو داود، والمراد بالنعل في هذا الحديث : النعل التي تشبه نعل الرجال.
أما ضوابط ثوب الشهرة:
فقد جاء النهي عن لباس الشهرة في عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، والنسائي، ورجال إسناده ثقات كما قال الشوكاني في نيل الأوطار.
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله عنه حتى ينزعه، وإن كان عنده حبيباً ". قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: رواه ابن ماجه من حديث أبي ذر بإسناد جيد، دون قوله:" وإن كان عنده حبيباً" . وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة، ثم يلهب فيه النار " أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وحسنه السيوطي، والألباني. إلى غير ذلك من الأحاديث.
ومعنى الشهرة كما قال ابن الأثير: ظهور الشيء، والمراد أن ثوبه يشتهر به بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم، فيرفع الناس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعجب والتكبر. وقوله " ثوب مذلة " أي: ثوباً يوجب ذلته يوم القيامة.
إذاً: فالأحاديث تدل على تحريم لباس ثوب الشهرة، وليس هذا مختصاً بنفس الثياب بل قد يحصل ذلك كما قال الشوكاني لمن يلبس ثوباً يخالف ملبوس الناس من الفقراء، ليراه الناس، فيتعجبوا من لباسه ويعتقدوه. وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس، فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها والموافق لملبوس الناس والمخالف، لأن التحريم يدور مع الاشتهار، والمعتبر القصد، وإن لم يطابق الواقع.
وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يبتعد عن اللباس الذي يميزه عن غيره من الناس، لأن هذا التميز قد يؤدي به إلى العجب، والتكبر، والخيلاء.
والواجب على المسلم أيضاً أن يبحث عن اللباس الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان الرسول متواضعاً في ملبسه بعيداً عن الخيلاء، وقد قال: " كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ،في غير إسراف ولا مخيلة " أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه، والحاكم.. وصححه السيوطي. وقال:" البذاذة من الإيمان"، أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم،وصححه السيوطي.
ومعنى البذاذة : رثاثة الهيئة، أراد بذلك التواضع في اللباس وترك التبجح به.
وأما بالنسبة لسؤالك عن الألوان التي يحرم أو يكره على الرجال لبسها؟
فالأصل أنه يجوز للرجل لبس جميع الألوان إلا ما ورد النهي عنه، فإنه يحرم أو يكره بحسب الحال، فيجوز للرجل أن يلبس الأسود، والأخضر، والأصفر، والأزرق، وما نسج من قطن أو كتان وغير ذلك إلا الحرير، ويستحب لبس الأبيض من الثياب للحديث: " البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها أمواتكم " أخرجه أبو داود.
وأما الثوب المعصفر، ( المصبوغ بالعصفر ) فقد اختلف العلماء في حكم لبسه، فمنهم من قال بتحريمه، ومنهم من قال بكراهيته، ومنهم من قال بجوازه،
وقد جاء النهي عن لبس المعصفر في صحيح مسلم وغيره.
فعن عبد الله بن عمرو قال: رأى رسول الله عليَّ ثوبين معصفرين فقال:" إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها" . وعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي و المعصفر" قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: واختلف العلماء في الثياب المعصفرة وهي المصبوغة بالعصفر، فأباحها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، . وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة ومالك لكنه قال: غيرها أفضل منها، وفي رواية عنه أنه أجاز لبسها في البيوت وأفنية الدور، وكرهه في المحافل والأسواق، ونحوها.
وقال جماعة من العلماء: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهي على هذا، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، وقال الخطابي: النهي منصرف إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صبغ غزله ثم نسج فليس بداخل في النهي. وحمل بعض العلماء النهي هنا على المحرم بالحج أو العمرة، ليكون موافقاً لحديث ابن عمر رضي الله عنه: نهى المحرم أن يلبس ثوباً مسه ورس أو زعفران. … إلى آخر كلام النووي رحمه الله.
والحق أن العلماء قد اختلفوا أيضاً في لبس الثوب الأحمر اختلافاً كبيراً أوصله الحافظ ابن حجر إلى سبعة أقوال. والراجح والله أعلم جواز لبس الأحمر والمعصفر، ولكن الأولى تركه، وبالله التوفيق.
انتهى الجواب
وتبقى تساؤلاتي ورسالتي لكل طبيب مسلم غالي فهو ثروة لا تقدر بثمن :
ألم يحن الوقت بعد للدفاع عن هويتنا المسلمة مظهراً وجوهراً ؟
ألم يحن الوقت لإعادة السمت المسلم ديدناً في طرقات مستشفياتنا؟
ألم تحن اللحظة التي نغسل فيها ارتباطاً ظاهرياً بالغرب وعاداتهم ، لا يسمن ولايغني من جوع ، لكنه يحمل لمسة انهزامية في تقليدهم واتباعهم ؟
أهي حقاً معضلة أن تكون القمصان عارية من رباط عنق يخنق هويتنا ؟
أعلم يقيناً أن العمل الطبي بالزي التقليدي الخليجي قد يكون مرهقاً للبعض ( وإن كنت أرى كثيراً من الأساتذة الأفاضل ، والزملاء الكرام يرتدونه دون أية صعوبة ) ولكن هذا لا يعني ضرورة وجود هذا الرباط الذي يشعرني بالحنق والاختناق وسط زجاجة هشة اسمها ( سيطرة غربية ) ؟
حقيقة أرجو أن تفهم رسالتي البسيطة من خلال هذه الأسطر القليلة وهي الحرص على التمسك بسمْتنا الإسلامي خالياً من محاولات غربية لوأده.
وإني لأرجو من كل طبيب خليجي أن يراجع هذه المسألة في جدول اعماله، فعادة أُلفت لحين من الزمن ليس ضروريا أن نستمر فيها .(2/154)
قد يرى البعض ممن يقرأ سطوري هذه نوعاً من التزمت أو التشدد فماذا يعني رباط عنق يزيدني اناقة .؟ وهو ليس بتشدد بل والله يشهد دعوة للوقوف بحزم مع كل المحاولات الغربية لتمييع الهوية الإسلامية وأي أناقة نبحث عنها الان في ظل ما يواجهه الإسلام من الحملات النصرانية الشرسة ضده ؟
وأخيراً
أوفر الاحترام والتقدير لكل طبيب رفع راية دينه ووطنه خفاقة بشرف وإخلاص وتفاني وقلبه ينبض بحب العطاء والخير.
وللحديث شجون وشئون مع طبيبتنا المسلمة
اختكم
د / أريج بنت سعد العوفي
Dr_aowfi@hotmail.com
فتاوى ذات صلة ...
• ضوابط اللباس الشرعي للرجال
http://www.islam-online.net/completesearch/arabic/FatwaDisplay.asp?hFatwaID=74924
• ما الحكم في لبس ربطة العنق ؟. تجدها على الرابط أدناه
http://63.175.194.25/index.php?ln=ara&ds=qa&lv=browse&QR=1399&dgn=3
==============
إلى كل من هام بالبرتقالة ....
نبض الإخاء
أخي الفاضل ،،،، أختي العزيزة ،،،،
أبث إليكم كلماتي تلك ،، علها تأخذ بعقولكم ،، إلى شاطئ المصارحة مع أنفسكم ،، لتدركوا كم هو من المخجل جدًا أمرٌ كهذا ،،،
وقبل أن أبدأ حديثي معك ،، أخي ، أختي ، أطالبك أن ترفع ببصرك إلى أعلى ،،، نعم الله تعالى أعلى ،، ينظر إليك ،، يرى أحوالك،، ويبصر أفعالك ،، يسمع سرك وجهرك ،، ولا يخفى عليه شيء من صنعك،،
نعم ،، الله ،، الخالق ،، القاهر ،، العزيز ،، الجبار ،، الملك ،، مدبر شؤونك ، مصرف أمورك ،، يتحبب إليك بالنعم ـ وهو غني عنك ، يكلؤك ويسترك ، يطعمك ، ويكسوك ويسقيك ، وأنت هنا على أرضه ،، تتبغض إليه بمعاصيه ،، تجاهر بانتهاك حرماته ،، ولا تخجل ،،،
عجبًا والله ،
عجبًا ، يوم كنت أمامها جالس ، متكئ على أريكتك ، تصغي بطرب ، تنظر بنشوة ، قد همت بمخلوقة ضالة ، وأعجبت برجس ودناءة ، وإن انتحلتْ أسماءً طيبة ، أو عرفت جورًا بالبرتقالة ،، أو كانت ما كانت ،، لتهدم بغيها صروح الدين ،، و تعلي راية الخسة والجهالة ،،،
والأعجب من ذلك يوم أن كنت تتناقل مع رفقائك خبرها بمدح وثناء ،، تسابق الرياح في الترويج لها ، ولكأنك حزت على خير عميم تود نشره بين أمتك ،،
وما همك أن الله يطلع عليك ،،
وما تحرك فيك ذرة من خجل أن الله يبصرك ،،
بل ما دريت عن آلاف من أمتك تذبح ، وأعراض لبني قومك تنتهك ، وأراضٍ مسلمة تستباح ،،
فويح قومي ،، كم نجح الأعداء في جعل منا أمة ترقص على الجراح ،،
ويح قومي ،، كم تبلدت الأحاسيس ، وماتت همة الكفاح ،،،
ويح قومي ،، يوم أن تاه كثير منهم في الطرب غدوًا ورواح ،،
ويح قومي ،، يوم أن صموا الآذان عن نداءات النصح وصيحات الإيمان ،، لتذروها الرياح ،،،
ويح قومي ،،، يوم أن صاروا في سكرة لهوٍ بلا حياء من خالق الليل وفالق الإصباح ،،،
ويح قومي ،، يوم أن صار همهم لعب ومتعة ومراح ،،،
فهلا تفكرنا ،،، علنا نستيقظ قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه ندم ولا نواح ،،،
المصدر : قافلة الداعيات
http://www.gafelh.com/
قصيدة عن البرتقالة
ناصر السعيد
غركم مظهر جمال البرتقاله ....... ما عرفتوا وش حسبها من نسبها
لو بها حشمة وتخضع للعدالة..... كان بين الناس ما هزت كعبها
هافي أصله وعمه وآخواله ...... همها ترقص وتلهى في طربها
الجهالة من يناظر هالجهالة ...... ما يميز وش محرم من رجبها
واحسايف كيف يخدعكم جماله ...... والبضاعة كل شّرايٍ قلبها
البنات الحور في نجد الأصالة ...... الحيا والستر من ربي وهبها
الفخر بالدين ما هو بالخمالة ........ والنحاس نحاس يفرق عن ذهبها
شف بالي واحدٍ مبغا بداله ......... عرضها مصيون ما زولٍ سلبها
ما مشت عريا وداجت بالبقاله ........ العقل والدين هو غاية طلبها
والله اني كلما شفت الرذاله .......... كن جوفي يصهره حامي لهبها
حالة صرنا بها ما هيب حاله ........ العقايب لا تجينا من سببها
النمل لا طار ينذر في زواله ......... كم ديار منعمه ربي نكبها
مثل جنة عاد يوم الريح جاله ........ صب ربك فوقهم حامي غضبها
العرب غنت على يالال لاله ......... والقدس تبكي وتنخى في عربها
صارت إسرائيل تقتل بالعماله ......... الشجاع من العرب منهو شجبها
والعراق اليوم وضعه يّرثاله .......... سلط الله بوش دمرها و نهبها
يالله احفظ دارنا مهد الرساله ........... من أمور تشعل النار بحطبها
فلاش البرتقالة
الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به !!
سألني مرة محدثي : هل تعرف البرتقالة ؟
قلت : أعرفها ..
وأعرف أنها تنفع من ( الانفلونزا ) نظراً لوجود فيتامين ( سي ) ..
وهو فيتامين مهم لبناء الجسم والأنسجة ...
كاد محدثي أن يسقط من الخجل ( والضحك ) !!
فأيقنت أنه ربما قصد شبيهة البرتقالة !!
قلت له : يمكن تقصد الجريب فروت ... نعم هي شبيهة بالبرتقالة ...
وقبل أن أكمل ( وصفة الطبيب المتحذلق ) !!
قاطعني ...
برتقاااااااااااااااااالة هذي أغنية !!
قلت له برتقالة تغني ؟!
قال نعم !!
قلت أخبرنا حبيبي المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الذئب يتكلم !!
والبقرة تتكلم . . !!
لكن ما أخبرنا أن البرتقالة ستتكلم وتغني ( بعد ) !!
لملم نفسه في جديّة وتوثّب ..
قال لي : يا صديقي يا ( غافل لك الله ) !!
برتقالة هذي أغنية فيها من السفور والتبرج والعري ما يستحي الطفل أن ينظر إليه !!
قلت : وفي اي سوق تباع تلك البرتقالة ؟!
قال : في سوق الفضائيات الماجنة !!
قلت : ومن يشتريها ؟!
قال : قوم من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا ( محمد ، عبدالله ، مراد ، كامل ) !!
قلت : وضّح !!
قال : شيبان القوم تشببوا... وتندموا أن لم تكن في بيتهم برتقالة !!!
قلت : واعجبي ..
من قوم اعجبتهم القذارة ...
واشمأزوا من العفة والطهارة ..
برتقالة النخّاس
عندهم أحب من درّة الألماس !!!
تمنّوا أن لو كان لهم الغناء ..
فهم في الوزر سواء !!
" أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير " ؟!!
يا سائلي كفّ الحديث عن البرتقالة !!
إنما هذا فعل البطالة !!
وهمّ الحثالة !!
!!!
أبو أحمد ( مهذب )
منتدى ناصح
أينما أذهب أسمع حولي ... هل شاهدت البرتقالة؟؟
فالبرتقالة أضحت حديث مجالس الرجال والشباب.... في العمل أو في الاستراحة أو في المجالس العامة أو في المقاهي ..فقد أضحت ( البرتقالة) مدار اهتمام الكثيرين ومن أولويات أحاديثهم!!
فما سر الاهتمام بهذه ( البرتقالة) دون سواها من الفاكهة؟؟ وماسر هذه البرتقالة أصلا؟؟
قد يتبادر إلى أذهان البعض أنني اتحدث عن البرتقالة .. تلك البرتقالة المعروفة.. الفاكهة اللذيذة الغنية بفيتامين سي!!
لا والله !! إن حد يثي عن ( برتقالة) اخرى .. برتقالة قشروها بخسة ودناءة ووضاعة .. قشروها لينشروا العري والرذيلة !!
برتقالة جعلت المشاهد لها يزهد بزوجته .. ويتأسى على حاله.. ويرثي حظه العاثرلعدم حصوله على هذه البرتقالة!!
بعض من رأى تلك البرتقالة أخذ يتندر بزوجته ويقول : ( يالحظنا التعيس فنحن لم نتزوج من برتقال بل تزوجنا من باذنجان!!
وبعضهم أخذ يتندم لعدم وجود مثل هذه البرتقالة في بيته!!
وأحدهم قال بعد أن رأى تلك البرتقالة وقارنها بزوجته: ( والله إن برتقالهم أحلى من برتقالنا!!
فما قصة تلك البرتقالة؟؟ وماقصة الضجة الكبرى حولها؟؟
إن هذه البرتقالة ماهي إلا أغنية ساقطة تقوم على إثارة الغرائز بشكل علني دون حياء ودون رادع من دين ودون أخلاق !!(2/155)
ذاع صيت تلك البرتقالة وانتشر خبرها بين الرجال بصورة غير طبيعية.. وأعجب بها القاصي والداني .. فحرص كل من لم يراها على تكحيل عينيه برؤية هذا الإسفاف والرذيلة.. ورؤية تلك الراقصات العاهرات اللواتي سحرن عقول وقلوب شبابنا بل وشيابنا!!
لقد أعجبتهم البرتقالة.. أعجبتهم القذارة .. ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)
أعجبتهم تلك الكلمات الساقطة ذات المعاني الرخيصة والرقصات المصاحبة التي تثير الساكن حتى عند الصخر الجامد!!
أعجبتهم حقارة ودناءة ذلك المطرب العراقي.. الذي أشرك معه زوجته( سابقا) وابنته في هذا الفيديو الكليب .. وجعلهما تتمايلان برقصات خليعة ومنافية للحياء !!
أعجبتهم قصة تلك الأغنية.. حيث يحاول أحدهم إقناع احدى الفتيات التي تجلس عند والدها أن تشاركه الرقص وذلك بإغرائها للنزول معه لساحة الرقص .. كل هذا ووالدها جالس يشيش بجوارها..ثم ينجح باستمالتها وسحبها تدريجيا بعد أن أخذت الإذن من والدها (بتقشيرها) فقامت ( البرتقالة) وبدأت الرقص وانضمت لباقي الشلة بالرقص!!
وما يزيدني قهرا وغيظا وغضبا في هذه الأغنية .. أن تكون عراقية.. من رجل عراقي .. يرى المحنة التي تمر بها بلاده.. ويرى القتل والدمار من حوله.. وبدلا من أن يتجه لله بالصلاة والدعاء الصادق له بأن ينصر العراق وأهله.. نراه يتجه للشيطان بكل طواعية ورضا ويطرح تلك الأغنية!!
أي والله لقد عرف الغرب من أين تؤكل الكتف؟؟
ألم يقل أحد أقطاب المستعمرين : ( كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع فأغرقوه في حب المادة والشهوات).
إي والله إن هذه البرتقالة .. غزو فضائي .. وفجور قادم من الغرب .. هدفه سلخ الهوية الاسلامية!!
وياللأسف!! لقد تحقق ماأراده الأعداء منا .. تحقق على يد ابناء جلدتنا.. الذين يدينون بديننا ويتكلمون بلغتنا!
أبناء جلدتنا الغافلين المستهترين اللاهين عن المكائد والمؤامرات التي تحاك من حولهم!!
تلك المكائد التي صرفت الشباب عن الطاعة والدعوة إلى ملاعب الكرة والمراقص وأماكن اللهو.. والتي صرفت الفتاة للأزياء والحلي والعري والتبرج والسفور والخلاعة.
إن شبابنا وشاباتنا - إلا من عصم الله - يعيشون اليوم مع الفضائيات في محنة عصيبة.. ولكنهم لم يكرهوا عليها .. بل هم من رغبوا فيها وفتحوا بيوتهم لها وتشبثوا بأذيالها.!!
وماأشبه إنجذابهم لهذه الفضائيات بحال الفراش الذي يتساقط في النار لاعتقاده النفع في النار المحرقة.. ولكن الفرق أن هؤلاء الشباب والشابات ليسوا على غفلة بخطر تلك الفضائيات.. بل والله على علم ودراية.. ولكن أسكرتهم وأعمتهم الشهوة.. وجعلتهم يتسمرون أمام ماتتقيأ به هذه الفضائيات في وجوههم صباحا ومساء وهم يتابعون وكأنهم مسحورون...( فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
إن هذه - البرتقالة - ومثيلاتها ماهن إلا إشارت لسيل علا زبده وظهر أثره وعواقبه في سنوات قلائل..
إن هذه - البرتقالة - تمثل مرحلة تاريخية هامة في انحدار وانهيار حضارة العرب .. مرحلة ترقص فيها المرأة العربية على جراحات الأمة الاسلامية المنكوبة!!
فرحم الله من قال: الأم مدرسة إذا أعددتها ×××××أعددت شعبا طيب الأعراق
فأين أنت أيها الشاعر لترى هذه ( البرتقالة) اليوم .. وترى كيف سيتربى ابناؤها وكيف ستعدهم تلك الأم الراقصة!!
ماذا سيكون قولك حينهاعن شعب يرى محمد الدرة وإيمان حجو ويرقص!! عن شعب يعاني ويلات الحروب والمحن ويرقص!! عن شعب يرى المآسي الدامية كل يوم بل كل ساعة ويرقص!!
ولكن صدق الشاعر حينما قال:
إنما الأمم الأخلاق مابقيت×××××فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نعم ذهبت أخلاقهم .. من غير رجعة.. ذهبت حينما تجرأوا على الله وعصوا أمره.. وحينما استحكمت فيهم عبادة الهوى والشهوات.. ذهبت حينما إنقادوا للشيطان عليه لعائن الله تترى!!
ذهبت حينما رضوا أن يبيعوا جنة عرضها السموات والأرض بساعة لهو يرضون بها هواهم.. ساعة لهو تتمرغ فيها قلوبهم بوجل الأغاني الماجنة.
شبابنا ضاع بين الدش والقدم*********وهام شوقا فمال القلب للنغم
يقضي لياليه في لهو وفي سهر******** فلا يفيق ولايصحو ولم ينم
يقلب الطرف حتى كل من نظر********* إلى قناة تبث السم في الدسم
فقلد الغرب حتى فاقهم سفها ********* وضاق بالدين والاخلاق والقيم
ووالله لقد صدق ابن القيم - رحمه الله - حينما قال في أهل الغناء:
تلي الكتاب فأطرقوا خيفة*********** لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا******** والله مارقصوا لأجل الله
وختاما: أسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على الإيمان.. وأن يجعلنا هداة مهتدين .. وأن ينير قلوبنا بالإيمان والعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
===============
المؤسسات الخيرية الدعوية
(جمعية العون المباشر - لجنة مسلمي أفريقيا)
د. عبد الرحمن حمود السميط
مدخل
عندما بدأ العمل في بداية الثمانينات ، على شكل مشاريع محدودة جداً ببناء بعض المساجد في ملاوي،لم نكن ندرك ضخامة وخطورة الأوضاع التي تعاني منها المجتمعات المسلمة سواء كانت أغلبية أو أقلية، وبالذات ما يتعلق بهويتهم الدينية والحضارية .. كانت الأهداف محدودة بتقديم بعض المساعدات وبناء بعض المساجد وحفر بعض الآبار.
إلا أننا بدأنا ندرك بسرة، عندما بدأنا نجوب البلدان ونتوغل داخل القارة، أن المخاطر والتحديات هي على درجة كبيرة جداً من التعقيد والشراسة.
وتعلمنا في البدايات الأولى أنه من المستحيل التفكير في دعم وترسيخ الهوية الإسلامية للشعوب والمجتمعات المسلمة في أفريقيا، من دون العمل على تنمية تلك المجتمعات لأن معظمها كان يعيش في أسوأ دركات التخلف الاجتماعي والاقتصادي.. وبالتالي تغير مفهوم الدعوة من دلالات المصطلح التقليدي إلى فهم شمولي للنهوض بالمجتمعات المسلمة الأفريقية نهضة شاملة..
كما تعلمنا منذ البدايات أيضاً، أن الدعوة الإسلامية في إفريقيا ، بالمعنى الاصطلاحي هذه المرة، لا يمكنها أن تكون على نمط واحد ولا بطرق أخرى ولا بطريقة واحدة، بل اكتشفنا أن هناك تنوعاً هائلاً في الأوضاع، جعلنا نفرك بطرق أخرى للبحث عن أنماط أخرى في الدعوة، تستجيب لمتطلبات ذلك التنوع ، رغم أن المقاصد العامة للدعوة، بقيت هي لأنها غير قابلة للتغيير والتبديل، ألا وهي: إعلاء كلمة الله تعالى، ونشر وتطبيق التعاليم، وإنقاذ ما أمكن من الناس من الدخول إلى النار.
1- واقع التجربة: من الدعوة إلى التنمية ومن التنمية إلى الدعوة
لقد انتقل العمل من شرق القارة إلى غربها على المحيط الأطلسي في بضع سنين.. وبقدر ما كنا نكشف أوضاعاً مرعبة يعيشها المسلمون ( على سبيل المثال، لم يكن في جامعة ملاوي طالباً مسلماً واحداً رغم أن نسبتهم كانت حوالي 17% من مجموع السكان .. ) بقدر ما كنا ننغمس في مجالات جديدة في العمل لم نكن مخططين لها في الأصل، لأنه كان هناك إحساس طاغ في نفوسنا بأننا إذا لم ندعم المسلمين في مجالات معينة من التنمية الاجتماعي، فستكون عندئذ كمن يمارس نوعاً من النفاق، لأنه من غير المتصور أن نساهم في تذكير المسلمين بدينهم، ودعوة غير المسلمين إلى هذا الدين، بينما هم تضورون جوعاً، وتموت نسبة مرتفعة جداً من أطفالهم بسبب سوء التغذية، أو سبب نقص الأملاح في أجسامهم، أو بسبب الأمراض المنتشرة التي يمكن مكافحتها بسهول … الخ .
1- ا: مؤشرات مرعبة:(2/156)
إذا أخذنا " عينة " من البلدان الإفريقية المسلمة، كدول الساحل وتشمل كلا من تشاد، النيجر، بوركينافاسو، السنغال غامبيا وموريتانيا ( وهي بلدان أغلبية ساحقة من السملمين…) فإننا نستخلص الحقائق والمعلومات التالية:
1 -1 -1 : في الصحة:
إن متوسط الأعمار في هذه البلدان هو 43 سنة ( مقابل 74 سنة في البلدان الصناعية)، وفيات الأطفال : من 150 إلى 200 طفل من 1000 يموتون قبل بلوغ سنة ( مقابل 10 من 1000 في البلدان الصناعية).
طبيب واحد لكل 22000 نسمة في مالي، وطبيب واحد لكل 60000 نسمة في بوركينافاسو !!
2 - 1 - 1 : في التعليم:
في نفس تلك المرحلة التي بدأنا فيها العمل ، أي في بداية الثمانينات ، كانت مؤشرات التعليم في نفس تلك البلدان كما يلي: بلغت نسبة الأطفال الذي هم في سن الدراسة ( من 6 إلى 11 سنة) الذي يتابعون دراستهم في موريتانيا 24% في مالي 20% ، في النيجر 20% ، في السنغال 37% في تشاد 20% !.
3 -1 - 1: في الاقتصاد
المؤشرات التالية تغني عن البيان
الجدول في الملف المرفق
وفضلاً عن هذا المؤشرات المرعبة، تضاف الديون الخارجية التي تضاعفت بوتيرة خطيرة ما بين 1970و 1980 حيث بلغ إجمالي هذه الديون المذكورة كما يلي:
ـ 450 مليون دولار سنة 1970.
ـ 1040 مليون دولار سنة 1975.
ـ 3545 مليون دولار سنة 1980.
لقد كان لزاماًَ إذن أمام هذا الوضعية الخطيرة التي يعيشها المسلمون ( وغير المسلمين أيضاً ) أن تقترن الدعوة بالعمل التنموي من البداية ، وسرعان ما تبلورت فكرة المراكز متعددة التخصصات وهي مجموعة من المشاريع ( مدرسة ودار أيتام ومستوصف ومركز لتأهيل النساء ثم أضيف مراكز للكمبيوتر خلال النصف الثاني من التسعينات وكذلك مشاريع تنموية صغيرة مدرة للدخل ) تهدف إلى دعم البرنامج الدعوى العام طويل المدى الذي يستهدف منطقة معينة يتم اختيارها بناء على مقاييس سكانية واقتصادية ودينية معينة يتم تحديدها بناء على الخبرة الميدانية المتراكمة. وهكذا إذا انطلقنا من الدعوة إلى التنمية ، ثم نعود للننطلق من التنمية من التنمية إلى الدعوة في حركة جدلية متكاملة لا يمكن أن ينفك بعضها عن بعض ، لأن حاجات الإنسان متنوعة و ( كاد الفقر أن يكون كفراً).
غير أن الدعوة الإسلامية كما تبلورت منذ السنوات الأولى للعمل، لم تكن جامدة في قوالب واحدة، بل أجبرنا التنوع الهائل في أوضاع المسلمين وغير المسلمين إلى تنويع أساليب الدعوة بما يناسب كل وضع ، كثيراً ما نستخدم الوسائل المتعددة في المنطقة الواحدة.
2- الدعوة أنماط ووسائل
لقد تعلمنا من خلال مكابدة الظروف الصعبة ، وأحياناً الخطرة جداً ، أن أوضاع المسلمين تتباين كثيراً من منطقة إلى أخرى ، وأننا إذا لم نراع هذا التنوع، فسنجد أنفسنا معزولين عن الواقع أو أننا سنبذل جهوداً كبيرة، وإمكانات مادية وبشرية ومالية كبيرة هي الأخرى دنون أن نحصل على نتائج تذكر…
وبشكل عام، ينمكن أن صف أساليب الدعوة من وقاع تجربة عشرين سنة الماضية كما يلي:
1 -2:دعوة الجماعات قبل الأفراد
فبرامج الدعوة توجه إلى الجماعات وقبائل بأكملها وليس للأفراد., طبقاً للمخططاتنا على مدى عشر أو عشرين سنة ضمن برامج فرعية متكاملة وممتدة في المكان والمزمان ، حيث تتطور المشاريع والخدمات ( في التعليم والمياه والصحة والطفولة وتأهيل النساء والتدريب المهني والحرفي ولإغاثة ) مع البرامج الدعوية ويلازم أحدها الآخر.
* برنامج شمال موزمبيق:
لقد اكتشفنا أن بلاد الواق واق ليست خيالاً شعبياً بل هي منطقة تقع شمال موزمبيق.
وقد سجل المستكشفون البرتغاليون هذا الاسم على خرائطهم منذ القرن السادس عشر… وبعيداً عن الطرائف ، وعودة إلى الواقع المؤلم للمسلمين في هذا البلد الذي دخله الإسلام منذ قرون عدة كامتداد كبيعي لانتشار الإسلام على امتداد السواحل الشرقية حتى وصل وانتشر في عموم شمال موزمبيق التي تقع في أقصى الجنوب الشرق من القارة ، فإن موزمبيق تصنف حسب معايير الأمم المتحدة واحدة من أفقر بلدان العالم، واشفنا منذ أواسط الثمانينات عندما ذهبنا تتعرف على هذا البلد، أن أفقر المناطق في موزمبيق هي مناطق المسلمين في الشمال!
وعلى هذا الأساس، تم أعداد خطة بعيدة المدى منذ سنة 1987محيث تم بناء وتسيير عدة مراكز في بمبا وناكالا على المحيط الهندي في أقصى الشمال الشرقي، ثم في نامبولا في وسط الشمال ثم في لاشينغا في أقصى الشمال الغربي قريباً من بحيرة ملاوي ..هذا البرنامج شمل بناء العديد من المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية ومستوصفات ودور أيتام وتم حفر مئات الآبار.
وكل هذا المشاريع تتم إدارتها مباشرة من طرف " العون المباشر ـ لجنة مسلمي إفريقيا " فضلاً عن برامج موسمية للأضاحي والإفطارات سنوياص وبرامج إغاثة مكثفة.
وبالنسبة للبرامج الدعوية فهي تشتمل سنوياً على برامج فرعية لتأهيل الدعاة والأئمة، ومخيمات للشباب ودورات للنساء، فضلاً عن دعم مستمر لخلاوي القرآنية في كشل مكافآت لتشجيع القائمين عليها للاستمرار في خدمة كتاب الله تعالى وتحفيظه لأبناء المسلمين.
وعلى هذا النمط تعمل البرامج الموجهة للمجموعات في كل البلدان الإفريقية التي تعمل فيها اللجنة. ونستطيع أن نذكر من بين هذه البرامج:
* كينيا:
البرنامج الموجه لأسلمة قبائل والرنديلي والبورانا في شمال كينيا وهي قبائل ذا أصول مسلمة وانقرض منها الإسلام إلا من بعض الرموز .
• البرامج الموجه لأسلمة قبائل الغرياما جنوب شرق كينيا.
• البرنامج الموجه للبوكومو والبورانا في وسط شرق كينيا.
• البرنامج الخاص بدعم المسلمين من أصول صومالية وشرق وشمال شرق كينيا.
* مدغشقر:
البرنامج الموجه لأسلمة الأنتيمور في الجنوب الشرقي والسكالافا في الشمال الغربي، وكلها قبائل ذات أصول إسلامية اندثر منها الإسلام إلا من بقايا بعض الرموز وشرع في تنفيذ هذا البرنامج منذ سنة 1994م ولا يزال مستمراً.
* أثيوبيا:
البرنامج الموجه لأسلمة قبائل البورانا جنوبي إثيوبيا، وهم بفطرتها عاداتهم أقرب للسلام منهم للمسيحية التي لم تنجح كثيراً في صفوفهم. وشرع في هذا البرنامج منذ سنة 1997، ولا يزال مستمراً.
* السودان:
البرنامج الموجه لقبائل بهدف المساهمة في تنمية مناطقها، والمساعدة على إحلال الأمن والاستقرار فيها.
البرنامج الموجه لقبائل الدينكا في جنوب كردفان لنفس الأهداف وبدأت هذه البرامج منذ أواسط الثمانينات ولا تزال مستمرة.
* تشاد :
البرنامج الموجه للقبائل الوثنية ( والمسيحية جزئياً) في جنوب تشاد الذي عرف ولا يزال محاولات انفصالية وحركات تمرد وذلك بهدف المساهمة في تنمية الجنوب وإحلال الاستقرار والأمن ، وبدأ هذا البرنامج سنة 1994 ولا يزال مستمراً.
* السنغال :
البرنامج الموجه لقبائل الدبولا في جنوب البلد التي رغم انتشار الإسلام فيها إلا أن البلد عانى من حركة انفصالية مسلحة تعمل منذ 22 سنة ، والهدف من البرنامج يمثل نفس الأهداف في برامج السودان وتشاد.
* غينيا:
البرنامج الموجه للقبائل (الفولانية) في منطقة فوتا جالو في المناطق الشمالية من غينيا ، هي قبائل عريقة في الإسلام ، ولها تاريخ مشهود في الدعوة والجهاد ضد الاستعماريين الفرنسي والبريطاني، أصبحت موضوع تركيز قوي من طرق المشروع التنصيري، وتوجد معلومات مؤكدة عن نجاح المنصرين في تنصير عدد كبير من الشباب المسلم الفولاني من الجنسين. وهذا البرنامج يعمل منذ بداية التسعينات ولا يزال مستمراً.(2/157)
* غانا، توغو، بنين:
يوجد برنامج واسع في المناطق الشمالية من هذه البلدان الثلاثة حيث يتركز المسلمون ، مقابل تركز المسيحيين ، ومعهم السلطة والثروة (رغم أن عدد المسلمين أكبر منهم !) بينما تعاني مناطق المسلمين في هذه البلدان الثلاثة من التهميش الاقتصادي والاجتماعي حيث تتركز الخدمات ومراكز الإنتاج الصناعي والزراعي في الجنوب _ وشرع في هذا البرامج منذ بداية التسعينات ولا يزال مستمراً إلى الآن.
كانت هذه مجرد نماذج من البرامج الدعوية الشاملة لبرامج التنمية الموجهة لأقوام وقبائل ومناطق محددة ولأهداف محددة. لقد علمتنا التجارب أن نركز الجهد ونستخدم الإمكانيات المتاحة بعقلانية وأن تشتيت الجنود والأموال دون استراتيجية واضحة لتحقيق أهداف واضحة هو ضرب الإهدار الذي سنحاسب عليه يوم يقوم الأشهاد دون شك.
2 – 2 دعاة المستقبل
لقد ترسخت لدى العون المباشر " قناعة راسخة، منذ سنوات عديدة، وأن مستقبل المسلمين في إفريقيا لن تنبيه " المساعدات " التي تقدمها بعض الدول الغنية ، التي تأخذ بالشمال أضعافاً مضاعفة ما تقدمه باليمين.. وإنما سيبنيه أبناؤها بأنفسهم.
والناظر إلى الأحوال الدينية للمجتمعات المسلمة في إفريقيا سيصاب بقدر متواز من الشعور بالرضا والآسى معا: فالمسلمون الأفارقة معروفون بحبهم العارم للإسلام، ولكنهم في نفس الوقت ورثوا أنواعاً من التدين الذي قد ينفع أصحابه كأفراد، ولكنه لا يؤهلهم لبناء مجتمعاتهم في المستقبل على أسس الإسلام الصحيح، أما أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية فقد سبقت الإشارة إلى بعض مؤشراتها المؤلمة.
انطلاقاً من هذه الوضعية " العون المباشر " تصورات بعيدة المدى لإعداد " دعاة المستقبل "، ثم أعقبت هذا التصورات تطبيقات عملية لتنفيذ استراتيجية خاصة لهؤلاء الدعاة المستقبليين.
والفكرة في جوهرها بسيطة لكنها في التطبيق تطلبت جهوداً وإمكانيات كبيرة، فهي تقوم على أساس اختيار أيتام وأطفال من القبائل المختلفة، ثم إيوائهم في مراكز " العون المباشر" والدراسة في مدارسها والاستفادة من الخدمات التي تقدمها المراكز ( غذائية وصحية وتربوية إسلامية وغيرها من الخدمات ) على أساس إعداد هؤلاء الأيتام والأطفال من الصغر تعليمياً ودينياً واجتماعياً ، مع إشراكهم في مرحلة معينة في البرامج الدعوية ومشاركتهم الفعلية في القوافل الدعوية والتنقل ( أحياناً على الأرجل ) تدريباً لهم وإعداداً لتحمل أعباء الدعوة، للمساهمة في قيادة مجتمعاتهم مستقبلاً بعون الله ، ثم بإعداد المتميزين منهم لمراحل التعليم المختلفة ،وبفضل من الله ونعمة، يتم تطبيق هذا الاستراتيجية في 32 بلد إفريقياً.
3 –2 : الدعوة بالكتاب المترجم
أدركنا من البدايات الأولى للعمل كذلك أن هناك فراغاً مخيفاً فيما يتعلق بالكتاب الإسلامي، في الساحة الإفريقية، وأدركنا كذلك أن دور الكتاب في الدعوة جوهري لنشر وترسيخ الثقافة الإسلامية.
وكان لزاماً علينا كذلك التركيز على ترجمة الكتب الإسلامية إلى لغات الجماعات والقبائل ، فضلاً عن اللغات الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية وهي اللغات الرسمية في كل البلدان الإفريقية تقريباً.
وعرف هذا النشاط من الدعوة مرحليتين رئيستين:
المرحلة الأولى : استغرقت السنوات العشر الأولى ( أي طوال الثمانينات ) كان التركيز فيها على ترجمة ونشر كتب صغيرة الحجم تدور كلها تقريباً حول التعرف بأساسيات الدين في العقيدة وفقه الصلاة والصوم وبعض الموضوعات الأخرى ذات العلاقة .
أما المرحلة الثانية ( عقد التسعينات ): فقد توسعت فيها مجالات الترجمة والنشر لتشمل طائفة متنوعة من الموضوعات المتعلقة بسيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وسير الصحابة والصحابيات وبقضايا ثقافية وفكرية إسلامية معاصرة منها: الحوار مع المسيحية ، وقضايا المرأة في الإسلام على سبيل المثال.
ولأخذ فكرة عن حجم العمل المبذول في هذا المجال نسوق الإحصائيات التالية، وهي تتعلق بسنة 2001 ويمكن القياس عليها بالنسبة للسنوات العشر الماضية.
الجدول في الملف الرفق
3- كيف تبلورت إستراتيجيات الدعوة ؟
لم يكن بالإمكان التخطيط لأي شئ دون معرفة الواقع الإفريقي في تفاصيله وتلاوينه المختلفة وذلك بالزيارات الميدانية والإطلاع المباشر على أوضاع وأحوال المجتمعات الإفريقية عامة والإسلامية منها خاصة سواء في العوالم الحضرية، أو العوالم القروية مهما كانت نائية وصعبة للوصول إليها .
وبعد سنوات من الإطلاع والاستكشاف ، اتضحت إلى حد كبير الصورة العامة لأوضاع تلك المجتمعات ، وكانت هذه المرحلة هي الخطوة الأولى الضرورية لبلورة استراتيجيات على أساس الاعتبارات الجوهرية التالية:
1-3 النسبة العددية للسكان المسلمين
• هناك بلدان كانت غالبية مسلمة ( 90% من إجمالي السكان فما فوق ) ولها تاريخ إسلامي عريق في الدعوة والجهاد ونشر الثقافة العربية والإسلامية، وهذه لها أوضاعها الخاصة التي أخذت في الاعتبارات وبالتالي كانت الأهداف التي تم التركيز عليها دعم وتقوية عناصر القوة في الحياة الدينية للمسلمين في هذه البلدان ببرامج مناسبة ومتنوعة.
• وهناك بلدان ذات أقليات مسلمة ( تتراوح بشكل عام بين 40% مثلاً و 1% أو أقل) ، وهذه الأقليات المسلمة لها أوضاعها الخاصة، وبالتالي فإن الأهداف الخاصة بها تشترك مع سابقتها وتزيد عليها بنوع من التركيز على برامج خاصة لا سيما الاهتمام بتوفير فرص التعليم الجامعي والعالي في بلدانها أو خارجها.
• ثم هناك المجتمعات الإفريقية التي لا تزال على دياناتها التقليدية ( الأرواحية والوثنية ) أو لمن انتشرت فيها المسيحية ، واستراتيجية الدعوة في هذا الحالة تركز على الدعوة لاعتناق الإسلام ببرامج وأساليب أخرى، تدخل فيها المشاريع ودور الكتب والدعوة الميدانية والإغاثة.. الخ.
2- 3 : اكتشاف " المناطق الهشة "
والمقصود وجود مناطق وبلدان معينة تخضع لتنفيذ استراتيجيات خارجية بالأساس تهدف إلى تفتيت المناطق القوية للمسلمين وإضعافها لصالح المشروع التنصيري أو لصالح النفوذ الأجنبي لهذه القوة الاستعمارية السابقة أو تلك أو لصالحهما معاً.
وعادة ما تستغل التمايزات القبلية والدينية لإيجاد مسوغات لتنفيذ تلك الاستراتيجيات ، ونستطيع أن نضرب مثلاً رئيسياً بما يعرف بـ " خط النار " وهو خط من الفتن الداخلية ذات الخلفيات الخارجية الممتدة من السنغال إلى السودان مروراً بمالي والنيجر وتشاد .
ومن " المناطق الهشة " كذلك، الأوضاع في منطقة القرن الإفريقي بكل تداعياته على البلدان الواقعة في المنطقة ، ولكن بالأساس على حساب المسلمين في هذه المناطق…
هذه الأوضاع التي تعمل على إضعاف شوكة المسلمين فيها، وإن كانت القناعة الحاصلة الآن لدى " العون المباشر " أن التنمية الشاملة والتعاون الإقليمي هما المخرج الوحيد من مخاطر الصراعات الإقليمية وشراك الفتن التي يؤججها خصوم إفريقيا والإسلام، وفي تقديرنا فإن المنظمات الإسلامية غير الحكومية تستطيع أن تقوم بدور جيد في هذا المجال ، إن هي اتجهت للتنسيق والتعاون فيما بينها وهذا أمر نعتقد أنه واجب شرعي.
4- المعوقات(2/158)
يجب أن نتذكر دائماً، ونحن نتحدث أو نعمل إفريقياً ، أن الأمر يتعلق بـ " قارة " وليس ببلد ولا بمجموعة بلدان … هذا واحدة ، أما الحقيقة ا لثانية ، فهي أن الصعوبات والمشكلات هي على درجة كبيرة من التعقيد والتنوع ، ثقافية واجتماعية وأمنية واقتصادية ودينية وسياسية… وكل ما يتصور من أنواع الصعوبات والمشكلات! وبالتالي لا يحسبن المرء أنه كيفي للعمل الدعوي في إفريقيا أن تنفذ بعض الأنشطة بحماس وفاعلية ، بل لابد من التعامل مع الواقع بكل معطياته على بصيرة.
ونستطيع أن نحدد أهم المعوقات التي تعترض سبيل الدعوة الإسلامية في إفريقيا كما يلي:
1- 4 : أولوية الولاء القبلي على الولاء الديني
حيث لا تزال العصبية القبلية متجذرة وتتجاوز حدود الشعور الطبيعي بالانتماء القومي كشعور فطري .. وقد سبقت الإشارة إلى استغلال بعض القوى لعامل التنوع القبلي لتأجيج الصراعات بين المسلمين ( وبين غير المسلمين كذلك ) ..ولهذا تعلمنا أن نختار الدعاة من نفس القبائل والمناطق التي ينتمون إليها .. وهذه قاعدة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدع فيهان والأصل في ذلك قول الله تعالى ( ولكل قوم هاد ).
2 –4: سطوة التخلف الاقتصادي والاجتماعي
لقد سبقت الإشارة إلى مؤشرات التخلف المخيفة التي تعاني منها البلدان الإفريقية بشكل عام والمسلمين منهم بشكل خاص، وهذا العامل بالضبط هو الذي فرض على " العون المباشر " أن تتوسع في مجال تداخلاتها كوضع استثنائي، لأن الأصل في عمل المنظمات غير الحكومية هو التخصص .. فحيثما ترحك الدعاة للعمل ، واجهتهم حالات الفقر والحاجة لأبسط الضروريات .. ودائماً نضطر لتعديل البرمجة الزمنية لبرامج تأهيل المهتدين الجدد مثلاً حتى لا تتعارض مع مواسم الزراعة والحصاد حيث لا يمكنهم البتة التفرغ في أي وقت لتعلم دينهم.. وهذا على سبيل المثال لا غير.
3-4 : أثر التدين الورث
لا تزال الغالبية العظمى من المسلمين الأفارقة يعيشون حياتهم الدينية حسب نفس أنماط التدين القديمة: شيوع الطرقية، والتمسك بالممارسات المخالفة للتدين الصحيح المسنون … وعلى الرغم من أن هذه الطرق الصوفية كان لها دور هام جداً في نشر الإسلام والذود عن حياضة منذ قرون ، إلا أن ثبات غالبية المسلمين على هذا النمط من التدين جعل مهمة تجديد الدين في النفوس أمراً صعباً إلى حد ما .. وعموماً توجد حركة تجديد للدين في المجتمعات الإفريقية المسلمة ، لكن بعضها دخل في صدامات أدت وتؤدي إلى أنواع من الفتن بين المسلمين قد تصل إلى حد الاقتتال ( مثل ما حدث في شمال غانا من بضع سنوات ) بسبب التشدد والبعد عن الحكمة ، بينما نجح البعض الآخر في المضي قدماً في عملية تجديد التدين في النفوس والسلوك والمجتمع بقدر طيب من النجاح.
لهذا تحرص " العون المباشر " على استمالة كل فئات المسلمين والمساهمة فيتوجه الجميع نحو إعادة بناء المجتمعات الإسلامية بطريقة إيجابية بعيداً عن الصدام والتناحر.
5- 4 ضرواة المشروع التنصيري
لعل البعض يذكر مؤتمر كولورادو المنعقد سنة 1978 الذي جمع، ولأول مرة كل الكنائس مبللها المختلفة ، لهدف أساسي واحد هو تنصير أفريقيا في نهاية القرن العشرينن ورُصد لذلك حوالي 40 مليار دولار.
لقد سبق ل " العون المباشر ـ لجنة مسلمي إفريقيا " أن أصدرت عدة نشرت تسلط الضوء على المشروع التنصيري الهائل، من حيث أهدافه ومناهجه ووسائله وإمكانياته ومنظماته .. وبشكل عام، وعلى الرغم من فشل المؤتمر المذكور في تحقيق هدفه الرئيسي، بل هو أبعد من تحقيقه في أي وقت مضى ، إلا أنه نجح في كسب مواقع في قلب المجتمعات الإسلامية للأسف، ومعظم المسلمين الآن هم عن غافلون.
6-4: المشروع الفرنكفوني
نادراً ما يهتم الباحثون بتسليط الضوء على المشروع الفرنكفوني ومخاطرة الجمة التي قد لا تقل تأثيراً عن المشروع التنصيري.. وهذا المشروع ترعاه فرنسا وكندا وسويسرا بصفتها البلدان التي أنتجت الثقافة والفكر الفرنكوفوني .. وترى أدبيات المشروع أن اللغة والثقافة الفرنسيتين يجب أن تسودا البلدان المستعمرة سابقاً. واللغة هي وعاء الفكر والثقافة، والحقيقة أنه لا خير في تعلم اللغات الأجنبية ، وإن أصبح واجباً وشروطاً ضرورياً من شروط النهضة. إلا أن المشروع الفرنكوفوني محل الثقافة العربية والإسلامية التي تسود ثلاثة أرباع القارة الإفريقية، بمحتوى فكري وثقافي وحضاري مناقض، في كثير من أسسه ومبادئه واتجاهاته للدين الإسلامي ولروح الحضارة الإسلامية.
وتكمن الخطورة الفائقة لهذا المشروع في كونه يعمل من خلال النظم التعليمية ( كل البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى أسست نظمها حسب الإستراتيجية الخاصة للمشروع الفرنكوفوني ) ويمتد كذلك بتأثيراته إلى كافة المجالات المؤثرة والحساسية بالنسبة لأي بلد أو أيه أمه ،مثل الإعلام والفنون والآداب والقضاء والجيش.. الخ.
تبقى الإشارة إلى أن المشروع الفرنكوفوني يعتبر معنياً مباشرة بوضعية الدين الإسلامي في البلدان الإفريقيةن وكثيراً ما تتبنى رموزه المحلية مواجهات وانتقادات حادة للدين الإسلامي نفسه ، بطرق مباشرة وغير مباشرة ، وتوضع برامج استراتيجية في المجالات المشار إليها أعلاه وهي ذات مضامين مناهضة ومناقضة لقيم الدين الإسلامي في كثير من الأحيان.
7 – 4 نشاطات الملل المنحرفة
وهي ملل ونحل معروفة ولها تاريخ من العمل في إفريقيا وغيرها ، وتتحرك بإمكانات ضخمة ، وللأسف بجحت في إحداث بعض التأثيرات في بعض المناطق بسبب عدم معرفة عامة المسلمين بخلفيات هذه الملل والنحل . وعلى الرغم من ذلك ، إلا أن هناك وعياً متزايداً بمخاطرها على إيمان ووحدة المسلمين حيث بدأنا نرى حالات ( كان للعون المباشر دور مقدر فيها) تطرد مثل هذه الملل من بعض البلدان مثل ما حدث في غامبيا وبيساو وخلال السنتين الماضيتين.
كملة أخيرة
إن مستقبل الدعوى الإسلامية في إفريقيا، لمن يعرف واقع القارة، يقع بين أمل ورجاء وخوف وشجاعة.
فأما الرجاء فيتمثل في نقاط القوة الموجودة: اعتزاز الأفارقة بدينهم وصفاء فطرتهم ورسوخ الثقافة العربية والإسلامية والإقبال المنقطع النظير على تعليم الدين واللغة العربية لدى جميع الشرائح الاجتماعية، وقيام الدعاة والمشايخ الأفارقة بدور بارز ونشط لتثبيت الإسلام في نفوس المسلمين وكسب غير المسلمين للإسلام..
أما الخوف فمصدره الخطورة البالغة لعوامل الفقر والتخلف الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بكل ما تحمله هذه العوامل من آثار مدمرة على كرامات الناس وإهدار مستقبل أجيال كاملة من أبناء المسلمين وغيرهم، فضلاً عن مخاطر عمل الخصوم كما تمت الإشارة إليه آنفاً.
ومن هنا بالذات تأتي مسؤولية المنظمات والمؤسسات الإسلامية، ووجوب توجهها للعمل على قلب رجل واحد لتتحمل مسؤولياتها أمام الله، ثم اتجاه إخوانهم في هذا القارة التي حمت الرعيل الأول من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحماية التي ستبقى ديناً في رقاب العرب والمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد قدمنا مقترحات في هذا الشأن ضمن الورقة الخاصة بالتنسيق بين المؤسسات الإسلامية والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وهو المستعان على ما يصفون .
الدعوة إلى الله
مفاهيم أساسية
الدعوة ـ في عمل لجنة مسلمي إفريقيا ـ هي مناط المشاريع والأنشطة التي تقوم بها في القارة الإفريقية .(2/159)
ونظراً للانحرافات التي لحقت بالحياة الدينية للعديد من القبائل بسبب انقطاع علاقاتهم بحركة الإسلام لمدة طويلة، أو بسبب المخاطر التي تهدد مجتمعات إسلامية أخرى في معظم أنحاء القارة نتيجة الجهود المتواصلة التي يبذلها أهل الملل والأديان الأخرى، المستهدفة لعقائد المسلمين بالتحويل والتبديل .. أصبح بذل الجهد الواعي للمساهمة في نهضة المسلمين الأفارقة واجباً شرعياً علينا.
وهذا الوضعية التي تتسم بمخاطر جمعة مع احتمالات فقدان مهمة من الخريطة الإسلامية في هذه القارة ـ لا سيما وأن أهل الملل والأديان الأخرى يتحركون بإمكانيات مالية وبشرية وفنية كبيرة جداً ـ تجعل من هم الدعوة إلى الله تعالى لدى اللجنة ، الهم الأكبر…
والدعوة التي يقصد بها تبليغ كلمة الله وهدى نبيه صلى الله عليه وسلم ، لابد لها من ركنين آخرين وهما:
* الداعية * المدعو
فما هو موقع الداعية في عمل لجنة مسلمي إفريقيا ؟
1- الداعية
يقول الله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) . ويقول جل ذكره: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ).
لا بد من إعطاء عناية كبيرة لإعداد الدعاة فقيهاً وسلوكياً وروحياً وفكرياً ، ولابد أن يأخذ هذا الجانب عناية فائقة من طرف مسؤولي المكاتب ومسؤولي الدعوة فيها.
1-1: اختيار الدعاة
إذا أرت عملاً دعوياً فعليك الاهتمام بما يضمن توفير الدعاة الجيدين.
الاختيار قبل الإعداد:
يجب أن تحظى عملية اختيار الدعاة بعناية كبيرة ، ليس على أساس الشهادات والمؤهلات الدراسية أو التزكيات فحسب، بل يجب التفكير في الإجابة على الأسئلة التالية:
كيف نستطيع رصد الدعاة النشطين أصلاً في بلدانهم ومجتمعاتهم قبائلهم ؟
وكيف نحدد فهم مدى توفير شروط الداعية الناجح في هؤلاء الدعاة النشطين قبل تشريح دعاة دائمين للعمل مع اللجنة ؟
كيف نربط معهم علاقات تعاون وعمل مشترك لمدة كافية على أساس التطوع في البرامج الدعوية التي تنظمها مكتب اللجنة وأيضاً كوسيلة اختبار لمدى صلاحية هؤلاء الدعاة النشطين قبل التفكير في ترشيحهم للعمل مع اللجنة ؟
2- 1: التأهيل والتدريب
الأئمة والدعاة والمثقفون والنساء والشباب المتدينون النشطون في مجالات الدعوة، توضع لهم برامج للتأهيل والتدريب.
• التأهيل : ويكون في مجالات العقيدة والفقه والسيرة وشرح القرآن والحديث وفقه الدعودة.
• التدريب: ويكون حول كيفية ممارسة الأنشطة الدعوية حسب أصول فقه الدعوة المتعارف عليها.
والتأهيل والتدريب يأخذان أشكالاً عدة ، ما بين برامجه تربوية منتظمة ودروس ثابتة في المساجد أو دورات أو مخيمات أو قوافل دعوية ..
3-1 : العمل بالبرامج
والمتأمل في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلاحظ بوضوح كيف كان يربي ويوجه الأفراد والمجموعات بطريقة منتظمة ومنظمة ، ويلاحظ نفس الشيء في الدعوة العامة الموجهة إلى القبائل: حيث كان يخصص لها مجموعات من الصحابة القراء والمتفقهين في الدين والدعوة.
فالعمل الدعوى يجب أن ينتظم ببرامج، والبرامج تستهدف جماعات محددة ( مجموعة قبائل قبلية معينة ).
والبرنامج الدعوي الموجه هو جزء من برنامج عام ـ أوسع يشمل مشاريع وخدمات محددة تناسب احتياجات الفئة المستهدفة في مجالات التعليم والصحة والمياه وتأهيل النساء والأيتام … الخ.
ومن المتعارف عليه، أن الدعوة، فردية كانت أو جماعية ، لها طرقه وأساليبها الخاصة والمناسبة لكل نعو ومجال من مجالات الدعوة، وهي معروفة ومشهورة لدى علماء الدعوة والكتب والمراجع فيها شائعة متداولة.
ولما تميز العصر الحاضر بغلبة وسائل الإعلام وتأثير أصحاب القرار أو النفوذ الاجتماعي أو الديني، أصبح لزاماً على العاملين باللجنة إعطاء اهتمام خاص لهذه الوسائل ، ويمكن حصرها في ثلاثة أنواع رئيسية:
أ – وسائل الاتصال الجماهيرية :
بحث لابد من التعرف بمشاريع ونشاطات اللجنة في هذا النوع من الوسائل ( تلفزيون ـ إذاعات وطنية ومحلية ) ، وهي إمكانيات متاحة وتحتاج فقط إلى حسن الاتصال والتدبير، ومن هذا القبيل كسب صداقات وثقة الصحفيين والإعلاميين، عبر ربط الصلات الحسنة وتحسيسهم بأهمية التعاون لفائدة مصلحة البلد..
ب – الكتاب والنشرة:
وهي وسيلة فعالة جداً ويتعين الاستفادة مما تطبعه اللجنة إلى أقصى درجات الاستفادة بحيث تنتهز فرص الزيارات الميدانية الاستطلاعية أو متابعات المشاريع أو برامج الدعوة لتوزيعها ومحاولة رصد تأثيرها من خلال المتابعة.
ج – الاتصال الفردي :
ويهم هذا المجال القيادات التقليدية في المجتمع كالسلاطين وزعماء القبائل والقيادات الدينية ـ مسلمة كانت أو مسيحية ـ بمختلف اتجاهاتها وانتماءاتها والعمل على ربط أطيب الصلات معها دون الدخول في أية حساسية دينية أو قبلية وإعطاء الانطباع الإيجابي عن اللجنة كجهة تريد الخير للبلد وأهله والتعاون مع كل من يريد الخير…
ولابد من التذكر دائماً أن اقرب طريق لكسب الثقة والرضا والتعاون في المجتمعات الإفريقية يكون دائماً من خلال هذه القيادات التقليدية، وتبقى دائماً لكسب العلاقات مع قيادات المسلمين.
وليست هذه القيادات وحدها المعنية ن بل القيادات الرسمية في مواقع الإدارة والسلطة المركزية والإقليمية والمحلية التي لها اعتبارها الكبير، ويجب بذل كل الجهود لكسب ثقة هذه الفئة، بالاتصال المستمر معه وبالعمل الجاد والمصداقية.
5 –1 العادات والمناسبات
لقد دأبت المجتمعات الإفريقية ، مسلمة كانت أو مسيحية، على الاحتفال بعادات ومناسبات دينية أو اجتماعية دأبت عليها منذ وقت طويل، وليس من الحكمة في شيء التصادم مع هذه العادات أو اتخاذ موقف سلبي منها، بل الحكمة تقتضي الاستفادة منها لمد جسور التعارف والتعاون ، أو على الأقل لإعطاء صورة وانطباع إيجابيين عن اللجنة.
فبالمناسبة ، تعتبر مشاركتهم في حفلاتهم الاجتماعية كحفلات الزواج والعقيقة والوفاة من أكثر رموز التقارب واكتساب الاحترام والتقدير من لدن الأفارقة.
وبالنسبة للمسيحيين مع علمنا بعقائدهم إلا ان مجاملتهم والتعامل معهم باحترام وأدب ضرورة لازمة ، يقول الله تعالى: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يجب المقسطين ).
ومن قبل ذلك زيارتهم في مناسباتهم الدينية ، ويجب ألا ننسى ضيوف في بلدانهم، ولا يمكن أن نظهر بمظهر الضيف الثقيل المكروه بقصد تقليل كراهيتهم وعدائهم للإسلام مما قد ينتج عنه في ردة بعض ضعاف الإيمان من المسلمين ، حيث لديهم من الإمكانات الضخمة ما قد يستعملونه في دعوة أهل النفوس الضعيفة إلى الخروج من ربقة الإسلام.
2- إعداد الدعاة
يقول الله تبارك وتعالى : ( فلولا نفر من فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ).
فإعداد الدعاة لدى لجنة مسلمي إفريقيا يعتبر حجر الزاوية في العمل الدعوي كله.
1 – 2 : الدورات
يجب تنظيم أكبر قدر ممكن من الدورات التأهيلية والتدريبية في مجالات الثقافية الإسلامية الشرعية وفي فقه الدعوة، ويكون التركيز على الفئات التالية:
* أئمة المساجد * شيوخ القبائل والقرى
* مدرسو المدارس القرآنية * كبار المسؤولين
*الدعاة الشبان النشطون * الكوادر والمثقفون
* الطلبة والطالبات * النساء(2/160)
ومن الخطأ الفادح التعويل على دعاة اللجنة فقط، بل يوجد رصيد كبير، من العاملين ذوي الغيرة على الإسلام، وممن لهم الاستعداد للتعاون والعمل في حقل الدعوة.
وتعتبر الدورات وسيلة مثالية للاستفادة من هذه الطاقات المتاحة وذلك بإحدى طريقتين:
أ – إشراك أصحاب الثقافة الإسلامية والنشاط الدعوي في إدارة وتفعيل الدورات التأهيلية والتدريبية.
ب – إشراكهم كمستفيدين من هذه الدورات.
وفي جميع الحالات، يجب اعتبار الطاقات المحلية شريكاً دائماً في العمل الدعوي بكافة أشكاله ،ومن المناسب دائماً أن يتولى المحليون ، سواء منهم العاملون مع اللجنة أو المتعاونون الدور الأكبر في العمل الدعوي ، وبروزهم في الواجهة مهم جداً، لأنهم أقدر على فهم مجتمعاتهم ونفسيات الناس وعقلياتهم، والأصل في هذا قوله الله تعالى:
( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ).
2-2: الحكمة البالغة
وبالنظر إلى تعدد وتعقد أوضاع المجتمعات الإفريقية، وسطوة التقاليد المتجذرة وأقواها الانتماء القبلي الذي يتقدم على الانتماء الديني ، سواء في المجتمعات المسلمة أو غير المسلمة.
وبحكم وجود ديانات وملل ونحل ، كل واحد منها يعمل على شاكلته.. لا سيما والنظرة الآن إلى عودة الروح للأمة الإسلامية .. هي نظرة شك وريبة .. وأحياناً نظرة عداء أو استعداء ، وقد تتطور إلى عدوان.
وبحكم أن اللجنة تعمل في بلدان ذات سيادة وهي ضيف وصديق في هذه البلدان..
وحتى المجتمعات الإسلامية الإفريقية، تعج بالكثير من مظاهر الانحراف والتخلف عن قيم الإسلام..لهذا كان على العاملين في اللجنة أن يتعاملوا بدرجة عالية من الحساسية والمسؤولية والفطنة .. بعبارة أخرى، يجب العمل بحكمة:
• فإهمال التواصل وكسب القيادات الرسمية والتقليدية ليس من الحكمة.
• والوقوف السلبي تجاه الديانات المتنافسة مع الإسلام، بأنهم خصوم وأن هناك صراعاً محتدماً معهم ليس مع الحكمة ولا الكياسة في شيء.
• وعدم الاستفادة من الإمكانيات المتاحة لدى المسلمين ولدى غير المسلمين بعيد عن الحكمة المطلوبة.
• ومحاولة الدخول إلى المجتمعات الإفريقية من غير أبوابها، أي من خلال الزعامات والقيادات المحيلة خطأ جسيم ومناف للحكمة.
• والاصطدام بالعادات والتقاليد بشكل مباشر أو محاولة تغييرها بسرعة، هو أسلوب غير حكيم وضرره أكبر بكثير من نفعه.
• والدخول في الجوانب السياسية أو القبلية من أكبر الأخطاء وأفدحها.
يقول الله تعالى : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً ) ويقول جل وعلا ( أدع إلى الله سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ).
3- البرامج الدعوية
لقد أرسل الله تعالى رسله للأقوام وليس للأفراد ، قال تعالى : ( إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن انذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم.. )..
1 -3 القبائل والأقوام
المفترض أن تندرج جميع النشاطات والمشاريع والبرامج ضمن خطة عامة تستهدف قوماً أو قبيلة بعينها، تكون لها أهداف محددة..
وبرامج الدعوة متعددة الأشكال والوسائل.. منها منا هو قصير ومنها الطويل، ولكل منها غايات ومقاصد.
فأما القصيرة فيه البرامج المحدودة في الزمان والمكان ( برنامج دعوي بمناسبة وضع حجر أساس مشروع أو افتتاحية، المشاريع الموسمية والدعوة العامة في المساجد .. الخ ).
أما البرامج طويلة المدى على التربية والممارسة الدعوية.
2 – 3 : تربية الدعاة والشباب
التربية عمل طويل النفس ، وهي ـ في عالم الأسباب ـالمعول عليها لبناء الأساس الذي يتحمل ثقل البناء.
ولابد من التخطيط لبرامج تربوية للدعاة النشطين، وليس فقط تنظيم الدورات الفقهية والروحية لهم، لأن أثر الدورات مكمل، وليس أساسي ، وهو يهم الجانب الفقهي والثقافي الإسلامي.
ولما كانت المجتمعات الإفريقية متعددة الأقوام والقبائل والأعراق واللغات، كان لزاماً الاهتمام بتعدد برامج التربية آخذين في الاعتبار تخصيص الجهد وتوزيع الطاقات حسب درجات الأولوية التي قد يحكمها حجم قبائل ،وقد تحكمها درجة تمكن الإسلام واستعدادات البذل والعمل لصالح الدين لدى هذه المجموعة أو تلك فتكون هذه المجموعات دفاعاً وعوناً على الدعوة وليست عبئاً عليها…
كل هذا يقدر بمعرفة البيئة معرفة صحيحة والتغلغل في ثناياها بالزيارات المسحية والإطلاع على الموروث التاريخي والثقافي والإطلاع على المراجع والبحوث المساعدة على إدراك أفضل للبيئة التي تعمل فيها المكاتب والعاملون..
وأفضل الطرق لذلك هو انتقاء الأفراد من الدعاة والشباب والمثقفين الذي لهم استعدادات الريادة والقيادة في مجالات الدعوة، والعمل معهم بمقتضى التربية والتوجيه السلوكي والروحي وبفقه الدعوة العملي المستمر، بحيث تتوازى التربية والممارسة معاً ، ويكون الانتقاء من القبائل والأقوام للعمل بين بني جلدتهم.. والأصل في ذلك قول الله جل وعلا: ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ).
3- 3: من كل قرية يتيم:
ومن الوسائل الفعالة لتكوين قيادات دعوية في المستقبل ، استغلال مراكز الأيتام باختيار يتيم من كل رقية في المنطقة أو القبيلة المستهدفة ورعايتها بالعليم والتربية في مرحلة أولى تدريبها على الخروج الدعوي المنتظم ( وطريقة التبليغ مناسبة تماماً ) في جميع الاتجاهات الممكنة انطلاقاً من المركز.
يمكن لاحقاً اختيار النابهين من هذه القيادات المختارة ، وتنظيم برامج التأهيل الفقهي والدعوي لهم والتدريب بمستويات أفضل، ويمكن إدماج المتميزين منهم ضمن دورات الدعاة والأئمة والشباب.
4- المعاهد الدينية
وهي من المشاريع الدعوية الهمة جداً وليس الهدف منها هو توفير التعليم الديني استجابة لاحتياجات المجتمعات الإفريقية لمن يفقهها في الدين فقط ، بل أيضاً لتأهيل مجموعات مختارة تأهيلاً خاصاً في مجال فقه الدعوة أيضاً وتدريبهم عليها عملياً أثناء الدراسة.
ومن ثم وجب الاهتمام بمدرسي هذه المعاهد الدينية بعناية فائقة، من حيث مؤهلاتهم وأخلاقهم وأن يكونوا من الدعاة النشطين العمليين ومن أصحاب الخلق.
ولا شك أن البرامج الدعوية التطبيقية في المعاهد الدينية الموزاية للمناهج التعليمية ، تعتبر جزءاً لا يتجزأ من وظيفة هذه المعاهد ، على هذا الأساس يكون التخطيط لإدارتها .
5- دور المؤمنات
إن الكثير من البلايا التي عرفتها المجتمعات الإفريقية المسلمة ، وغير المسلمة يعود إلى الحيف الذي أصاب النساء فيها.
وقد ثبت أن للمسلمات الإفريقيات استعدادات طيبة جداً للالتزام بمقتضيات منهج الإسلام في حياتهن إذا وجدن من يوضح لهن الحلال والحرام وقيم الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، كما ثبت أن لهن استعدادات كبيرة للعمل بحماس وجدية في مجالات الدعوة والتربية.
وعليه، يكون لدور تأهيل النساء أهداف عدة:
• التربية الدينية المنظمة ثم اختيار المتميزات لتأهيل دعوى خاص.
• التأهيل في حرف مدرة للدخل.
• التوجيه في مجالات تربية الأطفال حسب القيم الإسلامية.
• محو الأمية .
• تعليم أصول النظافة والإسعافات الأولية.
6- الكتاب الإسلامي
ويعتبر من أعظم وسائل الدعوة وأوسعها تأثيراً ، ومعه النشرات ورغم العدد الكبير من الكتب والنشرات التي ترجمت إلى لغات مختلفة وطبعتها اللجنة إلا أن الحاجة تبقى ماسة لتوصيل الثقافة الإسلامية المكتوبة إلى كل مكان في إفريقيا .
1 –6 : الترجمة ضالة اللجنة(2/161)
على مكاتب اللجنة وضع خطط لترجمة الكتب المتعلقة بأساسيات العقدية والفقه والحديث والسيرة ومعاني القرآن الكريم ومجالات الثقافة الإسلامية المعاصرة، وتحري اللغات المحلية الأوسع انتشاراً وكذلك إلى اللغات الرسمية ( إنجليزية ، فرنسية، برتغالية ).
ويتعين كذلك الاهتمام بالترجمة إلى لغات القبائل والشعوب التي تعد لها البرامج التنموية والدعوية.
2- 6 : البحث عن المترجم الجيد
يجتهد بعض المترجمين إلى إحدى اللغات أو اللهجات الإفريقية بإضافة اجتهاداته وإضافات أخرى إلى النص المترجم.. ولذلك يجب البحث عن المترجمين ذوي الثقافة الإسلامية العربية الجيدة، ومن أهل اللغة أو اللهجة الإفريقية التي يترجم إليها الكتاب، ولابد بعد ذلك من المراجعة من طرف ثان له أهلية علمية وثقافية حرصاً على تقديم ترجمة جيدة بأمانة حتى تصل الدعوة إلى الجمهور صافية من الإشكالات..
3 -6 : كيف نستفيد من الكتب ؟
إن توزيع الكتاب والنشرات ليست عملية عشوائية، بل لابد من العمل على توصليها إلى أكبر قدر ممكن من الأوساط المؤثرة للحصول على أعلى مردودية ممكنة.
منها مثلاً، توزيع الكتب والنشرات على الشخصيات المسؤولة المتعاطفة، وإذا كانوا من غير المسلمين يقدم لهم ما يناسبهم درجة استعدادهم لمعرفة الإسلام بلباقة…
ومنها مثلاً الإشراف غير المباشر على إنشاء مكتبات صغيرة في المؤسسات الحكومية أو الاقتصادية أو المرافق العامة لتدول الكتب ويتولى تنظيمها موظفون من ذوي العلاقات الجيدة مع اللجنة في نفس تلك المؤسسات…
ومنها أيضاً تخصيص كتب ونشرات لوضعها في خدمة الطلبة في المؤسسات الثانوية الجامعات بإشراف المسؤولين عن مكتبات هذه المؤسسات..
والشائع هو استغلال مناسبات الزيارات الميدانية لوضع حجز أساسات المشاريع أو متابعتها أو افتتاحها ، فضلاً عن الرحلات الدعوية..
الدعوة والتعليم
تشكل الدعوة والتعليم بشقية الديني والعصري النخاع الشوكي لعمل الجمعية ونعتبر أن كل المناشط الأخرى تصب في خدمتها ، ونعتقد جازمين أنهما مفتاح التغير نحو الأفضل. فتعليم المسلم العلوم العصرية، وتسليحه بما افترض الله عليه من علوم الدين، بداية التغيير للفرد المسلم في إفريقيا.
من هذا المنطلق يوجد لدى الجمعية 3288 داعية وطبيباً وإمام مسجد وفنياً. إلى جانب إدارتها لـ 840 مدرسة فيها نصف مليون طالب.
الدعوة
اعتمدت جمعية العون المباشر نظام التركيز على مناطق أو قبائل محددة ، بدل توزيع جهدها في جميع أنحاء الدولة، حيث يعين مدير عربي لأسلمة القبيلة المستهدفة مثلاً، لإدارة مركز إسلامي متكامل يضم مسجداً ومدرسة ودار الأيتام ودار النساء وداراً للمهتدين الجدد وسكناً لمدير المركز ومطبخاً وقاعدة للطعام ومستوصفاً ومزرعة تجريبية صغيرة وبئر ماء .
كما أننا بدأنا في السنوات الأخيرة بناء معهد ديني لتخريج أئمة المساجد والدعاة ذوي المستوى المتوسط من أبناء المنطقة بعد دراسة تستغرق حوالي 4 سنوات تراعى فيها أولويات المنطقة، مع المحافظة على تدريس الدين الإسلامي كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله والتركيز على أسلوب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
وقد أثبتت هذه الطريقة تأثيرها الكبير في هذه المناطق حيث يقوم المدير العربي ويساعده عدد من الدعاة من أهالي المنطقة بالمتابعة اليومية لبرامج الدعوة الإسلامية . وكمثال فإن برنامج أسلمة قبائل الغبرا في شمال كينيا قد حقق معظم أهدافه ولله الحمد، وأسلم معظم أفراد القبلية وتراجع التنصير بشكل كبير، وتم بناء عشرات المساجد والمدارس والآبار ورعاية الأيتام وتوزيع الكتب الإسلامية وإفطار الصائم والأضاحي وتوزيع الملابس المستعملة وغيرها.
أما مشروع أسلمة قبائل الانتيمور في جنوب شرق مدغشقر، فبعد صعوبات جمة في السنوات الثلاث الأولى ثم تحقيق نجاحات باهرة بفضل من الله وتم بناء 60 مسجداً وكفالة عشرات الطلبة من أبناء القبيلة وبناء عدة مراكز والعمل جار لبناء معهد شرعي لتخريج الكوادر المتوسطة في الدعوة.
وهناك دلائل وإشارات تبين أن معظم أفراد القبيلة ( وعددهم مليون نسمة ) في الطريق إلى دين الله إن شاء الله خلال الفترة المقبلة، خاصة أن ثلث القبيلة تقريباً قد استجاب لنداء الحق ونطق بالشهادتين خلال الثماني سنوات الماضية، ونظن أن الباقين من أبناء قبيلة الانتيمور سوف يلبون نداء الفطرة قبل نهاية البرنامج الذي حددت له مدة عشرين عاماً.
ويعمل في البرنامج حوالي 200شخص منهم 4 من العرب والباقون محليون، كمنا يتم سنوياً بناء عشرات المساجد والمدارس والمراكز المختلفة وإرسال الحجاج توزيع الكتب الإسلامية والمصاحف توزيع المساعدات وكفالة الطلبة وتطين الدعاة في القرى وعقد عشرات الدورات للدعاة والأئمة والإداريين الجدد والنساء والطلبة وشيوخ القرى … الخ.
* ومن البرامج الدعوية التي أثبتت نجاحها في عملنا :
1- دورات المهتدين الجدد.
2- دورات تدريب النساء.
3- إرسال زعماء القبائل إلى الحج.
4- دورات أئمة المساجد والدعاة.
5- ترجمة وتوزيع الكتيب الإسلامي.
6- الزيارات الدورية للضيوف العرب والزعماء التقليديين.
* المصاعب التي تواجه الدعوة في عملنا:
1- طغيان الولاء القبلي على الولاء الديني.
2- الأثر السلبي للتخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي على حياة المسلمين.
3- أثر الممارسات والمعتقدات التقليدية على حياة المسلمين الدينية.
4- شدة ضراوة المشروع التنصيري بما يملك من إمكانيات هائلة.
5- نشاط الملل المنحرفة العاملة باسم الإسلام.
6- مخاطر المشروع الفرنكوفوني على الهوية الثقافية الإسلامية.
مستقبل الدعوة في إفريقيا لا يمكن الحديث عنه بصورة موحدة والأفضل استشراف مستقبليات وليس مستقبل واحد نظراً لتباين حجم الدعوة الإسلامية وحجم القوى المعادية كما يجب أن نأخذ بعين الاعتبار المعوقات التالية:
1- تفاقم مؤشرات التخلف الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والديني.
2- مؤشرات النمو السكاني وتوسع المدن.
3- مخاطر العولمة الاقتصادية والثقافية.
4- استمرار تهميش قطاع التعليم العربي الإسلامي الأهلي في معظم الدول الإفريقية.
ومن هنا يتوجب تقوية نقاط القوة الإسلامية في إفريقيا وزيادة كفاءة العمل الإسلامي والعمل على تقليل الكلفة البشرية والمالية.
-===============
إعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي"
إعداد
أ/إيهاب محمد أبو ورد
للمراسلة:
iabward@yahoo.com
iabward@hotmail.com
2004 م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
يحتل العظماء مكانة مرموقة في مجتمعاتهم لما يبذلونه من عطاء و تضحية من اجل رفعة أوطانهم و تقدمه، فلم تقتصر قائمة العظماء و المبجلين على الحكام و الأدباء المشهورين، بل احتوت على فئات عديدة، و من هذه الفئات " المعلم " الذي كاد أن يبجل في جميع الثقافات.
فالمعلم يلعب دورا كبيرا في بناء الحضارات كأحد العوامل المؤثرة في العملية التربوية، إذ يتفاعل معه المتعلم و يكتسب عن طريق هذا التفاعل الخبرات و المعارف و الاتجاهات والقيم.
و لقد شغلت قضية إعداد المعلم و تدريبه مساحة كبيرة من الاهتمام من قبل أهل التربية و ذلك انطلاقا من دوره الهام و الحيوي في تنفيذ السياسات التعليمية في جميع الفلسفات و على وجه الخصوص في الفكر التربوي الإسلامي، ففي هذه الورقة البحثية سيتضح الفرق بين هذه الفلسفات من حيث كونه كاهنا أم راهبا أم ساحرا أم فيلسوفا أم كما في الفكر الإسلامي بانيا للحضارة و هاديا للبشر و منيرا للطريق.(2/162)
و لأن قيمة الإيمان تتحدد إلى حد كبير بقيمة العمل الذي يقوم به، و لما كان المعلم له قيمة عظيمة في التراث الفقهي و التربوي، احتل المعلم موقعا متقدما من حيث التقدير و التبجيل، مما جعل قضية تكوينه تتأثر باهتمام علماء التربية و الفقهاء.
فالمعلم ليس خازن للعلم يغترف منه التلاميذ المعارف و المعلومات، و لكنه نموذج و قدوة. ولأن المعلم أمين على ما يحمل من علم كان لا بد له من صياغة و أن يحافظ على كرامته و وقاره، و لا يبتذل نفسه رخيصة، فذلك من شأنه أن يحفظ هيبته مكانته بين الناس
و من الشعر فيما يروي عن القاضي عبد العزيز الجرجاني: (9)
و لم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا و أجنيه ذلة إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
و لو كان أهل العلم صانوه صانهم و لو عظموه في النفوس لعظما
و لكن أهانوه فهان و دنسوا محياه بالأطماع حتي تجهما
لذا كان للعالم المسلم بدر الدين بن جماعة (13) رأيه السديد في أن المعلم هو العامل الأساسي في نجاح العملية التعليمية و أنه من أهم عناصر التعليم، حيث يرى أن التعليم لا يتغير بغير المعلم و أن عناصر التعليم تفقد أهميتها إذا لم يتوفر المعلم الصالح الذي ينفث فيها من روحه فتصبح ذات أثر و قيمة و يستشهد على أهمية المعلم في حدوث تعلم جيد بقوله:
" قيل لأبي حنيفة رحمه الله:في المسجد حلقة ينظرون في الفقه" فقال: ألهم رأس ؟
قالوا: لا ، قال: لا يفقه هؤلاء أبدا.
و من هنا كان اهتمام هذا البحث في النظر إلى اهتمام الإسلام في إعداد المعلم و علاقته بالتغيرات الحديثة، و مدي تأثير هذه التغيرات على بنيته و انعكاسها على تنمية عقول المتعلمين و خلقهم و مهاراتهم و إكسابهم المعارف و الآداب المختلفة.
مشكلة الدراسة:
في ضوء ما سبق يمكن أن تتحدد مشكلة الدراسة من خلال التساؤلات التالية:
1. ما دواعي الحاجة لصيغة جديدة للمعلم في الفكر التربوي الإسلامي؟
2. ما مقومات الصيغة الملائمة لإعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي؟
3. ما أهم الحاجات التكوينية اللازمة لإعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي؟
أهداف الدراسة:
تهدف الدراسة إلى:
1. بيان دواعي الحاجة إلى معلم ينهج الفكر التربوي الإسلامي
2. الكشف عن مقومات الصيغة الملائمة لإعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي.
3. تحديد الحاجات التكوينية الأزمة لإعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي.
أهمية الدراسة:
تكتسب الدراسة أهميتها من خلال:
1. بيان موقع المعلم الهام في العملية التربوية.
2. تقديم صيغة متوازنة لتكوين المعلم الإسلامي العربي.
3. توضيح جوانب الضعف في تكوين المعلم بين الشخصية و المهنة.
منهج الدراسة:
يستخدم الباحث المنهج الوصفي التحليلي الذي يقوم على التسلسل المنطقي للأفكار، و ذلك من خلال الوقوف على كفايات المعلم في الفكر التربوي الإسلامي و إعداده للمهنة و تحسين أدائه التربوي ثم التركيز على بعض المقترحات لتحسين أدائه في ظل الفكر التربوي الإسلامي.
مصطلحات الدراسة:
* المعلم الرسالي: هو ذلك المعلم الذي يحمل الفكر الإسلامي كرسالة يريد أن يؤديها.
* الحاجات التكوينية للمعلم: هي المتطلبات التي يجب أن يراعيها المعلم المسلم في بناء شخصيته و ذلك لملائمة التغيرات الحادثة.
* الاتجاهات الحديثة في نظم تربية المعلم: تعني الخبرات التي تتفق مع منهج الله و التي يمكن تطبيقها في نظام اعداد المعلم ، أو طبقت بهدف تحقيق أهدافه بصورة أفضل.
* الثقافة الإسلامية: هي دراسة القوانين الوضعية في ضوء الشريعة الاسلامية.
الدراسات السابقة :
1. أجري (عسقول،1998 ) دراسة هدفت إلى ابراز ملامح برنامج إعداد المعلم في كلية التربية بغزة و قدمت الدراسة نموذجا لإعداد المعلم ، و أوصت بوضع فلسفة خاصة بإعداده و ذلك وفقا لمعايير أكاديمية و مهنية و نفسية و جسمية. (15)
2. أجري (أبو دف، أبريل) دراسة هدفت إلى بلورة صيغة جديدة لتكوين المعلم العربي على أعتاب القرن الحادي و العشرين في ضوء الواقع الثقافي و الإجتماعي، و قدمت الدراسة نموذجا لبرنامج لتكوين المعلم العربي ، حيث راعت فيه توافر التكامل و التوازن بين الجوانب الثلاثة ( الأكاديمي ، المهني و الثقافي ).(5)
3. أجرى (الحريقي، 1994 ) دراسة هدفت إلى التعرف على مدي فاعلية الإعداد التربوي في الموقف المهني لعينة من المعلمين و المعلمات قبل التخرج حيث استخدم الباحث المنهج التجريبي لإجراء التجربة و أوصى الباحث بضرورة الإهتمام بالجانب المهني التربوي للمعلمين و المعلمات، و ذلك لمواكبة التطورات العلمية التكنولوجية. و يأمل الباحث بإعادة تقييم برنامج الإعداد التربوي لطلاب و طالبات كلية التربية في جامعة الملك فيصل. (8)
4. أجرى (البزاز،1989) دراسة هدفت إلى ايجاد اتجاهات حديثة لإعداد المعلم بعدما تطرق إلى واقع المعلم في الدول العربية عامة و الخليجية خاصة في إعداده و أساليب تكوينه. و من هذا المنطلق اقترح الباحث إيجاد عدد من المقترحات و التوصيات تتناول فيها المعلم و تربيته ،مثل المنهج و تحقيق عنصر التوازن فيه، طريقة التدريس و الاتجاه نحو الاستفادة منها، و التطبيقات العملية في ممارسة مهنة التدريس.
كما تحدث الباحث عن دور سياسة القبول و التشريعات التربوية و بنية مؤسسات إعداد المعلم. (4)
أولا: الحاجة لوجود معلم ينهج الفكر التربوي و الإسلامي.
إن الناظر في حال مجتمعاتنا الإسلامية و العربية يلمح بوضوح أنواعا من الخلل قد انتظمت كافة مناحي الحياة و شرائح الأمة، فالخلل واضح و القصور فاضح سواء كان على الأداء السياسي، أم على الأداء الاجتماعي و كذلك على الاقتصادي و التعليمي، حيث تدني مستوي التعليم و الذي يرجع إلى ضعف القائمين على التعليم بشكل عام والمعلم بشكل خاص.
فدور المعلم خطير حيث أنه حلقة الوصل بين المتعلم و الكتاب ، و يجب أن يكون قدوة ، مربي ، مدرب ، موجه مرشدا، فالتعليم واحد من مؤسسات مجتمعاتنا التي أصابها الخلل نتيجة الأفكار التي يحملها المعلمون.
و أيضا من الأسباب التي أدت إلى وجود أزمة في العملية التعليمية حسب رأي (الأغا،1992) عدم تأهب المعلمين للتدريس و غياب الإعداد المسبق ، فدخولهم الفصل في هذه الحالة يفقدهم السيطرة على الطلاب و على المادة الدراسية .
كما أن عدم كفاءة بعض المعلمين للتدريس في المستوى الذي وضعوا فيه و عدم اجتهادهم لإثبات أنفسهم في هذا المستوى و قصور النمو الأكاديمي للمعلم الذي يخضع للعشوائية و الذاتية، بالإضافة إلى قلة الإطلاع و لا سيما في الموضوعات التربوية و عدم امتلاك المعلمين المهارات الأساسية كالتمهيد و استخدام الوسائل و الأسئلة و التعزيز و إدارة الفصل و التلخيص ، كلها تجمعت و ساعدت على ضعف العملية التعليمية لذا كان لا بد من بيان منزلة المعلم في الفكر التربوي الإسلامي (3)
فالمعلم في الفكر التربوي الإسلامي يتسم بعدة صفات منها:
* النية الخالصة في أداء واجبه ، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلي الله عليه و سلم قال: " لا تعلم و العلم لتباهوا به العلماء ، و لا لتماروا به السفهاء و لا تخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار" أي أن لا يقصد المعلم دنياه فحسب بل و الآخرة أيضا ، قال تعالي : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" البقرة:198 و يضع التعليم كرسالة لا مجرد وظيفة .
* يحمل هم أمة ، فالمعلم الرسالي يتفاعل مع قضايا أمته(2/163)
* أن يكون المعلم المسلم قدوة لغيره لما له من تأثير على غيره
* أن يكون عطاء لا ينتظر الثناء ، قال تعالى: " قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" يوسف:55
* أن يراعي الفروق الفردية و تخصصه، حيث لا نجد ذلك في باقي الفلسفات و الثقافات الأخرى، و هناك الكثير من سمات المعلم المسلم الذي يحمل الفكر التربوي الإسلامي حيث نلاحظ اهتمام الإسلام المتوازن الشامل الكامل في شتى جوانب شخصيته و التي أدت إلى الحاجة لمعلم ينهج الفكر الإسلامي، و يقوم بإحياء هذه الأمة و التي سبق و أن أوضحت أهمية مهنة التعليم في بناء الحضارات و الثقافات و مواجهة التحديات التي تتكالب على العرب المسلمين و ضربهم في عقر دارهم وما نلاحظه من سياسات تغيير المناهج و ضرب المعلم في شتى بقاع المسلمين لإخراج جيل غير واع بما يدور حوله و إنتاج شعوب تابعة مستهلكة لا تعرف لماذا نحيا بل كيف تأكل.
و يدلل ابن جماعة في كتابه تذكرة السامع و المتكلم (14) على أن تحقيق أهداف التعليم منوطة بحسن اختيار المعلم بقوله " و اذا سبرت أحوال السلف و الخلف لم تجد النفع يحصل غالبا و الفلاح يدرك طالبا إلا إذا كان للشيخ( المعلم) من التقوى نصيب وافر ، و على شفتيه و نصحه دليل ظاهر"
لذا فليس كل أحد يصلح للتعليم، إنما يصلح من تأهب له و أعد إعدادا طيبا فالإنسان لا ينتصب للتدريس إلا إذا كان أهلا لذلك ، يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"
و تعتبر هذه دعوة صريحة لاختيار أفضل المعلمين للتعليم و بخاصة الذين تتوفر إليهم غزارة المادة العلمية و حسن إلمامه بها و سيطرته على مختلف مهاراتها ،و توافر حد من الثقافة العامة لديه لكي يعينه على توجيه المتعلمين و رعاية مصالحهم، كما يعينه على ارشادهم إلى مصادر المعرفة المختلفة ثم معرفته الكاملة بخصائص المتعلمين و صفاتهم
كما أن من دواعي ضرورة إيجاد معلم ينهج الفكر التربوي الإسلامي التحديات التي تواجهها المجتمعات الإسلامية.
إن العصر الذي نعيشه ملئ بالتحديات، فكل يوم يظهر على مسرح الحياة معطيات جديدة تحتاج إلى خبرات جديدة و فكر جديد و أساليب جديدة و مهارات جديدة و آليات للتعامل معها بنجاح، أي أنها تحتاج إلى إنسان مبتكر و مبدع، بصيرته نافذة، قادرة على التكيف مع البيئة وفق القيم و الأخلاق و الأهداف المرغوبة.
و هذا كله يحتاج إلى تربية لمعلم في ظل انتهاج تربية متقدمة لتستنفر جميع طاقاتها البشرية و المادية إلى أقصى ما يكون، ألا و هي التربية الإسلامية.
بعض التحديات التي تواجه المعلم في ظل تربية إسلامية: (11)
* التحديات التي تتعلق بواقع تربية المعلم.
و من هذه التحديات التي عمد الغرب على نشرها في المجتمع الإسلامي هو إعدام الهوية الإسلامية و ذلك بسرقة الحضارة و تدميرها عند المسلمين، و أهم مظاهر سرقة الحضارة تجريد الأمة من لغتها حتى أصبح المعلم لا يجيد التحدث باللغة العربية لغة القرآن و كنتيجة لذلك أصبح ولاة الأمور في العملية التعليمية ليس أهلا لها فاعتري برامج التعليم الضعف و القصور مما أدى إلى ضعف إعداد المعلم، وعدم تلبية حاجات الطلاب المعلمين. و بالتالي عمل ذلك على عدم تنمية القدرة على التفكير السليم و التعبير و عدم بناء الطلاب المعلمين في النواحي الشخصية و الاجتماعية
* تحديات تتعلق باختيار المعلم.
إن اختيار المعلم يضع الأساس لاعداده ممارسة مهنته، فإن اختير على الوجه الحسن و روعي متطلبات مهنته في هذا الاختيار،يؤدي ذلك إلى إيجاد معلم قوي مفكر و ناقد ، و لكن ما نراه الآن من عدم اقبال الطلاب المتفوقون على دخول كليات التربية (مهنة التعليم) إنما يرجع إلى عدة أسباب، منها
1. احتقار المجتمع لمهنة التعليم و عدم تقديرها لها.
2. القيود التي تضعها السلطات المسؤولة على كاهل المعلم.
3. تدني رواتب الموظفين في قطاع التعليم.
4. كثرة الأعباء الملقاة على المعلم ..... و غيرها
لذلك عزف الطلاب المتفوقون عن دخول كليات اعداد المعلمين مما أدى ذلك إلى تدني مستويات القبول في تلك الكليات و عدم التقيد بمعايير للقبول و نتج عن ذلك ضعف الطلاب المعلمين. و الطلع على أدبيات اختيار المعلمين في الاسلام، فلا بد من توفر شروط في المعلم و أولها الالتزام بالاخلاق الاسلامية و ثانيها اتقان مهارة التعبير باللغة العربية الفصحى و ثالثها اتساع ثقافته الاسلامية خاصة و العلمية عامة. هذا بالضافة إلى الرغبة في العمل بمهنة التعليم و الثبات الانفعالي و الثقافة التكنولوجية .
* تحديات تتعلق بتزايد حملات الغزو الثقافي
و لكي يسيطر المعلم على هذا التحدي يجب أن يعمل على اكتساب مهارة:
- مساعدة المتعلمين على التمسك بالعقيدة الاسلامية و العمل على تربيتهم تربية اسلامية
- مساعدة المتعلمين على إدراك أن الدين الحنيف يستوعب جميع نواع العلوم التقنية و مختلف عوامل الحضارة طالما لا تتعارض مع القيم الإنسانية الفاضلة.
- ترسيخ مجموعة من المعايير عند المتعلم لمقاومة البرامج المختلقة و تقييمها في وسائل الاعلام. لذلك فإن التحديات التربوية التي تواجه العاملين في حقل التربية خاصة في العالم الاسلامي و العربي كثيرة و صعبة و تحتاج إلى صبر و مثابرة ، و يتحمل المعلم العبئ الأكبر في هذا كله ، فلا عودة لمهابة المسلمين و لا جمعا لشملهم و لا تحقيقا لتقدمهم إلا بالعودة إلى التربية الإسلامية التي تعمل على تحكيم شرع الله و تحقيق التكامل بين المسلمين.
ثانيا :كفايات المعلم في الفكر التربوي الإسلامي:
و تنقسم كفايات المعلم إلى كفايات علمية و مهنية و أخلاقية و جسدية. (9)
1. الكفايات العلمية:
و يقصد بها إلمام المعلم بتخصصه العلمي و مادته التدريسية، فاهما لمعانيه، ليس مدعيا لذلك بل متحققا من ذلك، فإذا تم له الإلمام بمادته حيث محتواها من تفاصيل و فروع، مستوعبا لها متفهما لأمورها، يمكنه ممارسة مهنة التعليم.و يشير ابن جماعة لضرورة تنمية الكفاءة العلمية أثناء الخدمة، فينصح المعلم " بدوام الحرص على الازدياد بملازمية الجهد و الاجتهاد و لاشتغال قراءة و إقراء و مطالعة و تعليقا و حفظا و بحثا و لا يضيع شيئا من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم إلا بقدر الضرورة ".و لم يكتف المفكرون بذلك يل طالبوا المعلم ان يكون ذا ثقافة واسعة في غير تخصصه ايضا و ربما كانت هذه شائعة في العصور الإسلامية الأولى حيث كانت الموسوعية سمة العلماء و المفكرين ، فينصح ابن جماعة بالمعلم لأن يكون مبدعا في فن من الفنون ليخرج من عداوة الجهل.
و أن يكون غزير المادة العلمية ، يعرف ما يعلمه أتم معرفة و أعمقها و على المعلم ألا ينقطع عن التعليم و أن يداوم على البحث و الدراسة و تحصيل المعرفة " دوام الحرص على الازدياد بملازمة الجد و الاجتهاد و الاشتغال قراءة و إقراء و مطالعة و تعليقا و حفظا و تصنيفا و بحثا و لا يضيع شيئا من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم إلا بقدر الضرورة" (14)
و يستدل ابن جماعة بقول سعد بن جبير (( لا يزال الرجل عالما ما تعلم ، فإذا ترك التعليم و استغنى ، و اكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون ))
يقول بعض العرب في إنشادهم:
و ليس العمى طول السؤال و إنما تمام العمى طول السكوت على الجهل(2/164)
فالمعلم إذا شاء أن ينجح في تعليمه فلا مفر له على أن يقبل على الاستزادة من العلم بمادته و تخصصه و لتكن همته في طلب العلم عالية و عليه أن يبادر أوقات عمره إلى التحصيل و لا يغتر بخدع التسويف و التأمل.
2. الكفاءة المهنية:
و يقصد بها مهارات التدريس التي يجب توافرها في المعلم لكي يستطيع أن يؤدي عمله على أكمل وجه لتحقيق أهدافه التربوية. و من هذه المهارات
(أ) استثارة الدافعية عند التلاميذ و وجودها عنده، فالمفكرون التربويون ينصحون المعلم بأن يثير دافعية المتعلم و أن يرغيه في العلم في أكثر الأوقات بذكر ما أعد الله للعلماء من منازل الكرامات و أنهم ورثة الأنبياء و على منابر من نور يغبطهم الأنبياء و الشهداء، و يحبذ الزرنوجي أن تكون الدافعية نابعة من المتعلم بنفسه" فينبغي للمتعلم أن يبعث نفسه على التحصيل " و يقول : "و كفى بلذة العلم و الفقه و الفهم داعيا و باعثا للعاقل على تحصيل العلم" ( 16)
(ب)مراعاة الفروق المهنية: فلا ينبغي للمعلم أن يشرك الطالب عالي التحصيل مع متدني التحصيل و ذلك لاختلاف قدرة كل منهما، ففي ذلك عدم إنصاف
و يؤكد الغزالي بقوله بضرورة " ضرورة مخاطبتهم على قدر عقولهم".
(ج) طريقة التدريس: حيث أشار المفكرون لأهمية طريقة التدريس للمعلم بأن لا ينقلهم من علم إلى علم حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم.
و يؤكد ابن جماعة على المعلم أن يقرب المعنى للتلاميذ و يحتسب إعادة الشرح و تكراره و يبدأ بتصوير المسائل و توضيحها بالأمثلة، و ما ورد في مجامع العرب بأن العلم هو ( ما حوته الصدور لا ما طوته السطور) مع عدم الحفظ الصم دون وعي و إجادة.
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا و غابت عنك أشياء
و من طرق التعليم التي استخدمها المعلمون المسلمون أمثال ابن سينا هو التعليم التعاوني فيقول " إن الصبي عن الصبي ألقن و هو عنه أخذ به و آنس"
(د)إدارة الصف: و هي مهارة يجب أن يتمتع بها المدرس حني يستطيع تحقيق أهدافه في أحسن جو و أن يصون مجالس درسه في الغوغاء و اللغط و سوء الأدب و أن يعامل طلابه بأدب، فهذا ابن سحنون يروي عن الرسول صلى الله عليه و سلم بأنه قال: " أريما مؤدب ولى ثلاثة صبية من هذه الأمة و لم يعاملهم بالسوية فقيرهم و غنيهم حشر يوم القيامة مع الخائنين"
(هـ) الثواب و العقاب: و هناك مسألة خلافية كبيرة بين مفكرين العصر و مفكرين الثقافة الإسلامية حيث أن الإسلاميين وضعوا ضوابط للعقاب حتى لا يساء استخدامه من قبل المعلم و أن لا يلجأ للعقوبة البدنية إلا عند الضرورة القصوى و يجب أن لا يكثر من استخدامها حتى لا تكون روتينا عند التلاميذ فتفقد أهميتها، و أن يكون مؤدبا في عقابه رحيما.
و قد وضح الإسلام العلاقة بين المعلم و المتعلم في ضوء الفكر التربوي الإسلامي، فقد أخذ القابسي بالقاعدة التي تقول:" إن الله ليملي للظالم حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فالعفو أسبق من العقاب، و الصبر مقدمة الحساب.
فأمر المعلمين بالرفق مع الصبيان و إن كان العفو مع الذنبين من الكبار واردا، فهو مع الصبيان واجب لصغر سنهم و طيش أعمارهم وضيق حلومهم و قلة مداركهم.
فالمعلم ينزل من الصبيان منزلة الوالد، فهو المأخوذ بآدابهم و القائم على زجرهم و هو الذي يوجههم إلى ما منه مصلحة أنفسهم وهذا التوجيه يحتاج إلى سياسة و رياضة حتى يصل المعلم بالطفل مع الزمن إلى معرفة الخير و الشر. (8)
3. الكفايات الأخلاقية: و من الكفايات الأخلاقية التي يجب توافرها في المعلم المسلم:
( أ )القدوة يقول الشاعر
لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيما
يجب أن يكون المعلم قدوة حسنة لتلاميذه في تعليمه للأخلاق، فالمعلم في فكر التربوي الإسلامي بإشراط الغزالي على المعلم أن يعمل بعلمه و استشهد بقوله تعالى:
" أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم "
و يشير ابن جماعة إلى أثر القدوة الحسنة بقوله " و يسلك – أي التلميذ – في الهدي مسلكه – أي مسلك العلم – و يراعي في العلم و الدين عاداته و عبادته و يتأدب بآدابه و لا يدع الإقتداء به"
و لقد حرص الغزالي على أن يبين أن التمسك بالمبادئ و العمل على تحقيقها يجب أن يكونا من صفات المعلم المثالي، فنصح المعلم بأن لا ينادي بمبدأ و يأتي أفعالا تتناقض مع هذا المبدأ و لا يرتضي المعلم لنفسه من الأعمال ما ينهى عنه تلاميذه، و إلا فالمعلم يفقد هيبته و يصبح مثارا للسخرية و الاحتقار فيفقد بذلك قدرته عل قيادة تلاميذه و يصبح عاجزا على توجيههم و إرشادهم.
يقول الغزالي: "مثل المرشد من المسترشدين مثل النفس من الطين بما لا نقش فيه و متي يستوي الظل و العود أعوج ؟؟ "
(ب) الزهد و التواضع
و يتمثل ذلك في أن يقتصد المعلم في ملبسه و مطعمه و مسكنه و حدها ابن جماعة بأن يكون ( من غير ضرر على نفسه و عياله).
فالتواضع من صفة العلماء و أن لا يستنكف أن يستفيد ما لا يعلمه ممن يعلمه سواء كان دونه منصبا أو نسبا أو سنا.
(ج) الوقار و الهيبة
ينصح ابن جماعة المعلم بأن يتجنب مواضع التهم و إن بعدت و لا يفعل شيئا يتضمن نقص مروءته أو ما يستنكر ظاهرا و إن كان جائزا باطنا فإنه يعرض نفسه للتهمة و عرضة للوقيعة.
و أن لا يضحك مع الصبيان و لا يباسطهم لئلا يفضي ذلك إلى زوال حرمته عندهم، كذلك ف، مشية المعلم يجب أن تكون مشية العلماء و أن ينزه نفسه عن المهن الوضيعة و أن يصطحب الوقار و الهيبة مع إخلاصه في العمل ليكون رزقه حلالا.
و يظهر ذلك جليا في أفكار المسلمين الأوائل فعند أخوان الصفا المعلم له شروط و صفات أوجزها في ( الزهد في الدنيا و قلة الرغبة في ملاذها مع التهيؤ الفعلي في العلوم و الصنائع، صارفا عنايته كلها إلى تطهير نفسه قادرا على تحمل كافة المشاق من أجل العلم و أن يكون مشتملا برداء الحلم، حسن العبادة أخلاقه رضية، و آدابه ملكية، معتدل الخلقة، صافي الذهن خاشع القلب)
4. الكفايات الجسدية:
يهتم الفكر التربوي الإسلامي اهتماما بالغا في الجانب الجسدي عند المعلم فيصف القلقشندي المعلم بأنه" حسن القد، واضح الجبين، واسع الجبهة " (9)
و يبدوا أن ابن جماعة كان أكثر موضوعية كان أكثر موضوعية حيث وصف المعلم أن يكون دائما بالمظهر المناسب من حيث نظافته ونظافة ثيابه و تطيبه لإزالة كريه الرائحة ، فالمدرس إذا عزم على مجلس التدريس تطهر من الخبث و تنظف و تطيب ولبس أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه قاصدا بذلك تعظيم العلم
و يبدو أن ذلك مستوحى من اهتمام الدين الإسلامي بالصحة و النظافة بشكل عام فالوضوء و الاغتسال و أخذ الزينة عند كل مسجد مظاهر تأثر بها المفكرون في التربية الإسلامية و حرصوا عليها لأن النظافة من الإيمان.
فقد قال ابن جماعة مختصرا المعلم بأنه:" هو الذي كملت أهليته و كان أحسن تعلما – أي كفايته العلمية- و أجود تفهما – أي الكفاية المهنية – و ظهرت مروءته و عرفت عفته – أي الكفاية الأخلاقية-
و لعلنا مما سبق عرضه لاحظنا بأن النظريات العلمية و الإنسانية الحديثة قد ظهرت عند علماء التربية العرب و المسلمين منذ مئات السنين حيث ظهرت إسهاماتهم جلية بعيدة عن اجتهاد الجهال و نزوات المخلفين، بل بذلوا عصارة فكرهم في بيان أصول التربية و فلسفتها و طرق تدريسها فظهرت عدة خلاصات و إيضاحات منها:
1. النظرة الخاطئة نحو التعليم كوسيلة ارتزاق حيث بين الإسلام أهمية هذه المهنة و وظيفتها.(2/165)
2. بيان أهمية مهنة التعليم في الإسلام بعد أن تحقرت عند المجتمعات كمهنة إنشاءات و خطابات.
3. توضيح العلاقة بين الكم و الكيف في إعداد المعلم في ظل الفكر التربوي الإسلامي
و هذه البنود الثلاثة هي التي تحدد المعلم الرسالي من المعلم العادي.
ثالثا: الحاجات التكوينية اللازمة للمعلم في ظل الفكر التربوي الإسلامي.(6)
بالإضافة إلى ما سبق ذكره من سمات للمعلم و التي يجب أن تكون في المعلم الذي ينتهج الفكر التربوي الإسلامي لكي يكون متكاملا قدر الإمكان، فهناك عدة أمور يجب توافرها في المعلم ليكون معاصرا، منها:
1. مواكبة التغيرات الحادثة: فالتغير سمة من سمات الكون و ناموس التغير وارد في القرآن الكريم، قال تعالي: " كل يوم هو في شأن" الرحمن:29، فالثورة التكنولوجية الحادثة حاليا جعلت هناك تدفقا هائلا للمعرفة الدقيقة و إرسال كميات هائلة من المعلومات، يجب على المعلم في ضوئها أن يحسن استخدامها، و يسخرها داخل عمليته التعليمية لمواكبة التطورات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، مما يساعده على محاربة جميع التحديات التي باتت تغزو بلاد المسلمين.
لقد أصبحت الثقافة العامة الآن بعدا هاما من الأبعاد الأساسية لإعداد المعلم و التي تزيده سعة و تعمقا في الفهم و ميولا عقلية تدفع بصاحبها إلى البحث و الاستزادة من العلم و قدرة على متابعة الجديد و تفسير الاتجاهات و تفهمها.
و من هنا كان توجيه ابن جماعة للمعلم "بأن لا يدع فنا من الفنون أو علما من العلوم إلا نظر فيه ، فإن ساعده القدر و طول العمر على التبحر فيه فذاك ، و إلا فقد استفاد منه ما يخرج به من عداوة الجهل بذلك العمل، و يعتني من كل علم بالأهم فالأهم."(2)
2. تحديد مصادر برامج إعداد المعلمين وفق الفكر الإسلامي: لأن النظام التعليمي ينمو و يترعرع في ظل فكر فلسفي يغذيه، و يتم تحديد الأهداف لتكوين المعلم في ضوئها مما يساعد لمعلم على الحكم السليم في معالجة المشكلات. و من المصادر التي يجب أن ينبثق عنها إعداد المعلم:
o القرآن الكريم و السنة المطهرة، لما لها من أصالة في توجيه المعلم و الإقتداء بالرسول المعلم و المربي عليه أفضل الصلة و السلام بحيث يصبح مثله الأعلى في بناء شخصيته.
o التراث العربي الإسلامي، فعلى المعلم أن يجتهد في الانفتاح على ثقافات العرب و المسلمين الغنية في شتي المجالات و ضرورة الاستفادة من القيم و العادات و التقاليد الاجتماعية الصالحة لمواكبة العصر.
o نتائج الدراسات العربية و الإسلامية السابقة.
o الانفتاح غير المطلق على ثقافات الآخرين.
o الجمع بين التربية المستمرة و النمو الذاتي للمعلم، فمهنة التعليم في ظل الإسلام يتطلب نموا مستمرا، لمواكبة التطور العلمي و التكنولوجي، و الزيادة المتراكمة في مجال المعرفة.
3. إعداد المعلم الباحث: و ذلك بامتلاك المعلم وسائل المعرفة العلمية و التقنية، ويتم ذلك من خلال تنمية المهارات العلمية، و محو الأمية التكنولوجية لدي المعلم و في مقدمتها التعامل مع الحاسوب لمواجهة المشكلات و حلها بطرق علمية صحيحة
و قد قام ( سليمان ،1982) (10) بإجمال بعض النقاط التي يجب أن تتوفر في المعلم الناجح وهي :
- من يتوفر لديه الشعور بالمسئولية و يتفانى في أداء واجبه
- هو الذي يعيش في مجتمعه بكل كيانه و مقوماته
- الذي يستجيب لتطورات الحياة من حوله
- هو الذي يشعر تلاميذه نحوه بالتقدير و الاحترام
- هو القدوة الحسنة لتلاميذه في مظهره و هندامه و تصرفاته
- أن يكون متمتعا بصحة جسمية و نفسية
- أن يكون مجيدا لمادة تخصصه و أن يلم بطبيعتها
- أن يكون متعاونا
لذا فقد اقترح ( البوهي وغبن) (7) بوضع برنامج تدريبي أثناء الخدمة و ذلك لـ:
* رفع مستوى أداء المعلمين في المادة و الطريقة و تحسين اتجهاتهم و تطوير مهاراتهم التعليمية و معارفهم و زيادة قدراتهم على الابداع و التجديد
* زيادة المام المدرسين بالطرق و الأساليب الحديثة في التعليم و تعزيز خبراتهم في مجالات التخصص العلمية
* تبصير المعلمين بمشكلات النظام التعليمي القائم ، ووسائل حلها و تعريفهم بدورهم و مسئولياته في ذلك.
أهم الاتجاهات الحديثة المناسبة لتربية المعلم للمجتمع المسلم:(11)،(12)
1. التأكيد على تأهيل المعلم لتربية تلاميذه تربية إسلامية
و هذه العبارة تعني في جوهرها توجيه سلوك المتعلم بمساعدة المعلم على أن ينمو بشكل كامل و شامل و متوازن، و منها اكتساب الخبرات الخاصة بالقيم الالهية و الخبرات البشرية مما يجعل سلكه قولا وعملا وفق منهج الله.
قال تعالى: " ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون" الأعراف:129
و يقول أيضا: "فمن يعمل مثقال ذرة خير يره و من يعمل مثقال ذرة شر يره" الزلزلة:7،8
2. العناية بتزويد المعلم بالثقافة الإسلامية
فالثقافة الإسلامية هي الأساس التي يبنى عليها نظام المجتمع و يقوم عليها البناء التعبدي و هي منطلق تحرر النفس الإنسانية من العبودية لغير الله و لذا فهي تستنفر المعلم لتربية تلاميذه و توجيههم و ارشادهم و حفز هممهم نحو دفع الأمة إلى الإنطلاق الحضاري تحت راية دين الله الحنيف و تعريفهم بماضي أمة الإسلام و حاضرها.
3. العناية بالتوجه الإسلامي للعلوم و بإسهامات العلماء المسلمين فيها
4. تمكين المعلم من مهارات التعبير باللغة العربية الفصحى و من التعليم فيها
و يدخل في اطار هذا البند الاتجاه نحو تعريب جميع المعلومات و رفع مستوى المعلم فيها و تقوية المعلم في التحدث باللغة العربية لما لها من اسهامات في تقوية المعلم و انعكاسها على شخصية الطالب في اللغة.
5. الأخذ بمبدأ التعليم مدى الحياة و النظر إلى تربية المعلم في إطار نظام موحد.
و ذلك لكي يبقى المعلم متصلا بعالم التربية و العلم و مطلع على التجديدات الحديثة
6. رفع مستوى برامج تربية المعلم و تكاملها و تنوع خبراتها
لأن برامج اعداد المعلمين هي الركيزة الأساسية لنواة تكوين المعلم ، لذلك من الضروري على الجامعات و الجهات المختصة أن تقوم يتعديل خطة إعداد المعلم و الاهتمام به في جميع الجوانب، المهنية، العلمية، الاجتماعية ، الأخلاقية .
7. الأخذ بالتطورات المعاصرة في التقنية التربوية و محو الأمية التكنولوجية
لأن عصرنا الحاضر هوزمن التقدم العلمي و التكنولوجي ،تطورت معها طرق تدريس المواد ، و تقدمت أساليبها لمراعاة تغيرات العصر كما أسلفت آنفا.
لذلك كان من الضروري تمية قدرات المعلمين على الأخذ بالتطورات العحاصلة في العالم شريطة ألا يتنافى ذلك مع الشريعة الإسلامية.
8. التأكيد على البحوث و تطبيقاتها الميدانية
و ذلك لما لها من أهمية في تقدم العلوم و الارتقاء بشخصية المعلم.
المراجع:
1. ابن جماعة، بدر الدين (1994) : تذكرة السامع و المتكلم في أدب العالم و المتعلم ، رمادي للنشر، الدمام.
2. ابن جماعة، بدر الدين . المرجع السابق.
3. الأغا، احسان خليل (1992): ازمة التعليم في قطاع غزة ، الجامعة الإسلامية ، غزة
4. البزاز، حكمة(1989): اتجاهات حديثة في إعداد المعلمين، مجلة رسالة الخليج العربي، المجلد 9 ، العدد 28.
5. أبو دف ، محمد خليل (أبريل) : صيغة مقترحة لتكوين المعلم العرب على أعتاب القرن الحادي و العشرين ، مؤتمر الدور المتغير للمعلم العربي في مجتمع الغد، كلية التربية ، جامعة أسيوط.
6. البوهي، فاروق و بيومي، محمد غازي: دراسات في إعداد المعلم، دار المعرفة الجامعية.(2/166)
7. البوهي، و غبن ، لطفي : مهنة التعليم و أدوار المعلم ، دار المعرفة.
8. الحريقي، سعد بن محمد (1994): فاعلية الإعداد التربوي في الموقف المهني للمعلمين و المعلمات قبل التخرج، مجلة مركز البحوث التربوية، المجلد 11 ، العدد2 ، الرياض.
9. الصاوي، محمد وجيه (1999): دراسات في الفكر التربوي، مكتبة الفلاح ، الكويت.
10) سليمان ، عرفات عبد العزيز(1982): المعلم و التربية ط2 مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة
11) شوق ، محمود أحمد و مالك، محمد (2001) : معلم القرن الحادي و العشرين ، دار
الفكر العربي ، القاهرة.
12) شوقي، محمود أحمد (1995): تربية المعلم للقرن الحادي و العشرين، مكتبة العبيكان، الرياض.
13) عبد العال، حسن إبراهيم (1985):فن التعليم عند بدر الدين بن جماعة، مكتب
الربية العربي لدول الخليج.
14) عبد العال، حسن إبراهيم. المرجع السابق.
15) عسقول ، محمد عبد الفتاح (1997) : الإعداد المهني للمعلم في كلية التربية بالجامعة الإسلامية بغزة ، مؤتمر التربية في فلسطين و تحديات المستقبل، كلية التربية الحكومية،غزة.
16) على، سعيد إسماعيل (1991) : اتجاهات الفكر التربوي الإسلامي، دار الفكر العربي ، عين شمس.
==============
احذر ثقافة المهزومين
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد؛
للهزائم صور وأشكال شتى.. أشدها فتكاً وأثراً على الشعوب والأمم الهزائم الفكرية الثقافية.. الهزائم التي تصيبها في عقيدتها وهويتها.. فإذا انهزمت أمة من الأمم فكرياً وثقافياً فقدت خاصية التمايز التي تميزها عن بقية الأمم والشعوب، بل فقدت عنصر المناعة الذي يصونها من جميع الأمراض وأشكال الغزو الخارجي، المادي منها والمعنوي!
فأي فكرة تعترضها أو تفد إليها تستسيغها، وتصفق لها، وترفع لها راياتها، وتشطحها أرضاً.. وتفقد القدرة على رفضها أو تحليلها وفحص النافع منها من الضار!
وكما أن للنصر والعزة والإباء أبطال وقادة ورواد.. كذلك للهزائم ومراحل الانحطاط وضياع الهوية، وفقدان الشخصية رواد وقادة وكتاب؛ لكنهم قادة وكتاب على مستوى الهزيمة التي أصابتهم وأصابت أمتهم بسببٍ من أنفسهم المهزومة المقهورة!
قادة وكتاب مشوهون لا يستطيعون أن يَرقوا بأنفسهم المهزومة المقهورة إلى درجة الحقيقة المطلقة.. لذا تجد نشاطهم كله يدور حول فقه التبريرات والرخص.. فقه الاستضعاف وسقوط التكاليف.. فقه الاعتراف والتعايش مع الباطل المنتصر.. فقه الرضى بالأمر الواقع وإن كان باطلاً.. الرضى بالفتات من الحقوق المغتصبة.. على اعتبار أن القليل أفضل من لا شيء.. فهم يرضون بهذا القليل لأن البديل عندهم هو شيء واحد؛ هو لا شيء!!
نفوسهم أضعف من أن ترقى بهم إلى القمم والمعالي من الأهداف والغايات.. فهم فقدوا الأدوات الضرورية التي يمكن أن ترقى بهم إلى ذاك المستوى الرفيع.. لذا فهم يتحركون في السهول والسهل والحفر، وفي الأماكن التي لا تليق بذوي المروءة والنفوس الأبية أن يتواجدوا فيها!!
وأمة الإسلام - في هذا الزمان - أصابها الكثير مما تقدم.. أصابها كثير من شر ثقافة المهزومين بل والمتآمرين.. فقد ابتليت برجالات ودعاة، وهيئات وتكتلات مشبوهة - سمت نفسها بالإسلامية! - لو سُلطت على أي دينٍ أو أمة من الأمم غير دين الإسلام وأمة الإسلام..
لكانت كفيلة بأن تقضي على هذا الدين وتلك الأمة بأشهر معدودات!!
لكن الله تعالى - بفضله ومنته ورحمته - قد تكفل بحفظ هذا الدين، وبأن يُظهر كلمته على أيدي طائفة من المؤمنين ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم إلى يوم القيامة.
من أعظم وأشد ما ابتليت به أمة الإسلام.. ابتلاؤها بذوي الأقلام والثقافات المهزومة المشوهة المشبوهة.. المهزومة نفسياً وداخلياً قبل أن تُهزم في ميادين العمل والنشاطات الظاهرة!
هؤلاء وظيفتهم - التي وضعت وحددت لهم من قبل الطواغيت الظالمين الجاثمين على صدور شعوبهم بالحديد والنار - أن يلعبوا دور سحرة فرعون وهم في مرحلة الكيد والانتصار لفرعون وباطله.. في إضلال الشعوب وترويج ألوهية وربوبية الطواغيت عليهم!!
أن يلعبوا دور المزينين المزخرفين للباطل وأفكاره لتروج على العباد والبلاد.. وكأنها من الثوابت التي لا تقبل النقاش أو التبديل!!
ما من باطل يروج في الخارج إلا وتجد من هؤلاء المثقفين المهزومين من ينبري كبوق وداعية لهذا الباطل الغريب عن جسد الأمة وعقيدتها!!
قالوا في الخارج عن الاشتراكية، والديمقراطية، والقومية، والوطنية.. وغيرها من الشعارات والوثنيات التي تعبد العبيد للعبيد.. فوجد من هؤلاء المهزومين من ينتصر لهذه الشعارات الدخيلة الوافدة، ويسخر لها قلمه ومقدرته على السحر والتلاعب بالألفاظ ليضلل بذلك عقول البسطاء من الناس!!
بل ما من باطل وشذوذ يُردد في بلاد الغرب - حتى عبادة وعبدة الشيطان - إلا ووجد في هذه الأمة ومن هؤلاء المهزومين من ينتصر لتلك الشذوذات والانحرافات!!
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراعٍ حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لاتبعتموهم " قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمن "؛ أي من يكون غيرهم؟!
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليأتينَّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمَّه علانيةً كان في أمتي من يصنع ذلك!!).
وللمثقفين المهزومين دلالات وعلامات تدل عليهم، وتعرِّف بهم أهمها:
1) أنهم دعاة إلى التعايش.. ليس التعايش في ظل حكم الحق ثم يكون بعد ذلك لا إكراه في الدين.. لا؛ إنما تعايش الحق مع الباطل وتحت حكمه وسياسته وسلطانه إلى أن يصعب التمييز بين الحق وراياته، وبين الباطل وراياته!
ومن ذلك دعوتهم إلى تقارب الأديان.. وإلى تحاور الأديان.. لا لكي يظهر الحق من الباطل فيُتبع.. لا؛ وإنما ليتعايش الحق مع الباطل في ثوبٍ واحد، ولكي تختلط المبادئ والمفاهيم والقيم.. ومن دون أن يكون للحق تمايزه ووجوده المستقل.. ولتغييب الصراع - القديم منذ أن خلق الله تعالى آدم وإبليس والمستمر إلى يوم القيامة - بين الحق والباطل!
فهم يعملون لتغييب هذا الصراع من طرف واحدٍ فقط؛ طرف الحق وأهله وحسب.. أما طرف الباطل وأهله فهم لا سلطان لهم عليهم.. وهم يعملون ليل نهار على تزكية هذا الصراع وتقوية جانب الباطل الذي هم عليه، تحسباً لأي معركة تدور بينهم وبين الحق وأهله، ومن دون أن ينكر عليهم أحد!!
لذا نجد هؤلاء المثقفين المهزومين لا يجرئون على مناقشة الداعي والسبب في أن الباطل وجيوشه كان ولا يزال يتسلح بأطور الأسلحة النووية الفتاكة وغيرها.. بينما لو ملك مسلم سكيناً أو حجراً يرمي بها عن نفسه وحرماته.. انبروا - بأقلامهم المبرية وألسنتهم المسلولة السليطة - ليرموه بالإرهاب والتطرف، والإجرام.. وأسرعوا في عقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات التي تطالب بضرورة التعايش والتفاهم، وإجراء الحوار!!
2) ومن علاماتهم كذلك أنهم إذا تكلموا عن الجهاد في الإسلام حصروه في الجهاد الدفاعي عن عقر داره وبيته، وضد العدوان الخارجي حصراً!!
أما أن يُعقد الجهاد من أجل تحرير الشعوب من عبودية العبيد ومن سلطان وهيمنة الطواغيت التي تُحيل بين شعوبهم وبين اختيارهم للدين الحق.. فهذا - عند المثقفين المهزومين - لا يجوز!!(2/167)
كذلك أن يُشرع الجهاد ضد حركات الردة والزندقة التي تواجه الأمة من الداخل.. فهذا أيضاً لا يجوز.. لأنهم مواطنون رسميون.. وجهادهم يتغاير مع حقوق المواطنة المعطي لهم.. ومع العقيدة الوطنية التي تكرس عقيدة الولاء والبراء على أساس الانتماء إلى الوطن والتراب!
3) ومن علاماتهم.. أنهم دعاة إلى السلام.. وأن يكثروا الحديث عن السلام.. فيضعون السلام في غير موضعه الحقيقي والمشروع.. مهما ترتب على هذا السلام من تبعات ومضاعفات تؤدي إلى ضياع الحقوق المغتصبة.. واستعلاء الباطل بباطله على الحق وأهله!!
فهم لا يريدون السلام الذي دعا الله إليه وأمر به.. وإنما يريدون السلام الذي دعا إليه الطواغيت، وتداعت إليه أطراف الكفر والنفاق.. السلام الذي يعترف بشرعية المغتصب وحقه فيما اغتصب!!
4) ومن علاماتهم.. أنك تجدهم - إن فقدتهم - على العتبات.. على عتبات الطواغيت، يستجدون العطاء.. ولمسة حنان من أيدي الطواغيت الملوثة بدماء الشعوب المقهورة.. أو نظرة رضى يلقيها عليهم!!
فهم يتلقون كلمات الطواغيت وكأنها نصوص منزلة؛ فيتوسعون في شرحها وتأويلها وتحليلها وبيان المراد منها.. إلى حدّ التملق والتكلف.. وبصورة لا يريدها الطاغوت نفسه ولم يكن قد تفطن لها عندما ألقى كلماته الذهبية الوردية!!
لذا نجد الطواغيت يقربون هذه الشرائح من المثقفين، ويخصونهم بالعطاء والمنح والأسفار المجانية.. وكل التسهيلات التي يحتاجونها.. ما داموا يقومون بدور السحرة الذين يقنعون جماهير الناس الضالة بشرعية حكم الطواغيت.. وما داموا يعملون بإخلاص من أجل تثبيت دعائم حكم الطواغيت.. من خلال قلب الحقائق واعتماد أساليب الغش والكذب على الناس!!
لكل طاغوت عبر التاريخ وإلى يومنا هذا لا بد له من سحرة يتكئ عليهم في تمرير باطله وكفره.. وفي إضلال العباد وسحر عقولهم وأبصارهم لما فيه خدمته ومصلحته ومصلحة نظامه وعرشه.. وسحرة الطواغيت في هذا الزمان هم هؤلاء الدجالون المثقفون المهزومون!!
5) ومن علاماتهم.. أنهم يؤمنون - رهبة أو رغبةً - ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.. ومنهم من يقول: هذا لله وهذا لقيصر.. هذا لله وهذا للشعب والجماهير.. هذا لله وهذا للإنسان.. وما كان للشعب لا يصل إلى الله، وما كان لله يصل إلى الشعب.. ساء ما يحكمون!!
6) ومن علاماتهم.. أنهم يعبدون العقل من دون الله تعالى.. فيقدمون العقل الفاسد على النقل الصحيح، ويُعارضون النقل الصحيح بالعقل الفاسد المريض.. والسياسة الشرعية بالسياسة الوضعية!
غرهم علم الكلام والفلسفة والمنطق الذي تربوا عليه.. فقدموه على علم الكتاب والسنة.. فخاضوا فيما لا يجوز الخوض فيه.. وسموا تحريفاتهم وشذوذاتهم - الناتجة عن خوضهم الباطل - بالتأويل والعقليات.. لتروج على عوام الناس وبسطائهم!!
7) ومن علاماتهم.. أنهم يميلون إلى الإرجاء وإلى ترك العمل، وإلى تفسير الإيمان على أنه مجرد قول أو اسم.. فمن قال لا إله إلا الله ولو مرة في العمر، أو تسمى بأسماء المسلمين وانتسب لأبوين مسلمين.. فهو مؤمن ومسلم مهما كان منه من عمل.. وهو فوق أن يُطعن بإيمانه أو إسلامه!!
وهذا الذي يُفرح الطواغيت الظالمين ويثلج قلوبهم.. لأن هذا الكلام مفاده أنهم مؤمنون ومسلمون.. وأنهم مهما ظهر منهم من أعمال كفرية تنافي الإيمان والإسلام.. فهم مسلمون - لا يجوز أن يرقى إليهم الشك أو الطعن - تجب طاعتهم على الناس!!
لذا لا غرابة لو وجدت طواغيت الحكم يمدون يد العون والدعم وكل التسهيلات لدعاة الإرجاء هؤلاء.. لا لأنهم يحبونهم أو يُحبون الإسلام، لا.. بل لأنهم يُصبغون عليهم وعلى حكمهم ونظامهم الشرعية التي يجب أن تُطاع!!
فهم عصاته وأداته التي يُسكت بها الناس كلما دار حديث فيما بينهم حول جدية إيمان وإسلام طغاة الحكم الظالمين.. وكلما أثيرت حوله وحول نظامه الشبهات وكثرت التساؤلات وإشارات الاستفهام.. وخاض فيه الخائضون؟!!
هذه هي أبرز علامات المثقفين المهزومين.. حيثما تجدها أو تجد بعضها فاعلم أنك وجدت المثقفين المهزومين.. وجدت هذا الركام الهالك الذي ضل وأضل.. والذي رضي أن يبيع دينه وآخرته بدنيا غيره!
والواجب عليك حينئذٍ يا عبد الله أن تحذرهم وتحذر كتاباتهم ومقالاتهم.. وأن تحذِّر الآخرين المغرورين بهم، الذين غرتهم الألقاب والرتب والأوسمة التي يغدقها الطاغوت على بطانته من المثقفين المهزومين!
فاحذرهم وحذِّر الآخرين منهم ومن أمراضهم، ومن خلطتهم أو مجالستهم، أو السماع إليهم.. أو القراءة لهم.. فإنهم الجذام.. والسرطان.. والإيدز القاتل.. لا يكاد يسلم من اقترب إليهم من شبهة أو عدوى أو مرض قد يكون سبباً في القضاء عليه وهلاكه.. فيخسر دينه ودنياه!
فاحذرهم.. إنهم الوباء الذي تنمو فيه بذور النفاق والفرقة والشقاق!
فاحذرهم.. إن أردت النجاة والسلامة لنفسك في دينك، ودنياك، وآخرتك.. فهم كنافخ الكير بالنسبة لجليسهم.. إن لم يصله من نارهم ما يحرقه ويحرق ثيابه، فإنه يصله ولا بد من رائحتهم النتنة ما يُفسد عليه حسه المرهف، وذوقه السليم!
{واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك..}.. {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم..} فهم العدو!
وعليك بالعكوف على دراسة وفهم الكتاب والسنة.. ذلك النبع الأصيل الصافي العذب.. ذلك المعين الذي لا ينضب عطاؤه وخيره.. ذلك الهادي إلى كل خير في الدنيا والآخرة.
عليك بالعكوف على كل من استمد علمه وفهمه - من سلفنا الصالح - من هدي الكتاب والسنة.. هذا إن أردت النجاة ورجوت أن تكون من الفرقة الناجية يوم القيامة.
قال صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدةً)، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي ).
ثلاث وسبعون ملة كلهم في النار.. وهي ملل المثقفين المهزومين.. إلا ملة واحدة.. وهي الملة التي تلتزم بغرس النبي صلى الله عليه وسلم وغرس أصحابه من الدين والفهم والاستقامة.
وكلمة أخيرة إلى هؤلاء المثقفين المهزومين.. فنقول لهم:
قد مر على الأمة أمثالكم الكثير الكثير من المهزومين.. فأين هم وأين أمة الإسلام.. أين باطلهم وكيدهم ومكرهم وثقافاتهم المهترئة.. وأين الحق المبين.. أين هم وأين دعاة الحق والتوحيد؟!
قد تكفل الله بحفظ دينه.. وأن لا تجتمع أمة الإسلام على باطلٍ أو ضلالةٍ أو خيانة.. فأنتم تحاولون عبثاً.. حملكم على المواجهة والمكر سوء الظن بالله تعالى!
مثلكم كأصلع الرأس يناطح جبلاً أشمَّ جذوره في الأراضين السبع، ونهايته في السماء!
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهِنُها ... ... فما أوهاها ولكن أوهى قرنَهُ الوعلُ
مثلكم كمثل الكلاب التي تنبح.. وقافلة الحق تسير!
إن كلمة الله هي العليا.. وكلمتكم - مهما زوقت وزُخرفت - هي السفلى!
{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.. ولكم ولتجمعاتكم وتكتلاتكم كلها الذل والخنوع والهوان مهما انتفشتم بالباطل، واعتززتم بالطواغيت!
نقول الحق ونذود عنه.. وتقولون الباطل وتذودون عنه!
آمنا بالله واتبعنا الرسول.. وآمنتم بالطواغيت واتبعتم الشياطين!
نجاهد في سبيل الله.. وتجاهدون في سبيل الطواغيت!
نألم كما تألمون.. ولكن نرجو من الله مالا ترجون!
قتلانا في الجنة.. وقتلاكم حطب النار!
{ليميز اللهُ الخبيثَ من الطيبِ ويجعلَ الخبيثَ بعضَهُ على بعضٍ فيركُمَهُ جميعاً فيجعَلَهُ في جهنَّمَ أولئك هم الخاسرون}. {فسيُنفقونها ثمَّ تكونُ عليهم حسرةً ثم يُغلَبون}.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(2/168)
عبد المنعم مصطفى حليمة؛ أبو بصير
25/8/1421 هـ
=============
هم العدو فاحذرهم
[الكاتب: سيف الدين الأنصاري]
بسم الله الرحمن الرحيم
من المعلوم أن العقلاء لا يطلبون المعرفة الذهنية من أجل تكديس المعلومات في ثلاجة الذاكرة الميتة، وإنما يطلبونها من أجل إيجاد تصور واضح يمكنهم من الحكم الصحيح على الأمر، بحيث يكون هذا الحكم بمثابة الموقف المبدئي من القضية المتناولة.
ولكن مهما تكن صحة هذا الحكم (الموقف المبدئي) فإن قيمته تبقى قريبة إلى العدم إذا لم تتحول إلى إجراءات عملية تترجم حقيقة الحكم النظري إلى واقع عملي يصنع الحدث أو على الأقل يؤثر فيه، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا}، أما أن يصبح طلب الحكم النظري من أجل الحكم النظري، أي من غير أن يبنى عليه أي موقف عملي فهي السفاهة التي تقدح في مستوى النضج الفكري والنفسي للإنسان.
ولذلك لم يكن القصد من إثارة علامات المنافقين هو الاستهلاك الكلامي الذي يتحول إلى جدل سفسطائي يقلب الحركة الإسلامية إلى ظاهرة صوتية تُستنزف طاقتُها في معارك جانبية، غالبا ما تؤخر ولا تقدم، إنما القصد أن نمتلك معرفة - أو بالأحرى ضوابط للمعرفة - تمكننا من الحكم الصحيح على الأشخاص الذين يمثلون رقما من الأرقام المشكِّلة لمعادلة الصراع، فنعرف بالضبط المواقع الحقيقية لهذه الأرقام بعيدا عن تأثيرات الأهواء والظنون البشرية. على أن المطلوب النهائي ليس هو الوقوف عند الحكم النظري الذي يختزل ساحة الصراع في عالم الأفكار الذهنية التي لا حظ لها من الواقع، ولكن المطلوب النهائي هو أن يترجم هذا الحكم إلى سياسة عملية تصوغ في النهاية مجموعة من المفردات الإجرائية يكون من شأنها أن تضمن التناسب الدقيق بين الحمولة الفكرية والممارسة الميدانية.
أولاً: هم العدو:
رغم كل ما قد يصدر عن المنافقين من المواقف والممارسات فإن أذهان البعض قد تتثاقل عن استحضارهم عند الكلام عن الأعداء، ويرجع ذلك - حسب نظري - إلى أمرين أساسين، أولهما: أن المشاركة في المظهر تساعد على كسر الحواجز النفسية مما يحدث نوعاً من الاطمئنان إلى الطرف الآخر، قد يصل عند الإنسان السطحي إلى الحد الذي تضيع معه قضية الهوية. وثانيهما: أن الأثر السيء الذي تحدثه أعمال المنافقين لا يقع ابتداء على المسلمين باعتبارهم أفراداً وإنما يقع عليهم باعتبارهم جماعة، مما يجعل "المسلم الفردي" لا يحس بالوجود الفعلي لحقيقة العدو في هؤلاء القوم. لكن - ومهما يكن السبب - فإن الرؤية الإسلامية ترفض مثل هذا الاسترخاء الذي يغيب معه الاستحضار الجدي للحكم الرباني القاضي بأن المنافقين يجب أن يكونوا حاضرين ضمن لائحة الأعداء. قال تعالى:{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُم} [المنافقون:04].
بل إن المتأمل في {هُمُ الْعَدُوّ} يقف على معنى كبير وعميق أرى من خلال المراقبة أنه غائب عن الأوساط الإسلامية رغم أهميته الكبيرة في التأثير على معادلة الصراع، وهو أنه إذا كان المشرك الوثني عدواً، والكافر الكتابي عدواً، والكافر المرتد عدواً، فإن المنافق ومن على شاكلته {هُمُ الْعَدُوّ}، بالألف واللام التي تفيد كمال حقيقة العدو فيهم، وهي إشارة واضحة إلى أن إدخال هؤلاء القوم في لائحة الأعداء ليس هو كمال المطلوب، وإنما المطلوب هو أن يوضعوا على رأس هذه اللائحة ليصبح النظر إليهم على أساس أنهم العدو الأول للجماعة المسلمة. قال تعالى:{هُمُ الْعَدُوُّ}، قال ابن عاشور: (والتعريف في "العدو" تعريف الجنس الدال على معين، لكمال حقيقة العدو فيهم)[التحرير والتنوير:13/241].
إن مجرد نظرة أولية إلى نوعية المواقف والممارسات الصادرة عن المنافقين، وإلى الصيغة التي تطرح بها، كافية لإدراك العلة الكامنة وراء {هُمُ الْعَدُوُّ}. أما إذا أضفنا إلى ذلك كله كون تلك الأعمال تتحرك تحت شعار الإسلام وباسمه، فإن عوامل التأثير تصبح حاضرة بشكل يشكل خطورة خاصة على الجماعة المسلمة، لأنها مواقف وممارسات مؤدية في النهاية إلى زرع التضليل وإضعاف الإرادة وخلخلة البناء من الداخل، وهذه الخطورة يصعب أن يشكّلها أي عدو آخر مهما بلغت قوته ومهما اشتدت عداوته.
وهنا لابد من التفريق بين كمال حقيقة العدو وكمال حقيقة العداوة، فإن الأول حديث عن مراتب الأعداء باعتبار الخطر الذي يشكّلونه على الجماعة المسلمة، والثاني حديث عن الأعداء باعتبار درجة الكراهية الكامنة في صدورهم اتجاهها. فرغم أن القرآن قد كشف لنا أن اليهود والمشركين هم {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:82]، إلا أنه يقرر - وبكل وضوح وتأكيد - أن المنافقين {هُمُ الْعَدُوُّ} الأول للمسلمين.
فليس الأشد عداوة هو دائما العدو الأول، إذ قد تكون عداوة العدو على أشدّها ولكنه يفتقد إلى مقومات التأثير الفعّال التي تجعله يشكل الخطر الأول على الجماعة المسلمة، وهذا يعني أن ترتيب الأعداء وإن كان يأخذ بعين الاعتبار مستوى العداوة فيهم، إلا أنه يستحضر أولا مستوى الخطورة التي يشكّلونها علينا، ومن هنا كان المنافقون {هُمُ الْعَدُوّ} لأنهم يملكون العوامل المساعدة على الوصول إلى أهدافهم مما يجعل عملهم أكثر تأثيراً وربما أعمق أثراً.
قال أبو السعود: (فإن أعدى الأعادى العدو المكاشر الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي) [التفسير:8/252].
ثانياً: فاحذرهم:
بعد أن تقرر أن الموقف المبدئي من أولئك المنافقين هو الحكم المتمثل في قوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ} لابد أن ننتقل إلى دائرة العمل الذي يجسد بالدليل الملموس أن هذا الموقف قد استقر حقيقة في الداخل الفكري والوجداني للمؤمن، وهذا يعني الدخول في نوع من الصراع سوف يكون فيه المنافقون هم الطرف الآخر.
لكن الخطة العامة التي ترسمها الرؤية الإسلامية للصراع مع هذا النوع من الأعداء مختلفة شيئاً مّا عن الخطة العامة التي ترسمها للصراع مع غيرهم، فهي تركز أولاً على تفعيل مبدأ الحذر، وذلك لتضمن إبطال المفعول السام لكل المحاولات الهادفة إلى التأثير على الجماعة المسلمة من الداخل دون أن تتثير الكثير من المشاكل الجانبية التي قد تستنزف الطاقة فيما يشبه الاستغراق في التناحر الداخلي الذي يحول المعركة باتجاه "الذات" (أتحبون أن يقال محمد يقتل أصحابه)[الحديث]، قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُم}.
قال القرطبي: (وفي قوله تعالى "فاحذرهم" وجهان، أحدهما فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم، والثاني فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك) [التفسير:18/126].
ورغم أن إجراءات هذا الحذر تختلف من واقع لآخر، تبعا للمعطيات الذاتية والموضوعية إلاّ أن هناك بعض الإجراءات العامة التي يمكن أن تحقق الحد الأدنى من الهدف نختصرها فيما يلي:
1) عدم الثقة بأقوالهم:
الذي تظهر عليه علامات النفاق وتتكرر منه بحيث تصبح من السمات البارزة في شخصيته يصير في عرف الشريعية الإسلامية ساقط العدالة!! وهذا يعني أننا مطالبون بأن لا نثق بأقواله، بحيث نسارع إلى تصديقها، لأننا باختصار لا نسلم بعدالة قائلها، خصوصا عندما نستحضر أن الكذب من السياسات المعمول بها عند المنافقين، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة:74].(2/169)
بل إن التفعيل الجدي لمبدأ الحذر يجعلنا نقابل كل التعليلات والتبريرات التي يحاول بها المنافقون التغطية على مواقفهم بتقديم الشك على الاطمئنان، وطرح العلامات الكبيرة للاستفهام، مهما كانت أشكال التعلل والتبرير، فالمؤمن لا تغره طلاوة الدهان، ولا ينخدع بمعسول الكلام، قال تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة:94].
هكذا بصراحة لن نصدقكم، ولن نثق بأقوالكم، قد عرّفنا الله بعلاماتكم، وأنبأنا بحقيقة تعللاتكم.
وإذا كنا مطالبين بإعمال حسن الظن مع المؤمنين، فإن من السذاجة المرفوضة والورع الكهنوتي أن نجعل المنافقين كالمؤمنين.
2) عدم الميل إلى آرائهم:
غالبا ما تكون أراء المنافقين مطبوخة في مصنع المصالح الذاتية، فهَمّ القوم محصور في أشخاصهم، لا يشيرون إلاّ بما يتناسب مع أعراف السلامة، خصوصا فيما يتعلق بقضية الصراع ومتطلباته. قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ} [التوبة:81]، كما أن المنافقين ليسوا من الذين يؤمن جانبهم، فقد يشيرون بما يرجع بالضرر على المؤمنين في محاولة إلى الإيقاع بهم.
وتكمن خطورة هذه الآراء في كونها تطرح بطريقة منمقة ومزوقة تجعلها آراءً وردية جدا، وأفكارا جملية جدا جدا، لأنها - في الحقيقة - غالبا ما تكون مريحة جدا جدا جدا.
لكن المؤمن لا يجعل مقياسه الأول في الحكم على الأمور وتقدير المسائل هو الكلمات المزوقة والمصطلحات المنمقة، بل يبحث عن الحقيقة الكامنة وراء الألفاظ، والمعاني المستترة خلف المصطلحات، ويهمه أولاً معرفة الحق والاهتداء به ولو كلفه المتاعب.
ولذلك يجعل الأصل في التعامل مع المنافقين هو الحذر من الميل إلى آرائهم، قال تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب:48].
3) التعبئة العامة ضدهم:
لكي نبطل مفعول الدور الذي تتحرك العناصر المنافقة في اتجاهه لابد من تفعيل دور الأمة، لأن الآخر يريد أن يجعل من أجوائها المفتوحة فرصة لدس التضليل وصناعة الأحابيل، وهذا ما يفرض ضرورة تنوير الرأي العام الإسلامي بالوعي الذي يمكنه من إدارك الخطورة الخاصة التي يشكلها المنافقون على الأمة، في عملية غرس وتعميق للفواصل الفكرية التي تمنع دون تداخل العناوين، وتساعد على اكتشاف أصحاب المنطقة الرمادية.
بل يجب أن تستمر هذه التوعية لتوجد الحساسية المفرطة اتجاه هذه "الفيروسات" فيما يشبه حالة من العرف العام الذي يحاصر العناصر المريضة ويحكِم الطوق حولها، فيدفعها إما إلى التوبة وإما إلى الاختناق.
ورغم أن الإسلام يسعى من خلال المنهجية الخاصة في الصراع مع المنافقين إلى احتوائهم باعتبارهم ظاهرة لا يمكن أن يسلم منها المجتمع الإسلامي، إلاّ أنه في المقابل يحذر بقوة من حالة الاسترخاء التي قد تولدها أجواء التعايش، مما يعني ضرورة الإبقاء على مساحة واسعة على مستوى الفواصل النفسية، فيكون التعايش من موقع التمايز، في خطة ذكية تتجه إلى تفريغ الأوراق التي بيد المنافقين من قدرتها على التأثير، وتنشئ عندهم حالة من البطالة قد تدعو البعض إلى مراجعة الذات.
4) الحذر من تعاونهم مع العدو:
إن المنافقين هم الأداة الأساسية لاختراق الصف الإسلامي، ويستوي في ذلك من يدخل لهذا الغرض ابتداء (غالبا من الصنف الأول)، ومن يجنده العدو لهذا الغرض بعد أن يكتشف أنه من العناصر الذين {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض}، والذين يتم التعرف عليهم من خلال المواقف المتأرجحة {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء}، لأنها توحي للخبراء بوجود حالة من الاهتزاز النفسي يَعرفون كيف يروّضُون حاصبها ليصبح من عناصر العمل الاستخباراتي.
وبعيدا عن السير في خط الأساليب العاطفية التي تميع مسألة التدين (الإلتزام) وتجعلها مختزلة في بعض المظاهر الشكلية يمكن أن نقول إن الحركة الإسلامية لازالت تعاني إلى الآن من الأثر السام للتعاون القائم بين المنافقين والكافرين، قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52].
ورغم أننا لا نستطيع القضاء على النفاق كظاهرة موجودة كان ولازال يمثلها نوع من البشر على امتداد التاريخ، مما يعني أننا لا نستطيع القضاء على الوجود الفعلي للمنافقين بشكل كامل، إلاّ أنه من الممكن جدا أن نَسْلم من المؤامرات والأحابيل التي ينصبها المنافقون للمؤمنين، عن طريق تحصين الساحة الإسلامية العامة والمفتوحة بالوعي الذي يساعد على الاكتشاف المبكر لتلك العناصر الدخيلة، وبالتوجيه التربوي الذي يوجد حالة من الحساسية اتجاهها، وبالوعي الحركي الذي يستطيع صاحبه أن يفرق بين المواضيع ذات الطابع العام والتي يمكن تناولها أمام الجميع، والمواضيع ذات الصبغة الخاصة التي تحتاج إلى حد لا بأس به من التحفظ والاحتياط. أضف إلى هذا كله ضرورة أن تأخذ الجماعات العاملة بالصيغ التنظيمة الكفيلة بغربلة الطفيليات والحيلولة دون تسربها إلى المواقع الحساسة.
لكن تجدر الإشارة إلى أن سياسة الحذر ليست هي الموقف النهائي اتجاه المنافقين، بل هناك ما هو أكبر من ذلك وهو الجهاد، جهاد المنافقين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، مما يوحي بالابتعاد عما تعارف عليه الناس من أساليب المجاملة الكاذبة التي تتغافل عن كل السلبيات والأخطار المهددة لإيمان الفرد ومصلحة الجماعة، فللحلم غاية، وللسماحة والتغاضي أجل، ولكل مرحلة من مراحل العمل ما يناسبها، إضافة إلى أن الاستهداف المباشر لبعض العناصر المنافقة قد يكون أكثر إيجابية وأبلغ في تحقيق المقصود.
على أن هذا الجهاد لا يصل - حسب رأي جمهور العلماء - إلى حد استعمال السيف [1]، بل يكون ببيان علاماتهم، والتحذير من خطورتهم، والكشف العلني لحقيقتهم ليُعرفوا على رؤوس الأشهاد، فيكون الجميع واعيا وعيا كاملا بقوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُم}.
[عن مجلة الأنصار]
1) هذا هو رأي ابن عباس رضي الله عنه وهو رأي أكثر العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين رغم علمه بهم عينا، ويبدو لي - والله أعلم - أن المنافقين الذين قال بعض العلماء بجواز استعمال السيف معهم هم المنافقون الذين تبثت عليهم أعمال مكفرة ثبوتا شرعيا وارتفعت في حقهم الموانع، بحيث صاروا داخلين تحت أحكام الردة.
==============
حقيقة الارتباط بين العرب والعروبة والإسلام
بحث شرعي مؤصل
[الكاتب: محمد المليفي]
توطئة يعربية..!
ازدادت في الآونة الأخيرة الحديث والكلام عن القومية العربية وأنها هي المحور الذي يجب أن يلتف الجميع حوله.. وهم في هذا النداء القومي قد أهملوا رأس الأمر كله والحصن الحقيقي لكل مجتمع وفرد.. ذلك الحصن المتمثل في الالتفاف الوثيق حول خاتمة الأديان والمهيمن عليها جميعا.. (الإسلام) في بحثنا السريع والشرعي هذا سنسلط الضوء على العلاقة بين العروبة والإسلام.. وسنرى كيف أن الإسلام جاء ليرقى بمفهوم العروبة ويصححه.(2/170)
لم يعمل الإسلام على تغييب وإلغاء القوميات، والجنسيات، أو القبائل والعشائر، والأوطان، من حيث وجودها ومن حيث انتساب الإنسان لتلك القوميات، والجنسيات، أو القبائل والعشائر، والأوطان وما أكثر الأدلة الشرعية الدالة على ذلك، فلم يمنع المرء من أن يقول عن نفسه بأنه عربي أو فارسي أو رومي، أو يمني أو شامي، أو قرشي أو خزرجي.. كما لم يمنعه من التعبير عن الحب والحنين لما ألفه من أوطان وديار.. فهذا وارد، والشارع أقره ولم يلغه، ولا أظنني بحاجة للاستدلال على مشروعية ذلك إذ أنه من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة.. لا يجادل فيها اثنان.
ولكن الذي منع منه الإسلام وعمل على إلغائه هو تلك العصبيات الجاهلية لتلك القوميات والجنسيات، ولتلك الأوطان، والقبائل، وغيرها من المسميات والانتماءات التي تغيب الولاء والبراء في الله.
كما منع أن يكون التفاضل بين الشعوب على أساس الانتماء لتلك القوميات والجنسيات والأوطان، وجعل ميزان التفاضل والتمايز بين العباد مقصورا ومحصورا على ميزان التقوى، والأحسن عملا بغض النظر عن الجنس أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الموطن، كما قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}.
لا يجوز أن ننتقص دور العرب كمادة لنصرة قضايا الإسلام وعقيدته، ارتبط مصيرهم بمصير هذا الدين عزا وذلا، عزا إن نصروه، وذلا إن خذلوه وتخلوا عنه، كما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا في الجاهلية أذلاء فأعزنا الله بالإسلام، فإذا ما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله)، وفي الحديث عن جابر بن عبد الله، قال: حدثتني أم شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليفرن الناس من الدجال حتى يلحقوا بالجبال. قالت أم شريك: يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال: هم قليل).
فسؤال أم شريك عن العرب يومئذ يوحي بما يجب على العرب خاصة من نصرة لهذا الدين؛ وكأنها تريد أن تقول: كيف يؤول أمر الناس إلى أن يلتحقوا بالجبال خوفا من الدجال.. والعرب موجودون.. " فأين العرب يومئذ " يا رسول الله الذين من شأنهم نصرة هذا الدين ودفع طغيان الطواغيت؟! فأجابها عليه السلام " هم قليل "؛ أي هم قليل يومئذ..!
ولعل هناك سؤالا يطرح نفسه: لماذا هم قليل؟!
أجاب علماء الحديث والفقه بالقول هم قليل لأنهم مادة الجهاد والاستشهاد.. فما أن ينادي منادي الجهاد في أي بقعة من بقاع الأرض إلا وتجد من العرب من يلبي ذلك النداء.. وفي كثير من الأحيان يكونون قادة الجهاد وعصبه وركنه وطليعته.
وتعليقا على كلام العلماء الذي صدر منهم في القرن الرابع الهجري أقول: لم يخطأ علمائنا في تفسير هذا الحديث، وأدل شيء على هذا ما نراه ونسمعه حتى في هذه الأيام حيث ما من موقعة ولا ساحة يعلن فيها الجهاد إلا ويفزع لها نخبة من شباب العرب المسلم المجاهد ملبين نداء الجهاد في سبيل الله متحدين الصعاب الجمة التي تعترض مسيرتهم وحركتهم وجهادهم.. وما أن يعلم العدو أن في الساحة مجاهدين من العرب إلا وتراه يحسب لواحدهم ألف حساب لما يرى منهم من الشجاعة، والرجولة، والإقدام.. وما نراه ونسمع عنه في ارض الشيشان مثلا عنا ليس ببعيد.
ومما جاء في الحديث في فضل العرب (أحبوا العرب وبقاءهم، فإن بقاءهم نور في الإسلام، وإن فناءهم ظلمة في الإسلام) ولقد علق كثير من علماء الحديث على هذا الحديث بالقول إن كان قد ضعف سنده فمتنه صحيح لأن مجمل نصوص الشريعة تدل على صحته ومن ذلك ما جاء في فضل الشام وأهله، كما في قوله عليه السلام (عليكم بالشام، فمن أبى فليلحق بيمنه، وليستق من غدره، فإن الله عزو جل قد تكفل لي بالشام وأهله). أي تكفل الله لنبيه بنصرة هذا الدين بالشام وأهله.. ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه، وقال صلى الله عليه وسلم : (ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام)، وقال عليه السلام : (لن تبرح هذه الأمة منصورين أينما توجهوا، لا يضرهم من خذلهم من الناس حتى يأتي أمر الله، وهم بالشام). وقال أيضا : (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)، وقال عليه السلام : (عقر دار المؤمنين بالشام). وغيرها كثير من الأحاديث الصحيحة التي تدل على فضل الشام وأهله..
والشام وأهله جزء من العرب، ولكن ننوه بتنويه أكثر من مهم وهو أن لا يذهب أحد الظن أن البعث السوري مثلا يشملهم هذا الحديث.. كلا والله وألف كلا فالله أكرم وأجل من أن يجعل أولياؤه وجنود دينه من أهل البعث أو النصيرية.. حاشا لله ذلك إنما أولياء الله من أهل الشام هم المؤمنون الموحدون لله حق توحيده..وفي مقالنا القادم بإذن الله سنستكمل معكم العروبة والإسلام..
* * *
تحدثنا في مقالنا السابق عن إلغاء الإسلام للعصبيات الجاهلية وكل أشكال وأنواع الانتماء الجاهلي وكيف أنه أبقى الهوية ولم يشطب الانتماء الشخصي.. {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}.. ثم عرجنا في الحديث عن مكانة العرب في الإسلام وذلك الارتباط الوثيق بينهما.. واليوم سنستكمل الحديث عن تلك المكانة..
هذه المكانة للعرب في الإسلام لا يجوز أن ننكرها أو نجحدها، ولكن لا يجوز أن تكون كذلك مدعاة أو مبررا للدعوة إلى العروبة أو " القومية العربية " التي تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة والحياة، وعلى تكريس مبدأ عقد الموالاة والمعاداة، وكذلك تقسيم الحقوق والواجبات على أساس الانتماء القومي للجنس العربي بغض النظر عن العقيدة والدين والعمل.. ومبدأ {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فالقومية العربية أو العروبة بهذا المفهوم الآنف الذكر هي دعوة عصبية جاهلية نتنة حرمها الإسلام وحذر منها أيما تحذير، كما في الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن).
وقال عليه السلام : (من ادعى دعوى الجاهلية فإنه جثا جهنم ـ أي من جماعات جنهم ـ فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ فقال: وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله التي سماكم: المسلمين، المؤمنين، عباد الله).
وجاء في الحديث المشهور : (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب) وغيرها كثير من النصوص الشرعية التي تحرم العصبيات القومية التي تفاضل، وتوالي وتعادي على أساس الانتماء القومي أو غيره من الانتماءات العصبية الجاهلية.
ومما سبق بيانه فيه رد على بعض الدعاة والكتاب المعاصرين المصابين بلوثة الهزيمة النفسية والفكرية الذين يحاولون تزلفا مداهنة القومية والقوميين العرب على اعتبار أن ما كان من خلاف وتنافر بين الإسلام والإسلاميين من جهة وبين العروبة أو القومية والقوميين العرب من جهة ثانية لم يكن مبررا وليس له داع إذ لا تعارض بين الإسلام والعروبة، ولا بين الدعاة إلى الله تعالى وبين الدعاة إلى القومية العربية أو العروبة.. فكل منهما حاضن للآخر.. لذا فإن المعركة القديمة الحديثة بين الطرفين لا بد من أن تهدأ وتزول، ليحل مكانها التلاقي والوئام!(2/171)
كثير من الدعاة والكتاب المعاصرين ـ عن قصد أو غير قصد ـ لا يفرقون بين العرب والعربي والعربية وبين العروبة، ولا بين الوطن والموطن وبين الوطنية، ولا بين العشيرة أو القبيلة وبين العشائرية أو القبلية، ولا بين الناس، والإنسان، وكرامة الإنسان وحقوقه وبين الإنسانية كشعار ومبدأ يغيب عقيدة الولاء والبراء في الله.. فيخلطون بينهما عند الحديث عنهما وكأنهما شيء واحد في الدلالة والمعنى، فيخلطون بذلك حقا مع باطل.. فيضلون ويضلون!
تراهم يستدلون بالأدلة الدالة على شرعية مصطلح ومعنى العرب، والعربي، والعربية على شرعية مصطلح ومعنى العروبة الدال على معاني التعصب القومي المقيت والمذموم..! وتراهم يستدلون بالأدلة الدالة على شرعية مصطلح ومعنى الوطن، والموطن، وحب الديار وموطن المنشأ على شرعية مصطلح ومعنى الوطنية الدال على العبودية للوطن من جهة عقد الموالاة والمعاداة، وكذلك الحقوق والواجبات على أساس الانتماء لحدود الوطن.. وتغييب وإلغاء كل ولاء وبراء يتعارض مع الولاء الوطني.. كما هو مشاهد في كثير من الأمصار!
وتراهم كذلك يستدلون بالأدلة الدالة على شرعية مصطلح ومعنى العشيرة أو القبيلة ثم يقلبون مفهومها ويستدلون بها على شرعية أن يكون الولاء والمعاداة من اجل العشيرة أو القبلية، وبأن الحقوق والواجبات تقام على أساس الانتماء القبلي العشائري..! وتراهم كذلك يستدلون بالأدلة الدالة على شرعية مصطلح ومعنى الإنسان، وكرامة الإنسان وحقوقه على شرعية مصطلح ومعنى الإنسانية كمبدأ يعلن الموالاة والمؤاخاة بين الإنسانية جمعاء بغض النظر عن اعتبار العقيدة والدين.. وميزان التقوى وأيكم أحسن عملا.. وهذا من التلبيس والتضليل الذي ينبغي أن نحذره ونحذر منه.. وهو كذلك علامة على حجم الهزيمة النفسية الفكرية التي يعاني منها أولئك الدعاة أو الكتاب أمام التيار القومي العروبي المهترئ المتآكل التي لم تجن الأمة منه إلا الذل والهزيمة، والتخلف والدمار!
الاتجاه القومي العروبي ـ منذ قرابة القرن وإلى الساعة ـ إضافة لما جلبه على الأمة من ذل وهزائم، وتخلف ودمار فهو ـ بحكم مناقضته لعقيدة الأمة ودينها ـ لم يستطع أن يحقق شيئا من أهدافه التي ملأ بها الدنيا ضجيجا وعويلا..!
على المستوى الوحدة العربية هل حققوا شيئا..؟ بل هم من تفرق وتشرذم إلى آخر، ومن ضعف إلى آخر، والعجيب حقا أنهم يستدلون بالوحدة الأوربية على إمكانية تحقيق الوحدة العربية على أساس قومي..
ولهؤلاء نقول:
الوحدة الأوربية لم تقم على أساس قومي، فهي من قوميات شتى ومختلفة.. ولكن الذي جمع فيما بينها على تعدد قومياتها أمران: الدين.. والمصلحة، لذا نجدهم إلى الساعة لم يسمحوا بانضمام تركيا إلى وحدتهم رغم أنها دولة علمانية ويعادي العسكر فيها كل ما له علاقة بالإسلام والمسلمين، والسبب أنها لم تصنف كدولة مسيحية كباقي دول الاتحاد الأوربي!
القوميون العرب وإن كانوا قد يظهرون بأنهم حريصون على المصلحة إلا أنهم ليسوا بحريصين على الدين الإسلامي، ولا على التعامل معه كسبب لا يمكن للعرب أن يجتمعوا إلا عليه.. ولا يمكن أن يكون لهم شأن إلا به.. ثم ليتهم انتهى موقفهم عند عدم الاهتمام والحرص.. بل تعدوا ذلك إلى إعلان الحرب الشعواء على الإسلام وأهله وكل ما يمت لهذا الدين من صلة.. فحق عليهم هذا الذل والتفرق والعذاب، والدمار!
وهؤلاء القوميين حتى على المستوى التضامن والدفاع العربي المشترك لم يحققوا شيئا.. فهم بعضهم على بعض أعداء ألداء أكثر مما هم على أعداء الأمة من خارجها.. بل هم يد مع العدو الخارجي المستعمر على بعضهم البعض!
وكذلك على مستوى التضامن الاقتصادي والتكافل الاجتماعي العربي لم يحققوا شيئا.. فهم من تخلف إلى تخلف، ومن فقر إلى فقر.. ومن جهل إلى جهل!
وحتى دندنتهم ومسرحياتهم عن تحرير البلاد المغتصبة في فلسطين وغيرها لم يفعلوا شيئا فيه خير.. بل هم من خيانة إلى خيانة.. ومن هزيمة إلى أخرى.. إلى أن أوصلوا الأمة إلى موصل لا تحسد عليه!
ومع كل ذلك وبعده نجد بعض الكتاب المعاصرين وبعضهم من ذوي الاتجاه الإسلامي أيضا يمدون لهم حبلا من القوة والحياة بمداهنتهم، والاعتراف بمنهجهم البائد وتوجههم القومي.. على اعتبار أنه لا تعارض البتة بين العروبة والتوجه القومي وبين الإسلام، وأن المعركة بينهما مفتعلة لا مبرر لها.. {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا}.
معاشر السادة النبلاء :
كثير من هذا البحث الموجز عن القومية العربية قد أستقيناه من كتابة الشيخ عبد المنعم، فنسأل الله له التوفيق والسداد..
===============
الرد المبين على ما قاله ممثل "التجمع السلفي"
الرد المبين السلفي على ما قاله ممثل "التجمع الإسلامي السلفي"!
[الكاتب: حامد بن عبد الله العلي]
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
لم يرعني غداة يوم من أيام العيد، إلا وأحد الإخوة يتصل قائلا: أنه يجب أن تقرأ ما قاله ممثل "التجمع الإسلامي السلفي " للرأي العام بتاريخ [1/2/2004م]، فقلت له:
لقد تكاثرت الظباء على خراش ... ... فما يدري خراش ما يصيد
ثم إن هذا ليس وقته، فالأمة كما ترى، قد ابتليت بهذه الهجمة الغربية الصهيونية من كل حدب وصوب.
قال: ويحك!! هذا فيما نحن فيه.
قلت: وما ذاك.
قال: إنه يحوم حول أن يقول للناس؛ إنما هذا النظام العالمي الجديد بقيادة أمريكا، للقضاء على "الإرهاب"، وإشاعة الرفاه والأمن، والاستقرار، وما على أمريكا من بأس، فقد أثبتت مصداقيتها!
والأمر يختلف هذه المرة، فهو ناطق يمثل غيره، ممن يتكلمون باسم طائفة من الحركة الإسلامية، وإذا لم يرد عليه، ظن الناس أنه يقول ما لاتثريب على قائله في الشريعة.
فما صك سمعي والله شر مما سمعت ذلك اليوم، ثم شر مما قرأت، لما قرأته، وقد نزل بي من الهموم ما الله به عليم.
وقد وجدت فيه مغالطات كثيرة غير أن أخطرها ثلاث طامات:
1) تبرئة أمريكا من أي ضرر على العالم الإسلامي، وقوله كما قال بحروفه جوابا على سؤال مندوب الصحيفة: هل تؤيدون إعلان الكويت الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية؟
قال: (هذا أتى في شكل طبيعي نتيجة لمواقف الكويت والكويت وضعت كل مستقبلها وكل إمكانياتها وسخرت كل شيء لإنقاذ الشعب العراقي وتحريره!! وبالتالي فان من الطبيعي أن تكافئ أميركا الكويت، وأن تجعلها حليفا استراتيجيا!! وهذا رد على الذين شككوا في عدم مصداقية أميركا تجاه الكويت!! وذلك عندما زار الرئيس الأميركي بوش المنطقة ولم يزر الكويت وان هذا معناه تنكر للكويت، كما قال عبد الباري عطوان وغيره، و "الاعلان" رد بليغ أن أميركا لا تتخلى عن حلفائها وكذلك فان الكويت ليست الدولة الوحيدة التي تعاونت، بل هناك البحرين ومصر اكبر الدول العربية) !!! حسبنا الله ونعم الوكيل.
2) الترحيب بالوجود الأمريكي في المنطقة وبالتحالف معها، ويتحدث عنه كأنه فتح كبير كما قال بحروفه بعد أن أوجد الأعذار للوجود الأمريكي وكأنه لا يملك أي تصور عن فداحة الأمر: (والحمد لله لاحظنا أن الوضع في الكويت هادئ والوضع الاقتصادي إلى الأفضل والاستثمارات بدأت تنتعش والأموال بدأت تعود إلى البلد، واعتبار الكويت حليفا استراتيجيا لأميركا أعطى اطمئنانا للسوق، وهناك خطط كبيرة للاقتصاد وهذا ما نحتاجه وهذا يعود على استقرار المنطقة ورفاهية شعوبها وامنها، فالى متى تعيش هذه الشعوب في حالة قلق واضطراب؟) !!!(2/172)
3) بدا كأنه لايهمه سوى الكويت، وأما ما يصيب الأمة من هذا العدو الأمريكي الخبيث الصائل عليها فلا شيء!! ولم يعبأ بأي خطر للهيمنة الثقافية الأمريكية على العقيدة - لاسيما الولاء والبراء - أو الشريعة، أو الأخلاق الإسلامية التي سيفسدها الوجود الأمريكي، بما يحمله بطبيعة الحال من ثقافة وأهداف وسياسة خطرة على شعوب المنطقة، تجاهل ذلك في اللقاء، ولم يتطرق عند الحديث على الوجود الأمريكي - وهو يمثل تيارا إسلاميا - سوى إلى الرفاه الاقتصادي الذي يبشر به الوجود الأمريكي، والأمن والاستقرار الذي ستنعم به المنطقة في ظله!!!
وما إن فرغت من قراءته، حتى كدت أن أترحم على "أندرو باسيفتش"، المدير التنفيذي لمعهد السياسة الخارجية في واشنطن عندما قال عن "المحافظين الجدد": (ومع إدراكهم للفوضى التي سقطت فيها الثقافة الأمريكية، يبقى المحافظون الجدد قوميين بشكل كبير، وبالفعل فإن الكتاب "المحافظين الجدد" يلمحون أحيانا إلى أن حملة صليبية مظفرة في سبيل قضية سامية، من شأنها بث الحياة في الشعور المتضائل بالهوية الأمريكية، وهم لا يعترفون بأي حدود لما يمكن أن تحققه ممارسة أمريكا بقوة لمهمتها القيادية.. ثم يقول؛ هل ستستمر الصين في مقاومة موجه التحول الديمقراطي المتصاعد؟ إن الإجابة على ذلك بسيطة في نظر الكاتب الصحفي جورج ويل، وذلك من خلال قيام الولايات المتحدة بسياسية "حقن الصين بالروح الأمريكية "، وبالتالي " إبطال الأدوات التي يستخدمها الحكم الصيني للسيطرة على المجتمع) [مجلة فيرست ثينغس مارس 1998م مقال بعنوان "THE IRONY OF THE AMERICAN POWER"].
ولكني مع ذلك شعرت بالأسى، والخسارة العظيمة، فقد تم للآسف حقن جزء لا يستهان به من أبناء الفكر الإسلامي - إذا كان الناطق حقا يمثل التيار الذي يمثله، ولم يصدر منهم تبرؤ مما قاله حتى كتابة هذا المقال - بـ " الروح الأمريكية "، حتى لقد صاروا أكثر " روحانية " من المحافظين الجدد أنفسهم!!
حتى كأن الذي أجرى معه اللقاء قد اندهش، عندما سمع ممثل التيار الإسلامي الذي طالما " هجر المبتدعة "!! يكيل المديح لأمريكا وما حققت للمنطقة، فقال: (سيفسر كلامك انك تمتدح أميركا بصورة كبيرة؟.
الممثل: أنا لا امتدح بل أتعامل مع الواقع.
هل هذا يعني أن أميركا لم تضر العالم الإسلامي؟
الممثل: اعطني مثالا واحدا!!
الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية؟
الممثل - في تهرب واضح من اتهام أمريكا -: موضوع فلسطين موضوع شائك ويحتاج إلى تفصيل، فأميركا لم تكن في الصورة منذ البداية، بل بريطانيا هي التي وعدت بوعد بلفور ثم تخلت عن العرب والمسلمين والفلسطينيين، هذا هو الأصل) !!!
إنه نفس الكلام الذي يقوله ممثلو الخارجية الأمريكية.
وواضح جدا، أن "حقنة الروح الأمريكية "، المخصصة للكويت - وليس الصين - قد وصلت إلى النخاع، وأشربها القلب، حتى طفحت فعرق منها الجسد، وفاض، ثم تحول إلى بحيرة، تسبح فيها بعض الحركات الإسلامية، حالمة بمستقبل زاهر، لتجارتها ومصالحها الحزبية والشخصية تحت ظل الهيمنة الأمريكية على منطقتنا!! أما ماسوى ذلك فيبدو أنه لم يعد ذا أهمية!
إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها.
لكن السؤال الكبير هنا: ترى ما هو السبب؟
ما هو السبب الذي أدى بحركة إسلامية، تتبنى في الأصل نهجا عقديا صارما، حتى دفعها ذلك إلى مراغمة حركات إسلامية أخرى لإتهامها بالخروج عن نهج السلف، والتحذير من شخصيات إسلامية باعتبارهم "مهرطقين"، أن يتحولوا إلى مرحبين بالتحالف الاستراتيجي - وما يقتضيه من الولاء والبراء على أساس القانون الدولي العلماني - مع "المحافظين الجدد"، "المسيحين المتصهينين" في واشنطن؟!! فيغضون الطرف عن كل "هرطقة" المحافظين الجدد، وعبثها بالعالم والمنطقة العربية؟!!
كيف تحول فكر شديد الحساسية لانتقاد السلطة، يرفض إزعاج السلطة بأي شيء يكدر خاطرها، خوفا أن يتطور ذلك - ولو بعد قرن من الزمان - إلى "سفك الدماء" و "حدوث الفتن"، تحول فجأة إلى "مهلل"، أو لنقل على الأقل غير مبال بسفك أمريكا آلاف الدماء البريئة في أفغانستان والعراق، وعن طريق الصهاينة في فلسطين، ودعم الهند ضد باكستان، وملاحقة العلماء النووين الباكستانين.. إلى آخر ما تفعله في كل بقاع الإسلام من ملاحقة لكل جماعة جهادية، أوقوة إسلامية يحتمل أن تبرز.
وإحداثها الفتن في بلاد الإسلام، وكلما هيمنت على بلد، باحتلال عسكري أو غيره، ظهرت وعلت - ليس الجماعات الإسلامية السنية الأخرى المخالفة لمنهج السلف! - بل كل ما هناك من قرون الشيطان!!
كيف انتقل هذا الفكر هذه النقلة النوعية، وفي وسط هذا الصخب العالمي المتعالي بالسخط على سياسة أمريكا الخارجية، حتى من عقلاء المفكرين الأمريكيين أنفسهم، فشذ هذا الفكر، لوحده، عن ذلك كله، وفاجأ الأمريكيين بتصريح ممثل هذا الفكر، أنه لا يوجد مثال واحد، على أن أمريكا أضرت بالعالم الإسلامي!! وأن مشروعها الذي تبشر به في البلاد العربية، يحمل الرفاه والاستقرار، وينقذ المنطقة من الاضطراب الذي طالما عانت منه!
بلا ريب، وواضح جدا أن أمريكا لم تطلب كل هذا، لأنها لم تحلم به أصلا، أعني أن يعطي ممثل لحركة "سلفية"، شديدة التمسك بالتراث، تصر على تحكيم الكتاب والسنة في كل شيء، لا تتسامح مع صغار البدع والإحداث في الدين، يعطي أمريكا صك البراءة، فاتحا ذراعيه للمشروع الأمريكي إلى هذه الدرجة!
لقد بث هذا التصريح " الكارثي"، في روح "المحافظين الجدد " رياحا مفعمة بالأمل الرحب، بتحويل الشعوب العربية كلها إلى "محافظين جدد"، بحقنة أمريكية ممزوجة بالشريعة الإسلامية على نهج السلف الصالح!!
ترى هل توقعوا ذلك، يوما من الأيام؟
فكيف ليت شعري حدث هذا؟ إنه أمر محير حقا، إنها ظاهرة سياسية واجتماعية فريدة بحاجة إلى دراسة متأنية من جميع النواحي، لاسيما وهي ظاهرة بدأت تنتشر فعلا، كما نلمسه في الواقع، في هذا الفكر المنتسب إلى "السلفية"، في منطقة الخليج؟
يا للعجب والله إنه لأمر محير فعلا!!.. لو قصه قاص على الأولين لما صدقوه، ولو تلاه تال على السالفين لكذبوه!
لكن ما هو السبب؟
هل هو حب الدنيا، والركون إليها، وطلب الرفاه،الذي جعلهم ينسون إنتماءهم إلى الأمة، ولايهمهم سوى رفاههم في بلدهم، ولو على حساب الدين، وهي حالة الغثائية التي ورد التحذير منها في الحديث، وليت شعري أي رفاه هذا، إنه مجرد ارتياح لـ "ثقافة الاستهلاك" التي بدأت تنتشر، فهل هذه هي تلك الفتوحات الأمريكية العظمى للمنطقة!!
هل هو جهل أن هدف الدعوة الأساسي هو رعاية الدين، وحماية العقيدة، حتى لو صار الداعي غريبا، وليس مسايرة الواقع، طمعا في مكاسبه، ألم يقل كل نبي {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين}.
هل هو خلل في فهم قاعدة تعارض المصالح والمفاسد، في الشريعة الإسلامية، ووضعها في غير موضعها؟!!(2/173)
أم هو خلل في صميم الفكر في بعض المنتمين إلى الحركة الإسلامية في الكويت نتج عن جعل الشرع تبعا للواقع والرضوخ له، فالواقع أصبح مصدر الحكم الشرعي، لا موضعه!! كما تجد ذلك في فلتات لسان ممثل هذا التيار الإسلامي، فكأنه يقول؛ هذا ما يريده الناس، فإن قلنا بخلافه، تركونا فخسرنا دنيانا! وهكذا فرغوا الدعوة الإسلامية من محتواها، فتحولت إلى أحزاب سياسية همها إرضاء أهواء الحكام، أو شهوات الناس!! ونتج عن النظر إلى مصلحة الإسلام من خلال مصلحة الحزب السياسي، وأسباب بقاءه وتمتعه بنفوذه في البلد الذي يوجد فيه فحسب.
أم هي حالة فصام شديدة، سببها التعارض بين المصالح الحزبية، والمصالح الإسلامية؟! فالمصالح الحزبية أصبحت تمثل مجموعة من التجار "الإسلاميين" المنتفعين بشركاتهم، ومؤسساتهم، ونفوذهم، من الحملة الأمريكية، وكأن لسان حال هذا الفكر يقول: فما المانع أن تكون مصلحة الإسلام، هي مصلحة الحملة الأمريكية؟!! والنصوص الشرعية قابلة للتأويل، فلماذا لا نستفيد من فكرة التأويل - التي حرمناها - لكي نجعل نصوص الشريعة، قابلة للنظام الأمريكي الجديد؟!!
أم هل هي إفرازات انعكاسية نفسية، بسبب الإرتعاب من هذه الترسانة الأمريكية التي تجوب الخليج والعالم العربي؟! فسببت ذهول الفكر عن الرؤية الصحيحة؟!
أم هي مناورات سياسية، لكن جاءت ممن لا يملكون خبرة كافية فيها، فلايتم اختيار الكلمات المناسبة، التي تبقي على التوازن، بين فائدة المناورة، والحفاظ على الثوابت التي تلقى إلى الجمهور لئلا يحدث لديهم إرتباك في الوعي؟!!
أم هذا هو حقا، باكورة ثمرة العولمة أو "الأمركة"، لكنها فاقت التوقعات، فضربت في صميم الفكر الإسلامي، حيث حولته إلى إسلام أمريكاني صرف!!
والحق الذي لاريب فيه أن مجموع ما تقدم هو السبب، ليس لدى كل شخصية مصابة بهذه اللوثة، ولكن مجموع هذه الأسباب مبثوثة في المجموع، وهذا مما يؤكده الواقع مصدقا لآيات الوحي التي تحذر من إزالة معالم فريضة الولاء والبراء، لأن ذلك من شأنه أن يثمر انتكاسا خطيرا في المفاهيم، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (أي عرى الإسلام أوثق؟ قالوا؛ الصلاة، قال؛ حسنة وما هي بها! قالوا؛ صيام رمضان، قال؛ حسن وما هو به! قالوا؛ الجهاد! قال؛ حسن وما هو به، قال؛ أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله وتبغض في الله) [رواه أحمد من حديث البراء من عازب رضي الله عنه].
ورحم الله الإمام أبا الوفا ابن عقيل رحمه الله تعالى، إذ قال: (إذا أردت أن تعرف محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى ازدحامهم في أبواب المساجد ولا إلى ضجيجهم بلبيك، ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة).
سبحان الله، صدق عمر رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية).
أخطر ما في هذه الحالة الغريبة:
أخطر ما ذكره صاحب اللقاء الممثل عن حركة إسلامية كويتية هو:
1) ارتماءه في أحضان أشد الدول عداوة للإسلام، وتأييده عقد الولاء معها!!
2) منح أمريكا صك البراءة مجانا، لا.. بل مقابل محاربتها للإسلام، مما يعني إضفاء الشرعية الإسلامية، لخطط "المحافظين الجدد" في العراق والخليج، في ذهول تام عن خطر استعلاء الكافر
على بلاد الإسلام، فلم ير الناطق باسم هذا التيار الإسلامي، أي وزن لخطورة الارتماء في أحضان الأجنبي على العقيدة الإسلامية، الذي هو نتيجة حتمية لقبول استعلاء قوة عظمى، على الدول الضعيفة.
لقد نطق بأسوأ حكم براءة على أكبر مجرم في التاريخ، وتجاهل تماما خمسة جرائم أمريكية تحملها معها أمريكا إلى العالم، لا تقاس بها جريمة:
1) جريمة التخريب الثقافي، والأخلاقي.
2) جريمة تبني أمريكا عقيدة الحرب الوقائية وخطرها على الأمة الإسلامية خاصة.
3) جريمة إقامة وحماية واستغلال النظام الربوي العالمي للهمينة على الشعوب.
4) جريمة حماية ودعم والمشاركة في جميع جرائم الصهاينة عبر التاريخ.
5) جريمة تبني عقيدة ونهج "المحافظين الجدد" مع خطورتهم على الأمة الإسلامية.
وقد نتج عن ذلك، احتلال ثلاث دول إسلامية، اثنتين تحتلها الجيوش الأمريكية، وهي العراق، وأفغانستان، والثالثة يحتلها الصهاينة بدعم أمريكا. وحماية ودعم الحكام الطغاة أيضا، والهيمنة على الأمة عن طريقهم. وما نتج وينتج عن ذلك من فساد، وسفك للدماء، ومحاربة الإسلام، جرائم لا تحصى، وهي ينبوع مستمر ينضح بالجرائم، كل ذلك آثامه، في رقبة السياسة الأمريكية كما سنبين هذا بالتفصيل فيما سيأتي.
هذا كله، لم يعجب الناطق باسم "التجمع الإسلامي السلفي"! ولم يعده شيئا، ولهذا قال بكل ثقة " أعطني مثالا واحدا على محاربة أمريكا للإسلام "؟!!
والعجيب أنه أيضا، لا يلفت النظر إلى اعتبار أصل الولاء والبراء بتاتا في هذا الباب، مع ما يمليه التحالف الاستراتيجي من أبعاد خطيرة جدا تتعارض والعقيدة الإسلامية، وأحكام الشريعة الإسلامية في علاقات الدول المبنية على أصول الدين.
وقد كان من المتوقع، أن يكون واضحا لدى جميع التيارات الإسلامية في الخليج، أنه من أولى الأوليات، واعظم الواجبات على الحركة الإسلامية، مواجهة هذه العولمة " الأمركة "، وما تمليه من إفرازات خطيرة، على مجتمعاتنا، وأخطر ما فيها أن نتيجتها الحتمية - والتي ستظهر عبر الأجيال بجلاء لو استمرت لا قدر الله - هي ما يلي:
جريمة التخريب الثقافي:
فالأمركة ستعني، انتشار هذه الثقافات المدمرة لا محالة: انتشار ثقافة التبعية، وهي أخطر شيء على العقيدة، وثقافة الاستهلاك، وثقافة المادية، ثقافة عبادة الجنس، وثقافة الجريمة والعنف اللذين هما أخطر جراثيم " الأمركة"، وثقافة التهاون القيمي، أو خلخلة النسق القيمي.
هذا وما أجهل من يظن أن أمريكا لاتهتم بنشر ثقافتها، إنما تريد احترام التعددية الثقافية في إطار الحفاظ على مصالحها المشروعة، وما أجمل ما قاله المفكر الدكتور عبد الوهاب مسيري عن الفكر المادي الغربي بشكل عام: (يمكن القول بأن النموذج الكامن وراء جميع الأيدلوجيات العلمانية الشاملة - ومثل لها بالليبرالية أيضا - هو ما يسمى "التطور أحادى الخط" UNILINAR، أي الإيمان بأن ثمة قانونا علميا وطبيعيا واحدا للتطور تخضع له المجتمعات والظواهر البشرية كافة، وأن ثمة مراحل تمر بها كل المجتمعات البشرية تصل بعدها إلى نقطة تتلاقى عندها سائر المجتمعات والنظم بحيث يسود التجانس، وهذا ما يسمى أيضا "نظرية التلاقي" CONVERGENC THEORY، والتلاقي هو توجد النماذج كلها بحيث تبع نمطا واحدا وقانونا عاما واحدا، هو قانون التطور والتقدم بحيث يصبح العالم مكونا من وحدات متجانسة، ما يحدث في الواحدة يحدث في الأخرى، ويرى بعض المؤرخين أن العصر الحديث هو هن حق عصر نهاية التاريخ) أهـ [الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ 267].
وما أصدق ما قاله توماس مان الذي قال عندما رأى استعار الموجه الصهيونية - الأمريكية: (إن عكر العقول والنفعية الفظة والرجعية السياسية والكراهية العنصرية وكل علاقات الاضطهاد الروحي قادمة على الطريق، كما ذكر عنه ذلك موريس مندلسون في " روائيون أمريكيون ").
لقد تجاهل الناطق باسم "التجمع الإسلامي السلفي"، تجاهل تماما دور أمريكا في بث التخريب الثقافي، وتحويل المجتمعات إلى مرتع للثقافة الغربية التائهة.(2/174)
فهلا إذ نسي كل ما تفعله الثقافة الأمريكية من تغريب وتخريب، نراهما كل يوم في العالم الإسلامي، هلا تذكر قبل أن يمنح أمريكا صك البراءة، تلك الحملة الشعواء التي أطلقها مجموعة من القساوسة المنتمين إلى حزب "المحافظين الجدد"، على شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، واتهامه بأفظع التهم، في عهد هذه الإدارة الأمريكية!!
إن هؤلاء القساوسة الآباء الروحيين لحزب "المحافظين الجدد"، الذين يعج بهم البيت الأبيض، المفترين على الإسلام، المحرضين على أهله، ليسوا سوى امتداد لتعصب طفحت به الكنيسة الغربية، وما أروع ما قاله مراد هوفمان في كتابه "الإسلام ديانة في صعود" [ص 164]: (إن من الواضح أن الكنيسة لاتزال تحرم محمدا من إعادة الثقة به، وتصحيح صورته ورد الاعتبار له، لأنها لاتزال أسيرة إنكارها له، ولن يجرؤ أي شخص من المعسكر المسيحي، حتى وإن كان لا يؤمن بأن الإسلام عقيدة مضللة وأن محمدا دجال ومحتال، لا يستطيع أن يتخيل أن يعترف بالقرآن ككتاب مقدس، مثله مثل الكتاب المقدس للعهدين القديم والجديد، لان الاعتراف بمحمد رسولا، أي وعاء لوحي الله، يعني ضمنا الاعتراف بالقرآن ككتاب مقدس والوصول إلى هذه الخطوة، يتطلب دراسة واسعة وتعاملا حميما مع القرآن).
جريمة تبني عقيدة الحرب الوقائية:
كما تجاهل تماما، عندما أعطى أمريكا صك البراءة مجانا، بل مقابل محاربتها للعمل الخيري الإسلامي في كل الأرض!! تجاهل أيضا، خطر عقيدة الحرب الوقائية الأمريكية على العالم الإسلامي!!
يقول ماتن مارتي عن هاجس خطر الآخر عند الأمريكيين: (إنهم مثل اليهود، مسكونون دائما بهاجس الخطر الذي يهدد وجودهم وثرواتهم، إنه خطر الهنود، وخطر الكاثوليك، وخطر الإسلام، وخطر الأيدلوجيات الخارجية، وخطر المهاجرين الغرباء.. وجميع هذه الأخطار تتلاحق زرافات ووحدانا.. إنهم يبدأون بإطلاق النار على الشياطين من حملة هذه المخاطر، ويعلقون على صدورهم الجثث بطاقة تقول: لقد كنا دائما في حالة دفاع عن النفس، هذا هو القاسم المشترك بين النفسية الأمريكية والنفسية اليهودية) [نقلا عن كتاب الجذور المذهبية لحضانة الغرب وأمريكا لإسرائيل - حمدان ص 105].
وتقول الكاتبة الأمريكية "ميريل ميراك" [كما نشرت ذلك الرأي العام 31/5/ 2003م]: (أشارك اليوم في بحث مشكلاتنا في واشنطن، من حيث حرب الولايات المتحدة غير الشرعية على العراق، التي أثارت المخاوف في العالم الإسلامي والعالم كله، والتي خالفت الإدارة الأميركية فيها الأمم المتحدة والقانون الدولي، وأعلنت أنها ستقود العالم كإمبراطورية رومانية جديدة وسوف تحطم من يقف ضدها وحاول البعض أن يلعب بشكل ما ويصل إلى تسوية مع الوحش الجديد الموجود في أميركا، وكما يقول لاروش في وثيقة له حول السياسة الخارجية الأميركية: "إن السياسة الفاشية الأميركية لابد من رفضها والثورة ضدها لأنها تهدد العالم كله وسوف تعيده إلى عصور ظلام جديدة، إن التغيرات لابد أن تأتي من داخل الولايات المتحدة، ولكن هذا يحتاج إلى مشاركة دول أورو آسيا ودول الشرق الأوسط").
وعن الحرب الأميركية الوقائية قالت: (في سبتمبر من عام 2000 نشروا تقريرا حول إعادة بناء دفاعات أميركا وهذا التقرير أعاد كما في عام 1999 للدعوة من جديد إلى تقوية الولايات المتحدة من أجل هزيمة أي منافس وتحدثوا عن ضرب العراق بشكل محدد, وفي سبتمبر من عام 2002 نشرت الاستراتيجية الأميركية الأمنية الجديدة للحرب الوقائية وهي التي تحدثت بوضوح عن إمكانية توجيه ضربات نووية إلى روسيا والصين والعراق وإيران وكوريا الشمالية وليبيا وسورية).
وقالت: (إن هذا العرض الذي قدمته يظهر لكم أن السياسة القومية الأميركية ليست جديدة وليس لها علاقة بالعراق تحديدا، وهي تكشف كذب ادعاء الإدارة الأميركية الذي يقول إن حربها ضد الإرهاب هي رد فعل لما حدث في 11/9/2001، لقد كانت هذه السياسة متبعة منذ نحو عشر سنوات، وهي التي دفع بها تشيني والصقور من ورائه في الإدارة الأميركية، ولكن بعد وصول بوش إلى السلطة في يناير 2001، أصبحوا هم الحكومة وجاؤوا بعد ذلك بوولفويتز وبيرل).
جريمة إقامة وحماية واستغلال النظام الربوي العالمي للهمينة على الشعوب:
وتجاهل أي اعتبار لخطورة دور أمريكا في تكريس الاقتصاد الربوي العالمي، وربط اقتصاديات الدول الضعيفة باقتصادها الذي يفرض عقوبات على أي دولة لا تخضع لاحترام القوة الصهيونية وترفض تهديدها، فالهيمنة الاقتصادية الأمريكية وسيلة لتكريس وهيمنة عقيدة تخدم الوجود والقوة والنفوذ الصهيوني.
وكم كان مصيبا ذلك القسيس الأسباني عندما رد على ريجان قوله: (إن ثراء ورخاء أمريكا يرجع إلى كونها أمة مباركة من الله)، قال القسيس: (تجديف وهرطقة، ثروة وقوة أمريكا ترجع إلى استغلال العالم وبخاصة العالم الثالث عبر التبادلات غير المتوازنة وغير المتعادلة، وفرض استيراد المنتجات الأمريكية بالقوة، وغزو رؤوس الأموال الأمريكية للدول التي تنخفض فيها المرتبات، وعبر الفوائد الإستغلالية للقروض).
أجل هذا هو التقييم الصحيح والمطابق، لفترة الاستعمار الغربي، الأوربي ثم الأمريكي، حتى توجت هذه الهيمنة بتطبيق نظام "بريتون وودز"، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ثم جاءت منظمة التجارة العالمية، فطم الوادي على القرى، ودق الغرب الصليب على أسنة السيوف، إما الحروب والدمار والموت، أو الرضوخ لهيمنتا الاقتصادية التي تعني التبعية الكاملة.
جريمة لحماية والدعم والمشاركة في جميع جرائم الصهاينة عبر التاريخ:
والأدهى والأمر من ذلك كله، أنه تجاهل دور أمريكا في دعم وحماية وتأييد جرائم الحرب الصهيونية البشعة منذ عهد ولسون، الذي سارع إلى تأييد وعد بلفور، إلى يومنا هذا.
و تحدث الناطق باسم هذه التجمع الإسلامي، عن أمريكا بلا اعتبار لأي دور اليهود في الإدارة الأمريكية!!
يقول آلان بييرفيت في جريدة الفيجارو الفرنسية 5/11/1990م: (إن جماعتي ضغط قويتين تدفعان الولايات المتحدة الأمريكية إلى تفجير الصراع هما:
1) اللوبي اليهودي.
2) ولوبي رجال الأعمال.
وفي هذا الموقع الحساس لحدود الإمبراطورية الجديدة، لا تتوقف دولة اسرائيل عن لعب الدور الذي حدده لها مؤسسها الروحي تيودور هرتزل، ألا وهو أن تكون " حصنا متقدما للحضارة الغربية في مواجهة بربرية الشرق).
يقول "ليشياهو ليبوفيتز" الأستاذ في الجامعة العبرية في القدس، وهو الذي أشرف 20 عاما على تأليف الموسوعة العبرية، يقول في كتابه "اسرائيل واليهودية / 1987": (قد يصيبنا الانهيار التام في ليلة واحدة، من جراء البلادة التي جعلت وجودنا مرهونا بالمساعدات الاقتصادية الأمريكية) [ص 125].
ويقول: (فكل ما يهم الأمريكيين هو الحفاظ على جيش من مرتزقة أمريكيين يرتدون زي الجيش الإسرائيلي) [ص 266].
وأخيرا يختم بهذه العبارة التي تصرخ بالحقيقة: (إن قوة القبضة اليهودية تأتي من القفاز الأمريكي الفولاذي الذي يغطيها، ومن الدولارات التي تبطنه) [ص 253].(2/175)
ومعلوم أن جميع جرائم الصهاينة ضد الإسلام، إنما جرائم الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد ولسون: لقد سارع الرئيس الأمريكي ولسون في تأييد وعد بلفور حتى قال في مؤتمر باريس للسلام مطمئنا اليهود: (لم أفكر يوما بأن من الضروري أن أقدم لكم تأكيدات جديدة، على التزامي بوعد بلفور، ولم أجد حتى الآن من يعارض الهدف الذي يجسده، إنني لا أرى ما يدعو للشعور بالإحباط، بل أرى كل مبرر للأمل بالحصول على ضمانات مرضية) [ليونارد شتاين - إيضاحات حول بلفور - لندن - 1961م].
وقد كان بلفور نفسه على حق عندما علق ساخرا: (يصعب على أن أفهم، كيف يوفق الرئيس الأمريكي ولسون بين تأييده للحركة الصهيونية، ومبدئه في حق تقرير المصير) [نقلا عن اغتيال التاريخ لحمدان حمدان 65].
وفي 21 /9/1922م، وافق المجلسان النواب والشيوخ على وعد بلفور، وتم الختم على فلسطين يهودية بوعد انكليزي وقرار أمريكي.
وفي عهد روزفلت انطلقت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وفي عهد ترومان وافقت أمريكا على قرار التقسيم، وفي عهده اعترفت بـ "اسرائيل"، في 14/5/1948م، وحتى قبل أن تطلب منها حكومة اسرائيل المؤقتة برئاسة دافيد بن غوريون، ثم منحتها 100مليون دولار، وكانت تعادل ميزانية مصر والشام والعراق آنذاك.
ومن ذلك الحين إلى أن قال كارتر أمام الكنيست: (لقد جسد من سبقني من الرؤساء الأمريكيين الإيمان حين جعلوا من العلاقات بين الولايات المتحدة واسرائيل أكثر العلاقات خصوصية، إنها علاقات فريدة لأنها متأصلة في ضمير الشعب الأمريكي، وفي أخلاقه وفي دينه، وفي معتقداته، وكما أن الولايات المتحدة واسرائيل، أقامها رواد مهاجرون، فإننا نتقاسم معكم تراث التوراة أيضا ) [الدعاية الصهيونية في أمريكا، فايز صايغ ص 17].
وإلى أن تولى ريغان المؤمن بخرافة الهرمجدون، ثم ختمها بوش الابن الذي نرى جرائم الصهاينة في عهده، تفوق الوصف، وقد سقط حتى الآن من الانتفاضة الأخيرة آلاف الضحايا والشهداء، وفي الأسر آلاف الأسرى، ويغيب الشعب الفلسطيني وراء الجدار العازل، وتحول مدنه إلى معتقلات، ويغتال مجاهدوه، ويقتل نساؤه وأطفاله وشيوخه، وكل ذلك لم يره الناطق الرسمي شيئا!!
لم تضر أمريكا الإسلام في شيء!!
وهاهو بوش، يفتح العراق للصهاينة، يسرحون فيه ويمرحون، كما نقلت وكالات الأنباء في الشهر الذي سقطت فيه بغداد هذا الخبر: (اربيل - أ.ش.أ -: وصل إلى اربيل وفد من الكنيست الإسرائيلي يضم سبعة أعضاء من بينهم نائبان من اصل كردي في زيارة تستمر ثلاثة أيام، وذكر مصدر كردي أن الوفد سيجري خلال الزيارة مباحثات مع كبار المسؤولين في الحزب الديموقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود البرزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني تتركز حول التعاون في المجال النفطي وإمكانات توطين أعداد من اليهود في شمال العراق. واضاف أن وفد الكنيست الإسرائيلي الذي وصل إلى اربيل تحت حماية مشددة من جانب القوات الأميركية وقوات البشمركة الكردية سيزور أيضا مدن السليمانية وصلاح الدين ودهوك، مشيرا إلى أن الوفد قد وصل إلى اربيل قادما من العاصمة العراقية بغداد).
هذا ومازال الصهاينة يعربدون في العراق، كما يشتهون ويعقدون الصفقات على مستقبله، بإشراف الإدارة الأمريكية الحالية.
جريمة تبني عقيدة ونهج المحافظين الجدد وخطورته على الأمة الإسلامية :
وهذا ينقلنا إلى الحديث عن خطر عقيدة ونهج "المحافظين الجدد":
قال روبرت فيسك كاتب الاندبنت كما نقلت صحيفة " الجزيرة " السعودية [بتاريخ 25 ذو الحجة 1423هـ]: (بعد انتهاء البرنامج الذي قمت بتسجيله لإحدى المحطات التلفزيونية الأمريكية، وهي محطة ليبرالية جيدة، وكان ذلك في ولاية تكساس الأمريكية والتي اتفق الجميع فيها على أن دخول الحرب خطأ وان جورج بوش قد اصبح «ألعوبة» في أيدي الأصولية المسيحية اليمينية، وتيار المحافظين الجدد الموالي لإسرائيل).
هذا ومن أحسن من وصف، كيف تحولت الإدارة الأمريكية إلى هذا النهج الجديد، وما هي أهدافها في ضوء عقائدها الخرافية، الكاتب القبطي المصري سمير مرقص، فقد وصف هذه المسيرة الدينية أحسن وصف، قال: (ثم تنامى دور اليمين الديني في عهد كلنتون، لكن كلينتون أيضا لم يكن متدينا، ولذلك كان لديه هامش مناورة بينه وبين اليمين الديني، المشكلة أتت بتولى الرئيس "بوش" الابن مسئولية كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، لأن الرئيس "بوش" في الحقيقة هو أحد أبناء اليمين الديني الذي يسمى بالمصطلح الديني الـ "AGAIN- BORN"، أي ولد من جديد، فقد كان بوش شخصا بعيدا عن الإيمان، وفي صباح أحد أيام 1995م، اكتشف أنه لابد أن يعود إلى الله.. وأصبح الدين جزءا أو مكونا أساسيا في الإدارة الأمريكية، ولأول مرة أيضا يتحالف الجناح المتشدد في الحزب الجمهوري الأمريكي مع اليمين الديني، ويقومون بعمل صيغة أو خلطة جديدة في أمريكا، وقد بدأت هذه المشكلة في يناير 2001م، إلا أننا لم نشعر بها وقتها ولذلك فربما كانت واحدة من مزايا 11/9، أنه أظهر لنا هذا بشكل واضح، وجسده بشكل، واضح بالنسبة للسياسة الخارجية أو العلاقات الدولية بشكل عام).
ثم يقول: (ومشكلة هذا اليمين أن الإدارة الحالية في الحقيقة هي تجسيد مهم جدا لفكرة التعامل مع العالم من خلال إعادة نمط التوسع الغربي أيام الكشوفات الجغرافية، فحين بدأت أوربا الانتشار في القرن الخامس عشر أو قبل ذلك أيضا، بدأت تنتشر في العالم بمنطق التوسع الغربي الذي يقوم على ثلاثة أشياء: العسكر أو القوة المسلحة، والتجارة، والتبشير، ولذلك فإن كل التوسعات الغربية التي تمت في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وغيرها كانت المراكب من خلالها تخرج من إسبانيا أو البرتغال أو غيرها وتذهب إلى هنا وهناك، وهي تحمل ثلاثة مكونات: التاجر، والعسكري، والمبشر، وهنا يتضح أن العسكر رمز القوة، واستخدام القوة، والتاجر رمز تبادل الثروة والتجارة.. إلخ، والمبشر هو شكل من أشكال الهيمنة الثقافية.
وأتصور أن الرئيس بوش أعاد مع الإدارة الجديدة هذا النمط من التوسع الخارجي عند التعامل في العلاقات الدولية، ولذلك ليس مصادفة أن كل الأدبيات التي نتجت عن هذه الإدارة - سواء قبل 11/9 أو بعد 11/9 - كلها لا تخلو من الثلاثة عناصر السابقة، ليس هذا فقط، بل إنني وقع في يدي بعض الوثائق أثناء الحملة الانتخابية للرئيس بوش.
وكانت كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الحالية هي المسؤولة عن تقديم، السياسة الخارجية أثناء الحملة الانتخابية المعبرة عن الحزب الجمهوري، تتحدث عن الثلاثة مفاهيم هذه: فكرة كيف يقوم التوسع أو التحرك الدولي على هذه الأسس الثلاثة، وفكرة النظام المالي والاقتصادي العالمي وفكرة استخدام القوة - سواء العسكرية أو غير العسكرية - أو استخدام القوانين الدولية مثل قانون الحرية الدينية أو غيره، ثم استخدام الهيمنة الثقافية أيضا، سواء من خلال استخدام الإعلام الأمريكي القوى، والآلة الإعلامية الجبارة، أو باستخدام وسيلة التبشير، ولذلك فعند قراءة كتابات "هنتينجتون" وكتابات أخرى كثيرة قراءة متأنية نجدها تتضمن إعادة تقسيم العالم على أسس حضارية وثقافية ودينية لإعادة رسم خريطة العالم مرة أخرى، لكن تقسيمة "هنتيجنتون" للأسف ليست موجودة في الترجمة العربية).(2/176)
هذه هي حقيقة حزب "المحافظين الجدد" المهيمنين على الإدارة الأمريكية، وبأيدهم أقوى وأخطر قوة عسكرية عالمية، فأي خطر على أمتنا أكبر من ظهورهم واستعلاءهم على بلاد الإسلام!
والخلاصة:
إننا نرى هذا الكلام الذي نشرته الصحيفة عن ممثل حركة إسلامية كويتية، خطير جدا، والأخطر منه، إن كان لا يدري أنه خطير.
وسواء قاله وهو يعتقد - ومن يمثلهم - حقيقة ما قاله، ويلتزم أبعاده، وهو أن خطط الإدارة الأمريكية التي رسمتها إنطلاقا من رؤية دينية، للمتصهينين في الإدارة الأمريكية، لاخطر على الإسلام منها، وبالتالي لاحاجة لمعارضها في الشريعة الإسلامية، بل هي تحقق الرفاه والازدهار والاستقرار للمنطقة!!
أو قاله لأنه لم يقدر خطورة الكلمة التي تلقى للجمهور وأنه لا يصلح فيها المناورات السياسية في الأمور المتعلقة بالعقيدة الإسلامية والموقف من أشد الأمور خطرا عليها.
فالواجب عليه , وكل من يعتقد مقالته، الرجوع إلى دينه، فقد اقتحم فرية عظيمة، مناقضا لأصل الإسلام، وعليه التوبة إلى الله تعالى، والإنابة إليه، والتبرؤ التام، من كل المخططات الأمريكية، وإظهار ذلك، وإيثار رضا الله تعالى، على مجاراة الأهواء، والآخرة على متاع الدنيا القليل {هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا * ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}.
وإنكار هذه المقالة الخطيرة واجب شرعي من صميم التوحيد، لا يجوز التهاون فيه.
وانطلاقا من خوفنا على الأمة، وحذرا من الوقوع في معصية ترك النهي عن المنكر، أو نصحا للمخطئ ولمن يمثلهم أو يقتدون بقوله، كتبنا هذا الرد، سائلين الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم.
ونهيب بكل الغيورين على الإسلام وأهله، أن يتصدوا لكل الدعوات المشبوهة التي تريد أن تهون من خطر هذه الحملة الصليبية الصهيونية، على الأمة الإسلامية، وتريد أن تقول للناس: أنه أمر هين فلا تنكروه، بينما هو عند الله عظيم، والتصدي لهؤلاء واجب، والرد عليهم فريضة، فالأمة تتعرض لهجوم شديد الوطأة، لم يسبق لهم مثيل، قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) [رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أنس رضي الله عنه].
وحماية عقيدة الأمة فرض لازم، حتم على كل عالم.
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}.
هذا ونضيف هنا سؤال وجوابه يبين حكم موالاة الكافر، والدخول في تحالف معه، وخطر ذلك على التوحيد:
السؤال: ما قولكم في أناس ينتسبون إلى العلم الشرعي والدعوة الإسلامية، يقولون إن المسلمين يجوز له أن يدخلوا في تحالفات دائمة مع الكفار، وأي كفار، كفار يحاربون الإسلام في كل مكان، ويقتلون المسلمين، وتحكمهم طائفة متعصبة صهيونية، ويحمون الصهاينة جهارا نهارا، ويقول هؤلاء المنتسبون إلى العلم إن ذلك من باب ارتكاب أخف الضررين، وأنه من باب درء المفاسد، مقدم على جلب المصالح، وأن المسلمين في الدول الصغيرة يجوز لهم أن يدرءوا مفسدة الخوف من ذهاب الأمن، على كل ضرر، وهذا لا يحدث إلا بالدخول في تحالفات استراتيجية مع الكفار حتى لو كان ذلك على أساس القانون الدولي العلماني فلا حرج فيه، وقد لبسوا على عامة المسلمين، وينسبون كلامهم إلى شريعة الإسلام، فما قولكم فيما يقولون؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
نننقل هنا ما رد به العلامة سيدي المهدي الوزاني من علماء فاس المتوفى عام 1342هـ، على من أفتى بجواز الاحتماء بالكفار مستدلا باحتماء الصديق بمشرك، قال الوزاني صاحب "النوازل الكبرى" [3/ 72- 78]: (قلت؛ فتح هذا الباب فيه حرج وشطط، مع أن هذا الكلام كله غلط، إلى أن قال: وأيضا الاحتماء بالكفار اليوم هو خروج من الإسلام، والتزام بطاعة الكفار، بحيث إذا أمره الكافر بشيء يسارع إلى امتثال أمره كيفما كان، وإن أمره كبير المسلمين بشيء، ولو طاعة، لا يساعده ولا يرضى به، ولا يعتبره حتى يأذن له الكافر، ولم يصدر هذا من أبي بكر قط، ولايتوهم في حقه، وحاشاه من ذلك.
وأيضا احتماء أبي بكر كان لتحصين دينه وتتميم إيمانه، ولم يكن لتحصين بدنه أو ماله، فكيف يقاس أمر الدنيا عل الدين؟!
وقد قتل الحجاج وغيره ألوفا من الأفاضل، صحابة وغيرهم، ولم يرض واحد منهم بهذا الفعل الشنيع الذي هو الاحتماء بالكفار.
وأيضا هؤلاء المحتمون تراهم يضحكون على المسلمين، ويحقرون أمورهم، ويتمنون لهم أموار قبيحة كي يكونوا مثلهم {ودوا لو تكفرون ما كفروا فتكونون سواء}.
وأيضا تراهم لأجل أنهم منعوهم من ولاة المسلمين يحبونهم ويتمنون الغلبة لهم، إلى غير ذلك من الأمور الشنيعة التي لا يرضى بها مسلم.
فقوله: "أنا صدرت مني فتوى بجواز الاحتماء بغير أهل الملة إذ لا محظور فيه من الشرع.. إلخ"، كلام باطل، وعن طريق الحق عاطل، لايحل كتبه إلا بقصد أن يرد، كالحديث الموضوع).
ثم قال: (ثم رأيت نحو ما قلته في الأجوبة الكاملية، وذلك أنه سئل العلامة سيدي محمد بن مصطفى الطرابلسي، لما شاع وكثر في هذه الأزمنة من احتماء المسلمين بالكفار بعد نقضهم البيعة الإسلامية، بحيث يكون حكمهم كحكم رعاياهم الأصليين، إذا وقعت لهم حادثة التجأوا إليهم، واشتكوا إليهم، وإذا طلبوا أمراء الإسلام يمتنعون، ويقولون: نحن تحت حماية الدولة الفلانية، وإذا جلب إلى محكمة أهل الإسلام، يحضر معه رجل من طرف الحكومة الأجنبية، هل يجوز هذا في الشرع الشريف؟
فأجاب:
لا يجوز هذا الصنيع القبيح السيء في الشريعة المنورة، بل هو حرام، بل قيل: إنه كفر، وشهد له ظاهر قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بضعهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، وكذا ما بعد هذه الآية من قوله تعالى {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}، فهي صريحة في أنه لا يفعل ذلك إلا من كان في قلبه مرض ونفاق والعياذ بالله.(2/177)
وكذلك ظاهر قوله {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء}، أي فليس من ولاية الله في شيء، فظاهره أنه انسلخ من ولاية الله رأسا، وقد قال تعالى في حق المؤمنين: {الله ولي الذين آمنوا}، فمن انسلخ من ولايته تعالى فلا يكون الله وليه، فلا يكون مؤمنا، وكذلك قوله تعالى {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما}، ثم بين المنافقين بقوله تعالى {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين}، ثم قال {أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}، والآيات والأحاديث في هذا الشأن كثيرة، وهؤلاء المحتمون أشد ضررا على المسلمين من الكفار الأصليين).
ثم قال: (فهذا وقد ألف في هذه الحادثة، سيدي علي الميلي رسالة شدد فيها النكير على من يفعل هذا الفعل، قال: فلا يجوز القدوم عليه ولو خاف على ماله أو بدنه، لأن المحافظة على الدين مقدمة عليهما. ومن القواعد الأصولية:" إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما". ومنها قولهم: "مصيبة في الأموال ولا مصيبة في الأبدان، ومصيبة في الأبدان ولا مصيبة في الأديان "، فالمؤمن رأس ماله، وأعز شيء عنده دينه، فهو مقدم على كل شيء). انتهى النقل عن النوازل الكبرى.
ومن يتأمل كلام هؤلاء المتخبطين بغير علم، يرى أنهم يعكسون تماما دلالة قوله تعالى {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، فالله تعالى جعل الكفر والصد عن سبيل الله، هو الفتنة، وهي أشد من القتل، وهؤلاء يجعلون حتى الأذى، ونقص الرزق، وذهاب الأمن، وليس القتل، أشد عليهم من الفتنة في الدين.
وهم مع ذلك لم يتدبروا حقا قوله تعالى {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}، أي أن الكفار إنما يجعلون قوتهم العسكرية، وسيلة يتوسلون بها إلى ارتداد المسلمين عن دينهم، لأن الشيطان هو الذي يقودهم ويأزهم على المؤمنين.
والعجب أنهم كأنهم يظنون ظن السوء بربهم، أنهم إن هم أطاعوه لم يرزقهم على طاعته، وإن عصوه فصاروا تحت حماية الكفار رزقهم على معصيته! فتأمل كيف لبس عليهم الشيطان، فظنوا أن في تحالفهم مع أشد الناس كفرا وعداوة للمؤمنين، أمنا واستقرارا ورفاها، كما حكى الله تعالى عن الذين في قلوبهم مرض قولهم: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}.
وصار مثلهم كما وصف الله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}، فهؤلاء الذين يعبدون الله على حرف، إنما يريدون نصر الدين بشرط أن لا يصيب دنياهم شيء، فإن خافوا على دنياهم، لجأوا إلى الكافر فارتموا في أحضانه، وإن علموا أن في ذلك فسادا عظيما في دينهم، قد فتنهم حب الدنيا، فأوردهم هذه المهلكة.
وهم يتذرعون بأن هؤلاء الكفار الصليبيين يتركون المسلمين يصلون ويصومون ويحجون ويزكون، فليس في موالاتهم ضرر على الدين، وينسون، أو يتناسون أن في استعلاء الكفار بثقافتهم، وأخلاقهم، وسياساتهم، واقتصادهم، فساد عام عريض دائم يجتث الأجيال، ويوقعهم تحت تأثير استلاب الكفار للشخصية الإسلامية في أبناء المسلمين، وتحطيم الهوية الإسلامية، وتغيير جذري في معالم الإيمان، واستبدال الثقافة والقيم الغربية التائهة المنحلة بعقيدة الإسلام وأخلاقه، وأن هذا واقع لا محالة وضرره شامل مستمر وبالغ الخطورة على عموم الأمة.
لكنهم مع ذلك يستروحون إلى طلب الراحة، والرفاه، والتوسع في الأموال والتجارات، تحت ظل الكافر، على حساب عقيدتهم ودينهم.
ويتذرعون أحيانا بالخوف والخطر على الوطن، وقد حولوه إلى صنم، يحلون من أجله الحرام، ويحرمون الحلال، ويعقدون الولاء والبراء عليه، ويقدمون توفير دنياهم فيه، على صلاح دينهم، وفي هذه الفتنة أنزل الله تعالى: {ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}ْ.
وإنما هم في هذه الفتنة: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
وهؤلاء بدل أن يجعلوا هذه الفتنة أشد من القتل، فيفروا منها ولو إلى الموت، ليرزقهم الله تعالى حياة الشهداء، بدل أن يفعلوا ذلك، ليسلكوا سبيل المؤمنين من قبلهم، فروا من مجرد الأذى - وليس من الموت - إلى الفتنة، فاركسوا فيها، واستعملهم الله تعالى في أشد مساخطه وهو تسخير أشد أعداءه الذين يبغضهم، وهم اليهود والنصارى، تسخيرهم لهؤلاء المفتونين، يؤيدون خطط الأمريكيين الصليبين في بلاد الإسلام، ويفتون الناس بأن هؤلاء الصليبين إنما هو مصلحون، فيضلون، ويضلون الخلق، فنعوذ بالله تعالى أن يستعملنا في مساخطه.
أما قولهم: إنهم متبعون للمصالح الشرعية الراجحة، أو أنهم يدرءون المفاسد والمضار، فهو من تلبيس الشيطان، فمفسدة تأييد استعلاء الكفار على بلاد المسلمين، من أعظم المفاسد على الدين، غير أن هؤلاء جعلوا أهواءهم هي المعيار الذي يرجحون به بين المفاسد والمصالح.
كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (المصالح المجتلبة شرعا، والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: ما سيأتي ذكره - إن شاء الله - أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم، حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، طلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}.
الثاني: ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع، كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة الإحياء، بحيث إذا دار الأمر بين أحياءها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال، كان إحياؤها أولى، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين، كان إحياء الدين أولى، وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار، وقتل المرتد، وغير ذلك، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى) [الموافقات 2/39].
والعجب أن هؤلاء المفتونين، عكسوا ما أراده الله منهم، فقد أمرهم بالتزام شريعته، وتكفل لهم برزقهم وقدر آجالهم، فكان همهم أرزاقهم، وآجالهم، التي تكفل الله بها، فلا تزيد ولاتنقص، وأهملوا دينهم الذي أمرهم الله تعالى بحفظه، وظنوا أن رضاهم بعلو الكافر عليهم، وتحالفهم معه، سيكون سببا في انبساط الدنيا لهم، وحلول الأمن عليهم.(2/178)
ونسوا أن الله تعالى يملي للكافر الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وأن الله تعالى مهلك هذه الدولة الكافرة الطاغية أمريكا، كما أهلك الذين من قبلهم، ولهذا حذر من اتخاذ الكافرين أولياء، كما قال تعالى بعدما ذكر إهلاك الأمم في سورة العنكبوت: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون * مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون}.
وقد فتنتهم هذه الدولة الكافرة الطاغية أمريكا، وهالهم تقلبها في الأرض، ونسوا قوله تعالى {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد}، ونسوا سنة الله تعالى في الطغاة، وأنها سنة لا تتبدل ولا تتغير، كما قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون}.
اللهم إن هذه الدولة الكافرة أمريكا قد طغت، وتجبرت، وكفرت بك، وصدت عن سبيلك، وقاتلت أولياءك، وكذبت رسلك، اللهم وإنهم لا يعجزونك، اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اللهم اهزمها، وأرنا فيها مثل أيام الذين خلوا من قبل، اللهم أرنا فيها سنتك في المستكبرين، اللهم أهلكها كما أهلكت عادا وثمود، واقصمها كما قصمت فرعون والنمرود، واجعلها نكالا، وعبرة في الآخرين، اللهم وانصر كل المجاهدين الذين يقاتلونها في سبيلك، في أفغانستان، والعراق، وفلسطين، وكل بقاع الأرض، اللهم كن معهم لا عليهم، وانصرهم ولاتنصر عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم، اللهم واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وسدد رميهم، وفرج كربهم، وفك أسراهم، وتقبل شهداءهم، وارفع قدرهم، وأعل درجتهم، وانزل عليهم ملائكتك، قاتل أعداءك بهم، واجعلهم من جنودك الموحدين، وأنصارك المخلصين، واجعلنا معهم إنك أنت العزيز الوهاب، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين.
[5-02-2004]
===============
فتنة مسايرة الواقع
[الكاتب: عبد العزيز بن ناصر الجليل]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من علامة توفيق الله عز وجل لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته الدنيا؛ فلا تراه إلا حذرا محاسبا لنفسه خائفا من أن يزيغ قلبه، أو تزل قدمه بعد ثبوتها، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه عز وجل في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسنة غير مبدل ولا مغير.
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقق بعضها بعضا، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله عز وجل وعصمه. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله عز وجل كما قال تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [إبراهيم: 27].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذه الآية: (تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم) (1).
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه تبارك وتعالى : { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا } [الإسراء: 74] فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه تعالى ، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق وهو الله سبحانه وتعالى .
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سببا في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار عياذا بالله تعالى ؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاؤوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم السلام عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض بعضهم بعضا بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم. وسجل الله عز وجل عن قوم نوح عليه الصلاة والسلام قولهم: { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } [المؤمنون: 24].
وقال تعالى عن قوم هود: { قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا... } [الأعراف: 70]، وقال تبارك وتعالى عن قوم صالح: { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا... } [ هود: 62]، وقال سبحانه وتعالى عن قوم فرعون: { قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا } [يونس: 78]، وقال عن مشركي قريش: { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا... } [البقرة: 170] والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يؤثر المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟ نعوذ بالله تعالى من الخذلان.
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن من أهم الأسباب مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه، وكذلك الحال في سائر الناس المقلدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة لو بان لأحدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده الذين لا يقدمون على مرضاة الله تعالى شيئا، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من التمس رضا الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) (2).(2/179)
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى : (فكذلك صاحب الهوى إذا ضل قلبه وأشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه) (3).
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة الركب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساؤوا. ومن هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذر منه؛ حيث قال: (لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا) (4). قال الشارح في تحفة الأحوذي: (الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعا لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان).
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله عز وجل وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفسدين وترويض الناس عليه ردحا من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر) (5).
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه المستعصي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما ألفه الناس، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن من ورائكم أيام الصبر. الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله وزادني غيره قال: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم) (6).
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة:
إن أهل العلم والدعاة إلى الله عز وجل لمن أشد الناس تعرضا لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات إرضاءا للناس أو اتقاءا لسخطهم أو رضى بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل أو بغير تأويل، وإن سقوط العالم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره، وذلك بخلاف العالم أو الداعية؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية.
إن الدعاة إلى الله عز وجل وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن الله تعالى فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمن للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسعى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله.
إن المطلوب من الداعية والعالم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه والله هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالم والداعية، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء الناس. إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله تعالى في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله عز وجل . وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول: (وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مثل قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل العقيدة.
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالا مؤثرا حياة المرء كلها.
وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه ، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها فهذا تبذير للأموال ووضعها في غير موضعها والتبذير محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال عليه الصلاة والسلام : (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) (7).
ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكما يقارب عبادة الوثن.
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم.
وقليل أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبال برضا راض أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه(8).
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبال بسخط الناس ولا رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم، ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقا لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله عز وجل نسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر وما أبرئ نفسي .
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي:(2/180)
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية وذلك أنه قد ظهرت في حياة الناس ومن سنوات عديدة كثير من العادات والممارسات الاجتماعية المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام الآثم على تزيينها للناس فوافقت قلوبا خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع، ومن أبرز هذه العادات والممارسات:
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار أمرا مألوفا وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعاة وأهل العلم، مع أن بعض هؤلاء الخدم كفرة أو فسقة، وأكثر الخادمات هن بلا محارم، وخضع الناس للأمر الواقع، وأصبحت ترى من ابتلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر ولا أجنبيات، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن، وكذلك الحال مع الخادمين والسائقين؛ حيث قد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم، وكأنهم مما ملكت اليمين، وكل هذا ويا للأسف بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ، وإذا نصح الولي في ذلك قال: نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا، ومن الصعب مقاومة ضغط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم وجيرانهم!!
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمرا مألوفا لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضاءا للناس الذين لن يغنوا عنه من الله شيئا، وكفى بذلك فتنة.
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل... إلخ. ومع ذلك فلقد أصبحت أمرا مألوفا يشنع على من يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح كثير من الناس أسيرا لهذه العادات مسايرا للناس في ذلك إرضاءا لهم أو اتقاءا لسخطهم.
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمرا مألوفا لم ينج منه إلا أقل القليل ممن رحم الله عز وجل من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله عز وجل فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل وتنكرها المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول والعياذ بالله تعالى إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.
وعن هذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى : (هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفرا. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضا، وتكلفهم أحيانا ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها: أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء، الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذل: من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءه شركات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها!) (9).
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمل نفسه الديون الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئا إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعا.
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة وذلك من قبل بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحتجون بقواعد الضرورة أو رفع الحرج أو الأخذ بالرخص... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئا فشيئا، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسنوا لهم الواقع ويسوغوا صنيعهم فيه. يقول الشاطبي رحمه الله تعالى : (المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا) (10) ويقول أيضا: (إن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حريا بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها) (11).
وقد لا يكون المفتي قاصدا مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (يحرم عليه أي على المفتي إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيرا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرا فطنا فقيها بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك) (12).
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:(2/181)
وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس ويبطؤ نصر الله عز وجل ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها بزعمهم مصالح كبيرة!! وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله تعالى : { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا } [الإسراء: 73 - 75].
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها :
محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين.
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى منها: مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها: مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت العتيق الذي حرمه الله، ومنها: طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء.
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها، ليذكر بفضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة. ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله.
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلا عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هينا؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيرا، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلا، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء! (13).
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قبل دعاة العصرانية من أبناء المسلمين:
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول ويطول(14)ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفتنة وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديدا وتطويرا يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من شرع الله عز وجل باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد أعمى وانبهار بإنجازاته المادية بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالا للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد!! ويعرف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله: (هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري) (15).
ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول: (لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سنة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق!! إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه. ومن شذوذاتهم:
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بشبه من هنا وهناك.
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب.
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم ، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات، يقول محمد عمارة: (إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية" والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها.
4 - أحكام أهل الذمة: كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا!!) (16).
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلا: (إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى).
ولذلك فإن التجديد عندهم يعني: هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث.
ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئيا أو كليا بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر.
ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة وأمور الحياة والمجتمع عموما.
التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر (17).
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية أمام ضغطه مصحوبا ذلك بالجهل بالإسلام أحيانا، وبالهوى والشهوة أحيانا كثيرة.
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها :
إن لمسايرة الواقع وما ألفه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لها الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره، ومن أخطر هذه الآثار ما يلي:(2/182)
1 - الآثار الدنيوية: وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية وذوبان الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة بخلاف المستسلم لشرع الله عز وجل الرافض لما سواه المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا سعيدا قانعا مطمئنا ينظر: ماذا يرضي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه غير مبال برضى الناس أو سخطهم.
2 - الآثار الدينية: وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن المساير لواقع الناس المخالف لشرع الله عز وجل يتحول بمضي الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله عز وجل لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران أعاذنا الله من ذلك ؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (18) : ( وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما } [النساء: 66 - 68] وقال تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [العنكبوت: 69] وقال تعالى : { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم } [محمد: 4 - 6]، وقال تعالى : { ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى } [الروم: 10]، وقال تعالى : { كتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } [المائدة: 15، 16]، وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم } [الحديد: 28]، وقال تعالى : { وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } [الأعراف: 154].
وما أجمل ما قاله سيد قطب رحمه الله تعالى في النقل السابق حيث قال: (ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيرا لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء).
الآثار الدعوية :
إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟! وكلما كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة :
إنه لا ينجي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله عز وجل وقد قال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: { $ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا } [الإسراء: 74] فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله عز وجل وصدق العزيمة والأخذ بأسباب الثبات ومنها:
1- فعل الطاعات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قال عز وجل : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } [النساء: 66] فذكر سبحانه في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر وترك النواهي، ويشير الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول: (فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت. ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد، فبهما يثبت الله عبده؛ فكل ما كان أثبت قولا، وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا قال تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا، والقول الثابت هو القول الحق والصدق) (19).
2 - مصاحبة الدعاة الصادقين الرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في الدعوة إلى الله تعالى وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل ناعق، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة.
3 - التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله عز وجل لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.
والمقصود: أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله تعالى . وينبغي على طالب العلم الشرعي والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس وتلمس الرخص والآراء الشاذة لهم.
4 - إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير؛ لأن السكوت على المخالفات وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات ومسايرة الناس فيها.
[مجلة البيان | عدد 147]
(1) بدائع التفسير، 3/17.
(2) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(3) الموافقات للشاطبي، 2/ 268.
(4) تحفة الأحوذي، 6/145، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب.
(5) رواه الترمذي، ح/ 2186.
(6) أخرجه أبي داود، ح/ 3778، والترمذي في تفسير القرآن 2984، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004.
(7) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(8) في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري، ص 39 43 (باختصار).
(9) في ظلال القرآن، 2/ 1219.
(10) الموافقات، 2/ 128.
(11) المصدر السابق، ص / 247.
(12) إعلام الموقعين، 4/ 229.
(13) في ظلال القرآن، 3/ 245.
(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع وكيف نشأ ومن هم رموزه فليرجع إلى كتاب: (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب)، للأستاذ محمد حامد الناصر.
(15) العصرانية في حياتنا الاجتماعية، ص 22.
(16) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (بتصرف واختصار).
(17) المصدر السابق، ص 353، 354.
(18)الفتاوى، 14/245.
(19) بدائع التفسير، 1/17.
===============
مشروع إصلاح ونهضة الأمة الإسلامية وتحرير البلاد والعباد
بقلم محمد بن جمعة السعيد
بسم الله الرحمن الرحيم
أهل الحل والعقد في الشريعة الإسلامية تعريفها : إن جماعة أهل الحل والعقد لا تعد حزبا بل هم يديرون أمور الأمة وفقا لما تقتضيه الشريعة الإسلامية التي تهيمن على الوجود السياسي تأسيسا وحركة ومقصدا وعلى قمتهم رؤساء السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والعسكرية
شروط أهل الحل والعقد : الإسلام والعقل والذكورة والحرية والعدالة والعلم والرأي والحكمة والقوة والأمانة والأخلاق . وهم حكام وأمراء الأمة وعلماء المسلمين والفقهاء المجتهدون وأهل الاختصاص والخبراء والفنيون وقادة المجاهدين وقادة الجند والمستشارون والنصحاء وأهل الاختيار , يضاف إليهم الآن جميع حملة شهادة الدكتوراه من كافة الاختصاصات (ذكورا وإناثا ) أما حاكم المسلمين فمهمته إجمالا حراسة الدين وسياسة الدنيا فيه وحماية مصالح المسلمين وأرضهم .
الشروط الواجب توفرها في الحاكم :(2/183)
1- أن يكون هو وزوجته وأصولهما مسلمين .
2- العدالة والأمانة على شروطها الجامعة والشدة والحزم والقوة في قول الحق .
3ـ العلم بأحكام الشريعة المؤدية إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام وأن يحمل الشهادة الجامعية كحد أدنى وأن يتمتع بالخبرة السياسية
3- والحربية والإدارية والقوة الجسمية والنفسية قدر الإمكان والمستطاع .
4- سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معه مباشرة ما يدرك بها بشكل لايؤثر في الرأي والعمل .
5ـ أن لا يقل عمره عن ثلاثين عاما ولا يزيد عن ستين عاما حين انتخابه أو اختياره أو ترشيحه .
6ـ سلامة الأعضاء من نقص وعطلة يمنع استيفاء الحركة وسرعة النهوض .
7- الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية الدين وأرض المسلمين وجهاد العدو مقداما جسورا غير ضعيف.
8- الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح وحمايتها وان يكون جيد الفهم والتصور والذكاء .
9 ـ الكفاية والذكورة فلا تنعقد الإمامة لامرأة وان اتصفت بجميع صفات الكمال وخصال الاستقلال لورود النص القاطع المانع عن رسول الله (ما افلح قوم ولّوا عليهم امرأة ) وعدم جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة .
10ـ أن تكون مدة ولايته محددة بمدة زمنية أو فترة انتخابية معينة ، وأن يتم اختياره بشكل سري وخطي تحت إشراف القضاء من بين عدة مرشحين ، ويجوز أن يفتح باب الترشيح لكل من يجد بنفسه القدرة وتحمل مسؤولية المسلمين وتتم الانتخابات على عدة مراحل كما يفضل أن يتم اختياره بالتناوب بين الأقاليم فمرة من السعودية ومرة من أندونيسيا ومرة من إيران وهكذا من بقية بلاد المسلمين دون استثناء وهذا اجتهاد البعض سيأتي بعد قليل الرأي الفقهي
مفهوم الأحزاب في الفقه الإسلامي :
قال تعالى : (أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )وقال عز وجل :(فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون) وقال جل وعلا (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) . وقال سبحانه ( بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) وقال (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ) . صدق الله العظيم .
إن الرؤية الإسلامية ترفض مفهوم الحزب سواء كان سياسياً أو دينيا وهو التعلق بالسعي للوصول إلى السلطة من خلال المنافسة والصراع السياسي فالنصوص صريحة في المنع ، فمن سأل الإمارة والسلطة وحرص عليها تسد عليه أبوابها قال صلى الله عليه وسلم ( إنا لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ، ولا أحداً حرص عليه ) هذا المنع من طلب الإمارة هو في حقيقته رفض للصراع من أجل السلطة . هذا الصراع يؤدي إلى نتائج لها خطرها على الأمة فالآليات الحزبية كما هي في واقع الممارسة ترفضها الرؤية الإسلامية وإن الحرص على الإمارة دليل اعتبارها امتيازاً وسلطة وسيطرة وتمتعاً ، وهي مفاهيم رفضها الإسلام لأنه يضع الإمارة موضع الواجب والعبء الثقيل والمسؤولية أمام الله ثم أمام الأمة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة بين اثنين يقف كل منهما من الآخر موقف المساواة لا يفصل أي منهما عن الآخر أي عقبات اجتماعية أو نظامية وإن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في توجهه للحاكم ومحاسبته على تجاوزه إذ أن واجب كل فرد في الأمة أن يقوم به مباشرة دون وسيط ، وإن رفض الحاكم لتنفيذ مقتضى هذا الواجب خروج عن الشرعية ونهى الإسلام عن أن يحتجب الحاكم عن رعيته أو يغلق بابه دون الرعية .
نظام الحكم في الإسلام : جاء في الصفحة (44) من كتاب الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للعلامة الفقيه مصطفى الزرقا عضو مجمع الفقه لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة وأستاذ جامعي رحمه الله ما يلي ( إن الحكم في دولة الإسلام يجب أن يقوم على أساس الشورى وهذا مبدأ تضمنه القرآن الكريم وطبقه الرسول طوال حياته وأوصى أصحابه به ، فلا يجوز أن يكون الحكم استبدادياً لا انتخابات فيه أوملكياً وراثياً ، فالشريعة الإسلامية تتنافى مع مبدأ وراثة الحكم ، بل على الأمة أن تختار دائماً الأكثر كفاءة للسلطة العليا كل فترة وأخرى وعليه فإن النظام الملكي الو راثي والاستبدادي محرم وباطل وغير شرعي ، وقد بين الرسول لأصحابه أن فساد نظام الحكم في الدولة الإسلامية يكون عندما يتحول عن طريق الخلافة والشورى فيصبح ملكاً عضوضاً أي يعض على الأمة عضا ويفرض عليها فرضاً كما أوجبت الشريعة الإسلامية الشعور بالمسؤولية عن انحراف الحكام ولزوم مراقبتهم ، فقرر الرسول : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وقال (لا طاعة إلا في المعروف ). وقال خليفته : ( إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني) وقرر الأئمة الأربعة بعدم جواز توريث الحكم أو الخلافة وبطلان ذلك شرعاً لمخالفته القرآن والسنة النبوية كالنظام الملكي الوراثي وإن مال الخزينة هو من الأمة وإليها ، مرصود لمصالحها فقط وليس للحاكم حق فيه أو في ثروات الأمة الباطنية إلا مرتبه فقط المقرر لمعيشته بصورة معتدلة دون بذخ أو ترف ) .
المعارضة في الفقه الإسلامي : جوهرها التصدي للانحراف عن النموذج الإسلامي الأمثل لنظام الحكم وقواعد الممارسة السياسية كما أرستها الشريعة الإسلامية فالمعارضة سلوك لا يرتبط بشكل معين للحياة السياسية ولا تحتاج إلى تنظيم حزبي لأنه يجب أن يقوم به الفرد دون اشتراط انتمائه أو عضويته في تنظيم معين ، ومن ناحية أخرى فإن المعارضة لا تقوم على حق مستمر من الإرادات الشعبية التي أوصلت شخصاً ما أو حزباً ما إلى الحكم ولكنها واجب تكليفي بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن ثم لا يعنيها الوصول إلى السلطة بقدر ما يعنيها تصحيح الخطأ ووقف المنكر الذي قامت لتعارضه .
فالمعارضة في نظرية السياسة الغربية مختلفة عن مفهومها في الفقه السياسي الإسلامي من الوجوه الآتية :
الشريعة بأوامرها ونواهيها موجهة إلى الحاكم والمحكوم على السواء ، ومن ثم فإن ذلك التصور الغربي لمصطلح المعارضة الذي يقوم على انقسام الحياة السياسة من طرفين : أحدهما يقوم بدور الحكومة والآخر يقوم بدور المعارضة ، يواجهه التصور الإسلامي الذي يصير فيه الفرد حاكماً ومحكوماً في أن واحد حيث أن كل فرد راع وكل فرد مسؤول عن رعيته ، ومن ثم المعارضة ليست دوراً بقدر ما هي موقف يتخذه الفرد بغض النظر عن كونه حاكماً أو محكوماً متى ظهرت دواعيه الشرعية المتمثلة أساساً في القيام بالشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . النظرة العضوية التكاملية المسيطرة على التصور الإسلامي للوجود السياسي والاجتماعي والتي من أهم آثارها .
أن يكون لكل عضو في هذا الجسد دوره ولديه الصفات والمؤهلات الكفيلة بتمام تأديتها ومن ثم فإن الاتجاه نحو وضع الشرائط والصفات على النحو السابق هو أهم ضامن لتمام تأدية العضو لوظيفته وبحيث يصبح فقد هذه الشرائط بمثابة فقدان للأهلية والصلاحية التي تكفل للعضو البقاء في وظيفته ، ومن ثم فإن هذا الجسد السياسي الإسلامي إن كان يعرف توزيع الأدوار بين حكومة مرة ومعارضة مرة أخرى، فكل دور له أهله الذين لديهم الصفات والشرائط الكفيلة بتمام تأديته لهذا الدور ومن ثم فلا يمكن تصور تبادل الأدوار إلا إذا تم تصور إمكانية تبادل الصفات والشرائط المطلوبة لتمام تأدية الدور ومن ثم فإن شرعية المعارضة تعتمد على اتصافها بصفات معينة هي صفات القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث إذا فقدت هذه الصفات فقدت المعارضة شرعيتها وأصبحت معارضة المعارضة نهياً عن المنكر واجباً .(2/184)
والفرد في قيامه بالمعارضة ( في الرؤية الإسلامية ) إنما يقوم بهذا عن ولاية مباشرة بما عليه من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمسلم ولي المسلمين ونائبهم ويمثلهم جميعاً في كل ما يتعلق بتطبيق الشريعة بماله من هذه الولاية وتتمثل فيما يملكه الفرد المسلم من رفع دعوى دون أن يقال لا مصلحة شخصية لك ولا صفة ، بعكس الدعوى في النظم العلمانية والقوانين الوضعية حيث لا مصلحة ولا صفة فلا دعوى .
إن الفكر السياسي الغربي ينظر إلى المعارضة من خلال مبدأ الحرية الذي يصير تعبيراً عن حرية الفرد في أن يقرر بنفسه الطريقة والأسلوب الذي يعيش وفق حريته ولو خالفت الجماعة ، أما الرؤية الإسلامية ترفض ذلك ، فالإسلام كل متكامل لا يقبل التجزؤ أوالتبعيض ، ومن ثم فهو يؤخذ كله أو يترك كله ، والحرية تقتصر على الدخول تحت مظلة الشريعة ولا تتعداه إلى جهة الإنسان ( لا إكراه في الدين ) . ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) أما بعد قبول الدخول تحت مظلته فعليه الالتزام بالخضوع الكامل للقواعد الآمرة والناهية المنزلة ولا يعني ذلك أن حرية الإنسان منقوصة ، بل إن كمالها يتمثل في العبودية لله وحده وهذا يحمل معنى تحرره من كافة أنواع العبودية ، وتجعل الهيمنة العليا للإرادة الإلهية على كل من الحاكم والمحكوم ، وبهذا يقف كلاهما على قدم المساواة أمام القانون الإلهي ، وهذا يعني أن السلطة مقيدة بالأحكام الشرعية والخلاصة أن أهل الحل والعقد مكلفون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعبيراً عن المعارضة لكل ما يخالف الشرع باعتبارهم جماعة قادرة على ذلك ، وإن هذا لا يعفي الأفراد من القيام بأداء هذا الواجب ولا سيما حين يقصر أهل الحل والعقد عن القيام بها لسبب ما والقيام بهذا الواجب لا يتوقف على الانتماء إلى تنظيم معين أو انطلاقاً من الإرادة الشعبية التي تتمثل في الهيئة الناخبة . والأحزاب السياسية أفرزتها الخبرة الغربية ، وبالنظر إلى هذا الوجه فإنه رغم أن نشأتها كانت على أساس ديني وبسبب خلافات دينية ومن أجل مصالح وأهداف دينية إلا أن ازدهار فكرة الفصل بين الدين والسياسة وتبني مبدأ العلمانية في النظم السياسية الغربية جعل هذا الفصل بين الدين والسياسة ، وتبنى مبدأ العلمانية في النظم السياسية الغربية جعل هذا الفصل يمتد إلى النظام الحزبي بحيث تصير الأحزاب من حيث طبيعتها تعبيراً عن العلمانية . ودلالة هذا فيما نحن بصدده ألا يتعدى طرف على اختصاصات الآخر ، وقيام جماعة دينية بنشاط سياسي فيه خروج على هذا المفهوم ،لأن العمل السياسي والتنظيمات السياسية اختصاص أصيل للدولة طبقاً للمبدأ . ولذلك كان طبيعياً أن يشجب الداعون لمبدأ الفصل بين الدين والدولة كل محاولة لقيام جماعة دينيةذات صبغة سياسية وهذا ما تؤمن به الغالبية العظمى من الأحزاب السياسية الحديثة القومية النزعة والعلمانية المذهب أما الرؤية الإسلامية ترفض هذا الفصل بين الدين والسياسة حيث أن الإسلام. عقيدة وشريعة والسياسة جزء من أحكامه ، وبمعنى آخر فإن الدين يحتوي على السياسة والسياسة فرع من فروع الدين مما سبق نخلص إلى أنه لا يمكن بحال اعتبار جماعة أهل الحل والعقد تنظيماً سياسياً بالمعنى الحزبي لأن الرؤية الإسلامية ترفض الحزب السياسي تعريفاً ووظيفة وموقفاً من الدين ، أما أهل الحل والعقد فهي جماعة تدير شؤون الأمة وتنطلق من الشريعة وتستهدفها .
الطبيعة العقدية للبيعة واختيار الحاكم : إن العقد والبيعة تقتضي عاقداً أو مبايعاً وهم أهل الحل والعقد ومعقوداً عليه وهو الخليفة أو الإمام أو الحاكم . والعقد ذو مضمون إسلامي يحدد التزامات طرفي العقد وهي لا تنعقد إذا لم تكن قائمة على الرضا والاختيار الحر لا يدخله إكراه ولا أجبار فالعقد ليس بيعة ذات طبيعة شكلية من قبيل تصفيق الأيدي وإنما من حيث جوهرها تعني الرضا ثم الانقياد ، وهناك التزامات متبادلة بين الطرفين فالبيعة هي العهد على الطاعة ، مادام الحاكم مطيعاً لله مطبقاً شرعه المتجلى ذلك في قول الخليفة أبي بكر: ( أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم ) وقول الرسول الكريم ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) .
أما طريقة تعيين ولي العهد أو الاستخلاف فهي سوابق تاريخية وهي بمثابة ترشيح لهذا المنصب لا أكثر ولم يدخل كل من عمر وعثمان في الخلافة إلا بعد مبايعة المسلمين لهم مبايعة انعقاد عن رضا واختيار وهي إجراءات اجتهادية غير ملزمة . وإن ما حدث في السقيفة من ترشيح أبي بكر وما اتخذه أبو بكر في شأن العهد إلى عمر ( ترشيحه ) بالخلافة من بعده ، أو ما فعله عمر في جعلها شورى بين أهل الشورى الستة هذه كلها من قبيل الإجراءات الاجتهادية المتعلقة بطرق الترشيح لرئاسة الدولة والتي لم يرد بخصوصها نص ملزم من القرآن الكريم أو السنة وإنما هذه إجراءات تقع في منطقة العفو المتروكة لاجتهاد الناس حسب مقتضيات ظروفهم ومستوى تطورهم الحضاري والنظمي على وجه الخصوص ، بدليل أن اجتهاد عمر في السقيفة بمبايعة أبي بكر اختلف عن اجتهاده وهو خليفة بالعهد إلى أهل الشورى وهو في هذا وذلك يختلف عن اجتهاد أبي بكر في عهده إلى عمر ، فهي كلها طرق وإجراءات اجتهادية في كيفية الترشيح وذلك بخلاف البيعة التي بموجبها تتم المبايعة للخليفة مبايعة انعقاد .ويمكن اعتماد آليات الديمقراطية مثل انتخاب الحاكم والمسؤلين والمجالس . أما المبايع له ( الحاكم ) فيلتزم بالحكم بالعدل وتدبير أمور الأمة ومصالحها على مقتضى النظر الشرعي وقد أوجب الله الوفاء بالعقود . قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) .
وقد اتفق جميع علماء المسلمين أن للأمة أو أحد مجالسها التشريعية أو القضائية أو التنفيذية خلع الخليفة أو الحاكم لسبب يوجبه وإن أدى ذلك إلى الفتنة ( احتمل أدنى المضرتين ) دون أن يكون للحاكم الحق في حل المجلس أو فرض أوامره وقراراته عليه أو سجن المعارضين لرأيه. وإن أول أساس ارتكز عليه نظام الحكم هو أن واضع أصول الأحكام هو الله وحده فليس لبشر أن يشرع أصولاً قانونية غير التي سنها الله ، أما في القضايا التي لم يرد فيها نص فقد فوضت الشريعة مهمة سن قوانينها إلى أولى الأمر من العلماء الذين هم أهل للاجتهاد والدليل على اختصاص الله بالتشريع قوله سبحانه ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) . ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) . وأمر الله تعالى بإتباع أحكام الشريعة ونهى عن إتباع ما يخالفها ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تتذكرون ) ويحرم الله تحريماً قاطعاً الخروج على نصوص الشريعة فحذر من رفض التحاكم بها ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، الظالمون ، الفاسقون ) . والمؤمن الذي يختار من الأحكام غير ما أختاره الله ورسوله محمد فهو ضال ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ) .(2/185)
وقد جاء في كتاب كنوز الإسلام للدكتور محمد فائز المط ص 270 ما يلي : ( جعل الإسلام الإمارة انتخاباً لا إرثاً ، يُنتخب الحاكم من أفضل الناس وأعلمهم في كافة مجالات الحياة ووضع الإسلام بين يدي الحاكم دستوراً كاملاً مثالياً لا يحتاج إلى تبديل أو تعديل وهو القرآن والسنة وفرض عليه أن ينفذه بحذافيره وأوجب على الشعب طاعته ما طبق هذا الدستور) . لذلك إذا أخلَّ أحد طرفي العقد بالتزاماته اختلت الشرعية الإسلامية ووجب تدخل الوظيفة الرقابية انطلاقاً من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء في مواجهة الرعية العاصية أو الحاكم الجائر حتى تصل إلى عزله من سدة الحكم ، وهي فكرة عزل الإمام حيث أن العقد قام على أساس اختيار الحاكم في مركزه رئيساً للدولة والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان رئيسيان : جرح في عدالته أو أن يطرأ على بدنه نقص سواء في الحواس أو الأعضاء أو التصرف (العقل) أو غير ذلك من شروط الترشيح للحاكم كما أن الخليفة أو الحاكم يكون مسؤولا مسؤولية سياسية تقتضي منه أن يكون تصرفه على الرعية منوطاً بالمصلحة وأن يلتزم بالقيم الإسلامية في ممارسته وسلوكه السياسي ، ومسؤلا مسؤولية جنائية عن تصرفاته التي تخل بعدالته ، فإن ذلك يقتضي عزل الخليفة أو الحاكم أو الإمام أو الملك .
الجهة التي لها حق عزل الحاكم : إن الجهة التي عقدت العقد هي التي تملك حله والخليفة متى زاغ عن العدالة وخرج عن شرع الله كانت الأمة عياراً عليه في العدول إلى غيره وهم :
1- أهل الحل والعقد وهم مجالس الوزراء والشورى (العلماء )والشعب أو الأمة (البرلمان) ومجلس القضاء الأعلى
2ـ المحكمة الدستورية العليا التي تحكم بكتاب الله وسنة رسوله . قال تعالى ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله ) . وتفصل المحكمة النزاع بالرد إلى الأصول الشرعية فإن انتهت إلى حكم بالعزل وجبت الطاعة من قبل الحاكم ويحق لأي شخص من هذه المجالس رفع قضية العزل إلى المحكمة أو إلى المجلس ذاته .ويدخل في مفهوم أهل الحل والعقد أيضا :
1- الفقهاء المجتهدون(أهل الاجتهاد) وهم العلماء المتخصصون في دراسة الشريعة الإسلامية وحازوا مستوى من المعرفة والعلم بها يؤهلهم أو يوفر لهم ملكة الاجتهاد والتمكن من استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية
2- أهل الاختصاص من الخبراء والفنيين والعلميين وأرباب المهارات والكفاءات العلمية والإدارية . قادة المجاهدين وأمراء الجند بحيث تظل القوة العسكرية محكومة بضوابط العقيدة في استخدامها وتظل تؤدي دور الوسيلة المساندة للعقيدة
3 - الإسلامية فقط وليس للحاكم تجاوز هذه الحدود فتصير حينئذ طغياناً غير شرعي .
4ـ المستشارون والنصحاء و( أهل الشورى ) وهم الذين يملكون صلاحية أو أهلية تقديم الرأي والنصيحة في أوسع المعاني في أمر من الأمور وهم أصحاب الشهادات والاختصاصات العالية من كافة نواحي النشاط البشري .
5ـ أهل الاختيار وهم الذين يناط بهم اختيار الأصلح للمراكز التمثيلية من بين المرشحين لها .
ويتوجب على أهل الحل والعقد كل جلسة فصل واحد أو أكثر من المجلس إذا تبين فساده أو خيانته بالاقتراع السري الخطي وموافقة ثلثي الأعضاء .ويكون لهذا المجلس التشريعي مهمة كشف الأخطاء واقتراح الحلول للحكومة والأمة بشكل عام ومراقبة المسؤولين وإبطال قراراتهم الغير شرعية ومنها التبعية للغرب أوالسماح بوضع قواعد عسكرية أجنبية أواعطائهم امتيازات لسرقة البترول والمعادن لأنها من حق الأمة .
أما مؤسسات الحل والعقد في النموذج الإسلامي لنظام الحكم فهي :
المؤسسة التنفيذية التي تقوم على الحركة بموجب الحكم الشرعي قصداً إلى تحقيق مصالح الأمة الدينية والدنيوية وهذه تضم مؤسسة الخلافة( رئاسة الدولة) والوزارة والإمارة على الأقاليم ومؤسسة الاجتهاد التشريعي ومؤسسة القضاء والرقابة ( المظالم والحسبة ) ومؤسسة الدعوة والهداية . وبناء عليه فإن دور أهل الحل والعقد أوسع نطاقاً من دور الصفوة السياسية فهو شامل لشؤون الدين والدنيا والآخرة ( عبادات ومعاملات ) ويمتد ليشمل في غايته الضرورات الخمس( حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال) بحيث يجمع في توازن مقصود بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة في أطار المفهوم الشرعي للمصلحتين كذلك فإنه يجمع في شموله بين المصلحة الدينية والمصلحة الدنيوية على المستوى الجماعي وبين مطالب الروح والجسد على المستوى الفردي . وقصده جلب المنافع ودفع المضار التي قصدها الشارع وهدفهم النهائي الأساسي هو ( تعبيد الناس لإله الناس ) من خلال تحقيق منهج الله في صورته التطبيقية التي تجعل الإنسان ينشىء ويعمر ، ويغير ويطور ، ويصلح وينمي تحقيقاً لعمارة الأرض ، قال تعالى : ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) . وفي النهاية نخلص إلى أن الدعوة والمناداة بإقامة نظام الحكم الإسلامي بمقاصده وأبعاده الوظيفية والمؤسسية والعقيدية الذي قوامه أهل الحل والعقد ليست عودة إلى أدراج الماضي نحو نمط أو تصور تاريخي بعينه للخلافة كما قد يتصور البعض وليست أيضاً دعوة إلى نظام تيوقراطي تتسلط فيه طبقة من رجال الدين وتدعي احتكارها للحقيقة الدينية وتلقيها عن الله ، وإنما هي دعوة واقعية لنظام فعّال قادر على أن يلبي حاجات الأمة ومصالحها المحددة نحو الغاية التي من أجلها استخلفها الله في هذه الأرض ألا وهي تعبيد الناس لرب الناس ، ملك الناس إله الناس فإذا لم يطبق الخليفة الشريعة أو أفسد في الأرض خُلع تلقائياً ولا طاعة له فالوالي غير الصالح ليس أهلاً للولاية ، ونظراً لانحياز الأمم المتحدة إلى إسرائيل يفضل الانسحاب منها وتفعيل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي تمهيداً للوحدة الشاملة إن شاء الله .
قواعد الإصلاح والتجديد في فكر الإمام الغزالي:
الأساس في وجود الأمة المسلمة هو إخراجها لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله وحين قعد المسلمون عن تبليغ الرسالة امتلأت الأرض بالفتنة والفساد الكبير وأصبح المسلمون وغيرهم ضحايا هذا القعود . وما دام المسلمون مسؤولين عن حمل رسالة الإصلاح إلى العالم ، وما داموا قاعدين عن حمل هذه الرسالة ، فإنه من الواجب أن يجري البحث في أسباب القعود من داخل المسلمين أنفسهم . وما دامت الحاجة ماسة إلى تلمس أسباب القعود فإن الغاية من هذا التلمس يجب أن تستهدف التشخيص وتقديم العلاج لا مجرد توترات سلبية تقوم على التلاوم وتبادل الاتهام . لذلك لا بد من اعتماد النقد الذاتي وعدم إلقاء المسؤولية على القوى الأجنبية الاستعمارية المهاجمة التي جذبتها عوامل الضعف الداخلي وقابلية الهزيمة من خارج . وهذا منهج يتفق مع المبدأ الإسلامي القائل ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) الشورى . والقائل كذلك ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) الأنفال .
فلابد من معالجة قابلية الهزيمة بدل التباكي على مظاهر الهزيمة أي البحث في القابلية للاستعمار بدل توجيه اللوم إلى الاستعمار فالمشكلة كل المشكلة في فساد المحتويات الفكرية والنفسية عند المسلمين في أمور العقيدة والاجتماع وما سوى ذلك هي مضاعفات تزول بزوال المرض الأساسي .
ومنهج الإصلاح يبدأ بالإصلاح الفكري والنفسي أولاً وهذا مبدأ قرآني واضح ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) الرعد . وكذلك الإصلاح السياسي والعسكري وغير ذلك من الإصلاحات .(2/186)
وتطبيق واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطهير المجتمع الإسلامي من الأمراض التي تفترسه من الداخل وضرورة إعداد المسلمين لاستئناف الجهاد وحمل رسالة الإسلام حتى تبلغ الدعوة أقصى العالم وتتوطد دعائم الإيمان والسلام فيه . وهذا لن يتم إلا بعد المصالحة بين المذاهب والطوائف والقوميات الإسلامية وتوحيد الجهود والأفكار والتخلص من علماء الدنيا علماء السوء الذي قصدهم من العلم التقرب إلى السلطان و المسؤولين السياسين والتنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها وبالتالي فساد رسالة العلماء وانتشار الشكلية الدينية في المجتمع الإسلامي ـ البعد عن قضايا المجتمع والاشتغال بقضايا هامشية لا طائل تحتها والتعصب المذهبي واختفاء الفضائل العلمية . وتفتيت وحدة الأمة وظهور الجماعات والمذاهب وانتشار التدين السطحي والفئات التي مثلته .
لذلك لا بد من العمل على إيجاد جيل جديد من العلماء والمربين ووضع منهاج جديد للتربية والتعليم وإحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب نقد السلاطين الظلمة وتحريم التعامل معهم ومع حاشيتهم والمسؤولين التابعين لهم ولا بد أيضاً من محاربة المادية الجارفة والسلبية الدينية وتصحيح التصور السائد عن الدنيا والآخرة . والدعوة للعدالة الاجتماعية ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة والإسراع في الإعداد العقائدي للجهاد والحرص على تنمية ولاء الجندي لله سبحانه وتعالى وبذل نفسه في سبيله وتكريس طاقاته له مع الحذر الشديد من شرك الولاء لقائد أو سلطان أو حاكم ، فهذا كله شرك يفسد الجهاد ويحبطه وإعادة بناء الجيش والقوات المسلحة بحيث نرفع من معنويات العسكري والامتناع عن إهانته أو شتمه أو توبيخه وزرع حب الشهادة في سبيل الله بنفسه لأنها الطريق للنصر في المعركة والفوز بالجنة ، وإعداد الشعب إعداداً إسلامياً وتطهير الحياة الدينية والثقافية من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية وآثار الفلسفة اليونانية والممارسات الفاطمية للعبادات والشعائر وضرورة صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية وتطبيق العدل وسيادة القانون على الجميع حكاماً ومحكومين وتحقيق التكافل الاجتماعي ونبذ الخصومات القومية والطائفية والمذهبية وتعبئة القوى الإسلامية وتنسيق جهودها ضمن منهاج عمل موحد وقيادة متكاملة متعاونة وإقامة المنشآت العلمية والاقتصادية والمرافق العامة وبناء القوة العسكرية والعناية بالصناعات الحربية والثقيلة . والقضاء على الدويلات المتناثرة في الوطن العربي وتحقيق الوحدة الإسلامية ، واختيار خليفة للمسلمين حتى ولو اقتصرت على الوطن العربي كخطوة أولى ، مع المحافظة على الأقليات غير الإسلامية وعدم المساس بشعائرها الدينية طالما هي موالية للأنظمة الإسلامية فهم أهل الذمة وقد أوصانا الرسول بهم خيراً مع تشجيعهم بالدخول إلى الإسلام دون إكراه . ولابد من التخلص من الاستبداد والملك العضوض والانتقال إلى تطبيق الشورى والتداول السلمي للسلطات .
وإن المبادئ الأساسية هي :
1ـ أن يبدأ التغيير في محتويات الأنفس أي الإصلاح الفكري والنفسي في الميادين الاجتماعية والسياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية والتربوية والقضائية وسائر ميادين الحياة الخارجية
2ـ إن التغيير لا يحدث إلا إذا قام القوم مجتمعين وليس الأفراد بتغيير ما بأنفسهم
3ـ أن تتم الإحاطة الكاملة بحلقات السلوك الذي يفرز الظواهر الاجتماعية والرسوخ بتفاصيلها وتركيبها .
4 ـ إن فترات القوة والمنعة في التاريخ الإسلامي إنما ولدت حين تزاوج عنصران هما الإخلاص في الإرادة والصواب في التفكير والعمل فإن غاب أحدهما أو كلاهما أو طلّق أحدهما الآخر فلا فائدة من الجهود التي تبذل والتضحيات التي تقدم .
5ـ إن التاريخ كله ـ الإسلامي وغير الإسلامي ـ برهن على أنه حين تقوم شبكة العلاقات الاجتماعية على أساس الولاء الشامل لأفكار الرسالة التي تتبناها الأمة وتعيش من أجلها فإن كل فرد في المجتمع يصبح مصاناً ومحترماً سواءً كان حياً أو ميتاً ومهما اختلفت آراؤه مع الآخرين ويوجه الصراع إلى خارج المجتمع وتتوحد الجهود وتثمر . أما عندما تتشكل شبكة العلاقات طبقاً لمحاور الولاء الفردي أو العشائري أو المذهبي أو الطائفي أو الإقليمي أو الحزبي وطبقاً للدوران في فلك الأشخاص والأشياء فإن الإنسان يصبح أرخص شيء داخل المجتمع وخارجه ويدور الصراع داخل المجتمع نفسه ويمزقه إلى شيع يذيق بعضها بأس بعض ثم يكون من نتائج ذلك أن تجذب روائح الضعف الطامعين من خارج .
والله يغير ما بقوم من أحوال سيئة إذا تغيرت القيادة الفاسدة المستبدة بالحكم خاصة علماء الدنيا وفقهاء السلطان في العالم الإسلامي وبالتالي يغير الناس ما بأنفسهم من معتقدات وتصورات وقيم وتقاليد وعادات متخلفة . قال تعالى على لسان سيدنا شعيب عليه السلام : ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) . أخيرا أقول إن فلسطين سقطت بيد الصهاينة بعد سقوط الخلافة الإسلامية في القسطنطينية ولن تعود إلى أهلها إلا بعودة الخلافة الإسلامية مجددا إن شاء الله والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والله ثم الوطن من وراء القصد.
المراجع :
1- دور أهل الحل والعقد للدكتور الفقيه فوزي خليل من جمهورية مصر العربية الاسلامية .
2ـ المدخل إلى الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للعلامة الفقيه مصطفى الزرقا الأستاذ الجامعي في كليتي الشريعة والحقوق بجامعة دمشق والمستشار لدى حكومة المملكة العربية السعودية عضو مجمع الفقه لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة
3ـ الأحكام السلطانية لأبي الحسن الماوردي
4- روح الدين الإسلامي للعلامة عفيف عبد الفتاح طبارة ـ لبنان
5ـ كتب الإمام أبي حامد الغزالي
عوامل النهضة والنصر لدى الشيخ عبد القادر الكيلاني والدكتور ماجد عرسان الكيلاني :
يقول ابن تيمية ( إنَّ أهم آثار السنة الإلهية في العدل أن الملك والإسلام مع الظلم لا يدوم ، وأن الملك والكفر مع العدل يدوم . والأمة التي تتفوق في المعرفة تتفوق في القوة ) . لذلك فإن الجيوش الغربية الغازية للدول الإسلامية تهدف إلى تنفيذ المخططات الهادفة إلى نشر الثقافة المسيحية المتصهينة والقضاء على الثقافة الإسلامية ، ونهب خيرات الشعوب العربية المتخلفة بعد أن أقامت دول الطوائف على أنقاض الدولة العثمانية طبقاً لمعاهدة سايكس ـ بيكو ومثيلاتها واستمرت مِزَقُ الأمة تفتخر بالانتماء إلى هذه الدول الممزقة وتدافع عنها ، لتتبين أن يد الله أ أي عونه وعطاءه ـ إنما هي مع الجماعة وأن الوحدة سنة وجود تنظيم عوالم الإنسان والحيوان والنبات والجماد. ويقول الفقيه العلامه الشيخ عبد القادر الكيلاني :(2/187)
إن الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق قانون إلهي من قوانين النصر والفلاح في كل مواجهة والمواجهة الحقيقية التي يحتاجها العالم العربي والإسلامي هي التي تجري على مرحلتين الأولى مواجهة مع الذات يقوم بها العلماء والساسة وعامة الأمة بغية تحريرها من التبعية الثقافية الغربية والاعتماد الفعلي على الغير وتمكينها من اكتشاف الهوية وتحقيق الانتماء إلى ماضي الازدهار والمنعة وتحليل الحاضر واستشراف مسارات المستقبل ودروبه . فإذا انتصرت الأمة في هذه المواجهة فستكون مؤهلة لبدء المواجهة الثانية مع الغير المعتدي بثقة واستقلالية وجدارة ، ولسوف تنتهي بها المعركة إلى النصر المادي والفتح الاجتماعي . أما الفرقة الناجية فهي التي تسلك ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو : أن لا يترك الدنيا بالكلية ولايقمع الشهوات بالكلية . أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد . وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة . بل يتبع العدل ولايترك كل شيء من الدنيا ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده . فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظه عن اللصوص والحر والبرد ومن الكسوة كذلك . حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بهمة واشتغل بالذكر والفكر والعلم وبناء الأرض طول العمر ، ويظل محافظاً على حد الاعتدال والتوسط في الشهوات حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى .(2/188)
واعتمد الشيخ الكيلاني أسلوباً يقوم على أمرين الأول اعتماد التعليم المنظم والتربية الروحية والثاني الوعظ والدعوة بين الجماهير ويعتبر السبب الأساسي للفساد الذي ضرب المجتمع الإسلامي ألا وهو دوران الشريعة في فلك السياسة وخضوع العلماء والفقهاء للحكام وشهوات الدنيا . وعن هذا المرض تفرعت مضاعفات وأمراض أخرى تفشت في ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، كما شن حملة شديدة على العلماء واعتبرهم تجاراً يتاجرون بالدين ويساهمون في ارتكاب المحظورات ويعيب عليهم تقربهم من السلاطين والمسؤولين وطمعهم بما في أيديهم ومن مواعظه وخطبه في انتقاد العلماء قوله ( يا سلاّبين الدنيا بطريق الآخرة من أيدي أربابها يا جهالاً بالحق ، أنتم أحق بالتوبة من هؤلاء العوام ، أنتم أحق بالاعتراف بالذنوب من هؤلاء ، لاخير فيكم ، لو كان عندكم ثمرة العلم لما سعيتم إلى أبواب السلاطين والمسؤولين في حظوظ نفسك وشهواتها ، ياخونة في العلم والعمل يا أعداء الله ورسوله يا قاطعي عباد الله عز وجل أنتم في ظلم ظاهر ونفاق ظاهر . هذا النفاق إلى متى ؟ يا علماء كم تنافقون الملوك والسلاطين حتى تأخذوا رضاهم وتنالوا حطام الدنيا وشهواتها ولذاتها ؟ أنتم وأكثر الملوك في هذا الزمان ظلمة خونة في مال الله عز وجل وفي عباده . يا عباد الله المسلمين هؤلاء علماء الدنيا ، الذين يُفرحون نفوسكم ويذلون للملوك ويصيرون بين أيديهم كالذر لا يأمروهم بأمره ولاينهونهم عن نهيه . وإن فعوا كان قولهم نفاقاً وتكلفاً ، طهَّر الله الأرض منهم ومن كل منافق أو يهديهم إلى بابه . يا خُطّاب المساجد لابارك الله فيكم يا منافقون ليس لكم صنعة البناء ولا آلته ، أنسيتم أن الأنبياء كانوا يعملون بأيديهم ولهم صنعة يشاركون بها في بناء الأرض ، إن من يعظم الحكام كمن يعبد الأصنام . أنسيتم قوله تعالى ( إنما المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) وانتقد الحكام وحذر الناس من الانصياع لهم بما يخالف الشريعة فكان يقول( صارت الملوك لكثير من الناس آلهة يعظمونهم ، وحكمهم حكم من يعظم الأصنام ويعبدها ) وحرص عبد القادر أن يبقى بعيداً عن موطن الشبهات أو التقرب للحكام ، وعرف عنه أنه ما ألم بباب حاكم أو والي قط وأنه كان يرفض هداياهم ويوزع تبرعاتهم على الفقراء قبل أن تتناولها يده ) وتصدى للتطرف الباطني والتيارات الفكرية المنحرفة كالروافض . وحمل أيضاً على المتطرفين من الصوفية وانتقد ما شاع بينهم من حكايات الصالحين وتحريك الأصابع واللسان فقط بالشكر والتسبيح والتهليل وإنما التصوف الصحيح صفاء وصدق معامله وعمل صالح وبناء الأرض وطلب العلم تنفيذاً لقوله تعالى ( اعملوا آل داوود شكراً ) فالكلام بدون عمل يصدقه لا قيمة له والإيمان له مضمونان فكري ـ وجداني لا يتوقف عند الاعتقاد النظري إنما يشترط أمرين آخرين هما العمل والإخلاص فبالعمل ينتفي النفاق وبالإخلاص ينتفي الرياء ، والإخلاص المقصود هو التوجه بالعمل لله وحده . والمضمون الثاني اجتماعي ـ فلا يصح إيمان عبد جاره جائع . وجعل العدل الاجتماعي وتوزيع الثروات توزيعاً عادلاً هو المقياس الحقيقي للتدين والإيمان ، كما أن وظيفة الحاكم المسلم إذا كان مؤمناً حقاً ـ هي نشر دعوة التوحيد وحماية الدين والسهر على تحقيق العدل . خاصة في مجال الاقتصاد وتوزيع ثروات الأمة وأن لا يخص الحاكم نفسه أكثر من أدنى فرد في الأمة . وعليه تأسيس جماعات لحمل رسالة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا بد من تحليل الأصول الاجتماعية ـ الاقتصادية وإبراز خطورة الظلم وكبت الحريات وتهيئة المناخ لظهور المؤسسات التربوية العلمية الإدارية الحضارية التي تعيد العدل واحترام الإنسان مكانهما في محور نظام القيم وممارسات الحياة القائمة . فالمجتمعات التي لا تتيح للأفكار أن تعبّر عن نفسها في عالم الظاهر أي الواقع ، ترتد فيها الأفكار إلى عالم الباطن والميتافيزيقا أي الغيب الذي لا وجود له وتلون ثقافتها وقيمها بالأساطير والأوهام التي تتحدث عن عدل موهوم ورخاء متخيل . نعم لقد أدرك ذلك سيدنا عمر بن الخطاب ببصيرته وتجرده هذه التفاعلات الفكرية المفسدة التي يفرزها الظلم والحرمان والقهر وكم الأفواه وكبت الحريات وإقصاء الآخرين فكان يقول لولاته الذين يرسلهم إلى الأمصار : ( ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم .. ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ) أما حفيد الشيخ عبد القادر كيلاني الدكتور ماجد عرسان الكيلاني فيقول في كتابه القيم (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس ) في التاريخ قوانين تحكم الأحداث والظواهر وتوجهها الوجهة التي يقتضيها منطق القانون . والذين يتقنون فقه هذه القوانين وتطبيقها هم الذين يستمرون في الحياة ويتفوقون في ميادينها . وهذا يعني أن الأمة التي يتولى أمورها حكام وفقهاء يفقهون بناء المجتمعات وانهيارها ويحسنون تطبيق هذه القوانين فإنهم يقودون أممهم إلى التقدم والنصر لا محالة . أما الأمة التي يتولى زمام أمورها حكام وخطباء صنعتهم الكلام فقط يحسنون التلاعب بالمشاعر والعواطف فإنها تظل تتلهى بالأماني التي يحركها هؤلاء الحكام والخطباء حتى إذا جابهت التحديات لم يفقهوا ما يصنعون وآل أمرهم إلى الفشل وأحلوا قومهم دار البوار . إن صحة المجتمعات ومرضها أساسهما صحة الفكر أو مرضه ويكون المجتمع في أعلى درجات الصحة حين يكون الولاء للأفكار هو المحور الذي يتمركز حوله سلوك الأفراد وعلاقاتهم وسياسات المجتمع بينما يدور الأشخاص والأشياء في فلك الأفكار . في هذه الحالة يتسلم مركز القيادة الأذكياء العلماء الذي يحسنون فقه التحديات واتخاذ القرارات . وحين يكون الولاء للأشخاص هو المحور وتدور الأفكار والأشياء في فلك الأشخاص وهم القادة السياسيون ورجال الدين فإن السمة الغالبة للمجتمع تصبح هيمنة محبي الجاه والنفوذ وأصحاب القوة ويسخرون الأفكار والأشياء لمصالحهم الشخصية أو لعشائرهم أو لطوائفهم أو لأحزابهم . أما حين يصبح الولاء للأشياء هو المحور ويدور الأفكار والأشخاص في فلك الأشياء فإن الهيمنة في المجتمع تكون لأرباب المال والتجارات وصانعي الشهوات وتسود ثقافة الترف والاستهلاك وتتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية . ففي عهد الرسول والصحابة كان الولاء للفكرة ثم انتقل في العهد الأموي والعباسي إلى الولاء للأشخاص حين بدأ رجال القوة العصبية من طلقاء مكة الذي أسلموا بعد فتح مكة وعفا عنهم الرسول وبرزت الصراعات الأسرية من أجل الخلافة . ثم انتقل التطور الآن إلى محور الولاء للأشياء وتنافس الناس في جمع الثروات وتكديس الممتلكات .لذلك حين تفشل جميع محاولات الإصلاح وتتحول الجهود المبذولة على سلسلة من الاحباطات والانتكاسات المتلاحقة فإن المطلوب هو القيام بمراجعة تربوية سياسية شاملة جريئة وصريحة وفاعله ، يكون من نتائجها إعادة النظر في كل الموروثات الثقافية التي تلي نصوص القرآن والحديث الصحيح ، وإعادة النظر في كل العملية التربوية والسياسية والإدارية ، وبالتالي فإن القوانين التي أنزلها الله المتمثلة بالشريعة الإسلامية هي العلاج إلى صحة المجتمعات وقيام الراقي من الحضارات ، إلا أن الإسلام لا يؤدي هذا الدور الحضاري إلا إذا تولى قيادته السياسية وفقهه أولو الألباب النيرة والإرادات العازمة النبيلة والعلماء الملتزمون بهذه الشريعة المطالبة بإقامة الشورى والعدل والحرية والمساواة وبناء الحضارة .(2/189)
ويجب التعرف على المواد الخام من البشر الصالحين ليكونوا أنصاراً للدعوات وجنداً للرسالات وأفضل العناصر لذلك هي جماهير العامة في المدن وأهل الريف والبادية خاصة كونهم على الفطرة . وبذلك تتحقق قوة المجتمعات من خلال نضج وتكامل عناصر القوة كلها في دائرة فاعلة وتناسق صحيح ، وهذه العناصر هي المعرفة والثروة والقدرة القتالية ، وقد حذرنا رسول الله من خطورة الانشقاق بين هذه العناصر فقال : (( ألا إن الكتاب ( المتمثل بالشرع والعلم النافع ) والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب )) . لذلك وحتى تنجح العملية والتجربة يجب أن يدور الحكام والأمراء في فلك العلماء المصلحون وليس العكس كما هو الآن أي حين تتبع وتدور كافة القيادات الاقتصادية والعسكرية والإدارية والسياسية في فلك القيادة الفكرية فسيكون النجاح المصير المحتوم . لذلك بعدما فتح القائد صلاح الدين الأيوبي القدس جاء الناس يهنؤوه بالنصر فقال لهم : " ادعوا الله لهؤلاء مجلس الشورى وهم العلماء الجالسون بجانبي أمثال موفق الدين ومحمد ابنا قدامه وابن نجار وغيرهم كثير " فهم الموجهون الحقيقيون والمستشارون الفكريون للسلطان .
أما في العصر الحديث فنجد السر في قوة الدول الكبرى هو تكامل المعرفة والقدرة القتالية والثروة واعتماد صانعي القرار ورجال التخطيط التنفيذ في دوائر الاقتصادية والعسكرية محل ما يقدمه لهم رجال الفكر والخبراء والعلماء العاملون في مراكز البحوث والدراسات ففي الولايات المتحدة حوالي عشرة آلاف مركز بحوث ودراسات متخصصة في بحث الشؤون السياسية والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية والعلوم العسكرية والقضاء والتجارة وشؤون الأقليات والأقطار الأخرى وهؤلاء ينتقون من الأوائل في صفوفهم منذ الدراسة الابتدائية حتى تخرجوا من أعلى مراتب الدراسات الجامعية بتقدير A أي بعلامة مئة بالمئة أو قريب منها . وكذلك الأمر في إسرائيل يتكامل ممثلو المعرفة والقدرة القتالية والثروة بشكل محكم ورائع .
أما الدول العربية فقد وصلت منذ زمن طويل إلى ما حذر منه رسول الله حين قال ( في آخر الزمن يكثر في أمتي الخطباء ويقل الفقهاء والعلماء ) .. والسلطات الحاكمة المستبدة افتقرت إلى النضج السياسي بسبب افتقارها إلى مراكز المعرفة وهذا أدى إلى إفراز نتائج سلبية هي : النتيجة الأولى لجوء السلطات الحاكمة إلى إقامة المؤسسات البوليسية كالأمن والمخابرات والمؤسسات الإعلامية , حيث ترصد حركات جماعة وأحزاب الإصلاح وتعتقل الناشطين من أعضائها , وتلحق بهم وبأسرهم ألوان الأذى النفسي والجسدي والضرر المعيشي بينما تقوم الثانية بتتبع عورات حركات الإصلاح والتشهير بمساقطها , والتشكيك بمقاصدها وتشويه سمعة أعضائها والنتيجة الثانية نشوء بيئة عامة مشحونة بالقلق والتوتر وانتفاء الأمن وعدم الثقة وشيوع الخوف , وانعكست آثارها السلبية على الأخلاق العامة وصار الطابع المميز لشبكة العلاقات العامة هو انتشار النفاق وفساد الذمم والانتهازية وانتقاص إنسانية الإنسان في جميع المواقف والميادين والنتيجة الثالثة حيرة الجماهير ودهشتها أمام الصراع الجاري بين السلطة وحركات الإصلاح والنتيجة الرابعة حذر الخيرِّين من ممثلي الثروة وترددهم عن التعاون مع حركات الإصلاح والخوف من مفاجآت السلطة وانفعالاتها ولذلك لم يتجاوبوا مع سياستها ووعودها . والنتيجة الخامسة هي انقسام جماعات الإصلاح إلى قسمين : قسم مال إلى مهادنة السلطة وتملقها ورضي بالا عطيات التي تجود بها تحت ستار التعددية والديمقراطية , وقسم اختار السلبية التي تصاعدت وانتهت إلى التطرف والصدام المسلح مع السلطات الرسمية الحاكمة مما أدى إلى تجريم مسارات الإصلاح وسلبها شعبيتها وقتل فاعليتها . ثم كانت المحصلة النهائية لتفاعل هذه النتائج الخمسة هي استنزاف المقدرات وتبديد الطاقات وتوجيه عناصر القوة الأربعة عناصر المعرفة والثروة والمهارات السياسية والقدرة القتالية إلى نحور أهلها وجعلهم يخربون بيوتهم بأيديهم , وتظل الحاجة الملحة قائمة إلى الاستراتيجية الصافية التي تنتقي الألوف من أولي الألباب ممن يكونون أوائل الصفوف الدراسية ويحصلون على ما يزيد عن تسعين بالمئة في امتحان الثانوية ثم يجري إعدادهم وتربيتهم ليكونوا فريقين : فريق يتسلم القيادة الفكرية وتتجمع في مراكز الدراسات والبحوث ليتفكروا في مشكلات العالم الإسلامي ويبصروا قوانين الله في بناء المجتمعات وهدمها . وفريق يتسلم القيادة السياسية ويحول هذه القوانين إلى سياسات وخطط واستراتيجيات وبذلك تتكامل الطاقات والمؤسسات ويظهر جيل العلم والإيمان جيل صلاح الدين الجديد وتعود القدس للمسلمين وينتشر الإسلام في العالم ونبني حضارة إسلامية روحية تفوق حضارة الغرب المادية ، وبذلك نكسب الدنيا والآخرة ونرضي الله سبحانه الذي كلف الأمة الإسلامية أن تنشر الدعوة في أرجاء الأرض فكان لهذا التكليف حكمة معينة في تقدير الله وكانت له كذلك مقتضيات ، فأما الحكمة فهي كون الرسول هو خاتم الأنبياء وقد أرسل إلى البشرية كافة وإلى آخر الزمان ، وإن أمته تحمل رسالته من بعده بخصوصيتها هاتين أنها للبشر كافة وللزمن المقبل كله ، وأما ما يترتب على ذلك فهو فرض الجهاد على هذه الأمة لتوصيل الدعوة إلى آفاق الأرض ، ولم يكن الجهاد من أجل فرض العقيدة على الناس إذ لا إكراه في الدين ، إنما كان الجهاد من أجل أمر آخر هو إزالة العقبات التي تحول بين الناس وبين الاستماع إلى الحق كما هو على حقيقته متمثلة تلك العقبات في نظم جاهلية تحميها جيوش جاهلية ، فإذا أزيلت هذه العقبات فالناس أحرار يختارون لأنفسهم ما يقتنعون به بغير إكراه فالإسلام بهذا هو أكبر حركة تحريرية في تاريخ البشرية تحرر الإنسان من العبوديات الزائفة كلها مثل العبودية للأصنام والعبودية للقبيلة والعبودية للآباء والأجداد والعبودية للهوى والشهوات والعبودية للطواغيت ، فالإسلام هو الوجه المقابل للجهل بحقيقة الله الواحد الصمد المقصود بقضاء حوائج الكائنات كلها ، وبالله المستعان على ما يصفون والحمد لله رب العالمين .
ـ المرجع كتاب هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس للعلامة الدكتور ماجد عرسان الكيلاني
================
الإسلام والغرب شقاق أم وفاق
إعداد : نصر بن محمد الصنقري
المقدمة :
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } أما بعد:(2/190)
تردد في الآونة الأخيرة مصطلح (صدِام الحضارات) وأخذ هذا المصطلح يطفو على سطح الوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية والمطبوعة وكأن العالم قاب قوسين أو أدنى من حرب كونية ثالثة سوف تأتي على السلالة البشرية بأكملها وراح البعض يرّوج لفكرة أن الدين سيكون شرارة هذه الحرب..
وما أن طغى مصطلح (صدِام الحضارات) على السطح، حتى ظهر مصطلح آخر وهو بمثابة الند أو الضد للمصطلح الأول وهو مصطلح (حوار الحضارات) ويرى أصحاب هذا المصطلح أو التيار أن الحضارات لا تتصارع ولا تتصادم وإنما تتكامل وتتبلور بحيث تعتمد كل حضارة على ما عند الحضارات الأخرى من علوم ومعارف وثقافات وعقائد، ويرى أصحاب هذا التيار أيضاً أن الأديان لا يمكن أن تكون بذاتها وسيلة للصدِام والمجابهة بل هي بذاتها وسيلة لتقارب الإنسان من أخيه الإنسان. وكما أن الدين وسيلة للتفاهم فإن الحضارة أيضاً هي خير وسيلة للتعبير عن احتياجات ورغبات الإنسان في العيش الهانئ دون اللجوء إلى لغة العنف مع الآخر.
غير أن الشاعر يقول :
أرى خلال الرماد وميض نار وأخشى أن يكون لهم ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام
ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في ( الإسلام والغرب ) : من الموضوعات التي طرحت نفسها وبحدة خاصة بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، موضوع علاقة الغرب بالعالم الإسلامي. ففي الغرب يسألون لماذا يكرهنا المسلمون؟!.
وفي محاولة الإجابة عن هذا السؤال يقولون : "إن المسلمين يحقدون على الغرب بسبب الاستقرار السياسي والتقدم التكنولوجي والاقتصادي اللذين يتمتع بهما، وإنهم وقعوا أسرى الماضي بدلاً من بذل الجهد اللازم ليلحقوا بركب الحداثة والتقدم، ولذا أخفقوا في تحديث مجتمعاتهم، الأمر الذي يزيد من عدائهم للغرب."
وفي المقابل يحاول بعض المسلمين تفسير العداء الغربي بالقول إن اللوبي الصهيوني -وأحيانا اليهودية العالمية- هي التي تحرض الغرب ضدنا. وهناك من يرى أن الغرب لا يزال صليبياً يحاول تحطيم الإسلام وإذلال المسلمين وربما تنصيرهم. ......................................الجزيرة 4/11/2004.
ثم يقول : وقد يكون هناك شيء من الصحة في كل هذه العناصر، ولكنها قاصرة عن تفسير ظاهرة في شمول وعمق التوتر المتصاعد في العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي.
فكان أن انقسمت الناس فهناك الغرب وأمريكا وبعض القوى المحلية عندنا تدعونا إلى الالتحاق بالركب الحضاري الغربي والاندماج في الحضارة الغربية والتخلي عن ديننا وحضارتنا وقيمنا أو على الأقل قصر علاقتنا به على العبادة الفردية والضمير وهؤلاء يقولون إنه قد ثبت أن الحضارة الغربية حضارة عظيمة ويجب أن تسود العالم ، أو يقولون إنه لا أمل ولا فرصة للمواجهة ومن الأفضل أن ننصاع لها ، وهؤلاء بالطبع منافقون ومخادعون فلا الحضارة الغربية حضارة عظيمة ، ولا هي حضارة ذات أخلاق ، ولا هي قدر مقدور لا يمكن الفكاك منه ، هؤلاء بالتحديد يدعوننا إلى الاستمرار في أداء دور الضحية والذبيحة خاصة بعد أن شحذ الجزار سكينه وأصيب الآكلون بنهم شديد ، وفضلاً عن أننا سنكون مجالا للنهب فإنهم يطلبون منا أن نتخلى عن قيمنا وذاتيتنا ومبادئ ديننا وحضارتنا وهذا بالطبع مرفوض .
واتجاه آخر يقول بأن الحضارات تتفاعل مع بعضها البعض أو تتزاوج وإن الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية أي أنها استفادت من كل الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة الإنسانية كلها.
ومن هنا ألينا على أنفسنا صبر غور هذا التوتر ووضعه في حجمه الطبيعي ، وبيان ما إذا كانت العلاقة مع الغرب هي علاقة الحوار أم علاقة الحرب والدمار ، ويمكن القول إن ثمة عناصر يمكن أن تؤدي إلى توتر العلاقة بين الإسلام والغرب، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تشكل أساساً للتفاهم والتعاون.
ولكن قبل الوصل إلى هذه النتيجة لابد من استعراض الصراع الغربي مع الإسلام ، ولا بد كذلك من توضيح بعض معايير الغرب في نظرته إلى العالم الإسلامي السياسي والديني ، وإلى الفرد المسلم والجماعة المسلمة ، كما لابد أن نبين الأخطاء التي يقع فيها الكثير من المسلمين فيعطوا بذلك الفرصة للغرب ليشنع على الإسلام والمسلمين ، سواء كان ذلك حقاً أو مكراً ودهاءً.
غير أنه يجب التأكيد في الوقت نفسه على أن حرية التعبير وحرية الإعلام شيء، والإساءة والتحريض على الآخر ومعتقداته الدينية وقيمه الروحية شيء آخر...... هذا ونسأل الله تعالى السداد والتوفيق ............
وكتبه /نصر بن محمد الصنقري .......مرسى مطروح .
التمهيد :
إن الإسلام هو الرسالة الخاتمة للرسالات السابقة يدعو إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له وبملائكته وبرسله وبكتبه المنزلة وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، عاجله وآجله ، ويدعو إلى القيم الخلقية النبيلة التي دعت إليها الأديان، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ "(1).
من هذا المنطلق نرى أن الإسلام منهج "منهج حياة" حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها. منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة (الوجود)، ويحدد مكان (الإنسان) في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني.. ويشمل النظم والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر. كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه. والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته. والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته. والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته.. ..............................من كتاب المستقبل لهذا الدين لسيد قطب.
وهذا الدين من الوضوح في هذا المعنى - ومن العمق والقوة كذلك - بحيث يبدو أن ليس هنالك أمل في نجاح أية محاولة لتصويره في صورة العقيدة الوجدانية المنعزلة عن واقع الحياة البشرية، والتي لا علاقة لها بتنظيمات الحياة الواقعية، وتشكيلاتها وأجهزتها العملية. أو العقيدة التي تعد الناس فردوس الآخرة إذا هم أدوا شعائرها وعباداتها، دون أن يحققوا - في واقع مجتمعهم- أنظمتها وشرائعها وأوضاعها المتميزة المتفردة الخاصة ! فهذا الدين ليس هكذا. ولم يكن هكذا. ولا يمكن أن يكون هكذا.. ربما استطاعت أية نحلة في الأرض تزعم لنفسها أنها (دين) ويزعم لها أهلها أنها (دين) أن تكون كذلك! أما (هذا الدين) فلا. ثم لا. ثم لا..
إن هذا الدين أضخم حقيقة، وأصلب عوداً، وأعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود الغربية والتغريبية ، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج أكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة.. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. والى منهجه القويم للحياة.
إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك تنبعث من القلوب الحائرة. وترتفع من الحناجر المتعبة.. تهتف بمنقذ، وتتلفت على (مخلِّص). وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه. وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على هذا الدين!(2/191)
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه كلهم أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك أن تستغني طويلاً عنه....المستقبل لهذا الدين بتصرف وبعض الزيادات .
لقد وقف الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل عام 1864 في جامعة أدنبره العريقة في الدراسات الصليبية وبالرغم من أنه هاجم القرآن إلا أنه عندما جاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال 'لقد أصبح من العار على أي فرد متمدين أن يستمع أو يصدق ما يقال من أن محمداً كان دجالا وكذابا. فكيف بالله عليكم يستطيع الكذاب أن يبني أمة عظيمة تمتد جذورها في هذه المساحة الشاسعة؟. وكيف بالله عليكم للكذاب أن يأتي بكتاب يستطيع أن يسيطر على نفوس وعقول وقلوب معظم سكان الأرض؟'.
ومن هنا اختاره الله لنا اسماً ورسماً ، ومظهراً وجوهراً ، وقلباً وقالباً.
أولاً : يقول تعالى في حق الدين الإسلامي ، وموقف الغرب منه : {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة،
ويقول تبارك وتعالى :{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ } (19) سورة آل عمران ،
ويقول عز من قال : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } (85) سورة آل عمران ،
ويقول أيضاً : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146) سورة البقرة، ويقول عز جاهه : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (20) سورة الأنعام
ينقل الشيخ سفر الحوالي في كتابه كشف الغمة عن علماء الأمة خطط الغرب للسيطرة على منطقة الخليج وحقول النفط ، ومن ضمن ما نقل أيضاً حرص الغرب على حرب الإسلام واعتباره الخطر الأكبر عليهم في العالم الثالث ، وأنقل من كلامه بعض المقتطفات التي نقلها ذات الطابع الهجومي يقول في صـ 32 ـ " والواقع إن جوهر القضية في هذه التحالفات قديمها وحديثها واحد وهو أن مصلحة الغرب تقتضي تناسي خلافاته الداخلية والتوحد لمقاومة الخطر الخارجي الذي يَعُدُ الإسلام رأس الحربة فيه ، فقد تحالفت أوروبا المتناحرة ضد الدولة العثمانية فيما سُمي (الحلف المقدس) كما ظلت تركيا -رغم إنها دولة أوروبية من جهة الموقع- خارج الاتفاقيات الدولية الأوروبية إلى عهد قريب لسبب واحد هو أنها مسلمة ، و سُئل الرئيس التركي عن سبب عدم قبول تركيا عضواً في الوحدة الأوروبية رغم أنها عضو في حلف الناتو - فأجاب بأن السبب هو أن الغرب لا يزال ينظر إلى تركيا باعتبارها دولة إسلامية !!.
ونقل الشيخ أيضاً صـ 37ـ " وفي الوقت نفسه جرى الإعلان أيضاً عن وظيفة جديدة للمخابرات الأمريكية في ظل الوفاق (وهي قديمة في الواقع) فقد أذاعت هيئة الإذاعة البريطانية في برنامج (عالم الظهيرة) ما نصه تقريباً:" إن الجهد الرئيسي للمخابرات الأمريكية الذي كان منصباً لمراقبة إمبراطورية الشر -يعني الاتحاد السوفيتي- سيتجه أساساً لمراقبة الجماعات الأصولية في العالم الإسلامي ووضع العقبات والعراقيل أمامها ".
وأذاعت تعليقاً لصحيفة الفايننشال تايمز قالت فيه:إذا كانت أمريكا تشجع الاتجاهات الديمقراطية في شرق أوروبا ودول العالم الثالث فإنه يجب عليها ألا تشجع تلك الاتجاهات في العالم الإسلامي لأنها بذلك تدفع –دون أن تدري- بالأصوليين إلى تسلم زمام السلطة في ذلك العالم!!!
والواقع أن مثار الذهول ليس مجرد التهديد بالتدخل فقد تدخلت فرنسا فعلاً في دول كثيرة منها (زائير ووسط أفريقيا وساحل العاج وتشاد والجابون) ولكنه في الجراءة على إعلان بعض مخططات الغرب السرية وإشهار الحرب الصليبية الذي يزيد الصحوة الإسلامية ـ بإذن الله ـ اشتعالاً ويرسخ قدمها .
وأنقل هنا مقالات لبعض ساسة الغرب ورجال الدين فيها وهي تدل على أن الغرب بجميع اتجاهاته يعد العدة لحرب صليبية تجهز على الإسلام بزعمهم ، وفكرة الحرب الصليبية أو كما يسمونها الحرب بين قوى ( الخير والشر ) أو بين قوى ( الظلام والنور ) أو بين ( العدالة والظلم ) كل هذه الأسماء التي يستخدمها الأمريكيون وقادة دول التحالف ضد الإسلام لم تكن عبارات جديدة بل هي عبارات أصولية قديمة بالنسبة لهم مستقاة من كتبهم ومن نبوئتهم الخرافية و متأصلة في الفكر الغربي المتطرف ، والمعركة التي يقودها الآن هم الإنجيليون العسكريون ، أو المتطرفون البروتوستانت .
يقول خفير سولانا أمين عام حلف شمال الأطلسي سابقاً في اجتماع للحلف عام 1412هـ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي " بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط العدو الأحمر يجب على دول حلف شمال الأطلسي ودول أوربا جميعاً أن تتناسى خلافاتها فيما بينها وترفع أنظارها من على أقدامها لتنظر إلى الأمام لتبصر عدواً متربصاً بها يجب أن تتحد لمواجهته وهو الأصولية الإسلامية " .
ويقول جلادستون رئيس وزارء بريطانيا سابقاً موصياً بإبعاد الناس عن دينهم تمهيداً للحرب الصليبية " ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق " .
ويقول ألبر مشادور " من يدري ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين يهبطون إليها من السماء لغزو العالم مرة ثانية ، وفي الوقت المناسب " .
ويقول القس لورانس براون داعياً إلى تفريق الأمة " إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له ، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير
ويقول أرنولد توينبي " إن الوحدة الإسلامية نائمة لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ " .
ويقول المستشرق الأمريكي وك سميث الخبير بشئون باكستان " إذا أعطي المسلمون الحرية في العالم الإسلامي ، وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد ، وبالدكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها " .
ثانياً : يقول تعالى في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (56) سورة الفرقان ، ويقول تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (45) سورة الأحزاب، ويقول عز وجل : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (28) سورة سبأ(2/192)
ثالثاً : وقال تعالى في حق المتبعين لهذا الدين : {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78) سورة الحج
رابعاً :عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّt ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ : " أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ ومِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا ، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقَالَ : (إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ) ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا ، فَقُلْتُ : رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً ، قَالَ : اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ ، قَالَ : وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ : مُقْسِطٌ ، مُتَصَدِّقٌ ، مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ ، قَالَ : وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ : الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ ، تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ "........................................أخرجه مسلم في صحيحه وأغلب أهل السنن.(2/193)
خامساً : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ وَكَانَ قَيْصَرُ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أَبْلَاهُ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : حِينَ قَرَأَهُ الْتَمِسُوا لِي هَا هُنَا أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ لِأَسْأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّأْمِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأْمِ فَانْطُلِقَ بِي وَبِأَصْحَابِي حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ ، وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ، فَقَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، قَالَ : أَبُو سُفْيَانَ ، فَقُلْتُ : أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا ، قَالَ : مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ، فَقُلْتُ : هُوَ ابْنُ عَمِّي وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي ، فَقَالَ : قَيْصَرُ أَدْنُوهُ وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي ، ثُمَّ قَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لِأَصْحَابِهِ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الْكَذِبَ عَنِّي فَصَدَقْتُهُ ، ثُمَّ قَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ ، قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ ، قَالَ : فَهَلْ ، قَالَ : هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ ، قُلْتُ : لَا ، فَقَالَ : كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا ، قَالَ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ، قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، قُلْتُ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، قَالَ : فَيَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ ، قُلْتُ : بَلْ يَزِيدُونَ ، قَالَ : فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ، قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَهَلْ يَغْدِرُ ، قُلْتُ : لَا وَنَحْنُ الْآنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ نَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ لَا أَخَافُ أَنْ تُؤْثَرَ عَنِّي غَيْرُهَا ، قَالَ : فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ أَوْ قَاتَلَكُمْ ، قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ كَانَتْ حَرْبُهُ وَحَرْبُكُمْ ، قُلْتُ : كَانَتْ دُوَلًا وَسِجَالًا يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى ، قَالَ : فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ ، قَالَ : يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْعَفَافِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، فَقَالَ : لِتَرْجُمَانِهِ حِينَ ، قُلْتُ : ذَلِكَ لَهُ قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ ، عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا وَسَأَلْتُكَ ، هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ، قَالَ : هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ ، قُلْتُ : رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا ، قَالَ : فَزَعَمْتَ أَنْ لَا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ ، قُلْتُ : يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ ، أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا ، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدِرُونَ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلًا وَيُدَالُ عَلَيْكُمُ الْمَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الْأُخْرَى ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ ، وَسَأَلْتُكَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْعَفَافِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، قَالَ : وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ وَإِنْ يَكُ مَا ، قُلْتَ : حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُرِئَ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ، أَسْلِمْ ، تَسْلَمْ ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ وَ ?يَأَهْلَ الْكِتَابِ(2/194)
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ ، وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ فَلَا أَدْرِي مَاذَا قَالُوا وَأُمِرَ بِنَا ، فَأُخْرِجْنَا فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ ، قُلْتُ لَهُمْ : لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُهُ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلًا مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الْإِسْلَامَ ، وَأَنَا كَارِهٌ " ............................أخرجه البخاري وأهل السنن .
ولا حاجة بنا إلى الإطالة أكثر من هذا-في البحث المجمل- عن طبيعة (الدين) وشموله لنظام الحياة الواقعية. فانه لا معنى للدين أصلاً إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية؛ بتصوراته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، وشرائعه الخاصة، وتوجيهاته الخاصة، فهذه الحياة الإنسانية لابد أن يقوم نظامها الأساسي على قاعدة التصور الاعتقادي، الذي يفسر حقيقة الوجود، وعلاقته بخالقه ، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني، ونوع الارتباطات التي تحقق هذه الغاية. سواء الارتباطات بين الإنسان وربه. أو الارتباطات بين الإنسان والكون من حوله. أو الارتباطات بين الإنسان وسائر الأحياء. أو الارتباطات بين بني الإنسان. كما يرتضيها الله لعباده.
جذور الصراع بين الشرق والغرب (2)
إن الدراسة المنصفة والمحايدة في موضوع الإسلام والغرب هي وحدها التي تبرز صورة الإسلام الحقيقية أمام الغرب وهي وحدها التي تدفع المسلمين إلى مزيد من التواصل مع الغرب.
وليس مطلوبا من العالم الإسلامي أو من الغرب أن ينسيا وقائع التاريخ في علاقة المسلمين بالغرب، ولكن المطلوب أن تكون عبرة هذا التاريخ ماثلة أمامنا.
بدأت المواجهة بين الشرق والغرب منذ فجر التأريخ الإنساني المدون، الذي تتنازعه اليوم أراضي الرافدين وشواطئ البحر المتوسط حيث دارت أكثر حوادث التأريخ لهباً وعنفواناً.
شهد الشرق قيام سلسلة متتابعة من الحضارات تعود إلى نحو ستين قرناً قبل الميلاد من عيلام وسومر في العراق إلى مصر إلى غيبلا في الشام إلى الوثبة الفارسية في طيفون، لم تخل من مناوشات بين الشرق والغرب، ولكن لم تسجل مواجهة حقيقية بين الشرق والغرب حتى القرن الرابع قبل الميلاد.
بدأت المواجهة بين الشرق والغرب مع خروج الإسكندر الأكبر من معاقل الرومان التقليدية في البلقان صوب الشرق، حيث قدر الله للجواد الذي يركبه أن يجتاز مضيق الدردنيل ويتحرك صوب سحر الشرق الآسر، وهناك يمضي من أفق إلى أفق فيجتاح آسيا الصغرى وبلاد الشام ثم السهول الإيرانية، فيحطم أمجاد الفرس ويمزق دولة ساسان، ثم يوغل في الشرق فيروي خيله من نهر جيحون ويجتاز بلاد ما وراء النهر، حيث يبلغ سحراً آخر يحمله إلى القارة الهندية فيدك ما واجهه من الممالك، ويبلغ في النهاية إمبراطورية الصين حيث لم يعد ثمة بعدها شئ يمكن أن يباهي بإسقاطه.
وحين عاد الإسكندر إلى أثينا ليبتهج بنصره شاباً غضاً، أدرك أنه ليس إلا دورة واحدة من دورات الحياة، وأن تبدل المقادير ماض إلى غاية لا يمكن أن تتوقف عنده طموحات الإسكندر.
لم يطل المشهد حتى انبعثت شعوب آسيا الراقدة تضرب في جيوش الاسكندر كل وجه، وتحيل ليهبهم إلى رماد، حيث يمزقون إلى بطالسة وسلوقيين، وتبرز مشاهد متعاقبة من الأكاسرة الجبارين، تطرق أبواب أوروبا من الأناضول في هبة الشرق العارمة، في صد أطماع الغرب.
بعد أقل من قرن يضرب مانيبعل بسياطه الموجعة في قلب الحواضر الأوربية، ويسجل غضب الجنوب على الشمال، وتثأر قرطاجة للإسكندرية ويشتعل المتوسط بنار الكراهية من جديد
في غمرة هذا الصراع كان هناك مشروع آخر يتم إعداده في روما الإيطالية التي تتدلى في قلب البحر المتوسط في إرادة جادة للمواجهة، تحت عنوان الإمبراطورية الرومانية والتي ستصبح المقدسة فيما بعد وتنطلق الأطماع الرومانية من جديد فتلتهب البلاد المتشاطئة في البحر المتوسط، في القرن الأول قبل الميلاد، ويمضي المشروع الروماني إلى أم الدنيا مصر، ثم يرسم ملامح وجود جديد على طول شواطئ المتوسط ليصبح بحيرة رومية، ثم يجتاح بلاد الشام ويصل إلى مواجهة مباشرة مع الحضارة الساسانية الفارسية، حيث سيبدأ صراع ساخن سيستمر سبعة قرون.
ومع وصول الفتح الإسلامي إلى بلاد الشام في القرن السابع الهجري كان الشرق يستعيد عافيته ليقوم بالمواجهة مع الغرب وعندما رحل القيصر من أرض الشام كان يعلم تماماً أنه يرحل رحيلاً لا عودة عنه، وأن فصلاً جديداً من تأريخ العالم يكتبه هذا الفتح الإسلامي الطامح، الذي باكر إلى محاولة دك أسوار القسطنطينية مؤكداً على روح المواجهة.
تمضي القرون خمسة تبوء محاولات الغرب البائسة في اختراق آسيا بالفشل وتتحطم أوهامه عند مضيق الدردنبل، حيث يقوم الرباط على ثغور كيليكية بلجم الأوضاع الأوربية في الشرق الإسلامي، حتى تنفجر أوروبا بالأوهام الصليبية عندما يمضي بطرس الناسك في القرن الحادي عشر برسالة أوران الثاني ليحشد أوروبا في جحافل الحملات المسعورة لأطماع الفرنجة تحت عنوان الحروب الصليبية، وتنشأ مواجهة أخرى بين الشرق والغرب استمرت مائتي عام ركز فيها الغرب راياته على أمارات كثيرة في الشرق من الرها إلى دمياط، ولكن الشرق انتفض مرة أخرى وما بين صلاح الدين والملك الكامل والظاهر بيبرس وصلت الرسالة إلى أرض الأناضول ليترجمها محمد الفاتح بفتح القسطنطينية عام 1453م، حيث ستبدأ جولة أخرى من الصراع ستكون هذه المرة في عمق الأرض الأوربية، وسيسمعها الغرب بوضوح على أسوار فيينا في قلب القارة الأوربية.
بعد أقل من قرنين استأنفت أوروبا تاريخ الصراع عندما تفجرت الثورة الملاحية من الجزيرة الأيبيرية وجرفت في طريقها الأندلس لتمتد شريطاً ساحلياً يطوق العالم الإسلامي من طنجة إلى جزر سيلان عبر رأس الرجاء الصالح ومن ثم إلى أرخبيل ، ويتبعها وصول فرنسا إلى سواحل مصر أيام نابليون الذي افتتح الحقبة الاستعمارية الجديدة في الشرق العربي.
أثر الحضارة الإسلامية على حركة الحياة الأوربية:
يقول الدكتور عبود:"لم تكن الحروب الصليبية ـ كما نعلم ـ أول احتكاك بين الإسلام والغرب، بل كان هناك هذا الاحتكاك منذ السنين الأولى من تاريخ الإسلام، عن طريق الفتوحات الإسلامية عبر الشام وعبر الشمال الأفريقي، ثم الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط.
وما من شك في أن الحضارة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي على وجه الخصوص، قد أفادت من الحضارة اليونانية عبر جهود الترجمة التي قام بها العلماء العرب والمسلمون لكثير من المعارف التي كانت سائدة آنذاك عدا المعارف التي تتعلق بالعقائد الوثنية اليونانية، ثم كان الهضم والتمثل والإضافة والإبداع ذو الخصوصية الإسلامية الذي شارك فيه العلماء المسلمون من الأجناس المختلفة المكونة للحضارة الإسلامية.(2/195)
وكان على أوربا أن تتلقى العلوم والمعارف على أيدي علماء الإسلام بعد أن كانت تغط في سباتها العميق في مرحلة ما سموه بالعصور الوسطى وكان ذلك عن طريق التماس والتفاعل العميق في كل من الأندلس وصقلية، وعبر الحروب الصليبية.
لقد أسس المسلمون في الأندلس حضارة عريقة شملت مظاهر الحياة كافة من علوم وصناعات وفنون ومظاهر سلوك، بحيث أصبحت الأندلس من الحواضر الإسلامية المرموقة، وكانت قبلة للزوار من طلبة العلم والعلماء على السواء، سواء من المشرق الإسلامي، أو الغرب الأوربي. وكان الاتصال بين المسلمين والأوربيين سهلا ، وكان اللقاء والتلاقح قائمين حيث كان الإقبال شديداً على تعلم اللغة العربية وتعلم أنماط العلم والثقافة، وتقليد المسلمين في مظاهر حياتهم الحضارية.
وكانت الترجمة من العربية إلى اللاتينية واحداً من مظاهر هذا التفاعل، وكان اقتناء الكتب، وإنشاء الجامعات على غرار الجامعات العربية مظهراً آخر من مظاهر هذا التقليد والاقتباس.
هذا في مراحل السلم، أما في المرحلة التي استطاعت الإمارات الأوربية المجاورة للأندلس أن تتهيأ للهجوم على الحواضر الإسلامية الأندلسية، فكانت تستولي على مكتباتها وتجتهد في ترجمتها خاصة تلك التي تتوفر على علوم الهندسة والطب والفلك وغيرها، حدث هذا حين استولى الفونس السادس سنة 1085م على قرطبة، ثم تبعتها طليطلة وساليرنو وغيرها.
أما صقلية التي فتحها الأغالبة القادمون من تونس عام 827م، وتمكنوا ـ بعد ذلك ـ من تهديد روما مرتين، مما اضطر البابا حنا الثامن أن يدفع الجزية لمدة سنتين.
في هذه الجزيرة أقيمت حضارة راقية تضاهي الحضارة التي قامت في الأندلس. وكان انتقال الحضارة الإسلامية منها إلى أوربا سريعاً ومؤثراً، وقد وصفت صقلية بأنها جنة أهل العلم آنذاك، وقد بدت آثار الحضارة الإسلامية فيها. ويمكن أخذ (فردريك الثاني) حاكمها الذي أغرم بالعلوم الإسلامية والثقافة الإسلامية مثالاً لهذا"أ.هـ د. شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية بين التغريب والتأصيل
أما اللقاء الإسلامي الأوربي عبر الحروب الصليبية، فقد كان عظيم الأثر في حركة الحياة العلمية والفكرية في أوربا. فقد عاد الأوربيون بعد هزيمتهم في المشرق الإسلامي، وهم أكثر معرفة وخبرة بطبيعة الحياة في العالم الإسلامي، فلم يعودوا يؤمنون بما كان يروجه القساوسة والرهبان عن هذه الحياة وعن طبيعة التفكير لدى المسلمين، بل عادوا وهم يحملون معلومات ناضجة، وتجارب غنية عن الإنسان المسلم وإنجازاته العلمية، وعن الأرض وطبيعتها، بل وعن مواطن القوة والضعف في الديار الإسلامية عامة.
ويمكن القول بأن (الحروب الصليبية انتهت بانتصار المسلمين عسكرياً، إلا أن المسيحيين استطاعوا أن ينتصروا علمياً من خلال الذخائر العلمية التي حصلوا عليها في فترة حربهم مع المسلمين) ..لقد حدث في أوربا بعد الحروب الصليبية ثورات كبرى في مجال العلم، بل والدين.
ففي مجال العلم كان ظهور المنهج العلمي التجريبي الذي نما وازدهر على أيدي المسلمين، بعد أن استنقذوه من أيدي تلاميذ أرسطو الذين رسخوا المنهج الاستنباطي لسنين طويلة، فكان ظهور روجرز بيكون، 1214 ـ 1294م الذي كان على صلة تامة بالعلوم العربية ومنهجها، ثم تلاه فرنسيس بيكون وغاليلو وغيرهم، حيث كانت جهودهم امتداداً لجهود الرازي وجابر بن حيان وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم من العلماء المسلمين.
وعلى المستوى الديني كان ظهور توما الإكويني 1255 ـ 1274م، الذي أصلح كثيراً من مظاهر التفكير اللاهوتي المسيحي بما تعلمه من مناهج المسلمين وطرق تفكيرهم في العلوم والعقائد، ثم تلاه مارتن لوثر الألماني بثورته الدينية العارمة التي اقتبست الكثير من طريقة المسلمين في علاقتهم بربهم وعلمائهم الروحانيين خاصة.
إن الأمر الذي يكاد يجمع عليه الباحثون عدا بعض المستشرقين والمفكرين الأوربيين المتعصبين هو أن أوربا أفادت من علاقاتها بالإسلام وأهله في مواطن اللقاء كلها، وإن النهضة الأوربية لم تحدث في القرن السادس عشر كما هو شائع، بل بدأت قبل هذا منذ القرن العاشر بفعل الشروع بحركة الترجمة والنقل عن العربية عبر الأندلس وصقلية، كما أشرنا.
ويقول الكاتب الأسباني " أبانيز " في كتابه: (ظلال الكنيسة) عن غزو العرب لأسبانيا:(لم تكن غزوة فتح وتدويخ بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة. ولم يتخل أبناء الحضارة زمنا عن فضيلة حرية الضمير وهى الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب. فقبلوا في المدن التي فيها الأشعار بمهارة لا تفوقها مهارة العرب أنفسهم).
ولقد كان التأثير الإسلامي شاملاً في العلم والفنون والآداب والعادات، ويحضرني هنا قول للروائي الفرنسي (استاندال) في كتابه (في الحب): ((لقد كنا برابرة ... لقد اقتبسنا أنبل عاداتنا عن طريق الحروب الصليبية والغرب في أسبانيا)).
على أنه من الضروري التأكيد على أن الأوربيين أخذوا من المسلمين الوسائل، ولم يأخذوا الغايات والأهداف، وكان لهم طريق ومنهج آخر في التعامل مع العلوم الإسلامية، بل إنهم حين دالت دولة الإسلام، وقويت شوكتهم أعادوا الحروب الصليبية ثانية، ولكن بأساليب جديدة وأحقاد جديدة، وعاد الصراع كما هو، وعاد الشرق شرقاً، والغرب غرباً، كما هما منذ قديم الزمان، ولكن الهجمة الأوربية في هذه المرحلة كانت قاسية وتدميرية.............. د. شلتاغ عبود الثقافة الإسلامية بين التغريب والتأصيل.
عصر الاستعمار والاستكبار :
لعل أفضل تسمية لهذا العصر الذي يطلق عليه عصر النهضة أو العصر الحديث أن يسمى بعصر الاستعمار والاستكبار ، لأن أ برز ظاهرة فيه هي ظاهرة الاستحواذ على خيرات الشعوب واستعبادها.
ويهمنا أن نشير هنا إلى الخطط التي وضعتها أوربا المسيحية لمواجهة الإسلام بعد فشلها في الحروب الصليبية. لقد أدرك المهزومون عسكرياً أن لا جدوى من قتال المسلمين ومواجهتهم مواجهة مباشرة في سوح القتال، وأنه لابد من سبل أخرى لاختراقهم وإضعافهم والانتصار عليهم. وهذا هو فحوى وصية (لويس التاسع) قائد الحلمة الصليبية السابعة (وهي الأخيرة) إثر عودته إلى فرنسا بعد وقوعه أسيراً في درنية المنصورة بمصر.
وكان لابد من تغيير المنهج والأداء في التعامل مع الإسلام ومعتنقيه، بعد هذا التعرف على مواطن قوته التي تكمن في عقيدته وشريعته.
وهكذا كان، فقد اتجهت أوربا اتجاهين متوازيين يعضد أحدهما الآخر:
الأول: تقوية أوربا عسكرياً واقتصادياً وعلمياً.
والثاني: اختراق العالم الإسلامي وتطويقه ودراسته دراسة قائمة على العلم والمكر والدهاء.
عوامل التقدم الأوربي ومعاييره(2/196)
أما كيف قويت أوربا واغتنت فتلك قضية تحتاج إلى بسط في القول وتفصيل، نجمله بالقول بأن أوربا بعد التحدي الإسلامي الذي واجهها واستعصى عليها وكسر شوكتها، خاصة بعد التقدم الإسلامي من جهة الشرق على يد الأتراك، وبقيادة محمد الفاتح، الذي تم على يديه فتح القسطنطينية عام 1453م، أعتى وأمنع حصن للصليبية، وكاد يواصل تقدمه إلى قلب أوربا وغربها، بعد هذا الهجوم الإسلامي أفاقت أوربا من هول الصدمة ورجعت إلى ذاتها واستندت بتراثها وعجلت من تكثيف جهودها على إخراج المسلمين من الأندلس، وقد تم لها هذا بالاستيلاء على المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى، وكان آخرها سقوط غرناطة عام 1492م. وقد تزامن مع هذا الجهد العسكري جهد مكثف من لدن الأسبان والبرتغاليين لاختراق طرق التجار التي كانت بيد المسلمين، وقد توجت هذه الجهود بالوصول إلى الأمريكتين على يد كريستوفر كولومبس عام 1492م، وهو نفس العام الذي استولى فيه الأسبان والبرتغاليون على غرناطة آخر حصن للمسلمين في الأندلس.
وتشير بعض المصادر إلى أن هذا الاكتشاف تم بالاستعانة ببعض البحارة المسلمين وبالمعلومات الجغرافية التي توصل إليها المسلمون. فمن المعلوم أن الشريف الإدريسي صنف كتابه الهام (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) تحت رعاية الملك رجار الثاني في صقلية. وكان قد أشار فيه إلى كروية الأرض وإلى معلومات فلكية وجغرافية وظفت في عصر النهضة العلمية والكشوفات الجغرافية فيما بعد.
وعلى المستوى الداخلي الأوربي فقد ساعد التحرر السياسي والديني من قيود الكنيسة التي كانت متحالفة مع الملوك والإقطاع على التطور والنمو في التجارة والزراعة والصناعة ومجالات الابتكار العلمي كافة. وقد رفعت المصادرة والتأمين والضرائب الباهظة على النشاط التجاري والصناعي والزراعي، وأسست الشركات المساهمة وتم التنظيم الدقيق للعمل، وساهمت الدولة في تعضيد النشاط الفكري والعلمي فكان ما كان بعد هذا من الثورة الصناعية والانتقال من الخشب إلى الحديد ثم إلى الكهرباء ... وكان أن التحم العلم والثروة والسياسة في وحدة وتعاون، بعد أن كان كل منهما يسير في سياق مستقل.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري :" ويمكن القول إن الحداثة الغربية تشكل الإطار الذي يدور داخله الإنسان الغربي، وهي تقدم رؤية مادية ترى العالم باعتباره مادة. وقد عرَّفت هذه الرؤية الهدف من وجود الإنسان في الكون بأنه تعظيم المنفعة واللذة، وعرَّفت التقدم بأنه تصاعد معدلات الإنتاج والاستهلاك، مما ولد شراهة استهلاكية عند الإنسان الغربي ليس لها نظير في التاريخ.
وهذه الحداثة المادية لا تعني مجرد استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا، بل هي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلة عن القيم أو(كما يقولون بالإنجليزي value-free)
وفي عالم متجرد من القيمة تصبح كل الأمور متساوية، ومن ثم نسبية، وعندئذ يصعب الحكم على أي شيء، ويصبح من المستحيل التمييز بين الخير والشر وبين العدل والظلم، بل بين الجوهري والعرضي، وأخيراً بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والمادة.
وفي غياب قيم مطلقة يمكن الاحتكام إليها، تظهر آلية مادية واحدة ووحيدة لحل النزاعات والخلافات -التي هي من صميم الوجود الإنساني- ألا وهي القوة والإرادة.
وفي هذا الإطار تمركز الغرب حول ذاته، وجعل من نفسه مرجعية نهائية ومعياراً يحكم به على كل الظواهر والحضارات، ونظر إلى العالم لا باعتباره كيانات مستقلة لكل منها طموحاته المشروعة وأهدافه المختلفة، وإنما باعتباره مادة استعمالية من حقه أن يوظفها لحسابه باعتباره الأقوى. وهذا هو جوهر الرؤية الاستهلاكية الإمبريالية."...........................الإسلام والغرب .
على أن أهم مصدر من مصادر الغنى الأوربي في هذه المرحلة هو النهب الاستعماري في القرن الخامس عشر على يد البرتغاليين والأسبان الذين ذهبوا للبحث عن الذهب في أفريقيا الغربية ثم انتقلوا منها إلى الهند، ثم تبعهم الهولنديون الذين نهبوا خيرات الدول الواقعة جنوب شرق آسيا مثل ماليزيا والفلبين وأندونوسيا، وجاء بعدهم الفرنسيون وما كان منهم من نهب في الفيتنام، وما كان منها من استحواذ على خيرات أفريقيا الشمالية والوسطى، فكان العنب من الجزائر والمنغنيز من المغرب وموريتانيا، والنفط من الغابون .. وأخيراً ورثت بريطانيا هذه الدول الاستعمارية وكانت أكبر دولة أوربية تستأثر بثروات الأمم وتستجلبها إلى بلادها، ولعل نهبها لدولة كبيرة مثل الهند خير دليل على حجم الأموال والثروات والطاقات التي أفادتها من هذه البلاد. وكان ما كان بعد هذا من نمو الصناعة الأوربية بفضل نمو رأس المال وتكديسه في أوربا، فكان السعي الحثيث ـ بعد هذا ـ إلى السيطرة على الأسواق خارج أوربا، فكان التنافس مرة أخرى على تصريف السلع والمنتجات في بلدان العالم الفقير في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وكان هذا الاستئثار والنهب والتدمير ذا وجهين:
وجه استجلاب المواد الأولية للصناعة من البلاد المستعمرة، ووجه تصدير هذه المواد بعد تصنيعها إلى هذه البلدان نفسها ..
لقد كانت مرحلة عتو واستكبار وشراهة أوربية على خيرات الشعوب واستعبادها. فما من دولة أو منطقة من مناطق العالم غير الأوربي إلا ولونت بلون الدولة الأوربية التي تستعمرها مثل أسبانيا، هولندا، بلجيكا، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، بل وروسيا القيصرية التي استطاعت أن تقضم المنطقة تلو المنطقة من الدولة العثمانية وإيران، وتدخل في التنافس على اقتسام العالم الإسلامي وتمزيقه ونهب خيراته، وتدمير حضارته، واستغلال إنسانه.
استوت أوربا كلها غربها وشرقها في هذا الهدف الاستعماري التدميري وتعاونت جميعها في تبادل الخبرات وتطوير وسائل التدمير والنهب والإضعاف.
لقد تكدست الثروات في أوربا، وساهمت في تعجيل وتبرة التقدم العلمي، ومدت الآلة العسكرية بمزيد من التطور، وساهمت في الإنفاق على الأساطيل التي صارت تجوب شرق العالم وغربه، ومن ثم إنفاق الأموال الطائلة على كل ما من شأنه إضعاف المسلمين، ووضعت خططاً شاملة لهذا التدمير والاستغلال والإضعاف. وكان أن أفادوا من تجاربهم السابقة الفاشلة.
فقد تعلموا أن الحرب والعداء المباشر ونفي الدين الإسلامي غير مجد، فلابد من تحسين صورة المحارب الأوربي والجيوش الأوربية الغازية للعالم الإسلامي على أن هدف الأوربيين هو التحضير وتحرير الشعوب من الجهل، أو من ((الاستعمار التركي)) كما صورته الدراسات الأوربية.
وقد تعلموا كذلك أنهم كانوا إبان الحروب الصليبية قد أقبلوا على بلاد لم يدرسوها جيداً، فلابد أن توضع الدراسات الشاملة المعمقة المتشعبة لديار الإسلام في هذه المرحلة من أجل الاختراق ومن ثم الاستيلاء، ولم ينسوا في هذا المجال أن يلتفتوا إلى مسألة التعاون مع الأقليات غير الإسلامية واستغلالها في خلق بؤر وجيوب مناصرة لهم داخل الجسم الإسلامي.
تعلموا هذا كله، واستغلوه أحسن استغلال، وكان الانسجام والتنسيق التام بين الأهداف والوسائل، فكان الاستشراق. وكان ثمة فرق بين ترجمة العلوم الإسلامية إلى اللاتينية أثناء الحروب الصليبية وبعدها، وبين دراسة العالم الإسلامي والتعرف على تراثه وخصائصه وطرق تفكيره وكنوزه ومواطن قوته وضعفه في هذه المرحلة.(2/197)
فقد كانت الأولى من أجل إثراء الثقافة الأوربية ورفع مستواها إلى الدرجة التي أتاحت لها فعلاً تلك الخطوات الموفقة التي هدتها إلى حركة النهضة. أما المرحلة الاستعمارية فقد كان فيها هذا الانفتاح على عالم الإسلام ودراسته من أجل تعديل حضاري وسياسي في المنطقة الإسلامية نفسها بما يخدم أوربا ذاتها فكان لهذا الاستشراق أهداف متعددة، منها الدينية من أجل تشويه الإسلام والوقوف في وجه امتداده إلى أوربا، ومنها الاقتصادية لتسهيل اكتشاف ممرات البحار الإسلامية، والصحاري الشاسعة في البلاد الإسلامية، وإمداد يد العون للجيوش الاستعمارية، وكانت وسيلتهم في ذلك الرحّالة والمغامرين، فضلاً عن الأهداف السياسية الطامحة إلى وضع مخطط جديد للمنطقة بحيث تلحق كلياً بأوربا، وتصبح جزءاً من منظومتها الحضارية، بعد عمل الوسائل اللازمة لتفريغ العقل الإسلامي من موروثاته وخصائصه كلها.
وكان قبل البدء بالهجوم العسكري والانقضاض على الجسم الإسلامي لابد من رسم خارطة لهذا الجسم. وكانت البداية جيشاً من نمط آخر، جيشاً من الرهبان والقناصل والمتطوعين ممن عرفوا شيئاً من العربية في أوربا، ساحوا في طول العالم الإسلامي وعرضه، يجمعون المخطوطات العربية وغير العربية في بلاد الإسلام شراءً وسرقة، شأنهم في ذلك شأن من سرقوا الآثار الثمينة في أهرامات مصر وغيرها من آثار المدن التاريخية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه من طنجا إلى جاكرتا، ثم يتبرعون بهذه الكنوز إلى الملوك أو الكنائس أو المؤسسات التي وظفتهم لهذا العمل الذي سيخدم الاستعمار العسكري ويمهد له.
ثم عضد هذا جيش آخر من المبشرين الذين توزعوا ما بين أفريقيا وآسيا بحماس منقطع النظير، إذ عاشوا في بيئات صحراوية أو استوائية صعبة، يحملهم على هذه التضحيات الأهداف الدينية المسيحية التي نذروا أنفسهم من أجلها. وكان هذا الجيش من المبشرين ينجح في أحيان كثيرة في تنصير الناس من غير المسلمين في أفريقيا وآسيا، وفي أحيان قليلة بين أوساط المسلمين وبين الأطفال والمعوزين والمرضى، لأنهم وجدوا في العلاج الطبي مدخلاً إلى قلوب الناس، إذ كان منهم الطبيب أو ممن له طرف من العلم الطبي. وكانت لديهم إمكانات مادية ضخمة توفرها لهم الكنائس ووزارات ما وراء البحار، وكانوا يستثمرون هذه الإمكانات لتنصير الناس الفقراء خاصة.
وكان هذا التبشير يتقدم ويكسب مواقع جديدة في دار الإسلام فكان يقوم عمله باستمرار بتوجيه من مراكز القرار في أوربا، وقد عقدت عدة مؤتمرات لدراسة ثمار التبشير في العالم الإسلامي، منها المؤتمر الذي ترأسه (زويمر) في القاهرة عام 1956. وقد استوحى أول شاتليه من هذا المؤتمر تعبير (الغارة على العالم الإسلامي) بكل ما تعنيه الغارة من استعداد للغزو بأسلحته ومعداته.
يقول د/ محمد السيد الجليند :ولقد اختلفت مواقف المستشرقين من الفكر الإسلامي وقضاياه تبعا لاختلاف أديانهم أو مذاهبهم الفكرية والسياسية، لأننا نجد بين صفوف المستشرقين اليهودي الحاقد على الإسلام وأهله، والمسيحي الراهب المبشر بدينه، والشيوعي الملحد الذي لا دين له، ولابد أن تختلف مواقف هؤلاء جميعا تبعا لانتمائهم الفكري والعقائدي، ولكن على سبيل العموم كان أسوأ هؤلاء جميعا هم المستشرقون اليهود، فمنهم من يتهم الإسلام بأنه دين فرضه محمد وأتباعه بقوة السيف والحروب.
وفيهم من ينكر نبوة محمد ويرى أن ما جاء به من تعاليم قرآنية أخذها عن أحبار اليهود وكهنة النصارى.
ومن المستشرقين من يتهم إله المسلمين بأنه متعال جبار ؛ بينما إله النصارى عطوف ودود متواضع ظهر للناس في صورة واحد منهم وهو عيسى بن مريم، ولا يكاد يخلو كتاب استشراقي يتصل بالإسلام ونبيه إلا وهو يقطر سما وحقدا على الإسلام والمسلمين، ويفصح بعض المستشرقين عن هذا الحقد المعلن في تعليق صريح له، على الحملات الصليبية فيقول: وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما تضمنه من قوانين الأخلاق الساذجة............. الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب
ولقد تعاون التبشير والاستشراق معاً في اختراق العالم الإسلامي، وعملا على تشويه الإسلام في الذهنية الأوربية، وإضعاف تأثيره بين أبنائه، كما استطاعا أن يكونا سلاحين ماضيين بيد الاستعمار مهد له القيام بمهمته العسكرية والسياسية والثقافية أحسن تمهيد، بل إنهما صنعا جيوباً دينية وفكرية موالية للاستعمار ساهمت في توطيد أركان حكمه فيما بعد.
يقول محمد السيد الجليند: يعتبر الاستشراق من أهم الوسائل التي مهدت للاستعمار العسكري وغزو الشرق ثقافيا وعسكريا، والاستعمار الحديث يعتمد على المستشرقين بصورة فعالة في دراسة نفسية الشعوب، وعاداتها، وتقاليدها، وأفضل الرسائل للسيطرة عليها بأقل قدر ممكن من التكاليف، والذي يتابع أحداث القرن التاسع عشر والقرن العشرين (وهما أكثر القرون في النشاط الاستعماري) يعلم مدى الصلة القوية بين الاستعمار و الاستشراق، ومن هنا فإننا نجد في كثير من سفارات الدول الاستعمارية مستشرقين عاملين بها، ويقع على عاتق هؤلاء المستشرقين مهمة الاتصال بالعقول المفكرة في البلاد التي يريدون السيطرة عليها ثقافيا أو عسكريا وكذلك الاتصال بكبار العاملين في المناصب القيادية في مجالات الثقافة والإعلام والتعليم العام والجامعي ، ولا تنقصهم الوسائل المناسبة في محاولة احتواء هذه الشخصيات عن طريق الصداقة أو المشاركة في أعمال ثقافية أو تقديم الخبرة لهم، أو.. أو.. إلخ، وعن طريق هذه الشخصيات يستطيعون تنفيذ خططهم في غزو البلاد فكريا ثم عسكريا إذا اقتضى الأمر، وقد استطاع الاستعمار الحديث أن يغزو معظم البلاد الإسلامية فكريا وثقافيا عن هذا الطريق، كما استطاع أن ينفذ خططه في السيطرة على عقول كثير من المفكرين في بلادهم ليكونوا هم الأداة لتنفيذ برامج الاستعمار في هذه البلاد. وبلغ الأمر في ذلك مبلغا خطيرا، حتى إن كثيرا من المشتغلين بالثقافة جعلوا أنفسهم بمثابة وكلاء عن المستشرقين في توزيع أفكارهم والدعوة إلى تبنى آرائهم في الفكر الإسلامي وقضاياه، فهذا مندوب عن ماركس والشيوعية، وذاك مندوب عن الوضعية والوضعيين، وثالثهم مندوب الوجودية والوجوديين، وأخر يدعو إلى القول بتأنيس الإله أو تأليه الإنسان.... إلخ وامتلأت المؤسسات الثقافية في- مصر والشام وشمال أفريقيا بوكلاء معتمدين لتوزيع الفكر الاستشراقي على المؤسسات العربية، وشحذ الوجدان العربي بمفاهيمهم تحت مقولات مضللة كالتنوير والتقدمية و النهضوية..إلخ.
......................................... الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب
صور ة العالم الإسلامي في الفكر الغربي
وكيف تعامل معها الغرب؟!(2/198)
بناءً على هذا الجهد المسبق الدؤوب الذي كان أبطاله من الرحالة والمكتشفين والتجار والمغامرين والمبشرين والمستشرقين، تكونت الصورة كاملة في الذهن الأوربي عن (الآخر)، وبدأ الهجوم والانقضاض على ديار الإسلام مشرقها ومغربها، ولم يكن هذا الهجوم من دولة واحدة، ولا في وقت واحد، بل من دول أوربية عدة، وفي أوقات متعددة. انطلقت أوربا الفتية تطوق دار الإسلام من شواطئ المغرب إلى شواطئ الهند وجاوة وسومطرة. كان ذاك ابتداءً من يوم تهاوت قلاع الإسلام في الأندلس فكان الأسبان والبرتغاليون مزهوين بروح الانتصار قد انطلقوا إلى شواطئ الأمريكتين، وإلى شواطئ أفريقيا الغربية والجنوبية ثم إلى جنوب شرقي آسيا، وكانوا يقتلون يدمرون الحواضر والمدن السياحية بمدافعهم ونيرانهم، ثم تجرأوا وأخذوا يتابعون المسلمين الفارين من مذابحهم في الأندلس، فاحتلوا كثيراً من الموانئ المغربية، ثم توجهوا صوب الموانئ الجزائرية، فاحتلوا تلمسان ووهران، حتى وصلوا إلى طرابلس الغرب، ونكلوا بأهلها أشد التنكيل، ثم لم يلبثوا أن تخلوا عنها لفرسان القديس يوحنا.
وكان الهولنديون يتسابقون والبرتغاليين كفرسي رهان في خوض بحار المسلمين، فقد أعقبوا البرتغاليين في احتلال الخليج، ثم نافسهم في السيطرة على جزر الفلبين وأندونيسيا وماليزيا وجنوب الهند، وكانت لهم شركاتهم التجارية مثل شركة الهند الشرقية التي كانت سابقة لمثيلتها الإنجليزية التي مهدت لاحتلال الهند، درة تاج المستعمرات البريطانية بعدئذ.
وكانت الغلبة النهائية لبريطانيا في الخليج في أواخر القرن السادس عشر بعد طرد الهولنديين منه، ثم دخلت فرنسا وألمانيا وغيرهما من الدول الأوربية بقوة في احتلال المناطق الإسلامية في آسيا وأفريقيا المنطقة تلو المنطقة، وكان هذا قبل الحرب العالمية الأولى والسيطرة الكاملة على العالم الإسلامي.
وقصة هذا الغزو العسكري طويلة ودامية، ونريد أن نشير فقط إلى بعض المواقع لنرصد الخطوط العامة لهذا التسابق الأوربي الشره لتدمير العالم الإسلامي. فبعد السيطرة البرتغالية والهولندية والبريطانية على بحار جنوب شرق آسيا واستثمار بلاد التوابل والعجائب، دخلت فرنسا بقوة لتحتل مصر بقيادة نابليون فيما سمي بالحملة الفرنسية عام 1798. وكثيراً ما يؤرخ لهذه الحملة على أنها فاتحة تنوير ونهضة لبلاد العرب، في حين إنها ـ كما يلاحظ كاتب عربي كبير مثل محمود محمد شاكر ـ جاءت لوأد النهضة التي كانت تتحفز على يد العلماء الكبار مثل الجبرتي والبغدادي والزبيدي، فكان أن نقلت كنوز القاهرة من المخطوطات خلال ثلاثة أعوام من الاحتلال إلى باريس.
ثم تلا ذلك حملتها على الجزائر عام 1830، وما رافقها من مجازر ومذابح استمرت حتى عام 1847 عام استسلام بطل المقاومة الأمير عبد القادر الجزائري، وليظل الاحتلال مائة عام كاملة من المظالم والدمار للحرث والنسل والدين والحضارة، وكان عام 1882 حيث احتلت فرنسا بقوتها وجبروتها تونس، وأكملت أطباقها على الشمال الأفريقي عام 1916 حين فرضت الحماية على المغرب، ثم واصلت امتدادها في أفريقيا عبر الصحراء الكبرى لتحتل السنغال والنيجر ومالي وتشاد والكاميرون وغيرها، وكان ذلك بفضل قوتها العسكرية التي كونتها من النهب الاستعماري للعالم الإسلامي، وبفضل جيش الرحالة والمبشرين وموظفي وزارة ما وراء البحار.
وفي طرف آخر من العالم الإسلامي كانت بريطانيا تكون إمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس من الهند فأفغانستان ثم إيران والخليج، حتى إذا ما أعلنت الحرب العالمية الأولى كانت حصة الأسد لها من أملاك الدولة العثمانية، فكان أن احتلت العراق وفلسطين والجزيرة العربية. ومن المعلوم أن مصر وقعت بأيديهم منذ عام 1882م.
ولقد عبر عن هذا الحقد الصليبي على الإسلام قائدهم الجنرال اللنبي حين احتل القدس ووقف على قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً: ((اليوم انتهت الحروب الصليبية)).
ولقد أشرنا من قبل أنه ما من دولة أوربية إلا كانت تتمنى أن يكون لها نصيب من أشلاء العالم الإسلامي، فهذه إيطاليا بعد امتلاكها للحبشة تنظر يمنة ويسرة لتبتلع أقرب أرض إسلامية لها، ألا وهي ليبيا، وكان لها أن احتلتها عام 1911، وكان احتلالاً لم يعرف إلا الحرائق والتدمير والتهجير والإبادة، بحدودهم إلى ذلك حقد ربما فاق أحقاد الصليبيين الآخرين. هاك نشيدهم الذي كان يردده جندهم آنذاك، وهو من نظم شاعرهم العنصري رانزيو:
يا أماه ..
أتمي صلاتك، ولا تبكي، بل اضحكي وتأملي
ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني
وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً
لأبذل دمي لسحق الأمة الملعونة
ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان
وسأقاتل بكل قوتي لأمحو القرآن!!.
وهكذا تناوشوا قلب العالم الإسلامي وأطرافه، وعقدوا المؤتمرات الدولية لاقتسام الحصص، وكان المسلمون في هذه المؤتمرات كالأيتام على مائدة اللئام، فكان مؤتمر سايكس بيكو عام 1916 بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت الشعارات التي تفتقت عنها العبقرية الأوربية في المكر والدهاء والخبث، مثل شعار الحماية والوصاية وتقرير المصير، وكانت كلها حبراً على ورق، وكانت من قبيل ذر الرماد في عيون الأمم المغلوبة التي لا تستطيع تقرير مصيرها إلا إذا قرر السيد القوي تقرير هذا المصير، وقد قرر العبودية للأمم المغلوبة، حتى ولو دخلت دين النصرانية نفسه!! فهذه أفريقيا دخلت بعض دولها في النصرانية ودخل بعض الفقراء منها في هذا الدين، فهل وجدوا العزة والغنى والتقدم؟! أم أن الاستغلال والاقتصاد هو الدين الأول لأوربا قبل أي دين؟!!.
ولعل المرء يتصور أن الأوربيين نظروا إلى الشعوب المستضعفة التي وقعت في شراك احتلالهم، وخاصة أمة الإسلام على أنها شعوب قاصرة، لم تبلغ سن الرشد بعد، وهي ـ بهذا ـ بحاجة إلى حماية عم أو ولي حميم، وكان هذا العم أو الولي، أوربا بكنيستها واستعمارها ورؤسائها المكرة!!.
ولو رجعت إلى الفترة التي تم فيها ذلك الانتداب والحماية والوصاية، ونظرت إلى حنان ذلك الولي ومسؤوليته إزاء الطفل القاصر، كيف كان التدجين له على أن يكتسب لساناً جديداً وعادات غير عاداته، وديناً غير دينه، وكيف كانت عمليات التفسخ والمسخ والإلحاق بحضارة الوصي، ودينه. وكيف كان العمل قائماً على قدم وساق، ولكن بشكل غير مكشوف في بعض الأحيان، من أجل أن يكون العالم الإسلامي كله تابعاً للمركز الأوربي سياسياً واقتصادياً وحضارياً ..
وارجع ثانية إلى فترة الحماية والوصاية آنذاك وتأمل كيف كانت تدار الحكومة، أبالملك أو الرئيس، أم بالمستشار الإنجليزي الذي يحرك الملك والرئيس، كما تحرك اليد دمى (الأراجوز) في لعبة خيال الظل أو لعب الأطفال؟!!.
وكانت الوسائل الاستعمارية التي نادى بها الاستشراق في العالم الإسلامي تهدف كلها إلى إضعاف الروح الإسلامية بين الشعوب، وتعمل على بث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد ليسهل بعد ذلك السيطرة عليها، كما روج المستشرقون كذلك لبعض القضايا التي كان لها أخطر النتائج في ازدياد عوامل الفرقة بين صفوف المسلمين، فمن ذلك مثلا:(2/199)
العمل على إحلال العاميات محل اللغة الفصحى في مصر وغيرها بدعوى أن الفصحى ليست قادرة على مسايرة الكشوف العلمية المتطورة، وكان أول من نادى بها في مصر المستشرق الألماني (ولهلم سبيتا) وكان يعمل مديرا لدار الكتب المصرية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ووضع كتابه (قواعد اللغة العربية العامية في مصر) سنة 1880 م مجد فيه اللغة القبطية في مصر، ودعا دول العالم العربي إلى الأخذ بالعاميات بدلا من الفصحى، ولا يخفى ما في هذه الدعوى من الخطر على الإسلام ولغة القرآن.
ثم تابع نفس القضية (اللورد دوفرين) في تقرير وضعه سنة 1882 م
أعلن فيه أن العامية هي سبيل النهوض والتقدم في مصر، وجاء بعده المستشرق الألماني (كارل فولرس) مدير دار الكتب المصرية بعد " ولهلم" فوضع كتابه (اللهجة العامية الحديثة) دعا فيه إلى هجر الفصحى وحث العرب على استخدام الحروف اللاتينية بدلا من العربية، ثم تتبع القضية في مصر سلامة موسى النصراني في مطلع هذا القرن، ومازلنا نسمع صداها إلى الآن ونقرأ ذلك في كتابات بعض المشتغلين بالشئون الثقافية و التربوية.................................. الاستشراق وأثره في علاقة الإسلام بالغرب
ومهما يكن فقد وقع العالم الإسلامي في كماشة الصليبية الجديدة، وحكم حكماً عسكرياً مباشراً أحياناً وحكماً غير مباشر على أيدي أناس أمناء على مصالح الاستعمار في أحيان أخرى، إلى أن جاءت المرحلة التي أخذت شعوب العالم تنتقض على هذا الكابوس الاستعماري لتتحرر منه فكان للعقل الأوربي الذي قطع شوطاً بعيداً في ميادين العلم أن يوظف أدوات للعلم خارج المعامل والمختبرات حيث ميدان السياسة والعلاقات بين الأمم، فكانت له لعب وأساليب جديدة في التعامل مع الثورات ومع الشعوب المطالبة بالاستقلال، فصار يأخذ باليسار ما يعطيه باليمين بحيث أفرغ بعض الاستقلالات من محتواها، وعاد الاستعمار من جديد ولكن بأثواب جديدة، وبقيت الأغلال ترسف من جديد بالرقاب، ولكنها ربما تكون أغلالاً من ذهب!! كي يُمنّي العبد أو الأسير نفسه بما يرى، وأنى له ذلك التمني!!.
على أنه من الضروري الإشارة إلى ردود الفعل من لدن إنسان المنطقة المسلم على وجه الخصوص، متمثلاً بقادته وعلمائه والمثقفين الأحرار منه. فلم تكن جيوش الاستعمار لتجد أرضاً خالية دون شعوب أو حضارات، بل ودت أمة كانت ـ في الحقبة السابقة من الزمن ـ معلمة للعالم ومنه أوربا نفسها، وكانت صاحبة حضارة تميزت بعقيدة ربانية وعلم نافع وتعامل مع الشعوب رحيم رؤوف، ولكن عوادي الزمن ـ ولأسباب كثيرة ـ جعلتها تضعف وتتخلى عن وظيفتها القيادية. ولكنها لم تستكن لجحافل الغزاة بل كانت تقاوم على قلة من السلاح وعدم تكافؤ في القوة. فكانت تقاوم الروس كما تقاوم الإنجليز والفرنسيين على السواء فكان أبطال المقاومة من أمثال الشيخ شامل في المناطق الإسلامية التي احتلها الروس، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وعبد القادر الجزائري في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا، وأحمد عرابي في مصر، ومحمد تقي الشيرازي، قائد ثورة العشرين في العراق، بالإضافة إلى أبطال المقاومة الآخرين في إيران، وفي الشام، وفي السودان.
ومثلما كان الأمر على مستوى المقاومة العسكرية، كانت هناك المقاومة الثقافية التي حاولت أن تحافظ على أصالة الأمة وحضارتها، وكان لهذا الميدان رجاله من العلماء والساسة والأدباء، ولكن كفة المحتل بما لديه من قوة وإغراء وسيطرة على مقاليد الحكم جعل الميزان يميل لصالح كفة المتغربين والراضين بـ (نعمة) الاحتلال، والداعين إلى الأخذ بحضارته، خيرها وشرها، حلوها ومرها، كما جاء على لسان واحد من دعاة التغريب.
.................................................. الثقافة الإسلامية
ما مستقبل العلاقة مع الغرب؟!
وهل سينتهي الغرب يوماً عن ظلمه؟!
كيف سيكون مشهد العلاقة بين الشرق والغرب، هل ستستمر الحدود الدموية التي رسمتها الأطماع التاريخية بين شطري العالم، أم سينصت الإنسان لصوت العقل ويدرك أن عصر الحروب المعمد بالدم ينبغي أن ينتهي ويحل محله عصر الحوار والتفاهم؟!.
من المؤسف أن فلاسفة الموت يجدون في الأخبار كل يوم ما يذكي نظريتهم عن صدام الحضارات، حيث يؤكدون أن الإسلام والحوار سخافة لا وجود لها في التأريخ وعلى الإنسان أن يمضي في خياره المجنون إلى المواجهة بالدم.
كانت فكرة "صراع الحضارات" التي أطلقها المستشرق اليهودي برنارد لويس، وقام بتأصيلها والترويج لها عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنجتون ابتداء من عام 1993م، جاهزة لتسويغ وتبرير المواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي، ذلك أن هنتنجتون بعد أن ميز بين سبع حضارات في العالم (الغربية، الأمريكية اللاتينية الأرثوذوكسية، الإسلامية، الكونفوشيوسية، الهندوسية، اليابانية، ورشح الأفريقية كحضارة ثامنة محتملة)- فإنه دعا إلى الاحتشاد في مواجهة الحضارة الإسلامية بوجه أخص، في الأغلب بسبب أنها أكثر استعصاء على الاحتواء من أي حضارة أخرى على وجه الأرض، من ثم فإن رسالته التي تعبر عن رأي مدرسة كاملة هي التأكيد على أن الصراع ليس محله المصالح فحسب ولكنه أصبح بعد انتهاء الحرب الباردة صراع ثقافات وأديان.
وكان كتاب "البرابرة والحضارة في العلاقات الدولية"، لمؤلفه مارك سالز حلقة في هذا الاتجاه، إذ قسم العالم إلى متحضرين يمثلون النموذج واجب الاحتذاء، وهؤلاء هم الغربيون أساساً، وبرابرة متخلفين يقفون على الشاطئ الآخر المواجه لهم، وهم مصدر العنف والفوضى في العالم (وهم المسلمون بالطبع ) .
هل تعلم الإنسان من الماضي أن منطق الصدام الحضاري معناه استمرار الحياة في الجنون، عبر جدلية البناء والتدمير العابثة الخائنة؟!!!.
وأن لغة القوة مهما كانت صارخة وقاهرة هي منطق مترنح في النهاية وأن دورة التأريخ لن تتوقف، وتلك الأيام نداولها بين الناس والعاقبة للمتقين.
إننا لا نبالغ إذا قلنا أنه ما من شيء في الإسلام إلا وتعرض للتجريح من الله سبحانه وتعالى إلى شخص النبي عليه الصلاة والسلام إلى القرآن الكريم، الذي جرى التشكيك في مصدره وصياغته، فضلاً عن التنديد بقيمه ومعانيه " خصوصاً الجهاد" وذلك بالإضافة إلى الهجوم الحاد على الشريعة، وتسفيه تعاليمها ومقاصدها.
وإذا كان ذلك حظ الإسلام كدين، فإن حظوظ المسلمين لم يكن أفضل، حيث تعرضوا لحملة شرسة استهدفت اغتيالهم معنوياً،والتي نجحت إلى حد كبير في تنفير الغربيين من الإسلام والمسلمين، الأمر الذي أدى إلى تكرار وقوع حوادث الاعتداء عليهم وعلى بيوتهم على نحو لافت للنظر، رصدته المؤسسات الإسلامية المعنية وفضحته.(2/200)
قرأت وصفاً لتلك الأجواء في مقالة نشرتها مجلة "المنار الجديد" للدكتور محمدي حامد الأحمدي رئيس مجلس أمناء التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية قال فيه أن الإعلام الأمريكي صار يربط بسخرية لافتة بين مفردات مثل قرآن وباكستان وأفغانستان، وجهاد وعرب وإسلام وشرق أوسط وفلسطين وطالبان، في خلطة من مجموعة من العبارات المكروهة والمستبعدة، التي أصبحت تكرر بطريقة تثير القرف لدى السامع وتعرض غالباً مرتبطة بصورة لنساء أفغانيات يضربن رجلاً في الشارع، أو بصورة زانية يقام عليها الحد في ملعب في كابل، أو قصة الحكم بإعدام زانية أخرى في نيجيريا، أو بالمباني المهدمة في نيويورك، أو دماء يهودية في الشارع أو مطعم يهودي أو سيارة مفجرة، ولا يتردد كبير المذيعين في "سي ان . ان" لاري كينج أن يقول أن حربنا هذه مع سكان الكهوف، وغالباً تقدم في سياق يتجاوز أفغانستان ليشمل العرب والمسلمين في العالم أجمع.
إذن فصورة الإسلام والمسلمين في الوجدان الغربي سلبية بوجه عام منذ الحروب الصليبية (كما سبق أن و بينا )، التي بلغت جهود التنفير من الإسلام ذروتها، وكان ذلك التنفير جزءاً من حملة التعبئة المضادة التي استهدفت استنفار شعوب أوروبا وتحريضها للانضمام إلى الجيوش التي اتجهت نحو القدس لتخليص مهد المسيح من أيدي المسلمين"البرابرة" و"الأشرار".
فالبابا أوربان الثاني الذي فجر الحروب الصليبية قال في مجمع كلير مونت في سنة 1095: ' إن إرادة الرب تحتم على المسيحيين تخليص بيت المقدس من أيدي إمبراطورية الشيطان '. وعندها خر الكهنة الحاضرون راكعين تحت قدمي البابا !
والبارون دي كارافو يقول: ' أعتقد أن علينا أن نعمل جاهدين على تمزيق العالم الإسلامي وتحطيم وحدته الروحية مستخدمين من أجل هذه الغاية الانقسامات السياسية والعرقية .. دعونا نمزق الإسلام بل نستخدم من أجل ذلك الفرق المنشقة والطرق الصوفية .. وذلك لكي نضعف الإسلام ، لنجعله عاجزًا إلى الأبد عن صحوة كبرى ' ...............................................................مروان بحيري – الدراسات الاستعمارية في الإحياء الإسلامي في القرن 19 .
ويقول يوجين روستو اليهودي:' إن الحوار بين المسيحية والإسلام كان صراعًا محتدمًا على الدوام ، ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب أي خضعت الحضارة الإسلامية للحضارة الغربية والتراث الإسلامي للتراث المسيحي وتركت هذه آثارها البعيدة في المجتمعات الإسلامية' ...........................نقلا عن عبد الوراث سعيد ' أمتنا والنظام العالمي الجديد ' ..
ويقول مورو بيرجر في كتابه ' العالم العربي ': ' لقد ثبت تاريخيًا أن قوة العرب تعني قوة الإسلام فليدمروا بتدميرهم الإسلام ' .........................................................................................جلال العالم – قادة الغرب يقولون – المختار الإسلامي .
ويضيف مورو بيرجر: ' إن الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية ليس ناتجًا عن وجود البترول بغزارة عند العرب ، بل بسبب الإسلام ، ويجب محاربة الإسلام للحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوة العرب ، لأن قوة العرب تتصاحب دائمًا مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره' ....................................................................محمد محمد الدهان – قوى الشر المتحالفة – دار الوفاء .
ويقول ج . سيمون: ' إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السمر وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية 'د . عمر فروخ التبشير والاستعمار
ويقول سالازار دكتاتور البرتغال السابق: ' إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم ' ! ولما سأله أحد الصحفيين: ولكن المسلمين مشغولون بخلافاتهم عنا .. أجابه: ' أخشى أن يخرج من بينهم من يوجه خلافهم إلينا ] جلال العالم مصدر سابق.
ويقول ريتشارد هرير دكمجيان: ' إن قلة فقط خارج نطاق العالم الإسلامي كانت قادرة على توقع انبعًاث إسلامي في البيئة المعًاصرة وإن ضعف البصيرة في مجال التصور الذي أحدثته المادية الغربية والماركسية قد أعمى بقوة كل العلماء ورجال الدين الذين مالوا إلى استبعًاد قوة الإسلام أو التقليل من شأنها ' ريتشارد هرير دكمجيان – الأصولية في العالم العربي – ترجمة عبد الوارث سعيد – دار الوفاء .
ويحذر المفكر الألماني باول شمتز قائلاً : ' سيعيد التاريخ نفسه مبتدئا من الشرق ، عودا على بدء من المنطقة التي قامت فيها القوة العالمية الإسلامية في الصدر الأول للإسلام وستظهر هذه القوة التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته العسكرية ، وستثبت هذه القوة وجودها ، إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخراجها والاستفادة منها وستقلب موازين القوى لأنها قائمة على أسس لا تتوافر في غيرها من تيارات القوى العالمية ' .....................................................................باول شمنز – نقلا عن عبد الوارث سعيد – أمتنا والنظام العالمي الجديد .
ويقول المفكر الإنجليزي هيلد بيلوك: ' لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين وتتماسك أطرافها تماسكًا قويًا ، وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب بل ستكون أيضًا خطرًًًا على أعدائه '.
هذه الخلفية تركت بصماتها على ثقافة المواطن الغربي، وانعكست على مناهج التعليم ومختلف المراجع الثقافية وساعدت على تشكيل إدراك غربي لا يكن وداً للإسلام والمسلمين. ومن ثم كان ذلك الإدراك مستعداً لاستقبال البث الإعلامي الذي كان أغلبه معادياً للاثنين، سواء بسبب التأثير الصهيوني أو بتأثير من بعض العناصر المتعصبة التي تعاملت باستعلاء وازدراء مع العرب والمسلمين.
يقول الكاتبان جراهام فوللر، وأيان ليسر : لم يكن وصول الجيوش المسيحية من أوروبا إلى الأراضي المقدسة في فلسطين لخوض حرب صليبية سوى بداية لحملة أوروبية عامة طويلة المدى لاستعادة الأراضي الخاضعة لسيطرة المسلمين في أسبانيا وصقلية والمشرق. واستطاعت الجيوش الصليبية على مدى مئة عام أن تستولي على كل الأراضي المطلة على شرق المتوسط تقريبًا ابتداء من الحدود التركية إلى الحدود المصرية. وبحلول عام 1187م استطاعت الجيوش الإسلامية التي جاء رد فعلها بطيئًا أن تقضي في نهاية المطاف على المملكة المسيحية في بيت المقدس وأن تستعيد المنطقة للسيطرة الإسلامية.
ولكن الحروب الصليبية أصبحت منذ ذلك الحين حدثًا له آثاره الوجدانية العميقة عند المسلمين ولم يعد يشمل فقط الغزو المادي للجيوش الغربية وإنما يمثل أيضًا قيام دول مسيحية فوق الأراضي الإسلامية أيضًا وباتت هذه الأحداث بمثابة المقدمات الأولى للاستعمار والإمبريالية الغربية في العصر الحديث وارتبط بها أيضًا تأسيس دولة يهودية في فلسطين عام 1948.
وكذلك فإنه لا تزال كلمة أندلس تستثير في عقول المسلمين عظمة وأمجاد الماضي مثلما تثير مشاعر الحزن العميق إزاء ضياع مجد هو أعظم أمجاد الإسلام إشراقا في العصر الوسيط خصوصا أن المجتمعات الإسلامية الكبيرة التي أجبرت أن تحيا في ظل حكم مسيحي، عاشت حياة من المعاناة هي على النقيض تماما من الحياة التي عاشها المسيحيون على امتداد القرون في ظل الحكم الإسلامي. ........من كتاب [الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة] الصادر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بواشنطن وقام بترجمته مركز الأهرام للترجمة والنشر
الصحوة الإسلامية المباركة(2/201)
تقول هانتر: " فوجئ الغرب بهذه الظاهرة العارمة ظاهرة الصحوة الإسلامية، وراح يحللها بوسائله وتصوراته ليكتشف نقاط القوة والضعف فيها ومن ثم يعمل على مواجهتها " إذن من المهم أن تحدد الأسباب الأساسية للظاهرة الإسلامية وأبعادها المعادية للغرب وان تقوم في شكل صحيح وان يتم تبني السياسات الملائمة للتعامل معه...... مستقبل الإسلام والغرب لشيرين هانتر ص 99.
إن الصحوة الإسلامية في الأساس جاءت لترد على (التخلف، والتمزق، والعلمانية)، ولتحقق العودة إلى الإسلام بكل مقتضياته. فالإسلام دين التقدم، يدعو إلى العلم بشتى، أنواعه، ويطلب من الأمة الإسلامية أن تحقق كل عناصر القوة، وان تبذل أقصى جهدها لتكون خير الأمم، ولتكون في الطليعة الحضارية للناس والتخلف حالة غير طبيعية مطلقاً.
والإسلام دين الوحدة الإسلامية، والتخطيط الإسلامي للوحدة واضح تماماً، فالقانون واحد، والقائد واحد، والعواطف واحدة والشعارات والعبادات واحدة، وثروات الأمة هي ملك كل الأمة وقد جعلت لها قواماً وقياماً، وحقوق المسلمين جميعاً متكافئة لا بل قد يشترك كل المسلمين في بعض أنواع الملكية، والتكافل والتوازن في مستوى المعيشة شاملان لكل المسلمين، والمسلمون جميعاً مسؤولون عن مجموع الأمة وحدودها مسؤولية مشتركة.
أما الحالة الراهنة، والتبريرات التي تساق لها فهي كلها استثناءات يجب أن يعمل الجميع على حذفها في النهاية والعودة إلى واقع الإسلام. ولا نجد عالماً أو حتى مجرد مطلع على حقيقة الإسلام يجادل في هذه الحقيقة الواضحة.
والإسلام دين الحياة فلا يمكن أن ينسجم مع العلمنة بأي تعريف جاءت، وأية صفة اتخذت ايجابية أم سلبية أما الاستناد إلى التجارب القائمة فهو مجرد خداع لأنها تجارب مفروضة على العالم الإسلامي ومتنافية مع حقيقة الإسلام..................................... جزء من مقال للدكتور عبد الله التركي.
وفي ظل هذا الدين الخاتم يمكن أن يلتقي البشر جميعاً على عبادة الله وحده، واتباع القيم الخلقية النبيلة في التعامل فيما بينهم، بما يحقق العدل ويحفظ مصالح الناس.
إن الصحوة الإسلامية إذن تدعو للتفوق الإسلامي الحضاري فلا ينبغي أن يثير ذلك حفيظة الآخرين إن كانوا يملكون الروح الرياضية الحضارية، وأنى لهذه الروح أن تسود.
أما عن عوامل هذه الصحوة فإننا نتصور هذه العوامل كما يلي:
أولاً: طاقات الإسلام الذاتية التي لا تفتأ تمد المسلمين بدوافع التغيير، وتشدد على الحفاظ على الهوية الحضارية بعد أن أعطتها معالمها الشاملة ، بل وتدفع دائما على الحفاظ على التفوق أو استعادته إذا فقد.
ثانياً: اشتداد الحملة الأوربية على العالم الإسلامي بحيث استباح الغرب كل الثروات، واستعمر معظم البلاد، واعتدى على الهوية الثقافية، بل راح يهاجم المكونات العقائدية والأخلاقية، وينشر الرذائل، ويمزق النسيج الاجتماعي من خلال عملائه الحقيقيين أو الثقافيين، ويزرع الكيان الصهيوني الغاصب في قلب العالم الإسلامي. ولا ريب أن حملة من هذا القبيل سوف تواجه برد فعلٍ قوي من أمة يبقى الإسلام فيها حياً ، رغم عمليات القضاء عليه.
ولعل الغرب شعر بهذه الحقيقة حين حاول التنفيس والاستعاضة عن ذلك بإعطاء الاستقلال الصوري لبعض المناطق الإسلامية. ولكن هذا العمل بنفسه وفر فرصةً لنمو الصحوة الإسلامية بشكل واسع و طرح الإحساس الإسلامي بالإسلام الشمولي في الستينات واتساعه بشكل مرعب للغرب في السبعينات والثمانيات.
ثالثاً: فشل كل الحلول والأطروحات البديلة للمقاومة والتغيير، لأنها كانت تحمل في داخلها عناصر فشلها. لقد فشلت الأطروحة القومية الضيقة رغم التطبيل والتزمير، ورغم نزولها المبكر إلى الساحة وتحقيقها الكثير من الأهداف الغربية ومسحها الكثير من السمات الإسلامية في تركيا وغيرها. ذلك لأنها لا تنسجم مع الطبيعة الإسلامية التي تتجاوز القوميات.
كما فشلت الاشتراكية لأنها اعتمدت على أسس الحادية رغم تمتعها ببعض الشعارات المنسجمة مع بعض التعاليم الإسلامية كالعدالة الاجتماعية والدفاع عن المحرومين ومعاداة الاستعمار.
وفشل الشكل التركيبي (الاشتراكي القومي) أيضا لأنه أيضا تركيب وهمي لا ينسجم مع الحس الإسلامي ولا يعبر عن أية إضافة معرفية.
رابعاً: ظهور شخصيات دعوية كبرى كان لها الأثر المتفاوت في إيجاد هذه الصحوة أو مقدماتها أو ترشيدها أو إعطائها طاقات حماسية وفكرية أو منحها الثقة بنفسها والأمل الواعد بمستقبلها الحتمي، إضافة للوعود الإلهية الحتمية بانتصار المؤمنين، والمستضعفين، وحلول العدل الشامل.
خامساً: ويجب أن لا ننسى دور التطورات والحوادث الكبرى في إذكاء هذه الصحوة من قبيل:
1. تنامي مستوى وسائل الاتصال ، والحركة المعلوماتية ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة
2. .ارتفاع مستوى التعليم الإسلامي.
3. تطور أساليب الدعوة إلى الإسلام.
4. توفر بعض أجواء الحرية في العالم الإسلامي.
5. اشتداد حركة مقارعة الاستعمار.
6. قيام المؤسسات الدولية الإنسانية المدافعة عن حقوق الإنسان والداعية لتنظيم العلاقات الدولية على أسس إنسانية.
7. حدوث بعض الحوادث المروعة كإحراق المسجد الأقصى أو هزيمة عام 67.
8. انتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفيتي.
9. انهيار الاتحاد السوفيتي وتحرر الدول الإسلامية.
وغير ذلك من التطورات التي ساهمت في اتساع الصحوة الإسلامية ونشر مفاهيمها ودعوتها في رفض التخلف والتمزق والعلمنة، والعودة إلى الحل الإسلامي الذي لا بديل له.
ومن الجدير بالإشارة هنا أن الغرب لم يأل جهداً في إجهاض الصحوة، ومقابلتها ، وإلهائها واتهامها بشتى التهم من قبيل (التخلف والرجعية، والتطرف والأصولية، والعنف والإرهاب،) ولم يعدم من قدم له الذرائع من المسلمين ممن عرض فكراً رجعياً، أو سلك مسلكاً متطرفاً، أو عمل عملاً إرهابيا،. ولكن الواضح تماماً أن هؤلاء لا يمثلون الاتجاه الإسلامي العام فضلاً عن أن يكون سلوكهم ممثلاً للصحوة الإسلامية أو معبراً عن روح الإسلام وتعاليمه).
ولذا نلمح في الأفق السمات التالية:
أولاً: اتساع حركة الصحوة الإسلامية وتجذرها بحيث لا تنفع معها أساليب الحذف أو التحريف.
وإذا أردنا أن نستدل لهذا التوقع ، وتجاوزنا المسألة العقدية التي نؤمن بها دون أي شك، فانا نشير إلى مظاهر الصحوة التي تعم العالم الإسلامي من ارتفاع مستوى الأمل لدى جماهيرنا الإسلامية، وانتشار التقاليد الإسلامية كالحجاب وأنماط التعاون والعبادات انتشارا واسعاً، واتساع حركة المطالبة بتطبيق الشريعة في كل الحياة ، وتشكل المنظمات الإسلامية ودخولها إلى الساحة السياسية والاجتماعية بكل قوة، وانهزام الفكرة العلمانية مرحلة بعد مرحلة ، وزوال الأمل بغير الإسلام على الساحة الفلسطينية وأمثالها من ساحات المقاومة ، واتجاه النخبة والجماهير نحو ثقافة الوحدة والتقريب، والسعي الحثيث على كل المستويات لنبذ التخلف، وغير ذلك.
ثانياً: اتجاه الدول الإسلامية نحو التعاون الأكبر، والعمل على وضع آليات جديدة لتفعيل المؤسسات الشمولية وإحساسها جميعاً بالخطر المشترك.
ولا نريد أن نكون متفائلين أكثر من اللزوم ولكننا ندرك هذه الرغبة لدى القسم الأكبر، ونرجو أن تتحقق خصوصاً وأن المسألة لم تعد بيد الحكومات وحدها فالعصر عصر الجماهير.(2/202)
ثالثاً: ارتفاع مستوى أهمية العالم الإسلامي في مختلف المجالات. صحيح أنه أحيانا لا يدرك هذه الأهمية ولكنها حقيقة قائمة لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها فلدى هذه الأمة.: الكم البشري الهائل، والقدرات الإستراتيجية الفريدة والمواقع الجغرافية المتحكمة، والعقول العلمية المتقدمة، وفوق كل ذلك لديها الطاقة الحرارية والحضارية الإسلامية التي لا تنضب
الحضارة المادية إلى زوال
العقل الغربي بعد الذي بلغه من شأو وعلو قي (الجوانب المادية)، يكتسب ثقة في النفس مبالغاً فيها، ثم وهو يرى تخلف المسلمين وتدهور أوضاعهم ـ في الجوانب المادية طبعاً ـ ، أقتنع بأنه الأرقى والأرفع والأكمل، وأن حضارته هي "نهاية التأريخ" ولا تقبل منافسة من أي أحد ، و بسبب ذلك فإن العقل الغربي وهو في مكانته العملية تلك أصبح رافضاً لفكرة الندية مع الحضارات الأخرى، ثم أنه لم يعد قادراً على استساغة فكرة أن مجتمعاً آخر –متخلفاً مثلنا – يمكن أن يكون عصياً على الاحتواء أو رافضاً للنموذج الغربي، وهذه مشكلة لم يستطع كثيرون من الغربيين استيعابها حتى الآن.
ويلخص الأستاذ منير شفيق في كتابه: ' الإسلام في معركة الحضارة ' نقاط الضعف في الحضارة الغربية كالتالي:
1 – التطور العام غير المتوازن بالنسبة إلى مختلف المجالات ، فقد تكثف في المجالات المادية واختل على مستوى العلاقات الإنسانية والأخلاقية مما يؤدي في النهاية إلى الإسراع بسقوطها لأن حالها يصبح كحال الذي يقف على قدم واحدة ، فمهما بلغت قدمه من القوة إلا أنها ضعيفة حين يتعرض الجسد كله إلى هزة قوية .
2 – اتسعت الهوة بين أصحاب تلك الحضارة والغالبية العظمى من شعوب العالم مما دفع بها إلى مواجهة قوى لا قبل لها بها ، فالأقلية الظالمة مهما قويت وتمكنت تظل ضعيفة أمام قوة الأغلبية المظلومة صاحبة الحق ، فالتضاد مع حقوق غالبية الشعوب ومصالحها يؤدي إلى انهيار تلك الحضارة مهما طال الزمن .
3 – التآكل الداخلي يشكل سمة أساسية مميزة لمجتمعات الحضارة الإفرنجية سواء أكان ذلك على مستوى المجتمع منفردًا أم على مستوى صراع تلك المجتمعات فيما بينها ، إن الصراع على امتلاك القوة والسيطرة والتنازع لامتلاك الثروة يؤديان بالإسراع بعملية التآكل الداخلي .
4 – إن إطلاق الغرائز والنزعات البهيمية وانتشار الفساد والانحلال قد يصل في تلك الحضارة إلى ضعف داخلي شديد يجعلها غير قادرة حتى على الإفادة من قوتها المادية ، مما قد يكرر صورة الجندي الروماني الذي ربط بالسلاسل لكي لا يفر في معركة اليرموك ، على الرغم من الكثرة العددية للرومان في تلك المعركة ، وقوة دروعهم ، وطول رماحهم ومضاء سيوفهم و رفاهة خيولهم .
ثم يستطرد قائلاً : وقد يقول قائل إن الحضارة الغربية يمكن أن تعالج نقاط ضعفها أو تتخلص منها وبالتالي تجدد نفسها ، وهذا القول يعكس جهل أصحابه بطبيعة وجوهر الحضارة الغربية وطبيعة وجوهر نقاط الضعف فيها ، لأن نقاط الضعف هنا هي من صميم وجوهر الحضارة الغربية وليس عارضًا عليها ولا ناشئا من عوامل جانبية أو إهمال من القواد أو غيرها أنها تنبع من داخلها ومن صميمها بطريقة تلقائية وحتمية بحيث انه من المستحيل عليها معًالجتها أو التخلص منها ، وإذا حاول أهل الحضارة الغربية التخلص من تلك العيوب فإنهم سيتخلصون من الحضارة الغربية ذاتها .
فمثلاً إن السعي لتحقيق أقصى درجات القوة العنيفة المادية من أجل السيطرة على العالم ونهب ثرواته بلا حدود يجعل تلك الحضارة تدوس على كل القيم والمعايير التي تتعارض مع هذا السعي ، أو بتعبير آخر إن ذلك السعي يسخر كل شيء من أجله ، وهذا في حد ذاته يسمح بالتفوق في مجالات محدودة ، وهذه نقطة قوة أساسية في الحضارة الغربية ، وهي أيضًا سبب انهيارها المتوقع في مجالات أخرى ، المجالات الأخلاقية والنفسية والإنسانية واندلاع أشد الصراعات الداخلية والخارجية مما يشكل بدوره نقطة الضعف المركزية في هذه الحضارة ، إن نقطتي القوة والضعف المتولدتين عن تلك السمة الأساسية في الحضارة الغربية سيصلان في نهاية المطاف إلى تدميرها إن لم يعرضا مستقبل الإنسانية كلها إلى خطر قريب من شبه الإبادة الجماعية '
ومثل آخر: إنه إذا حاول نظام حكم عنصري التخلص من عنصريته ، فإنه في الحقيقة يتخلص من نفسه ، لأن العنصرية هنا هي التي شيدت بناءه وهي التي تسمح له بالاستمرار ، فلولا النهب والاسترقاق والفصل العنصري لما كان هذا النظام العنصري قد نشأ ولما كان حقق لنفسه هذا الرخاء ولما استطاع أن يستمر لحظة بعد التخلص من العنصرية
وبناء على ذلك يرى أصحاب رأي الصدام الحتمي أن المواجهة ستكون مواجهة شاملة ..
إذن فالمعركة برأيهم حتمية ، ولا سبيل هناك إلا المواجهة ، أو الموت ، وحتى المواجهة مع الهزيمة ربما تعطينا الفرصة في الصمود والحفاظ على البذور صالحة تحت التربة لتعود من جديد لتثمر في مرحلة أخرى ، ولكن الانصياع والخضوع لا يعني فقط خسائر هائلة في الحاضر بل يعني تدمير المستقبل ، لأنها تطال البذور الكامنة تحت التربة .
يقول الأستاذ محمد مورو : واتجاه آخر يقول بأن الحضارات تتفاعل مع بعضها البعض أو تتزاوج وإن الحضارة الغربية ليست غربية فقط بل إنسانية أي أنها استفادت من كل الحضارات التي سبقتها وتفاعلت وتزاوجت معها وخرجت في النهاية لتكون حضارة الإنسانية كلها ، وهذا الرأي خطير وبراق ولكنه خطأ ، ولكي نعرف انه خطأ ينبغي علينا أن نفرق بين أمرين أحدهما التفاعل والتزاوج والآخر التعاون فالتفاعل والتزاوج لا يتم إلا بين حضارات أو إبداعات حضارية من عًائلة واحدة مثل الحضارة الرومانية واليونانية والإغريقية والجرمانية والسكسونية وهكذا .. وهذا التفاعل والتزاوج لا يتم بين حضارات من عًائلات مختلفة ، أي مختلفة نوعًا وكميًا ، فلا يمكن مثلاً الحديث عن تمازج وتزاوج حضاري بين حضارة تقوم على الوثنية كالحضارة الغربية وأخرى تقوم على التوحيد كالحضارة الإسلامية ، والأمر هنا أشبه بعمليات التطعيم التي تتم في النباتات ، فلابد لكي تنجح عملية التطعيم هذه أن تكون بين أنواع معينة من النباتات تنتمي إلى عًائلة واحدة ، أو عائلات متقاربة ، ولكن هذا التطعيم يفشل تمامًا إذا ما تم بين شجرتين لا تنتميان إلى عائلة أو عًائلات نباتية متقاربة .
ثم يخلص إلى نتيجة مفادها : إن إمكانية التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية أمر مستحيل ، لأن أي دراسة متعمقة للأساسيات التي قامت عليها كل من عائلة الحضارة الإسلامية وعًائلة الحضارة الأوروبية لا تترك مجالا للشك في أن لكل منهما طريقًا مختلفًا وسياقًا خاصًا ، لهذا يهدف الحديث عن التواصل الحضاري أو التفاعل الحضاري أو التزاوج الحضاري إلى الإلحاق والتبعية الحضارية باعتباره جزءًا أساسيًا في عملية الإلحاق الاقتصادي والثقافي والسياسي والسيطرة العسكرية .(2/203)
ثم يستطرد قائلاً : والداعون إلى التزاوج والتفاعل الحضاريين مع الحضارة الغربية ينسون الظروف المشبوهة التي ظهرت فيها مثل هذه الدعوة ، فهذا الموضوع لم يطرق بعيدًا عن غايات ذات علاقة بالصراع الدائر بين القوى الاستعمارية والشعوب المقهورة والمستضعفة ، فعندما طرحوا منظورًا أوروبيًا لهذا الموضوع كانوا في أغلبهم يرمون إلى سيادة الحضارة الأوروبية على العالم بكل ما تحمل من فلسفات وقيم ومعايير ومفاهيم ، وذلك من خلال الترويج للحضارة الأوروبية وضرب الحضارات الأخرى ، أو طمسها ، أو الإنقاص من قدرها أو خلطها بما يلغيها ، وهو أمر يؤدي بالشعوب إلى فقدان هويتها ومقومات شخصيتها الأساسية ، وإلى ضرب عوامل وجودها المادي والثقافي المستقل ، فتصبح مكشوفة أمام طغيان المستعمرين ثم تتحول إلى تابع ذليل تلتقط الفتات ، وتقف على العتبات ، دون السماح لها بالدخول إلى صدر البيت ...................... الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟!
فالمعركة هنا معركة حضارية شاملة ، أي سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وثقافية ، والغرب يستخدم معنا كل الوسائل السياسية والعسكرية ، والاقتصادية والاجتماعية ، والثقافية أيضًا ، وما دام الغرب يشن علينا حربًا شاملة فلا بد من مواجهته بحرب شاملة ، تواجه بالكفاح وحتى إذا سلمنا بصحة مقدمة هؤلاء وهي أن الغرب وأمريكا أقوياء بدرجة لا يمكن مواجهتها ، فإن النتيجة التي توصلوا إليها خطأ ، لأن معنى مثل هذه القوة الهائلة للغرب وأمريكا أن الخضوع لهم سيؤدي إلى النهاية والموت والاندثار ، وأن الخضوع لن ينقذنا ولن يحقن دمائنا ، بل إن الخضوع سيتسبب في خسائر أكثر من المواجهة حتى ولو كانت غير متكافئة ، على الأقل فالمواجهة سوف تقلل الخسائر وسوف تسمح للبذور الكامنة تحت التربة بالبقاء ، بعيدًا عن يد الغرب فتعود لتثمر في فرصة أخرى مستقبلية .
وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارة الغربية تحمل في داخلها الكثير من نقاط الضعف ( كما سبق ووضحنا ) التي ينبغي الصمود واستثمارها أو الصمود وانتظار أن تؤدي تلك المواقع الضعيفة في جسد الحضارة الغربية إلى انفجار داخلي ، فالإنسان في الحضارة الأوروبية مثلاً يفتقد التوازن بين حاجاته المختلفة ويفتقد التوازن في علاقاته مع الجماعة ، وهذا يؤدي إلى انتشار الأمراض النفسية والجريمة والانحراف والشذوذ الجنسي وزيادة استهلاك الخمور والمخدرات إلى حدود أصبحت تهدد حياة مئات الملايين من سكان أوروبا وأمريكا وهو ما يمكن أن يؤدي على المدى المتوسط أو الطويل إلى انهيار الحضارة الغربية من داخلها ، أضف إلى ذلك أن الرغبة في تحقيق أقصى قدر من النهب وبالتالي عدم التورع عن استعمال أقصى قدر من العنف ومع تزايد قوة الأسلحة الفتاكة يجعل العجلة العسكرية تدور بلا توقف مما يجعلها في النهاية قابلة للانفجار من داخلها أو بالتصادم مع بعضها البعض وإذا كانت الحرب العالمية الثانية التي نشأت بسبب التنافس على الربح بين دول كلها تنتمي إلى الحضارة الغربية قد أدت إلى قتل 62 مليون إنسان معظمهم من الأوروبيين فكم يا ترى سوف يقتل في المعركة المسلحة والحرب الشعبية ، وعلينا أن نواجه بالوسائل السياسية ونواجهه برفض الخضوع لوسائل النهب التي يمارسها ومن خلال بناء نمط اقتصادي مستقل وغير تابع ويعتمد على قوانا الذاتية ويقطع تمامًا خيوط التبعية مع الغرب ، ونواجهه أيضًا بتصفية كل مراكز الثقافة المغتربة وكل أشكال الاختراق الثقافي ، ونواجهه بثورة ثقافية شاملة تعتمد على تأكيد قيمنا الحضارية ، ونواجهه بالوحدة ، ورفض التجزئة التي فرضها علينا ، ونواجهه بتعبئة شعبية شاملة ، ونواجهه بحرب حضارية شاملة في مواجهة حرب حضارية شاملة .
ويجب أن ننتبه هنا إلى نقطة خطيرة ، وهي أن أخطر هذه المواجهات هي على الجانب الثقافي ، لأن الاختراق الثقافي يدمر حياتنا من الداخل ويقلل قدرتنا على المواجهة ويضرب فينا قيمنا الإيجابية مثل الجهاد والوحدة والرفض وبالتالي يجعلنا عاجزين عن المواجهة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية ، ولابد أن ننتبه إلى انه ما دامت الحرب حضارية وشاملة فليس من المعقول مثلاً أن نستخدم قيمًا ووسائل واستراتيجيات مستمدة من الغرب لمحاربته بها ومهما كانت براقة فإنها لن تجدي في مواجهته ، فكيف أواجهه على أرضيته الثقافية والحضارية ؟ ، لابد أن أواجهه بأساليب وتكتيكات وقيم ووسائل واستراتيجيًات مستمدة من ذاتنا حتى تظل قادرة على الاستمرار . ................... الإسلام والعالم المعاصر ص 130 . أنور الجندي .
وقد فاقمها ( أي المواجهة) أن المجتمعات الإسلامية بطبيعة تكوينها يتعذر قولبتها في النموذج الغربي، ببساطة لأن لها منظومة قيم مغايرة، وبنيان فكري ونظر إلى الكون والحياة، مختلف عن الغرب تماما ،هذا الاستعصاء على الاحتواء لا يزال يثير حفيظة كثير من الغربيين، الذين عجزوا أو رفضوا أن يعترفوا بخصوصية القيم الإسلامية، التي لا تقبل التفاعل وترفض الذوبان والانسحاق.
يقول الدكتور / شاكر النابلسي : ولكي ندرك الفرق بين أيديولوجية الإسلام وأيديولوجية الغرب وسبب الصراع المحتمل بينهما، ولا سيما في القرن الحادي والعشرين، دعونا نعقد مقارنة سريعة بينهما:
1. يقول الإسلام بأن الإنسان مخلوق، ويقول الغرب بأن الإنسان خالق.
2- يقول الإسلام بأن الله هو سيد الكون المُطاع، ويقول الغرب، بأن الإنسان هو سيد الكون المُطاع.
3- يقول الإسلام بأن الله هو سيد الإنسان، ويقول الغرب بأن الإنسان سيد نفسه.
4- يربط الإسلام وجود الإنسان والعالم بسبب خارجي هو الله، في حين ينظر الفكر العلماني في الغرب إلى الإنسان والعالم لذاتهما، في معزل عن أي سبب خارجي.
5- يُقرُّ الإنسان في الإسلام أن الغيب لله كعلم تفرد به ولم يطلع عليه أحداً - إلا من شاء - ، بينما يُلغي الغرب ما يُسمّى بالغيبيات والعلم بالغيب.
6- يعتبر الإسلام مجتمعاً مثالياً أخلاقياً روحياً ، بينما يعتبر الغرب مجتمعاً مادياً أخلاقياً مختلفاً.
7- يمتثل الإسلام للشريعة و لا يحكم العقل في الشريعة ولكنه يعمل في إطارها، في حين يمتثل الغرب للعقل تماماً ويحكمه في كل شيء ويرد ما لا يقره العقل.
فهل من أجل هذه الفروقات في العقائد يمكن للصدام أن يتم بين الإسلام والغرب؟
ولِمَ لا وقد كادت الحرب العالمية الثالثة أن تقع بين الغرب والاتحاد السوفياتي نتيجة لاختلاف العقائد. ............بشيء من التصرف والزيادات من مقال له.
وبعد انهيار سور برلين وسقوط الشيوعية راح الغرب يبحث عن "عدو" وتضافرت ظروف متعددة رشحت الإسلام كي يشغل ذلك الموقع بديلاً عن الشيوعية ويبدو أن هذه الفكرة راقت للأغلبية الأوربية والنخبة في الولايات المتحدة وغيرها .
فبعد غياب الاتحاد السوفيتي وتفرد الولايات المتحدة بصدارة "العالم الأول" فإن دعاة تمدد الإمبراطورية الأمريكية في فضاء الساحة التي خلت انتعشوا، الأمر الذي دعاهم إلى بلورة مشروعهم في كتابات عدة بينها المذكرة الشهيرة التي قدمت إلى الرئيس السابق بيل كلينتون في عام 1997م حول القرن الأمريكي الجديد.(2/204)
يقول لورانس براون: ' لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة ، ولكننا بعد الاختبار لم نجد مبررًا لهذا الخوف ، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي والخطر الأصفر وبالخطر البلشفي إلا أن هذا التخويف كله لم نجده كما تخيلناه ، أننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا ، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا اللدود ، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا ، أما الشعوب الصفر 'الصين ، اليابان ' فإنها ليست خطيرة لهذه الدرجة ، ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع ، وفي حيويته ، أنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي ' ..................د . مصطفى الخالدي.. د . عمر فروخ – التبشير والاستعمار.
وأحداث 11 سبتمبر وفرت لفريق الأصوليين المتعصبين والمتصهينين في الإدارة الأمريكية حجة قوية لاعتبار العالم الإسلامي عدواً يجب قهره وتطويعه، حتى لا يظل مصدراً يهدد الأمن القومي الأمريكي ولأن هذا العالم يكره الأمريكيين – كما ادعوا- فقد يخرج من بين أبنائه يوماً ما في المستقبل من يكرر ما جرى في 11 سبتمبر.
والخلاصة
نقول : إنه بالرغم من كل ذلك، فإن الدين في الدول الغربية لا يلعب إلا دوراً ثانوياً وهامشياً للغاية. وبالتالي فليس للدول الأوربية في الجملة حساسيات عقدية ولا ثارات ضد الإسلام بالمعنى الدقيق رغم اختلاف الايدولوجيات السالفة ، هذا إذا استثنينا مجتمع المتدينين المتعصبين في الولايات المتحدة وغيرها ، وإذ كان الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن اسم الإسلام أصبح مخيفاً لكثيرين الآن في الغرب ، وهذا الخوف نابع من انطباعات زمنية وليس من تأثيرات عقدية (بما يحمل اللفظ من معنى) !! .
ولكن هذه الخلفيات يمكن أن تسوغ لنا أن نقول أن الغرب بالمفهوم الذي تحدثنا عنه ليس ضد الإسلام كعقيدة ودين، ولكنه متمسك بإضعاف الإسلام وتقليص دوره في المجتمع.
لكننا إذا نظرنا إلى المشهدين من زاوية المقاصد والمآلات فلا مفر من أن نعترف بأن عملية الإضعاف هي في حقيقة الأمر نوع من إماتة الإسلام وتضييق الخناق عليه إلى حد خنقه في نهاية المطاف ، وقد يجوز ذلك أن نقول أن العبرة ليست بالنوايا ولكنها بالنتائج، فالإماتة في النتيجة لا تختلف كثيراً عن القتل، إذ في الحالتين تشل حركة الإسلام ويفقد "روحه" حتى وإن استغرقت عملية الإماتة وقتاً أطول.........من مقال للأستاذ فهمي هويدي .
وبالرغم من ذلك نقول : إن إطلاق العداء للغرب خطأ كبير. فليس الغرب باطلاً كله ولا ظالماً كله ، وإنما ينبغي أن يتحرى المؤمن العدل في أحكامه والضبط في مشاعره.
ولا أدل على ذلك مما استطعنا جمعه من كاتبة غربية مثل (شرين هانتر) في كتابها (مستقبل الإسلام والغرب) ، والذي كانت فيه تحاول الإنصاف حتى أنها اعترفت بأمور كثيرة هي في حقيقتها مرة عند الغربيين منها على سبيل المثال :
أ – تقرير حقيقة أن الإسلام لا يمكن أن يهزم من خلال انتصارات عسكرية وأمثالها كما هزمت النازية والاشتراكية وأمثالهما.
ب – إن الايدولوجيا لا يمكن أن تفصل عن الحياة الاجتماعية ذلك لان المسألة الاجتماعية يجب أن تقام – ولو بشكل لا شعوري – على المسألة الفلسفية والاعادت بلا هدف ولا مبررات.
ج – إن الغرب لا يأبه بالقيم التي يدعيها كالديمقراطية وحقوق الإنسان إذا لم تخدم مصالحه.
د – إن العلمانية لا تجتمع مع النظام الديني حتى ولو كان مستمداً من المسيحية أو اليهودية.
هـ – إن الذين ينظرون إلى رؤى الإسلام بسطحية هم سطحيين .
و – السخرية من هنتنگتن (3) عندما يقول إن الإسلام لا يعرف المساواة
ز – التفريق بين إيمان الإسلام بحقوق الإنسان وعمل المسلمين.
ح – الاعتراف بان العلمانية فرضت فرضاً على العالم الإسلامي.
ط – إن الغرب قد ينطلق من مواقف أخلاقية منحطة كالحسد والحقد وأمثال ذلك.
ولا شك أن هنالك أسباباً عديدة تدعو غالبية المسلمين للشعور بحالة من النفور من السياسات والمواقف الغربية والتي اتسمت بماضٍ استغلالي استعماري وحاضر لا يقيم العلاقات على العدالة والإنصاف ، وهنالك شعور يسود في أوساط المسلمين أن هنالك تحيزاً ثقافياً ودينياً يسود أوساطاً واسعة في الشعوب الغربية ضد الإسلام. وأن موقف الإعلام الغربي الذي يأخذ صورة العالمية اليوم مناهض مناؤي للإسلام، ثم إن هنالك رموزاً حية لانحياز الغرب إلى جانب المعتدين على بعض شعوب الأمة المسلمة ومظاهرته لأولئك بالسلاح وبالمواقف السياسية ، وأبلغ الأمثال على ذلك هو الموالاة المطلقة لغالب دول الغرب لإسرائيل.
فكل هذه أسباب لا تفرش الطريق إلى محبة وتواصل مع الغرب. بيد أن الحكمة تشير أن الطريق الأوفق لا يتمثل في تسعير العداوة والبغضاء للشعوب والحكومات الغربية، بل بذل الجهود لإزالة التحيزات الثقافية ومناهضة الحملات الإعلامية والعمل على إحداث تغييرات في سياسات الحكومات الغربية وكل هذا بالإمكان من خلال العمل المثابر الدؤوب.
بيد أن إزالة نزعة العداء للغرب والتي تتفجر الآن في أعمال ترويعية لا تفرق بين المدني والعسكري، وبين الغافل والظالم لن يتم من جانب واحد. فالغرب الذي يجتهد اليوم في البحث عن أنجع السبل لمناهضة الإرهاب يتوجب عليه أن يدرك أن أقصر الطرق لمناهضة الأعمال الإرهابية هو التعامل بعدالة ونزاهة مع الشعوب الإسلامية.
فذلك هو السبيل لنيل ثقة أهل التوسط والاعتدال والذين هم الضمانة الأولى لكبح نزعات التطرف والغلو.
ولكن السياسة الأمريكية اليوم ماضية في منطقها الاستعلائي، وتكاد تقاريرها المتغطرسة أن تقول شيئاً واحداً لقد انتصر الغرب على الشرق، وتفوقت المادة على الروح، وأن عصر المادية الأمريكية هو نهاية التأريخ.
إن مسؤولية الاتصال والتواصل السليم بين العالم الإسلامي والغرب مسؤولية مشتركة، ولسنا في مجال تحديد التقصير أو الخطأ من أحد الأطراف، ولكن واقع العلاقة الآن يفرض علينا أن ندعو إلى بناء هذه العلاقة على أساس سليم ووفق منهج علمي يليق بتاريخ هذه العلاقة، وبالكثير من جوانبها المهمة، وبأثرها في تحقيق السلام والخير للبشر جميعاً، فهي علاقة، بين مئات الملايين من البشر.
والحقيقة أن القيم الإسلامية إنما ترفض الجانب المعادي للإنسانية في الغرب كالتحلل الجنسي، واستغلال الشعوب، ورفض الحياة الخلقية والكيل بمكيالين والعمل على محو الثقافات الأخرى، والاستعمار بشتى ألوانه، وأمثال ذلك وفيما عدا ذلك فان هناك نقاط التقاء كثيرة ونقاط تقبل الحوار.
يقول الدكتور المسيري : "فعداء الغرب للإسلام ليس عداء في المطلق، وإنما هو عداء للإسلام المقاوم، ولأي شكل من أشكال المقاومة تتصدى لمحاولة الغرب تحويل العالم إلى مادة استعمالية". ..............الإسلام والغرب.
ومع هذا تظل إمكانية الحوار والتفاهم قائمة، وإن كان ثمة عائق أساسي وهو أن الرؤية الغربية الإمبريالية الداروينية غير عقلانية. فمن يجعل القوة معياراً واحداً ووحيداً ولا يقبل الاحتكام إلى منظومة قيمية خارجة، إنسان غير عقلاني، لأن العقلانية تفترض وجود معايير إنسانية وأخلاقية مطلقة خارج الإنسان يمكن الاحتكام إليها. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نتحاور في غياب معايير أخلاقية وإنسانية يمكن الاحتكام إليها والإهابة بها؟
وأرى ـ والله أعلم ـ أن هناك ثلاثة مستويات للحوار:(2/205)
ا- الحوار بين الأنداد: وهو حوار بين طرفين يعترف كل منهما بإنسانية الآخر وبحقوقه وسيادته. والهدف من الحوار هنا هو تسوية بعض الخلافات التفصيلية الجزئية التي لا تنصرف إلى الكليات أو المنطلقات.
2. الحوار النقدي: إذا كان أحد الأطراف لا يعترف بإنسانية الآخر وحقوقه وسيادته، فمن واجب الطرف الثاني أن يوجه النقد للطرف الأول ويبين له خلل موقفه، ويدعم نقده بالحجج والبراهين، كما يحدث مثلاً حينما نحاور الدول الأوروبية التي نختلف معها في بعض الأمور المبدئية، والتي تقبل الحوار ولا تلجأ إلى العنف.
3. الحوار المسلح: إن استمر الطرف الأول في إنكار إنسانية الطرف الثاني وحقوقه وسيادته، وحوَّل إنكاره هذا إلى فعل ظالم باطش كأن يستولي على أرض الطرف الثاني أو يعتدي عليه، فإن من واجب الطرف المعتدى عليه أن يصده ويقاوم ظلمه وبطشه بأن يرسل للظالم رسائل نقدية مسلحة ليؤكد إنسانيته وسيادته ويحصل على حقوقه المغتصبة.
وهذا ما يحدث في فلسطين المحتلة ، فالإسرائيليون ينكرون وجود الفلسطينيين، فيقوم الفلسطينيون بإرسال رسائل مسلحة لهم تأخذ شكل انتفاضات شبه سلمية (مثل انتفاضة 1987) وانتفاضات مسلحة (مثل انتفاضة الأقصى)، وهي رسائل تؤكد للإسرائيليين أن الشعب الفلسطيني -صاحب الأرض- موجود وحي ويقاوم لاستعادة أرضه.
ولابد أن يتم الحوار على جميع المستويات، فالحوار الودي بمفرده مع من يؤمن بالقوة معياراً يتيماً لا يجدي فتيلاً، والحوار المسلح بمفرده يدخلنا في طريق مسدود. وهذا ما فعله الفيتناميون، فكانوا يجلسون على مائدة المفاوضات ويقومون بحملات إعلامية يتوجهون بها إلى أنصار السلام في العالم بما في ذلك الولايات المتحدة، ويوجهون النقد إلى المؤسسة العسكرية الأميركية التي بطشت بالشعب الفيتنامي دون وجه حق، ويقاتلون -في الوقت ذاته- في ميدان الحرب بعزم وإصرار، وبذلك تم تحويل المكاسب الميدانية إلى مكاسب سياسية
وبالمثل، يمكن أن يأخذ الحوار مع الغرب أشكالاً كثيرة، فلا يكفي السعي لتجميل صورتنا وتوضيح مشروعية موقفنا، إذ لابد من توجيه رسائل نقدية إلى الغرب (من خلال حملات إعلامية وحوارات مكثفة) تبين له أن دعمه لإسرائيل وهجومه على العالم العربي لا يمكن أن يظل أمراً مجانياً.
ويجب تحويل الحوار النقدي إلى حوار مسلح إذا استلزم الأمر من خلال عمليات المقاطعة والتهديد بسحب الاستثمارات وكل أشكال المقاومة المتاحة. أي يجب أن يدرك الآخر المعتدي أن هناك ثمناً لابد أن يدفع، وهم يفهمون تماماً مسألة الثمن هذه، فكما قال رئيس الوزراء البريطاني غلادستون "لا يوجد لدينا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون بل لنا مصالح دائمة". ..................................من مقال الإسلام والغرب نشر بتاريخ 4/11/2004.
وعلى هذا الأساس فإن الإسلام يقرر :
* أن الناس جميعاً شركاء في مهمة الاستخلاف الرباني للإنسان في عمارة الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: من الآية30).
* وأن الناس جميعاً مؤهلون خلقه (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ), ومهيئون فطرة لأداء هذه المهمة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } (البقرة: من الآية31))..{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:50)
*
* وأن الناس مكلفون بالتعاون لتحقيق عمارة آمنة للأرض {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة: من الآية2).
* وأنهم مدعوون للتكامل والتعارف، من أجل إنجاز شامل وعادل لمهمة الاستخلاف الرباني {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} (الحجرات:13) .
* وأن الناس شركاء في الانتفاع العام بنتائج سيرهم وكدحهم لعمارة الأرض , وبكلمة أخرى هم شركاء في الانتفاع بثمرات العطاء الحضاري والتكنولوجي والصناعي والزراعي والحيواني {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية:13) {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك: من الآية15) .
* ولكن ذلك كله وفق قواعد ومعايير احترام حق التمليك , والتزام ضوابط ومعايير نظم وآليات الانتفاع المتبادل العادل.
اعتماد الحوار الجاد بين الحضارات كأساس للتعارف من أجل :-
1. أن يتعلم الناس كيف يتعامل كل منهم مع الآخر وكيف يجل الجميع كرامة الإنسان .
2. أن تكشف القيم المشتركة وتراعى الخصوصيات الثقافية في سبيل تحقيق تعايش آمن .
3. العمل لمنع العدوان والاضطهاد والظلم بين الناس .
4. التأكيد على أن الأسرة المؤسسة على التزاوج الشرعي بين الرجل والمرأة هي الوحدة الأساس في بناء المجتمعات الآمنة .
5. التأكيد على أن الأسرة وحدة أساسية من مؤسسات المجتمع المدني وأنها المصدر الأكفأ لأجيال مسؤولة ومنتجة .
6. العمل معاً على إقامة العدل الرباني بين جميع الناس على اختلاف أقوامهم وأجناسهم ومعتقداتهم وألوانهم .
7. العمل على إزالة خلل التوازن بين حقوق الإنسان وواجباته لإنهاء حالة الخلل والاضطراب في مسيرة الحضارة البشرية .
8. العمل على مساعدة الفقراء لتحرير أنفسهم من الظروف القاسية التي تتنافي مع كرامة الإنسان ووشائج الأخوة الإنسانية .
9. العمل على إنهاء ظاهرة التعامل بالمعايير المزدوجة إقليمياً ودولياً .
10. العمل على إزالة العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية لاستفحال ظاهرة العنف والإرهاب في العالم .
11. التأكيد على ضرورة السير معاً بسلام ووئام على أساس من إرادة الله تعالي وطاعته لحماية المجتمعات البشرية من الكوارث والفقر والجهل . ووقف ظاهرة التدهور الأخلاقي والتفسخ الأسرى ووضع حد لمروجي منهجية الحروب وتكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل , وإلا سيكون الناس عرضة لمزيدٍ من الهلاك والدمار
ونحن - المسلمين - إذا نقول بذلك كله لا ننطلق من فراغ، بل نستند على أساس صلب ومرجعية عظيمة رسم معالمها وأبان سبل نهجها كتاب الله العظيم وسنة رسوله المبعوث رحمة للعالمين سيدنا وإمامنا الهادي البشير نبينا ورسولنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه عبر ثلاثة مواثيق متلازمة ومتكاملة هي الفريدة في نوعها وسبقها على مدار التاريخ البشري كله وهي:
أولاً : ميثاق الموطنة أو (العقد الاجتماعي الوطني) الذي تضمنته الوثيقة المشهورة في كتب السيرة (بصحيفة المدنية ) والتي تعتبر بحق أول ميثاق للمواطنة في التاريخ البشري يقنن ويؤصل لعهود ومواثيق المواطنة المشتركة ، في إطار التنوع الديني والثقافي ، مما تضمنته تلك الصحيفة من قيم ومبادئ :
1. أن المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية أمة واحدة من دون الناس .
2. وأن الحرية الدينية مكفولة لكل مواطن .
3. وأنهم جميعاً مسؤولون عن رد العدوان وحفظ سيادة الأوطان .
4. وأن عليهم النصح والبر ، فيما ليس فيه إثم .
5. وإن الجار كالنفس ، غير مضار في أمنه وكرامته.(2/206)
فهذه القواعد السالفة الذكر ، وغيرها مما جاء بها القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وتكون بتكاملها المنطلق الأساس لعقد المواطنة في نظام الإسلام وشرعته ، الذي يؤكد أن المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والعرقية ، وهم أمة واحدة تتساوي مصالحهم ، وتتكامل حقوقهم وواجباتهم ، وأن أمنهم واحد ، ومصيرهم واحد ، من غير تمايز ولا تفاضل بينهم إلا بالعمل الصالح ، ميثاق المواطنة (العقد الاجتماعي الوطني ) في الإسلام يقوم على ما يلي :-
أ. دين الدولة : الإسلام (دين الأكثرية ) القرآن والسنة النبوية المطهرة هما المصدر الأساس والوحيد لمطلقات وثوابت الشريعة الإسلامية ، والإسلام هو أساس الهوية الثقافية والحضارية للمجتمع .
ب. عقد الإيمان : وهو للجميع وذلك بإنفاذ شريعته سبحانه وتعالي في تحقيق مصالح المواطنين، وإقامة العدل بينهم وصون كرامتهم ، وتوفير أسباب رزقهم وأمنهم واستقرارهم.
ت. عقد الأداء : وهو عقد بين الحاكم والمحكومين من المسلمين ، يلتزم الجميع بموجبه بإنفاذ ما اتفقت عليه إرادة الأمة ، من قيم ومبادئ ونظم وأعراف وتقاليد مثل : الدستور وغيره في إطار عقد الإيمان وما تضمنه من ثوابت ومنطلقات ، والعمل معاً على تحقيق مصالح الناس وصون البلاد وأمنها واستقرارها وسيادتها .
وهذا يعني ويؤكد بوضوح ما يلي :-
1. أن الله تعالى : على أساس من ( عقد الإيمان ) هو المصدر الوحيد لثوابت ومنطلقات التشريع في المجتمع المسلم ( مجتمع الأكثرية).
2. أن الحاكم على أساس من ( عقد الإيمان )،والتزاماً بعقد (الأداء) : مسؤول أمام الله تعالي ، و مسؤول أمام الشعب عن التزام وتطبيق شريعة الإسلام والتزام وإنفاذ ما اتفقت عليه إرادة الأمة من مواثيق ونظم (الدستور وغيره )، والعمل بأمانة وإخلاص على إقامة العدل بين الناس جميعاً .
3. أن الشعب على أساس من (عقد الإيمان) والتزاماً بما ينص عليه (عقد الأداء )ويتناقص مع مواثيق عقد الإيمان وعقد الأداء ومطالب كذلك بتحمل مسؤولياته في إعانة الحاكم [ولي الأمر] وبذل النصح والمشورة له بما يعينه على أداء مهامه ومسؤولياته وواجباته ,وفق عقد الإيمان وعقد الأداء ,وبما يحقق مصالح المواطنين وأمن البلاد وسيادتها وارتقاءها . والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا : وماذا عن موقع المواطن غير المسلم في ميثاق المواطنة (العقد الاجتماعي الوطني ) في الإسلام ؟.
ونجيب فنقول : وحيث أن المظنة بأهل الإيمان بالله تعالى أياً كانت طبيعة اعتقادهم أنهم من حيث الأصل والمبدأ يحرصون على تحقيق إرادة الله تعالى ومرضاته ، وعلى أساس من هذا الظن الحسن أعتقد أن العقد الاجتماعي في الإسلام يتسع بكل موضوعية وجدية للمواطنين غير المسلمين في ضوء التوضيح التالي:
أولاً : أحسب أن عقد الإيمان يتسع لهم ، باعتبار أن ثوابت الشرائع الربانية التي جاء بها الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام متكاملة ، ولا تصادم ولا تناقض بينها من حيث الأصل، وقد أكدت جميعها على إقامة العدل ، وكرامة الإنسان وحريته ، وعلى الحب والتسامح في مرضاة الله ، والتعايش الآمن بين الناس ، وعلى سلامة البيئة وعدم إفسادها، وحثت على استثمار ما في السموات والأرض لصالح كرامة الإنسان وصون حياته، والشريعة الإسلامية تؤكد على ذلك كله
وثانياً : فعقد الإيمان هو الضامن والحارس الوجداني لتحقيق هذه القيم الربانية وغيرها من أجل صون كرامة الناس جميعاً.
ويتسع ( ثالثاً ) لفعاليتهم وممارسة حقوقهم وأداء واجباتهم ، باعتبار أن كل مواطن من حيث الأصل والمبدأ يحرص على:
1. حرية اعتقاده وممارسة عبادته .
2. احترام خصوصياته وحقه بالاحتكام إلى قيمه الدينية فيما يتعلق بشؤونه الشخصية.
3. تأمين مصالحه الدنيوية دون الإضرار بمصالح غيره ، ومن دون انتقاص أو تميز.
4. تحقيق طموحاته وآماله الشخصية والوطنية في سياق المصالح العامة للمواطنين.
5. العيش بكفاية وأمن واستقرار.
6. المشاركة في خدمة بلده ، والمحافظة على أمنه واستقراره وسيادته.
وباعتقادي أن ذلك كله وغيره مضمون ومكفول في العقد الاجتماعي في الإسلام ، ولمزيد في التوضيح نقول أن الإسلام كما هو معلوم عقيدة وشريعة.
والعقيدة : وهي التي تمثل الخصوصية الدينية للمسلم ..فقد حسم الإسلام أمر الآخرين معها بقول الله تعالى :( لكم دينكم ولي دين) ، أي أن المواطن غير المسلم في المجتمع غير المسلم له حرية الاعتقاد وله حرية ممارسة العبادة.
أما الشريعة : فهي تتكون بصورة رئيسة من شقين اثنين:
1. قواعد وأحكام ومبادئ تتعلق بالأحوال الشخصية .
2. قواعد ومبادئ ونظم وضوابط تتعلق بالحياة العامة للناس.
فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ، فقد حسم الإسلام أمر المواطنين غير المسلمين بشأنها ، بأن أعطاهم حق التحاكم في ذلك إلى شرائعهم الخاصة إن رغبوا .
أما ما يخص الجزء من الشريعة الإسلامية المتعلق بالحياة العامة ، ونظم ومبادئ تصريف مصالحها ، فأن المواطنين غير المسلمين ، فهم جميعا سواء دون تمييز ، تحكمهم جميعاً مواثيق الأمة ولوائحها الدستورية ، وعلى أساس مما سلف ، لا أرى أن هناك أدنى إشكالية للمواطنين غير المسلمين مع الشريعة الإسلامية وميثاق المواطنة ( العقد الاجتماعي الوطني).
ثانياً: الميثاق العالمي أو ( العقد الاجتماعي العالمي ) ، الذي تضمنته الوثيقة المعروفة والمشهورة في كتب السيرة ( بخطبة حجة الوداع ) ، التي أصلت وأسست لأول ميثاق عالمي ، يرسم القواعد والمبادئ الجامعة لسياسة دولة الإسلام الراشدة في مستواها العالمي ، ويقنن للمعايير والضوابط المنصفة للتعايش البشري الآمن ، في إطار التنوع القومي والعرقي واللوني والجنسي والديني ، وكان من أبرز ما جاء بخطبة الوداع أو الميثاق العالمي ( العقد الاجتماعي العالمي) َقَوله صلى الله عليه وسلم : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ رَبكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَباكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلَّا بالتَّقْوَى ، أَبلَّغْتُ ؟ " ، قَالُوا : بلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ"...........................أخرجه الإمام أحمد في المسند.(2/207)
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَاب اللَّهِ ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ ، قَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ : اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" ..........................................................................................................البخاري .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَنَّهُ قَالَ : " يَا عِبَادِي : إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ، فَلَا تَظَالَمُوا" .........................................................................................................مسلم
1. أيها الناس إن ربكم واحد.. تأكيداً على وحدة مصدرية الإيمان.
2. إن أباكم واحد .. تأكيداً على وحدة الأسرة البشرية .
3. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام .. تأكيداً على قدسية حياة الإنسان وممتلكاته .
4. أيها الناس إن الله قد قضى لا ربا .. تأكيداً على الأمن الاقتصادي.
5. أيها الناس إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ..تأكيداً على احترام الوقت وقدسية الأمن والسلام وسلامة البيئة.
6. أيها الناس استوصوا بالنساء خيراً فلكم عليهن حقاً ولهن عليكم حقاً. تأكيداً على أهمية دور المرأة شريكة متكاملة الشراكة مع الرجل في تحمل مسؤوليات الحياة.
7. أيها الناس إن الله قد حرم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرماً فلا تظالموا تأكيداً على أن العدل أساس كل فضيلة وأنه الحارس الأضمن لأمن العباد والبلاد.
إن هذه الأعمدة السبعة ، التي تضمنها الميثاق العالمي لخطبة الوداع ، وما يتفرع عنها من قيم ومبادئ ، وما يتسق معها مما تزخر به توجيهات القرآن الكريم ، ومما تفصل فيه وترفده أقوال وأفعال السنة المطهرة ، وما استنه الخلفاء الراشدون المهديون من بعد ، لهي بجملتها تكون الأسس الراسخة ، والمعالم الجلية للميثاق العالمي الإسلامي أو ( العقد الاجتماعي العالمي ) للنهوض بشرف مهمة الاستخلاف في الأرض ، والاضطلاع بمسؤوليات أمانة عمارتها ، وإقامة العدل في ربوعها ، والميثاق العالمي الإسلامي أو ( العقد الاجتماعي العالمي الإسلامي) يشكل الأساس القيمي والمعيار الأخلاقي ، لتصريف شؤون الناس وإدارة مصالحهم المشتركة وتحقيق التعايش العادل والآمن بينهم وفق أسس ومنطلقات الميثاق العالمي للمصالح البشرية ، الذي رسم قواعده وحدد منطلقاته ربهم وخلقهم جل شأنه اللطيف الخبير بما ينفعهم ويصلح شأنهم.
ثالثاً: الميثاق العالمي للمصالح البشرية .. ويقوم على قواعد ومنطلقات عامة منها:
1. أن الناس جميعاً شركاء في مهمة الاستخلاف في الأرض .
2. أن عمارة الأرض وإقامة العدل بين الناس غايتان أساسيتان لأمانة الاستخلاف الرباني
3. أن الناس شركاء في ثروات الكون ، على أساس من احترام حق التملك وصون مشروعية حق الانتفاع.
4. أن حياة الإنسان وكرامته ، أمران مقدسان لا يجوز انتهاكهما بغير حق.
5. أن الرجل والمرأة شريكان تتكامل مسؤولياتهما من أجل عمارة الأرض وإقامة العدل.
6. أن الأرض والبيئة ، هما سكن البشرية المشترك ينبغي المحافظة على سلامتهما وعدم إفسادهما.
7. أن الحقوق والواجبات أمور متكاملة ومتلازمة ، لتبقي العلاقة متوازنة ومنضبطة ، بين مسؤوليات الإنتاج وأخلاقيات ومسؤوليات الاستهلاك.
8. أن الأمن الإقليمي والأمن الدولي ، أمران متلازمان ومتكاملان لا يجوز بحال انتهاك أحدهما لحساب الآخر.
9. أن التدافع الحضاري والتعاون البشري ، أمران واجبان لدرء المفاسد والمخاطر، وجلب المصالح والمنافع المشتركة بين الناس .
10. أن التعارف والتواصل الثقافي والمعرفي بين الناس ، أمر إيجابي لتنمية العلاقات وتطوير المصالح المشتركة بينهم.
11. أن التنوع الديني والثقافي ينبغي أن يكون حافزاً على التنافس في عمل الخير، لا مادة للصدام والنزاع.
12. أن السلم والتعايش العادل والآمن هو أصل العلاقة بين الناس والمجتمعات.
إن هذه المواثيق الثلاثة تكون في تكاملها الأساس لمنظومة الإسلام من أجل عالمية عادلة وعولمة راشدة آمنة .. والإسلام وهو يطرح هذه المواثيق الثلاثة بشأن التعامل بين الناس في الحياة الدنيا .. إنما هو تأكيد على رسالة الإسلام هي رسالة الحياة للناس دون تمييز العولمة والتعاون الدولي مشاركة أم استقلال حامد الرفاعى
إذن والشيء الوحيد الممكن في العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ولو من الناحية النظرية هو التعاون على أساس استقلال كل منهما وعلى أساس انفراد كل منهما بخصائصها الذاتية المتميزة دون أن تحاول السيطرة أو ظلم أو نهب الأخرى ، والإسلام بالطبع يرحب بالتعاون ويدعو إليه في إطار الاحترام المتبادل والعلاقات المتكافئة ، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية التخلي عن النهب والظلم والعنصرية والعنف من أجل هذا التعاون ؟.
يمكن التعاون في الاستفادة من العلوم الطبيعة ونقلها دون ربط ذلك بغايات وأهداف استخداماتها أي في الشق العلمي دون الشق القيمي ، ولكن هل تقبل الحضارة الغربية ذلك وهي التي تغتال العلم ، وتحرم نقل العلم وتحاكم من يفعل ذلك ، بل وتضرب أي نهضة علمية في أي مكان خارج دائرتها الحضارية ؟ !
نؤكد مرة أخرى أن الإسلام يحض على التعاون ، ويحرص عليه ، ولكن التعاون ليس الاندماج والتزاوج والإلحاق ، التعاون يقوم على استقلال حضاري كامل فالحضارة الغربية عندما نقلت العلوم الطبيعية من الحضارة الإسلامية أخذتها دون شقها القيمي أخذتها وهضمتها ووجهتها وفقًا لمعًاييرها الحضارية ، وجهتها للتدمير والتلويث والإفساد وتحقيق أكبر قدر من آليات النهب ، أما نحن فمن المفروض أن نأخذ العلوم الطبيعية من الغرب دون شقها القيمي فنهضمها وتصبح جزءًا من شخصيتنا الحضارية المستقلة فنوجهها طبقا لمعًاييرنا وقيمنا الحضارية في إسعاد الإنسان وتحقيق الرفاهية لكل البشر وليس لنا وحدنا .
هل هناك فرصة للتعاون مع الغرب ؟(2/208)
يقول الأستاذ محمد مورو :قلنا أنه لا يمكن ولا نقبل لا الإلحاق الحضاري مع الغرب ولا التزاوج والتفاعل بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية لانتمائهما إلى عًائلتي حضارتين مختلفتين ولأن هذا في النهاية يعني التحول إلى تابع ذليل يظل خاضعًا للنهب والسيطرة . وقلنا إن العلاقة الصحيحة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية هو التعاون على أساس الاستقلال الحضاري الكامل والشخصية الحضارية المستقلة ، ولكن هل هناك فرصة للتعاون ؟ .. هل يقبل الغرب هذا التعاون ؟ .. هل تاريخنا معه يسمح بذلك ؟ .. هل تركيب الحضارة الغربية تسمح بذلك ؟ ..
إن تركيبة الحضارة الغربية تقوم على النهب والقهر والعنصرية . ورخاء ورفاهية أهل الحضارة الغربية جاء من نهب ثروات الشعوب الأخرى واسترقاق أهلها، ولكي تستمر هذه الرفاهية لابد أن يستمر النهب والقهر، فهل أهل الحضارة الغربية مستعدون للتوقف عن النهب والقهر والعنصرية ؟ هل هم مستعدون للتخلي عن رفاهيتهم القائمة على ثروات الآخرين من أجل التعاون معنا أو مع غيرنا ؟
أعتقد أن ذلك صعب ، بل يبدو مستحيلا ، وبالتالي فإمكانية التعاون بشروطها الصحيحة صعبة أيضًا ، بل وتبدو مستحيلة وحتى إذا حدثت المعجزة وتخلى أهل الشمال عن القهر والعنف والعنصرية فماذا يبقى من الحضارة الغربية ؟ أنهم يسقطونها تمامًا ، أنهم يفقدونها سماتها الأساسية ، أي يقبلون الاندماج في نمط حضاري آخر وفي حالة دخولهم في النمط الحضاري الإسلامي مثلاً ، فإننا لن نعاملهم معاملة التابع ، بل معاملة الإسلام التي تقول أنهم أصبحوا مثلنا تمامًا لهم ما لنا وعليهم ما علينا .
وإذا كانت تركيبة الحضارة الغربية لا تسمح بالتعاون إلا بانتفاء خصائص الحضارة الغربية ذاتها ، وبالتالي فالتعاون هنا صعب ويكاد يكون مستحيلا ً، ورأي أهل الحضارة الغربية فينا وموقفهم منا لا يسمح بقيام مثل هذا التعاون ، فهم ينظرون إلينا نظرة صليبية عنصرية حاقدة لا تقبل بأقل من تدمير حضارتنا تمامًا وفي قول لا يخلو من الدلالة يقول المعلق السوفييتي فاسييليف:
' إن أمريكا الآن تنظر إلى العالم الإسلامي بوصفه إمبراطورية الشر الجديدة التي حلت محل الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان إمبراطورية الشر القديمة والتي تركزت كل الجهود الأمريكية خلال أكثر من أربعين عامًا للقضاء عليها ' .
وهذا المعلق السوفييتي المشهور فاسييليف استخدم في الحقيقة نفس المصطلح المستخدم دائمًا من قبل الأوروبيين والأمريكيين تجاهنا ، وما بين الحقد على الإسلام، وكراهيته، والدعوة إلى تدميره والقضاء عليه أو التخويف منه ومن خطره التي تسود الروح الفكرية الأوروبية على اختلاف مدارسها هل هناك فرصة للتعاون بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ؟ .. الإجابة: هذا صعب بالطبع.
إذن فبرغم أننا لا نرفض التعاون مع الحضارة الأوروبية في إطار الاستقلال الحضاري لكل منا ، إلا أنه لا التركيبة الحضارية الغربية تسمح بذلك ولا رأي قادتها فينا وأهدافهم تجاهنا تسمح بذلك ، ولا تداعيات التاريخ القدم والحديث تسمح بذلك ، وبالتالي لكي نعيش لا نخضع ونذوب وننتهي لابد من المواجهة ...............................الإسلام والغرب .. تعاون أم مواجهة ؟!
معوقات الحوار
مما تقدم يمكن إجمال أهم معوقات الحوار الديني و الحضاري في ثلاث نقاط:
1- معوقات تاريخية سياسية نتجت عن صراعات وحروب بين طرفي الحوار: الإسلام والغرب، لم تنته حتى عهد قريب، مثل الحروب الصليبية ، وحرب ما سمي بالتطهير العرقي في جمهورية البوسنة والهرسك ، وأخيراً العراق وأفغانستان والصومال على اعتبار أن أثيوبيا ما هي إلا ذنب للغرب في قارة أفريقيا وتحارب المحاكم الإسلامية بالوكالة .
وكذلك موقف الغرب غير المنصف من القضية الفلسطينية، لقد أصبح المسلمون بذلك لا يواجهون عقدة التغلب على الماضي فقط، بل أيضا معضلة التغلب على الحاضر الماثل أمام العيان، والذي لا يبشر- إذا ما استمر- بمستقبل يبعث على التفاؤل.
2- معوقات تأويليه عند بعض المسلمين والغربيين المسيحيين، تتمثل في عدم اعتراف أحد أطراف الحوار بسماوية الدين الآخر.
فبينما يعترف الإسلام بسماوية مصدر كل من اليهودية والمسيحية، بل ويجعل الإيمان بصدق رسالتي موسى وعيسى (عليهما السلام) ركنا هاما من أركان العقيدة الإسلامية، لا نجد ما يقابل ذلك من اليهود والمسيحيين، إذا ما استثنينا من ذلك الإشارة غير المباشرة التي تضمنها قرار المجمع الكنسي الثاني الصادر عام 3/1964.
3- معوقات فردية تتعلق بمدى أحقية الشخص المشارك في الحوار في الحديث باسم دينه واعتبار نفسه ممثلا للقاعدة العريضة لهذا الدين أو ذاك، والتشكيك في هذه الأحقية يأتى من الداخل كما يأتى من الخارج.
أعتقد أن كلتا النقطتين الأولى والثانية واضحتان ولا تحتاجان إلي تفصيل قد يخرج هذا البحث عن إطاره المحدد له في هذا الموضع. أما النقطة الثالثة فتستحق، في نظرى التوقف عندها بعض الوقت، لأنها تمثل عائقا خفيا لا يظهر في كثير من الأحيان، بينما هي سبب أساسي في تأخر ظهور نتائج إيجابية للندوات والمؤتمرات والأبحاث التي جندت لخدمة وإثمار الحوار الدينى والحضاري. وتتمثل هذه الصعوبة في أن كثيراً ممن يؤيدون ويشاركون بفاعلية في أنشطة الحوار الديني يواجهون غالباً هجوماً على الجبهتين الداخلية والخارجية. ففي الداخل يتهمهم غير المؤيدين للحوار، ممن لا يرون فيه سوى مضيعة للوقت بلا جدوى بالتفريط وتقديم التنازلات الكثيرة للطرف الآخر طلباً للشهرة والمجد الشخصي على حساب الدين، وأنهم لا يمثلون القاعدة العريضة للمسلمين من وجهة نظرهم.
أما في الخارج فيتهمهم الطرف الآخر للحوار بالتزمت، والرجعية، وعدم المرونة لمجرد أنهم ليسوا على استعداد للتفريط في هويتهم الإسلامية، أو التنازل عن أى مبدأ من المبادئ الأساسية لعقيدتهم. فهم بذلك مفرطون في التحرر في نظر بعض إخوانهم من جانب، ومفرطون في المحافظة أو التزمت في نظر بعض محاوريهم من جانب آخر. بل إنني أكاد أدعى أن الغرب يريد التحاور فقط مع أشخاص تتوافر فيهم شروط يحددها هو، وينيب عمن يريد ذلك أنه حينئذ سيتحاور مع نفسه، وليس مع الغير ، وهو المطلوب.
وقبل الانتقال إلى الحديث عما يمكن أن يقرب بين وجهات نظر طرفي الحوار أود طرح بعض الأسئلة التي تتضمن ذكر أهم المعوقات وتشير في ذات الوقت، بطريق غير مباشر، إلى كيفية التغلب عليها انتصاراً لقضية الحوار الديني والحضاري:
1- هل حضارة العصر الحديث حضارة إنسانية بالفعل ، وبالتالى تستحق منا نحن ـ المسلمين ـ السعى إليها بكل الوسائل المتاحة، والتضحية من أجلها ببعض مبادئنا؟
2- هل يخلو الإسلام حقا من كل مقومات التقدم بالدرجة التي تجعله نقيضا لها؟
3- كيف نفسر عدم تغير التصور الخاطيء عن الإسلام في الغرب على الرغم من وجود كم هائل من المؤتمرات والأبحاث المتخصصة، إضافة إلى الاحتكاك المباشر اليومى مع المسلمين في الغرب؟
4- هل يبرر وجود عقدة ذنب في الغرب تجاه جماعة دينية معينة التأييد المطلق لهذه الجماعة بغير حق ضد جماعة دينية أخرى وان كانت الأخيرة على الحق؟
5- لماذا يسقط الغرب نتائج تجاربه السلبية مع الكنيسة في العصور الوسطى على الإسلام دون اعتبار لأي فارق بينهما؟ النماذج السلبية الموجودة حاليا في بعض البلاد الإسلامية لا تبرر ذلك.(2/209)
6-هل من العدل إرجاع كل مظاهر العنف الموجودة في بعض البلاد الإسلامية إلى أسباب داخلية فقط دون أدنى تأثير أو توجيه من الخارج؟
7- لماذا يتهم الإسلام مباشرة بالعنف كلما اتهم متطرف مسلم في عمل إرهابي، حتى قبل أن يثبت عليه الاتهام، بينما لا نجد من يتهم اليهودية أو المسيحية بالعنف قط، رغم الأعمال الهمجية أللإنسانية التي ارتكبها، ولا يزال يرتكبها إلى اليوم يهود ومسيحيون وهندوس وبوذيون ضد المسلمين؟
8- لماذا يصر الغرب والمغتربون في بلادنا على اعتبار المبدأ الإسلامي بربط الدين بالدولة تخلفاً، وبالتالي كل من ينادى بفصلهما تقدمياً؟.
9- هل يسعى الغرب حقا إلى تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان في كل دول العالم على السواء؟
10-هل تستطيع الأنظمة الديكتاتورية الموجودة في بعض الدول الإسلامية أن تظل في الحكم دون دعم من الغرب؟
هذه هى بعض الأسئلة التي يمكننا من خلالها أن نضع أيدينا على بعض أسباب الإحساس بعدم الثقة لدى كثير من المفكرين الإسلاميين تجاه الغرب، وتجاه كل من ينتسب إلى أيديولوجية من الشرقيين.
إضافة إلى ذلك فقد تدفع هذه الأسئلة كل منا إلى مزيد من النقد الذاتي البناء الذي يُعد السبيل الوحيد للوصول إلى تحاور موضوعي، يمكن أن يثمر تعاوناً إيجابياً يعود على الجميع بالخير والسلام.
ومشكلتنا ـ في الواقع ـ ليست مع الإنسان الغربي، وإنما مع الحكومات والإدارات الغربية، ومشكلتنا مع الغرب بصفته الاستعمارية الاستكبارية؛ لا بصفته الإنسانية.
إننا نعرف أنّ للغرب مصالح في بلادنا بما نملك من ثروات، ولنا مصالح عند الغرب فيما يملك من الإمكانات، ونحن نؤمن بتبادل المصالح وتكافؤ المصالح، ولكن لا نؤمن أن تسقط مصالحنا تحت تأثير مصالحه، وهذه هي المشكلة.
وعندما يحترمنا الغرب فإننا لا بد أن نحترمه، ولكنه إذا لم يحترمنا فمن الصعب أن نشعر بأي احترام تجاهه، وإذا أطلق علينا صواريخه وقنابله فلن نقدّم للغرب عندها باقة ورد.
منطلقات تدعم الحوار مع الغرب
يقول تعالي : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِ نْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)
ويقول تعالى : {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46)
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنْ ذِي مِخْبرٍ t، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ ، فَتَسْلَمُونَ ، وَتَغْنَمُونَ ، ثُمَّ تَنْزِلُونَ بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَقُومُ رَجُلٌ مِنْ الرُّومِ ، فَيَرْفَعُ الصَّلِيبَ ، وَيَقُولُ : أَلَا غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَقُومُ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَكُونُ الْمَلَاحِمُ ، فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْكُمْ ، فَيَأْتُونَكُمْ فِي ثَمَانِينَ غَايَةً ( أي الراية أو اللواء ) ، مَعَ كُلِّ غَايَةٍ عَشْرَةُ آلَافٍ"..... .........................................أخرجه الإمام أحمد .
في المقابل للنقاط التي أوجزت فيها معوقات الحوار توجد منطلقات إسلامية كثيرة وإيجابية إلى أبعد الحدود يمكنها- إذا أحسنا توظيفها- أن تمهد الطريق لحوار ديني حضاري بناء بين العالم الإسلامي والغرب بمفهومه الواسع الذي يشمل كل الدول غير الإسلامية، ويتطلب ذلك منا أولاً أن نجعل من تراكمات الماضي المؤسف، ومن وقائع الحاضر المؤلم دافعاً قوياً يدعم الإيمان بضرورة الالتقاء على كلمة سواء، والثقة بأن العنف لم ولن يحسم الصراع لصالح أحد الأطراف، فضلاً عن أن يقرب بين نقاط الخلافات العقدية والمنطلقات الثقافية، فيصبح الحوار الديني الحضاري على رأس قائمة أولوياتنا.
إن الشعور بالمرارة الذي تكنه الشعوب الإسلامية عامة تجاه الغرب أشد مما يكنه الغرب تجاه المسلمين. فقد ساءت آراء المسلمين عن الغرب وعن الشعوب الغربية بصورة كبيرة على مدار العام الماضي. ويحمل المسلمون الغرب مسئولية توتر العلاقات بين الجانبين. ومع ذلك فإن هناك أيضًا بعض المؤشرات الإيجابية, من بينها حقيقة انخفاض معدلات دعم 'الإرهاب' في معظم البلدان الإسلامية.
وفي نفس الوقت على الرغم من عمق الانقسامات في العلاقات بين الشعوب الغربية والإسلامية, كشف الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة Pew Global Attitudes أن نظرة كل طرف للآخر ليست جميعها سلبية. على سبيل المثال, في أعقاب الأحداث الصاخبة التي حدثت العام الماضي, لازالت الأغلبية العظمى في فرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة تحتفظ عامة بآراء إيجابية عن المسلمين, على الرغم من أن دولة إسبانيا شهدت العام الماضي هبوطًا حادًا في نظرة شعبها الإيجابية تجاه المسلمين حيث انخفضت إلى 29% بعد أن كانت 46%, وكان معدل الهبوط أكثر اعتدالاً في بريطانيا العظمى, حيث انخفض من 73% إلى 63%(4).
وبشكل عام, تعد آراء الألمان والأسبان تجاه المسلمين والعرب أكثر سلبية من نظرة الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين للمسلمين. فهناك 36% فقط من الألمان, و29% من الأسبان ممن لهم آراء إيجابية عن المسلمين, في مقابل [ 39%, و33%, على التوالي ] ممن لديهم انطباعات إيجابية عن العرب. في حين أن الأغلبية في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لديهم انطباعات إيجابية عن المسلمين, ونفس النسب تقريبًا لديها انطباعات جيدة عن العرب(5).
وتتمثل أهم دعائم إنجاح الحوار الحضارى فى القناعة المبنية على الواقع في وجود نقاط التقاء مشتركة بين الإسلام والمسيحية، والعزم الصادق على استثمارها إلى أقصى حد ممكن بهدف الوصول إلى فهم صحيح، واحترام متبادل وتعاون بناء مخلص بين جميع أطراف الحوار.
يضاف إلى ذلك ما يمكن استخلاصه من خلال البحث في المعوقات التي أوجزتها في ثلاث نقاط وأعدت صياغتها في عشرة أسئلة، سبق ذكرها قبل قليل وفضلاً عن المبدأ الإسلامي المتضمن بعض آيات الذكر الحكيم والذي يأمرنا فيها ربنا عز وجل بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وألا نجادل غيرنا إلا بالتي هي أحسن. والمقصود بالدعوة فى معنى النص القرآني يرادف المعنى المقصود بالحوار الديني الذي نسعى جميعا إلى تدعيمه.
يقول تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل
وعَنْ ذِي مِخْبرٍ t، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ ، فَتَسْلَمُونَ ، وَتَغْنَمُونَ" .................................................................أخرجه الإمام أحمد.
و أوجز في النقاط التالية أهم المنطلقات الإسلامية المدعمة ، في نظري ، للحوار الديني الحضاري:(2/210)
1- يؤمن المسلم بصدق نبوة الأنبياء الذين تلقوا الوحي الإلهي ، مثل إبراهيم وموسى وعيسى، ثم خاتمهم محمد (عليهم الصلاة والسلام)، وكذلك بصدق أصول رسالاتهم السماوية يقول تعالى : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة:136)
2- يلبي الإسلام جميع جوانب الحياة الإنسانية، المادية والعقلية والروحية بدرجات متوازنة كما قدم للإنسان منهجا حياتيا متكاملا يقوم على الربط التام بين الإيمان والقول والعمل، ولا يعترف بما يهمل فيه أحد هذه الأركان يقول تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)}الصف.
3-- يعد الإسلام كل عمل نافع في الدنيا لا ينتج عنه أي ضرر لفاعله أو لغيره من البشر جزءاً من عبادة الله. ولا يسأل إنسان إلا عما يفعل، وإذا ما أخطأ دون قصد، أو بقصد، ثم تاب عن ذلك توبة نصوحاً، فرحمة الله وسعت كل شيء يقول تعالى : {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} سورة الأنعام ، ويقول أيضاً : {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(54) } سورة الأنعام .
4- يقدم الإسلام للإنسان نظاماً اجتماعياً متكاملاً، يضم في تناسق تام المصلحة العامة والمصلحة الخاصة،الدينية والدنيوية، ويرفض رفضاً باتاً الفصل بين الدنيا والدين، وبالتالى فلا يقبل المنهج الغربي العصراني (العلماني). ويستمد الإسلام هذا المنهج في عصر النبوة، حيث كان رسولنا الكريم نبيا وحاكماً لأول دولة إسلامية أسسها في المدينة المنورة ، وكتب لها دستورها الذي تضمن تنظيماً دقيقاً لكل ما احتاجته من مؤسسات وقوانين عُرفت في كتب السيرة بصحيفة المدينة .
5-الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل قادر، ولم يحاربه كما يدعي البعض، ويكفي أن أول خمس آيات أنزلت منه تأمر بالقراءة وطلب العلم، قال تعال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}العلق . ويذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك في تكريم العلماء فيقول رسولنا الكريم: " إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ "أخرجه ابن ماجه والترمذي. فلا وجه إذاً لمقارنة الإسلام بالكنيسة فى هذا الصدد كما يفعل دعاة العصرنة (العلمنة) من الغربيين أو المستغربين الشرقيين.
6- تتفق الحقائق العلمية الثابتة التي توصل إليها العلم في العصر الحديث مع تفسير النصوص القرآنية الواردة فى تلك المجالات قبل أربعة عشر قرناً، ويفسر لنا سبب التقدم العلمي الهائل الذي تميزت به الحضارة الإسلامية في عصر قوتها الأولى.
7- أثبت الإسلام قدرته على التعامل مع كل المستجدات والمتغيرات الاجتماعية التي تطرأ على الحياة بفعل تغير الزمان والمكان بواسطة منهجه الفقهى المرن والمتعدد الوسائل (الأدلة الشرعية)، حيث يحتل العقل السليم الموضع اللائق به وبصفته مناط التكليف فى الإسلام، ويأتي في المرتبة التالية بعد القرآن والسنة لكونه أساس الاجتهاد والطريق الرئيسي للإجماع والقياس وسائر الأدلة الأخرى مثل " المصالح المرسلة وسد الذرائع، ومعرفة مقاصد الشريعة ..............وغير ذلك مما يعرفه دارسو أصول الفقه الإسلامى .
8- الحرية السياسية المتمثلة فى حرية التعبير عن الرأي والمشاركة في الحكم مكفولة فى الإسلام، ومنصوص عليها فى القرآن الكريم، ومطبقة فى السنة النبوية، وسنة الخلفاء الراشدين ،يقول تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران ، وقد أرسى الإسلام بذلك القواعد الأولى لنظام " ديمقراطي" تتعدد فيه المؤسسات والاختصاصات، يأتي على قمتها مجلس الشورى أو مجلس " أهل الحل والعقد " حسب التعبير الإسلامي.
9- كان الإسلام ولا يزال منفتحاً على الثقافات الأخرى، وكان على المسلمين التعامل والتفاعل باستمرار مع عناصر ثقافية غربية وجدها في البلاد التي فتحها، وأخذوا منها ما رأوا فيه فائدة، وتركوا غير ذلك دون خوف على هويتهم الإسلامية، وعملاً بقول رسولنا الكريم " الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا "أخرجه الترمذي في العلم ، وابن ماجة في الزهد .
10- يوجد في الإسلام جهاز مناعة ذاتية يبدأ العمل عندما يتخطى التأثير الخارجي حدود الإيجابية وينقلب إلى تغريب ثقافي يهدد استقلال الهوية الإسلامية، ولا يتوقف جهاز المناعة الذاتية عن العمل حتى يعيد التأثير الغريب إلى ما دون حد الخطر، ولقد عرف النبي $ هذا الخطر قبل حدوثه فأخبرنا قائلاً: " إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا " أخرجه أبو داوود.
تضمنت هذه النقاط العشر أهم العناصر الإيجابية في التصور الإسلامي والتي تصلح لأن تكون منطلقات قوية لتفاعل وتلاقح إيجابيين بين الإسلام والغرب في العصر الحاضر مثلما كان في عصر قوة الحضارة الإسلامية التي امتدت إلى ما يقرب من ثمانية قرون.
وفي المقابل هناك بعض الملحوظات على موقف الغرب أدت ولا تزال تؤدي- في نظري - إلى تأخر حدوث الوفاق والثقة والتعاون الجاد المثمر بين الإسلام والغرب، وأوجز هذه الملحوظات فيما يلي:
1- يبدو أن كثيراً من الباحثين والسياسيين والإعلاميين فى الغرب لم يعوا بعد أن كثيراً من الباحثين المسلمين أصبحوا يتقنون قراءة ما بين السطور وما تتضمنه بعض العبارات من مغالطات مغلفة بغلاف يظهرها في مظهر الحقائق الثابتة، وأن هؤلاء المسلمين قادرون على الرد المنهجى، والدليل على ذلك استمرار كثير منهم في تكرار ذات المغالطات الموروثة عن العصور الوسطى، والتي ثبت خطؤها عند كثير من الباحثين الجادين، أيضا في الغرب(6). فلا بد من مراجعة جادة لهذا الموقف غير المنصف الذى لا يشجع على الحوار.
2- لعل الغرب لم يدرك بعد أن مرحلة الانبهار اللامحدود التي سادت لفترة طويلة بين المسلمين قد انتهت إلى الأبد، وحل محلها الرغبة الملحة في المساواة التامة، والاحترام المتبادل بين الطرفين.(2/211)
3- للمسلمين وجهة نظر خاصة في تقييم التقدم العلمي الحديث حسب المفهوم الغربي، فيرى المسلمون أن التقدم العلمي الحديث قد اندفع في الاتجاه المادي مهملاً الجانب الروحي في الإنسان، كما أن الغرب قد اقتطع لنفسه النصيب الأعظم من ثمار هذا التقدم، ولم يترك لغيره سوى الفتات الذي يجعلهم دائماً مرتبطين اضطراراً بالغرب.
4- إن الربط المتعسف بين التقدم العلمي وعصرنه (علمنة) الحياة العامة يكشف عن محورية فكرية غربية يريد الغرب فرضها على الغير دون اعتبار لاختلاف المنطلقات والتصورات الدينية والثقافية للغير، إن البحث الموضوعي في التاريخ الإسلامي يثبت بالقطع التلازم بين القوة السياسية وقوة تغلغل العقيدة وهيمنتها على الحياة العامة في العالم الإسلامى.
وفى المقابل فقد بدأ تصدع أركان الدولة الإسلامية مع بداية انحراف نظام الحكم عن هذا المنهج وخضوعه للأهواء والرؤى الشخصية والاندفاع في فصل الأمور العامة في مجال السياسة والاقتصاد والتشريع عن الدين، وقصره على الأمور الفردية الخاصة.
5- مما يؤسف له حقاً أن نجد الغرب يحتفي بكل من يتجنى ويتطاول على الإسلام بغير الحق، ويضفي عليه ما لا يستحق من ألقاب التكريم، فهو مفكر حر شجاع، وثائر على مظاهر التخلف المرتبط بالدين، وتنهال عليه الجوائز التقديرية من أكبر المؤسسات الأدبية، ويفسح له مجال التدريس في الجامعات الأوربية رغم ارتفاع نسبة البطالة بين الأكاديميين من الأوروبيين وما يستتبع ذلك من وسائل الحماية باهظة التكاليف ......إلخ.
لقد أصبح التطاول علي الإسلام أسرع وأقصر الطرق إلى الشهرة وكسب العيش في الغرب، رغم أن هؤلاء الذين أصبحوا فجأة من كبار المفكرين الأحرار والمناضلين المغاوير، كانوا قبيل هذا التطاول ضمن المغمورين من متوسطي الكفاءة العلمية.
6- لقد أثبتت التطورات السياسية في العقود الأخيرة أن حماس الغرب لتطبيق الديمقراطية وحقوق الإنسان له حدود جغرافية وثقافية، فعلى سبيل المثال، عندما شرعت حكومة طالبان الجديدة في أفغانستان في تطبيق تعليمات متشددة على السيدات قامت منظمات حقوق الإنسان والمنظمات النسائية بالمظاهرات المنددة لتلك الإجراءات، والتي طالبت فيها الحكومة الأفغانية بالرجوع عن تلك القرارات (الظالمة).
بينما كان رد فعل هذه المنظمات في غاية التواضع عندما كانت الاعتداءات الصربية والكرواتية الهمجية تحصد الآلاف من النساء والأطفال والرجال العزل من المسلمين فى البوسنة والهرسك على بعد بضعة أميال، وعلى مسمع ومرأى من العالم الغربى المتحضر- نصير حقوق الإنسان- وكذا ما حدث أخيراً في أبي غريب وكثير من مدن العراق ،كل ذلك وعلى مدى سنوات طويلة سيبقى في ذاكرة الأجيال القادمة من المسلمين.
7- إن تخوف الغرب من نظام حكم إسلامى قد يجد مبرراً له في النماذج السلبية الموجودة في بعض الدول الإسلامية، إلا أن النظرة الموضوعية لنظام الحكم الإسلامي الصحيح سوف تقوض كل أساس لهذا التخوف ويكفي لذلك أن تعاد قراءة التاريخ الإسلامي من جديد بموضوعية وتجرد صادق، خاصة تاريخ الحكم أثناء الخلافة الراشدة.
8-إن أكثر ما يقلق المسلمين في الآونة الأخيرة هو تركيز الإعلام الغربي بكل وسائله على إظهار الإسلام فى صورة العدو الجديد الذى يهدد الحضارة الغربية الحديثة، إتباعاً لمخطط عدائي صريح موجه ضد المسلمين، ترعاه جهات مخضرمة في العداء للإسلام، وعلى رأسها مؤسسات صهيونية ذات نفوذ مالي وسياسي وإعلامي في الغرب. والإسلام بريء من هذا الاتهام الباطل ذي الأهداف المعروفة لكل مطلع في هذا المجال.
نقاط تلاق بين الإسلام والغرب:
رغم ما ذكر من نقاط اختلاف، ونقاط نقد، وتحفظات من جانب المسلمين على موقف الغرب من الإسلام في الماضي والحاضر، إلا أنني أجد نقاط التقاء أساسية وعديدة، لا تساعد فقط على إنجاح الحوار بين الإسلام والغرب بل يمكن أن تكون إكمالاً وتحدياً بناء للحضارة الغربية الحديثة، أوجز هذه النقاط فيما يلي:
1- أولاً وقبل كل شيء لم يكن الإسلام يوماً ما عدواً للحضارة الغربية، القديمة أو الحديثة، فضلاً عن قناعة المسلمين بوجود وضرورة وجود علاقات ثنائية متبادلة فى شتى المجالات، خاصة الثقافية والحضارية بين الإسلام و الغرب.
2- كل من الإسلام والحضارة الغربية يشجع البحث العلمي، ويؤمن بضرورة تطوير حياة الإنسان إلى الأفضل، إلا أن الإسلام يفرض ضوابط خلقية واجتماعية للبحث العلمي من شأنها أن تبقي على العلم خادماً للإنسان كي لا ينقلب عليه فيدمره، إلى جانب ضرورة الحفاظ على التوازن الطبيعي بين الإنسان والبيئة بكل عناصرها الطبيعية.
3- كل من الإسلام والغرب يحترم ويحمي الملكية الفردية، ويسعى إلى تحقيق أفضل استثمار للطاقات والموارد الطبيعية ويشترط الإسلام ألا يأتي ذلك على حساب فئة من البشر أو عنصر من عناصر الطبيعة، لذلك حرم الربا وأحل البيع، كما حرم الإسراف في استنزاف الموارد الطبيعية.
4- كل من الإسلام والغرب يؤيد ويحمي التعددية في الحكم، وحرية التعبير عن الرأي، الإسلام لا يعتبر المساس بالشعور الديني أو الأخلاقي للآخرين جزءاً من حرية الفكر أو التعبير عن الرأي فحسب، بل هو تعدٍ على حقوق الآخرين، يستحق فاعله العقاب العادل، وللإسلام تصور خاص عن التعددية، يتمثل في مجلس للشورى يضم ممثلين عن كل جماعات الأمة، يسمون أهل الحل والعقد، وقد اختلفت آراء الفقهاء فى مدى إلزامية رأي هذا المجلس، فمنهم من رأى أنه ملزم للحاكم، ومنهم من ذهب إلى أنه غير ملزم، والراجح أنه ملزم........................الأحكام السلطانية للماوردي ص 5-7.
5- استحدث الإسلام مؤسسة اجتماعية جديدة تعمل بالتعاون مع المؤسسات القانونية والأمنية المعروفة، على حفظ النظام فى الأماكن العامة والأسواق، تسمى " هيئة الحسبة" ومن أهم أهدافها درء الأسباب التي تؤدى- إذا أهملت- إلى وقوع المخالفات القانونية في الأماكن العامة مثل مخالفات الآداب، ومحاولات الغش بشتى أنواعه التجارية والإدارية، وما شابه ذلك من أمور قد تخفي على الجهات التقليدية المسئولة.
6- يحرص الإسلام- مثل الغرب - على ضرورة احترام وتطبيق حقوق الإنسان، ويؤكد الإسلام على ضرورة أن يشمل ذلك كل البشر بقدر متساو، وأن يراعى ذلك في حالات الحرب أو السلم، كما يشهد بذلك كثير من الآيات القرآنية، وأحاديث الرسول الكريم ووصايا الخلفاء الراشدين. يقول تعالى : {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (190) سورة البقرة ، ويقول عز من قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (87) سورة المائدة ، ويقول أيضاً : {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (61) سورة الأنفال .(2/212)
7- المحافظة على سلامة البيئة واجب شرعي على كل مسلم لأنه مستخلف من الله في الأرض لأعمارها، وسوف يحاسب الإنسان على كل ما جناه في حق البيئة التي خلقها الله وسخرها لخدمة الإنسان، فالمحافظة عليها واستثمارها بما ينميها ويزيدها قوة هو من واجب شكر النعمة، وفي القرآن الكريم آيات عديدة تؤكد هذا الواجب الشرعي ، يقول تعالى : {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (60) سورة البقرة. وقد روي عن الرسول الكريم $ أنه قال: " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
8- يحرم الإسلام كل أنواع الظلم الاجتماعي، ويؤكد المساواة التامة بين البشر من حيث أصولهم، على اختلاف ألوانها وألسنتهم وأجناسهم ومستوياتهم الاجتماعية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات ، كما أنه وإن لم يحرم الرق بنص شرعي صريح، إلا أنه حبب في عتقهم، وجعله من كفارات الكبائر ، يقول تعالى : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) } سورة البلد .
9- يتضمن مبدأ المساواة التامة بين البشر من حيث أصولهم تصوراً خاصا لما يسمى " قضية المساواة بين المرأة والرجل" فمما لاشك فيه أن وضع المرأة في كثير من البلاد الإسلامية،الذي يرجع إلى عادات وتقاليد جاهلية يرفضها الإسلام، يحتاج إلى مراجعة موضوعية عادلة تعطي المرأة حقها الشرعي الذي قسمه الله لها، متفقاً مع طبيعتها التي تختلف بلا شك في بعض الجوانب عن طبيعة الرجل، إلا أن هذا الاختلاف، كما أنه لا يبرر بأية حال سلب حقوقها الطبيعية والشرعية، لا يعفيها من القيام بواجباتها التى تتفق مع طبيعتها وفطرتها التي فطرها الله عليها، مثل واجب الأمومة الذي لا يدانيه في الأهمية أي وجب آخر لرجل أو امرأة، ويؤكد ذلك عديد من آيات الذكر الحكيم ، يقول تعالى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} (228) سورة البقرة، ويقول تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء ، وكثير من الأحاديث الشريفة ، قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ ". أخرجه الترمذي وغيره .
وصدق الشاعر حين قال :
"الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق "
ومن حيث المبدأ، لم يحرم الإسلام على المرأة ممارسة أي عمل شريف لا يجبرها على تعدى حدود الشرع الخلقية، من حيث الملبس أو الاختلاط المشبوه مع الرجال غير المحارم.
وأفضل الأعمال بالنسبة للمرأة وأبعدها عن الشبهات، خارج المنزل، هي الأعمال التي تخص النساء والأطفال خاصة في مجال الطب والتمريض والتربية، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك تحريم عملها في غير هذه المجالات طالما روعيت الضوابط الخلقية الشرعية المتفق عليها.
10- يدعو الإسلام (مثل المسيحية) إلى التسامح ويرفض كل أساليب الإكراه في الدين أو التعصب العرقي أو غير ذلك. قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (256) سورة البقرة.
11- يدعو الإسلام، كما تدعو المسيحية، إلى التواد، والتراحم، والتكافل بين كل أفراد المجتمع فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير tماٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".أخرجه مسلم.
ويضمن ذلك في الإسلام نظام دقيق لتوزيع الحقوقى والواجبات داخل دوائر اجتماعية تبدأ من الأسرة، ثم الأقارب، ثم الجيران، ثم البلدة، ثم تتسع إلى أن تشمل كل أفراد المجتمع، بل والأمة الإسلامية كلها بمن يعيش فيها من غير المسلمين.
ويشرف على تطبيق ذلك مؤسسات بعضها رسمي مثل وزارة الأوقاف، وبعضها خاص تمول عن طريق ما يأتيها من أموال الزكاة والصدقات بكل أنواعها،قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (60) سورة التوبة.
12- يتضمن التصور الإسلامي كلاً من الجانب التشريعي للحياة، الذي اهتمت به أيضا اليهودية،والجانب الروحاني الذى ركزت عليه المسيحية، يتجلى ذلك في إجازته للعقاب على الخطأ من جانب، وحثه على مقابلة الإساءة بالعفو عند المقدرة، بل ومقابلة السيئة بالحسنة، بمعنى أن تحسن لمن أساء إليك، وقد ورد هذا المعنى في كثير من آيات الذكر الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة ، يقول تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت. وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، أَوْ أَيْنَمَا كُنْتَ " ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : " أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا " ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : " خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ "..أخرجه أحمد والطبراني .(2/213)
13- إن الحرية الإنسانية الحقيقية لا تتحقق في أجل معانيها إلا إذا أفرد الإنسان ربه بالعبودية الخالصة، لأنه بذلك لا يكون عبدا لأي إنسان، أو لأي مخلوق آخر فى الطبيعة ، يقول تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة ، و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟!. قَالَ :أ"َنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" متفق عليه . فهذه الطبيعة مسخرة للإنسان طالما هو يحسن استثمارها، وإعمارها كما أمره خالقه(7).
وبعد... أرجو أن أكون قد وفقت إلى إيجاز أهم النقاط التي تتعلق بموضوع هذا البحث المتواضع الذى حاولت فيه التعريف بأهم نقاط الاختلاف، ونقاط التلاقى بين الإسلام والغرب وكذلك المنطلقات الإسلامية التى تصلح لأن تكون كلمة سواء، وقاعدة مشتركة يبنى عليها حوار بناء يحفظ لكل طرف حقه فى الاحتفاظ باستقلاليته وهويته الدينية والحضارية، دون المساس بحق الآخر فى الاستقلال الدينى والحضاري.
فعندما كانت السيادة الإسلامية في أوج قوتها، خاصة في العصور الوسطى المسيحية، أغفلت التطورات الجذرية التي طرأت في الجانب الآخر وهو الغرب.
وقد حدث الشيء نفسه للدولة المغولية، ومن بعدها الدولة العثمانية، ولم تختلف الحال عن ذلك بالنسبة للدول الأوربية الاستعمارية في العصر الحديث وفى كل تلك الحالات كان الانحطاط الحضاري النتيجة المنطقية لغرور القوة والعظمة، ولم تتعلم اللاحقة من السابقة فذاقت كلها ذات المصير، وإنْ كان ذلك بنسب متفاوتة، فهل نتعلم نحن اليوم مسلمون وغير مسلمين من دروس التاريخ؟!!!.
إنني على ثقة تامة أن كلاً من المجتمعين الإسلامي والغربي يمكن أن يكمل أحدهما الأخر ويصلا يداً بيد إلى حياة أكثر أمناً وسلاماً وعدلاً ورخاءً.
فعند أبي داوود سَألَ جُبَيْرٌ بنُ نُفَيرٍ ذا مُخبرٍ الحبَشي t عَنِ الْهُدْنَةِ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ثُمَّ تَرْجِعُونَ ".....أخرجه أبو داوود في سننه وصححه الألباني
إذاً الهدنة ( المصالحة الآمنة ) ممكنة من حيث الاستقراء الذي طرحناه عبر هذه الأطروحة ، وهي قادمة لا محالة من الناحية الشرعية حيث أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، ونحن نؤمن بما قاله صلى الله عليه وسلم إيماناً راسخاً ، ونستشهد على ذلك بما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عدي بن حاتم رضي الله عنه ، فعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ t قَالَ : بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ ، فَقَالَ : "يَا عَدِيُّ ، هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ "؟. قُلْتُ : لَمْ أَرَهَا ، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا . قَالَ : "فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ" . قُلْتُ : فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ ؟. "وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى " .قُلْتُ :كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟. قَالَ : "كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ ، فَلَيَقُولَنَّ لَهُ : أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ ؟. فَيَقُولُ : بَلَى . فَيَقُولُ : أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا ، وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ ؟. فَيَقُولُ: بَلَى . فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ " . قَالَ عَدِيٌّ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". قَالَ عَدِيٌّ : فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ ، وَكُنْتُ فِيمَنْ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ. أخرجه البخاري في صحيحه .
بقي أخي القارئ الكريم أن تعرف أن عدي بن حاتم t يوم أن جرت معه هذه الحادثة كان نصرانياً !!!!.
ولكن ما الكيفية المناسبة لهذا الحوار ؟
أولا: بساطة المعنى ووضوح الفكر
يستند الحوار المثمر مع غير المسلمين على البساطة فى اللفظ، والوضوح فى المعنى، واليسر فى الدين، ولهذا لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس. وأحيا الأخلاق، ورفع من شأن الفضيلة فى زمن قياسي كما فعل محمد بن عبد اللهr، من خلال نشاط تبين من خلاله أن فهم الدعوة الإسلامية لا يحتاج إلى مقدرة عقلية وملكات ذهنية كبيرة، وإنما يرجع ذلك إلى طبيعة هذا الدين الذى يخاطب فطرة الإنسان، ويتعامل مع ظروفه، ويلبي رغباته، ويعالج قضاياه، ويرد على تساؤلاته، ويربط في تناسق وانسجام، بين ما يتضمنه من حقائق وواقع الحياة، فمشكلات الناس وقضاياهم، يجدها الإنسان معروضة بصورة مبسطة، سهلة الفهم والاستيعاب فى القرآن الكريم، وفى سنة الرسول r.
ثانيا: حوار يستند إلي منطق العقل ويقوم على الحجة البالغة
لقد كتب الله فى سننه أن يكون منطق العقل تاج هذه الحياة الإنسانية يستطيع اكتناه غاية ما تستطيعه الإنسانية من أسرار الكون، كما كتب الله فى لوح هذا الوجود أن يقوم نبي الإسلام داعياً إلى الحق بمنطق العقل هو ومن اتبعه.
وقد جعل الإسلام العقل حكماً في كل شيء، فمن ربى على التسليم بغير عقل، والعمل بغير فقه، فهو قاصر الإيمان، حتى لو كان عمله صالحاً، فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم، فيعمل الخير لأنه يعرف أنه خير ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته.
والحوار يجب أن يحترم العقل الإنساني ، ويقدر الفكر البشري ويضع الحجج العقلية والأساليب المنطقية على رأس طرق التفاهم والنقاش والجدل المفيد.(2/214)
وما أكثر الآيات القرآنية التي تطلب من الإنسان أن يفكر ويتدبر، ويطلق عقله ليستنبط به، ثم يعتبر من خلال النظر إلى ما حوله من ظواهر طبيعية وحقائق علمية، يؤكد ذلك ما قاله الله تعالى: { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (32) سورة الأعراف ، وقال : {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (174) سورة الأعراف ، وقال : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (24) سورة يونس، وقال : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (28) سورة الروم.
وتشير كافة الأدلة والبراهين على أن الإسلام دين يقوم على المنطق، ويستند إلى البرهان في مخاطبة الناس جميعا المسلمين منهم وغير المسلمين، وقد أمر الله بالمحافظة على العقل لعظم شأنه وضرورة الحاجة إليه، لأن فقده يعنى فقد شخصية الإنسان، ولأن الإخلال به يؤدي إلى التخبط والضلال، فحرم كل ما يؤثر عليه من المسكر والمفتر، ووضع عقوبة قاسية لمن ينتهك حرمته.
والحوار مع غير المسلمين يجب أن يستبعد أسلوب الأهاجة والإثارة ، لأن هذا الأسلوب وإن حقق بعض أغراضه لدى جماهير المسلمين، إلا أنه لا يصلح لمخاطبة غير المسلمين، ولعله من غير المنطقي مخاطبة غير المسلمين بالحجج القرآنية والنهج النبوى، والسبيل الوحيد للحوار معهم هو الأدلة العقلية، والأمثلة الحياتية، والحجج المنطقية
ثالثا: الحوار بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن
الحوار بالكلمة الطيبة يأتى فى مقدمة طرق التفاهم مع غير المسلمين،لأن هذه الكلمة هى التى تحمل للناس البشرى، وتأخذ بأيديهم إلى طريق الحق والصواب، ولا تسيء إلى أحد، ولا تعنف أحداً، وهى الكلمة الرقيقة التي تلمس القلوب فترق لها، وتخالط النفوس فتهش لها وتفرح بها، وهى البلسم الشافي يداوى الجروح، ويخفف الآلام، ويشفي النفوس.
وإمعانا في التسامح والرفق والرحمة والصبر حث الإسلام على التحلي بحسن الخلق، وسماحة النفس، ولين القول، والإعراض عن اللغو فى الحديث، وعدم التجاوز فى القول، وقد نهج محمد بن عبد الله rهذا النهج، مجسداً كل معانيه، سواء مع المسلمين أو غير المسلمين ملتزماً في ذلك بأوامر الله جل وعلا الذى حثه على اللين والرقة فى معاملته للجميع.
رابعا: التدرج المرحلي في الحوار.
التدرج هو واحد من أبرز المناهج المناسبة للحوار بين المسلمين وغيرهم،لاسيما أصحاب الديانات السماوية الأخرى نظرا لوجود مساحة مشتركة من التفاهم بين الإسلام والعقائد الأخرى، وهنا يجب أن يبدأ الحوار بالعوامل المتفق عليها، ويتدرج بعد ذلك حتى يصل إلى القضايا الخلافية، يجب أن تعتمد عليها وسائل الإعلام فى مخاطبة غير المسلمين.
ولعل رعاية الإسلام للتدرج هى التى جعلته يبقى على نظام الرق الذى كان سائدا فى العالم كله عند ظهور الإسلام، ولو تم إلغاؤه مرة واحدة لأدى ذلك إلى زلزلة فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة فى تضييق روافده ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حل، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرق بطريق التدرج (20).
وبعد... وفى ضوء هذه الحقائق فإننا نستطيع أن نجمل هذه الركائز التى يقوم عليها المنهج الإسلامي في الحوار مع غير المسلمين وذلك فى النقاط التالية:
1- أن الحوار مع غير المسلمين ضرورة حياتية لتحقيق التفاهم والتعاون والتقارب بين المسلمين وغيرهم.
2- نتحمل كمسلمين أهمية كبيرة في توضيح القيم الإسلامية البناءة لأصحاب الديانات والعقائد الأخرى وتصحيح الصورة الذهنية التي تروج لها الوسائل المغرضة لتشويه هذه الصورة وإحداث الفتنة بين المسلمين وغيرهم.
3- يؤكد الحوار على تأكيد المبادئ النبيلة التى يحث عليها الإسلام لتحقيق العدل والتكافل والتضامن والخير للناس جميعاً.
==============
عسى أن أكون شهيد الغد
عبد القادر عبار
تقديم :
هذه النفثات الشعرية المتواضعة هي من بعض الإهتمام بالهم الإسلامي...
و كما أن تلويحات حمزة بالسيف كانت تغيض أبا جهل و ترعب عقبة و ترعش الحاقدين ...فكذلك كانت قوافي حسان بن ثابت تغضب الأعداء و تزلزل قلوب الفجرة و تثير النفع في قلوب الظالمين...و لا غرابة ... فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لحسان:أهجم -أو قال هاجم - و جبريل معك .
و عن عبد الرحمان بن كعب عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل قد أنزل في الشعر ما أنزل فقال الرسول صلى الله عليه و سلم : إن المؤمن يجاهد بسيفه و لسانه و إلي نفسي بيده لكأن الذي ترمونه به نضح النبل.
فلقد كان لنا في سيدنا حسان أسوة شعرية نغيظ بها من نغيظ و من تراه يصمد لغيظة مؤمن إذا ثار لربه ... و حسب الشعر كما يقول المفسر الشهيد سيد قطب أن ينبع من تصور إسلامي للحياة في أي جانب من جوانبها ليكون شعرا يرضاه الإسلام.
عبد القادر عبار
إلى سيدي
يا سيدي المرسول فينا رحمة و سراج خير يملأ الآفاق رشدا
هلا اطلعت لما يموج بعصرنا و شهدت ناسا ضيعوا الإسلام قصدا
فأضاعوا ما شيد بأمس مشرق و أراقوا عزا كان للإسلام فردا
و انحازوا للشيطان حزبا خاسرا و أعدوا أنفسهم لغير الحق جندا
فالحق متروك تولوا غيره والإثم معمول به في النهج بندا
أسفا على الإسلام غاب نصيره فمتى يعود؟.. يعيد للإسلام مجدا
من السجن
سراجي في السجن ستَون سورهْ...
و زادي في السجن ستَون سورهْ
و سيفي :يقيني بنَصرة ربّي .
فما يفعل الظالمون بحسبي ؟
و ستَون حزبا تنوَر قلبي...
و جنَات عدن نهاية دربي.
* * * *
سأثأر للحقَ حُبَا لربَي
و من داخل السجن أرسم -بدرًًا-
و أقهر جيشا تصدَى لحربي
و أبرق للعالمين بيانًًا ...
أندَد فيه بما ضاق صدري
وابعث شبلي-أسامة- فورًًا ...
يبشَر بالفتح برََي و بحري
و يقرأ للدنيا سرَ انتصاري ...
و سرَ انتحار الطغاة برعب
و يهدم -لاتا- ... مناة ...و عُزَى
و يقرأ للدنيا قرآن ربَي
ليعلوً حقَ ...
و يزهق باطل.
عودة الوعي
تذكرت ذنبي كم أراني مقصَرًًََا في حقّ هذا الدين و القرآن
يا ويلتاه من الحساب و هوله إن ما قدرت جلالة الرحمان
فرَطت في فرض الجهاد و غرَني شرخ الشَباب و فتنة الشيطان
و سبحت في بحر الميوعة هائما اللَهو فرضي و الهوى إيماني
فغدوتُ رخوًًا لا يهمَني ما قد دمَر الطاغوت من أوطاني
يا ويح نفسي ما أقول لسيَدي؟ و الكفر يذبح هاهنا إخواني
أيطيب عيشك يا شباب محمَد و المسلمون هناك في أحزان
و أعيدوا دور الصابرين على البلا و أعيدوا دور محطَمي الأوثان
يا أيها الطاغوت قف لن تفتدي ها قد أتاك الموت في الأكفان
تأمَلات للتَوبة
العبد يذنب و المليك غفور
و النَفس تطغى و اللعين جسور
و القلب يقسو و الذنوب تفور
اوًاه ذنب ا ما عساه يصير؟
و النًاس حولي شارد و كفور
و العيش حلو و الرًفاه كثير
و المال جمً والهوى موفور
و الموت حقً لا يطاق مرير
و القبر مثوى ليس فيه سمير
و الدود فيه مارد منصور
و الفوز عدن و العذاب سعير
فالتوب خير قبل داك كثير
و الربً عزً في علاه غفور
قذيفة
يا مرتع الغرب قد أشبعتها علفًًا هذي الشياه فظلَت تنطح الشَعبا
أتخمتها اكلة مالت بوحدتها و اختارتها غرضًًا ترمي به العربا
اصطبل داوود قد فاز بأظلمها و ابتاعه القرد -بيغين- بما هبَا
و المجرم الباقي مشهور بشقوته قد أفزع الدنيا في إخواننا صلبًا
و العابر الغرَ قد لاحت ضلالته و انحاز للكفر إذ قد كَذب الكتبا
اوَاه يا "تدمر الفيحاء" معذرة تقتيل إخواننا قد ادمع القلبا(2/215)
يا مرتع الغرب هدا العيد زائرنا حضَر شياهك و اعزل عنهم العشبا
إنَي أراها تدير الظهر من غلب إذ عاجز كلبها أن ينبح الذئبا
قد أقسم الشَعب أن يرديها مجزرة تنهي المذلة و الطغيان و النَكبا
أتحدَاك
آه عليك عشقت الغنى عن سفه و اختارك الغرب سهما ظلَ يرميكا
و انحزت للكفر ترمينا بمنقصة إذ قلت قومي رجعيَون "أنتيكا"
يا فاسد الرأي صوت الحق يقلقك تبَا لرأيك ماذا بعد ينجيكا
إن كان صوت آذان الفجر منغصة و الله أكبر بالأسحار تؤذيكا
فأختر لنومك غوْر البحر يا سٍفهًًًا و ارقد طويلا فثمَ الصمت يحميكا
بالله قل لي ولا تكتمني مهزلة لو كان صوت "فريد" كان يؤذيكا
أو صوت "ثومه" مهما جاء مرتفعا كنت المصفَق مهما تأتي "مزًَيكا"
أو صوت ندل من الغرب يعلَمك بعض الرسول و فرض الله ينسيكا
أنت المقصَر لا فرضا تقدَمه و لا مناسك تأتيها و تعنيكا
لو كنت تعلم حقَ الفجر وا أسفا لبَيت كلَ نداء ظلَ ياتيكا
لكن عشقت حياة البهم عن بله نوم طويل و أكل... سوفـ يرديكا
فالله اكبر قد دكَت أبا لهب و الله أكبر غيظ في تراقيكا
و الله اكبر منهاج لعزَتنا نحيا عليه و نوره يوافيكا
إنَي خصيمك يوم الدين نافلة اشكوك للَه... سوف الله يجزيكا
إيه يا نفس
إيه يا نفس.
ما تفيد مناصب ما لها قرار
تمرّغ في القلب النّفاق ...
تورّث الذلّ والصّغار
وتشغل العبد عن جهاد..
وعن صلاة. فيا خسار
وتزرع الحقد في القلوب...
فلا ذمام ولا جوار
فذا عدوّ له أخوه...
وذا قتيل وقود نار.
وذا زعيم بلا نفوذ...
وذا وزير بلا قرار.
وذي كراسي لها طقوس...
وذا جهاز له خوار
أبعد هذا لك انشغال؟
تصفّقين...
بلا اعتبار؟؟
ألا استعيدي ضياع عمر...
ولقّحيه بما يفيد:
بتوبة للذي هدانا ...
إلهنا الخالق.... المجيد
فككم صلاة أضعت قصدا...
وكم صيام...
وكم حدود
وكم كتاب نظرت فيه...
وكم رسوم , وكم قصيد
وكم حرام سبحت فيه...
سبحت فيه إلى بعيد
وما تلوت له قرآنا ... وذاك يا نفس ما يفيد
فقصّري العمر بالصّيام...
وقصّري الليل بالسجود
وعطّري الجوّ بالصلاة على نبي لنا ودود
فذاك زاد لخير يوم
وذاك يا نفس ما يفيد
أخي
أخي جاءك الجدّ ...
فابغ العلا...
وجرّد حسامك...
لبّ النّدا
وقوّض بعزمك صرح الطغاة...
وروّع ببطشك قلب العدا
ورتّل نشيد ابتلاء الدعاة :
أحد يا بلال ...
أحد يا سماء
ولا يبكي قلبك إذ يذبحونك...
أو يفتنونك....
ذاك المنى
فأسوتنا في البلاء بلال...
ورمضاء مكّة تشهد ذا
وتلكم سنيّة : نعم الشهيدة
قد فاح منها أريج الفداء
أخي.. ليت شعري...
أتحلو الحياة؟؟
وقد عطّل الناس شرع السماء
أتحلو الحياة وسنة طه...
تحاكم في الأرض....
يا للأسى
وهذي رؤوس من الحاقدين
تعكّر قصدا مسير الضّياء
وهذي سيول الميوعة تجري
تريد امتصاص دماء الحياء
فلا تركنّن لصفّ الذين يعجّون حقدا ..
على الأتقياء
ولا تخدعنك قولة باغ....
على السالكين طريق الهدى
فجرّد حسامك ... حيّ الجهاد
فقد جاءك الجدّ ... لبّ الندا.
غياب الأحبّة
غاب مصعب
غاب طارق
غاب خالد
وبقي الدوّار عريانا
بلا فرس وقائد
منهوبة أمواله
مسلوبة أعراضه
يشكو إلى الربّ الشدائد
... وسفير الذلّ - أشعب لا يبالي
ليس تعنيه المظالم...
لا ولا ذبح الأهالي
قد عاقه التدجيل عن خوض الملاحم.
سيعود للدوّار مصعب
سيعود للأهلين طارق
سيعود للملحمة الحمراء... سيد الفرسان
... خالد
ويعود المجد مرفوع المحياّ ....غير كاسد
وترى الأرض الربيع الحقّ ....:
أنوارا...
....وألحانا..
...وأعراس زنابق
ليموت في ذلّه أشعب.
الحقد المدجّج
إذا الغرب يوما أدان اليهود فلا بد أن نستبين الخبر
ولا بد للقوم أن يفهموا بأن اليهود شرار البشر
كذلك قالت لنا البينات وحذّرنا الخالق المقتدر
وفي ليلة من ليالي الصراع مضرّجة بالدّماء والحجر
تدجّج بالحقد بعض اليهود وجاؤوا إلى القدس من كل برّ
وحاصروا مسجدها المستميت ونادوا بثأر قديم قذر
وما إن تمطّط صوت المؤذن يعلن ظهر النهار الأغر
وجاء المصلّون من كل حدب وكبّروا للفرض الله أكبر
هنالك أطلق جيش القرود رصاص الفناء على من حضر
وفي نشرة من مساء الفجيعة مشحونة بالأسى والكدر
...تدفّق سيل البيانات فورا مندّدة بالفنا.. والخطر
تدحرج صوت المذيع الرخيم .. وأرغد , أزبد ثم استتر
سنعلنها بدر هذا الزمان ...ولكن يقرّرها سيّد المؤتمر
وعلّق طفل الحجارة جهرا: كلام البيانات لا ينفجر
إذا ما طمحتم إلى نصرة فلا بد أن تستشيروا الحجر.
3 قصائد لامرأة عصرية
سؤال رغم أنفك
سأسألك رغم أنفك ...
وليبق سؤالي بغير جواب
فلست أبالي
لأني أيقنت انك ?
رغم التسيب والاغتراب
وتيهك في مرتع الاغتصاب
رجعت بخفي حنين
وقلب كسير ... ودمعة عين
و أن الذين أقلوك فوق السحاب
ونادوا بأنك سيدة القصر.
عندك حق القرار...
ورفض القرار
وصفع الأمير الغبي...
وركل الأمير الحمار
... وكدسوا بين يديك مفاتيح مملكة الاغترار
وساموك خطة خسف
وأنت على عرشك الفوضوي
تتيهين عجبا بما حطموا من قلاعك
وما دنسوا من شريف انتسابك
ولكنني رغم ذلك
سأسألك ... وليظل سؤالي بغير جواب
- برأيك ماذا جنيت من التيه ...
والركض خلف السراب ؟
****
زميلة الإدارة ?
زميلتي في مربض الإدارة ...
تفلسف الدعارة
وتعشق الطلاء و"الشنقوم" ...
والسيجارة...
وتدعي بأنها من شارة الحضارة
.... تود لو تقنعني بأنها ?
- عصرية الهوية..
- قوية الشخصية...
- عفوية الإثارة...
****
زميلتي في مرتع الإدارة
أميرة ضيعت الإمارة
وأعدمت أميرها في ليلة الزفاف
وطردت قوافل الجواري
والعبيد من قصورها
لأنها- كما ادعت- تقدس الحرية
وترفض الأغلال ... والزوجية
وتعشق الضياع في الشطوط..
في حدائق المدينة
في مرقص الشباب... في الملاعب الهجينة
وتنعت الحياة في البيوت بالجفاف
زميلتي التي تحبذ القصير والشفاف
تنعتني بأنني بضاعة رجعية...
محنط ... مجنون
لأنني امقتها ... اقهرها
إذ ارفض المجون...
وامقت الدعارة ...
وامدح الحياء والعفاف والطهارة...
****
إليها.... لو تعي ...
تحررت حقا..
فأصبحت تاجرة للضياع...
تجوبين كل الشوارع...
تهيمين ركضا وراء الرعاع
وتبحث عنك الذئاب الجياع
وقارك ? عري
وتاجك ? فحش أوروبي
تدوسين وجه الرصيف...
بكعب- سويدي - ...
يترجم خبث الطوية
وتقرا فيك الشريفات ? لعنة العصر
عصي الهوية..
تحررت حقا...
وساءك لبس الحجاب
وقلت ? دعوة لرجعية لا تبالي
تعيش تفاهات عصر الضلال
وتمخر في لجة من ضباب
ـــ ـــ ـــ
سأكتب عنك ...
بأنك حقا تحررت..؟؟
يوم اختيارك وأد الفضيلة.
بين الحدائق
وميلك للركض فوق الرصيف
وسهرة عشق لطيف
ودردشة بالمجان
ورفقة سوء يناجون فيك الأماني
ويلمح فيك الغبي ابتسام الزمان
ومرحى الشباب.
فارس القدس
إلى روح الشهيد أحمد ياسين
نعم رشحوك لنفي وحبس...
وساموك خطة خسف قذر ...
لأنك يا فارس القدس ..
يا صادق البأس ..
... لم تحضر المؤتمر
ولم تحتس من كؤوس السلام
ولم تحتف باللئام ..
وزهدت أهل الحمى في الكلام...
ورغبتهم في الجهاد..
ولم تمض عن بيعنا بالمزاد..
كما شاؤوا ...
بل قلت ? كلا بملء الزمان ...
... بملء المكان...
... بكل الحجر
...وأنت إلى السجن ماض ..
عل صهوة من يقين تليده
ترتب غزوة بدر جديدة
وتخطب في الناس بالقتل للغاصبين
****
نعم .. رشحوك لنفي وحبس..
برغم الجراح التي أرهقتك ..
برغم السنين التي أثقلتك...
... لأنك ياسين ذكرتهم بالقدر...
... ومن يدري
فالقوم... ايهذا الزعيم..
كما قيل ? شر البشر...
وأنت العنيد الكريم بطبعك..
تلغي الكلام...
.. وتلغي السلام..
إذا حان وقت القذيفة..(2/216)
... وقت الحجر
وتعرف أن الودود الولود حماس
تفرح للقدس أشبال تحريرها المنتظر
****
نعم رشحوك لنفي وحبس...
وساموك خطة خسف هجينه ...
لأنك ياسين ذكرتهم بالذي جاء
يسعى...
... من أقصى المدينة
يبشر بالفتح...
... بالنصر .. للصابرين
وعند الصباح ...
سيعلم جلادك السامري ? من
تكون...
واحر قلباه
تبا لأولئك الذين يحكمون شيخا مقعدا بتهمة التحدي والبطولة..
... وتبا وبعدا لأولئك الذين يعرفون ولا ينددون.. وبدل أن ينقذوه
... يساومون
إلى روح الشهيد أحمد ياسين
العالم الحر في صمت وفي صمم والعرب من غيّهم جاروه واعجب
والأهل في القدس لا أمن ولا سلم والشيخ ياسين في حال من التعب
قد هاج عيني على علاّت عبرتها إذ قيل يجلد رغم العجز والعطب
واحر قلباه من قوم يهيجهم صخب السياسة لا تنهيدة الكرب
صم عن الشكوى... عن بلوى الألى فتنوا من أجل تحرير أرض تحت مغتصب
تالله أقسم لو ماتت ببلدتنا - عنز الزعيم لهاجت جوقة الخطب
أو داخ في ساحة التهريج مرتزق لانحاز للعلج كل الناس واعجبي
...والشيخ ياسين لم يعبأ بحالته صوت المذيع .. ولا تلفازنا العربي
...شيخ توسّط في الإخوان منصبه حلو الشمائل مجبول على الأدب
بدر تألّق في الآفاق مطلعه رمز القيادة للشبان والشيب
يا باغي الشر مهلا إن لي مددا من خالق الكون ربّ العالم الرحب
ياغاصب القدس مهلا إن لي سندا من فتية الحق .. لا من ساسة العرب
إن كان غرّك من بعض سذاجتهم فانحازوا للسلم.. للتهريج.. للخطب
فالأهل في القدس ما ناموا وماغدروا هاهم ينادون بالقتل لمغتصب
==============
دوافع الحملة الإعلامية الأمريكية على المؤسسات الخيرية الإسلامية (*)
الدكتور / محمد بن عبد الله السلومي
تحت شعار (محاربة الإرهاب) انطلقت الحملة الأمريكية على المؤسسات الخيرية الإسلامية إعلامياً وميدانياً في معظم دول العالم، عقب أحداث 11سبتمبر ومازالت على أوجها حتى الآن، في اتهام صريح لتلك المؤسسات بأنها تدعم الإرهاب.
مارست وسائل الإعلام الأمريكية باقتدار دوراً انتهازياً لبث مشاعر الشك والريبة تجاه كل ما يندرج تحت مسمى المؤسسات الخيرية الإسلامية، واتخذت الإدارة الأمريكية الكثير من الإجراءات الميدانية والقانونية والتشريعية ضد تلك المؤسسات، الأمر الذي يطرح العديد من علامات الاستفهام حول تلك الحملة وما رافقها من تهم تستلزم البحث والنظر في بعض القرائن والنتائج لتلك الحملة:
هل هي حقاً موجهة نحو القضاء على ما يسمى الإرهاب؟
أهي حقاً حملة لتجفيف موارده رغم انه قد لا يحتاج أموالاً قياساً بأكبر حدث إرهابي وقع؟
هل تلك المؤسسات متورطة في دعم الإرهاب؟
هل هنالك أهداف أخرى غير معلنة لتلك الحملة تدار بواجهة محاربة ما يسمى الإرهاب؟.
لقد ترجح بعد البحث والدراسة أن تلك الأهداف المعلنة لا تمثل الأهداف الحقيقة، وإنما تخفي ورائها أهدافاً غير معلنة اتضحت من خلال بعض القرائن والنتائج التي سنسوقها في هذه الورقة.
لا شك أن الأهداف الحقيقية للحملات على المؤسسات الخيرية الإسلامية تتضح من خلال الوسائل المتعددة والنتائج المتنوعة فهناك أدلة قوية تشير أن الهدف المعلن غير الحقيقة، وذلك بعد دراسة متعمقة وتحليل شامل لشريحة من الحملات الإعلامية والميدانية ومن خلال أقوال وتصريحات وكتابات بعض العاملين في مجالات السياسة والإعلام والثقافة ومنظمات العمل الخيري وفي مراكز الدراسات والأبحاث.
ولا ريب أن وجود الأدلة لإدانة أي مؤسسة (جانحة) لا يتطلب كل تلك الحملات الإعلامية، فيكفي إبراز الأدلة للمحاكم أو الحكومات المعنية، داخل أمريكا أو خارجها، ولكن يبدو أن هذه الحملات مقصودة لذاتها.
لقد تعددت الممارسات المجحفة بحق تلك المؤسسات كالإغلاق أو تجميد الأرصدة أو المصادرة أو التشهير أو الاتهام بل وصل الأمر بعد إخفاق محاولات إيقاف أو تجميد بعض المؤسسات بحجة دعم الإرهاب إلى إغلاقها لأسباب أخرى، فالإغلاق هو الهدف والسبب يسهل تدبيره كما حدث لمكتب مؤسسة الحرمين في البوسنة والهرسك، فقد جرت محاولات الإقفال لمكتبها هناك بدعوى دعمها للإرهاب، وبعد الإخفاق في إدانتها بهذه التهمة، أغلق المكتب أخيراً بسبب توظيف أجانب من دون ترخيص( ). وكذلك ما حدث في مصر في رمضان المنصرم الموافق نوفمبر من عام 2002م، حيث طالب السفير الأمريكي بإغلاق خمس وعشرين جمعية دينية محلية دفعة واحدة وبعد خمسة عشر شهراً من الحدث التاريخي لتفجير الحادي عشر من سبتمبر وذلك للاشتباه في علاقتها بتنظيم القاعدة! والسبب الحقيقي أن تلك الجمعيات لعبت دوراً قوياً في تفعيل المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الأمريكية( ).
ألا يمكن بعد هذه النماذج أن يكون الهدف الحقيقي من هذه الحملة الأمريكية غير الهدف المعلن؟ وماذا يعني إطلاق التهم والتعميم بدون دليل حيث يتم إطلاق التهم وعلى الآخرين أن يقدموا الأدلة على براءتهم؟، وهل نجح اليمين المتطرف والصهيونية المتمكنة في تحريك الإدارة الأمريكية وفق رؤيتها المتعصبة التي تلبي مطالبها دون النظر إلى الآخرين ومصالحهم؟.
وتتعدد القرائن التي تؤكد أن الحملة لها أهداف أخرى خلاف تلك المعلنة وهذه أبرزها( ):
أولاً: فقدان الأدلة وصعوبة الإدانة:
إن تسخير الإعلام بوسائله المتعددة بصورة مكثفة قد أثار تساؤلات عما إذا كان اتهام مؤسسة محددة ومعينة يحتاج إلى مثل هذه الحملة؟ أم أن تلك الحملة الإعلامية وسيلة للتعويض عن الأدلة القانونية المفقودة؟، ولتكوين قناعات من خلال التضليل الإعلامي أو على الأقل بث الشك في العلميات المالية للمؤسسات الخيرية الإسلامية، فقد لوحظ في تلك الحملة:
• افتقادها للغة الوثائقية في كل ما ورد فيها من أخبار وتقارير، يقول رئيس جمعية الحقوقيين البريطانية عن تلك الاتهامات في ندوة بقناة الجزيرة في 21/10/2002م ( إن كل ما قدم من اتهامات لا يمكن أن يصمد في المحكمة ) ( ).
وكذلك ما ذكره المؤتمر الدولي في البحرين في 27/10/2002م (لا غسيل للأموال في المصارف الإسلامية) علاوة على ذلك ما قاله ريبرن هيس الرئيس السابق لقسم الاستخبارات المالية بوزارة الخارجية الأمريكية الذي قال (إنه لا أحد يعرف على وجه التحديد كمية الأموال التي يجري تحريكها خارج النظام المصرفي التجاري التقليدي)، مؤكداً صعوبة تتبع أنواع التمويلات والإجراءات المالية في ظل البريد الإلكتروني والهاتف النقال( ).
فهل عدم المعرفة هو الذي قاد للاتهام؟
كما قال رونالد دوركن( ): (سيكون من الصعب الكشف عن أدلة دقيقة تؤكد تمويل الإرهاب) وضرب مثلاً بما قد يوجد في دفاتر الحسابات المالية من إيجار، أو بناء مدارس ولكن هذه المبالغ يمكن تحويلها بشكل أو بآخر لمنظمات تعتبرها واشنطن منظمات إرهابية فهل تعني هذه الصعوبات التي ذكرها دوركن أن أمريكا أرادت التعويض عنها بالحملة الإعلامية؟.
كذلك ما قاله بعض المصرفيين من (أن النظم المصرفية في المنطقة وكميات الأموال التي يتم تداولها خارج النظام المصرفي تجعل من المستحيل تقريباً مراقبة حركة المال)، وما قاله مصرفي عماني في هذا الصدد: (إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع أبداً أن تتأكد هل الأموال تذهب إلى أيدي إرهابيين أم لقضايا إنسانية) ( ).
فهل هذه العقبات وعدم الاستطاعة هي السبب للحملة الإعلامية وإطلاق التهم؟(2/217)
• اتسمت الحملة بالتعميم وعدم الوضوح بل التمويه والتعتيم في كثير من الأحيان وقد برزت فيها جوانب التهويل وعدم تقديم الأدلة والبراهين وربما القراءات الخاطئة في بعض الأحيان، وزير الداخلية السعودي رد على اتهام المؤسسات الخيرية الإسلامية في المملكة بتمويل الإرهاب بقوله: (من يستطيع القول أن هذه الأعمال تذهب إلى غير مستحقيها؟ وهل هناك دليل واحد على هذا؟). وقد نبهت هيئة الأمم المتحدة - وهي جهة معنية ـ بأن الحرب على الإرهاب اتسمت بالتخبط والتشويش-( ).
• إن فقدان الأدلة وصعوبة الإدانة قديكون هو الذي دفع أمريكا إلى تطبيق قانون الأدلة السرية لضمان عدم أحقية المحاكم في طلب الأدلة، وحيث يتضح في الوضع القانوني الجديد لأمريكا عدم أهمية وجود الأدلة للإدانة.
كما أن المطالب الأمريكية من الدول والمؤسسات الخيرية الإسلامية والتي قدمت نموذجا منها للحكومة الكويتية كافية وحدها أمام الرأي العام العالمي والمنظمات العالمية لإسقاط دعاوى الإرهاب عنها( )، إنها مطالب للبحث عن الإدانة، مطالب يتطلب العمل بها فريقاً دولياً من المحاسبين والقانونيين ورجال المال والإدارة، ويكفي أن أمريكا لا تستطيع تطبيق تلك المطالب غير القانونية في أراضيها وولاياتها، كما لا تستطيع تقديمها إلى دول أوروبا على سبيل المثال حيث تكون مرجعية القضاء واحترام القانون، وقوة الصفة الاعتبارية للمؤسسات غير الحكومية أياً كانت صفة عملها (انظر ملحق المطالب).
ثانياً: التغطية على المشكلات الداخلية:
تعد الحرب على ما يسميه الإرهاب التي أعلن الرئيس الأمريكي استمرارها سبباً ومشجباً للتغطية على المشكلات السياسية والمالية التي تعاني منها أمريكا والإدارة الجمهورية فقد وصل (جورج دبليو بوش) للحكم بعد صراع مرير مع منافسه من الحزب الديمقراطي (أل غور) وفضائح انتخابية لم تنته إلا بتنازل (آل غور).
أما المشكلات الاقتصادية فلا تخطئها عين مثل فضائح وخسائر الشركات الاقتصادية والمحاسبية التي هزت أسواق المال والأعمال داخل أمريكا وخارجها كما تتابع مسلسل الخسائر والانهيارات الاقتصادية والفضائح المالية لمعظم تلك الشركات.
والأمر الأخطر من ذلك أن تلك الخسائر كانت ناتجة في معظمها من فضائح مالية وقضايا احتيال وتلاعب بالأرقام تؤكد مخالفات على مستوى غير مسبوق في تاريخ أمريكا مما يمكن اعتباره أكبر عملية احتيال في التاريخ أوجدت أزمة ثقة خطيرة( ).
كما يضاف إلى ذلك الخسائر التي وقعت من جراء أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها حيث قدرت حسب ما أشارت إليه بعض الصحف حتى عام 2003م بحوالي 639 مليار دولار فضلاً عن فقدان مليوني وظيفة( ).
ويلاحظ أن أسواق المال الأمريكية تعيش أسوأ أيامها في منتصف عام 2002م وقد ارتفعت الخسائر حتى بلغت 8.6 تريليون دولار.
كما أشار الرئيس الأمريكي بعد تلك الخسائر والفضائح (أن هذه الممارسات غير المنطقية في الشركات تدعو إلى شن حملة حكومية صارمة) ( ).
لكن الحرب على الإرهاب غطت على كل ذلك بل وغطت على الفشل في الساحة الأفغانية، الفشل الذي يتأكد بمقاييس تحقيق الأهداف المعلنة قبل بداية الحرب، والتي لم تتحقق حتى الآن، وانعكاس ذلك على الحكومة والاقتصاد والشعب مما يؤكد مقولة أن (أمريكا لا تعيش بدون حروب)، أو نظرية (الحروب) الدائمة.
ويمكن أن تكون هذه الحرب الإعلامية على المؤسسات الخيرية تغطية لفشل الأجهزة الأمنية الأمريكية في اكتشاف خطط أحداث الحادي عشر من سبتمبر قبل وقوعها أو للتغطية على تورط أو تواطؤ جهات معنية داخل الإدارة الأمريكية نفسها كما أشارت بعض التقارير.
لقد ذكرت بعض التحليلات السياسية عن الحرب على الإرهاب أن الرئيس الأمريكي وحكومته قد نجحا حتى الآن في إشغال الرأي العام الأمريكي بتجاوز المشكلات الداخلية والأزمات الاقتصادية من خلال الحرب على أفغانستان ورب دعوى الإرهاب المستمرة على المؤسسات والدول والتحضير الإعلامي الكبير والمستمر لحرق العراق.
ثالثاً: تقلب المواقف الأمريكية بين الماضي والحاضر:
قدم بعض الأفراد المرتبطين بالمؤسسات الخيرية بروابط متنوعة دعماً مالياً مباشراً لبعض فصائل المجاهدين الأفغان، كما قدمت لهم بعض الحكومات العربية - خصوصاً الخليجية - الدعم المالي والسلاح الأمريكي ولم يكن هذا سراً من الأسرار بل كان مجال فخر واعتزاز للمؤسسات والدول.
كما أن أمريكا تعتبر بشكل خاص وبحق من أقوى الدول التي دعمت المجاهدين بالمال والسلاح بشكل مباشر أو غير مباشر، بل وأسهمت بتصحيح المصطلحات السياسية والإخبارية (الإعلامية) حينما زار أفغانستان (زيجنيو بريجنسي) مستشار الأمن القومي الأمريكي آنذاك - وتقابل مع الزعيم الأفغاني يونس خالص لتتبنى أمريكا بعد ذلك بإعلامها المباشر وغير المباشر كلمة (مجاهدين) بدل المتمردين أو المقاتلين الأفغان.
لا شك أن بعض المؤسسات الخيرية الإسلامية كان لها ارتباط مع بعض المتطوعين بالجهاد بأنفسهم وأموالهم - وليسوا كموظفين- وكان لهم ارتباط مع بعض فصائل المجاهدين دعماً ومؤازرة وكان كل ذلك مرصوداً من قبل الأجهزة الأمنية الأمريكية وفروعها وعملائها.
وقد تضررت المؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية في السابق واللاحق من تصرفات الحكومة الأمريكية من خلال معاييرها ومقاييسها المختلفة والمزدوجة.
لقد أكد الكاتب الأمريكي (آرثر لوري) هذه المعاني وغيرها قبل الحادي عشر من سبتمبر وكان مما قال: ( إن تعامل أمريكا وموقفها من الإسلام بدأ يتغير ويأخذ وجهة معاكسة ، فخلال الحرب الباردة كان الإسلام يبدو حليفا للغرب ، وكانت الدول الإسلامية خصماً للشيوعية الملحدة، فقد دعمت الولايات المتحدة الأمريكية المجاهدين الأفغان بنحو ( 3 ) مليارات دولار عبر أجهزة المخابرات بهدف هزيمة الاتحاد السوفيتي وإخراجه من أفغانستان ، وكان المجاهدون الأفغان آنذاك أبطالاً في التغطيات الإعلامية في نظر الشعب الأمريكي ) ( )، وبهذا يتضح أن من أسباب الحملة الأمريكية على المؤسسات الخيرية السعي إلى المحاسبة على التاريخ القديم، وبأثر رجعي يبعث على التندر والطرافة!!.
لسائل أن يسأل بعد هذه الأخطاء الأمريكية بحق المؤسسات قديما وحديثاً هل يمكنها أن تحصل بموجبه على التعويضات اللازمة؟
رابعاً: تصفية الحسابات السياسية:(2/218)
قد تكون من أسباب هذه الحملات تصفية الحسابات السياسية أو الدينية أو تعبئة الرأي العام سواء داخل أمريكا أو خارجها لصالح بعض القوى السياسية أو الدينية المتعصبة ولا سيما أن المؤسسات الخيرية الإسلامية تعرضت لحملات إعلامية قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وقد تدخل بعض الاستجابات داخل الوطن العربي والإسلامي ضمن هذا الإطار، إذ قامت بعض الدول العربية بمبادرات التضييق والإغلاق ضد تلك لمؤسسات رغم أنه لم يتم توجيه أي تهمة لها، لقد أصبح الإرهاب ودعاواه مشجباً استغلته معظم الدول أو الأحزاب السياسية في تصفية الخصوم أو حتى المعارضين أو أصحاب الحقوق المشروعة، وأصبحت دعوى الإرهاب من وسائل الانتقام من الأفراد والمجموعات، ففي داخل فلسطين تبنت الحكومة اليهودية أبشع أنواع الإرهاب في الداخل، وساندتها الحملات الإعلامية في أمريكا لتصفية حساباتها مع كل من يدعم الشعب الفلسطيني من مؤسسات ودول، وعلى الصعيد نفسه فقد تم الاستثمار للحدث في روسيا والباكستان والهندوكشمير والفلبين وإندونيسيا والبلقان، وتناغمت معظم دول العالم لتصفي حساباتها القديمة والحديثة تحت مسمى هذا المولود القديم الجديد (الإرهاب) حتى أن بعض المنظمات الحقوقية حذرت من هذا الاستغلال البشع.
لقد تنوعت وتعددت الإجراءات ضد المؤسسات الخيرية الإسلامية داخل وخارج أمريكا مما يدفع إلى الاعتقاد إنها تمثل نوعاً من تصفية الحسابات معها حيث كانت الحملات الإعلامية المبكرة عليها قبل الأحداث، وجاء الحدث ليضعها في أولويات الأجندة في هذه الحرب الأمريكية العالمية.
والحقيقة أن الإرهاب ودعاواه أصبح لبورصة قوية في سوق المزايدات السياسية، فهل كان هدف هذه الحملة تحقيق هذه النتيجة؟، وهل ستتوقف الحملة على مؤسسات العمل الخيري بعد هذه النتيجة؟.
خامساً: تحالف يخاصم الإسلام:
من الأسباب الرئيسية التي يجب أخذها بعين الاعتبار حين البحث عن دوافع تلك الحملات غير الطبيعية ما أسمته صحيفة الوسط (محور شر في واشنطن) حيث ساهمت الصحيفة المذكورة في كشف الأسباب والدوافع الرئيسية للحملات الإعلامية والميدانية والمواقف السياسية تجاه العالم العربي والإسلامي – والمنظمات والمؤسسات الخيرية الإسلامية ما هي إلا جزء تدخل ضمن هذه الرؤية المتكاملة – والمهم من هذا التحقيق قول الصحيفة المذكورة (الأصوليون الأمريكيون واليهود والجمهوريون المتطرفون يحاصرون البيت الأبيض)، منذ 11 سبتمبر 2001م، دخلت على الخط الشرق الأوسطي بقوة مدرستا اليمين المسيحي الأمريكي أو (الأصوليون المسيحيون) واليمين المحافظ الجمهوري أو (الأصوليون الريغانيون)، وقد أبرمت المدرستان تحالفاً بينهما يرفع شعار الدعم المطلق لإسرائيل – لأسباب أخلاقية واستراتيجية في آن واحد – المدرسة الأولى تعتبر أن دعم إسرائيل ضرورة أخلاقية دينياً لأن الدولة العبرية تعتبر تجسيداً لنبوءات الكتاب المقدس حول التمهيد لقدوم السيد المسيح، فيما الثانية تنظر إلى إسرائيل بصفتها حليفاً ذا أهمية استراتيجية كاسحة في إطار الحرب العالمية ضد الإرهاب، وقد انضم إلى هذا التحالف الآن طرف ثالث هم (الأصوليون اليهود) في الولايات المتحدة الذين يقفون حتى إلى يمين (آرييل شارون) في توجهاتهم نحو الفلسطينيين والعرب هذا التحالف الثلاثي الذي يقوده الأصولي المسيحي ومرشح الرئاسة الأمريكية السابق (غاري باور) والأصولي اليهودي (وليام كريستول) وصقور الحزب الجمهوري في البنتاغون والكونغرس الذي طور استراتيجية مشتركة لخصها الكاتب في صحيفة ويكلي ستاندرد (رول مارك غير يشت) على الشكل الآتي:
1- حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب لا تضعف مواقع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل هي على العكس تعززها إذ أنها تمهد الطريق أمامها لخوض الحرب ضد العراق وضد قوى (الأصولية الإسلامية).
2ـ الحلف الإسرائيلي الأمريكي المستند إلى التفوق العسكري والانتصارات العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ودول المواجهة سيؤدي إلى زيادة السطوة الأمريكية في الشرق الأوسط من المغرب حتى إيران، لأنه سيذكر العرب بأنه لا يمكن إلحاق الهزيمة بالقوة الغربية( ).
ولتحقيق ذلك جرى التركيز على افتعال الخصومة مع الدين الإسلامي وتشريعاته ومؤسساته خاصة في العقد الأخير من القرن العشرين وقد تضاعف هذا التوجه بشكل ملفت للنظر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وعلى مستوى يصعب تجاهله أو تجاوزه كما حدث ويحدث من القساوسة (بات روبرتسون) و (فرانكلين غراهام) و (جيري فالويل)، وغيرهم فالأمر بلغ حد الخصومة الشاملة مع الإسلام والمسلمين من خلال تلك الحملات الإعلامية ولم يعد مقتصراً على نوع معين من أنواع العمل الخيري الإسلامي بل تعدى ذلك إلى الهجوم والسب لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم مما يؤكد مقولة أن هدف الحملة أبعد من دعوى الإرهاب وتتعداه إلى تجفيف المنابع وذلك لشمولها وتنوعها واستهدافها الدين الإسلامي ذاته، إلى ذلك أشار الكاتب الأمريكي (بول فندلي) في كتابه لا سكوت بعد اليوم حينما قال: واليوم غالباً ما يسمى الإسلام الخطر الجديد الآتي من وراء الأفق، الآخذ مكان الاتحاد السوفيتي البائد، إنه يحتفظ بقدرة مشابهة على التغلغل والتوسع.
ويضيف فندلي: يشرح الأستاذ إدوارد سعيد الأستاذ في جامعة كولومبيا في نيويورك(1) فيقول: ما يهم خبراء مثل (جوديث ميلر) و (صامويل هانتيغون) و (مارتن كرايمر) و (برنارد لويس) و (دانيال بابس) و( ستيفين إمرسون) و (باري روبين) إضافة إلى مجموعة كاملة من الأكاديميين الإسرائيليين هو التأكد من إبقاء خطر الإسلام نصب أعيننا، والأفضل التنديد بالإسلام لما يمارسه من إرهاب واستبداد وعنف، فيما يؤمِّنون لأنفسهم استشارات مجزية، وظهوراً متكرراً على شاشات التلفزة وعقوداً لتأليف الكتب، لقد جعل الخطر الإسلامي يبدو مرعباً إلى حد لا نظير له( )، وقد أشار إلى ذلك الصحفي البريطاني (روبرت فيسك) الذي قال: إن إسرائيل عملت على تشجيع خلق صورة من المطابقة والتماثل بين الإرهاب والإسلام، وذلك عن طريق ربط استخدام الكلمتين معاً في تصريحات زعمائها العلنية( )، وبناء على هذا فقد تم استهداف المؤسسات الخيرية الإسلامية أياً كانت صفتها حيث استهدفت مؤسسات تعليمية وعلمية ومؤسسات متخصصة لكفالة الأيتام وثالثة متخصصة بالفقراء والمساكين والمنكوبين، ولم تسلم بعض البنوك والشركات الإسلامية وصحب ذلك حملة مسعورة على المناهج الدينية المتميزة في العالم العربي والإسلامي مما يؤكد الاعتقاد بأن هذه الحملات تهدف جميعها إلى تجفيف منابع الدين في العالم الإسلامي إرضاءً لليمين المسيحي المتطرف وتحقيقاً لحلم اليهود في إقصاء الدين الإسلامي من الصراع الإسرائيلي العربي، واستجابة لضغوط المنظمات المتخصصة مثل منظمة (بناي برث) اليهودية الأمريكية.
سادساً: تكريس الصورة المزيفة عن الإسلام والمسلمين:(2/219)
من الحقائق المسلمة في أسباب هذه الحملة وجود مؤسسات ومنظمات ومجموعات وأفراد من سياسيين وإعلاميين وعسكريين ورجال دين في الداخل الأمريكي متخصصين في تشويه صورة الإسلام والمسلمين بدوافع متعددة وأساليب متنوعة، خاصة مع ما يملكونه من نفوذ وسمعة في عالم الإعلام الأمريكي والإعلام الديني بشكل خاص، ولا سيما أن بعض تلك الحملات على المؤسسات الإغاثية قد ظهرت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بسنة ونصف أو أكثر: مقالات ومقابلات متفرقة، ومن هؤلاء على سبيل المثال من داخل أمريكا (استيف أمرسون)، و (جوديث ميلر) و (دانيال باينز) و (كارل ثوماس) و (ستيف ماكونغل).
كما يرى المتعصبون من اليهود والنصارى أن الدين الإسلامي يشكل تحدياً تاريخياً، فالعزف على هذا الوتر حتى وإن لم يكن بدافع التعصب فإنه يحقق أهدافه، وإلى هذا أشار الكاتب الأمريكي (بول فندلي) في كتابه (لا سكوت بعد اليوم) في الفصل السادس (الإرهاب والافتراء) حيث قال: أعرف أن نشر التنميطات المزيفة يمكن أن يخدم المصالح المتعصبة الضيقة، في بعض الأحيان قد تنشأ الصور المزيفة من الحقد، وقد تنشأ في أحيان أخرى من الطموح الجامح على حد قول شكسبير. يضيف الكاتب الأمريكي في موضع آخر من كتابه المذكور حول التنميطات المزيفة عن الإسلام قوله: هناك العديد من المنافقين بين قادة المسيحيين ، لكن الإسلام وحده بين الأديان الأخرى يربط في الأخبار والتقارير والمقالات بالعنف باستمرار، في حين أنه نادراً ما تذكر ديانة الفاعلين عندما ترتكب أعمال مروعة على أيدي أناس ينتمون إلى ديانات أخرى، فالتقارير الإخبارية لم تشر إطلاقاً إلى المذابح المرتكبة ضد (ألبان كوسوفا) بأنها أعمال قتل ارتكبها الصرب الارثوذكس، وأن البورميين يقتلون بأيدي البوذيين، وأن الفلسطينيين يقتلون بأيدي اليهود فالجناة يحددون روتينياً بهويتهم القومية، وليس بانتماءاتهم الدينية، إلا عندما يكونون مسلمين إذ لا ينظر إلى مرتكبي العنف المسيحيين بأنهم يشوهون سمعة المسيحية، ولكن إذا ارتكب مسلم إثماً فإن هذا الإثم يصور كعنصر من عناصر الخطر الإسلامي الداهم على أمريكا، هذه الازدواجية في التعامل هي التي تعزز أخبث تنميط للإسلام، وأوسعه انتشاراً، ألا وهو ربط المسلمين بالإرهاب( ).
سابعاً: فلسطين أحد أهداف الحملة:
المتأمل في جوانب تلك الحملة يدرك أن من الأسباب الرئيسية لهذه الحملة الأمريكية القضية الفلسطينية (الانتفاضة – الأقصى) ويلحظ أنها طالت المؤسسات الإسلامية الأمريكية وغير الأمريكية المتخصصة بدعم بعض المدارس والمستشفيات وأسر الشهداء والأيتام والفقراء والمساكين في فلسطين، والتي أثارت أعمالها الإغاثية المؤسسات اليهودية في أمريكا مما جعلها تثير حولها وحول العاملين فيها زوابع من الشكوك والخوف والذعر. كان ذلك قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر كما أورد هذا الكاتب الأمريكي (بول فندلي) في كتابه (لا سكوت بعد اليوم)، حين نقل تأكيد (أمرسون) أن كل المنظمات الإسلامية تقريباً القائمة في الولايات المتحدة، والتي تعتبر نفسها إسلامية وواقعة في قبضة العناصر الراديكالية، يتعاون بعضهم مع بعض عبر الدول، فسلسلة الأصوليين الإسلاميين تمتد من القاهرة والخرطوم حتى بروكلين، ومن غزة إلى واشنطن( ).
ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فتم استثمارها لصالح تلك الجهات، حيث كان إقفال بعض المؤسسات الإسلامية، مثل مؤسسة الأرض المقدسة للإغاثة والتنمية (holy land foundation) في ريتشارديسون بولاية تكساس وفروعها في كاليفورنيا ونيوجريسي والينيوي، وقد أشارت صحيفة الزيتونة الأمريكية أن الرئيس جورج دبليو بوش أمر بتجميد المؤسسة المذكورة يوم 4/12/2001م والذي تعتبره الصحيفة هدية للحكومة الإسرائيلية( )، وبقرار سياسي أعلن فيه الرئيس الأمريكي نفسه عن الأسباب وأنها دعم أسر وأبناء حماس والجهاد الإسلامي، وبهذا القرار غير القانوني تم إغلاق أكبر مؤسسة إسلامية على الساحة الأمريكية تقوم بدعم المحتاجين في فلسطين مع تجميد ممتلكاتها، وحدث مثل ذلك لمؤسسة النجدة الإسلامية (global relief foundation) ولنفس الأسباب،كما انتقلت الحملة إلى فلسطين حيث تم إقفال مجموعتي التمويل وهما (بنك الأقصى العالمي، ومجموعة بيت المال الاستثمارية)، ومقرهما الأراضي الفلسطينية( )، وتبع ذلك إقفال بعض المؤسسات المعنية بدعم الفلسطينيين في أوروبا وغيرها مثل ما حدث لـ (جمعية الأقصى الخيرية) في آخن بألمانيا، وأصبح أكثر من 60% من الشعب الفلسطيني تحت خط الفقر بسبب الحصار العالمي على المؤسسات الخيرية المعنية بالشعب الفلسطيني، كما تشير إلى ذلك إلى بعض التقارير الرسمية والأهلية( ).
كما يؤكد الكاتب والباحث الأمريكي بول فندلي سيطرة قوى الضغط الخفية وأنها وراء تلك الحملات والتنميطات المزيفة حيث اعتبر أن من العوامل التي تبقي الصورة المزيفة عن الإسلام حية ذلك النشاط الحثيث في واشنطن، الذي تبذله جماعة الضغط لصالح المساعدات الأمريكية لإسرائيل .. وفي سياق هذا الضغط غالباً ما يكون شبح الإرهاب المدعوم من المسلمين، هو الموضوع المتكرر، إذ يستخدم لتسويغ ممارسات الدولة اليهودية القاسية ضد الفلسطينيين ذوي الأغلبية المسلمة ولتبرير اعتداءات إسرائيل العسكرية الدورية على لبنان، حيث تسود أيضاً أغلبية إسلامية، إن صورة الإرهاب هي الأساس الذي تستند إليه إسرائيل في مطالبتها بمساعدات أمريكية منتظمة من الأسلحة المتطورة، ومن المال لتعزيز دفاعاتها ضد هجوم محتمل بالصواريخ من جانب سورية والعراق وإيران، وغيرها من الدول ذات الأغلبية الإسلامية( ).
لقد أشار الأستاذ فهمي هويدي إلى الارتباط بين تلك الحملة والقضية الفلسطينية بقوله: نجحت الحكومة الإسرائيلية في استمالة القيادة الأمريكية وإقناعها بأن قمع المقاومة الفلسطينية هو جزء من الحملة ضد الإرهاب وهو ما ترتبت عليه نتائج جسيمة عدة تصب في مجرى محاولة الإجهاز بشكل نهائي على المقاومة الإسلامية في فلسطين، ومن تلك النتائج ما يلي:
• إطلاق يد رئيس الوزراء الإسرائيلي في افتراس الشعب الفلسطيني والتمثيل به من خلال تدمير البيوت والزراعات وشل المرافق وقصف السلطة الفلسطينية وخطف الناشطين واغتيالهم وترويع الآمنين حيثما وجدوا، الأمر الذي أدى من الناحية العملية إلى نسف كل محاولات اتفاقات السلام خلال السنوات الثماني الأخيرة!!
• في التصريحات الرسمية: اعتبرت واشنطن أن ما تفعله إسرائيل هو نوع من الدفاع عن النفس وبذلك ابتدعت ولأول مرة حق المحتل في الدفاع عن استمرار احتلاله وهو موقف مدهش لأنه على النقيض تماماً مما تعارف عليه المجتمع الدولي بقوانينه واتفاقياته وأعرافه التي أقرت للذين احتلت أراضيهم بالدفاع عن أنفسهم بكل الطرق.
• أعلنت واشنطن أن حركتي حماس والجهاد منظمتان إرهابيتان وبالتالي صادرت أموالهما واستباحت دماء أعضائهما على الأقل من وجهة النظر الإسرائيلية، وشملت بتهمة الإرهاب كل من ساعد المنظمتين أو آوى أفرادهما، وهذه هي المرة الأولى التي تصنف فيها المقاومة الإسلامية رسمياً ضمن المنظمات الإرهابية بقرار يرتب إجراءات عملية لمحاولة تصفيتها.(2/220)
• ضغطت واشنطن على دول الاتحاد الأوروبي وجعلتها تتبنى موقفها من المقاومة الإسلامية وهي التي دأبت في السابق على اتخاذ مواقف أكثر موضوعية وأكثر حذراً، ولكن هذا الموقف تغير بحيث طلبت الدول الأوروبية من الرئيس ياسر عرفات تفكيك البنى التحتية للمنظمتين باعتبار ما تقومان به هو نوع من الإرهاب( ).
ثامناً: حقيقة الاتهامات الموجهة ضد المؤسسات الخيرية الإسلامية:
مصدر بعض الاتهامات للمؤسسات الخيرية قد يكون مرجعه بعض التعاملات النقدية سواءً في مجال الإيرادات أو في مجال المصروفات وهو أمر متبع في معظم المؤسسات الأهلية والحكومية في المجتمعات العربية والإسلامية والإفريقية والأسيوية إذ تقتصر المعاملات البنكية على المبالغ الكبيرة فلا يتصور أن تقدم مؤسسة خيرية مساعداتها للفقراء في صورة شيكات بمبلغ 20 أو 50 دولار لكل فرد مثلاً، وهذا أمر متعارف عليه ومتبع لكنه يثير الشكوك وفق معايير النظام المالي الرأسمالي الذي يعتمد بطاقات الإئتمان (credit card) وعليه كان على الأرامل والأيتام والفقراء في المناطق المنكوبة أن يكونوا من حملة هذه البطاقات ومن أصحاب الحسابات الجارية حتى يسهل تحويل مساعدات المؤسسات الخيرية الإسلامية إلى حساباتهم في البنوك.
إن إثارة الشك والريبة في التعامل النقدي في المعاملات المالية أحد تقاليد النظام الرأسمالي الذي لم تعرفه بعد المناطق المنكوبة التي تعمل بها المؤسسات الإسلامية الخيرية، وحتى إذا سملنا بتطبيق تلك المعايير والتقاليد فهل يتم ذلك من خلال التدقيق والمحاسبة أم التشويه والاتهام والإغلاق كما حدث مع بعض المؤسسات الخيرية سواء داخل أمريكا أو خارجها، إن طبيعة كثير من الأزمات والكوارث تفرض التعامل النقدي وقد لجأت إلى هذا الأسلوب أمريكا في حربها في أفغانستان، حينما أسقطت طائراتها العسكرية مبلغ 70 مليون دولار نقداً وفوق هذا وذاك فإن الكثير من العاملين في الأجهزة المعنية في الإدارة الأمريكية – ناهيك عن الشعب الأمريكي نفسه – ليس لديهم الإلمام والفهم بالتشريعات الإسلامية والطبيعة العربية وما فيها من جوانب الكرم والمؤازرة أو المناصرة للمظلوم والمحتاج دون معرفته شخصياً فالمسلم لا يطلب هوية من يسأله المساعدة من إخوانه ولا ينبغي له أن يفعل ذلك وتلك من عظمة جوانب الإسلام، وهكذا تتحول الأعمال الإيجابية عند من لا يفهمون الثقافة الإسلامية إلى نظرات سلبية فتجعل البريء متهماً، ومن له علاقة أو قرابة بمشتبه فيه مصدراً للتهمة.
كما أن بعض الأفراد قد يكون على علاقة أو ارتباط وظيفي بمؤسسة خيرية مع احتفاظه لنفسه بشكل خاص بعلاقة أخرى بدون ربط بين الأمرين وهذا بالطبع قد يقع كذلك لبعض منسوبي القطاع الحكومي أو القطاع الخاص من خلال تعدد ارتباطاتهم أو أعمالهم.
المهم هو هل هذه التعاملات أو العلاقات التي حدثت من أو مع المؤسسات الخيرية أو بعض العاملين فيها يعد مبرراً لحملات التشهير والاتهامات وتجميد الحسابات أو المصادرات؟، وماذا سيكون من عقاب على أمريكا في أخطاء ضرباتها الجوية على المساجد والمستشفيات والأعراس والاحتفالات والتي كان نصيبها فقط (4000) قتيل أفغاني عن طريق الخطأ؟؟( )، وهل طبقت أمريكا على مؤسساتها المعايير المحاسبية التي تطالب بتطبيقها على المؤسسات الخيرية الإسلامية؟ (انظر الملحق)، أم أنه المعايير المزدوجة في كل شيء حتى في لغة الأرقام.
تاسعاً: تدمير أحد الرموز الإسلامية:
يؤكد مسار الحملة أنها وسيلة لتدمير ما ترمز إليه المؤسسات الخيرية الإسلامية فهي القوة الحقيقة لأي دولة إذ أن قوة أي دولة تنبع من قوة مؤسسات المجتمع الأهلية الخيرية بها، فهي خط الدفاع الأول للحكومات والشعوب في سلمها وحربها ولأن المؤسسات تمثل رمزاً من رموز الوحدة الإسلامية والوحدة الوطنية حيث التكافل والتعاون بلا حدود جغرافية أو سياسية ولأنها تثبت وحدة آلام الأمة الواحدة وتداعي بعضها لبعض فأعضاء الجسد الواحد جرى استهدافها.
لقد رأت قوى الظغط الخفية في أمريكا أن المؤسسات الخيرية الإسلامية من عوامل النهضة في دولها ومجتمعاتها وأنها من أشد القوى في رفض العولمة الثقافية والتغريب، وتثبيت الهوية الدينية لأمتها، وأنها حققت من جوانب الوحدة للأمة الإسلامية ما لم تستطع بعض الكيانات السياسية تحقيقه.
فكان العمل علىفصل مؤسسات المجتمع الأهلي ولا سيما الخيري عن ممارسة حقها المشروع في الداخل أو الخارج لأن ذلك سوف يؤدي إلى تحقيق المصالح الأمريكية المتعصبة بإضعاف قوى الدولة والأمة معاً، مثلما أن الحملة على المؤسسات الإسلامية في أمريكا تهدف إلى إقصاء الصوت الإسلامي الذي بدأ يطالب بحقوقه في شتى المجالات حيث لم تسلم منه الحملة حتى المؤسسات الفكرية مثل المعهد العالمي للفكر الإسلامي في فرجينيا أو المؤسسات التي تركز في عملها على العلاقات والحقوق المدنية مثل: منظمة كير الأمريكية، والحقيقة التي أراها ويراها الكثير أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر بداية لحرب متنوعة وشاملة وإلى ذلك أشار وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) بقوله: إن الحرب أحياناً تكون عملاً عسكرياً لكنها من الممكن أن تكون عملاً اقتصادياً أو دبلوماسياً ومالياً أيضاً( ).
وقد عبر المحلل السياسي الأمريكي الشهير (توماس فريدمان) عن هذه الرؤية في مقاله المنشور في نيويورك تايمز حيث قال بالنص: إذا كان تاريخ 9/11 في الحقيقة بداية الحرب العالمية الثالثة، فعلينا أن نفهم ما تقصده هذه الحرب، وعلينا أن لا نكافح لاستئصال الإرهاب .. الإرهاب فقط أداة .. نحن نحارب لهزيمة الأيدولوجية .. التدين الدكتاتوري والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة كانتا صراعاً لهزيمة الحزب العلماني المتطرف، النازية والشيوعية، أما الحرب العالمية الثالثة (الحالية) فهي معركة ضد الحزب الديني المتطرف الذي يفرض على العالم سلطة إيمانية تنفي الآخرين إنها (البنلادنية) نسبة لابن لادن، لكنها على خلاف النازية، فحكم الحزب الديني لا يمكن أن يقاتل بالجيوش وحدها، بل يجب أن يقاتل في المدارس والمساجد والكنائس، والمعابد ولا يمكن أن يهزم بدون مساعدة الأئمة والأحبار والكهنة!! ( ).
ولسائل أن يسأل، ألا يمكن أن تساهم هذه الأقوال بكشف حقيقة الحملة؟.
نماذج من النتائج العامة
• كشف قوة الحملات الإعلامية: لقد أثبتت هذه الحملة الإعلامية المسعورة بأسبابها ونتائجها أن الإعلام الأمريكي بدعم من رموزه السياسية قادر على تحويل الثوابت إلى متغيرات، والحق إلى باطل، والخير إلى شر، والصواب إلى خطأ، وخاصة في أواسط الضعفاء وما أكثرهم في العالم العربي والإسلامي، وهذا ما يؤكد أهمية تأسيس أمريكا لمكتب (التضليل الإعلامي)، الذي تم الإعلان عنه من قبل وزارة الدفاع الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ويهدف إلى تزويد القنوات الفضائية الإخبارية ووكالات الأنباء العالمية بمعلومات مغلوطة، وأثار ذلك من خلال حجم الاستجابة أو التصديق أو الشكوك لدى بعض الجهات الرسمية في العالم العربي، بل لقد أدت هذه الحملة الدولية إلى بعض الاستجابات من قبل بعض الدول على الرغم من عدم توجيه أي تهمة أو اشتباه لمؤسساتها الخيرية، إلا أنها اتخذت إجراءات متشددة حيال جمعياتها الخيرية، ولهذه الاعتبارات فإن الأمر يتطلب إعادة النظر في مبدأ التصديق للحملات الإعلامية.(2/221)
والملاحظ أن الحملة الإعلامية على المؤسسات الخيرية تزداد يوماً بعد يوم حتى بعد مرورحوالي سنة ونصف على الحدث مما يدل على أن دعوى الإرهاب مشجب تطرحه أمريكا بقوة إعلامها وتأثيره لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية والاقتصادية، قريبها وبعيدها، علماً بأن تناغم الإعلام العربي مع الصياغة الأمريكية للخبر (مع الأسف) قد فاق الإعلام الأمريكي وخدمه بشكل منقطع النظير، حيث تتصدر أخبار الإرهاب ودعواه كل الوسائل الإعلامية مسيطراً على الصفحات الأولى من الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية والدورية، كما لا تخلو منه نشرة إخبارية على مدى الساعة، وهذا بحد ذاته هدف للإدارة الأمريكية بتصدير أولويات أمريكا باعتبارها قضية العالم بأسره، ليكون التجاهل العالمي لكل قضايا الدول والشعوب الأخرى.
• تناقص العمل الخيري الإسلامي إلى حدوده الدنيا: ففي أذربيجان مثلاً كانت هناك (خمس عشرة) مؤسسة إسلامية تقلص عددها إلى أن أصبحت المؤسسات (ثلاثاً) فقط بعد أحداث 11 سبتمبر، ومن الأمثلة أيضاً أن الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام أباد التي يدرس فيها (5000) طالب وطالبة، وكان لها دوراً كبيراً في إحياء الإسلام في وسط آسيا، واجهت مشكلات مالية حادة بعد 11 سبتمبر حيث انقطعت الرواتب الشهرية لثمانية عشر من أساتذتها بسبب خوف الممولين وتقاعسهم( ).
• كشف الازدواجية وفقدان المصداقية والعدالة: من نتائج هذه الحملة أنها كشفت المزيد عن المعايير المزدوجة وفقداناً للمصداقية حينما أغفلت المنظمات والمليشيات الأمريكية والإسرائيلية التي تتبنى الإرهاب في داخل دولهاوخارجها، فقد أشارت الدراسة التي قدمها مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية إلى هذه الازدواجية فقالت: ومثلما هو الوضع في السياسة الغربية عموماً، فإن تعامل الدول الغربية مع الجمعيات والمؤسسات الخيرية الإنسانية يتميز بالازدواجية المفضوحة، ففي الوقت الذي تشن فيه هذه الدول حملات قوية على الجمعيات الخيرية العربية والإسلامية وتتهمها بدعم وتمويل الإرهاب تتغاضى عن الممارسات التي تمارسها العديد من المؤسسات الخيرية الغربية والتي لها تاريخ طويل في تأييد الإرهاب من خلال عمليات دعم العصابات والحركات الانفصالية التي تم تمويلها سراً وعلناً عن طريق المنظمات غير الحكومية الغربية، فعلى سبيل المثال كشفت صحيفة ديلي ستار اللبنانية أن (مجلس الكنائس العالمي) قد لعب دوراً مهماً في دعم المتمردين في جنوب السودان، كما ساعد بشكل نشط الحركة الانفصالية في إقليم (بيافرا) النيجري ذي الأغلبية المسلمة، ولم يحدث أن تم انتقاد هذه المساعدات على أنها دعم واضح للإرهاب ويجب وقفها، مثلما تم اتهام العديد من الجمعيات والمؤسسات العربية التي قامت بجمع تبرعات لصالح المقاومة الفلسطينية التي تتهمها بعض الدوائر الغربية بالإرهاب مع أنها حركة مقاومة مشروعة دولياً وليست حركة انفصالية أو حركة تمرد( ).
ومن المؤشرات الواضحة على هذه الازدواجية المفضوحة تغاضي الدول الغربية عن قيام العديد من الجمعيات و المؤسسات الإنسانية والغربية وخاصة الأمريكية بجمع تبرعات لصالح إسرائيل كسياسة واستراتيجية مستمرة، إضافة إلى تلبية حالات الطوارئ لدولة الكيان الصهيوني، والتي تستخدمها في تعزيز احتلالها أو في بناء مستعمراتها على الأراضي الفلسطينية ودعم سياساتها القمعية والإرهابية ضد الشعب الفلسطيني، وهي العمليات التي اعتبرها العديد من السياسيين والمنظمات الدولية نموذجاً واضحاً لإرهاب الدولة يستوجب ملاحقته قانونياً.
وأكثر من ذلك استخدام وسائل الاتهام والضغط الجائر، والتشويه قبل التحقيق أو المحاكمة على أخطاء مفترضة من قبل المؤسسات الخيرية الإسلامية، لا سياسات أو استراتيجيات تتبعها عمداً، وصاحب ذلك تجميد الحسابات والأرصدة المالية وبعض الأجهزة والممتلكات ومصادرة بعضها (أشارت بعض المصادر إلى تجميد ومصادرة 135 مليون دولار بدون ذكر الأدلة أو البراهين على الادعاءات المغرضة، وليس مهماً حجم المال المجمد بقدر ما هو تقرير لمبدأ صرامة الإجراءات غير القانونية التي تؤثر مستقبلاً بشكل سلبي على مسيرة العمل الخيري.
• قوة البدائل الجاهزة: ومن نتائج تلك الحملة الأمريكية التي تكشف شيئاً عن الواقع ما يمكن قياسه بحجم انتشار المؤسسات الدولية الأخرى بديلاً عن المؤسسات الإسلامية وقد تحقق الكثير من ذلك ولا سيما مع قوة الحرب الإعلامية النفسية، ومن الأمثلة الحية لإثبات هذه النتيجة ما ذكره الأستاذ فهمي هويدي حيث قال في مقال له عن العمل الخيري: إن العمل الخيري الإسلامي يتعثر، وجورج سورس يتمدد في فراغنا وقد أنفق سورس اليهودي الأمريكي من أصل هنجاري والذي يملك (100) مليار دولار، وأسس مؤسسة (المجتمع المفتوح) ولها ثلاثة وثلاثون فرعاً ومركزاً في دول العالم الثالث منها (10) فقط في منطقة البلقان، و(18) في جمهوريات وسط آسيا والقوقاز، (3) في إفريقيا، و (2) في أمريكا اللاتينية، وبهذا تكون (28) من مراكز مؤسسته وأعمالها في مناطق المسلمين بالدرجة الأولى، وقد أنفق سورس في عام 1995م في منطقة البلقان وحدها (350) مليون دولار، كما يساعد البوسنة سنوياً بمبلغ (50) مليون دولار( ).
• غرست الحملات الإعلامية والإرهابية الميدانية بحق المؤسسات الخيرية لدى البعض – إلى حد كبير – كراهية الدعم المعنوي والمالي للعمل الخيري والإغاثي الإسلامي الذي قد ترتب على بعضه الاقتياد إلى كوبا حيث معسكرات جوانتانامو وبيع الأسرى والمعتقلين في باكستان وأفغانستان بدراهم معدودة، كما ترتب على بعض الأعمال الخيرية زعزعة الثقة في مسيرة العمل الخيري الإسلامي والعاملين عليه، إضافة إلى إحجام بعض المتطوعين والمتبرعين خوفاً على أنفسهم أو أموالهم من المصادرة ،وبروز شعور المسلمين ومؤسساتهم بالاضطهاد الديني ، والتدخل السافر في شعائر دينهم كالزكاة والصدقة وغيرها وهي مسائل إيمانية وإنسانية عظيمة حسب التشريع الإسلامي .
• نتج عن هذه الدعوى العريضة على المؤسسات الخيرية الإسلامية تدخل سافر في حقوق الإنسان وحقوق المؤسسات بل وحقوق الدول في شؤونها الخاصة بلا مستند قضائي أو قانوني ، وأصبح على الحكومات في العالم العربي والإسلامي أن تفعل مالا قناعة لديها به ، أو تصبح متهمة بالإرهاب !! .
كما تحول عدد من المعتدلين وهم الأكثرية في العالم الإسلامي إلى موقف العداء لأمريكا حتى إن بعض من أدانوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر تراجعوا بسبب هذه الحملة غير العادلة وغير المعقولة !! فهل أمريكا غافلة عن هذا ؟! أم أن فيها جهات متطرفة تسعى إلى التصعيد مع العالم العربي والإسلامي وتعتبر هذا التصعيد تحت مسمى ( حرب الإرهاب ) هدفاً ؟!! .
إن أصابع الاتهام تشير إلى دعاة الصراع بين الحضارات ! وتشير إلى تجار السلاح والبترول ؟! .
• ذكرت صحيفة الشرق الأوسط نقلاً عن الواشنطن بوست من مقال (آلن كوبرمان) أن الزكوات والتبرعات للمراكز الخيرية والإسلامية في أمريكا قد انخفضت بسبب الحملة ضد الإرهاب وأن الرغبة أصبحت لعطاء الأفراد من الفقراء مباشرة خوفاً من الخطأ وخوفاً من أن تكون أسماء المتبرعين تسجل في إحدى شبكات المعلومات كما أن هناك خوفاً من الحكومة( ).
ملحق المطالب( )
نص المطالب الأمريكية لتعزيز الرقابة على الجمعيات الخيرية في الكويت:(2/222)
قدمت السلطات الأمريكية في إطار مساعيها لـ (تجفيف مصادر تمويل المنظمات الإرهابية، طلباً رسمياً إلى عدد من المنظمات الخيرية والمؤسسات التجارية في الكويت، عبر وزارة الخارجية الكويتية للحصول على وثائق وبيانات مالية وقيود حسابات بسبب الاشتباه في أن المبالغ التي تجمعها وتوزعها تساهم في تمويل أنشطة منظمات إرهابية، خصوصاً تنظيم (القاعدة) بقيادة أسامة بن لادن، وستقدم هذه الوثائق إلى فريق أمريكي مختص بدأ أفراده في الوصول إلى الكويت للاطلاع عليها والتدقيق فيها، وأثار هذا الطلب تحفظات لدى الجمعيات الإسلامية التي تعتبر نفسها مسئولة أمام القانون الكويتي وحده.
وفيما يلي الترجمة الحرفية لأهم المطالب لنص الطلب الأمريكي:
• طلب وثائق من الهيئات الخيرية والتجارية:
من أجل مساعدة فريق الخبراء على فهم أفضل لأعمال المنظمات الخيرية والهيئات التجارية في الكويت، نقدر لكم تعاونكم في توفير أكبر عدد ممكن من الوثائق المحددة أدناه عن كل منظمة للفريق لدى وصوله (إلى الكويت) بهدف مراجعتها والسجلات المطلوبة ينبغي أن تغطي السنوات الثلاث الماضية.
• الجمعيات، المنظمات التجارية، والخيرية:
أ ) كل قيود حسابات المنظمة والسجلات المالية التي تحتوي – من دون أن تقتصر على ذلك - الدفاتر العامة، السجلات العامة، الدفاتر والسجلات الفرعية، الفواتير وقيود الدخل ، قسائم المبالغ النقدية وقيود النفقات، دفاتر وسجلات المبيعات والمشتريات، دفاتر حسابات الدخل والإنفاق، قيود الديون الهالكة، قيود كلفة السلع المباعة، دفاتر القروض الملتقاه والممنوحة، بيانات الدخل، بيانات الموازنة، وكل صكوك الإنفاق بما فيها فواتير المبالغ المدفوعة نقداً، هذه القيود يجب أن تشمل وثائق مالية عن الموازنة التي تحدد مصادر دخل المنظمة وأصولها ونفقاتها، والمطلوب أيضاً تقديم وثائق إسناد عن النفقات التي تشمل استخدام وسطاء، كونها ذات أهمية خاصة.
ب ) بيانات عن أهداف المنظمة وبرنامج الخدمات المقدمة، قوانينها وبنيتها التنظيمية يجب أن تشمل تحديد الهيكلة والهرمية، بما في ذلك المكاتب في داخل البلاد وخارجها، إذا كان لها فروع، والعناوين وأرقام الهواتف ولائحة بالمستخدمين ومواقعهم وأي معلومات تعريفية أخرى.
ج) كل البيانات المالية، ودفاتر قيد ومسودات حسابات التي استخدمت تحضيراً للقيود المنظمة أو الضرائب المرتجعة، النسخ المحفوظة لكل الضرائب الأجنبية أو الأمريكية المرتجعة، بما في ذلك المعلومات والجداول عن الضرائب المرتجعة.
د) الهويات المفصلة، وثائق التعريف المرفقة للطلبات، قيود الدفع وكل الوثائق الأخرى، المتعلقة بمتلقي الهبات، أو القروض أو النفقات المنح الدراسية والرواتب والمدفوعات الأخرى، هذه السجلات يجب أن تتضمن ملفات عن كل المساعدات المقدمة إلى الأفراد أو المنظمات في الكويت، وكذلك في الدول الأجنبية، مثل أفغانستان والشيشان والصومال والفلبين والباكستان.
هـ) الهويات المفصلة، وثائق التعريف المرفقة، قيود التعويضات وكل الوثائق الأخرى المتعلقة بالمسئولين والمدراء والأمناء والموظفين والمستشارين وكل خدمات المنظمة.
و) الهويات المفصلة، وثائق التعريف المرفقة وكل الوثائق الأخرى المتعلقة بالأفراد والهيئات الذين قدموا هدايا أو مساهمات أو أوصوا بأموالهم أو أي تقديمات مالية أخرى للمنظمة، هذه القيود يجب أن تشمل معلومات عن أنشطة أي جمع تبرعات تشرف عليها المنظمة.
ز) الوثائق المتعلقة بالحسابات مع مؤسسات مالية بما في ذلك المصارف والوسطاء الماليين ومكاتب الصيرفة، هذه الوثائق يجب أن تشمل البيانات المصرفية، صكوك الإيداع، قيود الشيكات، الشيكات الملغاة، أوامر السحب والإيداع، سجلات تواريخ قيمة المبالغ المودعة، قيود الشيكات المودعة صكوك السحب وثائق الإيداع، شراء شيكات مصرفية، التحويلات الهاتفية، أوامر التحويل وطلبات التحويلات الهاتفية.
• اللقاء مع الأفراد:
إضافة إلى مراجعة أنواع القيود الواردة أعلاه سيقدر الفريق غالباً فرصة اللقاء مع أفراد يمكن أن يقدموا له معلومات عن البنود التالية:
أ ) الإجراءات التي تعتمدها المنظمة للموافقة على المشاريع أو الأشخاص الذين يتلقون المبالغ الخيرية، وكذلك الإجراءات المتبعة لصرف المبالغ للمتلقين.
ب ) مصادر وأنواع الهبات التي تلقتها المنظمات خلال السنوات الثلاث الماضية.
ج) متلقو المساعدات من المنظمات خلال السنوات الثلاث الماضية.
د) المسئولون الحكوميون المعنيون بمراقبة المنظمات ونشاطاتها.
• السجلات المطلوبة من المؤسسات المالية:
إذا كان هناك حاجة لطلب وثائق من المصارف أو أي مؤسسات مالية أخرى في الكويت تتعلق بفرد أو بهيئة فستكون على النحو التالي:
أ ) قيود حسابات الادخار: تشمل بطاقات التواقيع، دفاتر القيد أو السجلات التي توضح تواريخ وقيمة المبالغ المودعة والمسحوبة والفوائد وأوامر السحب والإيداع وقسائم الإيداع والشيكات المودعة وقسائم السحب والشيكات المسحوبة.
ب ) قيود حسابات الشيكات: تشمل بطاقات التواقيع والبيانات المصرفية وقسائم الإيداع والشيكات المودعة والشيكات المسحوبة على الحساب وقيود أوامر السحب والإيداع.
ج) قيود القروض: تشمل الطلبات والبيانات المالية وضمان القرض والتحقيق المصرفي عن المداخيل واتفاقات القروض والرهونات وبينات التسديد والعقود والشيكات الصادرة للقروض وقيود التسديد، بما في ذلك قيود التواريخ والمبالغ وطريقة الدفع (نقداً أو بالشيكات) والشيكات المستخدمة لتسديد القرض وسجل يكشف القيمة الإجمالي للحسم على الفائدة المدفوع سنوياً، وقيود لأي حجوزات أو ملفات مراسلات القرض والمذكرات الداخلية للمصرف.
د) قيود صناديق الأمانات الشخصية: بما في ذلك العقود سجلات الاستخدام وسجلات كلفة التأجير التي تكشف تواريخ وقيمة وكيفية الدفع (نقداً أو بالشيكات).
هـ) شهادات الإيداع وشهادات السوق المالية: بما في ذلك الطلبات ووسيلة الشراء، وقيود الشراء وقيود استرداد القيمة والشيكات الصادرة لدفع قيمتها والشيكات المدفوعة لشراء الشهادات وأي مراسلات وقيود تكشف عن الفائدة السنوية المدفوعة أو المتراكمة وتواريخ الدفع أو تواريخ سحب الفائدة، والشيكات الصادرة لدفع الفائدة.
و) قيود بطاقات الإئتمان: بما في ذلك طلب الزبون وبطاقة توقيعه، والتحقيق على مدخوله وخلفيته، والمراسلات وبيانات الفواتير الشهرية وفواتير الفائدة الفردية، وقيود التسديد التي تشمل تواريخ وقيمة وكيفية التسديد (نقداً أو الشيكات) وصور الشيكات المستخدمة للتسديد، على الوجهين.
ز) شراء الشيكات المصرفية: قيود شراء الشيكات المصرفية بكل أنواعها وشيكات السفر (ترافلرزتشيكس) أو قيود الأوامر المالية بما في ذلك سجل الشيك وصور الشيكات أو الأوامر المالية، وقيود تكشف تاريخ ومصدر الدفع لقيمة الشيك أو الأمر المالي.
ح) قيود أخرى: سجلات الشيكات المضمونة، التحويلات الهاتفية، التحصيل ورسائل الاعتماد والصكوك والسندات المالية والمشتراة بواسطة المصرف، تحويلات صكوك الادخار، وحسابات الفوائد، والقيود التي تحدد تواريخ وقيمة التحويل وطريقة الدفع ومصدره ووسيلة وبيان التحويل.
احصل على نسخة من الموضوع على ملف وورد
-----------------(2/223)
(*) تم تقديم هذه الورقة إلى مؤتمر باريس الدولي للمنظمات الإنسانية والخيرية بتاريخ 9-10/1/2003م، وهي مقتبسة من كتاب تحت الطبع للدكتور محمد السلومي بعنوان (القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب) للحصول على معلومات أكثر عن الكتاب انظر موقع www.thamarat.com وللتواصل وإثراء الموضوع بمقترحات أو وثائق تخدم الكتاب يمكن مراسلة المؤلف على البريد الإلكتروني التالي: khyr2002@yahoo.com
- - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
تطوير الخطاب الديني ... 2
الأمة الإسلامية من جديد وليس الشرق الأوسط الجديد ... 85
المراهقة: خصائص المرحلة ومشكلاتها ... 145
نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي ... 167
العربية من الدَّين ... 186
المراد الشرعي بالجماعة وأثر تحقيقه في إثبات الهوية الإسلامية ... 190
رسالة المسلم في حقبة العولمة ... 261
مُخَالَفَةُ أَصْحَابِ الجَحِيمِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمشْرِكِينَ ... 309
قتلوه قتلهم الله ... 316
الاكتئاب ... 322
رأس من دعاة تغريب المرأة يطالب ... ! وبماذا ردت عليه الدكتورة ؟ ... 329
الهزيمة النفسية ... 334
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة! ... 337
مقالات في الصحوة ... 346
أنثى .. ضد الأنوثة ... 353
تغيير الخطاب النسوي الإسلامي ... 357
المؤسسات التربوية والتعليمية ودورها في تحقيق معنى الوطنية ... 362
لا تحسبوه شراً لكم ... 364
سيبقى العطاء دليل انتماء ... 367
يا أبتي.. كيف أكون رجلاً ؟ ... 368
إعادة صياغة للمجتمع!! ... 374
تونس: ليلٌ طويل.. أم فجرٌ قريب! ... 376
أمة تذوب إنهزاما ..؟ ... 378
الديمقراطية المزخرفة ومحاذيرها ... 381
مَنْ يتبنَّى للأمَّةِ مشروعَاتِها؟ ... 399
حرية الفكر ... 402
العلمانية إلى أين ؟ ... 404
أوينكأ الجرح... يا مسلمون ... 407
ماذا وراء الدعوة إلى تغيير مناهج التدريس ؟ ... 410
مذكرات عادل كامل-البحريني- العائد من غوانتنامو ... 415
عراق البعث ... أم عراق الإسلام !! ... 458
الفريسة الضائعة ... 463
نحو تطوير معرفي إسلاميٍ لمناهجنا الدراسية ... 472
"المتمسلمون" ... 476
سلاح معاصر اسمه (المرأة) ... 481
كيف ننصر الله ..؟ ... 483
تحفيظ القرآن .. أرقام وحقائق ... 487
رمز التميز ... 491
قراءة .. في المناهج الشرعية في المملكة العربية السعودية ... 492
العظماء دروس تهدي الأمة ... 527
إدارة التناقض ... 531
معاشر الشباب! ... 533
رباط عنق أم اختناق هوية ؟ ... 540
إلى كل من هام بالبرتقالة .... ... 547
المؤسسات الخيرية الدعوية ... 554
إعداد المعلم في الفكر التربوي الإسلامي" ... 579
احذر ثقافة المهزومين ... 596
هم العدو فاحذرهم ... 604
حقيقة الارتباط بين العرب والعروبة والإسلام ... 610
الرد المبين على ما قاله ممثل "التجمع السلفي" ... 616
فتنة مسايرة الواقع ... 640
مشروع إصلاح ونهضة الأمة الإسلامية وتحرير البلاد والعباد ... 656
الإسلام والغرب شقاق أم وفاق ... 677
عسى أن أكون شهيد الغد ... 755
دوافع الحملة الإعلامية الأمريكية على المؤسسات الخيرية الإسلامية (*) ... 769(2/224)
المسلم بين الهوية الإسلامية والهوية الجاهلية (3)
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الإسلام والآخر الحوار هو الحل
بقلم
حمدى شفيق
رئيس تحرير جريدة النور الإسلامية المصرية
بسم الله الرحمن الرحيم
]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الله عليم خبير[
صدق الله العظيم
(الحجرات : 13)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد ..
فإن علاقة المسلمين بالآخر هى من أهم الموضوعات المطروحة الآن على الساحة ، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م فى الولايات المتحدة الأمريكية ، وما تلاها من احتلال القوات الأمريكية لأفغانستان ثم العراق ، وكذلك استمرار المذابح المروعة التى يرتكبها الاحتلال الصهيونى فى فلسطين ، وتعرض المسلمين للمظالم والفتك والتشريد فىكشمير والشيشان وغيرهما ..
ويُثار الكثير من الأسئلة فى ظل الحملات الإعلامية المسعورة ضدنا فى وسائل الإعلام الغربية : ما هو مضمون علاقة المسلم بالآخر ؟ أهو الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى ، أم هو الصراع والتربص والقتال الضارى حتى يهلك الأعجل من الفريقين ؟! وماذا يقول التاريخ عنا وعنهم ؟ وما هو وضع الأقليات الإسلامية فى الخارج فى ظل هذه الظروف ؟ وما هى الأحكام المنظمة لأوضاع غير المسلمين فى المجتمعات الإسلامية ؟ وما هى الوسائل التى يمكن من خلالها أن يسمع الآخر صوت الإسلام والمسلمين لعله يتذكر أو يخشى ؟ .
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يأتى هذا الكتاب ، وهو جهد متواضع نسأل الله أن يتقبله بكرمه وجوده وإحسانه ، وأن يغفر لنا ما كان من زلل أو تقصير، إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير .
حمدى شفيق
الفصل الأول
نظرية صراع الحضارات
لم يكن صمويل هنتنجتون هو أول من زعم وجود صراع بين الحضارات، فالحملة على الإسلام والمسلمين تعود إلى قرون ، بل بدأت مع ظهور الدعوة الإسلامية المباركة منذ 14 قرناً من الزمان .. وتبلورت أكثر فى أوقات الحروب الصليبية وحملة الإبادة الجماعية لمسلمى الأندلس ، ثم رسخت جذور العنصرية الغربية أكثر فى حقبة الاستعمار الأوروبى لمعظم بلاد العالم الإسلامى .. ثم وجد الغرب نفسه بحاجة إلى ملء الفراغ الذى سببه انهيار الشيوعية وزوال خطرها باختلاق خطر آخر ؛ لأنه من الصعب بعث الحياة فى فكرة أوروبا الموحدة إن لم يكن هناك خطر خارجى .. وبطبيعة الحال تستثمر الدوائر الصهيونية فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مثل هذه الأوضاع لسكب مزيد من البنزين على نار التعصب ضد العرب والمسلمين ، والإلحاح باستمرار وعبر وسائل الإعلام الخاضعة لنفوذهم على مقولة صراع الحضارات .. وتجدر الإشارة هنا إلى أن صمويل هنتنجتون صاحب النظرية الأشهر بهذا الصدد يهودى الديانة ، فضلاً عن علاقاته الوثيقة بدوائر المخابرات الأمريكية ، ولهذا دلالته التى لا تخفى على أحد .. كما أنه نقل النظرية عن أستاذه برنارد لويس وهو يهودى أيضًا ..
وقد سبق هنتنجتون فى حكاية الصراع هذه الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون الذى أكد صراحة فى كتابه (الفرصة السانحة) أو (انتهزوا الفرصة) أن العالم الإسلامى هو العدو المستقبلى للغرب بعد انهيار الاتحاد السوفيتى .. وكرر ذات المقولة أمين عام سابق لحلف شمال الأطلنطى .. ثم تلاه فرانسيس فوكوياما الأمريكى من أصل يابانى الذى تحدث عن قرب نهاية التاريخ وانتصار الحضارة الغربية على العالم الإسلامى .. وهناك أيضًا الحملات المسعورة التي يقودها كبار المنصرين أمثال جراهام بل وبات روبرتسون وجيمى سواجارات ، والتى تلح على ضرورة ضرب الإسلام تمهيدًا لحرب (هرمجدون) المزعومة التى يقود فيها السيد المسيح اليهود والنصارى للقضاء على المسلمين والوثنيين ، ولهذا .. لابد - من وجهة نظر هؤلاء - من دعم إسرائيل واستمرارها، لأن قيامها وبقاءها شرطان لازمان لوقوع (هرمجدون) المزعومة !!
و (هرمجدون) كلمة عبرية تعنى إما : تل مجيدون شمال فلسطين وهو موجود هناك ويعرفه الأهالى باسم: تل المجيدية، أو أن معناها جبل مجيدو وهو موجود بفلسطين أيضاً . وأهم كتاب دينى أمريكى يكشف خلفية الأمريكان المؤمنين بحكاية هرمجدون هذه فى حربهم المقبلة مع المسلمين وعقيدتهم الشيطانية هو كتاب (Forcing of God's Hand) - ترجمة حسام تمام - وهو أهم ما صدر فى الشأن الدينى الأمريكي فى العام الماضي . وربما كان من أهم الكتب التى عالجت باقتدار قضية التوظيف السياسي - الذى يصل إلى حد الابتزاز - للنبوءات الدينية فى العقد الأخير من القرن العشرين. والمؤلفة هى الكاتبة الأمريكية المعروفة جريس هالسل التى عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون، وهى صحفية مشهورة ومرموقة صدرت لها عدة كتب، أهمها وأكثرها شهرة (النبوءة والسياسة) .. والكتاب عبارة عن إجابات عن أسئلة جمعتها المؤلفة من سلسلة مقابلات شخصية مع مسئولين من مراجع كنسية أمريكية مختلفة ، وتتصدى فيه جريس هالسل - ربما لأول مرة - لظاهرة المنصرين التوراتيين التلفزيونيين، الذين يمثلون اليمين المسيحي المتطرف فى الولايات المتحدة الأمريكية، والذى يعرف إعلاميا بـ (الصهيونية المسيحية). وهى الظاهرة التى تجسد أغرب وأسوأ أشكال الدجل السياسي الدينى فى العقد الأخير، ربما على مستوى العالم كله، والتى صنعها عدد من المنصرين التوراتيين الذين احترفوا تقديم برامج تليفزيونية عن النبوءات التوراتية التى تبشر بقرب نزول المسيح المخلص ونهاية العالم فيما يعرف بمعركة (الهرمجدون)، واستطاعوا من خلال نشاطهم - الذى يعد أكبر وأهم حركة تنصير فى تاريخ المسيحية - إقامة ما يعرف بـ (حزام التوراة)، والذى يتكون من مجموعة ولايات الجنوب والوسط الأمريكي، والتى تكونت فيها قطاعات واسعة من المسيحيين المتشددين دينياً والمؤمنين بنبوءة (الهرمجدون)، أو نهاية العالم الوشيكة والمرتبطة بنزول المسيح المخلص من الشر والخطيئة. ويعتمد خطاب المنصرين التوراتيين على رؤية سهلة للحياة، مفادها أن العالم أصبح تملؤه الشرور والخطايا، وهو ما سيعجل بظهور (المسيح الدجال) وجيوش الشر . ولن يصبح هناك حل لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور إلا عودة المسيح المخلص لانتزاع المسيحيين المؤمنين من هذا العالم الملئ بالخطيئة والشر، وهذا الخلاص - عندهم - رهين بعودة المسيح فقط . أما المطلوب عمله من هؤلاء المؤمنين فهو السعى لتحقيق هذه النبوءة أو الإسراع بإجبار يد الله على تحقيق (النبوءة)!. وتحقق النبوءة عندهم رهن بقيام إسرائيل الكبرى وتجميع كل يهود العالم بها، ومن ثم فلابد من تقديم وحشد كل التأييد المادى والمعنوى، المطلق وغير المحدود أو المشروط للكيان الصهيوني؛ لأن ذلك هو شرط نزول المسيح المخلص .(3/1)
والطريف أن هذا التأييد لا يعنى الإيمان باليهود أو حتى مبادلتهم مشاعر الحب أو التعاطف معهم، لأن هؤلاء التوراتيين يعتقدون أن المسيح المخلص سيقضى على كل اليهود أتباع المسيح الدجال الذين سيرفضون الإيمان به، أى أنهم يدعمون الكيان الصهيونى باعتباره وسيلة تحقق النبوءة فقط . هذه العقيدة تلقفها كبار القادة اليهود فى أمريكا والكيان الصهيونى، وخاصة من اليمين الديني المتطرف الذى يسيطر على مجريات ومقاليد اللعبة السياسية، واستغلوها جيداً للحصول على كافة أشكال الدعم والتأييد . وهم لا يعنيهم محبة اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا أو إيمانه بهم بقدر ما يعنيهم ما يدره عليهم الإيمان بهذه النبوءة من أموال ودعم سياسي واقتصادي غير محدود. فبفضلها تتدفق الرحلات السياحية الأمريكية على الكيان الصهيوني، وتنظم مظاهرات التأييد وحملات جمع التبرعات، وتسخر الإدارة والسياسة الأمريكية لخدمة المصالح الصهيونية، خاصة مع تزايد إيمان الشعب الأمريكي بهذه النبوءة والاعتقاد بها، حتى أن استطلاعا أجرته مجلة (تايم) الأمريكية سنة 1998 أكد أن 51% من الشعب الأمريكي يؤمن بهذه النبوءة ، ومن هؤلاء عدد كبير من أعضاء النخبة الحاكمة فى الولايات المتحدة، بعضهم وزراء وأعضاء فى الكونجرس وحكام ولايات . بل ويؤكد الكتاب أن جورج بوش، وجيمي كارتر، ورونالد ريجان كانوا من المؤمنين بهذه النبوءة ، والأخير كان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية على أساس النبوءات التوراتية .
وتكشف جريس هالسل فى كتابها عن أن هناك اقتصاديات ضخمة تقوم على هذه النبوءة التى تدر مليارات الدولارات سنوياً على نجوم التنصير التوراتي، الذين يمتلكون عشرات المحطات التلفزيونية والإذاعية فى أمريكا وأنحاء العالم، وأبرزهم بات روبرتسون الذى يطلق عليه لقب (الرجل الأخطر فى أمريكا).. فقد أسس وحده شبكة البث المسيحية (CBN)، وشبكة المحطة العائلية إحدى كبريات الشبكات الأمريكية، كما أسس التحالف المسيحي الذى يعد الأوسع نفوذاً وتأثيراً فى الانتخابات الأمريكية بفضل ملايين الدولارات التى يحصل عليها كتبرعات من أتباعه ومشاهدى نبوءاته التلفزيونية، وكذلك بات بيوكاتن الذى كان مرشحاً لانتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة عن حزب الإصلاح .
وتعد برامج هؤلاء المنصرين التوراتيين من أمثال هالويل، وجيري فالويل، وتشارلز تايلور، وبول كرواسي ، وتشال سميث ، وروبرتسون ، وبيوكاتن ، من أكثر البرامج جماهيرية فى الولايات المتحدة كما تشهد أشرطة الفيديو والكاسيت التى تحمل هذه البرامج رواجاً هائلاً فى أوساط الطبقة المتوسطة الأمريكية (ومعظم المؤمنين بهذه النبوءة منها وهم بالملايين)، وكذلك الكتب الخاصة بها والتى صارت تباع كالخبز؛ حتى أن كتاب (الكرة الأرضية العظيمة المأسوف عليها) للمنصر التوراتى هول ليفدسى بيعت منه أكثر من 25 مليون نسخة بعد أيام من طرحه فى الأسواق. وينتشر المنصرون التوراتيون فى معظم أنحاء الولايات المتحدة فى عدة آلاف من الكنائس التى يعملون فى كهانتها، عبر مؤسسة الزمالة الدولية لكنائس الكتاب المقدس. ويؤمن أتباع هذه النبوءة بأنهم شعب نهاية الزمن، وأنهم يعيشون اللحظة التى كتب عليهم فيها تدمير الإنسانية، ويؤكدون قرب نهاية العالم بمعركة الهرمجدون التى بشرت بها التوراة، والتى سيسبقها اندلاع حرب نووية تذهب بأرواح أكثر من 3 مليارات إنسان! وتبدأ شرارتها من جبل الهرمجدون الذى يبعد مسافة 55 ميلاً عن تل أبيب بمسافة 15 ميلاً من شاطئ البحر المتوسط، وهو المكان الذى أخذ أكبر حيز من اهتمام المسيحيين بعد الجنة والنار!.
وتحلل جريس هالسل كيف أفرزت هذه الحركة المسيحية أكثر من ألف ومائتى حركة دينية متطرفة، يؤمن أعضاؤها بنبوءة نهاية العالم الوشيكة فى الهرمجدون، وترصد سلوك وأفكار هذه الحركات الغريبة التى دفعت ببعضها الى القيام بانتحارات جماعية من أجل التعجيل بعودة المسيح المخلص وقيام القيامة، ومنها جماعة (كوكلوكس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد وحليقو الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة والتى قاد فيها (كورش) أتباعه لانتحار جماعى قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) بولاية تكساس من أجل الإسراع بنهاية العالم، وكذلك القس (جونز) الذى قاد انتحاراً جماعياً لأتباعه أيضاً فى (جواينا) لنفس السبب، وقد كان (ماك تيموثى) الذى دبر انفجار (أوكلاهوما) الشهير من المنتمين لهذه الجماعات .
ويكشف الكتاب عن العلاقة العنصرية الغريبة التى تربط بين اليمين المسيحي المتطرف فى أمريكا ونظيره اليهودى فى الكيان الصهيونى ، على الرغم من التناقض العقائدى بينهما. العلاقة التى تقوم على استمرار الدعم والتأييد المطلق رغم الكراهية المتبادلة! فتؤكد هالسل أن اللاسامية نوعان: نوع يكره اليهود ويريد التخلص منهم وإبعادهم بكل الوسائل، ونوع آخر يكرههم، ولكن يريد تجميعهم فى فلسطين مهبط المسيح فى مجيئه الثانى المنتظر.
وتشرح هالسل كيف يستفيد الكيان الصهيونى من هذه النبوءة التى تمنع المسيحي الأمريكي المؤمن بها من التعامل الراشد مع الواقع، وتجبره على رؤية الواقع والمستقبل فى إطار محدد ومعروف سلفاً، وهو ما يؤدى إلى الوقوع فى انتهاكات أخلاقية فاضحة تأتى من تأييد المشروع الصهيوني العنصرى الذى يقوم على الاستيطان، وتهجير الآخرين، وطردهم من أرضهم، والاستيلاء عليها، بل والقيام بمذابح جماعية ضدهم، وهو ما يظهر فى التعاطف الذى يبديه المسيحيون التوراتيون مع السفاحين اليهود إلى حد المشاركة فى المجازر التى يرتكبونها ضد الفلسطينيين، كما فعل بات روبرتسون الذى شارك فى غزو لبنان مع إريل شارون والمذابح الوحشية التى ارتكبها وشارك معه متطوعون من المسيحيين التوراتيين الذين حاربوا مع الجيش الصهيوني، وهى المعلومات التى حرصت هالسل على ذكرها رغم الحظر المفروض عليها إعلامياً فى الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. كما تكشف هالسل عن أن معظم المحاولات التى جرت لحرق المسجد الأقصى أو هدمه وبقية المقدسات الإسلامية فى القدس من أجل إقامة الهيكل موَّلها وخطط لها مسيحيون توراتيون من المؤمنين بنبوءة الهرمجدون وإن لم يشاركوا فيها !!. وفى فكر المنصرين التوراتيين تغيب كل معانى المحبة والتسامح المقترنة بالمسيحية، ويبدو المسيح فى أحاديثهم فى صورة جنرال بخمسة نجوم يمتطي جواداً، ويقود جيوش العالم كلها، مسلحاً برؤوس نووية ليقتل مليارات البشر فى معركة الهرمجدون(1) .(3/2)
ولا ننسى تصريحات العجوز الشمطاء مارجريت ثاتشر رئيس وزراء انجلترا الأسبق - فى عدة مناسبات - المعادية للإسلام والمسلمين ، وأيضًا بيرلسكونى رئيس وزراء إيطاليا حليف عصابات المافيا الدولية ، رغم اضطراره إلى الاعتذار عنها فيما بعد ، ثم السقطة المدوية للرئيس الأمريكى جورج بوش الابن الذى وصف حربه العدوانية ضد العراق بأنها (حملة صليبية) جديدة !! ولا يجدى طبعًا فى محو أثر هذه العبارة بالغة الخطورة ، الادعاء بأنها كانت (زلة لسان) ، أو قيام بوش بعد ذلك بزيارة المركز الإسلامى فى واشنطن لتهدئة مشاعر المسلمين ، لأن بوش من أتباع الكنيسة المتطرفة التى تؤمن كما أشرنا بضرورة قيام ودعم دولة إسرائيل تمهيدًا لمعركة (هرمجدون) المزعومة لسحق المسلمين والوثنيين وبدء الألف عام السعيدة لهم على الأرض بعد تخلصهم من غير المسيحيين !!! طبعًا لو قلنا نحن هذا لقامت الدنيا ولم تقعد احتجاجًا على وحشية المسلمين وأفكارهم التصفوية التى تعمل على إبادة الآخرين واستئصالهم ، ولكن لأن هذه هى نظرية كثير من السادة الأمريكان فلا وجود لأية ردود أفعال تذكر!!!
ولأن نظرية هنتنجتون هى الأشهر فسوف نعرضها فيما يلى بإيجاز ثم يأتى الرد عليها تفصيليًا :
تحدث صمويل هنتنجتون عن صراع الحضارات لأول مرة فى مقال نشره عام 1993 فى مجلة (فورن أفيرز) ثم فى كتاب كامل وقال : إنه بعد انتهاء الحرب الباردة سوف تسيطر الصراعات بين الحضارات . وأن (الإسلام تحيط به حدود دموية ، ويبدو أن ما يحدث فى تيمور الشرقية والشيشان وكوسوفا والعراق وكشمير يؤكد هذه الملاحظة . وسواء اعتقد المرء ذلك أم لم يعتقد فإن اللوم يقع على الإسلام !!
وفى عام 1996 قدم هنتنجتون وجهة نظره فى كتاب بعنوان : (صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى) وصفه هنرى كيسنجر بأنه يقدم إطارًا جريئاً لفهم السياسات العالمية فى القرن الحادى والعشرين ، وقال كيسنجر : إن تحليلات هنتنجتون تثبت صحتها ودقتها إلى درجة تنذر بالخطر . وتتلخص نظريته فى أن الحضارات الرئيسية المعاصرة هي الحضارات الصينية، واليابانية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والأرثوذكسية ، والغربية (أوروبا وأمريكا) وحضارة أمريكا اللاتينية . والحضارات الأربع الكبرى فى العالم هى الحضارات الصينية ، والهندوسية ، والإسلامية ، والحضارة الغربية ، وكل من هذه الحضارات تضم حوالى مليار نسمة ، وكل حضارة منها لها دين مؤسس لها تشكلت وتبلورت حوله ، وهذه الديانات هى: الإسلام، والمسيحية، والكونفوشية ، والهندوسية ، وتعتبر كل من الصين والهند قلبًا أو محورًا لحضارة كل منهما ، أما الغرب فينظر إليه على أنه منقسم إلى محورين رئيسيين هما : الولايات المتحدة وأوروبا . وبالنسبة للإسلام فليست هناك دولة تمثل قلب أو محور حضارته ، وهذا ما يجعل من الصعوبة فهم الإسلام وحضارته بالنسبة لمن هم خارج هذه الحضارة ، ويقول هنتنجتون أيضًا : إن صراع الإسلام والغرب يثير مشكلات ضخمة للعالم بطريقة أو بأخرى .
إن الغرب يطالب بسيطرة فريدة على العالم ، والمبرر لذلك أنه يمثل القوة العالمية القائمة على أساسين هما : تفوق التكنولوجيا الأمريكية ، وتفوق الأيديولوجية العالمية القائمة علىالليبرالية وحقوق الإنسان . وتنظر الحضارات الأخرى إلى الغرب على أنه يمتلك قوة عسكرية واقتصادية خطيرة ، ولكنه منهار من الناحية الاجتماعية . ويتمثل هذا الانهيار الاجتماعى فى التفكك الأسرى ، وعدم التمسك بالمعتقدات الدينية , وانتشار الجريمة ، والمخدرات ، وارتفاع نسبة المسنين , وانتشار البطالة.. أما الغرب فإنه ينظر إلى نفسه على أنه نموذج لحضارة القرن الحادى والعشرين ، وتنظر إليه الحضارات الأخرى على أنه نموذج سيىء يحسن تجنبه وليس محاكاته .
ويضيف هنتنجتون : إن الغرب يسيطر على العالم الآن سيطرة كاملة، وسيظل مسيطرًا ومتفوقًا فى القوة خلال القرن الحادى والعشرين ، إلا أن التغييرات التدريجية والحتمية الأساسية تؤثر أيضًا على توازن القوى بين الحضارات، وستأخذ قوة الغرب فى الاضمحلال . فخلال خمسة وسبعين عامًا من 1920 حتى 1995 تراجعت السيطرة السياسية للغرب على المناطق العالمية بنسبة 50% , وتراجعت نسبة من يسيطر عليهم الغرب من سكان العالم 80%، وتراجعت سيطرة الغرب على الصناعة العالمية بنسبة 35% ، أما سيطرة الغرب على القوة العسكرية فقد تراجعت بنسبة 60% . وفى العالم 45 دولة مستقلة تنضوى تحت راية الإسلام ، وهو أقوى الديانات العالمية من حيث سيطرته الثقافية على المؤمنين به ، كما أنه دين له ميزة اقتصادية كبرى ، هى أنه يسيطر على معظم احتياطى البترول العالمى ، ولن ينضب هذا البترول إلا بعد سنوات طويلة جدًا , ولايزال الإسلام يمر بمرحلة النمو السكانى السريع ، ومن المتوقع أن يشكل المسلمون 30% من سكان العالم فى عام 2025 ، وقد تسببت الهجرة من الدول الإسلامية إلى دول أوروبا فى ردود فعل شديدة فى أوروبا ، حتى إن نصف عدد الأطفال فى بروكسل - مقر الاتحاد الأوروبى - يولدون من أمهات عربيات ، ويشكل الشباب المسلم الساخط العاطل عن العمل تهديدًا لأوطانهم الأصلية ولدول الغرب التى هاجروا إليها .. أما الصحوة الإسلاميةلاملام الجديدة فقد منحت المسلمين الثقة فى شخصيتهم المميزة ، وفى الإحساس بأهمية حضارتهم ، وفى القيم الإسلامية بالمقارنة بالقيم والحضارة الغربية فى العالم ، ويقول أيضًا : إن الخطر يكمن فى التفاعل بين هذه الصحوة والثقة الإسلامية التى تدعمها الزيادة السكانية المستمرة وبين مخاوف الحضارات المجاورة ، وهذه الحضارات المجاورة لحضارة الإسلام لديها شعور كامل بالخوف من التهديد الإسلامى .. الغرب قلق بسبب البترول وهواجس الانتشار النووى فى الدول الإسلامية , والهجرة من الدول الإسلامية، كما يشعر الغرب بالقلق على إسرائيل ، والانتقاص من حقوق الإنسان فى الدول الإسلامية . وكذلك فإن روسيا تشعر بالتهديد الإسلامى بصورة مباشرة ، ويتمثل فى انفصال الدول الإسلامية والمطالبة المسلحة للشيشان بالاستقلال ، وكذلك يخشى الصرب من قيام (ألبانيا العظمى) . وتخشى الهند من باكستان ، ومن جاذبية الإسلام لنحو مائتى مليون مسلم فى الهند واحتمال انسلاخهم منها، والصين أيضًا تشعر بالقلق تجاه المسلمين فى آسيا الوسطى ومن مطالبة المسلمين فى إقليم سنكيانج الصينى بالانفصال ، والصينيين فى أندونيسيا ، بل إن سكان أفريقيا جنوب الصحراء من غير المسلمين لديهم مخاوف أيضًا تجاه الإسلام .(3/3)
أما عن مستقبل العلاقة بين الحضارات الأربع : الحضارة الغربية وحضارة الصين وحضارة الهند والحضارة الإسلامية ، فإن هنتنجتون يرى أن الصراع بينها حتمى ، ويرى أن الإسلام يمثل مشكلة ليس لها حل ، وليس أمام الغرب إلا أن يظهر تفهمًا أكبر للصحوة الإسلامية ، لأن هذه الصحوة سوف تتطور فى المستقبل أكثر مما هى عليه الآن ، وعلى الغرب أن يغير ردود فعله تجاه هذه الصحوة الإسلامية ، لأن موقف العجرفة والشعور بالتفوق الثقافى ومشاعر العداء الصريحة من جانب الغرب تجاه الإسلام هى أسوأ ردود فعل ممكنة , وإن كان هنتنجتون يصل أخيرًا إلى التنبؤ بأن الدول المجاورة للإسلام ستفعل كما حدث فى صربيا وتتصدى للصحوة الإسلامية , وكما كان الخوف من الألبان المسلمين هو الذى أتى بميلوسيفيتش عام 1987 إلى السلطة على أمل أن يقضى بالمذابح على المسلمين ، ولكن لن يجد العالم الأمر سهلاً حين يسعى إلى تحجيم (الحدود الدموية) للإسلام وعدم اتساعها .
وهكذا فإن الخوف من الإسلام واعتباره هو (العدو) للحضارة الغربية وللحضارات الأخرى أصبح قائمًا على أساس نظرية متكاملة ، لها جذور تاريخية قديمة ، اكتملت وتبلورت على يد صمويل هنتنجتون أستاذ الدراسات الدولية فى جامعة هارفارد .. النظرية إذن نظرية أمريكية .. وهى فى حقيقتها ليست إلا تبريرًا فلسفيًا للحرب ضد الإسلام .. وقد ينكر بعض الأمريكيين أنهم يعتقدون صحة هذه النظرية .. ولكن ما تفعله أمريكا ليس إلا التطبيق العملى لها ، فالمفهوم الغربى فى هذا القرن - كما عبّر عنه هنتنجتون ، وكما نرى فى كتابات المفكرين والمحللين وتصريحات السياسيين ، ومواقف الدول الغربية ، وكما نرى على أرض الواقع - هو حوار بالصواريخ والطائرات والقنابل الذكية وآلة الحرب الهائلة التى تتحرك لتدمير دول إسلامية .
والدليل على نظرية هنتنجتون عن حتمية الصراع بين الإسلام والحضارة الغربية ما نراه فى مناهج تدريس التاريخ للتلاميذ فى أمريكا والدول الغربية من تصوير المسلمين وفقًا لأنماط ذهنية ثابتة stereotypes فى الوعى الأمريكى والأوروبى ، تعكس التحيز وفقدان الموضوعية عند الحديث عن الإسلام والمسلمين .
وفى دراسة للدكتورة فوزية العشماوى للكتب المدرسية فى المناهج الأمريكية والأوروبية أكدت أن ما يدرسه التلاميذ عن الإسلام والعالم الإسلامى لا يزيد عن 3% من المقرر الدراسى ، و 97% من المقرر مخصصة لتاريخ أوروبا وأمريكا , وفى الغالب يكون الجزء المخصص للعالم الإسلامى فى إطار بلاد العالم الثالث سواء من الناحية الجغرافية أم التاريخية ، أم فى إطار توزيع الثروات الطبيعية فى العالم وخاصة البترول ، بينما تجعل المناهج من أوروبا وأمريكا المحور الذى تدور حوله الأحداث التاريخية المهمة ، وكأن الدول الإسلامية هوامش أو زوائد . ويتبين ذلك من إغفال الأحداث التاريخية المهمة التى تعتبر علامات ثابتة فى التاريخ العربى والإسلامى ، ويتم التركيز فقط على الأحداث التى تبرز تفوق الغرب وانتصاره على المسلمين ، مما يؤكد حرص واضعى المناهج الدراسية على غرس الاتجاه لرفض (الآخر) العربى والمسلم ، على أساس أنه مختلف عن الإنسان الغربى ، وعدم تفهم دوره فى التاريخ وقيمة هذا الدور . وتشير الدكتورة فوزية العشماوى إلى دراسة قامت بها تحت إشراف اليونسكو عن صورة المسلم فى الكتب المدرسية فى فرنسا وأسبانيا واليونان وخاصة كتب التاريخ فى نهاية المرحلة الابتدائية ، وكانت نتيجة البحث أن التاريخ الذى يتم تدريسه للتلاميذ الأوروبيين الصغار يعلمهم أشياء مختلفة تمامًا عما يتم تدريسه للتلاميذ العرب والمسلمين ، وتقدم للتلاميذ الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم بمعلومات تجرح شعور المسلمين ، فتجد نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم يتم تقديمه أحيانًا على أنه شاعر يرى رؤى خارقة ، ويشار إليه بألفاظ توحى بالشك فى مصداقيته ، وفى أغلب الأحيان يبدأ تدريس الإسلام بذكر الانتشار السريع المخيف للإسلام بالغزوات فى صدر الإسلام ثم بالفتوحات فى القرنين السابع والثامن الميلاديين ، وكيف أن جيوش المسلمين زحفت إلى أوروبا واكتسحت تلك البلاد واستولت عليها بقوة السيف، ونهبت أموالهم وثرواتهم إلى أن تمت هزيمة المسلمين على يد (شارل مارتال) القائد الفرنسى الذى أوقف الغزو الإسلامى فى معركة (بواتييه) فى جنوب فرنسا عام 732 ميلادية .
كذلك يتم تصوير العرب فى حروبهم على أنهم يتعاملون بوحشية ، وتؤدى هذه الكتابات إلى أن تثبت فى أذهان الغربيين صورة المسلمين على أنهم الغزاة المتوحشون الذين يثيرون الرعب ، ويمثلون تهديدًا لجيرانهم . وفى الفصل الخاص بالحروب الصليبية تصور المناهج هذه الحروب على أنها كانت بهدف (تحرير بيت المقدس من أيدى الكفار) المسلمين الذين كانوا يحتلونها ويسيئون معاملة الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا لزيارة الأماكن المسيحية المقدسة فى القدس . ويدل على ذلك أن الأوروبيين مازالوا يرددون حتى اليوم الوصف الذى كان يطلق على المسلمين فى أوروبا فى القرون الوسطى ، وهو أنهم كفار دون محاولة من مؤلف الكتاب المدرسى لتصحيح هذا المفهوم الخاطىء.. وفى نفس الوقت تغفل المناهج الدراسية الإشارة إلى وحشية جيوش الصليبيين وعدم تسامحهم مع المسلمين سكان القدس حين انتزعوها من أيدى المسلمين عام 1099م , (بينما تعترف الموسوعات العلمية الكبرى بأن الصليبيين ذبحوا أكثر من 70 ألفًا من أهالى القدس المدنيين دون تمييز بين النساء والأطفال والشيوخ ، أو بين مسلمين ويهود ، وحتى بين المسيحيين من أهالى المدينة العزل ، ولا تشير المناهج إلى تسامح المسلمين حين استعادوا القدس عام 1187 على يد صلاح الدين الأيوبى الذى أصدر العفو عن كل الذين أساءوا إلى أهل المدينة) ، وهذه الواقعة سجلها التاريخ ، ولا يعلمها الغربيون لأنهم لم يدرسوها فى مدارسهم ، وتغفل المناهج الدراسية فضل العلماء والفلاسفة العرب المسلمين على النهضة الأوروبية فى القرن الخامس عشر الميلادى ، ونادرًا ما يذكر ابن رشد وابن المقفع والخوارزمى وابن سينا وابن النفيس الذين كانوا أساتذة ومعلمين لأوروبا بأسرها منذ القرن التاسع الميلادى ، ولهم اكتشافات علمية واختراعات ونظريات علمية وفلسفية كانت الأساس للنهضة الأوروبية حيت ترجمت أعمالهم إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية , وكثير من علماء عصر النهضة نسبوا لأنفسهم أفكارًا واكتشافات ونظريات المسلمين إلى أن بدأ بعض المستشرقين الغربيين يعترفون بفضل العرب والمسلمين على النهضة الأوروبية .
هكذا يعلمون تلاميذهم فى الغرب عن الإسلام والمسلمين ما يغرس الكراهية والعداء منذ الصغر ، فلا غرابة أن يعبروا عن هذه الروح العدائية عندما يكبرون ، ولا غرابة أن يظهر عندهم نظرية صراع الحضارات وحتمية الحرب العالمية الثالثة ضد الإسلام هذه المرة !(2) .
المراجع
(1) حمدى شفيق - العلماء يردون على أسطورة هرمجدون - الفصل الأول .
(2) رجب البنا - صناعة العداء للإسلام - دار المعارف - مصر .
الفصل الثانى
نقد نظرية الصراع(3/4)
تنطوى الرؤية الهنتنجتونية هذه للعالم المعاصر على قدر هائل من التلفيق العلمى و (لَىِّ) عنق التاريخ , ولعل التلفيق الأكبر يكمن فى تجاهله للدول والمؤسسات السياسية ، رغم الدور المحورى الذى تلعبه الدولة - سواء امبراطوريات الأسر القديمة أو الدولة القومية الحديثة - فى قيام أية حضارة ، فالغرب عنده هو كتلة واحدة متجانسة ، رغم الاختلافات الشديدة بين أمريكا من جهة والدول الغربية من جهة أخرى . والحضارة الإسلامية كذلك كتلة واحدة وليست دولاً وشعوبًا وقوميات مختلفة ، سواء كان ذلك فى ذورة قوتها ومجدها (عندما كانت حضارة عربية) إبان العصرين الأموى والعباسي ، أو كان ذلك فى ظل الخلافة العثمانية التى فرضت هيمنتها على جزء كبير من العالم القديم ، أو حتى فى العصر الراهن ، الذى تعانى فيه الدول الإسلامية من أقصى درجات الفقر والضعف الاقتصادى والسياسى والعسكرى والعلمى ، ناهيك عن التفكك فيما بينها .
ومن المعروف أنه لا يمكن لأى حضارة أن تقوم دون وجود مركز - الدولة - قوى اقتصاديًا وعلميًا وعسكريًا يقوم بدور الحاضن لها . ووفقًا لهذه الرؤية ، كانت الدولة العثمانية آخر مركز قوى - على الأقل عسكريًا - للحضارة الإسلامية . وفى ظل الوضع العالمى الراهن والتوازنات الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية ، لا يمكن لأية دولة إسلامية كبيرة نسبيًا (إيران ، مصر ، أندونيسيا ، باكستان ، تركيا) ، أن تقوم بدور (الدولة المركز) التى يمكن لها أن تقود هذه الحضارة الإسلامية المعاصرة - المزعومة - فى مواجهتها للحضارة الغربية - المزعومة أيضًا - أو أية حضارة هامشية أخرى .
أما التلفيق الأكبر الذى لجأ إليه هنتنجتون فهو رؤيته للحضارة الغربية ذاتها التى يصنفها استنادًا إلى معيارى الجغرافيا والدين فقط .
هذا التلفيق الهنتنجتونى يتعلق بجوهر الحضارة الغربية ذاته .
فالحضارة الغربية هى الحضارة الوحيدة غير الدينية، أو بتعبير أدق هى الحضارة الأولى الما بعد دينية . وهى ليست نتاج ثورة أو طفرة نوعية ، وإنما هى محصلة لتراكمات هائلة وسلسلة ممتدة ، على طول امتداد التاريخ البشرى، من التحولات والحركات الثقافية والاجتماعية والمكتشفات العلمية والسياسية الكبرى . فمنذ ثلاثة قرون ، أو أكثر قليلاً ، لم يكن هناك من يتحدث عن حضارة غربية ، فالمصطلح الذى كان سائدًا آنذاك هو (العالم المسيحى) ومع عصر الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية التى تلته ، وانتشار أفكار عصر التنوير وصعود الطبقة التجارية البرجوازية ، تغلغلت العلمانية بين قطاعات واسعة من السكان , وكفت أوروبا عن حروبها الدينية ولم تعد (العالم المسيحى)، ولم يظهر مصطلح (الحضارة الغربية) إلا فى أوائل القرن العشرين . وهو مصطلح ينطوى ضمناً على الوعى بأن هذه الحضارة ، على النقيض من الحضارات المهيمنة السابقة ، لا تضع الدين فى مكانة محورية بالنسبة لها .
والمفارقة أنه فى الوقت الذي يروج فيه هنتنجتون وأتباعه لمفهومه التلفيقى عن (الحضارة الغربية) فإن النخبة الثقافية والسياسية لم تعد تنظر إلى أمريكا باعتبارها جزءًا من - أو حتى ناقلة لـ - الحضارة الغربية ، بل ينظرون إليها باعتبارها مجتمعًا متميزًا يجسد التعددية الثقافية والعرقية ، ثقافته محصلة تفاعل ثقافى بين الثقافات الأوروبية ، والإفريقية ، والإسلامية ، والآسيوية ، والسلافية ... إلخ . وتضرب هذه الثقافات بجذورها فى الحضارات الإفريقية والأمريكية اللاتينية والكونفوشيوسية والإسلامية ، وليس الأوروبية فقط . وهكذا تبشر أمريكا بنموذجها الثقافى باعتباره النموذج الوحيد لعصر العولمة . وبعد أن قادت العالم قسرًا إلى تحقيق التجانس الاقتصادى والتجارى والقانونى على الصعيد الكونى ، فإنها تحاول تحقيق تجانس كونى مماثل على الصعيد الثقافى .
ونحن لا نرى فى أطروحة هنتنجتون حول صراع الحضارات سوى فكرة تعبوية ذات رائحة عنصرية لا تستند إلى أية حقائق علمية أو مبررات أخلاقية، هدفها فقط تبرير الصدامات العنيفة التى يشهدها العالم نتيجة لرفض أناس كثيرين لمنطق (الهيمنة والابتلاع) وليس لمنطق العولمة .
وإذا كان هنتنجتون يقصد بفكرته حول (صراع الحضارات) أن (الحضارة الغربية تواجه الحضارات الأخرى) فإن معناها الحقيقى هو (أمريكا فى مواجهة العالم)(1) .
ويرى المفكر السويدى إنجمار كارلسون أن نظرية الصراع بها عدة نقاط ضعف :
• فـ (هنتنجتون) يقسم العالم إلى سبع أو ثمانى حضارات كبرى : (الغربية وتحتوى على حضارة غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ، والحضارة الكونفوشيوسية، واليابانية ، والإسلامية ، والهندوسية ، والسلافية – الأرثوذكسية ، وحضارة أمريكا اللاتينية ، وربما الحضارة الأفريقية) . غير أنه لا يعزى أية مكانة مميزة للديانة اليهودية ، وهو فى هذا المقال يصف إسرائيل بأنها (صناعة الغرب) (تعمد هنتنجتون ذلك لأنه يهودى) .
• وتقسيم هنتنجتون لا يسير على نسق واحد ، فبعض الحضارات تعرف على أساس معايير دينية وثقافية ، غير أن العامل الرئيس فى حالات أخرى هو الجغرافيا . وما الذى يميز حضارة أمريكا الشمالية عن حضارة أمريكا اللاتينية؟ إن كلاً من أمريكا الشمالية والجنوبية يقطنها المهاجرون الأوروبيون الذين حملوا معهم قيمًا لازالوا يتمسكون بها حتى الآن ، ومن الصحيح أن عنصر الهنود الحمر هو أكبر بكثير فى دول معينة من أمريكا اللاتينية كالمكسيك وجواتيمالا وبيرو والإكوادور عما هو عليه فى الولايات المتحدة ، غير أنه من الصحيح أيضًا أن تشيلى والأرجنتين وكوستاريكا هى أكثر أوروبية من الولايات المتحدة الأمريكية التى تتحول سريعًا إلى حضارة إسبانية ، وفى الواقع فكل من أمريكا الشمالية واللاتينية يمكن تمييزهما كحضارات غربية تمتزج بكل منها عناصر حضارية أخرى بدرجات متفاوتة.
وهل الفيليبينيون الكاثوليك غربيون أم آسيويون ؟ إن (هنتنجتون) يتحدث عن الحضارة البوذية , لكن ما الذى يجمع بين التايلانديين وأهل التبت والمغول والقلموقيين الذين يعيشون فى اتحاد الجمهوريات الروسية ؟
وأين يوجد العالم الكونفوشيوسى الذى يتحدث عنه (هنتنجتون) ؟ فعلى الرغم من الموروث الكونفوشيوسى المشترك ، فإن الصين وفيتنام كانتا دومًا أعداء, فـ (فيتنام) تساورها شكوك كبيرة بشأن نوايا الصين بغض النظر عمن تولى السلطة فى هانوى وبكين ، وبالمثل فجهود بكين للتأكيد على الموروث الكونفوشيوسى المشترك كتمهيد للاتحاد مجددًا بتايلاند كانت تقابل بنظرة احتقار من التايلانديين(2) .
• ويرسم (هنتنجتون) خطوطًا مستقيمة عبر الخرائط التى تبين بدايات ونهايات الحضارات المختلفة ، ويعترف بأن مجال الحضارة الإسلامية ينقسم إلى العرب والأتراك والمالايويين ، ولكن لسبب ما يغفل عن الرافد الإسلامى الكبير فى إفريقيا ، ولا يتطرق حتى إلى الفروق الكبيرة بين المسلمين فى الأرخبيل الإندونيسى ، والمسلمين فى غرب أفريقيا ، والمسلمين فى قلب العالم العربى . و (هنتنجتون) يغفل أيضًا حقيقة أن الوحدة الإسلامية يكاد ينعدم أثرها بعد خمسين عامًا . وفى الحقيقة فقد ساد الانقسام العالم الإسلامى منذ وفاة رابع الخلفاء الراشدين عام 661 ميلاديًا ، وهذا لم يحدث بين السنة والشيعة فحسب ، ولكن على مستويات أخرى أيضًا .(3/5)
• ويعرّف (هنتنجتون) حرب الخليج بأنها حرب بين الحضارات ، وفى الواقع لم يظهر أى صراع آخر بمثل هذا الوضوح ، كيف أن مصالح الدولة لها الغلبة على المناخ الدينى. فصدّام لم يبرر هجومه على الكويت بأسباب دينية ، فهو لم يلجأ إلى مثل هذا التبرير إلا حينما أرغم على الانسحاب فى مواجهة التحالف الذى تألف من المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وسوريا، فضلاً عن القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية ، بل إن الأسرة المالكة السعودية نجحت فى تحريك المراجع الإسلامية التى أصدرت فتوى مفادها أن دفاع الجنود الأمريكيين غير المسلمين عن مكة لا يتعارض مع تعاليم القرآن .
أما إيران فلا زالت تتحين الفرص ، وعلى الرغم من نبرة العداء لأمريكا ، فليس هناك ما تأخذه على (الشيطان الأكبر) إذا كان ما يفعله فى صالح أنصار آية الله .
• وإحدى النقاط المهمة التى يثيرها (هنتنجتون) هى أننا نشهد الآن ظهور المحور الإسلامى الكونفوشيوسى أو (الرابطة) : فبؤرة الصراع الأساسية فى المستقبل القريب ستكون بين الغرب والدول الإسلامية الكونفوشيوسية العديدة).
إن الدليل المادى الوحيد الذى يقدمه (هنتنجتون) لتأييد نظريته هو صادرات السلاح التى تقدمها كوريا الشمالية والصين إلى ليبيا ، وإيران ، والعراق ، وسوريا . وهذه الاتصالات بين النظامين الديكتاتوريين الشيوعيين وليبيا - التي تخضع لحكم القذافى الذى يسير على نهج (نظريات الكتاب الأخضر) التى يعتبرها جميع رجال الدين الإسلامى بدعًا – وكذلك مع نظامى حزب البعث المتنافسين فى دمشق وبغداد ، من الواضح تمامًا أنها لاتعبر عن أى تقارب أيديولوجى ، أو عن مؤامرة إسلامية كونفوشيوسية ، فالأمر لايتعلق سوى بالمادة ، وفضلاً عن ذلك فإحدى المشاكل الداخلية الكبرى التى تواجهها الحكومة الصينية هى الخوف من امتداد الصحوة الإسلامية لتصل إلى شعب يويجور فى سينكيانج ، عن طريق بنى جلدتهم من الأتراك فى وسط آسيا ، وهذا هو سبب تأييد الصين للهجمات على أفغانستان .
وإلا فيمكننا بالمثل القول بأن مبيعات الأسلحة الأمريكية والفرنسية إلى المملكة العربية السعودية تدل على إقامة تحالف إسلامى مسيحى .
وعلى هذا ، فما أوحى به (هنتنجتون) من الصدام بين الحضارات على المستوى الواسع لا يستند إلى أساس سليم ، ويبدو أنه يستند إلى حجة أقوى عندما يزعم أن الصراعات على المستوى الجزئى تتبع (الشروخ) بين مواطن الحضارات ، ويبدو أن الحرب الأهلية فى طاجيكستان والصراعات فى القوقاز تؤيد هذه النظرية ، بل والأكثر منها الحروب الأهلية فى جمهورية يوغسلافيا السابقة ، حيث اتبعت الخطوط الأمامية إلى حد كبير الخط التقليدى الفاصل بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وبين الإمبراطورية العثمانية وإمبراطورية هابسبورج .
غير أن هذه الحجج ذاتها لم تتحر قدرًا كبيرًا من التمحيص ، فلم تنشب حرب واحدة خلال القرن الماضى بسبب الصدام بين الحضارات أيّاً كان تعريفها.
وفى عام 1914م ، تحالفت برلين البروتستانية مع فيينا الكاثوليكية واستانبول المسلمة ضد موسكو الأرثوذكسية وباريس الكاثوليكية ولندن البروتستانتية ، وقد دخلت صربيا الأرثوذكسية بالفعل الحرب ضد فيينا الكاثوليكية ، غير أنها كانت فى حالة حرب أيضًا مع بلغاريا الأرثوذكسية ، كما أن الدول البادئة بالعدو فى الحرب العالمية الثانية وهى ألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفييتى نجحت فى التعاون فيما بينها ، رغم أنها تنتمى إلى أقاليم ثقافية مختلفة ، وحينما هاجم (هتلر) (ستالين) لم يسأل (تشرشل) و (روزفلت) ما إذا كان حليفهما الجديد مسيحيًّا أو أرثوذكسيًّا أو شيوعيًّا .
والحربان العالميتان قتل فيهما أكثر من ستين مليونًا من البشر وكانتا بين المسيحيين ، ومعظم الحروب التى وقعت بعد عام 1945م كانت حروبًا داخل حضارات : حروب كوريا ، وفيتنام , وكمبوديا ، والصومال ، والعراق ، وإيران ، والكويت . فأطول الصراعات وأكثرها دموية فى الشرق الأوسط لم تنشب بين العرب واليهود ، ولكن بين المسلمين ، وهى الحرب بين العراق وإيران ، كما استخدم العرب العراقيون الغاز السام ضد الأكراد وليس ضد غير ذوى الملة .
وعلى النقيض من نظرية (هنتنجتون) فالحروب التى اشتعلت فى يوغسلافيا السابقة بما فيها من تطهير عرقى لم تكن جهادًا ولكن حروبًا على السلطة والأرض بين الأرثوذكس والكاثوليك من غير ذوى الملة من جهة ، وبين المسلمين من جهة أخرى من خلال تحالفات غير دينية . أما صبغة الدين التى اصطبغت بها القومية فقد نمت بشكل واع إلى جوار العداوات والقلاقل الاجتماعية ، والصراعات التى شهدتها يوغسلافيا السابقة تبين كيف أنه من اليسير توظيف القومية كأداة ، غير أنها لا يمكن أن تقوم كدليل يؤيد نظرية الحرب بين الحضارات .
وفى البوسنة زعم الصرب أنهم يقاتلون الإسلام من أجل المسيحية ، ومن الصحيح أن الحروب التى نشبت فى يوغسلافيا السابقة اتبعت التخوم الثقافية بين الإمبراطوريات الرومانية الشرقية والغربية ، وتطورت فيما بعد إلى حرب بين الأرثوذكسية والكاثوليكية ، وبين الأرثوذكسية والكاثوليكية من جهة والإسلام من جهة أخرى . ولكن هذا يرجع فى المقام الأول إلى اقتران القومية الصربية بإصرار قادة الحزب الشيوعى على عدم التخلى عن سلطتهم . أما الهجوم الصربى الذى كان يهدف إلى إقامة صربيا العظمى فقد كان موجهًا منذ البداية إلى الجارتين المسيحيتين سلوفينيا وكرواتيا . وفى البوسنة دافع المسلمون عن مجتمع متحضر ، بينما أظهر الصرب الأرثوذكس تعصبًا وضيق أفق لا يقل عما هو خليق بأشد المتعصبين من أية ديانة أخرى , وفى البوسنة وكوسوفا أيضًا تدخلت قوات من الحضارة الغربية لنصرة المسلمين .
إن الحضارات لا تسيطر على الدول ، بل على العكس من ذلك تسيطر الدول على الحضارات ، وهى لا تتدخل للدفاع عن حضاراتها إلا إذا كان هذا فى مصلحة الدولة .
وفى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا ، حاولت إيران أن تقوم بدور الوساطة وجنحت إلى تأييد مسيحيى أرمينيا لا مسلمى أذربيجان ؛ خشية أن يؤدى انتصار أذربيجان إلى تقوية النزاعات الانفصالية بين الأقلية الأذربيجانية الكبيرة العدد .
• فما يعطى الانطباع لأول وهلة بوجود صدام بين الحضارات يتبين عند تناوله بالتحليل أنه خصومة بين الدول على الموارد والأرض ؛ سعيًا وراء المزايا الاستراتيجية والسطوة السياسية . فالحرب ضد صدام حسين لم تكن حربًا بين الحضارات - فالحضارات لا تصنع الحروب - ولكنها قتال من أجل البترول والتوازن الاستراتيجى فى الشرق الأوسط ، والعداء بين بكين وواشنطن حول تايوان ، أو قرصنة نسخ أسطوانات الكمبيوتر ، أو صادرات السلاح ليس حربًا بين الكونفوشيوسية وتوماس جيفرسون ، لكنه صراع بين قوتين عظميين .
إن (هنتنجتون) يعرّف الحضارة بأنها : (أوسع مستويات الهوية التى يمكن للمرء أن ينتمى إليها) . وقليل جدّاً من الأشخاص هم الذين بإمكانهم أن ينتموا بأجسادهم إلى مفهوم واسع كمفهوم الحضارة ، فهم ينشدون بدلاً من هذا هويات ضيقة كالأمم أو الجماعات العرقية أو الدينية . وعلى الرغم من الإلحاح الدائم على الهوية الأوروبية فى هذه الآونة ، إلا أن التحقيقات التى قامت بها المفوضية الأوروبية تبين أن ما يزيد على 70% من سكان جميع الدول الأوروبية ينظرون إلى أنفسهم فى المقام الأول فى ضوء انتمائهم إلى أمم ، بينما تأتى الهوية الأوروبية فى مرتبة تالية .(3/6)
• إن الحضارات التي يتحدث عنها (هنتنجتون) ليست شرائح متماثلة ومتنافرة يفنى بعضها الآخر ، ولكنها تتواءم مع بعضها البعض ، ليس فقط فى الأقاليم الحدودية ولكن فى مراكزها أيضًا ، بل إن الإسلاميين يستخدمون التقنيات الغربية كما ظهر جليًا فى أحداث 11 سبتمبر ، وهم بذلك يظهرون أيضًا أسلوبًا للتفكير غريبًا عن ثقافتهم ، ولنضرب مثالاً آخر : فى عام 1957م كان يوجد 1.7 مليون مسيحى فى كوريا الجنوبية ، وفى الوقت الحاضر يتراوح عددهم ما بين 14 و 17 مليونًا ، أى ما نسبته 40% من عدد السكان ، ويقال : إن الضربات المتوالية كانت موجهة إلى القيم الكونفوشيوسية التى تعد الأساس الذى قامت عليه المعجزة الاقتصادية الكورية والتى أفل نجمها الآن .
• إن نظرية (هنتنجتون) أحادية السبب تمامًا ، فهو لا يأخذ فى الحسبان الآثار التى تركها اقتصاد السوق الحر على الأنظمة السياسية ، وكذلك القوى التى حررت قيودها عمليات التكامل الاقتصادية ؛ ولهذا السبب فافتراض أن الصراعات المستقبلية سوف ترتبط بتوزيع الثروة بين الدول يستند إلى قدر أكبر من االمصداقية . ونسق العالم ذو القطبية الثنائية لم يحل محله (الصدام بين الحضارات) الذى ذكره (هنتنجتون) ، ولكن جاء بدلاً منه على حد قول (جيرجين هيبرمان) : (عدم القدرة على التنبؤ مجددًا) . وعلى الرغم من ذلك يمكننا أن نؤكد أن المستقبل لن يأتى معه بنهاية التاريخ ، أو بالصدام بين الحضارات .
أما الصدام الحقيقى اليوم فليس بين الحضارات ، ولكن فى داخلها بين ذوى النظرة الحديثة التقدمية وبين من يتمسكون منهم بنظرة العصور الوسطى . وكمثال على ذلك : فبعد الهجوم على مركز التجارة العالمى قام (جيري فالويل) بمخاطبة مشاهدى التليفريون قائلاً : إن أمريكا تستحق العقاب ! فمن وجهة نظره أن من يجرون عمليات الإجهاض ، والمناصرين لحقوق الشواذ، وكذلك المحاكم الفيدرالية التى منعت الصلاة فى المدارس ، قد أثارت غضب الرب .
وعلى حد قول (هنتنجتون) ، فللإسلام حدود مخضبة بالدماء ، وهذه المقولة ليست فقط رمزية تاريخية ، ولكن لها خطورتها أيضًا ، فالإسلام والمسيحية عاشا جنبًا إلى جنب لمدة 1400 عام تقريبًا ، دومًا كجيران ، وفى معظم الوقت كخصوم ، وفى الواقع من الجائز اعتبارهما شركاء ؛ حيث إنهما يشتركان فى نفس الموروث اليهودى الهيلينى الشرقى ، وهما فى آن واحد تجمعهما معرفة قديمة .
والحضارة الإسلامية ليست غريبة كما تبدو غالبًا فى ضوء التحاملات والتصورات الغربية المسبقة . ومن أكثر الأساطير شيوعًا أسطورة تشارلز مارتل الذى أنقذ الغرب من الدمار بانتصاره على العرب فى بواتييه فى عام 732م، فقد أجبر العرب على الانسحاب من جبال البرانس حتى عادوا إلى جنوب أسبانيا ؛ حيث استمرت الدولة الإسلامية التى قامت هناك فى الازدهار لما يناهز 800 سنة، وهذا التواجد الإسلامى فى القارة الأوروبية لم يتسبب فى انهيار الحضارة الغربية ، بل أسفر عن تآلف متفرد ومثمر بين الإسلام والمسيحية واليهودية ، مما أدى إلى ازدهار ليس له مثيل فى العلم والفلسفة والثقافة والأدب .
• • •
إن الصراع بين بنى الإنسان لا يكون بالضرورة بين حضارات مختلفة . فالحضارة الحقيقية تعنى فى جوهرها التقدم المادى والروحى للأفراد والجماعات، أى أنها ترتقى بالإنسان ماديًا وروحيًا ، وتهذب من أخلاقه ، وتحد من نزعاته العدوانية ، وإنما يكون الصراع بين البشر من أجل مصالح ومطامع وأيديولوجيات متباينة وأهداف دينية أو سياسية ، فهو إذن صراع قُوَى تهدف به إلى فرض سيطرتها وتسلطها على قوى أخرى . أما الحضارات فإنها تدفع بالأحرى إلى الحوار لا إلى الصدام .
وقد شهدت البشرية هذا وذاك . فالمسلمون مثلاً قد اضطروا فى عصور الإسلام الأولى إلى الدخول فى صدام مسلح مع الروم - الذين كانت تمثلهم فى ذلك الوقت الدولة الرومانية الشرقية - ولكن مع ذلك لم يمنعهم على المستوى الحضارى من إجراء حوار حضارى مع الروم ، وإن كان حوارًا صامتًا - إذا جاز هذا التعبير - وقد تمثل ذلك فى ترجمة العلوم المختلفة لليونان إلى العربية، وتم ذلك أيضًا بالنسبة للفرس والهند ... إلخ .
وفى المقابل خاضت أوروبا بجحافلها القادمة من مختلف البلاد الأوروبية حربًا ضد المسلمين - سميت بالحروب الصليبية - استمرت ما يقرب من قرنين من الزمان ، ولكن ذلك لم يمنع أوروبا من القيام بحوار - على المستوى الحضارى - مع المسلمين تمثل فى حركة ترجمة نشطة لعلوم المسلمين إلى اللغة اللاتينية . وقد بلغت هذه الحركة ذروتها فى الفترة من القرن الحادى عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى .
وقد كان من الطريف فى هذا الصدد أن أوروبا أول ما عرفت الفلسفة اليونانية - وهى فلسفة أوروبية - عرفتها عن طريق النقل من العربية ، ولم تبدأ فى نقلها من اليونانية مباشرة إلا بعد سقوط القسطنطينية فى يد الأتراك العثمانيين , وهجرة العلماء اليونانيين على أثر ذلك إلى إيطاليا .
وفى العصر الحاضر بدأ العالم الإسلامى يترجم ما أنتجته الحضارة الغربية الحديثة من منجزات علمية ، ويرسل البعوث إلى جامعات الغرب للاغتراف من علومها وفنونها . وقد فعلت أوروبا الشىء نفسه فى الماضى بإرسال بعثات إلى الأندلس حينما كان للمسلمين فى الأندلس حضارة مزدهرة .
ومن ذلك يتضح أن الصراع الحضارى لم يكن هو القاعدة فى علاقة أوروبا بالإسلام ، بل كان التفاعل الثقافى يفرض نفسه دائمًا ، ويترك آثاره البعيدة والفعالة بعد زوال أسباب الصراعات الأخرى .
ونحن نزعم أن القرن الجديد لن يشهد صدامًا بين الحضارات وإن كانت هناك محاولات من جانب العولمة للترويج لنظم وقيم معينة تثير استفزاز الآخرين .
والذى يدعونا إلى القول بأن القرن الجديد لن يكون قرن صراع حضارى وإنما قرن حوار حضارى هو ما يلى :
أولاً : صراعات الماضى تختلف عن صراعات الحاضر اختلافًا أساسيًا . فنحن فى عصر ثورة المعلومات والاتصالات والثورة التكنولوجية قد أصبحنا نعيش فى عالم يمثل قرية كونية كبيرة ، والأخطار التى تهدد عالمنا المعاصر قد أصبحت أخطارًا عالمية تهدد الجميع ، وتتطلب جهودًا دولية لمواجهتها مثل قضايا البيئة والمخدرات والإرهاب الدولى والجريمة المنظمة وأسلحة الدمار الشامل وأمراض العصر ، وعلى رأسها أمراض نقص المناعة أو (الإيدز) ،وغيرها من القضايا التى تتطلب تكاتف الجهود الدولية . ولعل ذلك هو الذى شجع الأمم المتحدة على الإعداد لتنظيم منتدى للحوار بين الحضارات عُقد عام 2001م دعمًا للتفاهم بين الثقافات والحضارات المختلفة .
ثانيًا : إذا كانت الأصوات التى تروج لصدام الحضارات قد وجدت أصداء واسعة فى الشرق وفى الغرب ، فإن هناك جهودًا وأصواتًا مضادة فى الغرب ترفض بشدة مقولة هنتنجتون حول صدام الحضارات ، وبصفة خاصة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية .(3/7)
ومن الأمثلة على ذلك ما شهده العقد الأخير من القرن العشرين من رفض واضح فى بعض الدوائر الغربية لنظرية صدام الحضارات - إذا جاز أن تسمى هذه الدعوة بالنظرية - . ومن بين تلك الأصوات العاقلة فى الغرب (الأمير تشارلز) ولى عهد بريطانيا الذى ألقى محاضرة مهمة فى 27 أكتوبر 1993(3) فى مسرح شيلدونيان بأكسفورد بمناسبة زيارته إلى مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية ، وأكد فيها أن (الذى يربط العالمين الغربى والإسلامى أقوى بكثير مما يقسمهما ؛ فالمسلمون والمسيحيون واليهود جميعهم (أصحاب كتاب) . والإسلام والمسيحية يشتركان فى النظرة الوحدانية : الإيمان بإله واحد ، وبأن الحياة الدنيا فانية ، وبالمسئولية عن أفعالنا ، والإيمان بالآخرة . إننا نشترك فى كثير من القيم) .
وأشار إلى أن حكم الغرب على الإسلام قد عانى من التحريف الجسيم نتيجة الاعتبار بأن التطرف هو القاعدة وقال :(إن التطرف ليس حكرًا على الإسلام ، بل ينسحب على ديانات أخرى بما فيها الديانة المسيحية . والغالبية العظمى من المسلمين يتسمون بالاعتدال . ودينهم هو دين الاعتدال) .
وأشار كذلك إلى أن هناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من الإسلام (وأن العالمَين الإسلامى والغربى يمكن أن يتعلما كثيرًا من بعضهما البعض) .
ورفض مقولة صدام الحضارات قائلاً : (أنا لا أوفق على مقولة أنهما (العالم الإسلامى والغربى) يتجهان نحو صدام فى عهد جديد من الخصومة والعداء ، بل إننى على قناعة تامة بأن لدى عالمَينا الكثير لكى يقدماه إلى بعضهما البعض) .
كما أشار أيضًا إلى أن الكثير من المزايا التى تفخر بها أوروبا العصرية قد جاءت أصلاً من إسبانيا أثناء الحكم الإسلامى . وخلص إلى القول : (إن الإسلام جزء من ماضينا وحاضرنا فى جميع مجالات البحث الإنسانى . وقد ساهم فى إنشاء أوروبا المعاصرة . إنه جزء من تراثنا وليس شيئاً منفصلاً عنه) .
وفى نفس الإطار نجد أن وزير الخارجية البريطانية (روبين كوك) يشير فى محاضرته فى المركز الإسماعيلى فى لندن فى 8 أكتوبر 1998م(4) إلى أن جذور الثقافة الغربية ليست يونانية أو رومانية الأصل فحسب ، بل هى إسلامية أيضًا . ويبين أن التحديات التى نواجهها تحديات عالمية . ويرفض مقولة صراع الحضارات ، وأن الإسلام هو العدو الجديد للغرب ويقول : (إن البعض يقول : إن الغرب بحاجة إلى عدو ، وبما أن الحرب الباردة قد ولت إلى غير رجعة ، فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتى القديم كعدو . ويقولون: إن صراع الحضارات قادم وأنه لا مفر منه . وأنا أقول : إنهم مخطئون، بل ومخطئون خطأ فادحًا . فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام كعدو ، بل نحن بحاجة إلى الإسلام كصديق) .
ويشير إلى أن (الغرب مدين للإسلام بالشىء الكثير ، فالإسلام قد وضع الأسس الفكرية لمجالات عديدة مهمة وكبيرة فى الحضارة الغربية . إن ثقافتينا قد تشابكتا مع بعضهما البعض عبر التاريخ والأجيال ، وهى تتشابك أيضًا فى وقتنا الحاضر) .
ويبرز كوك أهمية الحوار بين الجانبين ويقول : (اليوم أريد أن أقترح بأن نبدأ حوارًا جديدًا جديًا بين أوروبا والعالم الإسلامى . فقد حان الوقت لكى يبدأ الاتحاد الأوروبى ومنظمة المؤتمر الإسلامى بالحديث مع بعضهما البعض على أعلى مستوى ممكن) .
فإذا اتجهنا شطر أكبر دولة فى أوروبا ، ونعنى بها ألمانيا ، فإننا نجد اتجاهًا مماثلاً رافضًا تمامًا لفكرة صراع الحضارات ، ومتبنيًا أسلوب الحوار الحضارى . وقد ذهب الرئيس الألمانى (رومان هيرتسوج) خطوة أبعد فى هذا المجال بالدعوة إلى عقد مؤتمر فى العاصمة الألمانية برلين للحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية .
وقد وجه الدعوة إلى رؤساء خمس من الدول الإسلامية هى مصر والمغرب والأردن وأندونيسيا وماليزيا ، ورؤساء خمس من الدول الأوروبية هى إيطاليا وإسبانيا والنمسا والنرويج وفنلندا ، بالإضافة إلى ألمانيا الدولة المضيفة . وتم اللقاء فى 23 أبريل 1999م على مستوى المراكز البحثية المتخصصة .
وقد اشترك فى المؤتمر أيضًا ممثلون لدول أخرى مثل إنجلترا وفرنسا وسويسرا والسويد ولبنان . وصدر عن المؤتمر (بيان برلين) الذى يمثل خطة للعمل المستقبلى . وقد تضمن البيان العديد من التوصيات التى تدعم الحوار الحضارى بين الشرق والغرب ، وتستشرف مستقبل العلاقات بين المجتمعات الإسلامية والغربية .
وبالإضافة إلى ذلك صدر فى شهر مايو 1999م - كتاب للرئيس الألمانى بعنوان (الحيلولة دون صدام الحضارات - استراتيجية السلام للقرن الحادى والعشرين) . وقد تضمن هذا الكتاب آراء الرئيس الألمانى التى أعلنها حول هذا الموضوع فى الفترة من 1995م حتى 1999م ، كما تضمن أيضًا تعقيبات لأربعة من المفكرين المعروفين .
ويؤكد الرئيس الألمانى رفضه المطلق للزعم بأن الشرق والغرب يستعدان لمواجهة مزعومة بين الإسلام والمسيحية . ويحذر من خطورة الترويج لمثل هذه الأفكار ، ويؤكد على ضرورة التركيز على القواسم المشتركة بين الحضارات .
ويشير الرئيس الألمانى إلى ضرورة بناء جسور الثقة بين الجانبين لمواجهة تحديات المستقبل التى تعد تحديات لنا جميعًا ، وتتطلب حلولاً دولية وتعاونًا مشتركًا بين الجميع ، كما يدعو إلى ضرورة تعرف الشعوب والحضارات على بعضها البعض على نحو أفضل للوصول إلى فهم مشترك ، واحترام متبادل وثقة متبادلة أيضًا . ويرى أن الحوار بين الحضارات والأديان يُعد أهم الواجبات الملقاة على عصرنا . وبصفة خاصة الحوار بين الإسلام والمسيحية .
ومن خلال هذه التوجهات الصادرة فى أوروبا من شخصيات لها وزنها يتضح لنا أن هناك تيارًا أوروبيًا قويًا رافضًا فكرة صدام الحضارات ، وهو تيار أقوى كثيرًا من تيار صمويل هنتنجتون ومن يشايعه . ولكن الشىء المؤسف أنه قد تم تسليط الضوء على نحو مريب على أفكار هنتنجتون السلبية ، وتم تضخيمها إعلاميًا ، وفى الوقت نفسه غابت عن الساحة الإعلامية تلك الأفكار الإيجابية والأصوات العاقلة التى ترفض صدام الحضارات وتتبنى حوار الحضارات(5) .
المراجع
1. مجلة (العربى) - العدد 518 - يناير 2002 .
2. انجمار كارلسون - (الإسلام وأوروبا) - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية.
3. نشر مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية هذه المحاضرة تحت عنوان: (الإسلام والغرب) عام 1993م .
4. مجلة منبر الإسلام - العدد الصادر فى شعبان 1419هـ الموافق ديسمبر 1998م ص 55-58 .
5. جريدة الأهرام 13/8/1999م .
الفصل الثالث
الحوار هو الحل
فى مواجهة مزاعم الصراع طرح علماء المسلمين خيار الحوار مع الآخر كمنهج إسلامى أصيل ، صرح به القرآن الكريم وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده .. يقول الدكتور بكر مصباح تنيرة(1) :
الحوار فى معناه اللغوى ، يفيد المحادثة والمناقشة والمناظرة التى تدور بين طرفين أو أكثر ، وتشمل موضوعات متعددة ومتباينة ، بعضها عام وبعضها خاص ، كما تتعرض للمشكلات التى تهم هذه الأطراف ، وهى تسعى وراء الحوار فيما بينها إلى معرفة الحقائق ، وتبادل الآراء والأفكار والخبرات حول الموضوعات المشتركة(2) . وتحديد المواقف من المشكلات القائمة، وطرح حلول لها ، والحوار بذلك يساعد على تنظيم العلاقات الإنسانية بما يوفر لكل طرف حاجاته التى يتطلع إليها ، ويحقق له غاياته المشروعة دون أن يكون ذلك على حساب حقوق الآخرين أو يسبب لهم أضرارًا تلحق بهم .(3/8)
والحوار بهذا المعنى أسلوب من أساليب التفاهم بين الأفراد والجماعات والدول والحضارات ، وهو يرمى إلى تحقيق التعارف والتعايش والتعاون بين الناس جميعًا على أساس حرية الرأى واحترام الآخرين ، وتبادل المنافع .
والإسلام بحضارته الخالدة وتجربته الإنسانية العميقة ، والحافلة بأشكال تطبيق الحوار فى شؤون الدين الدنيا بين جميع البشر ؛ دون تمييز أو تحيز لأى سبب له دوره الرئيس الذى ينبغى أن يقوم به فى هذه المرحلة التاريخية المعاصرة .
وليس هذا بجديد ، فقد ازدهر الحوار فى ظل الحضارة الإسلامية ، وهذا لكون الحوار يمثل منهجًا من مناهج الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة لعبادة الله الواحد الأحد وتحقيق الإصلاح وتطهير المجتمع الإنسانى من الفساد وتنمية العلاقات الأخلاقية بين الجماعات والديانات والدول(3) .
وأوجز الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فى بيان جوهر رسالة الإسلام فى كلمات جامعة بليغة فقال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الإمام أحمد والحاكم .
والحوار منهج من مناهج الدعوة الإسلامية دعا إليه القرآن فى قوله سبحانه وتعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل:125 .
وقد أرسى الإسلام فى أصوله الثابتة الطاهرة ، القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة ، وإجماع السلف الصالح مبادىء الحوار ، وقد حفلت به مظاهر الحياة فى الحضارة الإسلامية فى جميع مراحل تطورها التاريخى منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً .
مبادىء الحوار فى الإسلام
لقد انفرد الإسلام بتفعيل وتحديد المبادىء الثابتة التى ينبغى أن يقوم عليها أى حوار ناجح ، يؤدى إلى تحقيق الأهداف المطلوبة منه ، ولاسيما الحوار السياسى الذى يختص بشؤون المجتمع والدولة ويشمل أمور الدين والدنيا ، وقد سبق الإسلام وحضارته بذلك الديانات والحضارات الماضية ، فالمبادىء الواضحة هى فى الحقيقة بمثابة القواعدالتى ينبغى أن يلتزم بها جميع أطراف الحوار ؛ كى يبلغ كل طرف الغايات التى يسعى إليها ، ومن أبرز المبادىء التى فصلها الإسلام للحوار الإيجابى والبنَّاء ما يلى :
1- العلم الذى يستند إلى الحقائق الثابتة والمعلومات الدقيقة والصحيحة والخبرة العملية ؛ ولاسيما إذا كانت موضوعات الحوار تتناول القضايا العامة فى المجتمع والدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من شؤون الحكم . وينبغى أن يشارك المتخصصون فى مثل هذه المحاورات حتى تأتى النتائج والأحكام مفيدة تخدم أغراض الحوار ، وتعود بالنفع على أفراد المجتمع ورجال الحكم . وفى الدول الحديثة يتم تطبيق هذا المبدأ قبل إجراء أى حوار أو مناقشة، فيتم إعداد البحوث والدراسات التى تتناول الموضوعات من جميع جوانبها .
2- حرية الرأى التى تُعطى كل طرف من أطراف الحوار الحق فى أن يقبل أو يرفض ما يُعرض عليه من آراء وأفكار وعقائد وموضوعات شتى , وعلى الآخرين أن يحترموا هذه الحرية . والقاعدة الشرعية فى الفقه الإسلامى تقول: (إن كل عمل أو اتفاق يتم تحت الضغط والإكراه فهو باطل) ، كما يقول فقهاء الإسلام (يمين المكره باطلة وما بنى على باطل فهو باطل) ، يقول الله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس:99 .
ويؤكد الحق عز وجل هذا المبدأ وضرورة تطبيقه حتى مع الكافرين ، يقول تعالى : (وإن أحدٌُ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) التوبة:6 .
وقد حمى الإسلام هذه العناصر فمنع الإكراه والإغراء لتحرر الفكر ويمنع التقليد ، بل دعا الناس إلى النظر الحر فى الكون وما شمل من أسرار، فالحرية فى الإسلام مبدأ مقدس حتى فى اختيارالعقيدة لقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 .
3- العدالة بمعناها الواضح والشامل مبدأ إنسانى أقره الإسلام وجعله قاعدة من قواعد الحكم بين الناس ، وهو يقوم على إعطاء كل ذى حق حقه، والعدالة الإسلامية تحمى المسلمين وغير المسلمين ، وتفرض على أولى الأمر حماية حقوق الإنسان دون تمييز أو تحيز ، وهذا يقوى ثقة الإنسان بنفسه وفى النظام السياسى الذى يعيش فى كنفه ، وهذا يدفعه إلى المطالبة بحقوقه وممارستها من دون حرج أو خوف ، يقول تعالى فى محكم آياته : (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) المائدة:8 .
ويدعو الله رسوله الكريم إلى الحكم بالعدل حتى مع المخالفين لدين الإسلام، فيقول تعالى : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حُجّة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
يقول فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة فى ذلك : (ألا فليعلم الناس اليوم أنه لا يصلح العالم إلا إذا كانت العدالة ميزان العلاقات الإنسانية فى كل أحوالها، فلا يبغى قوى على ضعيف ولا يضيع حق ...)(4) .
4- المساواة وهى فى الإسلام تعنى إلغاء الفروق بين بنى الإنسان بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أو المال أو العلم، وإنما يكون التمايز بين الناس بالعمل الصالح الذى يعود عليهم جميعًا بالفائدة ، ولكل أجره على ذلك . والمساواة بهذا المعنى تبث الثقة بين الناس وتدفعهم إلى التعايش والتعاون، يقول الله سبحانه وتعالى : (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) آل عمران:195 .
وأيضًا (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل:97 .
ثم ينهى الله جل شأنه عباده عن أن يسخر بعضهم من بعض ، ويحقر بعضهم بعضًا ، أو يفخر بعضهم على بعض لأن مثل هذا السلوك يفسد العلاقات الإنسانية ، يقول تعالى : (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) الحجرات:11 .
وإذا قامت المساواة فى المجتمع استقامت العلاقات بين أعضائه وتحقق التعاون فيما بينهم لحل المشكلات ومواجهة الصعوبات .
5- التسامح وهو خُلق إنسانى أصيل دعا إليه الإسلام ؛ لأنه يرفع الحرج فى العلاقات بين الناس ويجعل الإنسان يترفع عن الكره والبغضاء وروح الثأر والانتقام ، وهى صفات تفسد وتدمر الحياة البشرية على الأرض ، وتقطع سبل التفاهم والتعاون بين الناس .
وفى مقابل ذلك يدعو سبحانه وتعالى إلى العفو والتسامح ونسيان الأحقاد والعمل بالحسنى ، فيقول تعالى : (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم , وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فصلت:34-35 .(3/9)
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى فى التسامح مع أعدائه الذين حاربوا دعوته وأخرجوه من بلده وآذوه وحاولوا قتله ، وعندما نصره الله عليهم يوم فتح مكة المكرمة قال لقريش فى حوار نموذجى بين المنتصر والمهزوم : (ما تظنون أنى فاعل بكم)؟ قالوا : خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام : (أقول لكم كما قال أخى يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
هذه هى المبادىء السامية التى وضعها الإسلام لتقوم عليها العلاقات الإنسانية ، ويدور فى ضوئها الحوار أياً كان نوعه وموضوعه وغايته ، وإذا أخذت الجماعات والدول بهذه المبادىء فى المحاورات فيما بينها تكون قد خطت الخطوة الصحيحة فى حل المشكلات ، وتحقيق التعاون فيما بينها مصداقًا لقول الله جل شأنه : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) المائدة:2 .
تفاعل مع الآخر
ويرى الدكتور حسن عزوزى أن التقاء الحضارات معلم من معالم التاريخ الحضارى للإنسانية ، وهو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه ، وقد تمّ دائمًا وأبدًا وفق هذا القانون الحاكم (التمييز بين ما هو مشترك إنسانى عام وبين ما هو خصوصية حضارية) .
ولا شك أن الخيار البديل لصدام الحضارات هو أن تتفاعل الحضارات الإنسانية مع بعضها بعضًا ، بما يعود على الإنسان والبشرية جمعاء بالخير والفائدة ، فالتفاعل عملية صراعية ولكنها متجهة نحو البناء والاستجابة الحضارية لتحديات الراهن ، عكس نظرية (صدام الحضارات) التى هى مقولة صراعية تدفع الغرب بإمكاناته العلمية والمادية لممارسة الهيمنة ونفى الآخر، والسيطرة على مقدراته وثرواته تحت دعوى وتبرير أن نزاعات العالم المقبلة سيتحكم فيها العامل الحضارى .
والإسلام كدين وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات ينكر (المركزية الحضارية) التى تريد العالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة فى الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى ، فالإسلام يريد العالم (منتدى حضارات) متعدد الأطراف ،ولكنه مع ذلك لا يريد للحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الحضارية القسرية، إنما يريد الإسلام لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند فى كل ما هو مشترك إنسانى عام .
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً وخاتم الأديان ، فإنه فى روح دعوته وجوهر رسالته لا يرمى إلى تسنم (المركزية الدينية) التى تجبر العالم على التمسك بدين واحد ، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى فى تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله تعالى فى الكون ، قال تعالى : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) المائدة:84، وقال أيضًا : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:118 - 119 .
إن دعوة الإسلام إلى التفاعل مع باقى الديانات والحضارات تنبع من رؤيته للتعامل مع غير المسلمين الذين يؤمنون برسالاتهم السماوية ، فعقيدة المسلم لا تكتمل إلا إذا آمن بالرسل جميعًا : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) البقرة:285، بيد أنه لا يجوز أن يُفهم هذا التسامح الإنسانى الذى جعله الإسلام أساسًا راسخًا لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان فى أى كيان من الكيانات التى لا تتفق مع جوهر هذا الدين . فهذا التسامح لا يلغى الفارق والاختلاف ، ولكنه يؤسس للعلاقات الإنسانية التى يريد الإسلام أن تسود حياة الناس، فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية، لا سبيل إلى إلغائه، ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التفاعل الحضارى بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها .
وفى سياق التفاعل الحضارى المنشود يمكن القول : إن احتمال أن تتقدم حضارة على أخرى بهذا الجانب المنشود أو ذاك وارد ، كما هو الشأن بالنسبة للحضارة الغربية فى عالم اليوم، ولكن القول بأفضلية حضارة على أخرى هو قول متهالك، فمن يستطيع إثبات أن هذه الحضارة أفضل من تلك أو أغزر ثقافة وحكمة وإنسانية وتسامحًا، ولا يوجد فى الواقع أى مقياس أو معيار نقيس به هذه الأفضلية فى كل الجوانب ؟
إن شرط ازدهار هذه القيم فى أى حضارة يرتبط أساسًا بمدى قدرتها على التفاعل مع معطيات الحضارات الأخرى ومكوناتها ، وبالتالى الاعتراف بهذه الحضارات ومحاورتها وقبول تعددية الثقافات وتفهم مفاهيم وتقاليد الآخرين، واعتبار الحضارة الإنسانية نتاجًا لتلاقح وتفاعل هذه الحضارات لا صراعها فيما بينها ، أو استعلاء بعضها على البعض الآخر . والحضارة الإسلامية منذ نشوئها وتكونها لم تخرج عن هذا الإطار التواق إلى التفاعل مع الحضارات الأخرى أخذاً وعطاءً، تأثرًا وتأثيرًا. لقد حمل العرب قيم الإسلام العليا ومثله السامية وأخذوا فى نشرها وتعميمها فى كل أرجاء الدنيا، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات الفارسية والهندية والمصرية والحضارة الأوروبية الغربية فيما بعد، ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتجت حضارة إسلامية جديدة أسهمت فى إنضاجها مكونات حضارات الشعوب والأمم التى دخلت فى الإسلام، فاغتنت الحضارة الإسلامية بكل ذلك عن طريق التلاقح والتفاعل، وكانت هى بدورها فيما بعد عندما استيقظت أوروبا من سباتها وأخذت تستعد للنهوض مكوناً حضاريًا ذا بال أمدّ الحضارة الأوروبية الغربية بما تزخر به من علوم وقيم وعطاء حضارى متنوع .
ويمكن قول الشىء عينه عن الحضارة الغربية التي لم تظهر فجأة ، بل تكونت خلال قرون كثيرة حتى بلغت أوجها فى عصرنا الحاضر ، وذلك نتيجة التفاعل الحضارى مع حضارات أخرى هيلينية ورومانية وغيرها، وبفعل التراكم التاريخى وعمليات متفاعلة من التأثر والتأثير خلال التاريخ الإنسانى الحديث. إن أكبر دليل على أن الحضارة الإسلامية لم تسع فى أى وقت من الأوقات إلى التصادم مع الحضارة الغربية كما ينذر بذلك أصحاب نظرية الصدام الحضارى هو أن العرب والمسلمين لم يضعوا فى أى زمن من الأزمان صوب أهدافهم القضاء على خصوصيات الحضارة الغربية وهويتها الحضارية ، كما نجد الفكر العربى والإسلامى قد اتجه بانفتاح وقوة صوب التراث الغربى للاستفادة منه وتطويره، لقد كان هنالك فعلاً استجابة سريعة للحضارة العربية الإسلامية فى تفاعلها مع الحضارة الغربية، وهذا ما لا نلمسه فى الحضارة الغربية التى لا تسعى إلى الاستفادة من تراث ومعطيات الحضارات الأخرى(5).
تدافع الحضارات(3/10)
ويميل بعض الكتّاب الإسلاميين إلى تسمية العلاقة بين الحضارات المختلفة بـ (التدافع بين الحضارات) بدلاً من (الصراع) .. ويستند هؤلاء في ذلك إلى قوله تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة:251 .. فغاية التدافع هى عمارة الأرض والإبقاء على الأنفع والأحسن والأكثر فائدة للبشرية، فالبقاء للأصلح وليس للأقوى، ولا للظلم كما يريد هنتنجتون وأمثاله .. فنحن فى إطار التدافع لا نستهدف القضاء على الآخر ولا مصارعته بل تبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة لبنى الإنسان .. ويميل فريق آخر إلى تعبير (مصالح الحضارات) لما يجسده من قيم إنسانية تسهم فى بناء مجتمعات تقوم على مبدأ (التبادل الخلاق بين كل الثقافات) ، وهو ما لا يمكن تحقيقه عن طريق حضارة واحدة هى الحضارة الغربية ، بل لابد من مشاركة لحل الحضارات العالمية الموجودة على الساحة .. والتبادل ليس للسلع الاستهلاكية وحدها ، وإنما يشمل ما هو أسمى وأبقى ، ألا وهو الندية والاحترام المتبادل والحوار الفكرى العالمى(6) .
نظرية التعارف
كما أسلفنا تبنى الكثير من المفكرين والمثقفين مقولة (حوار الحضارات)، وهى الرؤية التى دعا إليها فى وقت مبكر المفكر الفرنسى المسلم (روجيه جارودى)، وأكدها السيد (محمد خاتمى) فى خطابه الشهير الذى ألقاه سنة 1998م، فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما حدا بها لاختيار سنة 2001م عامًا للحوار بين الحضارات . وأصبحت هذه المقولة المقابل الأبرز لمصطلح الصدام . وبين هاتين المقولتين هناك نظرية ثالثة تُعرف بـ (تعارف الحضارات)، وهى أطروحة أطلقها المفكر الإسلامى زكى الميلاد ، فى رؤية مغايرة للنظريتين السابقتين ، وهى نظرية مستوحاة - كما لا يخفى - من القرآن الكريم .
وقد بدأ التعريف بهذه النظرية فى 1418هـ/1997م ضمن العدد(16) من مجلة (الكلمة) الفصلية التى يرأس تحريرها، ثم العددين 35 و 36 من ذات المجلة ، كما طرحها أيضًا فى مجلة الحج والعمرة عدد ربيع الأول عام 1424هـ/ 2003م ..
يقول زكى الميلاد شارحًا نظرية التعارف :
نظرية حوار الحضارات : هى نظرية أراد منها جارودى أن تكون خطاباً نقديًا وعلاجياً لأزمة الغرب الحضارية - كما يصفها - ولأنماط علاقاته بالعالم والحضارات غير الأوروبية. كما أراد منها أيضًا أن تكون خطابًا موجهاً إلى الغرب بصورة أساسية. لذلك فهى تنتمى وتصنف على النظريات الغربية التى تنطلق من نقد التجربة الغربية والفكر الغربى . ومن حيث نسقها المعرفى فهى تنتمى إلى المجال الثقافى وتحدد به لأنها تركز على الأبعاد الثقافية والفكرية والأخلاقية .
وأما حوار الحضارات فى رؤية السيد محمد خاتمى فقد جاءت استجابة لبعض المعطيات والضرورات السياسية فى الدرجة الأولى، ومن أجل أن تكون خطاباً نقدياً بديلاً لخطاب صدام الحضارات. وقد ظلت تتحدد فى هذا النطاق، ولم تحول إلى نظرية واضحة ومتماسكة, ومازال العالم العربى والإسلامى يفتقر إلى نظرية تعبر عن رؤيته فى كيفية التقدم والتحضر، وعن أنماط علاقاته بالعالم.
فإذا اعتبرنا (صدام) الحضارات بوصفها نظرية تفسيرية، و (حوار الحضارات) بوصفها نظرية نقدية أو علاجية ، فإن تعارف الحضارات هى نظرية إنشائية بمعنى أن القاعدة فيها هى الإنشاء وليس الإخبار، فقد جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس كافة حينما انقسموا إلى شعوب وقبائل ، كما نصت الآية الكريمة التى أطلق عليها بآية التعارف ، رقم 13 فى سورة الحجرات : (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) .
فالتعارف هو المفهوم العام والكلى والجامع والشامل الذى اختارته هذه الآية فى تحديد النمط العام لعلاقات الناس كافة ، مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وسلالاتهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم ومذاهبهم، تاريخهم وجغرافياتهم. ولأن خطاب الآية إلى الناس كافة ، ولأن الحديث عن شعوب وقبائل وليس عن أفراد، أى أنه حديث عن أمم ومجتمعات وتجمعات لذلك فقد جاز لنا تطبيق هذا المفهوم على مستوى الحضارات، ومن هنا تحدد مفهوم تعارف الحضارات. فهى نظرية مستنبطة من القرآن الكريم، وهو الكتاب الذى بإمكانه تحديد وصياغة العناوين أو المفاهيم الكلية والعامة والجامعة والشاملة ، إذا جاءت فى سياق يقتضى هذا الشأن - كما هو الحال فى آية التعارف - علمًا بأن جملة (شعوبًا وقبائل) لم ترد فى القرآن الكريم إلا فى هذه الآية . لهذا فإن تعارف الحضارات فيها من المقومات والركائز والشرائط بالشكل الذى يجعلنا نطلق عليها مصطلح النظرية .
ويضيف زكى الميلاد :
إن نظرية تعارف الحضارات هى أكثر من كونها مرحلة وسيطة أو انتقالية، فهى وسيطة بمعنى أن على أساسها تتحدد مستويات ودرجات واتجاهات العلاقات ونظام التواصلات بين الناس، وبين المجموعات البشرية، وبين الحضارات، وهكذا أنماط وأشكال وصور هذه العلاقات والتواصلات. فالتعارف هو الذى يؤسس لأشكال الحوار ومستوياته ودرجاته، وإلى أشكال ومستويات ودرجات أخرى من العلاقات والتواصلات أيضًا ، كالتعاون والتحالف والتبادل والإنماء والاندماج والتكامل .. إلى غير ذلك من صور وأشكال وأنماط العلاقات . وبقدر ما يتطور التعارف تتطور تلك الصور والأنماط من العلاقات والتواصلات ، وهذا يعنى أن التعارف يسبق الحوار ويؤسس له أرضياته ومناخاته , ويشكل له بواعثه وحوافزه ، ويطور له صوره وأنماطه ، ويرتقى بدرجاته ومستوياته ، ولهذا فإن التعارف هو القاعدة وليس الحوار .
كما أن التعارف له من الفاعلية ما بإمكانه أن يجنب الحضارات مصير الصدام ، لأن الناس - كما قال الإمام على (رضى الله عنه) - أعداء ما جهلوا . وفى هذا المجال نستحضر من التاريخ الإسلامى الوسيط تجربة التحول العظيم الذى حصل عند المغول الذين بدؤوا بغزو كان من نتائجه تدمير الحضارة الإسلامية والإطاحة بها , وممارسة أعلى درجات البربرية وهو السلوك الذى كان يتصف بالقسوة والعنف والتخريب . ولكنهم وبعد زمن من السيطرة والتواجد فى المنطقة الإسلامية وبين المسلمين ، انتهوا إلى اعتناق الإسلام . والتعارف هو الذى أحدث هذا المستوى من التحول فى ذهنيات المغول . فالجهل قادهم إلى الحرب والتدمير ، والتعارف قادهم إلى السلم والإيمان .
وهناك أيضًا نموذج آخر هو التحول الذى حصل عند الأوروبيين بعد الحروب الصليبية التى قادتهم إلى قناعة جديدة ، هى ضرورة التعرف على الحضارة الإسلامية وعلى الشرق عمومًا ، الذى كان أكثر تقدمًا وتحضرًا ومدنية من الغرب . القناعة التى حرضت الغرب على أن ينهض بأكبر وأعظم جهد بحثى فى دراسة الإسلام والحضارة والشرق ، وهو الجهد الذى عرف بحركة الاستشراق ، وكان من المفترض لهذا الجهد أن يقود أوروبا إلى نوع من التفاهم وبناء علاقات جديدة بينها وبين الإسلام والعالم الإسلامى . لكن الذى حصل هو عكس الاتجاه تمامًا ، لأن المعرفة التى نهض بها الغرب ارتبطت بدوافع وخلفيات ومصالح استعمارية وإمبريالية ، وهذا يعنى أن التعارف لم يكن أخلاقيًا ، وإنما كان توظيفيًا ويخدم مصالح استعمارية .
وينتقد زكى الميلاد تعبير (حوار الحضارات) قائلاً :(3/11)
قد وجدت بعد فحص مقولة حوار الحضارات أن هذه المقولة تفتقر إلى الدقة والوضوح والإحكام والتماسك . وأول ما يعترض هذه المقول هو : هل أن الحضارات تتحاور فعلاً ؟ وكيف نتصور هذا التحاور ونبرهن عليه ؟ علمًا بأن الدارسين والباحثين والمؤرخين فى ميادين التاريخ والاجتماع والانثربولوجيا والحضارة والثقافة ، الذين درسوا صور وأشكال وأنماط العلاقات بين الحضارات لم يتحدثوا عن ظاهرة الحوار بين الحضارات ، وإنما تحدثوا عن ظواهر أخرى كالتفاعل والتعاقب والتبادل والاحتكاك ، إلى جانب الصراع والصدام . وقد شرحوا هذه الظواهر وعرفوا بها وعن صورها وأشكالها وأنماطها . ولعل فى أكثر الأحيان يكون المقصود من حوار الحضارات تلك الظواهر المذكورة، لكن هذا لا يعفى من سلب الدقة عن هذه المقولة . وفى الأدبيات العربية المعاصرة هناك لفتات متزايدة ومقنعة لحد ما فى نقد هذه المقولة بعد أن دخلت فى دائرة التداول والاهتمام . وهناك من يصنفها مثل الدكتور الجابرى بأنها مفعمة بالغموض والالتباس ، وحسب رأيه أن الذين يطرحون هذه المقولة يتوقفون عند منطوقها حيث ينطوى موقفهم على نوع من الغفلة ، لأن الحوار بين الحضارات إما أن يكون عفويًا تلقائيًا نتيجة الاحتكاك الطبيعى فيكون عبارة عن تبادل التأثير عن أخذ وعطاء بفعل الصيرورة التاريخية، وهذا النوع من تلاقح الحضارات لا يحتاج إلى دعوة ، ولا يكون بتخطيط مسبق بل هو عملية تاريخية تلقائية .
ومن جهة أخرى فى نقد هذه المقولة : أنها غير ممكنة فعلاً من جهة التطبيق ، لأن الغرب الذى يفترض فيه أن يكون طرفًا أساسيًا فى أى حوار على مستوى الحضارات ، فإنه ليس على استعداد فى أنها ينخرط فى هذا الحوار مع حضارات يعتبرها غير متكافئة معه ، وهو الذى يمثل الحضارة الغالبة والمسيطرة على العالم والمتحكمة فى ثرواته . كما أن تاريخ علاقات الغرب بالحضارات الأخرى قد لا يشجعه على هذا الحوار ، وهو الذى دخل فى صدام وتدمير مع بقية الحضارات الأخرى وسلب منها ثرواتها وأوصلها إلى درجة الإفقار والتخلف .
يضاف إلى ذلك أننا على مستوى العالم العربى والإسلامى لا نمتلك نظرية واضحة حول حوار الحضارات ، ولا نفهمها أو نتعامل معها إلا بطريقة تغلب عليها العمومية والإطلاقية التى تفتقد إلى التحديد والتقييد والتبيين . لكنها مع ذلك تبقى من المقولات التى يمكن اعتبارها دعوة أخلاقية نبيلة .
وهذا ما دفعنى إلى التمسك بمقولة (تعارف الحضارات) التى يمكن فهمها وتحديدها والبرهنة عليها , وحتى الاتفاق عليها . ويلاحظ زكى الميلاد أنه بعد 11 سبتمبر 2001م تنامت فى المجتمعات الغربية ظاهرة لفتت إليها الكثيرين فى داخل هذه المجتمعات ، وفى خارجها ، وهى ظاهرة تزايد واتساع الاهتمام نحو الاطلاع والتعرف والتساؤل عن الإسلام من جديد ، لدرجة أصبحت المؤلفات والكتابات فى هذا المجال هى الأكثر انتشارًا وتداولاً وطلبًا ، وبدأت المراكز والمعاهد والجمعيات الإسلامية هناك تستقبل اتصالات لم تشهد مثيلاً لها من قبل ، وتدور هذه الاتصالات حول الإسلام والقضايا الإسلامية والمجتمعات الإسلامية . ووصل الحال ببعض المعاهد والكليات والجامعات الأوروبية والأمريكية - التى وجدت من الضرورى تخصيص برامج دراسية حول الإسلام - أن تستجيب لحاجات طلابها فى تكوين المعرفة بالإسلام والثقافة الإسلامية ، ويمكن وصف هذه الظواهر بأنها تأتى فى سياق تأكيد الحاجة إلى تعارف الحضارات .
من جهة أخرى إن هذه الأحداث كشفت عن اختلالات عميقة فى طبيعة الرؤية المتشكلة حول العالم عند بعض الفئات والجماعات الإسلامية التى تحاول أن تصادم العالم وتنقطع عنه وترفض الاندماج فيه , وتعتبر أنها فى حالة حرب ومواجهة مع الذين يختلفون معها فى الدين والعقيدة . وهذه الحالة فى جوهرها تعبر عن أزمة فكرية ناشئة من عدم القدرة على تكوين المعرفة بالآخر المختلف . فىحين أن الذى ينبغى إعادة النظر فيه هو أن حقيقة مشكلتنا نحن فى العالم الإسلامى هى مع تخلفنا بالدرجة الأولى وليس مع الغرب أو الحضارات الأخرى . وبالتالى فإن القضية هى كيف نتغلب على هذا التخلف ونسلك طريق التحضر ، ومتى ما قطعنا هذه الخطوات أو بعضها سوف يتغير موقعنا فى العالم ، كما سوف تتغير نظرة العالم والحضارات الأخرى إلينا. لذلك فإننا ندرك وبعمق حاجتنا لأن ننهض بمشروع يكون بمستوى التعارف مع الحضارات على قاعدة أن نكتشف لأنفسنا الطريق الذى نستقل به فى سعينا نحو التمدن والتحضر .
كان يفترض فى أحداث 11 سبتمبر 2001م ، أن تهيىء اللحظة التاريخية لانطلاقة فكرة أو نظرية حول تعارف الحضارات ، لكى يتحصن العالم من النزاعات والصدامات والحروب ، ولكى لا تتكرر مثل هذه الأحداث مرة أخرى فى أى مكان من العالم . وهذا يتطلب صياغة رؤية جديدة للعالم يشترك الجميع بكل تنوعاتهم الدينية والثقافية ، العرقية والقومية ، اللغوية واللسانية ، فى صياغتها وبلورتها وتكاملها ، وفى التضامن حولها ، والدفاع عنها . الرؤية التى تنطلق من مراجعة شاملة ونقد جذرى لطبيعة النظام العالمى السائد بكل مكوناته وعناصره وشرائطه ، ويصل إلى جوهره وحقيقته . لأن هذا النظام العالمى يرسخ العنصرية والطبقية وبكل صورها وأنماطها ، ولا يضمن كرامة الجميع ولا يحفظ حقوق الجميع . وهذه الوضعيات هى التى تحرض على انتشار ظواهر العنف ، وتسبب النزاعات ، وتشعل الحروب ، وهى التى تجعل مثل أحداث أيلول/سبتمبر ممكنة الحدوث . والأفدح من ذلك محاولة الغرب أن يحتكر الحضارة والمدنية لنفسه ، ويرسخ فى العالم الانقسام بين أمم متحضرة وأمم متخلفة ، هذا الاختلال هو ما ينبغى أن يتغير .
وفكرة تعارف الحضارات تأتى فى سياق نقد هذا الاختلال والعمل على إنهاض وبناء وعمران الحضارات المختلفة ، لأنها - أى تعارف الحضارات - تنطلق من نزعة إنسانية عميقة هى التأكيد على وحدة الأصل الإنسانى ، والغاية من تأكيد وحدة الأصل الإنسانى فى هذه الآية هو أن ينظر الناس من أمم ومجتمعات وحضارات إلى أنفسهم كما لو أنهم أسرة واحدة ، لكنها منتشرة على مساحات هذه الأرض . وهذه النظرة الإنسانية والأخلاقية بحاجة إلى تنظيم قواعد السلوك على المستوى الدولى . يضاف إلى ذلك أن هناك اعتقادًا بدأ يتأكد بين الحضارات ، هو أن هذه الحضارات لا تعرف بعضها بعضًا كما ينبغى ، وتفتقد إلى جسور التواصل فى عالم تطورت فيه تقنيات الاتصال وأنظمة المواصلات التى باتت تربط العالم ، وتجعل منه أشبه ما يكون بقرية صغيرة. لهذا يمكن الاستفادة من العولمة فى تطوير وتعميم فكرة التعارف بين الحضارات، وتقليص المسافات التى تفصل بينها وإزالة جميع صور الجهل أو عدم الفهم أو غير ذلك فيما بين هذه الحضارات .
رأى المؤلف(3/12)
نظن أن الاختلاف فى تحديد اسم العلاقة مع الآخر ، وهل هو (حوار) أم (تعارف) أم (تدافع) لا يهم .. المهم فى نظرنا أن يكون جوهر العلاقة مع الآخرين هو : التفاهم والتواصل والتبادل الحضارى ؛ أى تبادل المنافع والخيرات والخبرات ، كما نلاحظ أن المعانى متقاربة للغاية ، وكل منها يقره الإسلام بل يدعو إليه ..كذلك فإن التحاور هو الوسيلة إلى التعارف ، كما أن التدافع يعنى التفاعل الإيجابى، وأن يفيد كل طرف بما هو نافع وحسن لدى الآخر وينبذ الباقى .. وتبادل المنافع والثقافات والخيرات مرحلة تتبع الحوار والتعارف ثم التواصل والتآلف .. وبناء على ذلك ينبغى على علمائنا عدم التوقف كثيرًا عند المسميات ، وإثارة الخلافات النظرية حولها ، بل ننصرف سريعًا إلى المضمون والجوهر ، فمازلنا فى بداية الطريق ، والعبرة بالتطبيق وسرعة تحويل الأفكار والنظريات إلى واقع ملموس على الأرض .
• والمطلوب الآن ترسيخ ثقافة الحوار مع الآخر ، وبث مفاهيم التواصل والتبادل الحضارى على الجانبين ، وحشد أنصار جدد لها للتصدى للمعسكر الآخر الداعى إلى الصراع والصدام ، واستخدام كل السبل والوسائل المتاحة - وعلى رأسها وسائل الإعلام العالمية - للرد على جميع مزاعم هنتنجتون وأمثاله وتفنيد آرائهم الهدَّامة ، وإقناع الجميع بخطورة التسليم بها، وضرورة شيوع ثقافة الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى، فهى الحل الوحيد لإنقاذ البشرية كلها من ويلات ومخاطر لا تُبقى ولا تذر .
ضوابط الحوار :
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى ضوابط الحوار فيما يلى :
• الحوار بالحسنى : فالقرآن الكريم يأمرنا صراحة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) النحل:125 . فالموافقون لك فى الدين تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، والآخرون تجادلهم بالتى هى أحسن ، وهناك طريقتان للحوار : طريقة حسنة ، وطريقة أحسن منها وأجود ، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة التى هى أحسن وأمثل. وقد اكتفى القرآن مع الموافقين بأن تكون الموعظة حسنة ، ولم يرض مع المخالفين إلا أن يكون الجدال بالتى هى أحسن .
وقد نص القرآن على ذلك فى خصوص أهل الكتاب ، فقال تعالى : (ولاتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم) العنكبوت:46 .
ومن أجل ذلك أفضل أن يكون عنوان الدعوة (الحوار بين الأديان) وليس (التقريب)؛ لأنها تفهم خطأ .
• التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب ؛ ولهذا جاء فى تتمة الآية السابقة فى مجادلة أهل الكتاب : (وقولوا آمنا بالذى أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت:46 .
ففى مجال التقريب والحوار بالتى هى أحسن : ينبغى ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف .
وهناك من المسلمين المتشددين من يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرفوا وبدلوا كلام الله .
وهذا فهم خاطىء للموقف الإسلامى من القوم . فلماذا أباح الله تعالى مؤاكلتهم ومصاهرتهم؟ وكيف أجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته وأم أولاده كتابية ؟ ومقتضى هذا : أن يكون أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم من أهل الكتاب، وهؤلاء جميعًا لهم حقوق ذوى الرحم وأولى القربى .
ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس - وهم مجوس يعبدون النار - على الروم ، وهم نصارى أهل الكتاب ؟ حتى أنزل الله قرآنًا يبشر المسلمين بأن الروم سينتصرون فى المستقبل القريب (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) الروم:4 ، 5 ، كما جاء فى أول سورة الروم .
وهذا يدل على أن أهل الكتاب - وإن كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم - أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين .
• الوقوف معًا لمواجهة أعداء الإيمان ، ودعاة الإلحاد فى العقيدة، والإباحية فى السلوك ، من أنصار المادية ، ودعاة العرى، والتحلل الجنسى والإجهاض والشذوذ الجنسى ، وزواج الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء .
فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب فى جبهة واحدة ، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضللة ، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من نقاء الإنسانية إلى درك الحيوانية : (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان : 43 ، 44 .
وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامى والفاتيكان يقفون فى (مؤتمر السكان) فى القاهرة سنة 1994م، وفى مؤتمر المرأة فى بكين سنة 1995م فى صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحية .
• الوقوف معًا لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين فى العالم، مثل قضية فلسطين والبوسنة والهرسك، وكوسوفا ، وكشمير ، واضطهاد السود والملونين فى أمريكا وفى غيرها، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين فى الأرض بغير الحق، الذين يريدون أن يتخذوا عباد الله عبادًا لهم .
فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين، من أى شعب ، ومن أى جنس، ومن أى دين .
والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذى شارك فيه فى شبابه فى الجاهلية ، وكان حلفًا لنصرة المظلومين ، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم .
وقال عليه الصلاة والسلام: (لو دعيت إلى مثله فى الإسلام لأجبت)(6).
• ومما ينبغى أن تتضمنه هذه الدعوة : إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق فى التعامل بين أهل الأديان ، لا روح التعصب والقسوة والعنف .
فقد خاطب الله تعالى رسوله محمدًا بقوله : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 .
وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه : (إنما أنا رحمة مهداة)(7) .
وذم الله بنى إسرائيل بقوله : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) المائدة:13 ، وفى موضع آخر قال فى مخاطبتهم : (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة) البقرة:74 .
وقال النبى لزوجه عائشة : (إن الله يحب الرفق فى الأمر كله)(8) ، (ما دخل الرفق فى شىء إلا زانه وما نزع من شىء إلا شانه) ، (إن الله يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف)(9) .
ولا تتنافى روح التسامح والرحمة والرفق فى معاملة أهل الكتاب مع ما يعتقده المسلم من كفرهم بدين الإسلام، وأنهم على ضلال، فهناك عناصر أخرى تخفف من هذا الأمر فى فكر المسلم وضميره :
1- فهو يعتقد أن اختلاف البشر فى أديانهم واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته . كما قال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود:119،118، أى خلقهم ليختلفوا مادام قد منحهم العقل وحرية الإرادة .
2- وأن الحساب على ضلال الضالين، وكفر الكافرين ليس فى هذه الدنيا، ولكن فى الآخرة, وليس موكولاً إلينا ، ولكن إلى الله الحكم العدل، واللطيف الخبير . كما قال تعالى لرسوله : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولاتتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) الشورى:15 .
3- اعتقاد المسلم بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان . وفى هذا روى البخارى عن جابر : أن النبى صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفًا، فقالوا : يا رسول الله ، إنها جنازة يهودى! فقال : (أليست نفسًا؟) بلى فما أعظم الموقف، وما أروع التعليل !!(3/13)
4- إيمان المسلم بأن عدل الله لجميع عباد الله، مسلمين وغير مسلمين، كما قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة:8، وبهذا لا يتحيز المسلم الحق لمن يحب، ولا يحيف على من يكره. بل يؤدى الحق لأهله، مسلمًا أو غير مسلم، صديقًا أم عدوًا(10) .
المراجع
1. مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 رجب 1424 هـ .
2. المعجم الوسيط - مجمع اللغة العربية - القاهرة - دار المعارف ص 205 .
3. الشيخ محمد الخضيرى - تاريخ التشريع الإسلامى - المكتبة التجارية - مصر .
4. محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - الدار القومية - القاهرة - 1964هـ ص 29 .
(5) موقع البلاغ www.balagh.com .
6. الدكتور أحمد عبد العزيز المزينى - مجلة الوعى الإسلامى - العدد 455 .
7. رواه ابن إسحاق فى السيرة كما فى ابن هشام (1/29) من الطبعة الجمالية، قال ابن زيد بن المهاجر قنفذ التيمى أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرى يقول : قال رسول الله : فذكره، قلت : وهذا سند صحيح لولا أنه مرسل . ولكن له شواهد تقويه ، فرواه الحميدى بإسناد آخر مرسلاً أيضًا كما فى (البداية) 2/29. وأخرجه الإمام أحمد (رقم 1655/ 1676) من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا دون قوله : (ولو دُعيت به فى الإسلام لأجبت) وسنده صحيح .
8. الحاكم : عن أبى هريرة :1/35 صححه الحاكم ووافقه الذهبى، تفسير ابن كثير 3/202،201.
9. متفق عليه : اللؤلؤ والمرجان عن عائشة (1400) .
(10) د. يوسف عبد الله - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل الرابع
هل انتشر الإسلام بالسيف ؟
من المزاعم التىتخيف الآخرين وتعرقل الحوار والتعارف ، تلك الأكذوبة التى يتداولها كثير من المستشرقين، وخلاصتها : أن الإسلام قد انتشر بالسيف.. ويمكننا الرد على هذه الفرية بكل سهولة وإيجاز فيما يلى :
• لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة 13 عامًا فى مكة يدعو إلى الله سراً وعلانيةً .. وتعرض هو وكل أصحابه لأذى المشركين واضطهادهم بكل الوسائل والأساليب ، فما رفع أحدهم سيفًا على مشرك .. وقد يقول قائل : هذا لأنهم كانوا مستضعفين فى ذلك الوقت .. ونرد فورًا بأن النبى صلى الله عليه وسلم عفا عمن آذوه وعذبوا أصحابه وقتلوا بعضهم عندما أمكنه الله منهم بفتح مكة ، وقال لهم قولته الشهيرة : (اذهبوا فأنتم الطلقاء)(1) .
• إن استمرار وجود ملايين من غير المسلمين فى معظم دول العالم الإسلامى حتى الآن بكنائسهم ومعابدهم هو الدليل القاطع على تسامح المسلمين وعدلهم ، وحمايتهم للآخر ، وعدم إكراه أحد على الإسلام بعد أن فتحوا تلك البلدان . (قارن هذا التسامح بالإبادة الجماعية للمسلمين فى إسبانيا بعد انتهاء الحكم الإسلامى بها ، وإبادة الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين على أيدى البيض الذين قدموا من شتى أنحاء أوروبا واحتلوا الأمريكتين بقوة السلاح) .
• فى عصرنا الحديث اعتنق الملايين من الأوروبيين والأمريكان الإسلام .. ومازال عشرات الألوف يدخلون فى دين الله أفواجًا يوميًا بعد اقتناع ودراسة متأنية .. أى سيف الآن أجبر هؤلاء على الإسلام ؟! لقد اعترف الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية (أقوى دولة فى العالم والتى تحتل الآن دولاً إسلامية مثل العراق وأفغانستان) فهل نقدر الآن - كمسلمين - على ممارسة أى ضغط أو إجبار على أحد من الأمريكان أو الأوروبيين لاعتناق الإسلام ؟ هل أرغم أحد المفكر العالمى الفرنسى رجاء جارودى على اعتناق الإسلام ؟ هل هدد أحد النجم العالمى كات ستيفن ليصبح مسلماً ؟ وهل أجبر أحد الملاكم العالمى محمد على كلاى وزميله مايك تايسون على الإسلام ؟ وماذا عن مئات القساوسة فى الغرب الذين أسلموا بعد مقارنة للأديان ؟(2) .
• دخل الإسلام معظم أنحاء آسيا وأفريقيا عن طريق التجار المسلمين العزل من أى سلاح - سوى العقيدة الراسخة - الذين جذبوا أنظار السكان الأصليين بالأمانة والصدق ومكارم الأخلاق ، ونجحوا فى دعوتهم إلى الإسلام بالقدوة الحسنة .
• نصوص القرآن قاطعة فى النص على حرية العقيدة .. يقول الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير قوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) البقرة:256 . أخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال : (لا إكراه فى الدين) هذه الآية فى رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو مسلماً ، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما ؛ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله الآية . وفى بعض التفاسير أنه حاول إكراههما ، فاختصموا إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله ، أيدخل بعضى النار وأنا أنظر ! ولابن جرير عدة روايات فى نذر النساء فى الجاهلية تهويد أولادهم ليعيشوا ، وإن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام ، فنزلت الآية ، فكانت فصل ما بينهم ، وفى رواية له عن سعيد بن جبير أن النبى صلى الله عليه وسلم قال عندما أنزلت : (قد خيَّرَ الله أصحابكم ، فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم) .
قال الشيخ رشيد رضا فى تفسير الآية(3) : هذا حكم الدين الذى يزعم الكثيرون من أعدائه - وفيهم من يظن أنه من أوليائه - أنه قام بالسيف والقوة، فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه ، فمن قبله نجا ، ومن رفضه حكم السيف فيه حكمه ، فهل كان السيف يعمل عمله فى إكراه الناس على الإسلام فى مكة أيام كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى مستخفياً ، وأيام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من التعذيب ولا يجدون رادعاً ، حتى اضطر النبى وأصحابه إلى الهجرة ؟ أم يقولون إن ذلك الإكراه وقع فى المدينة بعد أن اعتز الإسلام ، وهذه الآية قد نزلت فى غرة هذا الاعتزاز ؟ فإن غزوة بنى النضير كانت فى ربيع الأول من السنة الرابعة ، وقال البخارى : إنها كانت قبل غزوة أحد التى لا خلاف فى أنها كانت فى شوال سنة ثلاث ، وكان كفار مكة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب . نقض بنو النضير عهد النبى صلى الله عليه وسلم ، فكادوا له وهمَّوا باغتياله مرتين ، وهم بجواره فى ضواحى المدينة ، فلم يكن بُدّ من إجلائهم عن المدينة ، فحاصرهم حتى أجلاهم ، فخرجوا مغلوبين على أمرهم ، ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهودين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع اليهود، فذلك أول يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام ، وهو اليوم الذى نزل فيه (لا إكراه فى الدين) .
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله أنه قال : كان معهودًا عند بعض الملل لاسيما النصارى حمل الناس على الدخول فى دينهم بالإكراه ، وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين، لأن الإيمان - وهو أصل الدين وجوهره - عبارة عن إذعان النفس ، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه ، وإنما يكون بالبيان والبرهان ، ولذلك قال تعالى بعد نفى الإكراه : (قد تبين الرشد من الغى) البقرة:256 ، أى قد ظهر أن فى هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير فى الجادة على نور، وأن ما خالفه من الملل والنحلل على غى وضلال .(3/14)
ثم قال : ورد بمعنى هذه الآية (يونس:99) قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وتؤيدهما الآيات الكثيرة الناطقة بأن الدين هداية اختيارية للناس ، تعرض عليهم مؤيدة بالآيات والبينات ، وأن الرسل لم يبعثوا جبارين ولا مسيطرين ، وإنما بعثوا مبشرين ومنذرين . ولكن يُرد علينا أنا أمرنا بالقتال ، وقد تقدم بيان حكمة ذلك ، بلى أقول : إن الآية التى نفسرها نزلت فى غزوة بنى النضير، إذ أراد بعض الصحابة إجبار أولادهم المتهودين أن يسلموا ولا يكونوا مع بنى النضير فى جلائهم كما مر ، فبين الله لهم أن الإكراه ممنوع ، وأن العمدة فى دعوة الدين بيانه حتي يبين الرشد من الغى، وأن الناس مخيرون بعد ذلك فى قبوله أو تركه . ثم قال : شرع القتال لتأمين الدعوة، ولكف شر الكافرين عن المؤمنين، لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه، كما كانوا يفعلون ذلك فى مكة جهرًا، ولذلك قال : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) البقرة:193 ، أى حتى يكون الإيمان فى قلب المؤمن آمنا من زلزلة المعاندين له بإيذاء صاحبه، فيكون دينه خالصاً لله غير مزعزع ولا مضطرب، فالدين لا يكون خالصاً لله إلا إذا كفت الفتن عنه وقوى سلطانه، حتى لا يجرؤ على أهله أحد.
ثم نقل عن الأستاذ الإمام محمد عبده أن الفتن إنما تكف بأحد أمرين :
الأول : إظهار المعاندين للإسلام ولو باللسان، لأن من فعل ذلك لا يكون من خصومنا، ولا يبارزنا بالعداء، وبذلك تكون كلمتنا بالنسبة إليه هى العليا، ويكون الدين لله، ولا يفتن صاحبه فيه، ولا يمنع من الدعوة إليه .
والثانى : - وهو أدل على عدم الإكراه - قبول الجزية، وهى شىء من المال يعطوننا إياه جزاء حمايتنا لهم بعد خضوعهم لنا، وبهذا الخضوع نكتفى شرهم، وتكون كلمة الله هى العليا .
فقوله تعالى : (لا إكراه فى الدين) قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولايسمح لأحد أن يكره أحداً من أهله على الخروج منه . وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمى بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا فى ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدى بمثله عليه ، إذ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل المخالفين بالتى هى أحسن ، معتمدين على أن تَبَيُّن الرشد من الغى هو الطريق المستقيم إلى الإيمان، مع حرية الدعوة، وأمن الفتنة . فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار، أى أنه ليس من جوهره ومقاصده، وإنما هو سياج له وجُنَّة، فهو أمر سياسى لازم له للضرورة، ولا التفات لما يهذى به العوام ومعلموهم الطغام، إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف، وأن الجهاد مطلوب لذاته، فالقرآن فى جملته وتفصيله حجة عليهم .
وذكر أيضًا فى تفسير قوله تعالى : (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) أن هذه أول آية نزلت فى أن الدين لا يكون بالإكراه، أى لا يمكن للبشر ولا يُستطاع، ثم نزل عند التنفيذ (لا إكراه فى الدين) (البقرة:256) أى لا يجوز ولا يصح به، لأن علماء المسلمين أجمعوا على أن إيمان المُكْره باطل لا يصح، لكن نصارى أوروبا ومقلديهم من أهل الشرق لا يستحون من افتراء الكذب على الإسلام والمسلمين، ومنه رميهم بأنهم كانوا يكرهون الناس على الإسلام ، ويُخَيِّرونهم بينه وبين السيف يقطع رقابهم، على حد المثل : (رمتنى بدائها وانسلت) .
فهذا ما يقوله الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا فى تفسير تلك الآية, وهما اللذان كان لهما ولأستاذهما جمال الدين الأفغانى الفضل فى تطهير الإسلام مما لصق به من آثار الجمود، حتى أعادوه إلى طهارته وروعته الأولى، فأمكنه أن يقف كالصخرة العاتية أمام سيل الشبهات التى توجه إليه فى هذا العصر، ولولا هذا لتزعزعت أركانه ، ولاختفى فى ظلمات الجمود التى كانت تخيم عليه، وتساعد أعداء الإسلام فيما يوجهونه من طعنات إليه، كما يساعدونهم فى جمودهم على تفسير تلك الآية بما يفيد أن الإسلام لم ينتشر إلا بالإكراه .
شهادة مفكر مسيحى
وهناك أيضًا شهادات المنصفين من غير المسلمين ، ونختار منها شهادة ذلك المفكر المصرى المسيحى الدكتور نبيل لوقا بباوي(4) الذى أصدر مؤخرًا دراسة تحت عنوان : (انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء) رد فيها على الذين يتهمون الإسلام بأنه انتشر بحد السيف وأجبر الناس على الدخول فيه واعتناقه بالقوة .
وناقشت الدراسة هذه التهمة الكاذبة بموضوعية علمية وتاريخية أوضحت خلالها أن الإسلام، بوصفه دينًا سماويًا، لم ينفرد وحده بوجود بفئة من أتباعه لاتلتزم بأحكامه وشرائعه ومبادئه التى ترفض الإكراه فى الدين، وتحرم الاعتداء على النفس البشرية، وأن سلوك وأفعال وفتاوى هذه الفئة القليلة من الولاة والحكام والمسلمين غير الملتزمين لا تمت إلى تعاليم الإسلام بصلة .
فقد حدث فى المسيحية أيضاً التناقض بين تعاليمها ومبادئها التى تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام بين البشر وعدم الاعتداء على الغير ، وبين ما فعله بعض أتباعها فى البعض الآخر من قتل وسفك دماء واضطهاد وتعذيب، مما ترفضه المسيحية ولا تقره مبادئها، مشيرة إلى الاضطهاد والتعذيب والتنكيل والمذابح التى وقت على المسيحيين الكاثوليك، لاسيما فى عهد الإمبراطور دقلديانوس الذى تولى الحكم فى عام 248م، فكان فى عهده يتم تعذيب المسيحيين الأرثوذكس فى مصر بإلقائهم فى النار أحياء ، أو تعليقهم على الصليب حتى يهلكوا جوعًا، ثم تترك جثثهم لتأكلها الغربان، أو كانوا يوثقون فى فروع الأشجار، بعد أن يتم تقريبها بآلات خاصة ، ثم تترك لتعود لوضعها الطبيعى فتتمزق الأعضاء الجسدية للمسيحيين إرباً إرباً .
وأضاف بباوي : أن أعداد المسيحيين الذين قتلوا بالتعذيب في عهد الإمبراطور دقلديانوس يقدر بأكثر من مليون مسيحى ، إضافة إلى المغالاة فى الضرائب التى كانت تفرض على كل شىء حتى على دفن الموتى ، لذلك قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مصر اعتبار ذلك العهد عصر الشهداء، وأرخوا به التقويم القبطى تذكيرًا بالتطرف المسيحى. وأشار الباحث إلى الحروب الدموية التى حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت فى أوروبا، وما لاقاه البروتستانت من العذاب والقتل والتشريد والحبس في غياهب السجون إثر ظهور المذهب البروتستانتى الذى أسسه الراهب مارتن لوثر الذى ضاق ذرعاً بمتاجرة الكهنة بصكوك الغفران ، فتصدوا له ولأتباعه وذبحوا الملايين منهم .
وهدفت الدراسة من عرض هذا الصراع المسيحى إلى :(3/15)
أولاً : عقد مقارنة بين هذا الاضطهاد الدينى الذى وقع على المسيحيين الأرثوذكس من قبل الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ، وبين التسامح الدينى الذى حققته الدولة الإسلامية في مصر، وحرية العقيدة الدينية التى أقرها الإسلام لغير المسلمين ، وتركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية داخل كنائسهم، وتطبيق شرائع ملتهم في الأحوال الشخصية، مصداقًا لقوله تعالى في سورة البقرة : (لا إكراه في الدين) البقرة:256، وتحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية إعمالاً للقاعدة الإسلامية (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهذا يثبت أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقوة لأنه تم تخيير غير المسلمين بين قبول الإسلام أو البقاء على دينهم مع دفع الجزية (ضريبة الدفاع عنهم وحمايتهم وتمتعهم بالخدمات)، فمن اختار البقاء على دينه فهو حر، وقد كان في قدرة الدولة الإسلامية أن تجبر المسيحيين على الدخول في الإسلام بقوتها، أو أن تقضى عليهم بالقتل إذا لم يدخلوا قهرًا، ولكن الدولة الإسلامية لم تفعل ذلك تنفيذاً لتعاليم الإسلام ومبادئه، فأين دعوى انتشار الإسلام بالسيف ؟
ثانيًا : إثبات أن الجزية التى فرضت على غير المسلمين فى الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان التى وقعت معهم، إنما هى ضريبة دفاع عنهم فى مقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أى اعتداء خارجى، لإعفائهم من الاشتراك فى الجيش الإسلامى حتى لا يدخلوا حربًا يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به، ومع ذلك فإذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى الجيش الإسلامى برضاه فإنه يعفى من دفع الجزية .
وتقول الدراسة : إن الجزية كانت تأتى أيضًا نظير التمتع بالخدمات العامة التى تقدمها الدولة للمواطنين مسلمين وغير مسلمين، والتى تنفق من أموال الزكاة التى يدفعها المسلمون بصفتها ركناً من أركان الإسلام، وهذه الجزية لا تمثل إلا قدرًا ضئيلاً متواضعًا لو قورنت بالضرائب الباهظة التى كانت تفرضها الدولة الرومانية على المسيحيين فى مصر، ولا يعفى منها أحد، فى حين أن أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس كانوا يعفون من دفع هذه الجزية، فقد كان يعفى من دفعها : القُصّر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب الأمراض والرهبان والفقراء أيضًا كانوا يعفون .
ثالثاً : إثبات أن تجاوز بعض الولاة المسلمين ، أو بعض الأفراد أو بعض الجماعات من المسلمين فى معاملاتهم لغير المسلمين إنما هى تصرفات فردية شخصية لا تمت لتعاليم الإسلام بصلة، ولا علاقة لها بمبادىء الدين الإسلامى وأحكامه، فإنصافاً للحقيقة يجب ألا ينسب هذا التجاوز للدين الإسلامى، وإنما ينسب إلى من تجاوز، وهذا الضبط يتساوى مع رفض المسيحية للتجاوزات التى حدثت من الدولة الرومانية ، ومن المسيحيين الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس، ويتساءل قائلاً : لماذا إذن يغمض بعض المؤرخين عيونهم عن التجاوز الذى حدث فى جانب المسيحية ولا يتحدثون عنه بينما يضخمون الذى حدث فى جانب الإسلام، ويتحدثون عنه ؟ ولماذا الكيل بمكيالين ؟ والوزن بميزانين؟!
• ونشير فى هذا الصدد إلى الواقعة المشهورة التى ترويها كتب التاريخ (سيرة عمر بن الخطاب للإمام الجوزى) التى اقتص فيها الفاروق عمر من ابن والى مصر عمرو بن العاص الذى ضرب قبطيًا ظلمًا ، وقال الفاروق كلمته المشهورة : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟!) .
المراجع
(1) راجع سيرة ابن هشام – السيرة النبوية لابن كثير – فقه السيرة للشيخ محمد الغزالى .
(2) انظر قصص إسلام هؤلاء فى : www.thetruereligion.org/converts ، وموقع www.saaid.net ، www.islamway.com .
(3) تفسير المنار - سورة البقرة - الآية 256 . وقارن تفسير هذه الآية فى الجامع لأحكام القرآن للقرطبى - تفسير ابن كثير - تفسير النسفى - تفسير البيضاوى - تفسير الطبرى - فى ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب .
(4) نبيل لوقا بباوى - انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والافتراء - دار بباوى للنشر - القاهرة 2003م .
الفصل الخامس
الأقليات فى المجتمع الإسلامى
لكى ندرك عظمة التشريع الإسلامى فى الاعتراف (بالآخر) وحفظ حقوقه فى إطار من التعايش السلمى للمجتمع بجميع طوائفه وفئاته، علينا أن نشير إلى ما كانت عليه الأمم الأخرى قبل ظهور الإسلام ..
• فالرومان كانوا يحتكرون (السيادة والشرف) للجنس الرومانى، ويرون فى الأخرين والأغيار (برابرة) لا يستحقون حتى أن يطبق عليهم القانون الرومانى! .. ولا حق لهم فى التدين بغير دين السادة الرومان - وثنّيا كان هذا الدين أو نصرانيًا - ولقد صبوا جام اضطهادهم، فى حقبة الوثنية، على اليهود وعلى النصارى، وفى حقبة تنصرهم، على النصرانية الشرقية - المخالفة لهم فى المذهب - فى مصر والشام .
• واليهودية التلمودية، قد تحولت إلى (وثنية) جعلت الله، سبحانه وتعالى، إله بنى إسرائيل وحدهم، وللشعوب الأخرى آلهتها، وذلك بدلاً من الإيمان بأنه، سبحانه، هو إله العالمين .. ولقد صبوا جام اضطهادهم على المسيح عيسى ابن مريم، عليه السلام، وعلى حوارييه والذين آمنوا به واتبعوه.
والنصرانية - هى الأخرى - بادلت الآخرين إنكارًا بإنكار، واضطهادًا باضطهاد.. فبمجرد أن أفاقت - فى مصر مثلاً - من الاضطهاد الوثنى الرومانى، وفور تدين الدولة الرومانية بالنصرانية، على عهد الإمبراطور (قسطنطين) (274 - 337م) صبت هذه النصرانية جام اضطهادها على الوثنية المصرية، فدمرت معابدها، وأحرقت مكتباتها، وسحلت وقتلت ومزقت وأحرقت فلاسفتها .. وسجل التاريخ كيف قاد بطرك الكنيسة المصرية (تيوفيلوس) (385 - 412م) (حملة اضطهاد عنيفة ضد الوثنيين، واتجه للقضاء على مدرسة الإسكندرية، وتدمير مكتبتها وإشعال النار فيها .. وطالت هذه الإبادة مكتبات المعابد .. وتم السحل والتمزيق والحرق لفيلسوفة الأفلاطونية الحديثة، وعالمة الفلك والرياضيات (إناتيه) (370 - 415م) وذلك فضلاً عن تحطيم التماثيل .. والعبث بالآثار ..)(1).
ثم عادت النصرانية اليعقوبية إلى موقع الضحية والمضطهد من النصرانية الملكانية الرومانية، بعد الاختلاف حول طبيعة المسيح، عليه السلام ..
ثم جاء الإسلام فأحدث (الإصلاح الثورى) فى العلاقة بالآخرين، وبلغ فى العمق والسمو الحد الذى جعل فيه الآخر جزءًا من الذات ، وكما يقول المفكر الإسلامى الدكتور محمد عمارة : فقد وضع الإسلام هذه المبادئ كمواد فى دستور دولته الأولى - دولة النبوة والخلافة الراشدة - .. وصياغات دستورية فى المواثيق والمعاهدات والعهود التى عقدتها الدولة الإسلامية مع (الآخرين) الذين قامت بينهم وبين دولة الإسلام علاقات ومصالح وارتباطات، ثم تجسد كل ذلك فى الواقع والحضارة والتاريخ ..(3/16)
ففى دستور دولة المدينة - (الصحيفة .. الكتاب) - الذى وضعه رسوله الله صلى الله عليه وسلم عند قيام هذه الدولة، عقب الهجرة، لينظم الحقوق والواجبات بين مكونات الأمة، فى الوطن .. نص هذا الدستور على أن القطاعات العربية المتهودة من قبائل المدينة، ومن لحق بهم وعاهدوه، قد أصبحوا جزءًا أصيلاً فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة لهذه الدولة الإسلامية.. فنص هذا الدستور على أن (يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم .. ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا مُتَنَاصر عليهم .. وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم .. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه)(1) .
وهكذا تجسد التحام (الآخر اليهودى) فى الأمة الواحدة والرعية المتحدة للدولة، فى ظل المرجعية الإسلامية، ومن خلال سعتها التى نص عليها هذا الدستور عندما قال: (.. وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله ..)(3) .
كذلك تجسد هذا الالتحام (بالآخر)، وتحققت هذه المساواة وإياه فى العلاقة التى أدخلت النصارى - نصارى (نجران) وكل المتدينين بالنصرانية - فى صلب الأمة الواحدة، وفى رعية الدولة المتحدة، فنص ميثاق العهد الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى (نجران) على مجموعة من المبادئ الدستورية التى وضعت مبادئ علاقة الإسلام بالآخرين فى الممارسة والتطبيق .. فجاء هذا الميثاق :
(.. ولنجران وحاشيتها، ولأهل ملتها ، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية .. جوار الله وذمة محمد رسول الله على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير .. أن أحمى جانبهم، وأذُب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا من بر أو بحر، شرقًا وغربًا، بما أحفظ به نفسى وأهل الإسلام من ملتى) ..
ولم يقف هذا الميثاق، فقط ، عند ضمان حرية الاختلاف فى المعتقد الدينى، وحرية إقامة هذا المعتقد المخالف للإسلام ..وإنما نص على احترام (الوجودالمؤسسى) لهذا التنوع والاختلاف .. (..فلا يُغَيَّر أسقف، ولا راهب من رهبانيته ..) .
ولأن الجزية هى (بدل جندية)، لا تُؤخذ إلا من القادرين ماليًا، الذين يستطيعون حمل السلاح وأداء ضريبة القتال دفاعًا عن الوطن، وليست (بدلاً من الإيمان بالإسلام) وإلا لفرضت على الرهبان ورجال الدين .. وبدليل أن الذين اختاروا أداء ضريبة أداء الجندية فى صفوف المسلمين، ضد الفرس والروم، وهم على دياناتهم غير الإسلامية - فى الشام .. والعراق .. ومصر - لم تفرض عليهم الجزية، وإنما اقتسموا مع المسلمين الغنائم على قدم المساواة.. لأن هذا هو موقع (الجزية) فى علاقة الدولة الإسلامية بالآخرين، جاء فى ميثاق نصارى (نجران) : (..ولايُحشرون) أى لا يكلفون التعبئة العامة للقتال، ولا يكلف أحد من أهل الذمة منهم الخروج مع المسلمين إلى عدوهم، لملاقاة الحروب ومكاشفة الأقران، فإنه ليس على أهل الذمة مباشرة القتال، وإنما أُعطوا الذمة على أن لا يُكلفوا ذلك، وأن يكون المسلمون مدافعين عنهم، وجوارًا دونهم ولا يكرهون على تجهيز أحد من المسلمين للحرب ، بقوة وسلاح وخيل، إلا أن يتبرعوا من تلقاء أنفسهم، فيكون من فعل ذلك منهم وتبرع به حُمد عليه، وعُرف له وكُوفئ به ..) .
كما نص هذا الميثاق على أن العدل فى القضاء والمساواة فى تحمل الأعباء المالية إنما هى فريضة إلهية شاملة لكل الأمة، على اختلاف معتقداتها الدينية (.. فلا خراج ولا جزية إلا على من يكون فى يده ميراث من ميراث الأرض، ممن يجب عليه فيه للسلطان حق، فيؤدى ذلك على ما يؤديه مثله، لا يُجار عليه، ولا يُحمل منه إلا قدر طاقته وقوته على عمل الأرض وعمارتها وإقبال ثمراتها، ولا يُكلف شططا ولا يُتجاوز به حد أصحاب الخراج من نظرائه .. ولا يُدخل شئ من بنائهم فى شئ من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين .. ومن سأل منهم حقًا فبينهم النَّصَف غير ظالمين ولا مظلومين ..) .
وإمعانا من الإسلام فى توفير عوامل التلاحم للأمة الواحدة، التى جعل الإسلام وحدتها فريضة نص عليها القرآن الكريم : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء : 92 . فلقد حققت التطبيقات الإسلامية فى الواقع الإجتماعى عددًا من الإنجازات التى سلكت الجميع فى الأمة الواحدة.. فالموالى - الذين كانوا أرقاء ثم حررهم الإسلام - دمجهم النظام الإسلامى فى قبائلهم، التى كانوا أرقاء فيها، ولحمهم فيها بلحمة (الولاء)، الذى جعله كالنسب سواء بسواء، يكسب هؤلاء الموالى شرف هذه القبائل وحسبها ونسبها .. ونصت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن (مولى القوم منهم) - رواه البخارى - وعلى (أن الولاء لحمة كلحمة النسب) - رواه الدارمى وأبو داود - حتى لقد أصبح بلال الحبشى (سيدًا) يقول عنه عمر بن الخطاب، وعن أبى بكر، الذى اشتراه وأعتقه : (سيدنا أعتق سيدنا!) .. وحتى لقد تمنى عمر أن يكون أحد الموالى - (سالم مولى أبى حذيفة) (12هـ - 633م) - حيا ليجعله خليفة على المسلمين! ..
والقبائل والعشائر، التى اندمج فيها الموالى، قد تحولت إلى لبنات فى بناء الأمة الواحدة ..
كذلك سلكت التطبيقات الإسلامية باب المصاهرة والزواج بين المسلمين وبين الكتابيات المحصنات؛ لتحقيق أعلى درجات التلاحم بين غير المسلمين وبين المسلمين فى بناء الأمة الواحدة .. فزواج المسلم من الكتابية يدخل ذويها من غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام) عند المسلمين، وتلك قمة التلاحم والاندماج .. وعنها يقول الإمام محمد عبده : (أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية أو يهودية، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، والذهاب إلى كنيستها أو بيعتها، وهى منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته فى العز والذل، والترحال والحل،بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه، تتصرف فيهم كما تتصرف فيه .. لم يفرق الدين فى حقوق الزوجية بين الزوجة المسلمة والزوجة الكتابية ، ولم تخرج الزوجة الكتابية، بإختلافها فى العقيدة مع زوجها، من حكم قوله تعالى : (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم:21 ، فلها حظها من المودة ونصيبها من الرحمة وهى كما هى.. وهو يسكن إليها كما تسكن إليه، وهو لباس لها كما أنها لباس له . أين أنت من صلة المصاهرة التى تحدث بين أقارب الزوج وأقارب الزوجة، وما يكون بين الفريقين من الموالاة والمناصرة، على ما عهد فى طبيعة البشر؟ وما أجلى ما يظهر من ذلك بين الأولاد وأخوالهم وذوى القربى لوالدتهم. أيغيب عنك ما يستحكم من روابط الألفة بين المسلم وغير المسلم بأمثال هذا التسامح الذى لم يُعهد عند من سبق ولا فيمن لحق من أهل الدينين السابقين عليه؟ ..)(4).(3/17)
ولذلك وحتى يكون هذا الزواج سبيلاً لهذا التلاحم، حرص عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) على أن يتوافر لهذا الزواج عنصر الرضا والقبول.. فالمرأة لابد، فى زواجها، من (ولى) ، وأولياء الكتابية كتابيون، فلا بد أن يكون هذا الزواج عن محبة ورضا وقبول واختيار .. وعن هذا المبدأ الإسلامى جاء فى هذا الميثاق : (ولا يُحمِّلوا من النكاح - (الزواج) - شططا لايريدونه، ولا يُكره أهل البنت على تزويج المسلمين، ولا يُضاروا فى ذلك إن منعوا خاطبًا وأبوا تزويجًا، لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم، ومسامحة أهوائهم، إن أحبوه ورضوا به ..) .
ولأن هذا التلاحم، بواسطة المصاهرة، لا يتحقق إلا فى ظل الاعتراف الإسلامى (بالآخر الدينى) ، وبحق هذا الآخر فى المغايرة الدينية - وهو ما تميز به الإسلام عن كل الآخرين، وبسببه جاز زواج المسلم من (الأخرى)، لأنه يعترف بدينها، ومُكلَّف باحترام عقيدتها وتدينها - على عكس موقف الآخرين من الإسلام، ومن عقيدة المسلمة - . لهذا التميز الإسلامى، كان زواج المسلم من الكتابية بابا للتلاحم، ولإدخال غير المسلمين فى دائرة (أولى الأرحام)، ولم يكن هذا الزواج سببًا من أسباب الشقاق الاجتماعى ، فنص العهد مع نصارى (نجران) على أنه (إذا صارت النصرانية عند المسلم - (زوجة) - فعليه أن يرضى بنصرانيتها . فمن خالف ذلك وأكرهها على شئ من أمر دينها فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسول الله، وهو عند الله من الكاذبين..).
وإذا كانت تطبيقات الدولة الإسلامية لهذه المبادئ الإسلامية، قد بلغت، وحققت - قبل أربعة عشر قرنًا - الحد الذى يدهش له الكثيرون فى عصرنا الحاضر .. من مثل تحرير جيش الفتح الإسلامى لمصر كنائس نصارى مصر من الاحتلال والاغتصاب الرومانى، لا ليحولها إلى مساجد للمسلمين، وإنما ليردها للنصارى اليعاقبة يتعبدون فيها .. فإن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى (نجران) قد بلغ الذروة - فى تعامل الدولة الإسلامية مع دور العبادة هذه - إلى الحد الذى نص فيه على أن مساعدة الدولة الإسلامية لغير المسلمين فى ترميم دور عباداتهم هى جزء من واجبات هذه الدولة .. ولأن غير المسلمين هم جزء أصيل فى الأمة الواحدة، والرعية المتحدة لهذه الدولة، فجاء فى هذا الميثاق مع نصارى (نجران) : (.. ولهم إن احتاجوا فى مرمة بيعهم وصوامعهم أو شئ من مصالح أمور دينهم، إلى رفد - (مساعدة) - من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يُرفدوا على ذلك ويُعاونوا، ولا يكون ذلك دَيْنًا عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومنة لله ورسوله عليهم) .
ثم يتوج هذا الميثاق بنود هذه الحقوق بالنص على كامل المساواة بين المختلفين فى الدين والمتحدين فى الأمة الواحدة، والملتحمين فى الرعية المتحدة للدولة الإسلامية، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (.. لأنى أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم ..) .
ولأن وحدة الأمة لا تتحقق إلا بولاء كل أبنائها لها، وانتماء جميعهم لدولتها ولمقومات هويتها وأمنها الوطنى والقومى والحضارى، اشترط هذا العهد على نصارى (نجران) أن يكون الولاء خالصًا والانتماء كاملاً لهذه الأمة الواحدة ، ولهذه الدولة الإسلامية .. فالولاء - كل الولاء - لها وحدها، والبراء - كل البراء - من جميع أعدائها .. ولذلك، جاء فى هذا الميثاق : (.. واشترط عليه أمورًا يجب عليهم فى دينهم التمسك بها والوفاء بما عاهدهم عليه، منها: ألا يكون أحد منهم عينًا ولا رقيبًا لأحد من أهل الحرب على أحد من المسلمين فى سره وعلانيته ، ولا يأوى منازلهم عدو للمسلمين، يريدون به أخذ الفرصة وانتهاز الوثبة، ولا ينزلوا أوطانهم ولا ضياعهم ولا فى شئ من مساكن عباداتهم ولا غيرهم من أهل الملة، ولا يرفدوا - (يساعدوا) - أحدًا من أهل الحرب على المسلمين، بتقوية لهم بسلاح ولا خيل ولا رجال ولا غيرهم، ولا يصانعوهم.. وإن احتيج إلى إخفاء أحد من المسلمين عندهم، وعند منازلهم، ومواطن عباداتهم، أن يؤووهم ويرفدوهم ويواسوهم فيما يعيشون به ما كانوا مجتمعين، وأن يكتموا عليهم، ولا يظهروا العدو على عوراتهم، ولا يخلوا شيئًا من الواجب عليهم)(5).
ويزيد من سمو هذا الإنجاز الإسلامى، تعميم التطبيقات الإسلامية لهذا المنهاج وهذه المبادئ على الديانات الوضعية أيضًا .. فلم يقف المسلمون بهذه (الثورة الإصلاحية)، فى العلاقة بالآخر، عند اليهود - أهل التوراة - والنصارى - أهل الإنجيل - فقط، وإنما عمموها لتشمل (المجوس) و(الهندوس) و(البوذيين) .. وعندما فتح المسلمون فارس - وأهلها مجوس يعبدون النار، ويقولون بإلهين أحدهما للخير والنور وثانيهما للشر والظلمة - عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (40ق - 32هـ - 584 - 644م) رضى الله عنه، هذا الأمر و (الواقع المستجد) على مجلس الشورى - فى مسجد المدينة - وقال :
- (كيف أصنع بالمجوس؟
- فوثب عبد الرحمن بن عوف (44ق هـ - 32هـ - 580 - 652م) رضى الله عنه، فقال :
- أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سُنوا فيهم سنة أهل الكتاب ..)(6)
فطبقت الخلافة الراشدة هذه السنة النبوية، وساد هذا التطبيق على امتداد تاريخ الإسلام فى بلاد الديانات الوضعية - من فارس إلى الهند إلى الصين - حتى لقد تمتع أهل هذه الديانات، لا بحرية الاعتقاد فقط وإنما - أيضًا - بحرية مناظرة علماء الإسلام، فى مجالس الخلفاء، إبان مجد وقوة وعظمة الخلافة الإسلامية .. ولقد أورد (السير توماس أرنولد) (1864 - 1930م) - بإعجاب - كيف أن زعيم المانوية(7) المجوس - فى فارس - (يزدانبخت) قد أتى بغداد، وناظر المتكلمين المسلمين، فى حضرة الخليفة (المأمون) (170-218هـ 786-833م)، فلما أفحمه علماء الإسلام، تاق (المأمون) إلى أن يسلم (يزدانبخت)، ففاتحه فى ذلك، لكنه رفض فى أدب، وقال للخليفة :
- نصيحتك، يا أمير المؤمنين، مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يُجبر الناس على ترك مذهبهم .
فتركه المأمون وشأنه .. بل وطلب حمايته من العامة حتى يبلغ مأمنه بين أتباعه وأنصار مذهبه من المجوس (8) .
وهكذا بلغ الإسلام القمة، عندما لم يكتف بالوصايا والمنظومة الفكرية والفلسفية، التى تعترف بالآخر - الذى لا يعترف بالإسلام! - وإنما تجاوز (الفكر) إلى (الممارسة والتطبيق)، فى الدولة.. والأمة.. والاجتماع.. وعندما تجاوز (الاعتراف بالأخر) إلى حيث دمج هذا (الآخر) فى (الذات)، مع الحرص على التعددية الدينية، التى سلكها فى إطار (وحدة الدين) الإلهى الواحد.. لا باعتبارها مجرد حق من حقوق الضمير الإنسانى، وإنما باعتبارها سنة من سنن الله التى لا تبديل لها ولا تحويل.. فحقق الإسلام بهذا (الإصلاح الثورى) مستوى غير مسبوق فى التاريخ الإنسانى، سواء على المستوى الفكرى أو فى الممارسة والتطبيق(9) .(3/18)
أهل الذمة : الذمة فى اللغة تعنى العهد والأمان والضمان . وفى الشرع تعنى عقدًا مؤبدًا يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام فى غير شؤونهم الدينية .وهذا العقد يعطى لكل طرف حقوقًا ويفرض عليه واجبات، وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم ، بل هو شرف لهم أن يكونوا فى ذمة الله ورسوله ، وهى عبارة توحى بضرورة وأهمية حفظ العهد والوفاء تدينًا وامتثالاً للشرع، وإن كان بعضهم يتأذى منها فيمكن تغييرها لأن الله لم يتعبدنا بها . وقد غير سيدنا عمر بن الخطاب لفظ الجزية الذى ورد فى القرآن استجابة لعرب بنى تغلب من النصارى الذين أنفوا من الاسم وطلبوا أن يأخذ منهم ما يُؤخذ وإن كان مضاعفًا تحت مسمى آخر فوافقهم عمر وقال: (هؤلاء قوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الاسم) .
ومما يلاحظ كما يقول الدكتور عصام أحمد البشير(10) أن فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتدأة، وإنما هى مما وجده الإسلام بين الناس عند بعثة النبى صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعية، وأضاف إليه تحصينًا جديدًا بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو ذمة المجير إلى ذمة الله ورسوله أى ذمة الدولة الإسلامية نفسها. وبأن جعل العقد مؤبدًا لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين . انتهى
عقد الأمان
أما الذين يأتون إلى ديار الإسلام لفترة مؤقتة - مثل السياح والدارسين والدبلوماسين الأجانب - فهؤلاء يشملهم عقد الأمان، وهو عقد يكفل حماية غير المسلم إذا قدم إلى بلادنا لأغراض سلمية - وليس للتخريب أو التجسس - فهذا يحرم الاعتداء على حياته أو ماله أو عرضه ، وعلى جميع المسلمين حمايته وتأمينه حتى يخرج من بلادنا سالمًا بعد إنتهاء الغرض الذى قدم لأجله .
وأساس عقد الأمان قوله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون) التوبة:6. كما أجار النبى صلى الله عليه وسلم من أجارت ابنته زينب وهو زوجها العاص بن الربيع وكان لم يزل مشركًا حينها ، وأجار النبى كذلك من أجارت أم هانىء ابنة عمه أبى طالب، وأكد عليه السلام أنه يجير على المسلمين أدناهم، ولو كان طفلاً أو امرأة أو عبدًا ، فيجب على جميع المسلمين احترام هذا الجوار وتأمين المشرك الذى يتمتع به حتى يبلغ مأمنه .
الجزية
وهى ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل فى مقدار زهيد من المال - دينار أو دينارين سنوياً - على الرجال البالغين القادرين ، حسب ثرواتهم ، والجزية ليست ملازمة لعقد الذمة فى كل حال كما يظن بعضهم، بل استفاضت أقوال الفقهاء فى تعيينها وقالوا : إنها بدل عن اشتراك الذمى فى الدفاع عن دار الإسلام ، لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك فى الدفاع عنها ،فعل ذلك المسلمون مع أهل أرمينية سنة 522 ، وحبيب بن مسلمة الفهرى مع أهل إنطاكية ، وأبرمه مندوب أبى عبيدة بن الجراح وأقره عليه مَنْ معه من الصحابة ، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابى عبد الله بن أبى السرح على غير جزية بل هدايا فى كل عام، وصالحوا أهل قبرص فى زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم .
• غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية ، ويسهمون فى حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية ، والنص الوارد فى آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة .وهناك من رد إلى النصارى، الجزية عند مظنة العجز عن حمايتهم، فعلها أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه عندما تجمع الروم لقتاله فخاف ألا يمكنه الدفاع عن مدن الشام وسكانها النصارى ، فكتب يرد إليهم أموالهم على أن يرجعوا إلى سابق العهد إذا انتصر المسلمون على الروم .
• أهل الكتاب ارتضوا أن يعيشوا تحت رعاية الدولة المسلمة فلهم بذلك من الحقوق مثل ما للمسلمين وعليهم من الواجبات ما على المسلمين إلا ما استثنى بنص، قال الإمام على كرم الله وجهه : (إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا ..) .
حقوق وواجبات أهل الكتاب
لأهل الكتاب جملة من الحقوق منها :
1- حق الحماية من الاعتداء الخارجى والحماية من الظلم الداخلى (من آذى ذميًا فقد أذانى ومن أذانى فقد أذى الله) فلا يلحقهم أذى فى أبدانهم ولا أموالهم ولا أعراضهم .
2- حق التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر، قال سيدنا عمر بن الخطاب : (ما أنصفناه إذا أخذنا منه الجزية فى شبيبته ثم نتركه فى هرمه) وقد أمر رضى الله عنه - وكذلك الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز - بصرف معاشات من بيت مال المسلمين للعجزة والمسنين من أهل الكتاب .
3- حرية التدين (لاإكراه فى الدين) ومن ذلك ممارسة شعائرهم الدينية فى دور عبادتهم وعدم جواز منعهم من ذلك . أما واجبات غير المسلمين فهى:
• على غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين وحرمة دينهم فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم فى الأمصار الإسلامية ولا يحدثوا كنيسة فى مدينة إسلامية لم تكن فيها كنيسة من قبل ذلك، لما فى الإظهار والإحداث من تحدى الشعور الإسلامى الذى يؤدى إلى فتنة واضطراب لكن يتعين حماية ماهو قائم منها بالفعل وعدم هدمه ، والدليل قوله سبحانه وتعالى :(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله) يدل على أن من أساليب الإذن بالقتال حماية حرية العبادة
كما أن العهود التى أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود والنصارى تضمنت الحفاظ على دور عبادتهم، وكذلك عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل نجران أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وبيعهم. وأيضاً فإن عهد سيدنا عمر لأهل إيلياء فيه نص على كنائسهم، فلا تسكن ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبها. وهناك أيضاً عهد سيدنا خالد بن الوليد لأهل عانات أن يضربوا نواقيسهم فى أى وقت شاؤوا من ليل أو نهار .
كما يقول الدكتور عصام البشير : أن واقع حال المسلمين يدل على جواز بقاء الكنائس فى ظل الدولة المسلمة. روى المقريزى أن جميع كنائس مصر محدثة فى الإسلام بلا خلاف ، ولهم حرية العمل والكسب وحرية تولى وظائف الدولة ونحو ذلك إلا ما اسثنى بنص لعدم جواز تولى الكتابيين للوظائف الدينية أو تغلب عليها الصيغة الدينية كالإمامة التى هى رئاسة الدين والدنيا وخلافة النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا يعقل أن يقوم بإمامة المسلمين وقيادة الجيش وإمرة الجهاد الذى هو ذروة سنام الاسلام، والقضاء بين المسلمين الذى يقتضى العلم بشريعة الاسلام،إلا مسلم عالم بدينه وشريعته.
ضمانات الوفاء بحقوق أهل الكتاب
إن الضمانات لتنفيذ هذه الحقوق وكفالة تلك الحريات تتمثل فى:
ضمان العقيدة:فالمسلمون يحرصون على الالتزام بعقيدتهم وتطبيق أحكام دينهم، لا يمنعهم من ذلك عواطف القرابة ولا يصدهم عن ذلك مشاعر العداوة والشنآن .
ضمان المجتمع المسلم بدستوره وسلوكه
فالمجتمع الإسلامى مسؤول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها فى كل الأمور ، ومنها ما يتعلق بغير المسلمين ولو قصر بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى ، وجد فى المجتمع من يرده إلى الحق ،ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويقف بجانب المظلوم المعتدى عليه ،ولو كان مخالفًا له فى الدين .(3/19)
وهناك القضاء : فالذمى المظلوم له أن يشكو إلى الوالى أو الحاكم المحلى، فيجد عنده العدل والحماية ، فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى القضاء فيجد عنده الإنصاف والأمان ، حتى لو كانت القضية بينه وبين الخليفة نفسه، ففى الاسلام يجد القضاء المستقل العادل والذى له حق محاكمة أى مدعى عليه مهما علا منصبه فى الدولة . مثال ذلك واقعة تخاصم الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه ويهودى إلى القاضى شُريح الذى حكم لصالح اليهودى على أمير المؤمنين لعدم وجود دليل يرجح دعواه ، وبسبب هذه العدالة أسلم اليهودى .
واجبات أهل الكتاب
واجبات أهل الكتاب تنحصر فى أمور معدودة هى :
• أداء التكاليف المالية : من جزية وخراج وضرائب وغيرها . (وقد سبق الحديث عن الجزية) . وأهل الكتاب فى التكاليف والرسوم والضرائب الأخرى سواء والمسلمون ، فليس فيها شىء يجب باختلاف الدين وإنما تجب على أنواع الأموال والأراضى المزروعة دون نظر إلى صاحب أى منها : أمسلم هو أم غير مسلم .
التزام أحكام القانون الإسلامى
• والواجب الثانى على أهل الكتاب أن يلتزموا أحكام الإسلام ، التى تطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى العهد ينتمون إلى جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التى لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية . ولكن مع مراعاة أنه ليس عليهم تكاليف من التكاليف التعبدية للمسلمين ، أو التى لها صبغة تعبدية أو دينية ، مثل الزكاة التى هى فريضة إسلامية ، ومثل الجهاد الذى هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية ، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً عن الجهاد والزكاة .
• والواجب الثالث عليهم : أن يحترموا شعور المسلمين ، الذين يعيشون بين ظهرانيهم ، وأن يراعوا هيبة الإسلام والدولة التى يتمتعون بحمايتها ورعايتها .
فلا يجوز لهم أن يسبوا الإسلام أو رسوله أو كتابه جهرة ، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافى عقيدة التوحيد ، ولا يعملوا على تنصير أبناء المسلمين أو محاولة فتنتهم عن دينهم .
ولا يجوز لهم أن يتظاهروا بشرب الخمر وأكل الخنزير ، ونحو ذلك مما يحرم فى دين الإسلام . كما لا يجوز لهم تحدى مشاعر المسلمين ، وعليهم ألا يظهروا الأكل والشرب فى نهار رمضان ، مراعاة لمشاعر المسلمين .
النموذج المصرى
إذا أخذنا الأقلية النصرانية فى مصر ، وهى أكبر أقلية غير مسلمة فى بلاد العالم العربى - كنموذج للتعايش السلمى لغير المسلمين فى بلد إسلامى -فإننا نلاحظ الآتى :
• يبلغ عدد النصارى فى مصر أقل من 6% (5.9%) حسب إحصاءات 1986م . ورغم ذلك فإنهم يمتلكون حوالى 40% من ثروة مصر .. ويعترف الأنبا موسى أسقف الشباب فى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بأن : (الأقباط نسبتهم فى رجال الأعمال مرتفعة أكثر من نسبتهم العددية فى مصر)(11) ، وكذلك المهن المرموقة مثل الطب والصيدلة والمحاماة والهندسة وغيرها .. ولذلك كان العلامة الشيخ محمد الغزالى - رحمه الله - يصف النصارى فى مصر بأنهم أسعد أقلية فى العالم .
• يمتلك نصارى مصر 22.5% من الشركات التى تأسست من عام 1974م - 1995م ، و 20% من شركات المقاولات فى مصر ، و 50% من المكاتب الاستشارية ، و 60% من الصيدليات ، و45% من العيادات الخاصة، و35% من عضوية الغرفة التجارية الأمريكية والألمانية ، و 60% من عضوية غرفة التجارة الفرنسية ، ويشكلون 20% من رجال أعمال مصر ، و 20% من المديرين بقطاعات النشاط الاقتصادى ، وحوالى 16% من وظائف وزارة المالية المصرية ، و25% من المهن الممتازة كالأطباء والمحامين والمهندسين ..
• يسيطر النصارى على أكثر من ثلثى تجارة الذهب والمعادن النفيسة الأخرى فى مصر ، كما يمتلكون من الأراضى والعقارات أضعاف نسبتهم العددية .
• ونضيف أيضًا أن الحكومة المصرية لا تخلو دائمًا من وزيرين أو ثلاثة وزراء من الأقباط ، كما يوجد عدد منهم فى مجلسى الشعب والشورى بالانتخاب وبالتعيين أيضًا .. فى المقابل يُلاحظ أنه لا يوجد أى وزير مسلم فى أية دولة أوروبية أو أمريكية رغم تواجد عشرات الملايين من المسلمين هناك، وكذلك المجالس التشريعية الأوروبية والكونجرس الأمريكى لا يوجد بها أعضاء يمثلون الأقليات الإسلامية هناك (!!!) .
وبعد كل هذا يزعمون أنهم دعاة الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية ويتطاول علينا أذنابهم بادعاء اضطهاد الأقلية عندنا !!!
حقًا إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، وازعم ما شئت أيضًا !!!
ونختتم بشهادة المفكر البريطانى الكبير سير توماس أرنولد الذى أكد فيها: (من الحق أن نقول أن غير المسلمين قد نعموا – بوجه الإجمال – فى ظل الحكم الإسلامى بدرجة من التسامح لا نجد لها معادلاً فى أوروبا) . ويضيف ان عشرات الملايين من نصارى الشرق الذين اعتنقوا الإسلام قد فعلوا ذلك طواعية وعن رغبة كاملة فى التحول إليه دون أية محاولة للإرغام أو الاضطهاد(12) .
كما أن تسامح المسلمين وتركهم للنصارى قابضين على الدواوين وإدارات الدولة الإسلامية جعل المستشرق الألمانى آدم متز يقول : (لقد كان النصارى هم الذين يحكمون الدولة الإسلامية)(13) ، فأى تسامح وتواد مع الآخر أكثر من ذلك ؟! كل هذا يدفعنا إلى أن نردد مع المفكر والعبقرى الألمانى يوهان جوته مقولته الشهيرة فى ديوانه (الشرق والغرب) : إذا كان الإسلام هو القنوت ، فعليه نحيا ونموت ..
المراجع
6. تاريخ مصر - يوحنا النيقوسى ص 529 - 534 ترجمة وتعليق د . عمر صابر عبد الجليل القاهرة 2000م - تاريخ مصر فى العصر البيزنطى ص 40-49 ، وص 167-168 طبعة القاهرة 2000 .
7. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة ص 17 - 21 جمع وتحقيق الدكتور محمد حميد الله الحيد آبادى – طبعة القاهرة 1956م
8. المصدر السابق ص 20 .
9. الشيخ محمد عبده - الأعمال الكاملة جـ3 صـ312 دراسة وتحقيق د . محمد عمارة - طبعة القاهرة 1993م .
10. مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوى - مشار إليه من قبل - ص 112- 123 - 127
11. البلاذرى – فتوح البلدان صـ327 - تحقيق د . صلاح الدين المنجد – طبعة القاهرة 1956م .
12. هم أتباع (مانى) ويسمون (المانوية) وهو مذهب مجوسى .
13. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - ترجمة د . حسن إبراهيم حسن ود. عبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوى - طبعةالقاهرة 1970م .
14. الدكتور محمد عمارة - الإسلام والأقليات - الماضى والحاضر والمستقبل - طبعة مكتبة الشروق الدولية سنة 2003م .
15. الدكتور عصام أحمد البشير - معالم حول أوضاع غير المسلمين فى الدولة الإسلامية - بحث مقدم لمؤتمر الإسلام والغرب فى عالم متغير - الخرطوم - 2003م .
16. الملل والنحل والأعراق ص 529 .
17. سير توماس أرنولد - الدعوة إلى الإسلام - سبقت الإشارة إليه .
18. آدم متز - الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى - ترجمة د . محمد عبد الهادى أبو ريدة - طبعة بيروت سنة 1967م .
الفصل السادس
المسلمون فى دار العهد(3/20)
يبلغ عدد المسلمين فى أوروبا أكثر من خمسين مليونًا(1) من بينهم أعداد كبيرة من العرب والمسلمين المهاجرين من بلدان لأسباب اقتصادية غالبًا - بحثًا عن فرص عمل - ولأسباب سياسية أحيانًا، فضلاً عن ملايين من الأوروبين الذين اعتنقوا الإسلام عن اقتناع وفهم بعد دراسة عميقة .. وهناك توقعات بأن ترتفع أعداد المسلمين فى أوروبا، وتتناقص أعداد غير المسلمين - بسبب قلة عدد المواليد هناك عن عدد المتوفين سنويًا - إلى أن يصبح المسلمون هم أغلب سكان أوروبا خلال أقل من عشرين عامًا (ولهذا يمكن فهم أحد أهم أسباب الحملة المسعورة الآن على الإسلام والمسلمين فى وسائل الإعلام الغربى) بل إن صمويل هنتنجتون نفسه يتوقع - كما سبق - أن يبلغ المسلمون أكثر من 30% من سكان العالم قبل حلول عام 2025م .. ويبلغ عدد مسلمى أمريكا الشمالية أكثر من عشرة ملايين نسمة طبقًا للتقديرات شبه الرسمية، لكن العدد الحقيقى أكبر من ذلك، لأنه لاتوجد جهة رسمية تسجل أعداد من يعتنقون الإسلام وهم بالآلاف يوميًا، كما أنه لا تسجل الديانة فى وثائق تحديد الهوية، وبالتالى لا يمكن تحديد أعداد أتباع كل ديانة بدقة ..
أما الأقلية الإسلامية فى الهند فهى أكبر عددًا من معظم الدول الإسلامية - كل على حدة - إذ يبلغ تعداد مسلمى الهند أكثر من مائتى مليون نسمة .. ويؤكد كثير من المسلمين الهنود أن عددهم الحقيقى أكبر من ذلك ، وأن السلطات الهندوسية هى التى تتعمد تقليل العدد المعلن لأسباب سياسية (بسبب النزاع الطائفى بين الهندوس والمسلمين من جهة ،والنزاع بين الهند وباكستان من جهة أخرى) .
ويبلغ عدد مسلمى الصين أكثر من 25 مليون شخص ، ويقترب عدد المسلمين الروس من هذا الرقم(2) . وهكذا نرى بوضوح أن كل دول العالم غير الإسلامى يحتضن جاليات إسلامية كبيرة وذات حضور واضح هناك لا يمكن تجاهله أو تهميشه مهما اشتدت محاولات الاحتواء أو الإضعاف أو القمع أحيانًا .. وهنا يثور التساؤل : هل يعتبر المسلمون هناك فى دار حرب كما يقول الفقهاء القدامى طبقًا للتقسيم الشهير للعالم إلى دار إسلام ودار حرب ؟
أما دار الإسلام فهى البلاد التى تسودها أحكام الإسلام وشعائره ويأمن فيها المسلمون والذميون أيضًا .
وأما دار الحرب فهى البلاد التى لا تطبق فيها أحكام الإسلام وشرائعه لأن السيادة فيها للكفار وليست للمسلمين .. وهذا التقسيم الثنائى للعالم لم يرد فى القرآن الكريم ولا فى السُنَّة النبوية المطهرة ، ولذلك عارضه فريق من العلماء على رأسهم الإمام الشافعى رضى الله عنه فى كتابه (الأم) - يرى أن الأصل هو أن العالم دار واحدة - والإمام محمد بن الحسن الشيبانى فى كتابه (السير الكبير) والشيخ محمد أبو زهرة(3) .
يقول العلامة الشيخ أبو زهرة : إن دار العهد حقيقة اقتضاها الفرض العلمى وحققها الواقع ، فقد كانت هناك قبائل ودول لا تخضع خضوعًا تامًا للمسلمين وليس للمسلمين فيها حكم ، ولكن لها عهد محترم وسيادة فى أرضها ولو لم تكن كاملة فى بعض الأحوال .. ودار العهد : هى البلاد التى كان بينها وبين المسلمين عهد عقد ابتداء ، أو عقد عند ابتداء القتال معها عندما يخيرهم المسلمون بين العهد أو الإسلام أو القتال ، فأهلها يعقدون صلحًا مع الحاكم الإسلامى على شروط تشترط من الفريقين، وهذه الشروط تختلف قوة وضعفًا على حسب ما يتراضى عليه الطرفان ، وعلى حسب هذه القبائل وتلك الدولة قوة وضعفًا ، وعلى مقدار حاجتها إلى مناصرة الدولة الإسلامية .
ومن هذه القبائل ما كان الصلح معها على أساس جُعل من المال يدفعه أهلها فى نظير حماية المسلمين لهم ، والذود عنهم ، كما حصل فى صلح النبى صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران ، فقد أمّنهم النبى صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأموالهم من أى اعتداء يكون عليهم ، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم .
وكذلك فعل القائد الصحابى أبو عبيدة عامر بن الجراح مع أهالى حمص فقد أمَّنَهم ، وتعهد لهم بأن يدفع الرومان عنهم فى نظير مال دفعوه إليه، ولكن حدث أن أصاب الجيش الإسلامى ضعف بسبب طاعون سرى فيه، فأعاد القائد الوفى - الذى سماه محمد صلى الله عليه وسلم - أمين هذه الأمة - إليهم أموالهم ، وبين عجزه عن مدافعة الرومان عنهم ، فنشطوا هم لمعاونة القائد العادل الأمين .
وفى عهد عثمان رضى الله عنه عقد عبد الله بن أبى السرح صلحًا مع أهل النوبة كانت أساسه تأمينهم على أنفسهم ، ورعاية استقلالهم، ومبادلة التجارة معهم، ولم يأخذ منهم فريضة مالية يؤدونها .
وكذلك فعل معاوية مع أهل أرمينية، فقد عقد صلحًا يقرر سيادتهم الداخلية المطلقة .
ونرى من هذا أن هذا النوع من القبائل أو الدول لا يمكن أن يعد دار حرب ولا دار إسلام، ولكن يعد دار موادعة أو دار عهد، وقد قال بعض الفقهاء :إن هذه الديار تدخل فى عموم دار الإسلام، لأن المسلمين لم يعقدوا هذه العهود، إلا وهم أهل المنعة والقوة .
ولكن الفقهاء الذين حرروا القول فى القانون الدولى الإسلامى كالشافعى فى (الأم)، ومحمد بن الحسن الشيبانى قرروا أن دار العهد نوع آخر، فقد جاء فى كتاب (السير الكبير) لمحمد ما نصه :
(المعتبر فى حكم الدار هو السلطان والمنعة فى ظهور الحكم، فإن كان الحكم حكم الموادعين فبظهورهم على الأخرى كانت الدار موادعة، وإن كان الحكم حكم سلطان آخر فى الدار الأخرى فليس لواحد من أهل الدار حكم الموادعة) .
ونرى محمد بن الحسن الشيبانى يؤكد فرض دار أخرى هى الموادعة أو العهد ، ولكنه يأتى بأمر جديد لم نذكره من قبل، وهو أنه يفرض أن أهل العهد قد يكونون خاضعين فى نظامهم لدولة أخرى لاتدخل فى حكم العهد، فيقرر أنه إن كان السلطان والمنعة لأهل الجماعة التى عقد معها عقد الموادعة فإنها دار عهد، وإن كان السلطان والمنعة لدولة أخرى فإنه لا يقرر العهد لإحداهما إلا أن تكون لها ومن معها معاهدة .
• يجب أن يلاحظ أن العالم الآن تجمعه منظمة واحدة - الأمم المتحدة - قد التزم كل أعضائها بقانونها ونظمها، وحكم الإسلام فى هذه أنه يجب الوفاء بكل العهود والالتزامات التى تلتزمها الدول الإسلامية عملاً بقانون الوفاء بالعهد الذى قرره القرآن الكريم، وعلى ذلك لا تعد ديار المخالفين الى تنتمى لهذه المؤسسة العالمية دار حرب ابتداء بل تعتبر دار عهد .. انتهى كلام الشيخ أبو زهرة .
رأى المؤلف
ويرى كاتب هذه السطور أن معظم دول العالم غير الإسلامى ينطبق عليها حاليًا وصف : (دار العهد) ،وعلى ذلك يأمن فيها المسلمون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ،وعليهم أيضًا أن يطبقوا منهج التعايش السلمى مع رعايا هذه الدول باعتبارهم (معاهدين) أمرنا الإسلام باحترام العهود المبرمة معهم والوفاء لهم بما اتفقنا عليه .. فلا يجوز لنا قتل أحد منهم - إلا فى حالة الاضطرار إلى الدفاع عن النفس أو المال أو العرض أو الدين شأنه فى ذلك شأن المعتدى المسلم - كما يحرم علينا سلب أموالهم أو الاعتداء على أعراضهم أو المساس بدور عبادتهم .
• وتوجد علاقات دبلوماسية واقتصادية بين معظم بلاد العالم الإسلامى وباقى الدول ، فهناك إذن معاهدات معهم علينا أن نفى بها .(3/21)
• كذلك فمن أقوى الأدلة عندنا على اعتبار معظم الدول اليوم - خارج العالم الإسلامى - دار عهد أن آلاف المآذن ترتفع الآن فى سماء أوروبا وأمريكا وآسيا واستراليا وأفريقيا ، ولم يكن الحال كذلك فى زمن الفقهاء القدامى الذين قسموا العالم إلى دار إسلام ودار حرب فقط .. وتوجد الآن بكل القارات مراكز إسلامية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم , ويتمتع المسلمون بحرية العبادة بصفة عامة - باستثناء حالات قليلة والاستثناء لا يُقاس عليه - فكيف نعتبر كل هذه الدول (دار حرب) وفيها عشرات الملايين من المسلمين، وفيها أيضًا مئات الملايين ممن يحبون الإسلام والمسلمين وينصفون الإسلام وأهله ولو لم يدخلوا فيه ؟!!
وكيف نعتبر الأصدقاء المنصفين من أمثال (جوته) و (جوستاف لوبون) و (الأمير تشارلز) و ( زنجريد هونكه) وغيرهم من أهل دار الحرب ؟! هؤلاء الذين يدافعون عن الإسلام ضد الآخرين المتعصبين الحاقدين ، كيف بالله نضعهم فى خندق واحد مع من يناصبوننا العداء كالصهاينة والمتعصبين الصليبيين أمثال هنتنجتون ؟! لقد علمنا الإسلام أن، المهادن لنا أو المحب من المشركين ليس كالمحارب ، قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة:8،9 .
فقه الأقليات المسلمة
• وتبدو الحاجة ماسة إلى تأصيل قواعد فقهية خاصة بما يصادف المسلم خارج دار الإسلام . ويضع الدكتور يوسف القرضاوى عدة ضوابط هامة بهذا الصدد منها :
• إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية من ناحية، التى تشمل كل مسلم فى أنحاء العالم، أيّاً كان جنسه أو لونه أو لسانه، أو وطنه ، أو وظيفته، وهم - من ناحية أخرى - جزء من مجتمعهم الذى يعيشون فيه، وينتمون إليه . فلابد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يتضخم أحدهما على حساب الآخر .
• إن (فقه الأقليات) المنشود، لا يخرج عن كونه جزءًا من (الفقه العام) ولكنه فقه له خصوصيته وموضوعه ، ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه ، لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها إلى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم .
وإذا كان عندنا الآن ما يمكن أن نسميه (الفقه الطبى)، وعندنا ما يسمى (الفقه الاقتصادى) ، وكذلك عندنا ما يمكن أن نسميه (الفقه السياسى) . إذا كان عندنا هذه الأنواع من الفقه، فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كى يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم . وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور فى فقهنا الإسلامى، ولكنها غير منظمة، وهى مجملة غير مفصلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها، لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنده، ولم يخطر ببال أهله حدوثها.
• يجب أن يكون للمسلمين - بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية - (وجود إسلامى) ذو أثر، فى بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذى أصبح يقود العالم، ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته . وهذه حقيقة لا نملك أن ننكرها .
فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود، ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين فى ديارهم، ودعم كيانهم المعنوى والروحى، ورعاية من يدخل فى الإسلام منهم، وتلقّى الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف. بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين .
ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوى المؤثر للنفوذ اليهودى وحده، يستغله لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر فى سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها. ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله ، قابعون فى أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، فى حين نؤمن نظريًا بأن رسالتنا للناس جميعًا وللعالمين قاطبة . ونقرأ فى كتاب ربنا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء:107 ، (تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) الفرقان:1 .
ونقرأ فى حديث نبينا صلى الله عليه وسلم : (كان النبى يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) متفق عليه عن جابر .
ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم فى بلد غير مسلم، أو فى (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا - كما يتصور بعض العلماء لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام وانتشاره فى العالم، ولانحصر الإسلام من قديم فى جزيرة العرب ولم يخرج منها .
ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدًا ، لوجدنا أن انتشار الإسلام فى البلاد التى تسمى الآن :العالم العربى ، والعالم الإسلامى ، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجار أو شيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد فى آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس فى بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذى غرس فيهم هذه الفضائل ، فدخلوا فى هذا الدين أفواجًا وفرادى .
حتى البلاد التى دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بنى أمية فى مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين فى الإسلام ، حتى أبطل ذلك عمر بن عبد العزيز ، وقال قولته المشهورة لواليه : (إن الله بعث محمدًا هاديًا ، ولم يبعثه جابيًا) .
أهداف الفقه المنشود للأقليات
ويحدد الدكتور يوسف القرضاوى أهداف فقه الأقليات فيما يلى :
أولاً : أن يعين هذه الأقليات المسلمة- أفرادًا وأسرًا وجماعات - على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج فى الدين، ولا إرهاق فى الدنيا.
ثانيًا : أن يساعدهم على المحافظة على (جوهر الشخصية الإسلامية) المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشىء ذراريها على ذلك .
ثالثاً : أن يمكَّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذى يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتى هى أحسن، كما قال الله تعالى : (قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى) يوسف:108 ، فكل من اتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة ، وخصوصًا من كان يعيش بين غير المسلمين .
رابعًا : أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلاً إيجابيًا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة:محافظة بلا انغلاق ، واندماج بلا ذوبان .
خامسًا : أن يسهم فى تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات .(3/22)
سادساً : أن يعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة : الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع فى الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزًا محركًا لهم، ودليلاً يأخذ بأيديهم، وليس غلاً فى أعناقهم، ولا قيدًا بأرجلهم .
سابعًا : أن يجيب هذا الفقه المنشود عن أسئلتهم المطروحة ، ويعالج مشكلاتهم المتجددة ، فى مجتمع غير مسلم، وفى بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها الخاصة، فى ضوء اجتهاد شرعى جديد، صادر من أهله فى محله .
خصائص هذا الفقه المنشود
ولهذا الفقه المنشود خصائص لابد أن يراعيها، حتى يؤتى أكله، ويحقق أهدافه، تتمثل فيما يلى :
1- فهو فقه ينظر إلى التراث الإسلامى الفقهى بعين، وينظر بالأخرى إلى ظروف العصر وتياراته ومشكلاته. فلا يهيل التراب على تركة هائلة أنتجتها عقول عبقرية خلال أربعة عشر قرناً، ولا يستغرق فى التراث بحيث ينسى عصره وتياراته ومعضلاته النظرية والعملية، وما يفرضه من دراسة وإلمام عام بثقافته واتجاهاته الكبرى على الاقل. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
2- يربط بين عالمية الإسلام وبين واقع المجتمعات التى يطب لها ويشخص أمراضها، ويصف لها الدواء من صيدلية الشريعة السمحة، فقد رأينا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يراعى طبائع الأقوام وعاداتهم، كما قال : (إن الأنصار يعجبهم اللهو) وكما أذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم فى مسجده.
3- يوازن بين النظر إلى نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا يغفل ناحية لحساب أخرى، ولا يعطل النصوص الجزئية من الكتاب والسنة، بدعوى المحافظة على روح الإسلام، وأهداف الشريعة، ولا يهمل النظر إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة, استمساكًا بالظواهر وعملاً بحرفية النصوص .
4- يرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات فى ضوء الكليات، موازناً بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمقاصد عند التعارض فى ضوء فقه الموازنات ، وفقه الأولويات .
5- يلاحظ ما قرره المحققون من علماء الأمة من أن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف وغيرها. ولا يوجد اختلاف بين زمان وزمان مثل اختلاف زماننا عن الأزمنة السابقة، كما لا يوجد اختلاف مكان عن مكان، كالاختلاف بين دار استقر فيها الإسلام وتوطدت أركانه وقامت شعائره، وتأسست مجتمعاته ،ودار يعيش فيها الإسلام غريبًا بعقائده ومفاهيمه وقيمه وشعائره وتقاليده .
6- يراعى هذه المعادلة الصعبة : الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم، والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء(4) .
المراجع
19. أحمد الراوى - اتحاد المنظمات الإسلامية فى أوروبا - الإسلام والمسلمون والعمل الإسلامى فى أوروبا .
20. تتعمد الصين وروسيا أيضًا التقليل من الأعداد المعلنة للمسلمين فى كلا البلدين لأسباب استراتيجية، بسبب محاولات الأقلية المسلمة فى الصين الاستقلال عن الدولة الشيوعية ، والحرب التى تشنها روسيا على المسلمين الشيشان .
21. الإمام محمد أبو زهرة - العلاقات الدولية فى الإسلام - دار الفكر العربى - القاهرة 1994م .
22. د. يوسف عبد الله القرضاوى - فى فقه الأقليات المسلمة - دار الشروق - مصر .
الفصل السابع
ماذا قدمنا للآخرين ؟
لعل أقوى رد على منكرى التواصل والتعارف بين المسلمين والآخر ، هو تلك المآثر العظيمة التى سجلتها أقلام غربية منصفة أبت إلا تذكير العالم بما قدمه المسلمون والعرب للحضارة الإنسانية .. فقد كنا دومًا رسل هداية ورحمة وعطاء كما أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وفيما يلى نسوق أمثلة فحسب ، لأننا لو أردنا الإطالة لاحتجنا إلى مجلدات لحصر كل ما قدمناه للإنسانية ..
ذكرت مجلة "اليونسكو" (عدد تشرين الأول 1980م فى الصفحة 38) : أن كتاب القانون - لابن سينا - بقى يُدرَّس فى جامعة بروكسل حتى سنة 1909م ، وقال د. أوسلر :لقد عاش كتاب القانون مدة أطول من أى كتاب آخر كمرجع أوحد فى الطب، وقد وصل عدد طبعاته إلى خمس عشرة طبعة فى الثلاثين سنة الأخيرة من القرن السادس عشر، وقد زاد عدد الطبعات أكثر فى القرن السابع عشر، فابن سينا مكن علماء الغرب من الشروع فى الثورة العلمية، التى بدأت فعلاً فى القرن الثالث عشر وبلغت مرحلتها الأساسية فى القرن السابع عشر .
وحول أثر الحضارة العربية الإسلامية فى النهضة الأوربية، يقول الباحث الدكتور شوقى أبو خليل فى كتابه الحضارة العربية الإسلامية وموجز الحضارات السابقة(1) :
(لقد كانت العصور الوسطى الأوربية مظلمة، إلا البقاع التى وصلها الفتح العربى : الأندلس، صقلية، وجنوبى إيطاليا؛ فقد أنارت الحضارة العربية الإسلامية أرجاءها، وحركت عقول أبنائها، فليس من المصادفة أبداً أن تبدأ أوروبا نهضتها ويقظتها الفكرية من المناطق التى وصل إليها العرب ، ذلك لأنهم أصحاب تراث حضارى عظيم) .
ويضيف الباحث د. شوقى : (ولكن اقتباس هذه الحضارة الرائعة من قبل الأوروبيين كان أبتر ، وهذا الأخذ كان ناقصًا ، لأنهم أخذوا الجانب العلمى المادى ، وتركوا الجانب الروحى الإنسانى والتسامح الذى عاشته حضارتنا أينما حلت .. أجل إنها المعجزة العربية) .
وبكلمة مختصرة شهد القرن الحادى عشر ، انتقال بعض مظاهر أسس الحركة العلمية العربية إلى أوروبا من خلال الأندلس (مدرسة طليطلة) ، وجنوبى إيطاليا (مدرسة ساليرنو) ، بينما شهد عملية انتقال مشابهة عن طريق ثغور بلاد الشام المحتلة من قبل الصليبية (1907م - 1290م) .
وفى هذا الصدد قال المؤرخ الدكتور (لوسيان لوكليرك)(2) : (هناك تفكيران عصفا بأوروبا فى القرن الثانى عشر ؛ الأول : دينى متعصب ، دفع الأوروبيين للقيام بالحروب الصليبية ، والثانى : متعطش للعلم ، دفعهم للتفتيش عن منابعه لدى العرب المسلمين) .
مدرسة طليطلة
لقد مرت مدرسة طليطلة بعدة مراحل ، وفى كل مرحلة كانت تترجم المئات من الكتب والمخطوطات العربية إلى اللاتينية ، فمنذ استيلاء (الفونسو الثالث - ملك قشتالة) على مدينة طليطلة من أيدى العرب المسلمين عام 1085م، أمر بترجمة المخطوطات فى الخزائن التى كانت تحتوى على ملايين من المخطوطات والكتب الأدبية والعلمية والطبية - فالمكتبة العامة لمدينة قرطبة - وحدها - كانت تحتوى على أكثر من نصف مليون مخطوط عربى ، وإن فهارس هذه المكتبة ملأت مجلدين يحويان أكثر من ألفى صفحة - لاسيما أن الملك كان يحب الثقافة ، مما شجع حركة الترجمة ، لدرجة أن أقيمت ، ولأول مرة ، ورشات الترجمة ، وظهرت مفارز للترجمة ، يتعلم أفرادها اللغة العربية أولاً ، ثم يبدءون بترجمة عدد من المخطوطات القيمة الشهيرة من العربية إلى اللغة العامية القشتالية كلغة وسيط ، وبعدها تجرى صياغة هذه الترجمة باللغة اللاتينية الفصحى ، لأنها كانت اللغة الرسمية للعلم والكنيسة فى أوروبا .
وفى الفترة 1125م - 1151م حكم (ريمون) الذى تميز بشغفه للعلم ، مما شجع على ترجمة المزيد من الكتب العربية إلى اللاتينية ، لاسيما أن ثمة مترجمين مشهورين ، تولوا هذه المهمة ، منهم :
(يوحنا الإشبيلى) : تولى نقل الكتاب من اللغة العربية إلى اللغة القشتالية العامية (الكاستيجا) .(3/23)
(دومينيكو جونديسالفى) : تولى الترجمة من القشتالية العامية إلى اللغة اللاتينية الفصحى ، ومن بعض الكتب التى ترجمت : كتب ابن سينا الطبية والعلمية الأخرى والفلسفية ..
(مرقص الطليطلى) : تولى ترجمة كتاب (جس النبض) لجالينوس ، ولكن ليس عن لغة الكتاب الأساسية ، التى هي اليونانية ، وإنما نقلاً عن ترجمة عربية سابقة لهذا الكتاب ، قام بها حنين بن إسحاق ، وبهذا يكون فضل العرب مضاعفًا بهذه الحالة .
(جيرار الكرمونى) (1187م) : هذا المترجم بالذات كان نشيطًا لدرجة أنه قام بالترجمة من اليونانية والعربية إلى اللغة اللاتينية لنيفٍ وسبعين كتابًا فى الصيدلة والطب والفلسفة وغيرها من العلوم ، وعلى سبيل المثال نورد بعضها :
- فى علم الصيدلة : ترجم كتاب (الأدوية المركبة) للكندى .
- فى علم الطب : ترجم كتاب (القانون) لابن سينا .
إضافة إلى كتاب : (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوى ، وكتاب (المنصورى) لأبى بكر الرازى .
ومن المفيد ذكره فى هذا الصدد ، أن كتاب (القانون) ظل يُدرس فى الجامعات الأوروبية حتى بداية القرن السادس عشر ، وكتاب (التصريف...) كان المرجع الأول لعلم الجراحة فى أوروبا ، وكذلك كتاب (الجراحة الكبرى) للزهراوى ، كان المعتمد الأساسى فى علم الجراحة فى أوروبا حتى ظهور الجراح الفرنسى (آمبروا زباريه) فى القرن السادس عشر . أما كتاب الرازى (المنصورى) فقد كان المجلد التاسع منه ذا تأثير كبير فى تطور علم الطب فى القرون الوسطى وكانوا يسمونه (Nonusal-Mansori) أى المنصورى التاسع(3).
مدرسة ساليرنو
تأتى أهمية مدرسة ساليرنو من حيث كونها أول جامعة أقيمت فى أوروبا ، والتى خرجت جيلاً من الرواد أنشأ الجامعات الأوروبية الأولى فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر وما بعدهما ، ومن أمثال تلك الجامعات : (ديادوفا وبولونيا فى إيطاليا ، ومنبيليه وباريس فى فرنسا) . إضافة إلى جامعة أكسفورد ولايدن ولوفان ولايبزغ وتوبنجن وهايدلبرغ وبال ... إلخ .
ولقد لعب بعض الأطباء المهاجرين العرب دورًا كبيرًا فى تطور مدرسة ساليرنو للطب ، مثل : قسطنطين الأفريقى - التونسى الأصل – الذى ترجم العديد من الكتب العربية العلمية إلى اللغة اللاتينية ، مثل كتاب (الكامل فى الصناعة) وكتاب (الملكى) لعلى بن العباس ؛ وكتاب (فىأمراض العيون) لحنين بن إسحاق ، وكتاب (زاد المسافر) لابن الجزار ، وحوالى عشرين كتابًا أخرى أصبحت المراجع العلمية لها .
ناهيك عن أن (بارتولومو) ، وهو من تلامذة قسطنطين الأفريقى فى مدرسة ساليرنو ، قام بترجمة كتاب (الملكى) لعلى بن العباس من اللاتينية إلى الألمانية ، فكان أول كتاب طبى يدرس باللغة الألمانية الجديدة . ثم تلاه العديد من الكتب .
الثغور الشامية فى مرحلة الحروب الصليبية
شهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر مرحلة الحروب الصليبية ، التي تمت فيها عملية تماس إجبارى على مستوى واسع ، بين المجتمع العربى الإسلامى من جهة ، وحشود من الأوروبيين الغزاة من جهة ثانية ، وقد حصل هذا التماس فى بلاد الشام بالذات حيث أنشأ الصليبيون إمارات أوروبية مستقلة فى كل من الرها (إيديسا) ، وأنطاكية ، وطرابلس الشام ، ومملكة مسيحية فى القدس ، لدرجة أن وصفت هذه المرحلة بأنها الأهم فى نقل مظاهر وأسس الحركة العلمية من (دار الإسلام) فى المشرق إلى البلدان الغربية فى أوروبا .
وثمة علاقات تمت على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية ، لاسيما فى أوقات المهادنة . ومن جملة ما أخذوه نظامنا العلمى التعليمى ، وكيفية تدريس العلوم ، وإجازة الأطباء ، وطرق العلاج ، والمؤسسات العلاجية ، وخاصة نظام المستشفيات (البيمارستانات) ، ناهيك إلى انتقال العديد من الصناعات إلى أوروبا ، لاسيما صناعة الورق ، لما لها من أهمية فى الثقافة والعلم والتعليم ، وكذلك صناعة النسيج إلى فرنسا ، إضافة إلى إجادة اللغة العربية من قبل الأوروبيين(الذين كانوا مع الوحدات الصليبية فى الشرق) ، بغية التمكن من ترجمة الكتب العلمية إلى اللغة اللاتينية أولاً ، ثم إلى فروعها من اللغات الأوروبية فى مرحلة لاحقة . كما أن ثمة مدن تميزت بحركة نشطة فى الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية ، فمثلاً :
مدينة أنطاكية
كان من أهم المترجمين : (إيتين الإنطاكى) حيث ترجم كتاب (الملكى) لعلى بن العباس إلى اللاتينية، وذلك تحت عنوان Regalis Disposite عام 1127م .
مدينة طرابلس
اعتبر المترجم (فيليب الطرابلسى) ، من أنشط المترجمين ، حيث ترجم كتاب (سر الأسرار) لأرسطو إلى اللغة اللاتينية ، لكن ليس عن لغته الأصلية - وهى اليونانية - وإنما عن ترجمة عربية له تحت عنوان كتاب (السياسة فى تدبير الرئاسة) .
وإضافة لما سبق ، فالحقيقة العلمية تقول إن ازدياد المعلومات عن حضارات الشرق كالمصرية , والسومرية ، والبابلية .. يضطر المؤرخون إلى تعديل جذرى فى النظر إلى الحضارة اليونانية ، فليست هناك (معجزة يونانية) مطلقًا، لأن الحضارة اليونانية ، امتداد واقتباس للحضارة العربية القديمة فى وادى الرافدين ، ووادى النيل ، وبلاد الشام ، فاليونانيون اقتبسوا من الحضارة العربية فى شرقى البحر المتوسط الشىء الكثير فى مختلف العلوم ، وعاد إلينا على أنه علم وطب يونانيان ونُسى الأصل أو تنوسى .
وكما تقول الباحثة ليلى محمد محمد فإنه يبدو فضل العرب المسلمين على الحضارة الأوروبية مزدوجًا ومضاعفًا : نقل الفكر اليونانى إلى الغرب أولاً ، ورفده بأمهات الكتب العلمية والتصانيف التى أبدعها العرب المسلمون ثانيًا . ولاسيما أن اختراع الطباعة على يد يوحنا جوتنبرغ عام 1448م سهل انتشار الثقافة والعلم وعجل بنشوء الحضارة المعاصرة(4) .
وقد تحققت النقلة الحضارية المهمة بالترجمة المكثفة للأعمال اليونانية الكلاسيكية ، مثل أعمال أرسطو وإقليدس وأبيقراط وغيرهم ، والتى ترجمت إلى العربية من المصادر اليونانية والعبرية والسورية ، وقام المسيحيون العرب من أتباع الكنائس الأرثوذكسية السورية والنسطورية بإنجاز عدد من تلك الترجمات. على أن الترجمة لم تكن حرفية ؛ إذ غالبًا ما كان يجرى التعليق على المصدر الأصلى ونقده وإضافة حواشٍ إليه ، وبهذا الشكل بات المسلمون الورثة الحقيقيين للثقافة الهيلينية ، التى غالبًا ما يستخدمها الغرب كمرجع ومصدر ولاشك أن جهود الترجمة الإسلامية الكبيرة صانت هذا التراث الثمين وتولت إدارته(5) .
وصلت جهود الترجمة ذروتها على يد الطبيب المسيحى السورى حنين ابن إسحاق ، جمع ابن إسحاق فى رحلاته الطويلة المخطوطات المختلفة للمؤلفات الأساسية المتوفرة آنذاك ، وقام بمقارنتها قبل ترجمتها إلى السريانية أو العربية ، وفى مطلع القرن التاسع تم تأسيس (دار الحكمة) فى بغداد ، حيث باتت تلك الأعمال متوافرة باللغة العربية التى كانت قد أصبحت لغة العلوم آنذاك .
وكانت بغداد مركز العالم خلال الفترة من عام 750م وإلى العام 1258م حين قام المغول بتدميرها ، وفى الوقت الذى كان فيه أهل شمال أوروبا يهيمون على وجوههم ويكتسون بجلود الحيوانات ، كانت بغداد تنعم بحضارة مزدهرة متطورة تميزت بالتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود ، وبغداد - التى اصبحت مؤخرًا رمزًا للمشاكسة وعدم التصالح - كانت آنذاك تعرف باسم (مدينة السلام)(6) .
ويقول إنجمار كارلسون : أن الثقافة الإسلامية - على ذلك - ليست غريبة كما تدعى كليشهات الغرب وأفكاره المسبقة .(3/24)
تمكن المسلمون العرب والبربر من هزيمة مملكة الفيزغوطيين فى إسبانيا بسرعة بعد عبورهم لمضيق جبل طارق . كان أهل البلاد الأصليون آنذاك يعانون من حكم أرستقراطية غريبة ، فى حين كان اليهود عرضة لاضطهاد الكنيسة ، وبمساعدة اليهود سقطت طليطلة فى أيدى المسلمين دون مقاومة تذكر ،كما تم فتح قرطبة بمساعدة راع إسبانى دل المهاجمين على فجوة فى سور المدينة ، ومع افتتاح إشبيلية فى 716م وصل الفتح إلى ذروته ، وتم وضع أساس الإطار الجغرافى فى إسبانيا الذى انتعش فيه مجتمع التعددية الثقافية على امتداد ثمانية قرون تقريبًا .
لم يعتبر السكان الأصليون المسلمين الفاتحين همجًا بدائيين ، بل على العكس أعجبهم نمط الحياة الرفيع والرفاه والرقة التى جاء بها المسلمون ، وسرعان ما بات المسيحيون يقلدون المسلمين . ولقد قطع هذا الذوبان والاندماج الثقافى شوطًا بعيدًا إلى حد أن قسيسًا إسبانيًا كتب حانقًا يقول :
(إخوانى المسيحيون يتذوقون الشعر والحكاية العربية ، ويدرسون علوم الدين والفلسفة المحمدية ليس لغرض دحضها ، ولكن لتهذيب أذواقهم وامتلاك الأسلوب الرفيع . هل هناك الآن من هو قادر على قراءة التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة ؟ كلا للأسف الشديد . إن الموهوبين الشبان من المسيحيين لا يعرفون سوى الآداب العربية ، إنهم يقرأون ويدرسون الكتب العربية فحسب ، ويبذلون الغالى والرخيص لجمع الكتب العربية ، ويسبحون ويمجدون فى كل مناسبة بالعادات العربية) .
ذلك السعى المحموم تجاه نمط الحياة الرفيع مازال يعكس نفسه إلى يومنا هذا فى بعض التعابير المتداولة فى اللغات الأوروبية ، والمستعارة مباشرة من اللغة العربية . قليلون أولئك الذين يعرفون مثلاً أن كلمة (الجالا) (الحفل الكبير احتفاء بشخص أو حدث مهم) جاءت أصلاً من العربية ، وأصل التعبير والحدث هو (الحلة) التى كان الأمير الشرقى يخلعها على شخص قام بأداء عمل أو خدمة جليلة ، واليوم نجد فى العديد من اللغات الأوروبية استعارات محورة لمشتقات من هذا التعبير .
لاشك أن الدين كان قوام تأسيس الهوية ، وأن الدين كان بدوره يرتبط بنظام الحكم الإقطاعى ، ولكن العلاقة بين المجموعات الدينية كانت ترتكز على التسامح المتبادل فيما بينها ، والذى كان مستمدًا بدوره من مبدأ (أهل الكتاب) الذى ورد فى القرآن .
ويمكن اعتبار عمليات التحول بين الديانات الثلاث بمثابة مقياس خاص لمبدأ التسامح المعمول به آنذاك ، كان التحول من المسيحية واليهودية إلى الإسلام شائعًا ومازال .
وكانت هناك خمس لغات على الأقل قيد الاستعمال اليومى ، لغتان للحديث ، العربية الأندلسية ولغة الرومانا العامية (التى تطورت فيما بعد إلى اللغة الإسبانية) . أما لغات الكتابة فكانت العربية الفصحى والعبرية واللاتينية.
ويضيف إنجمار كارلسون : لقد حرر الفتح الإسلامى اليهود من الاضطهاد الذى كانوا يعانون منه تحت الحكم المسيحى ، ولقد تأقلم اليهود مع الثقافة العربية ، ووصلوا إلى مراكز رسمية عالية خلال فترة الازدهار تلك ، وأدلى اليهود أيضًا بقسطهم فى التطور العلمى والفلسفى والأدبى الذى تحقق خلال تلك الفترة والذى تمركز حول قرطبة . وتمت إعادة نفخ الحياة فى اللغة العبرية بظل الدعم العربى وحمايته، وعلى الرغم من أن اليهود كانوا يكتبون بالعربية عند تناول الفلسفة والعلوم ، إلا أن العبرية كانت لغتهم المفضلة عند كتابة الشعر ، وربما كانت هذه هى المرة الأولى التى جرى فيها استخدام العبرية لأغراض أخرى غير الطقوس الدينية .
ولقد ارتحل اليهود إلى إسبانيا العربية من جميع الأصقاع ، حتى إن غرناطة باتت مدينة ذات صبغة يهودية ، ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى قيام ناشر إسرائيلى فى مطلع الثمانينيات بنشر مجموعة من الأعمال تحت عنوان (كنوز من الفكر اليهودى) ، وكانت جميع المجلدات الستة التى تم نشرها فى المجموعة أعمالاً كتبت فى إسبانيا خلال الفترة 1050 - 1428م ، لا بل إن خمسة من الأعمال الستة تمت كتابتها أصلاً باللغة العربية ، وتضمنت الأعمال كتابين للمؤلف جابريول (المعروف أكثر باسمه اللاتينى Avicebron، وقصائد للشاعر يهودا هاليفى ، وأعمالاً لموسى بن ميمون (قارن التسامح الإسلامى مع اليهود بما يفعلونه الآن فى فلسطين) .
كانت إسبانيا المقاطعة الأولى التى انفصلت عن دار الخلافة ، ولقد وصل الأمير الأموى عبد الرحمن الداخل إلى إسبانيا فى العام 755م هاربًا من دمشق، وكان الحكام فى إسبانيا قانعين فى البداية بلقب الإمارة ، ولكن عبد الرحمن الثالث أعطى لنفسه - فى العام 929م - لقب (أمير المؤمنين) ، وأصبحت الخلافة فى قرطبة خلال القرن العاشر أكثر ممالك أوروبا رخاء على الصعيدين الثقافى والمادى ، وفى الوقت الذى كانت فيه المدن فى وسط أوروبا مجرد أكواخ من الخشب ، كان سكان قرطبة الذين بلغ عددهم نصف مليون نسمة يتمتعون بشوارع مضاءة وشبكة لمياه التصريف وأكثر من 300 حمام عمومى .
إلا أن حكم الأمويين بدأ بالتضعضع مع الانقسامات الداخلية ، وأيضًا مع ضغوط المسيحيين المتزايدة من الشمال الذين كانوا يطالبون باسترجاع الأراضى المسيحية . ونتيجة لهذه الضغوط انقسمت الخلافة فى قرطبة إلى ممالك صغيرة متعددة منذ العام 1013م ، وكان بعض الحكام المسلمين شقرًا وذوى عيون زرق نتيجة للزيجات المختلطة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين ، وجرى عقد معاهدات تحالف بين الحكام المسلمين والمسيحيين .
على أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية كانوا يعتبرون أن أى اتصال مع المسلمين ، أو أى تنازل لهم مهما صغر شأنه ، هو نصر لأعداء المسيحية ، وبدءًا بالقرن الحادى عشر كانت هناك عملية استرجاع تدريجية للأراضى من المسلمين ، إذ سقطت طليطلة فى 1085م ، وقرطبة فى 1236م ، وفالنسيا فى 1238م ، وإشبيلية فى 1248م . على أن الموقع الأخير ، غرناطة ، ظل صامدًا لأكثر من قرنين ونصف من الزمن ، كمدينة مفتوحة للفنانين والعلماء والكتّاب من شتى أرجاء حوض البحر المتوسط ، وظلت غرناطة واحدة من أجمل مدن الدنيا وواحة للاجئين (المور) (العرب الهاربين من إسبانيا المسيحية) وللمسيحيين واليهود على السواء .
ولكن غرناطة سقطت أخيرًا مع قلعتها الحمراء فى عام 1492م ، ولقد حدث هذا بعد أن أصبحت نموذجًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وهو النموذج الذى بات يعرف باسم التعايش التلاؤمى (Conviviencia)، وعلى امتداد كامل فترة الاسترجاع كان المسيحيون يواجهون طرفًا أكثر رفعة حضارية . ولقد كان الإسلام أكثر مدنية وأكثر تطورًا من الناحية التقنية ، فضلاً على أنه كان أكثر انفتاحًا على العالم وأغنى تنوعًا من الناحية الروحية .
وبعد الاجتياح المسيحى باتت طليطلة مركزًا لترجمة الأعمال العلمية من العربية إلى اللاتينية ، ولقد جرى جمع أفضل عقول أوروبا آنذاك فى تلك المدينة ، ويمكن على ضوء ذلك الاستنتاج القول بأن العلماء والبحاثة المسلمين والمسيحيين واليهود من طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة كانوا أساس ولادة المنهج الإنسانى الأوروبى ، وذلك عبر تعريف أوروبا المسيحية بكلاسيكيات تاريخ العلوم ، وهذا يصح على نظريات الحساب التى طورها إقليدس وأبولونيوس وأرخميدس , وعلى علوم الفلك لدى المصرى بطلميس ، وعلى علوم الطب عند أبو قراط وجالينوس .(3/25)
وقد تأثر التعليم والعلم والثقافة فى أوروبا بشكل قوى بالمعارف الإسلامية أيضًا عبر صقلية ؛ إذ كانت هذه الجزيرة مقاطعة بيزنطية فى بداية القرن التاسع ، فقد تمكن المسلمون فى العام 829م من الحصول على موطىء قدم فيها، ومع العام 902م سقطت الجزيرة بكاملها فى أيديهم إلى جانب أجزاء من جنوب إيطاليا ، ولكن السيطرة الإسلامية هناك لم تكن طويلة الأمد كما فى جنوب إسبانيا ؛ إذ تمكن النورمانديون من استرجاع صقلية فى أواخر القرن الحادى عشر . وعلى الرغم من قصر هذه الفترة الزمنية ، إلا أن المدن الصقلية بشكل خاص كانت قد تأسلمت مما انعكس فى انصهار ثقافى مرموق ظل حيًا ومشعًا لقرون ، وظل نظام حكم النورمانديين ذا طابع عربى كامل ؛ إذ إن (روجر الأول) ، وهو الذى بدأ الحملات ضد المسلمين فى الجزيرة أحاط نفسه بالفلاسفة وعلماء الفلك والعلماء العرب ، وكان بلاطه فى باليرمو بلاطًا شرقيًا أكثر مما كان غربيًا ، ولقد ظلت الجزيرة لأكثر من قرن من الزمن مملكة مسيحية يحتل المسلمون فيها أغلب المراكز الرفيعة .
لم يكن (فريدريك فون هوهينشتاوفن) حاكمًا لجزيرة صقلية فى النصف الأول من العام 1200م فقط ، بل كان أيضًا إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة وملك القدس ، وعلى الرغم من أنه كان صاحب أعلى مركز مدنى فى العالم المسيحى ، إلا أن حياته الخاصة كان حياة شبه شرقية ، فلقد كان لديه حريم ، وكان بلاطه يضم فلاسفة من دمشق وبغداد ويهودا شرقيين وغربيين. إن الانفتاح المميز الذى ساد بلاطه كان أساس عهد النهضة الإيطالى ، وكانت العربية واليونانية واللاتينية تستخدم فى المناسبات الرسمية ، ولقد انتشرت الثقافة والعلوم العربية من جزيرة صقلية والجنوب الإيطالى إلى شمال إيطاليا وبقية أنحاء أوروبا ، وتجدر الإشارة إلى أن الإمبراطور (فريدريك) وابنه (مانفريد) كانا يتقنان العربية ، ولقد قاما بدراسة العلوم والفلسفة العربية ، وبترجمة الأدبيات العربية إلى اللاتينية .
ويشهد إنجمار كارلسون بأن : علم التاريخ جاء إلى أوروبا من الأندلس وصقلية ، وهو أيضًا الطريق الذى جاءت منه العلوم والتكنولوجيا العربية ، لا بل إن إسهام العرب فى خلق المعرفة الطبية فى أوروبا يعتبر واحدًا من أبرز وأكبر عمليات النقل العلمى التى تمت فى التاريخ . لقد جمع أبو بكر الرازى (المتوفى فى العام 935م) كل المعرفة الطبية الموجودة فى زمانه فى 30 مجلدًا، وقام أيضًا بتأليف أكثر من مائة رسالة طبية أعيد نشرها نحو 40 مرة مع حلول القرن التاسع عشر ، وكانت بحوثه تلك مادة تدريس فى الجامعات الأوروبية لقرون طويلة ، وقد حاز وصفه للجدرى والحصبة على شهرة خاصة ، وقام الطبيب والفيلسوف ابن سينا (المتوفى فى العام 1037م) أيضًا بوضع دائرة معارف للعلوم الطبية ظلت تستخدم فى الجامعات الأوروبية حتى القرن الماضى، وشرح (ابن الخطيب) (المتوفى فى العام 1374م) كيفية انتقال الطاعون بالعدوى . أما أعمال على بن عيسى حول أمراض العيون فإنها تعكس فهمًا ومعرفةً لم تصبح متوافرة فى أوروبا قبل القرن الثامن عشر ، وكان الطبيب المصرى (ابن النفيس) (المتوفى فى 1288م) أول من شرح نظام الدورة الدموية . وهذا مجرد غيض من فيض .
ومنذ القرن العاشر فرض المسلمون على الأطباء ضرورة اجتياز امتحان طبى قبل السماح لهم بممارسة المهنة ، وكان تعليم الأطباء يجرى فى مستشفيات خاصة فى المدن الكبيرة ، ولقد طور الأخصائيون فى هذه المستشفيات فنون الجراحة ، كما جرى مراقبة ووصف مراحل تطور الأمراض المختلفة ، وتمت دراسة الأدوية المستخلصة من الأعشاب وتحليل آثارها على الجسم البشرى . لقد كانت العلوم الطبية متطورة إلى درجة أن عالم النبات (ابن البيطار) من ملقا (الأندلس) جدول فى القرن الثالث عشر أكثر من 1400 عقار طبى مختلف، وفى الواقع أن الصيدليات كمؤسسات طبية هى إبداع عربى ، ولقد كان هناك محلات عطارة رسمية فى الأندلس توفر الدواء للعامة .
وحقق علماء الفلك العرب تطورًا كبيرًا فى تحديد المسارات التى يأخذها القمر والكواكب ، وكتبوا فى وقت مبكر عن المد والجزر ، وعن قوس القزح ، وعن الشفق ، وعن الهالات حول الشمس والقمر ، وافتراض العلماء العرب أن الأرض كروية منذ القرن الحادى عشر . إن إنجازات (كوبرنيكوس وكيبلر) ما كان يمكن لها أن تكون بدون الأعمال التأسيسية للفلكيين العرب .
ولقد تمكن القسيس (لوبيتوس) من برشلونة من تعلم كيفية استخدام الأسطرلاب عبر قراءة نصوص مترجمة من العربية ، وكتب فى العام 984م إلى إخوانه المسيحيين - على الجانب الآخر من سلسلة جبال البرانس - حاثًّا إياهم على استخدام العلوم العربية ؛ وذلك لتسهيل تحقيق أهدافهم الدينية قائلاً: إن من يرغب بأداء الصلوات فى أوقاتها الدقيقة ، والاحتفال بعيد الفصح فى التاريخ الصحيح ، وتفسير البشائر حول نهاية العالم ، عليه أن يستخدم الأسطرلاب . لقد نسينا نحن المسيحيين الحكمة والمعرفة الأصلية ، وها هو الله يهبنا إياها ثانية عبر العرب . انتهى .
ولم يمنح العرب أوروبا الأسطرلاب فقط ، بل أعطوها أيضًا أداة أكثر دقة للحساب ، ألا وهي الأرقام العربية ، التى يجدر أن نسميها بالأرقام الهندية كما يفعل العرب أنفسهم . كانت هذه الأرقام معروفة فى بغداد منذ نحو العام 720م ، ويرجح أنها جاءت إلى بغداد عبر التجار الهنود . إن المساهمة الأكثر أهمية لعلماء الحساب الهنود تتمثل فى إبداع رقم الصفر ، وفى وضع النظام العشرى ، وعقب نحو قرن من معرفة هذا النظام ، قام (أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمى) (المتوفى فى العام 846) بوضع كتابه عن تطوير مجالات استخدامه فى علم الحساب ونظام العد العشرى ، وهو يستحق عن جدارة لقب (أبو علم الجبر واللوغارتمات) ، بل إن كلمة (الجبرا) باللغات الأوروبية مشتقة مباشرة من كلمة الجبر بالعربية ، وكلمة اللوغارتمات مشتقة بدورها من تحريف اسم الخوارزمى .
كانت أساليب الحساب الجديد ثورة عظيمة الشأن ؛إذ وفرت الأرقام الجديدة إمكانية التعامل مع المسائل الرياضية بشكل لم يكن متاحًا فى السابق مع استعمال الأرقام الرومانية ، ولقد حرر هذا الإنجاز العربى أوروبا من (اضطهاد الأرقام الكاملة) حسب تعبير أحد الرهبان .
كان للانتشار السريع للإسلام نتائج على علوم الجغرافيا أيضًا ؛ إذ تم وضع وصف دقيق لمسالك الحج من الحواضر الإسلامية فى مصر وسوريا وما بين النهرين فى وقت مبكر . ونتج عن هذا تأليف دوائر المعارف الجغرافية وكتب الرحلات عبر القارات ، ولقد وضع (أبو عبد الله المقدسى) (المتوفى فى العام 1000م) مجلدًا حول الجغرافيا الفيزيائية والبشرية المعروفة فى ذلك الزمن ، على ضوء ملاحظاته والمراقبات الموثوقة للآخرين , وهو أيضًا مؤلف (أحسن التقاسيم فى معرفة الأقاليم) الذى نقله الأوروبيون إلى لغاتهم ، كما قام (ياقوت الحموى) (المتوفى فى العام 1229م) بتأليف قاموس جغرافى مهم بعنوان (معجم البلدان) .
ولقد استفادت أوروبا أيضًا من العلوم العربية فى هذا المجال ؛ إذ قام الملك النورماندى (روجر الثانى) بتكليف الجغرافى العربى الإدريسى برسم خرائط شاملة عن العالم ، فقام هذا برسم خريطة للعالم بالإضافة إلى 72 خريطة تفصيلية عن الحدود المعروفة آنذاك ، من خط الاستواء جنوبًا إلى المحيط الأطلسى غربًا وإلى المحيط الهادى شرقًا .(3/26)
كانت المخططات التى وضعها راسمو الخرائط العرب واليهود فى صقلية ومايوركا فى القرن الثالث عشر فريدة من نوعها ؛ إذ استمر استعمالها ولم يجر تعديل المسافات المحددة فيها إلا فى وقت متأخر من القرن السابع عشر ، وكلمة أطلس المستخدمة فى اللغات الأوروبية مأخوذة مباشرة من اللغة العربية، وعندما قام (فاسكو دي جاما) بالاستعانة بالقبطان العربى (ابن ماجد) ؛ لاكتشاف طريق الهند عبر رأس الرجاء الصالح ، فإنه كان يعرف تمامًا بمن يجب أن يستعين .
أما الرحالة المغربى (ابن بطوطة) (المتوفى فى 1368م أو 1377م) فإنه ارتحل إلى أصقاع بعيدة أوصلته إلى تومبكو وإلى بكين وإلى الفولغا ، وهو لاشك رحالة على نفس مستوى (ماركو بولو) .
وفيما يلى ، نخبة من أسماء المسلمين الذين أغنوا أوروبا بعلومهم ومعارفهم، والذين وصفهم الباحث والرحالة الألمانى (الكسندر فون هومبولت) فى القرن التاسع عشر بأنهم (منقذو التعليم والثقافة الغربية) .
• عباس بن فرناس (المتوفى فى 888م) الذى حاول تصميم طائرة قبل نحو 600 عام من قيام الإيطالى ليوناردو دافنشى بنفس المحاولة .
• أبو الحسن بن الهيثم (المتوفى فى 1039م) الذى اخترع الحجرة المظلمة فى التصوير .
• أبو الريحان البيرونى (المتوفى فى 1050م) العبقرى المتعدد المواهب الذى كان مؤرخًا وديبلوماسيًا وأخصائيًا فى اللغة السنسكريتية وعالم فلك ، وخبيرًا بالخامات وصيدلانيًا .
• عمر الخيام (المتوفى ما بين 1123م و 1131م) الذى كان شاعرًا وعالم حساب فى آن واحد .
• ابن رشد (ولد وتعلم فى الأندلس ، وتوفى فى 1198م) الذى تركت شروحاته وتعليقاته على أعمال أرسطو آثارًا عميقة على الفلسفة الغربية .
• ابن خلدون (المتوفى فى 1406م) الذى يعتبر بحق (أبو التاريخ) و (أبو علم الاجتماع) ، عبر مُؤلفه الشهير المعروف بـ (مقدمة ابن خلدون) ،عن تاريخ العالم ومنهجه المميز فى نقد المصادر .
وكما تقول أغنية مصرية شائعة : (الأرض بتتكلم عربى) ، فإن أوروبا كثيرًا ما تستعمل العربية دون أن تدرى . إن الآثار التى خلّفها الحكم العربى فى إسبانيا وصقلية يمكن متابعتها بشكل خاص فى مفردات اللغات الأوروبية، وخاصة فى اللغة الإسبانية . إن واحدة من كل خمس كلمات فى اللغة الإسبانية ذات أصل عربى ، لا بل إن البطل الوطنى الإسبانى الذى هزم العرب، يحمل اسمًا عربيًا : (السيد) (El Cid) ، ومعظم السائحين الذين زاروا حلبات مصارعة الثيران قد لا يعرفون بأن نداء (أوليه) بالإسبانية تمتد جذوره فى اللغات العربية : إنهم يمجدون بهتافهم هنا اسم الله ، وإن اسم أطول نهر فى إسبانيا (Guadalquivir) مشتق فىالواقع من الاسم العربى (الوادى الكبير) ، وماذا عن اسم جبل طارق ؟ بل إن التعبير الشائع (هستا مانيانا) , والتى تعنى إلى الغد ، فإن كلمة (هستا) تعود بأصلها إلى كلمة (حتى) العربية .
ومن بين التعابير الحربية والعسكرية فى اللغات الأوروبية التى تعود بأصلها إلى اللغة العربية نذكر مثلاً دار الصناعة (Arsenal) ، والغزوة (Razzia) ، وقالب (Calibre) . وللتذكير فقط فإن المسلمين وليس البريطانيين هم الذين سادوا الأمواج (كما يقول النشيد الإنجليزى) ، بل إن اللقب العسكرى للأدميرال نيلسون مشتق من اللغة العربية . إن كلمة أدميرال مشتقة (أمير الرحل) التى تحرفت إلى (Ammiraglio) بالإيطالية ثم أدميرال بالإنجليزية، وكلمة (Mansoon) هي أيضًا كلمة بحرية مشتقة من كلمة الموسم .
وقد استعارت كل اللغات الأوروبية بشكل مكثف من العربية خصوصًا فى مجال أسماء النباتات والحيوانات . وكأمثلة على ذلك نذكر الحشيش (Hasch) ، الذرة (Durra grain) ، الطرحون (Tarragon)، الباذنجان (Aubergine) ، البرقوق (Apricot)، الكمون (Cumin)، الكافور (Camphor)، القهوة (Coffee)، الياسمين (Jasmine)، الزنجبيل (Ginger)، القطن (Cotton), الليمون والليمونادة (Lemon)، النارنج (Orange)، السبانخ (Spinach)، الزعفران (Saffron) .
وكبرهان على التأثير العربى الواسع الذى شمل مختلف المجالات، والذى يكاد أن يقارب ما نطلق عليه اليوم اسم (الاستعمار الثقافى)، نورد فيما يلى مجموعة من الكلمات السويدية المستعارة مباشرة من اللغة العربية :
الشفرة (Cipher)، العرق (Arrack) الكهف (Alcove) الملغم (Amalgam)، الكحول (Alcohol)، الجبر (Algebra)، الحبل (Cable)، الزهر (Hazard) ، الإكسير (Elixir)، الدمقس (Damask) .
ويشهد علماء الغرب على بشاعة أسلافهم : ولاشك أن الإحساس بالدونية الثقافية ساهم فى بلورة موقف المسيحيين تجاه المسلمين الذى تميز بالقسوة واللارحمة ، ويحفظ لنا التاريخ مثلاً أن (الكاردينال زيمينس) أمر فى العام 1499م بحرق ثمانين ألف كتاب عربى فى غرناطة ، بحجة أن (العربية هى لغة عرق كافر وعرق وضيع) . وبعد ثلاث سنوات أجبر المسلمون فى إسبانيا على الاختيار بين اعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد أو الموت ، وخلال الحقبة الزمنية نفسها تم نفى نحو ربع مليون يهودى بعد أن رفضوا اعتناق المسيحية . وتم إحراق مئات الألوف من المسلمين أحياء بعد تعذيب وحشى مروع .
عانت إسبانيا آنذاك من نفس الجنون العرقى الذى تعانى منه البوسنة اليوم ، إذ إن حمى تحويل أتباع الأديان الأخرى إلى المسيحية سرعان ما أصبحت حملة للتمييز العنصرى ، وحتى ذلك الوقت لم يكن (الدم) أمرًا ذا شأن إلا للنبلاء الذين لا يمتلكون الأضياع ، ولكنه سرعان ما أصبح معيارًا حاسمًا للتمييز بين البشر ، وعلى هذه الخلفية فضل الملك (فرديناند) والملكة (إيزابيلا) دخول التاريخ لا بصفتهما ملكين على أتباع من ثلاث ديانات ، بل فضّلا صفة الملوك الكاثوليك . وهكذا انتهى عهد التعايش التلاؤمى على يد المسيحيين المتعصبين .
إن تجربة الأندلس تؤكد : أن بعض التجاوزات المتطرفة التى قد نراها اليوم على الأصعدة المختلفة ليست صنوًا للإسلام . إنها ببساطة ليست من الإسلام فى شىء . الإسلام هو مصهر للإبداعات المتنوعة ، وهو مستودع لأفكار متعددة ومتميزة ، من نظريات يوتوبية استرجاعية حول الخلاص الروحى إلى تأكيدات للهوية الثقافية واستيعاب لكل الأفكار والثقافات .
إسبانيا المسلمة هى برهان ملموس على كل هذا ، وهى تحد سافر للأفكار الجاهزة ، وللقوالب المسبقة حول الإسلام والمسلمين . الإسلام كان الحضارة المتفوقة ، وكان الطرف الخلاق حين كانت المسيحية متخلفة عنه قرونًا كثيرة، ولقد عاشت المجموعات السكانية المختلفة بظله بتناغم وتجانس دون اعتبار للعرق والدين . لقد تمكن الإسلام هناك من خلق مجتمع (التعايش السلمى) الذى وصفه المستشرق البريطانى (وليام مونتغمرى وات) بأنه مفهوم يتضمن التكافل والتكامل والانصهار .
تعليق(3/27)
لقد استمر عطاء علماء المسلمين للبشرية حتى يومنا هذا برغم كل الظروف السيئة التى نمر بها الآن .. ويكفى أن نشير إلى حصول اثنين من علماء المسلمين على جائزة نوبل العالمية تقديرًا لعطائهما وجهودهما المتميزة .. الأول كان الفيزيائى الباكستانى أحمد عبد السلام .. والثانى هو الدكتور أحمد زويل عالم الفيزياء العربى المسلم صاحب الاكتشافات العلمية المذهلة فى العصر الحديث ، ومنها اكتشافه وحدة القياس الزمنى (الفمتوثانية) لأول مرة فى التاريخ .. وهناك أيضًا عالم الفضاء المصرى العربى الدكتور فاروق الباز أحد أبرز خبراء وكالة أبحاث الفضاء الأمريكية (ناسا) .. والعبقرى الدكتور مشرفة .. وعالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى ، وعالم الذرة الدكتور يحيى المشد (اغتالتهما المخابرات الإسرائيلية الموساد بخسة ووضاعة لمنع العرب من الحصول على القنبلة النووية) .. وأيضًا نذكر جراح القلب العالمى الدكتور مجدى يعقوب ..والعالم الجليل الدكتور زغلول النجار أحد أكبر علماء طبقات الأرض فى العالم كله .. وهؤلاء فقط مجرد أمثلة لما قدمته عقول العرب والمسلمين للإنسانية من عطاء .. وهم وأمثالهم - قديماً وحديثاً - البرهان الساطع على أن المسلمين دائمًا كانوا حريصين على التواصل الإيجابى مع الآخر والتعاون المثمر على البر والتقوى والخير للبشرية كلها(7) .
المراجع
(1) الحضارة العربية الإسلامية والحضارات السابقة ، للباحث الدكتور شوقى أبو خليل .
(2) Lucien Leclerc, Histore de la medecien arabe, Tome 2, P. 343, 345. .
(3) مجموعة بحوث وأعمال المؤتمر العالمى الأول للطب الإسلامى ، الكويت ، 1981م ، الدكتور أبو الوفا التفتازانى .
(4) ليلى محمد محمد - مجلة النادى الأدبى لمنطقة حائل - العددان 8 ، 9.
(5) إنجمار كارلسون - الإسلام وأوروبا - ترجمة سمير بوتانى - مكتبة الشروق الدولية .
(6) هناك موسوعتان مشهورتان عن بغداد ، الأولى : دار السلام , والثانية : تاريخ بغداد، الخطيب البغدادى ، 14 مجلدًا ، مكتبة الخانجى .
(7) ومن أراد المزيد عن العطاء الإسلامى العظيم للعالم فليراجع كتاب المستشرقة الألمانية زنجريد هونكه : (شمس الإسلام تشرق على العالم) - ط دار الشروق - مصر ، وكتاب (حضارة العرب) للعلامة الفرنسى جوستاف لوبون - ط الهيئة المصرية العامة للكتاب .
الفصل الثامن
وسائل التواصل
أدى التطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات إلى تيسير التواصل بين جميع الدول والشعوب .. ولاشك أننا نستطيع استثمار هذه الوسائل الحديثة فى التحاور والتواصل والتبادل الحضارى مع الآخرين ..
• وعلى رأس هذه الوسائل الحديثة تأتى شبكة المعلومات الدولية - الإنترنت - وهىقفزة كبرى في عالم الاتصالات تيسر لنا - بأقل التكاليف -الوصول إلى كل بيت فى سائر أنحاء المعمورة بلا قيود أو معوقات .. ويكفى أن نشير إلى الملايين من الأوروبيين والأمريكيين الذين اعتنقوا الإسلام خلال بضع سنين منذ اكتشاف الإنترنت كوسيلة فائقة السرعة زهيدة التكلفة للحصول على المعلومات والاتصال بالآخرين .. وعلى سبيل المثال فقد زاد عدد زوار المواقع الإسلامية على الإنترنت - بعد 11سبتمبر 2001م - 76 ضعفًا بسبب الرغبة العارمة لدى الآخرين في التعرف على هذا الدين وما يدعو إليه .. والمؤكد أن هذا كله في صالحنا، لأن النتيجة في كثير من الحالات هى اعتناق هؤلاء الإسلام بعد معرفة الحقائق الكاملة عنه بعيدًا عن أكاذيب وتضليل الصحف الغربية ووسائل الإعلام الأخرى ؛ (تضاعف عدد من اعتنقوا الإسلام في أمريكا 3 مرات بعد 11 سبتمبر) ويمكن لمن يرغب في معرفة بعض ثمار التواصل عبر الإنترنت بهذا الصدد أن يقوم بزيارة بعض المواقع الآتية :
www.jews-for-allah-org وهو موقع أنشأه حاخام يهودى سابق اهتدى للإسلام - مع كل أسرته - بعد حوار قصير عبر الإنترنت مع شاب مسلم مثقف واعٍ نجح في عرض حقائق الإسلام العظيم على هذا الحاخام الذى أنشأ هذا الموقع لدعوة اليهود وغيرهم إلى الإسلام،بعد أن هداه الله إلى الدين الحق .
- قسيس أمريكى شهير اعتنق الإسلام مع والده - قسيس أيضًا - وصديقهما الوزير الأسبق وأسس موقعًا للدعوة إلى الإسلام www.islamtomorrow.net وأيضاً www.islam-guide.com موقع جيد لتعريف الآخرين بالإسلام.
www.thetruereligion.org/converts موقع هام يحتوى على عشرات من قصص إسلام مشاهير الغرب فى كل المجالات.
www.saaid.net أيضا موقع إسلامى ممتاز به كثير من القصص الرائعة لمئات من غير المسلمين الذين هداهم الله للإسلام .
- www.islamicweb.com وموقع آخر للحوار مع غير المسلمين وقصص المسلمين الجدد من مختلف البلدان والثقافات .
- وهناك أيضًا موقع رائع أسلم بسببه عشرات www.islamway.com .
وتجدر الإشارة إلى أن معظم هذه المواقع هى ثمرة مجهود فردى لدعاة وهبوا أنفسهم وما يملكون لنشر دين الله بين العالمين ..
ولكن الأمر يتطلب سرعة مشاركة الدول والهيئات الإسلامية ذات الإمكانيات الكبيرة بإنشاء مئات المواقع- بكل لغات العالم الأخرى وليست الإنجليزية أو العربية وحدها - وتوفير كل المعلومات الأساسية عن الإسلام بما في ذلك الردود العلمية المقنعة على كل ما يثار حول الإسلام من شبهات؛نظرًا لوجود الآف المواقع المعادية التى تنشر الأباطيل عن الإسلام وتربطه بالإرهاب والخرافات وكل ما ينفر الآخرين منه ..
• لقد لاحظ كاتب هذه السطور - من خلال متابعة غرف الدردشة (الشات)الإسلامية بشبكة (ياهو) - قلة عدد الدعاة الذين يجيدون اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأجنبية والمؤهلين للرد على ما يثار من أسئلة أو افتراءات على الإسلام .. الأمر الذى يجعلنا نطالب بسرعة إعداد أعداد كافية من العلماء المتخصصين المسلحين بكل أدوات العصر - إجادة لغات أجنبية وكذلك إجادة استخدام الكمبيوتر والتحاور عبر الإنترنت - فضلاً عن الثقافة الإسلامية بالطبع، والدراية بكيفية التحاور مع الآخرين، ومهارات الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، ومعرفة كل الإجابات الشافية والردود على الأباطيل التى تثيرها وسائل الإعلام الأجنبية لمحاولة تشويه الإسلام في وجدان الآخرين ..
صحيح أن هناك حاليًا كما أشرنا بعض الشباب ممن ألهمهم الله رشدهم ووفقهم لتحقيق إنجازات طيبة عبر الإنترنت،وكان من ثمرات جهدهم المبارك،أنه يعتنق الإسلام على أيديهم يوميًا،عشرات من غير المسلمين، لكن عددهم ما يزال ضئيلاً،وإمكانياتهم محدودة للغاية، إذا قورنت بالجيوش الجرارة من المنصرين ومئات المليارات المخصصة للحرب على الإسلام بوسائل مختلفة .. لذلك تعتبر المشاركة بالمال أو النفس في الدعوة إلى الله في هذا الميدان وغيره من أسمى مراتب الجهاد في سبيل الله،فهو كما وصفه الدكتور يوسف القرضاوى بحق (جهاد العصر).
• وما ذكرناه عن الإنترنت يصدق أغلبه أيضًا على القنوات الفضائية ..(3/28)
ففى الوقت التى يبث فيه الآخرون في مختلف أنحاء العالم مئات - بل آلاف - القنوات الفضائية بكل اللغات لنشر عقائدهم والترويج لثقافتهم وحضاراتهم،وكثير من هذه القنوات يتطاول على الإسلام العظيم ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم .. فإننا في المقابل لا نكاد نجد قنوات إسلامية ترد على هذا التطاول الإجرامى،أو تقدم للآخرين - بلغات أجنبية - كل ما يجب أن نقدمه لهم من معلومات عن ديننا الحنيف وحضارتنا العربية الإسلامية الخالدة!!! إننا نطالب بسرعة بث قنوات فضائية عالمية إسلامية بكل اللغات لسد النقص الخطير في هذا المجال،فالجهاد الإعلامى لا يقل أهمية عن الجهاد في ميادين القتال - بل هو الأهم في أوقات السلم - بدلاًمن التسابق الذى نراه الآن - للأسف الشديد - والتنافس في إنشاء قنوات فضائية تبث العرى والانحلال وتضرب الفضائل في مقتل !!!وكفانا إهدارًا للمال ، وكفانا إفسادًا لشباب وأطفال المسلمين وإهدارًا لأوقاتهم وطاقاتهم في متابعة مواد إعلامية أقل ما يقال فيها - في أحسن الأحوال - أنها غير ذات فائدة على الإطلاق!!!
• ونطالب أيضًا بإنشاء إذاعات إسلامية تبث برامجها بلغات العالم الأخرى لنشر مبادئ الإسلام ، وتعريف الآخرين بحضارتنا وقيمنا، والرد على الحملات المضادة .
• لابد أيضًا من إنشاء دار نشر إسلامية عالمية تتولى تنشيط حركة طبع وترجمة الكتب والمطبوعات الإسلامية إلىكل لغات العالم بإعتبارها من أهم وسائل التعارف والتواصل مع جميع الأمم والشعوب الأخرى،كما كان الحال في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية في الأندلس وبغداد .. وعلى رأس هذه الكتب التى تبرز الحاجة الملحة إلى ترجمتها وطبعها معانى القرآن الكريم وكتب العقيدة والأحاديث الصحيحة والفقه الإسلامى وغيرها من الكنوز الإسلامية .. وما أكثر ما نطالع - عبر الإنترنت وغيره - أناسًا من غير المسلمين يناشدوننا إمدادهم بترجمة لمعانى القرآن الكريم وغيرها من الكتب والمراجع الإسلامية بلغاتهم،لأنهم لا يملكون أية مصادر للتعرف على الإسلام سوى وسائل الإعلام الغربية الحاقدة التى لا هم لها سوى إشاعة الخوف من الدين العظيم وتشويهه على الدوام ..
ملاحظة :(في أعقاب أحداث 11 سبتمبر نفدت ملايين من الكتب التى تتحدث عن الإسلام - إيجابًا أو سلبًا - من المكتبات الأمريكية خلال بضعة أشهر ،والأمر يحتاج إلى إمكانيات هائلة لا وجود لها سوى لدى الدول الإسلامية .
وقد أنعم الله علينا بثروات ضخمة من النفط وغيره،فلا أقل من إنفاق بعضها على وسائل الدعوة إلى الله،وما أعظمها من أوجه للإنفاق في سبيل الله وما أعظم الأجر عليها لمن يوفقه الله إلى ذلك ..
• ويلحق بهذا إعداد دائرة معارف إسلامية وموسوعة شاملة بكل اللغات المعروفة،وهو ما يفعله الآخرون لنشر مذاهبهم وعقائدهم وحضارتهم .. فلماذا لا نفعل هذا ونحن أصحاب الدين الحق والحضارة الرائدة ؟!!
• كذلك تبدو الحاجة ملحة إلى إصدار صحف ومجلات إسلامية عالمية بلغات مختلفة،لمواجهة الحرب الإعلامية الطاحنة التى يشنها الآخرون علينا،وعرض بضاعتنا النفيسة على الكافة .. ويكفى تخصيص جزء يسير من الميزانيات الضخمة لوزارات الإعلام في الدول العربية والإسلامية لتحقيق هذا الغرض النبيل،بدلاً من الدعاية ذات التوجهات الإقليمية لكل دولة على حدة !!!
• وكذلك دعم المساجد والمراكز الإسلامية والثقافية في الخارج وإنشاء المزيد منها، وإنشاء معاهد ومراكز أبحاث إسلامية، وإمدادها بكل الإمكانيات اللازمة لأداء رسالتها العظيمة في التعارف مع الآخرين والتواصل معهم،وتصحيح ما لديهم من مفاهيم خاطئة عن الإسلام والمسلمين،وذلك بإمدادها بكل الكتب المترجمة والمواد السمعية والبصرية التى تشرح الإسلام شرحًا صحيحًا، وبالسبل التى تتلاءم مع أنماط تفكير الأخرين .. ومن الضرورى بالطبع إعداد العاملين بتلك المراكز وتدربيهم على كيفية التحاور والتعامل مع الناس في البلاد التى يعملون بها .. وكما أشار مسئول فرنسى ذات مرة،فإنه ليس من المعقول أن يعمل أئمة مساجد ووعاظ مسلمون في فرنسا وهم لا يعرفون من الفرنسية كلمة واحدة،فضلاً عن جهلهم التام بالبيئة هناك وعادات وتقاليد الفرنسيين !! وما ذكره المسئول الفرنسى ينطبق أيضًا على كثير من الدعاة والأئمة في بلدان أجنبية أخرى .. إنه لا مفر أمام من يريد العمل في حقل الدعوة بالخارج من إتقان لغة البلد الذى سيعمل به، والإلمام بكل المعلومات الضرورية عن المجتمع الذى سيعيش فيه ويدعو أبناءه إلى الإسلام .. ومرة أخرى نشير إلى التفاوت الهائل بين إمكانيات المراكز الإسلامية والثقافية في الخارج - وهى ضئيلة جدًا - وإمكانيات مراكز وبعثات التنصير مثلاً التى يرصدون لها أرقاماً فلكية - عشرات المليارات من الدولارات سنويًا - وبطبيعة الحال فإننا نظلم العاملين بهذه المراكز الإسلامية إن طالبناهم بمجاراة الآخرين في ظل هذه الظروف، فالمعركة نظريًا غير متكافئة .. ومع ذلك فإنه بفضل الله وحده،ينتشر الإسلام بقوة دفع ذاتية عظيمة .. ويعجز المنصرون عن تحقيق معشار ما يحققه الإسلام من انتشار عظيم رغم كل ما ينفقون من أموال هائلة .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف:21 .
• وكذلك ينبغى تفعيل دور الملحقيات الثقافية والدينية في سفارات الدول العربية والإسلامية بالخارج، وجعلها حلقة تواصل وحوار مع الناس في الدول التى توجد بها هذه السفارات .. إذ إنه ليس من المعقول أن تنفق عشرات بل مئات الملايين على هذه الملحقيات سنويًا بغير عمل يُذكر-اللهم إلا إصدار نشرات دعائية للحكومات والمشاركة في استقبال ووداع كبار المسئولين القادمين لزيارة تلك البلدان في المطارات وإقامة حفلات التكريم لهم - إننا نطالب بتجاوز الشئون الإقليمية المحلية لكل بلد على حدة، فالتحديات القائمة والحملات المسعورة موجهة ضد الجميع،ومن البديهى أن يكون الدفاع ضدها مشتركًا، والتخطيط والتنسيق والتوجيه موحدًا أيضًا .. وليتنا ندع صراعاتنا وانقساماتنا ومشاكلنا الداخلية جانبًا لنتحاور مع الآخرين كجبهة موحدة تعمل فقط من أجل الإسلام ..
• إن الآخر لن يحترمنا ولن يقيم لنا وزنًا إن تعاملنا معه فرادى - مفككين ومتطاحنين - وكما سأل أحد خصوم الإسلام كاتب هذه السطور ذات مرة - في حوار عبر الإنترنت - : أى إسلام تريدون منا أن نتبعه،أهو الوهابية السعودية أم الشيعية الخومينية أم الصوفية أم .... إلخ ؟!!! بطبيعة الحال كان الجواب هو: أن الله واحد، والإسلام واحد، والقرآن الكريم كتاب واحد،والكل مسلمون على إختلاف المذاهب والبلدان والحكومات ..والإسلام العظيم حجة على الجميع ولا أحد حجة على الإسلام .. فالمنهج كامل شامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،ولكن أخطاء البشر هى التى تسبب هذه المشاكل والصراعات والإنقسامات، وليس من المنطقى أن يتحمل الإسلام - عقيدة وشريعة - المسئولية عن أية انحرافات أو أخطاء بشرية ناجمة عن الخروج على أحكامه .. انتهت الإجابة .. لكن يبدو لى أيضًا أننا بحاجة إلى حوار داخل البيت الإسلامى أولاً قبل أن نخرج للتحاور مع الآخرين .. أليس كذلك ؟!!
• وهناك الدور الهام الذى يمكن للمبعوثين للدارسة بالخارج والقادمين من الخارج للدارسة بجامعاتنا القيام به لدعم الحوار والتفاهم والتبادل الحضارى بين الجانبين .(3/29)
• بهذا الصدد نطالب بزيادة المنح الدراسية لغير المسلمين للدراسة بالجامعات الإسلامية في بلادنا لمنحهم الفرصة كاملة للإطلاع على حضارتنا وديننا وتعلم لغتنا،فبذلك نكسب أنصارًا جددًا لنا هناك .. إذ أن هؤلاء سوف يتأثرون قطعًا بما درسوه، وبمعايشتهم للمسلمين هنا، وسوف يتحول أغلبهم - حتى ولو لم يعتنقوا الإسلام - إلى محامين بارعين يتصدون للحملات المعادية لنا في بلادهم، ويتعاملون مع خصومنا بذات أساليبهم - باعتبارهم جزءًا من المجتمع - فهم أقدر منا وأكثر خبرة في التصدى لهؤلاء،وإجهاض مخططاتهم ضد ديننا وحضارتنا ..
• كذلك يتعين الإعداد الجيد للمبعوثين العرب والمسلمين إلى الخارج قبل سفرهم - حتى ذوو التخصصات العلمية البحتة ينبغى تزويدهم بجرعات كافية من الثقافة الإسلامية - ليتمكنوا من التحاور مع الآخرين والتواصل معهم عن علم ودراية، وأيضًا لنحميهم من الذوبان في المؤثرات الثقافية والحضارية المغايرة لثقافتنا وحضارتنا ..
ومن المؤلم جدًا أن كثيرًا من أبنائنا المبعوثين للخارج رغم تفوقهم في تخصصاتهم - كالطب والهندسة والكيمياء - فإن الحصيلة الثقافية الإسلامية لديهم متواضعة للغاية،ولهذا يعجزون عن التحاور مع الآخرين،ولا يحسنون تقديم إجابات صحيحة عن الإسئلة المحرجة التى يوجهها إليهم الجيران الأجانب في المسكن أو الزملاء في الجامعة عن الإسلام والمسلمين !!! والأكثر إيلامًا أن بعضهم لا يلتزم في حياته وسلوكياته بما ينبغى أن يكون عليه المسلم ليجد الآخرون فيه القدوة والمثال الطيب للمسلم !!!
وليت هؤلاء يتذكرون إن أسلافهم العظام - من التجار المسلمين وغيرهم -نشروا الإسلام في معظم أنحاء آسيا وأفريقيا بالقدوة الحسنة فقط لا غير، إذ كانوا قرآناً يمشى على الأرض فأحب الآخرون دينهم وأقبلوا عليه ..
• ومن السبل الجيدة للتحاور والتواصل مع الأخرين إقامة المؤتمرات والندوات الإسلامية الدولية .. على ألا يقتصر الحضور والمشاركة فيها على كبار المفكرين والعلماء من المسلمين وحدهم .. فيجب لكى تتحقق الأهداف المرجوة منها أن يُدعى إليها الكُتاب والمفكرون والإعلاميون المنصفون من غير المسلمين - وعددهم ليس بالقليل - وكذلك مشاهير الغرب من علماء ومفكرين ونجوم في شتى المجالات ممن اعتنقوا الإسلام،فهؤلاء يشكلون واحدة من أهم وسائط الحوار والتواصل مع مجتمعاتهم،وتأثيرهم هناك أفضل بكثير من غيرهم،لأنهم أدرى بمجتمعاتهم ومواطنيهم،وأقدر على التفاهم معهم بذات السبل والأساليب والمناهج الفكرية والإعلامية السائدة هناك .. وعلى سبيل المثال فإن الشعب الفرنسى يعلم جيدًا من هو الدكتور رجاء جارودى - الفيلسوف الذى أسلم وتحول إلى مفكر إسلامى بارز - والملايين هناك يقرأون كتبه ومقالاته ويتأثرون بها - والفرنسيون يعلمون أيضًا من هو الدكتور موريس بوكاى - العالم والطبيب والجراح الفرنسى الشهير الذى تحول للإسلام بعد دراسة عميقة - وقراء كتبه بالملايين .. إذن تأثير مثل هذين في فرنسا يبلغ أضعاف تأثير فريق كامل من الدعاة العرب . ولهذا تجب الاستعانة بأمثال هذين العملاقين وكذلك بالمنصفين من مفكرى الغرب غير المسلمين،فتأثيرهم هائل لأن ما يقولونه هو شهادة نجوم من الغرب وليسوا عربًا ولا مسلمين، وهى أقوى نفوذًا وتأثيرًا هناك بالقطع ..
نشير أيضًا إلى المطرب العالمى كات ستيفن الذى اعتنق الإسلام وتحول إلى داعية إسلامى كبير في بريطانيا، وأسس دارًا للتعليم والدعوة في لندن، وقد اعتنق الإسلام على يديه مئات من الأوروبيين .. وكذلك الدكتور مراد هوفمان المفكر والسفير الألمانى الشهير الذى إعتنق الإسلام و كتب العديد من المؤلفات القيمة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين .
• نرى أيضًا ضرورة إنشاء هيئة عالمية للحوار مع غير المسلمين وفى اعتقادنا أنه لابد أن تتمتع هذه الهيئة بالاستقلال عن جميع الحكومات والتيارات والجماعات السياسية كى نضمن لها الحرية والحياد المناسبين لأداء دورها المهم فى إدارة الحوار مع الآخر والتعريف بالإسلام والحضارة الإسلامية وتحقيق وظيفة التبادل الحضارى مع الآخرين بدون أية مؤثرات سياسية أو إقليمية أو أيديولوجية من أية جهة .. ويمكن أن تكون إحدى العواصم الأوروبية الكبرى مقرًا لهذه الهيئة ، وينبغى أن تضم فى عضويتها عددًا كافيًا من العلماء المؤهلين جيدًا وخبراء فى التحاور مع الشعوب الأخرى بلغات مختلفة ، وتستخدم فى أعمالها كافة وسائل الإعلام والتواصل بكل تقنيات العصر الحديث .
• إنشاء عدد من الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية فى كل العواصم الكبرى بالخارج لتدريس العلوم الإسلامية لأبناء الجاليات الإسلامية هناك ، وأيضًا لتعريف الآخرين بالثقافة الإسلامية وتدريس مفاهيم الإسلام الصحيح لهم.. وكذلك دعم أقسام الدراسات الإسلامية واللغة العربية وإنشاء المزيد منها بشتى الجامعات العالمية الكبرى ، بشرط مهم هو تنقية مناهج الدراسة بتلك الأقسام من كل المعلومات الخاطئة المضللة عن الإسلام ، وأن يكون الإشراف عليها لعلماء مسلمين يكون لهم حق إلغاء أية مواد أو معلومات لا تتفق والمفاهيم الإسلامية الصحيحة .
• دعم المنصفين من المفكرين والإعلاميين والساسة الغربيين المناصرين للإسلام والمسلمين ماديًا وأدبيًا من خلال بند (المؤلفة قلوبهم) فى مصارف الزكاة، فنحن نرى أن هؤلاء المنصفين للإسلام وأهله تنطبق عليهم شروط استحقاق الأخذ من الزكاة تحت هذا البند ، لما لهم من دور عظيم وضرورى فى مواجهة الحملات المسعورة ضد الإسلام والمسلمين . ولمن شاء أن يرجع إلى كتب السيرة العطرة ، ليجد أن النبى صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً من قريش من غنائم غزوة حنين أموالاً طائلة ليؤلف قلوبهم ، وترك الأنصار ثقة فى قوة إيمانهم وسماحة نفوسهم (سيرة ابن هشام - فقه السيرة للغزالى - الرحيق المختوم للمباركفورى) .
ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد ..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
===============
الفيدرالية .. الخطر القادم !
نعم.. نعم للإسلام لا أميركا ولا صدام
[ في ظل رائحة التقسيم والتفتيت التي فاحت من كل مكان يصبح حديث المسئولين والإعلاميين العراقيين عن أهمية الفيدرالية ومحاسنها استخفاف بالعقل والدين والوطن ]
بقلم: عبد الله الرشيد
1426هـ - 2005م
بسم الله الرحمن الرحيم
? إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ?
مقدمة
الحمد لله حمداً يبلغ رضاه ، وصلى الله على أشرف من اجتباه وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وسلم تسليماً لا يدرك منتهاه ، وبعد ..
فقد دفع اليَّ أحد مشايخنا الفضلاء كراساً بعنوان : " تصورات عن الفدرالية في العراق .. الاسباب والمنطلق " للسيد واثب العامود ( وهو على ما يبدو من أهالي محافظة البصرة ) فقرأته قراءة سريعة ، فلما وصلت الى ( النظريات المحتملة في شكل النظام الفيدرالي في العراق وخصائص كلٍ منها ص 13 ) تعجبت من طرح الرجل وأفكاره وتصوراته حول بلده الذي غاب عنه دهراً !
فالرجل يؤسس لفيدرالية تفتيتية قائمة على تبريرات طائفية ( وقد قمنا بالرد عليه في ص 32 وما بعدها ) ، فهو يستعمل لغة طائفية متشنجة يكرهها العراقيون ، انظر إليه وهو يقول في ( ص4) : " وقد عانى أبناء المناطق الجنوبية ما عانى من التفريق الطائفي حيث أصبح مواطن المنطقة الجنوبية ( البصرة - العمارة - الناصرية ) من أفقر المواطنين " .
وكأن ابناء الحلة أو ديالى أو الانبار من أغنى الأغنياء ؟!(3/30)
ثم يواصل فيقول ( ص5 ) : " فكانت جميع الوظائف تقوم على اساس طائفي مغاير لمعتقدات الأغلبية الا الوظائف الخدمية والمدنية " ثم يربط بشكل ظالم بين أهل السنة والنظام البعثي السابق فيقول في نفس الصفحة : " وما ان نجحت ما تسمى بثورة 14 تموز بقيادة عبد الكريم قاسم وحل الأمل في نفوس الناس بالتحرر من قسوة الحكم الطائفي السني في الجنوب " .. الى قوله : " وكان صدام ونظامه بكل أطرافه نظاماً طائفياً صريحاً حاقداً ومستأصلاً للجذور " !
وهي لهجة تصعيدية طائفية في وقت يدعو فيه العقلاء الى التهدئة والنأي بالخطاب الوطني عن المفردات العنصرية والطائفية ، ثم اننا نسأل الأخ العامود عن مراده ( بكل أطرافه ) ونقول له : هل أنت واثق من هذا العموم ؟ لاسيما وان صاحبنا يكثر من استعمال ألفاظ العموم ( جميع .. ) و ( كل .. ) !
وعندما تحدث عن سياسة توزيع الثروة في زمن النظام البائد قال كما في ( ص6 ) بأن الحكومة السابقة كانت " توزع الثروات على أسس طائفية أو عنصرية أو جغرافية .. " وهي عبارة مطاطة لأنها مشتملة على ( أو .. أو .. أو ) وبهذا فكل الاحتمالات مفتوحة !
وبما أن الحقيقة هي غير ما ذكر وبالغ فيه كثيراً ، وكأن إقناع الجماهير الشيعية بالفيدرالية لا يمكن أن يتم إلا على جسر من المبالغات في الحديث عن طائفية النظام السني السابق على حد تعبيره!
فتهييج المشاعر الطائفية من خلال التركيز على ( عقدة الماضي ) أصل عند القوم على ما يبدو .
ولأن الحقيقة لا بد أن تظهر أبى الله إلا أن تظهر على لسانه هو وبعد أسطر مما سبق ، فها هو يشير الى ظلم الشيعة الذين في السلطة لإخوانهم فيقول ( ص6 ) : " فكان الشيعي أشد قسوة على الشيعي " وقال ( ص5 ) : " .. فلم يكتب التاريخ تعيين أي محافظ أو مدير شرطة ومدراء الدوائر الآخرين من نفس أبناء المحافظة نفسها وقد يكون قدير ( كذا ) على اضطهاد أبناء تلك المحافظة ولو كان ينتمي لهم طائفياً " !
وقال عن طبيعة النظام السابق ( ص9 ) : " .. من خلال عائلة وجماعة حاكمة " وهذا عين الصواب ، فالنظام السابق شئ وأهل السنة شئ آخر ، وقال مؤكداً هذه الحقيقة ومتناقضاً مع نفسه ( ص9 أيضاً ) : " وإنما طغت الاعتبارات الشخصية والقرابية والحزبية " وقال في ( ص11 ) : " بحيث أصبحت ممارسة السلطة خاضعة لقيود ذاتية وشخصية وليست خاضعة للدستور والقوانين " أ.هـ ، لا الطائفية كما زعم قبل ذلك .أقول : لما وقع الرجل في مغالطات مكشوفة في موضوعة الفيدرالية وطائفية النظام البعثي العفلقي السابق ، كان لزاماً علينا أن نرد هذه التقولات وهاتيك التصورات ، لا سيما وأن هناك جمعاً من المفكرين والحزبيين والإعلاميين من يروج لفيدرالية الجنوب ويدعو اليها بحماسة مفرطة ، فالواجب الشرعي والوطني يقتضي بيان الأمر على جليّته ليحيى من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة .
وقد جعلت البحث في مقدمة ومطلبين وخاتمة :
تحدثت في المقدمة عن الأسباب والدواعي لكتابة هذا البحث .
والمطلب الأول : خصصته لبيان أن النظام السابق لم يكن نظاماً سنياً طائفياً .
والمطلب الثاني : جعلته لب البحث وشامته وفيه ناقشت ( المشروع الفيدرالي المقترح للعراق والمدون في مواد مسودة الدستور ) نقاشاً مستفيضاً نقلت فيه أقوال أهل الاختصاص مع تعليقات يسيرة تعرفها في مواضعها .
وأما الخاتمة - رزقنا الله حسنها - فقد ذكرت فيها الحل للخروج من هذا المأزق الخطير .
والله أسأل أن يفتح به مغاليق القلوب والابصار ، وأن ينفع به كاتبه وقارئه وطابعه وناشره انه ولي ذلك والقادر عليه .
المطلب الأول : صدام وأهل السنة ( هل كان النظام السابق نظاماً طائفياً ؟ )
إن بعض وسائل الإعلام " ومنها قناة العراقية " و " الفيحاء " و "الأنوار" و" الفرات " وبعض الناس في مجلس الحكم الانتقالي سابقاً والجمعية العمومية لاحقاَ والسيد واثب العامود حالياً ( وهو عضو مجلس محافظة ) كانوا قد أثاروا قضية الطائفية، و أرادوا أن يربطوا بين النظام السابق والمذهب السني ، وزعموا انه كان نظاما طائفيا بغيضا بل ومتعصبا باتجاه الشيعة ولأسباب مذهبية وهذه المغالطة قد سمعناها تتكرر على الألسنة مراراً في وسائل الإعلام - ووردت بعض الإشارات لها في مشاريع مسودة الدستور !!- فلزم البيان والإيضاح لإظهار الحقيقة في هذه القضية المهمة وان كنا نكره الخوض في مثل هذه الأمور فنقول : إن النظام البعثي السابق لم يكن نظاماً إسلاميا وبالتالي لم يكن نظاما سنيا لان التسنن فرع عن الإسلام ، ويتبين هذا من وجوه :
( الوجه الأول) إن حزب البعث العربي الاشتراكي حزب علماني معروف ، والعلمانية لاتقوم على أساس ديني أبدا ، ومؤسس البعث رجل علماني منحدر من أصول مسيحية مستنبت في التربة السورية وهو " ميشيل عفلق " ، كما أن عامة مفكري حزب البعث ليسوا من المسلمين كشبلي العيسمي والياس فرح ونحوهما . ومن ثم فان الأيدلوجية السياسية المتبعة في الحكم لحزب البعث تقوم على أساس الفصل بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة .
( الوجه الثاني ) لم يفرق النظام السابق في تعامله مع الآخرين بين السنة والشيعة ، فقد وقع الاضطهاد والظلم على الفريقين سواء بسواء ، فقد اعدم النظام البعثي الكافر عددا من رجالات أهل السنة ودعاتهم ومنهم الشيخ عبد العزيز البدري والأستاذ ربيع كمونة ورفاقه ، والشيخ محمود العزاوي ، والأخ فايز البغدادي ، والشيخ تلعة الجنابي وغيرهم ..
أما الإعدامات التي نفذت بحق الضباط من أهل السنة فحدث عنها ولا حرج ، وعامتها لأسباب أمنية وسياسية .
أما الاعتقالات والإيداع في السجون لأسباب أمنية فأمر عجيب وهو اشهر من أن يذكر ، فاعتقال الإخوان والسلفيين كان مفتوحا على طول الخط ، ولم يتورع النظام السابق عن تعذيبهم وإرهابهم بشتى أنواع التعذيب التي كانت متبعة في سجون الأمن العامة والمخابرات العامة مما يعرفه جميع العراقيين ، وهذا مثبت بالمستندات والأوراق الرسمية وشهادة الشهود ، وكثير من الناس مات تحت وطأة التعذيب ، فكيف يقال بعد ذلك بان النظام البعثي الصدامي السابق كان طائفيا أو سنيا ؟!
وفي هذا الصدد يقول الدكتور سلمان الظفيري : " بعد مجيء البعثيين عملوا على مصادرة الحريات، فقلَّ النشاط الإسلامي السني، ولا سيما بعد إغلاق كلية الدراسات الإسلامية عام 1975م وإلغاء الحلقات العلمية كحلقة الشيخ عبد الكريم المدرس في مسجد القادرية، وكذلك إلغاء المدرسة الآصفية في بغداد، وإلغاء منصب المفتي عام 1976م وهي سنة وفاة أخر مفتي للعراق، وإلغاء كلية الإمام الأعظم وتأسيس كلية شرعية مختلطة ومسيسة، وكانوا قد أجبروا الأستاذ الشيخ عبد الكريم زيدان على وقف نشاط الإخوان المسلمين في العراق وحل التنظيم " .
[ اليقظة السنية المعاصرة في العراق ( ص 2) ] .
( الوجه الثالث ) كما انه لم يميز بين السنة والشيعة فيما يتعلق بالامتيازات والمكاسب الوطنية أو المصلحية فمن كان بعثياً موالياً لصدام حصل على شيء من المكاسب من أي دين كان ومن أي طائفة كان ، ومن لم يكن بعثياً موالياً لصدام حرم من كل ذلك وضيق عليه في معيشته وعمله .
وما وقع على الإسلاميين من أهل السنة في زمن النظام البائد من " التهميش المعيشي والاقتصادي " حقيقة ثابتة لا يماري فيها إلا جاهل مغرض !!
فقد اتبع النظام معهم " سياسة التضييق والتجويع والحرمان " ولم يسلم من ذلك إلا من كان موسراً بالوراثة أو ناشطاً في التجارة أو ممن قدم شيئاً من التنازلات !!(3/31)
والخلاصة : إن صداماً ( وهو راس النظام السابق وقائده ) لم يكن مسلماً متمذهباً ولا سنياً ولا طائفياً بحالٍ من الأحوال، وانما هو من أصول سنية ـ على التسليم بان أصوله كذلك ـ وإلا فان هناك من يشكك بإسلامية أصوله أو عربيتها !!
وما وقع على السنة من الظلم هو شبيه بما وقع على الشيعة منه وإلا فان الشيعة قد ظلموا اكثر من غيرهم ، وهناك طائفة ثالثة قد ظلمت اكثر من الشيعة " وهم الأكراد " وهم من أهل السنة عموما ..
ونحن لا ننكر وقوع بعض " الحلقات الطائفية " أو " الانحياز المذهبي" من قبل بعض المسؤولين في الدولة أو في بعض الممارسات لاسباب معقدة ومتداخلة تارة لمصلحة أهل السنة وتارة لمصلحة الشيعة بحسب مناطق النفوذ المذهبي في الوسط والجنوب ( وهذا في الظاهر لبعض المتوهمين وإلا فان اللاعب الوحيد والمستفيد الأوحد هو نفس النظام ) ، إلا أن هذا لا يبرر مطلقا وصف النظام بالطائفية أو انه كان يعتمد الأسلوب الطائفي في الحكم !
والحق انه ما من دين أو عرق أو طائفة أو مذهب أو فكر أو جامع أو حسينية أو كنيسة أو شجر أو ماء في العراق إلا وامتهن واهدرت كرامته أو قيمته !!
* اعتراضات والرد عليها :
فان قيل :
1. انه كان يحظى بتأييد علماء أهل السنة .
2. إن المقاومة الحالية للاحتلال محصورة بالمثلث السني مما يشعرك بولائهم للنظام السابق
3. منع الشيعة من ممارسة شعائرهم وطقوسهم المذهبية الخاصة دليل على طائفية النظام .
4. إن هيكل النظام الأساسي كان من أبناء السنة ولم يكن من أبناء الشيعة !
5. قمع الانتفاضة الشيعية في الجنوب عام 1991م بوحشية ودموية دليل على ذلك أيضا .
والجواب عن هذه الإشكاليات وباختصار شديد :
فأما (1) فيجاب عنه بالنفي فالمؤسسة السنية – في الجملة - كانت تعارض النظام إلا أنها أدركت عجزها عن الإطاحة به إذ لا سبيل إلى ذلك إلا بإفناء المسلمين وتمزيق البلد ، وهذا لا ينفي وقوف بعض المتمشيخين إلى جانبه وولائهم لصدام إما لمصلحة دنيوية عاجلة وإما لاعتقادهم عدم كفره ، وانه أولى من مجيء الأجنبي إلى البلاد كما هو حاصل اليوم وهذا كان رأيا لبعض علماء الشيعة أيضا وهم معروفون فلا موجب للتسمية وهذه في جملتها " حالات فردية " لا تمثل التوجه العام لدى أهل السنة ولا الشيعة حتى !
وأما (2) فيمكن القول بان المقاومة الحالية – باستبعاد الجماعات التي تفجر في أوساط المدنيين - هي " مقاومة إسلامية جهادية وطنية " منطلقها الجهاد في سبيل الله تعالى وهدفها طرد الاحتلال وهي لا تمت إلى النظام السابق بصلة ، وهي لا تهدف إلى إعادته إلى السلطة لأنها كانت قد اكتوت بناره في السابق ، ولأنها كانت تكفره ولا تعترف بشرعيته وهذا يظهر من مواقعهم على الانترنيت ومن بياناتهم ، واكبر دليل على هذا أنها لم تقف إلى جانب النظام خلال الحرب عليه لبغضها له ولعدم إمكان اللقاء معه ، هذا هو الإطار العام للموضوع ، أما إمكانية وجود بعض الأفراد ممن يوالى النظام ويدافع عنه فأمر وارد ضمن التصور الجزئي إلا أنهم لا يشكلون وزناَ ثقيلاً في المقاومة الحالية .
أما (3) فيجاب عنه بعدم خصوصية الشيعة ، فقد دأب النظام المخلوع على طمس معالم الهوية الإسلامية لأهل السنة فمنعهم ـ وغيرهم ـ من التمثيل السياسي وتشكيل الأحزاب والجمعيات العلمية والخيرية ، ومنعهم من ممارسة كثير من شعائرهم الدينية ( وما محاربة اللحى والثوب القصير إلا حلقة في هذا المسلسل ) ، وحال بينهم وبين الاتصال ببقية المؤسسات السنية في العالم الإسلامي وفرض عليهم عزلة مذهبية رهيبة ـ لاسيما بعد الأزمة السياسية التي خلفتها حرب الخليج عام 1991م ـ الأمر الذي لم يصب الشيعة بمثله خلال تلك الفترة لا سيما بعد ضعف النظام وانكشاف الحدود مع إيران وانفتاحه عليها اقتصاديا وسياسيا إلى حد ما !!
وكان النظام يحارب بشكل محموم الناشطين من الدعاة إلى الله ، ويحارب الذين يدعون إلى الإصلاح والى تحكيم الشريعة الإسلامية ويتهمهم بـ : " تسييس الدين " و " التكفيرية " وهذا أمر يعرفه الممارس !
فهذه النقطة دليل على انغلاقية النظام ومدى حنقه على الإسلام وأهله لاسيما الدعاة من أهل السنة وليست دليلا على طائفيته كما يزعم البعض !
وأما (4) فيمكن القول بان هؤلاء وان كان بعضهم قد انحدر من أصول سنية ومن عائلات سنية ضعيفة التدين غالباً إلا انهم بصعودهم إلى المراكز العليا في النظام والحزب قد فقدوا انتماءهم القديم وصاروا " صداميين " إلى النخاع والبحث في كفرهم كان يشغل بال العاملين من أهل السنة ، وعامة أولئك البعثيين لا يقيمون وزنا للشريعة الإسلامية فضلا عن المذهب أو الطائفة ، فرئيسهم المعظم ومعبود هم الأكبر هو " صدام " أو قل إن شئت " المصلحة الشخصية " !!
ثم إن النظام كان يعتمد عليهم لعصبتهم القبلية القوية ، ولم يكن يخصهم بالتقريب فقرب إليه الشيعة واليزيدية والصابئة والنصارى _ ولو وجد اليهود لقربهم إليه ! _ فالمعيار عنده " الولاء لشخص الرئيس " لا غير .
ثم إن " الكادر الحزبي المتقدم " و" القاعدة الشعبية من الذيول " وهي أدوات أساسية للنظام الهيكلي للحزب ، وظهر قوي يعتمد عليه النظام في الميدان وفي الأزمات لرفع التقارير ورسم الموقف وللبطش والتنكيل بالمعارضين خصوصا في مناطق الجنوب إنما هي في اغلبها من " أبناء الشيعة " وهذا لوحده كفيل بإسقاط الشبهة من أساسها ، فأي طائفية هذه التي يتحدث عنها القوم ؟!
ثم إن القرآن الكريم لم يفرق بين الرئيس والوزير والجنود في اصل المؤاخذة فالكل في الوزر سواء وفي الحكم مشتركون قال تعالى : (ً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)[القصص: من الآية8].
وأما (5) فيجاب عن ذلك بان ما فعله بالأكراد ـ وهم من أهل السنة في العموم ـ أبشع و اشد وحشية وهمجية ، فهناك اكثر من ( 250 ) قرية كردية قد أبيدت تماما وقصف أهلها من الشيوخ والنساء والأطفال بقنابل ( النابالم ) وبعضها بالغازات الكيماوية السامة ، وهذه قضية إسلامية سنية إنسانية ولا تخص الأكراد وحدهم ، فهل يعقل بعد هذا بان يقال إن : ( علي كيماوي وقصي وطه الجزراوي وأياد فتيح الراوي وسلطان هاشم وعبد حمود وسواهم من المجرمين ) كانوا من أهل السنة ومن قادة أهل السنة ؟!!
سبحانك هذا بهتان عظيم .
وأخيرا فان العقلاء توحدهم الجراح والمصائب لا أن تكون موجبا لمزيد من الفرقة والاختلاف والتدابر ، وإيذاء " صدام المجرم " حجاج هذا الزمان للسنة والشيعة في القديم ينبغي أن يوحدهم في الجديد .
المطلب الثاني : مناقشات في الفيدرالية
يصول اليوم في الساحة السياسية اشكال من الفرسان وكما يقول المثل ( كل واحد راضي بعقله ) ومنهم من ينظر للفدرالية وكأنه يخطط لقطعة ارض، لا مصير دولة وشعب فتجد بين الفرسان الانتهازي الوصولي المشغول بإرضاء عجبه وانانيته ومكاسبه الدنيوية، فتراه يطل علينا من تلفاز النظام السابق المرتبط بالحزب يصرف علينا من الكلام ما لايغني ولا يسمن، واليوم ينظّر بما يناسب المقام والمصلحة، وهؤلاء أفرد لهم الامام ابو حامد الغزالي فصلاً في الاحياء ولاجدوى في خطابهم. وترى في الساحة فريقاً اكاديمياً مؤمناً بما قرأه في الكتب عن الفيدرالية واللامركزية الادارية قاصراً النظر عن النتائج والعواقب على ارض الواقع العراقي، وفريقاً يجد في الفيدرالية تحقيقاً لمصلحة متوهمة .(3/32)
النظام السابق حرم طوائف الشعب من ممارسة العمل السياسي طيلة خمسة وثلاثين عاماً خلت ولذلك تجد الكثير منهم لايملك شيئاً من المعرفة والدراية والحنكة والتجربة وبعد النظر للمناورة السياسية وتحديد المواقف.
[ عزيزي الفدرالي تمهل ، موقع جريدة البصائر/ قسم المقالات (ص1 ) بتصرف ].
* مفهوم الفيدرالية
تبدو الفيدرالية اليوم من القضايا الأكثر إثارة للجدل في الواقع العراقي إذ أن قليلاً من العراقيين يملكون فكرة واضحة عن ما تعنيه الفيدرالية، ويرى المختصون إن إشكالية فهم الفيدرالية لدى المواطن العراقي باتت تشكل تحديا خطيرا إذ كيف سيقرر العراقيون مستقبل بلادهم من خلال صناديق الاقتراع اذا كانوا لايدركون الفيدرالية كمفهوم ؟!
ومع هذا ذهب آلاف من الناس وصوتوا ( بنعم ) على مشروع الفيدرالية الذي تضمنه الدستور وهم بعد لم يدركوا خطورة الأمر ، ولم يعرفوا الفيدرالية من أصلها !!
ومن اجل إيضاح الفكرة هنا لابد لنا من إدراك الفيدرالية كمفهوم يقوم على أساس انه نظام سياسي عالمي يوجد فيه مستويان حكوميان يحكمان نفس المنطقة الجغرافية ونفس السكان، واصل الكلمة قادم من كلمة لاتينية (فيدير) وتعني الثقة.
ليست "الفيدرالية" بكلمة عربية ومن أصل اللغة، وإنما كلمة دخلت قاموس هذه اللغة وغيرها (الكردية والتركمانية والسريانية..الخ) في العراق، ، في فترات مختلفة، وأصبح يجري تداولها بعد انتفاضة آذار 1991 .
وهي تترجم عادةً بكلمة "الإتحاد" كأقرب عبارة لها ،وهي في الحقيقة ، تعني شكلاً محدداً من أشكال الإتحاد.
وتقوم الدولة الفيدرالية على أساس وجود حكومتين حكومة مركزية وحكومات موجودة في وحدات سياسية صغيرة تدعى بالأقاليم اوالولايات أو المناطق ،وهذه الوحدات الصغيرة تعطي بعض قوتها السياسية للحكومة المركزية لكي تعمل من اجل المواطن . وفي ظل هذا النوع من النظام تقع على الحكومة المركزية مسؤولية البت بالأمور التي تتعلق بالدولة مثل الإشراف على الجيش وعقد المعاهدات ... الخ من الأمور التي تمس سيادة الدولة، وبمعنى آخر تعني توزيع صلاحيات الدولة أفقياً أي جغرافيا بين الاتحاد المؤلفة منها او عموديا بين السلطة الفيدرالية وهي أعلاها وسلطات الأقاليم الاتحادية وبهذا تؤسس الدولة بطرقتين إما عن طريق اتحاد مناطق مختلفة لم تكن تشكل دولة واحدة وبقرار جماعي منها لكي تشكل دولة لامركزية أي دولة فيدرالية للاستجابة الفعلية إلى الواقع القومي او الجغرافي والاقتصادي والتاريخي.
أما الكونفدرالية فهي نظام تتحد فيه دولتين او أكثر وفقا لمعاهدة يتم بموجبها تشكيل هيئات مشتركة في شتى المجالات لتوحيد سياسة الدول الأعضاء مع احتفاظ كل دولة بشخصيتها الدولية .
[ الفيدرالية في العراق وإشكالية الفهم الغامض ، سهيله عبد الانيس (ص 1-2 ) بتصرف ].
فالفيدرالية نظام سياسي يفترض تنازل عدد من الدول أو القوميات،الصغيرة في أغلب الأحيان،عن بعض صلاحياتها وامتيازاتها واستقلاليتها لمصلحة سلطة عليا موحدة تمثلها على الساحة الدولية وتكون مرجعها الأخير في كل ما يتعلق بالسيادة والأمن القومي والدفاع والسياسة الخارجية .
والفيدرالية السمة الأساسية في الأنظمة الحديثة التي تعمل على حل مشكلاتها القانونية والتنظيمية والسياسية التي تعقد بفعل التبادل الاجتماعي والعلاقات الدولية. فهي على الصعيد الداخلي تسعى لتنظيم أمور الدولة الداخلية، بهدف تسيير العمل والوظائف وتوزيعها مابين السلطات المركزية والسلطات المحلية، بحيث تحترم السلطة الفيدرالية
المصالح الخاصة للقوى المؤلفة للدولة الأم، ومقابل تنازلها عن صلاحيات الأمة العامة .
وعلى الصعيد الخارجي تلجأ الدولة الفيدرالية إلى رسم علاقاتها الدولية لصالح مجموع الوحدات والكيانات التي تتكون منها .
فالفيدرالية إذن تتعلق بالنظام السياسي وبالنظام الإداري وبتقسيم صلاحيات السلطة الحاكمة وتنظيم العلاقات فيما بينها ، وتأمين انسجامها لتمنع تغلب طرف على طرف آخر ، فتحصر قرارات الدولة الفيدرالية المركزية بالقمة ، وتترك الأمور المحليّة للسلطات الإقليمية ، والسلطات المحلية بدورها لا تخرج عن نطاق صلاحياتها ، فهي لا تشرع للقضايا التي تتعلق بالدولة المركزية ، رغم أنها تشارك في المؤسسات التي تعالج الأمور القومية ، وتنظم هذه المؤسسات الصلاحيات وتوزعها بشكل يؤمن استقلالية الوحدات المكونة للسلطة الفيدرالية ويضمن لها المشاركة الفعالة في القرارات المركزية والمصيرية
وفي القرن العشرين ارتبطت ظاهرة الفيدرالية بمبادئ الدفاع عن حقوق الأقليات والأثنيات القومية والدينية الصغيرة بالتوجه نحو إضعاف مفهوم الدولة المركزية.
فتكثر الأنظمة الفيدرالية حيث يكثر التنوع القومي والأثني والديني . فهي مطبقة في كل من الولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل والمكسيك وسويسرا والاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وأستراليا والهند واندونيسيا وغيرها من الدول .
وقد اختلف مفهوم الفيدرالية وكيفية تطبيقها من دولة إلى أخرى. وبما إنها مفهوم سياسي يتعلق بالنظام السياسي والسلطة، وبما أن الديمقراطية ، والتمثيل السياسي وتقرير المصير، هي من المقومات الأساسية للفدرالية فإنها بذلك دائماً عرضة لسوء الفهم والتطبيق، ومعيارها الوحيد هو _ ما يسمى _ بالديمقراطية واحترام المصالح والسيادة للدولة والقوميات.
ويكاد مفهوم الفيدرالية يترادف مع قول الفيلسوف (جفرسون) في القرن الثامن عشر" الدولة التي تحكم جيداً هي التي تحكم أقل" فالتجاوب مع الحاجات القومية والإقليمية، هو معيار آخر للفدرالية.
ومن هنا فأن الدول الفيدرالية تكاد تكون النقيض للإمبراطورية التي تتميز بمركزية شديدة وبسيطرة المركز على الأطراف .
والفيدرالية على أنواع ودرجات متفاوتة في الأشكال والصيغ التطبيقية، إذ تتراوح ما بين وحدة مطلقة أو الاتحاد ما بين مجموعات متمايزة تماماً، وتتمتع بحرية كبيرة تكاد تصل حتى الى الانفصال .
ومسيرة تكوّن الفيدرالية نفسها تتبدل من دولة إلى أخرى ، فبعض الفدراليات، بدأت من وجود مجموعات وقوميات سياسية متفرقة، تعاقدت على تبني سياسة مشتركة، فعقدت فيما بينها وحدة فدرالية لتتخذ قرارات مصيرية مشتركة ، بينما فدرالية أخرى بدأت كدولة مركزية موحّدة تفرقت إلى وحدات وقوميات متميزة ومنفصلة نسبياً سعياً إلى التمتع بحرية في قراراتها واكتفت بإقامة علاقة فدرالية مع مجموعاتها الموحدة.
وغالبية الدول الفيدرالية تعتمد نظام فصل السلطات. والتمثيل الشعبي في الدول الفيدرالية يكون عادة على مستويين يتجسدان في نوعين من المجالس التمثيلية :
مجالس منتخبة مباشرة من الشعب، ومجالس أخرى لها صفات فدرالية موحدة.
المجالس الأولى تعكس المصالح ووجهات النظر المحليّة المختلفة للدول المؤلفة للكيان الفدرالي وللوحدات الإقليمية السياسية وتسهر على القرارات التشريعية للمجلس الثاني (الممثل للسلطة الفيدرالية المركزية) لكي تحمي كياناتها ومواطنيها ضد أية إجراءات فدرالية فوقية أو مضرّة بمصالحها. والأمثلة كثيرة على الدول الفيدرالية في العالم ويمكن الإطلاع على طريقة عملها وتنظيمها بالرجوع إلى النظام السياسي والدستوري فيها .
[الفيدرالية وإمكانية تطبيقها في العراق ، د عبد علي محمد سوادي ( ص 1-7 ) بتصرف/ شبكة النبأ المعلوماتية ] .
* صور الفيدرالية ، ومميزات الدولة الفيدرالية(3/33)
يذكر رجال القانون أن الدول الفيدرالية تكونت إما من اتحاد كيانات مستقلة، أو من كيانات تنفصل من جسد دولة واحدة كبيرة، ثم تعقد العزم على الاتحاد ضمن صيغ قانونية واجتماعية جديدة. وهي كالتالي:
1- اتحاد ولايات متقاربة: تنشأ الدولة الفيدرالية من إتحاد ولايتين أو عدة ولايات متقابلة تشترك شعوبها في ملامح اجتماعية وجغرافية وتاريخية، فتتنازل كل واحدة عن بعض سلطاتها الداخلية، وعن سيادتها الخارجية، ثم تتوحد ثانية لتكون الدولة الفيدرالية على أساس الدستور الفدرالي، مثال الولايات أو الإمارات المتحدة: الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787 والاتحاد السويسري عام 1874 وجمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949 واتحاد الأمارات العربية عام 1971.
2- تفكك دولة كبيرة: تنشأ الدولة الفيدرالية من تفكك دولة كبيرة بسيطة، يعاني سكانها من مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية، كاختلاف اللغة والعادات والثقافات والموارد والثروات، فيعمل شعبها على المطالبة باستقلال تام عن سيطرة الحكومة المركزية، وتقرير مصيرها دون تدخل من الآخرين، ثم تعمل الولايات المفككة على تشكيل دولة واحدة هي الدولة الفيدرالية، وفق نظام إداري فدرالي. مثال الدولة الفيدرالية الناشئة عن تفكك دولة بسيطة هي المكسيك 1857 والأرجنتين 1860 والبرازيل سنة 1891 وتشيكوسلوفاكيا سنة 1969.
تتميز الدولة الفيدرالية عن غيرها من الدول البسيطة بأمرين:
1- الدولة الفيدرالية دولة مركبة: تتصف الدولة الفيدرالية بأنها دولة مركبة من أجزاء متميزة، وهذا التركيب هو الذي يميز الدولة الفيدرالية عن الدولة البسيطة ، حيث تتكون الدولة الفيدرالية من دولتين أو أكثر، أو من إقليمين أو أكثر، يكون لكل منهما نظامه الخاص، واستقلاله الذاتي، مثل أن يكون لكل ولاية أو إقليم دستور خاص، برلمان خاص، حكومة خاصة، وقوانين خاصة، وعسكر خاص، وموارد خاصة، ولغة خاصة بها.
2- الدولة الفيدرالية دولة واحدة: تتصف الدولة الفيدرالية بأنها دولة واحدة، كالدولة البسيطة تماما، من حيث وجود دستور اتحادي واحد، وحكومة اتحادية واحدة، وبرلمان اتحادي واحد، ومحكمة اتحادية واحدة، وجيش اتحادي واحد .
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث (ص 3 ) ] .
* أشكال الفيدرالية
وتأخذ الفيدرالية ثلاثة أشكال للحكم :
اولاً : شكل الارتباط الإداري .
ثانيا: شكل الارتباط السياسي .
ثالثاً : شكل الارتباط السياسي القومي _ العرقي_ الاثني .
ماهية الفروقات بين الحكم الذاتي والفيدرالية :
1. أن شكلي الحكم والفيدرالية يأخذان صيغة وحدة سياسية إدارية إقليمية .
2. يدون قانون الحكم في مواثيق تشريعية خاصة , بينما الفيدرالية يتم تدوينها كحقوق دستورية في دستور الدولة المركزية .
3. كلا شكلي الحكم الذاتي والفيدرالية يتم ممارستهما في أطار وحدة الدولة المركزية.
4. يحدد الدستور صلاحيات الحكومة الفيدرالية المركزية وكل ما تبقى من صلاحيات تمنح لحكومة الإقليم الفيدرالية.
[ الفيدرالية خطوة أولية على طريق الحل السلمي للقضية القومية ، ماجد لفته العبيدي ، موقع بحزاني للحوار ( ص 5 ) ] .
* ضمانات إنجاح الفيدرالية
الفيدرالية ليست لباساً جاهزاً Ready Made يستطيع كل شعب أن يلبسه ويتخذه زياً سياسياً ..
ينبغي أن يتزامن إدخال الأنظمة الفيدرالية مع القيام بإجراءات محددة وقوية المفعول تتخطى "شكلية" إعداد نصوص الدستور والقوانين لتكرّس "واقعا" دستوريا سليما يشمل الحفاظ على حقوق الإنسان وسيادة القانون في الدولة والعدالة والحرية.
لكن هذا يتطلب أيضا رغم عقد الاتفاق على قاعدة الأغلبية ضرورة احترام الأقليات الدينية والعرقية والاجتماعية ومعاملتها بروح التسامح.
[ النظام الفيدرالي في العالم العربي " ،عارف حجاج ( ص5 / موقع قنطرة ) بتصرف ].
خلاصة تطبيق الفيدرالية في أي دولة، يعتمد على التالي:
- ضرورة وجود تعريف مستفيض للنهج الفيدرالي، ليتمكن الغالبية من الشعب من الوصول إلى قناعات ذاتية حول مدى صلاحية إقامة نظام فيدرالي في بلادهم.
- ضرورة عقد المؤتمرات والندوات العامة لتحديد المداليل العملية للنهج الفيدرالي الخاص بتلك الدولة.
- ضرورة وضع الضمانات الدستورية والإجرائية للحفاظ على وحدة الدولة أرضا وشعبا.
- منح الحرية الكاملة لأبناء الأقاليم في تحديد العلاقة الإدارية بين الإقليم والعاصمة بما يحقق الحد الأدنى من الانسجام في إدارة شؤون الأقاليم.
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث (ص 7 ) ].
ومن المهم أيضاً أن لا يكون المشروع الفيدرالي داخلاً ضمن (مؤامرات الهيمنة الأجنبية ) .
سويسرا نموذجاً :
إن 25دولة في العالم وبما يقرب من 45%من سكان العالم تعيش في ظل نظام فيدرالي ولعلنا نأخذ من التأريخ الحديث التجربة السويسرية , حيث كانت البداية الحقيقية في القرن الثالث عشر حين تشكل أول تنظيم إتحادي بين ثلاث محافظات , إنضمت إليها فيما بعد خمس أخري وذلك في عام 1291, وهناك بعض الدراسات تشير إلى أن السويسريين عرفوا ومنذ الألف الميلادي الأول المجالس البرلمانية في جميع المقاطعات السويسرية ,حيث ثمة برلمان لكل كانتون , له السلطة العليا ,وحق إتخاذ قرارات الحرب والسلم.
ومع هذا يجنح الكثير من المؤرخين إلى اعتبار الثاني عشر من شهر أيلول عام 1848البداية الحقيقية للنظام الفيدرالي بعد إتحاد ثلاثة وعشرين كانتونا , اشتركوا في صياغة الدستور الجديد , الذي حدد صلاحيات السلطات الاتحادية ( السياسة الخارجية , الدفاع , الحرات الفردية , العدل , المالية , الاقتصاد العام ) .
والكانتون يتألف من عدة كومونات .
عدد الكومونات في سويسرا ثلاثة آلاف وأثنين وعشرين وعدد السكان لكل كومون يتراوح بين 250 ألف نسمة الى 300 ألف نسمة .
وبفضل الوعي السياسي نجحت التجربة السويسرية وأصبحت مثالا يُحتذى به من قبل بعض الشعوب , ويذكر ( الكاتب علاء اللامي ) ان بلجيكا أوفدت سنة 1988وفدا كبيرا من البرلمانيين ورجال الدولة الى سويسرا ليدرس عن قرب هذه التجربة الفريدة والخصبة ويأخذ مايفيد المجتمع البلجيكي الذي يعاني أصلاً من صراع بين المكونين المجتمعيين له ( قومية الفلامون والفالون) .
اهم المرتكزات لهذه الفيدرالية في النموذج الغربي :
1. حرية الدين والمعتقد.
2. التسامح الديني.
3. منع الترويج لمذهب طائفي ضد مذهب آخر .
4. منع فرض لغة على أخرى بالإكراه .
5. إعتماد المواطنة في التعامل واعتبارها مُثل عليا تؤهل ممن يلتزم بها للعمل في هيئات الدولة والسلطات الثلاث .
6. لايجوز الإعلان عن الهوية الدينية او القومية او اللغوية لأي إتحاد فيدرالي..
[ لا فيدرالية دون التطبيقات الديمقراطية الضرورية .رشيد كَرمة ، موقع بحزاني للحوار ( ص2-3 ) ] .
لاحظ أيها القاريء المرتكز السادس ينسجم مع قيم ومفاهيم المجتمع الغربي وهو يتعارض كلياً مع قيمنا ومفاهيمنا الإسلامية ، ولهذا لا يصلح تطبيق هذه النماذج كمستنسخات عن الأصل في المجتمعات العربية والإسلامية إلا إذا اختارت هذه المجتمعات والعياذ بالله طريقاً غير طريق الإسلام !
وهذه التطبيقات الديمقراطية الضرورية التي يتشدق بها دعاة الفيدرالية هل يمكن تطبيقها في العراق كما حصل في المانيا وسويسرا وأمريكا ؟!
لا أعتقد !(3/34)
ثم من يصدق أن أمريكا عبرت المحيط لتقديم الديمقراطية على طبق من ذهب للمستضعفين من العراقيين أو للوارثين الجدد !!
يقول مايك وتني : " من السخف القول بأن إدارة الرئيس بوش ملتزمة بالديمقراطية في الشرق الأوسط " .
[ تقسيم العراق استراتيجية أمريكية ، الشرق القطرية 1/9/2005 ]
وهؤلاء الذين يحدثون الشعب كل يوم عن نماذج فيدرالية ناجحة نقول لهم : عندما تطلُّون علينا مروّجين لدعوتكم الجديدة وتذكروا لنا كيف ان اقواماً متفرقة اجتمعت في فدراليات كسويسرا والمانيا ويوغسلافيا والولايات المتحدة والإمارات العربية والاتحاد الهاشمي(1958) قد فاتكم أن تذكروا لنا مثالاً واحداً عن بلد صغير كالعراق لا تتجاوز مساحته مساحة كاليفورنيا وسكانه لايتجاوزون الخمسة وعشرين مليوناً وثرواته هائلة قائماً بمؤسساته ومكانته الدولية منذ عشرات السنين اختار ابناؤه تجزئته الى أقاليم فدرالية؟؟ هذا لم يحصل قط، شتان بين الفيدرالية كنظام سياسي وبين اللامركزية كنظام إداري فالفيدرالية لاتتبع اللامركزية الإدارية بالضرورة. هل تتعاملون مع قطعة ارض أم مع مجتمع بشري؟ أتريدون اعادة بناء العراق أم قلبه على البطانة وإعادة تفصيله من جديد على هواكم دون إدراك النتائج والآثار الخطيرة التي ستترتب على فعلكم ؟!
[ عزيزي الفدرالي تمهل ، موقع جريدة البصائر/ قسم المقالات ( ص3 ) ] .
إن الفيدرالية في جميع بقاع العالم حتي في مملكة جورج بوش لم تقم علي أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية أو لغوية بل علي أسس أخرى غير تلك والا لكان للهسبانك في الولايات المتحدة الأمريكية محافظات مستقلة بهم وكان للسود إقليم خاص بهم حيث تكاثرهم في الجنوب ولخمسة مليون مسلم أمريكي أيضاً إقليم يخصهم ويعملون علي تعديل الدستور الأمريكي حسب عقائدهم الدينية والعرقية وغيرها ..
ملحوظة : لا يوجد تناقض بين الفيدرالية والنظام المركزي أو الدولة المركزية في النماذج المذكورة ، وإنما هما تنظيم لإقامة علاقة اتحادية بين الأقاليم ودولة المركز، كما هو في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن فدراليتها قامت على أساس ديموغرافي وليس على أساس ديني أو عرقي.
وكذلك لا تتناقض الديمقراطية بحسب المفهوم الغربي مع النظام المركزي في تلك البلدان، إذ أن فرنسا دولة ديمقراطية وهي دولة نظام مركزي، ومثلها ايطاليا والهند وأكثر دول أوربا يحكمها النظام المركزي، ومع ذلك فإنها ديمقراطية المنهج والتوجه.
[ فدرالية تقسيم العراق، موقع جريدة البصائر/ قسم المقالات ( ص1 ) ] .
فلا مانع من إقامة نظام مركزي في العراق يطبق فيه مبدأ العدالة أو ما يسمى بالديمقراطية ( مع عدم تسليمنا بالمفهوم الغربي لها ) مع وجود ضمانات تحول دون الرجوع إلى مربع الديكتاتورية ، أو تطبيق ( اللامركزية الإدارية ) وهي أشكال تحول دون الانزلاق في المخطط الأمريكي !
* موقف العرب والأكراد والأقليات من الفيدرالية
تبنت القوى الكردية على وجه خاص ومنذ البداية فكرة الفيدرالية بهياكلها الجغرافية والإثنية. ومع أنها لم تتبن بصورة صريحة معلنة خيار الانشقاق عن الدولة إلا أنها لا تبدو مكتفية بمبدأ التوزيع التكميلي للسلطات بين الاتحاد وأجزائه داخل الدولة الاتحادية المشتركة.
[ النظام الفيدرالي في العالم العربي ، عارف حجاج ( ص2 / موقع قنطرة ) ] .
هذا على عكس الحال لدى الأغلبية العربية (وداخل النخب السنية بطبيعة الحال) التي لم تبد حماسا في البداية لخيار الفيدرالية. إذ جاءت أولوياتها تنص على استعادة استقلال العراق وسيادته ووحدته الإقليمية في إطار دولة مركزية قوية.
وتوجد دلائل على أن القوى الرئيسية داخل المحور الشيعي تسعى إلى تبني نظام شبيه بنظام توزيع السلطة في لبنان وفقا للانتماء المذهبي .
ويبدو أن كثيراً من أتباع هذين المذهبين لو حصل توضيح دقيق للمشروع الفيدرالي وكان لابد من اختياره ضرورةً وبفرضٍ أمريكيٍ فإنهم يحبذون الخيار الفيدرالي المبني على قواعد إقليمية إدارية وليس على أسس دينية مذهبية ، ويصبح الأمر كما قال الشاعر :
إذا لم تكن إلا الأسنّة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها !
[ موقف الأكراد والمحللين السوريين من الفيدرالية الكردية في العراق، وحيد تاجا ، موقع الاختلاف ثروة ، ( ص2 ) 20 آذار، 2004 بتصرف ]
أين المشكلة ؟
والمشكلة أن بعض القيادات الشيعية والكردية -وليست كل القيادات بدليل معارضة الزعيم الشيعي السيد مقتدى الصدر والشيخ جواد الخالصي- تروج لمخاوف بأن يعود حكم البعث وسيطرة السنة مرة أخرى، وترى بالتالي أن الحل يكمن في فيدرالية شيعية في الجنوب وأخرى كردية في الشمال يتوافر لهما الأساس القانوني (حق الإقليم في رفض تنفيذ قرارات المركز) والمعيشي (تقسيم الثروات)، غير أن هذا يعني على الأرض انفصال كل منهما فعلياً بدولة مستقلة حتى لو لم ينص الدستور صراحة على ذلك.
وكان المراهنون على وحدة بلادنا يعولون على طرح فكرة الفيدرالية في الشمال الكردي فقط المنفصل عمليا عن العراق منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي وبشروط وتصورات معينة، ولكن يبدو أن المناقشات حول الدستور العراقي، إضافة إلى تسرب أنباء عن رغبة واشنطن في انسحاب مبكر من العراق للخلاص من دوامة القتل التي تطال جنودها كل يوم، وتعاظم قوة المقاومة العراقية -كل ذلك أدى للإفصاح أكثر عن نوايا الانفصال، ليس فقط بالأرض والثروة (النفط)، ولكن أيضا الانفصال عن العالم العربي _ أي من قبل الكورد _.
وقد قاد الطرح الكردي للفدرالية إلى تحرك المجموعات العرقية والطائفية الأخرى، فأعلنت ممثلة التركمان في مجلس الحكم الانتقالي " شن كول" ان الفيدرالية يجب أن تكون على أساس إداري وليس عرقيا وطالبت بأن تكون كركوك خارج الفيدرالية الكردية لان التركمان يشكلون الأغلبية الكبيرة فيها، وان وجودهم وجود تاريخي.
[ المصدر السابق ] .
بل إن الأمر لم يتوقف على ذلك، فقد زادت دعاوى الانفصال مؤخرا، وأصبحت أكثر وضوحا وصراحة تحت شعار الفيدرالية أو الحكم الذاتي، بعدما بدأت مجموعات عرقية أخرى -بجانب الشيعة والأكراد- تطالب وسط كل هذه الأجواء بالحكم الذاتي الكامل، مثل الآشوريين العراقيين المسيحيين، وغيرهم، وأطلق كل فريق محطات تلفزيونية خاصة وفضائيات تروج للفيدرالية بطرق ودعاوى شتى وتعتبرها أمرا واقعا!
حيث طالب المؤتمر الآشوري العام (الآشوريون نصارى يتحدثون الآرامية) الذي عقد في المدة من 5 - 7 آب 2005م بفيدرالية آشورية في سهل نينوى وسائر مناطق وجود الآشوريين بدعوى أن تعدادهم قرابة مليون إلى مليون ونصف، كما دعا إلى "حق العودة للمهجرين الآشوريين إلى قراهم ومساكنهم التي تركوها، وإدراج رمز آشوري تاريخي في العلم العراقي الجديد".
أيضا دعا الفيليون (وهم أكراد شيعة ينتشرون جنوب مدينة السليمانية مرورا بكركوك ومحافظة ديالي) بالاعتراف بحقوقهم، فيما طالب "الشبك" (وهم جماعة تضم في صفوفها خليطا من قوميات عربية وكردية وتركمانية) بالحفاظ على حقوقهم في الدستور الجديد، وعدم فرض الانتماء إلى القومية العربية عليهم، أو الكردية.(3/35)
وكان من الممكن، بدلا من توسيع دائرة الفيدرالية الانفصالية بهذا الشكل، استرضاء أو احتواء المطالب الكردية خاصة بعد تعيين (جلال الطالباني) رئيسا لكل البلاد، بيد أن السيد عبد العزيز الحكيم أجج مشاعر أهل السنة وغيرهم بالدعوة إلى إنشاء كيان وحكومة فيدرالية في المحافظات الوسطى والجنوبية التسع ذات الأغلبية الشيعية، ما يعني تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات طائفية هي: كيان شيعي في الوسط والجنوب، وعربي سني في الغرب، وكردي في الشمال كما سيأتي بيانه.
وفي ذلك يقول صالح المطلك العضو في مجلس الحوار الوطني معلقا على مطالبة الشيعة بإقليم فيدرالي في الجنوب: "نتمنى ألا يأتي هذا اليوم. نحن نعتقد أن العرب في العراق بسنتهم وشيعتهم هم كيان واحد؛ لذلك فإن أي محاولة لإثارة موضوع طائفي لتقسيم العراق موضوع مرفوض كليا"، فيما قال عبد الكريم هاني الناطق الرسمي باسم المؤتمر التأسيسي العراقي المعارض: "إن هذا الطرح للأسف يؤدي إلى تمزيق العراق عرقيا وطائفيا ولا يخدم مصلحة البلد إطلاقا".
[ انظر : دستور العراق يمزق العراق! ، محمد جمال عرفة ، بتصرف ، موقع اسلام اون لاين / شئون سياسية ، 29/8/2005].
* بدايات المطالبة بالفيدرالية وإقرارها في العراق
إن أطروحة الفيدرالية في النسيج الاجتماعي العراقي أطروحة حديثة العهد، ظهرت شيئا فشيئا في فترة التسعينات من القرن المنصرم، وذلك بعد غزو دولة الكويت وانتفاضة آذار 1991، حيث تحررت منطقة شمال العراق ذات الأغلبية الكردية من قبضة السلطة المركزية في بغداد بدعم من قوات التحالف الدولية.
ففي 4/10/ 1992 اتخذ البرلمان الكردستاني قرارا بتبني النظام الفدرالي للعراق، الأمر الذي أثار جدلا واسعا من الناحية السياسية والفكرية حول الآثار المستقبلية المترتبة على العلاقات الاجتماعية للمكونات العراقية ودول الجوار.
منذ تلك الفترة كان مبدأ الفيدرالية يطرح بين الحين والآخر من قبل القوى الكردية لاسيما الحزبين الكبيرين الديمقراطي والاتحاد الكردستاني في المحافل والمؤتمرات والندوات والتحالفات التي كانت تجريها المعارضة خارج العراق، كان منتهاها مؤتمر لندن وهو آخر مؤتمر تعقده المعارضة العراقية في المنفى، هذا فضلا عن الندوات الفكرية والثقافية التي تتبناها النخب المفكرة الداعية للفيدرالية العراقية.
بعد سقوط النظام السابق، أُقر قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت الفيدرالية، فقد جاء في المادة الرابعة: نظام الحكم في العراق جمهوري، اتحادي (فيدرالي)، ديمقراطي، تعددي، ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل أو العرق أو الاثنية أو القومية أو المذهب.
وفي المادة الرابعة والعشرين(أ) ـ تتألف الحكومة العراقية الانتقالية والمشار إليها أيضا في هذا القانون بالحكومة الاتحادية من الجمعية الوطنية ومجلس الرئاسة، ومجلس الوزراء وبضمنه رئيس الوزراء، والسلطة القضائية....
وجاء في المادة الثانية والخمسين: يؤسس تصميم النظام الاتحادي في العراق بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية، ذلك التركيز الذي جعل من الممكن استمرار عقود الاستبداد والاضطهاد في ظل النظام السابق. إن هذا النظام سيشجع على ممارسة السلطة المحلية من قبل المسئولين المحليين في كل إقليم ومحافظة، ما يخلق عراقاً موحدا يشارك فيه المواطن مشاركة فاعلة في شؤون الحكم ويضمن له حقوقه ويجعله متحررا من التسلط .
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث ( ص 4 ) ].
* مبررات دعاة الفيدرالية
الداعون لتثبيت مبدأ الفدراليات في الدستور العراقي القادم، يرون أنه الشكل الأكثر ملاءمة لتعايش مكونات الشعب العراقي المختلفة، وأداة فعالة ومرنة لردم ثغرة التنمية المفوتة في بعض المناطق، وإحداث وتائر متسارعة لها، قارنين ذلك بين التوجه العالمي نحو اللامركزية كوسيلة للتنمية البشرية، وبين الموروث السياسي العراقي الذي حول مركزية الدولة إلى أداة لسيطرة مناطقية معينة، أخضعت باقي العراق لها كعصبية غالبة، مما اشعر أبناء المحافظات المهملة بالحيف والقهر والتغييب، وجعلهم متطلعين لفرصة الانفكاك من سيطرة المركز وظلمه التاريخي .
[ فدراليات العراق.. من أين وإلى أين ؟ ، جريدة الشرق الأوسط ، الثلاثاء 19 جمادى الثانى 1426 هـ 26 يوليو 2005 العدد 9737 ] .
ويقولون : أن تطبيق سياسة اللامركزية في أي بلد يحقق الكثير من المزايا، لعل أهمها: أنها ممارسة فعلية لمبدأ الاستشارية السياسية الذي يقوم على أساس اشتراك المواطنين لإدارة شؤونهم والمشاركة في صنع القرار بأنفسهم، وهذا ما يعبر عنه في السياسات الحديثة "بالديمقراطية" فإن النظام الديمقراطي السياسي يمنح الفرد السلطة عن طريق الآخرين الذين يمنحونه هذه السلطة، ولذلك فهي ذلك النظام الذي يستطيع من خلاله المواطنون تحقيق أهدافهم، عن طريق الحكم بواسطة الشعب، ومن أجل الشعب .
وبالتالي، فأن نقل السلطات إلى المحليات، ومنح المحافظين كافة السلطات والمسؤوليات دون الرجوع إلى سلطة مركزية في العاصمة، واختيار المحافظين من أبناء المحافظات، أو ما أشبه من الوحدات الإدارية أو الحكومات المحلية، هو تطبيق عملي للاستشارية بمفهومها الشامل لما في ذلك النظام من توافر للمبادئ التي تكفل له أعلى درجة من الاستشارية التي تستمد السلطة في صنع القرار من أبناء الشعب مباشرة بالمحافظات دون الرجوع إلى السلطة المركزية.
ونظام اللامركزية الإدارية كما هو مطلوب بالنسبة إلى المجال السياسي، كذلك هو مطلوب بالنسبة إلى سائر المجالات كالمجال الاقتصادي، فإن هذا النظام يعد دعامة أساسية لنهوض الاقتصادي والاجتماعي للمحافظات أو الحكومات المحلية، أو ما أشبه ذلك من خلال الاهتمام بالتنمية الإقليمية، وتطوير أداء الخدمات، وتحقيق برامج الأمن الغذائي، وما أشبه ذلك من سائر ما يكون مقوماً للحكم الشعبي، فإن هذا النظام هو في الحقيقة أقدر على التعرف على الاحتياجات الحقيقية لكل محافظة وتنسيق العمل داخلها، وتوجيه الجهود نحو إشباع رغبات واحتياجات المواطنين، والتيسير عليهم، والبدء في مرحلة جديدة من العمل لزيادة الإنتاج لتحقيق النمو والتقدم والرخاء .
[ مفهوم الدولة الفيدرالية رؤى حول أطروحة الفيدرالية في العراق الجديد، جميل عودة ، مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث ( ص 5 ) ].(3/36)
ويقولون : إن الفيدرالية في العراق ضرورة ملحة اليوم وغداً . ويجب الاعتراف بالاختلافات والتباينات بين الشعوب العديدة والتي تقطن داخل الأسوار نفسها . لا يمكن اليوم فتح الأحضان إلى آخرها أمام خرافة العيش المشترك الذي يكون في أغلب حالاته عيشاً مشتركاً إجبارياً برعاية الفروع الأمنية التي ترسم سياسات بلداننا وفاقاً لموازينها ونحن المواطنون إنما كائنات غريبة وكأننا من كوكب آخر . إن أدوار الدولة/ الأمة التي فرضت التناغم والتجانس الإثني والثقافي والديني بغية قيامها على أسس صلبة ومتينة قد ولى وإلى غير رجعة وذلك بفعل مناخات العولمة التي تسبب جزء من عملياتها كثورات الاتصالات والمعرفة التقانية في تصاعد خطاب الاثنيات أينما كانت في العالم . لا مكان في عالمنا الحالي لدولة تقوم على جماعة مهيمنة تهدر كل مرافق الدولة ومؤسساتها وتحول خيراتها إلى مجرد حطب لموقدها .
[ هل الفيدرالية الكردية رعب نووي ؟ ، مصطفى اسماعيل ، موقع الحوار المتمدن ] .
* نصيحة إلى الفيدراليين ( قبل المناقشة )
أنت أيها الفيدرالي بحاجة إلى:
* نظام ديمقراطي برلماني يمارس فيه السكان دوراً فاعلاً في التشريع والرقابة على أجهزة الدولة ومرافقها بالتنسيق مع الصحافة، ومن خلال هذا البرلمان والدستور يجري تحديد نوع الفيدرالية لمنطقة كردستان وحدودها وأبعاد علاقتها بالعراق الأم.
* تشكيل لجان مختصة في الإدارة والاقتصاد من عراقيين وأجانب لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة.
* خصخصة المشاريع والشركات العامة التي كانت عبئاً على الدولة وتشجيع المستثمر الأجنبي مع إلزامه بمشاركة رأس المال العراقي وإعطاء الاولولية في العمل والاستخدام للعراقيين بضمان إنجاح المشاريع والتورع عن سرقة المال العام !
* السعي لاسترداد قاصة النفط وتحرير العراق من الديون.
* تفعيل دور مكاتب العمل والتشغيل والتأهيل في وزارة العمل وتشجيع مكاتب العمل الأهلية ووضع الضوابط لها.
* تفعيل دور المفتش المالي والمفتش الإداري والمفتش العدلي من العناصر الكفوءة والنزيهة.
* إعادة النظر في تركيبة الجهاز القضائي وإعادة تأهيله وخاصة المواقع المتقدمة منه وتطهيره من العناصر الكسولة والمشغولة بنفسها والمتشبعة بالبيروقراطية والفاقدة لعمق النظرة بعد أن عايش خمسة وثلاثين عاماً من ارهاصات النظام السابق وضمان الرقابة الشعبية البرلمانية على هذا الجهاز.
* تشكيل مجلس يضم ممثلين عن كافة الوزارات له شخصية معنوية لإعادة بناء العراق بوضع دراسات عن أوضاع البلد وحاجاته وإمكانياته وتدرجها في الأهمية والأولوية من الشمال إلى الجنوب والإشراف على تنفيذها بعد رصد نسبة من الميزانية السنوية التي يقرها البرلمان لأغراض هذا المجلس.
* اعتماد شعار الرجل المناسب في المكان المناسب بغض النظر عن انتماءاته الحزبية او العرقية.
[ وانظر:عزيزي الفدرالي .. تمهل ، موقع جريدة البصائر، قسم المقالات ( ص2-3) ]
* الفيدرالية المذهبية
قال السيد عبد العزيزالحكيم، ان «هناك خمسة مواضيع رئيسية نؤكد عليها في الوقت الحاضر، وهي الدستور والأمن والإعمار وتشكيل إقليم الجنوب والوسط». وأضاف: «نحن نؤكد على ضرورة إقامة إقليم واحد في جنوب ووسط العراق لوجود مصالح مشتركة بين ساكني هذه المناطق». وقال الحكيم بخصوص الفيدرالية : « نحن نعتقد بأنه من الضروري تشكيل إقليم في الجنوب » .
وقال هادي العامري، زعيم «منظمة بدر» التابعة للمجلس الأعلى : «الفيدرالية يجب أن تكون في جميع العراق. يحاولون منع الشيعة من التمتع بفيدراليتهم».
[ جريدة الشرق الأوسط الجمعة 07 رجب 1426 هـ 12 أغسطس 2005 العدد 9754] .
وعلق الأستاذ احمد الربعي وهو سياسي كويتي معروف على مطالبة السيد عبد العزيز الحكيم بفيدرالية شيعية بقوله : " آخر ما كنا ننتظره من شخصية بحجم عبد العزيز الحكيم هي هذه الدعوة الخطيرة لإقامة فيدرالية شيعية في العراق. وأسوأ مناسبة يقال فيها هذا الكلام هي مناسبة كبيرة وهي استشهاد آية الله محمد باقر الحكيم ذلك الرجل الذي ضحى بروحه من اجل العراق وليس من اجل مشروع فيدرالية شيعية!!
وكان آخر ما كنا نفكر فيه ان يكون مشروع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق هو دولة طائفية مقسمة على أساس طائفي وعرقي!!
هل مثل هذه الأطروحات هي البديل الذي كان يحلم فيه العراقيون. هل كان من الضروري أن تقدم كل التضحيات ضد حكم الدكتاتورية والإرهاب والطائفية لتنتهي هذه التضحيات بمشروع انتحاري جديد يعيد العراق الى المربع الأول.
يقول أمين عام منظمة بدر، الجناح العسكري للمجلس الأعلى إن «على الشيعة المضي قدما في إقامة فيدرالية في الجنوب وإلا سيندمون على ذلك». فسبحان الله ما هي هذه الدولة ـ الحلم او هذا الكانتون الذي سيحقق أحلام الشيعة، وبأية مواصفات حضارية يمكن أن تقوم دولة للشيعة او للسنة او للأكراد في العراق!!
لقد عانى العراق من العبث الذي مارسه صدام وبعده الإرهاب الدولي داخل في العراق .. ويعاني العراق من بعض غلاة ومتطرفي الاكراد الذين يريدون فيدرالية طائفية موزعة على أساس جغرافية القومية بديلا للفيدرالية الديمقراطية التي ضحى الأكراد من أجلها. وتأتي دعوة الأخ عبد العزيز الحكيم لتشكل لكل محبي العراق ردة عنيفة عن مشروع العراق الديمقراطي.
ندعو السيد عبد العزيز الحكيم، الذي نحبه ونحترمه، إلى إعادة النظر في هذه الأطروحات الجديدة التي تشكل في النهاية مشروعا انتحاريا ربما يتم بنوايا طيبة.
ونقول للأخ عبد العزيز الحكيم إننا لم نخف على العراق منذ سقط صدام، لم نخف عليه من الإرهاب الأسود، ولا من الخلافات السياسية. ولكننا نخاف الآن فعلا على العراق من اطروحات التقسيم ومشاريع الانتحار التي نتمنى أن يعود عنها السيد الحكيم وغيره من السياسيين العراقيين من كافة الطوائف ".
[ مشروع انتحاري في العراق ،احمد الربعي ، جريدة الشرق الأوسط ، السبت 08 رجب 1426 هـ 13 اغسطس 2005 العدد 9755 ] .
وبعضهم يستحسن فكرة إقامة فيدرالية في الجنوب ولكن بعيداً عن الأسس الطائفية وفي ذلك يقول منذر الفضل : " فان مشروع إنشاء فيدرالية كجزء من الإقليم العربي في جنوب العراق لا يعد وجودها كيانا طائفيا ولا نريده كذلك و لا يمكن اعتباره تقسيما للعراق إذ ليس الاتحاد الفيدرالي الاختياري تقسيم للعراق و ما مقولات تأسيس الدولة الشيعية في الجنوب بعد سقوط النظام إلا محض خرافة وفهم خاطئ في التفكير والاستنتاجات لان في الجنوب يعيش العديد من العرب السنة والعديد من النصارى والصابئة وغيرهم مما يوجب الابتعاد كليا عن طروحات طائفية او عرقية في هذا المجال .(3/37)
ولهذا نعتقد أن هذا المقترح يجب أن يتخذ شكلا أخر أي أن هذه المنطقة من الجنوب يجب أن تأخذ شكلا دستوريا وقانونيا في صورة فيدرالية وتؤسس حكومة إقليم لها يديرها أبناء المنطقة بمشاركة واسعة وتعددية سياسية ووفقا للقانون ويكون لهم وللكرد (( ولغيرهم من الأقليات المتآخية)) حق المشاركة في سلطة المركز السياسي أيضا لان النظام الفيدرالي هو نمط إداري لا مركزي من الناحية السياسية وأسلوب تعددي في إدارة الدولة العراقية بما يحقق العدالة والمساواة والمشاركة الفاعلة في إدارة الدولة إقليميا ومن حق حكومة كل إقليم المشاركة مع سلطة المركز في إدارة الدولة العراقية وهو حق ثابت لكل العراقيين إذ لا يعقل بعد الآن تصريف و إدارة شؤون الدولة العراقية من شخص واحد فقط يديرها وفق هواه ودون حسيب ولا رقيب يدخلها في حرب ويورطها في أخرى ويمارس أبشع صنوف العدوان والإرهاب ضد الشعوب العراقية ( لاحظ : هؤلاء يستخدمون لفظ الشعوب العراقية لا الشعب العراقي لغاية لا تخفى على اللبيب ! ) ... ثم ما الذي يمنع من وجود أكثر من حكومة فيدرالية في مناطق العراق , في الجنوب , وفي الوسط وفي الغرب وفي غيرها من مناطق العراق مادامت أسس الحكم الفيدرالي واضحة وتقوم على الاتحاد الاختياري .
و لا يمكن أن نقبل القول أن الفيدرالية أو الكيان الذي يقوم في غرب العراق مثلا هو كيان طائفي ؟ فالعلاقة بين الأقاليم الفيدرالية تحكمها قواعد دستورية وحين نص قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية وقرار مجلس الأمن رقم 1546 على ان العراق الجديد سيكون شكله فيدراليا تعدديا وديمقراطيا لم يتم الدخول في التفاصيل لهذا الأمر وهو متروك للعراقيين في اختيار المناسب للمستقبل بقرار من المؤسسات الدستورية القادمة " .
[ الفيدرالية في جنوب العراق ، منذر الفضل ، موقع الحوار المتقدم ، ( ص 4-5 ) ] .
وبعضهم أبعد النجعة كما تقول العرب وطرح تصوراً غريباً لشكل الفيدرالية التي يريدها لبلده بعد أن قضى طرفاً من عمره في لندن ! ، فهو يريد تقسيم العراق إلى خمسة أقاليم :
1. إقليم الشمال : ويضم ( السليمانية واربيل ودهوك ونينوى ) .
2. إقليم الجنوب ويضم ( البصرة وميسان والناصرية ).
3. إقليم الشرق ويضم ( كركوك وصلاح الدين وديالى والكوت ) .
4. إقليم الغرب ويضم ( الانبار والنجف والمثنى ) .
5. وإقليم الوسط ويضم ( كربلاء والحلة والقادسية ) .
وتبقى بغداد حسب تصوره إقليم منفرد وعاصمة الدولة الاتحادية ، ويحتج على ذلك بقوله : " في هذا النظام تذوب فيه ( كذا ! ) آثار ونزعات العرقية والطائفية ، ويعبر عن وحدة وامتداد الراضي لكل إقليم ، ويكون أقوى رباط وحفاظ على وحدة العراق الجغرافية ، وهناك تجانس اجتماعي في مكونات هذا النظام " .. مع أنه اعترف في نهاية المطاف بصعوبة السيطرة على الوضع الإداري في مثل هذه الأقاليم الكبيرة !
ولم يكتفِ بهذا ( التصور الخيالي ) بل راح يحلق بعيداً ففاجأنا بتصوره ( الرابع ) حول ما سماه بـ : " نظام فدرالية المحافظات ، وفيه تكون كل محافظة فدرالية بحد ذاتها وهنا تتكون الدولة الفدرالية من 18 فدرالية تتمتع بجميع حقوق الحكم اللامركزي أو الحكم الذاتي ضمن حكومة اتحادية واحدة ، وفي مثل هذه الحالة تكون الوحدة الوطنية أكثر التزاماً وتماسكاً ، والتنافس الوطني أقوى " .. ثم رجع وقال : " ولكن ستكون بعض المحافظات أقوى اقتصادياً من البعض الآخر ... ولا نعتقد قبول وموافقة إخواننا الأكراد "
[ انظر : تصورات عن الفيدرالية في العراق ، الدكتور واثب العامود ( عضو مجلس محافظة البصرة كما كتب على غلاف كراسه ! ) ، (ص14 ) ] .
ولا أدري هل يملك هؤلاء قراراً بابوياً يقسمون بلاد الرافدين كما يشتهون ، أم أنها مجرد تصورات وأحلام واجتهادات فردية ينقض بعضها بعضاً ، وتفتقر إلى مقومات الواقعية لاسيما إذا قرأنا عبارته عن ( التجانس الاجتماعي بين أهل النجف والانبار وضمهما في فيدرالية واحدة ) ، أو ضم كركوك _ مثار النزاع _ إلى صلاح الدين وديالى والكوت هكذا بجرة قلم !!
أما عن ( فدرالية المحافظات ) فلا أملك إلا أن أقول : بمثل ذلك فلتقر عيون الأمريكان !!
المحللون السياسيون والوطنيون والإسلاميون وبعض المفكرين الغربيين يتخوفون من تفتيت العراق وتجزئته إلى ثلاث مناطق رئيسة ، والعامود يقترح على أمريكا تجزئته إلى 18 منطقة تتهارج فيما بينها !
ثم انه يخلط خلطاً عجيباً بين الحكم الذاتي واللامركزية الادارية والفيدرالية ، فهل قصده التلبيس أم أنه فعلاً ممن لا يعلم الفرق ؟!
نرجوا أن تكون عموداً في الحق يا دكتور واثب !
* وشخصيات سنية تطالب بالفيدرالية أيضاً !
" ففي موقع " دار الحياة " يوم 6/5/2005 نقرأ أن " الشيخ فصال الكعود " محافظ الأنبار يرغب في إقامة إقليم فيدرالي تعددي لمناطق غرب العراق تضم محافظات الموصل وتكريت والأنبار . ويقول : " نحن مع الفيدرالية في عراق واحد وإقرارها ضرورة لأنها ستدفع الأقاليم إلى التسابق لتحسين وضعها الاقتصادي والأمني ".
ولا أدري هل الضرورة يحددها الكعود أم التشريع الإسلامي وإجماع الأمة ؟!
ثم ما الذي يحمل هؤلاء على التهالك على المشروع الأمريكي وهم يزعمون أنهم من جملة أهل السنة !
إن هذا المصطلح ( أهل السنة ) مصطلح شرعي فلا يدخل فيه إلا من يقول بأصولهم العقدية والمنهجية ، ويلتزم بالرأي الاجماعي أو الأغلبي لعلمائهم ومرجعياتهم لا سيما مع ظهور البرهان وتحقق المصلحة الشرعية والوطنية .
* موقف بعض القوى الشيعية من الفيدرالية ( الشيخ الخالصي نموذجاً )
نص الحوار على قناة الجزيرة مع الشيخ جواد الخالصي ومهدي خوشناو :
" غسان بن جدو ( مقدم الجزيرة ) : إن قضية الفيدرالية قضية أساسية، قضية مصيرية وغير قابلة للتراجع مطلقاً، هل أنتم تتبنون أيضاً هذا الخيار أم لا؟
جواد الخالصي: من الذي سيقرر هذا؟ مصير بلد أو شكل من أشكال الإدارة في البلد من الذي سيقرره؟ يجب أن يقرره الشعب العراقي.
غسان بن جدو: كيف؟
جواد الخالصي: خلال الانتخابات ووجود ممثلين لهذا الشعب، انتخابات حرة وحقيقية، يُشكل مجلس تأسيسي سيقرر وحدة العراق وأشكال الإدارة..
غسان بن جدو[مقاطعاً]: أنتم هل مع الفيدرالية أم لا؟
جواد الخالصي: إذا لا يؤدي إلى التقسيم، ولا يتم تحت حراب الاحتلال، فهو موضوع قابل للدراسة، على أن تكون فيدرالية إدارية.
غسان بن جدو: بمعنى.
جواد الخالصي: بمعنى ليست فيدرالية مؤسسة على أساس تقسيم قومي للعراق يؤدي إلى انفصال كما حصل في الاتحاد السوفيتي وفي يوغسلافيا.
غسان بن جدو[مقاطعاً]: الكرد يعتبرون الانقسام لهم ثقافة خاصة..
جواد الخالصي: كردستان مقسمة أيضاً، سنجعلها ولايتين إذا أرادوا، كما حصل فعلاً.
غسان بن جدو: مقسمة تقصد يعني منطقة الطالباني.
جواد الخالصي: السليمانية وأربيل، فإذا أردنا أن نجعلها فيدرالية إدارية.. فستشمل الجميع، الكرد في أماكنهم، والعرب في أماكنهم، والتركمان في أماكنهم، كما يحصل في كثير من دول العالم المتقدمة، لا تبنى الفيدرالية على أساس التقسيم العرقي الذي قد يؤدي إلى التطهير العرقي كما حصل في يوغسلافيا.
غسان بن جدو: كيف.. كيف ترى هذه النقطة سيد مهدي في أربيل؟(3/38)
مهدي خوشناو: في العالم فيدرالية على أساس قومي أو عرقي، أرجو من السيد أن يراجع الأطلس السياسي، فمقاطعة (الكيبك) في كندا، الذين يتكلمون بالفرنسية يتمتعون بفيدرالية قومية، وهذا لا يتعارض مع انتمائنا العراقي، وهذا إلحاح وتأكيد من طرف شعبنا الكردي بعراقيتنا وارتباط مصيرنا بكافة الشعوب العراقية وهذا لا تعني.. لا تعني..
جواد الخالصي: للأخ العزيز وللإخوة الآخرين في كل مكان: نحن لا نريد ( أن ) نخادعهم كما خادعهم صدام حسين، حين قدم لهم الحكم الذاتي، وأباد كردستان، يوم أُصيبت كردستان بالقذائف، نحن كنا مع الشعب الكردي، نحن كنا في حلبجة، كنا في مناطق القتال وضد النظام الفاشي ونحن نتكلم معهم الحقيقة، الحقيقة هي أنهم _ أي الأكراد _ جزء من أمة هي أمة الإسلام، وجزء من شعب هو شعب العراق وليس الشعوب العراقية كما تفضل به.
غسان بن جدو[مقاطعاً]: لكن ليس بالضرورة أن تفرض عليه، هو.. حتى العراقي يقول الشعوب العراقية ولا يتحدث عن الشعب العراقي.
جواد الخالصي: لن.. لن أفرض عليه، أنا لا أقول شعوب عراقية، أنا أقول الشعب العراقي، ولن أفرض عليه شيئاً، أنا أقول: إذا كانت هنالك فيدرالية إدارية تريد أن تنتقل بالعراق إلى شكل جديد من أشكال الإدارة، يجب أن يؤخذ بهذا رأي الشعب العراقي ككل، وأنا شخصياً لست متشنجاً ضد هذا الفرض، حين يكون فرضاً حراً ديمقراطياً صحيحاً، على فرض الديمقراطية التي يقولونها، أما أن يُفرض هذا الأمر بهذه الكيفية وبشكل لعبة سياسية فهذا لا يقبله أحد ولا يؤدي إلى نتيجة، صدام قال: سأعطيكم كل شيء، ولم يعطهم إلا الدمار، لأن صدام فاشي " انتهى الحوار .
* وآخرون رفضوا الدستور المُنَظِّرِ للفيدرالية
والموقف منه هو أيضا ليس موضع إجماع من العراقيين أنفسهم، ومن العرب.. بل وحتى في الداخل الأمريكي. فعلى سبيل المثال، تقف شرائح واسعة من النسيج العراقي من مختلف التلاوين والطوائف ضد هذا المشروع.
فهناك الأحزاب السياسية القومية تقف علنا ضد المشروع، وترى فيه شرعنة للاحتلال واعترافا بنتائجه. وهناك أيضا هيئة كبار علماء السنة، وعناصر المقاومة الوطنية.. وهي عناصر، أيا يكن موقف السعداء بالاحتلال منها، فإنها تفعل فعلها على الأرض وتقض مضاجع المحتلين، وتدفع بقوى العدوان إلى الخلف. وهناك أيضا، التيار الصدري. وهو تيار يحسب حسابه، ويتواجد في معظم المدن العراقية في الوسط والجنوب. وإضافة إلى ذلك، فإن هناك علماء كبار من الطائفة الشيعية يقفون بحزم في مواجهة هذه الخطوة يأتي في المقدمة منهم آية الله الحائري وآية الله البغدادي ، والشيخ محمد جواد الخالصي، الأمين العام للمؤتمر التأسيسي العراقي. وقد برز عدد منهم في الفضائيات العربية وأدانوا الاحتلال وإفرازاته، واعتبروا التصويت على الدستور هو الأخطر من بين تلك الإفرازات. فها هو الشيخ الخالصي يقول بوضوح في مقابلة له في فضائية الجزيرة: "نحن نعارض هذه المُسودة لأنها ناتجة من عملية سياسية رفضناها منذ البداية، لأنها قامت على رغبة خارجية لا تمثل إرادة شعبنا ونرفض أن يقال إن هنالك فئة واحدة من العراقيين تعارض هذه العملية ثم تعارض هذه المُسودة، هنالك عراقيون في كل أنحاء العراق يعارضون هذا المشروع الخطير الذي يمس سيادة البلد ويمس وحدة البلد".
وقال أيضا: "إن الكلمات الواردة في الدستور ليست جيدة وفيها الكثير من المغالطات ومن الألغام الخطيرة المستقبلية، والحديث عن المساواة بين المواطنين ليس جديدا. إنه موجود في كل دساتير المنطقة وفي الدستور العراقي منذ العشرينات، فهل هذا جدير ليكون مصدر إلهام في هذا الشأن؟
النقطة الأخرى الخطيرة في هذه القضية هي أن هذا الدستور يجري في خلال وضعه انتهاك خطير لحقوق الإنسان في العراق، فمن الآن بدأت القضية.. العبارات حتى لو كانت جميلة فإن الممارسات خطيرة ومتعددة وثقيلة. الانتخابات السابقة جرت في ظل تدمير مدينة عراقية اسمها الفلوجة وقبلها دمرت النجف وقبلها دمرت مدينة الصدر في بغداد والأزمة مازالت مستمرة ( كما حصل لاحقاً تدمير القائم وتلعفر وراوه وغيرها من المدن العراقية ) وانتهاكات حقوق الإنسان تجري".
وعلى الصعيد العربي، انبرى العشرات من الكتاب والمثقفين والمهتمين بالشأن العام، لإدانة هذه الخطوة باعتبارها إسفينا في خاصرة الأمة العربية، ومحاولة استعمارية لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ. والمقالات في هذا الاتجاه هي بالعشرات ( بل المئات ! ).
أما على صعيد الإعلام الأمريكي، فحسب ما ورد في جريدة الشرق الأوسط بعددها الصادر في 24 أغسطس 2005 وجهت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية انتقادات لاذعة إلى مسودة الدستور العراقي، واعتبرت أنها "لا تشجع فرص قيام عراق موحد ومسالم". وقد خصصت هذه الجريدة افتتاحيتها في 23 أغسطس للتعليق على مسودة الدستور العراقي. ولم توفر بانتقاداتها إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش التي "لأسباب سياسية" حسب تعبير الصحيفة" فرضت "مهلة زمنية تعسفية" لتقديم مسودة الدستور. واعتبرت أنها "لا تشجع فرص قيام عراق موحد ومسالم" .
[ حول الفيدرالية والدستور العراقي ، يوسف مكي ، التجديد العربي 7/9/2005 ] .
والخلاصة هنا : شطب الهوية العراقية أولاً، ومن ثم الولوج في مكيدة إيقاظ نوّم الفتن، المؤدية، كما يؤمل منها، إلى الاحتراب الأهلي، وذلك ببث الروح في غوائل هذه الفتن المطلة برأسها والمتجسدة في الشقاقات الطائفية والمذهبية والعرقية، وذلك عبر الفدرلة، والمحاصصات، وإغراءات كعكة تقسيم الثروة... أي تحويل العراق من ثم إلى مزارع فسيفسائية تابعة لا تملك في واقعها ما يبشر بأن تقوم لهذا البلد قائمة. ولعل أفضل ما نعت به هذا الدستور، والذي عارضته شريحة واسعة من العراقيين يمثلها أكثر من 19 من الأحزاب والقوى، هو ما أطلق عليه بعض العراقيين: "دستور الفصل الطائفي والعنصري"، ويمكن أن نضيف والأمركة المستدامة أيضاً!
[ دستور الفصل الطائفي ومخططات الأمركة المستدامة ، عبد اللطيف مهنا ، موقع هيئة علماء المسلمين ، قسم المقالات ، 16/10/2005 ]
* مساوئ النظام الفيدرالي ( أسباب رفض أهل السنة وكثير من القوى الوطنية للفيدرالية المزعومة )
[ لا... للفيدرالية... فالغرباء لا يحق لهم تمزيق وحدة العراق ]
الرافضون للمشاريع الفيدرالية هم تحديدا المقاطعون للانتخابات والتصويت على مسودة الدستور في المراحل السياسية السابقة لأسباب شرعية معلومة، ويقف وراءهم المحيط العربي والإسلامي الذي يخشى على وحدة العراق وهويته العروبية والإسلامية ، وعلى وقوعه فريسة للنفوذ الإيراني، وهو كلام واقعي يتفق معه كثير من أبناء الشعب العراقي.
[ فدرالية العراق: حل سياسي أم مأزق دستوري ، جريدة الشرق الأوسط ، الأحد 16 رجب 1426 هـ 21 أغسطس 2005 العدد 9763 ، بتصرف ] .
تنبيه : العروبية مغايرة تماماً للقومية العربية ، فدعاة المحافظة على الهوية العروبية ليس بالضرورة أن يكونوا من أنصار الفكر القومي الذي نظّر له ساطع الحصري في القرن المنصرم .
• والأسباب الداعية إلى الرفض تتلخص بالآتي :
أولاً : نظام الحكم في الإسلام هو نظام وحدة وليس نظاماً اتحادياً ..(3/39)
الإسلام يفرض الوحدة بين البلاد الإسلامية ويحرم الاتحاد بينها ، والنظام الصحيح للحكم هو نظام وحدة ليس غير فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول : " ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " ، لدلالة الشرع عليه وتحريم ما سواه ويقول : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" .
فالحديث الأول يقرر تحريم تجزئة الدولة ، ويحث على عدم السماح بتقسيمها ومنع الانفصال عنها ولو بقوة السيف ، والحديث الثاني يقرر تحريم جعل الدولة دولاً فلا يسمح بوجود غير خليفة واحد .
وهكذا فالاتحاد الفيدرالي من حيث الأصل حرام قطعاً فكيف إذا علم أنه يتم وفقاً لمشروع صليبي في المنطقة لخدمة أمريكا وإسرائيل .
فالاتحاد الفيدرالي ليس وحدة خاصيته الاحتفاظ بالكيان ، لأنه في واقع مثل العراق يكون مدعاة للتنازع والاختلاف وما يتبع ذلك من الانشقاقات والتصدعات في البناء الداخلي نظراً للاختلاف حول سلطات الأقاليم من جهة وتوزيع الثروات مع هذا التباين من جهة أخرى كما سيتم توضيحه في النقاط التالية ..
وأول خطوات النظام الفدرالي انتخاب برلمان اتحادي ، ووضع دستور اتحادي تحدد فيه الشؤون المراد أن تتوحد بين دول الاتحاد أو أقاليمه ، فقد ينص على توحيد التشريع القضائي ، أو على القوانين الإدارية ، أو على السياسة الخارجية أو الاقتصادية، أو توحيد الجيش،وقد ينص على توحيد هذه الأمور كلها أو بعضها أو زيادة عليها وقد ينص على توحيد أجهزة الدولة مع بقاء الكيانات كالولايات المتحدة الأمريكية ، أو ينص على بقاء أجهزة الدولة وتوحيد بعض الشؤون كاتحاد الجمهوريات السوفياتية سابقاً وهكذا يحدد الدستور نوع الاتحاد ويقر هذا الدستور من قبل البرلمان الاتحادي ، ومن برلمان كل دولة أو إقليم من دول أو أقاليم الاتحاد إن كان هناك برلمانات ، فتمارس الدولة الاتحادية الصلاحيات التي حددها الدستور فقط ، وتبقى باقي الصلاحيات لكل دولة أو إقليم على حدة تمارسها كما تريد ، فتبقى كل دولة أو إقليم كياناً متميزاً محتفظاً بكيانه لا سيما بعد هذه الصلاحيات الإدارية الواسعة التي ضمنها الدستور الجديد محل الخلاف .
هذا هو واقع الاتحاد الفيدرالي ، ولذلك فإلغاء جوازات السفر بين دولتين أو الوحدة الاقتصادية بين دولتين ، أو توحيد مناهج التعليم ، أو توحيد التشريع هذه كلها ليس لها علاقة بالاتحاد الفيدرالي . فقد تحصل بين الدول دون اتحاد فيما بينها . وكذلك ليس من الاتحاد الفيدرالي في شيء أن يقرر البرلمان أو البرلمانات أو المؤتمرات أو المشيخات قيام مثل هذا الاتحاد فيما بينها ، لأن مثل هذا القرار ليس إلاّ مجرد تعبير عن رغبة فقط . والمهم تقرير دستور يحدد نوع الاتحاد ودولته وصلاحياته .
وعليه فإن الشرع الإسلامي لا يجيزه بين المسلمين مطلقاً مهما كان نوع الاتحاد ، لأن نظام الحكم عند المسلمين نظام وحدة ، لا نظام اتحاد . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن السيادة في الإسلام للشرع ، فهو الذي يقرر نظام الحكم والتشريع والمال ، فلا خيار لأحد في تقرير شيء منها ، ثم إن أحكام الشرع واحدة لكل مسلم ، فلا يصح أن يختلف حكم الشرع في بلد عن بلد ، فلا يجوز اختلاف التشريع . ومالية المسلمين واحدة ينفق عليهم من بيت مال المسلمين بغض النظر عما إذا كانت لبلادهم واردات أم لم تكن . والجهاد فرض على المسلمين فيجب أن ينفروا للجهاد إذا غزيت أي بلد من بلدان المسلمين لاسيما إذا عجز أهل ذلك البلد عن القيام بأعباء الدفع والجهاد ، فكيان المسلمين كيان واحد جبراً ، وتشريعهم وأموالهم وكل شيء يتعلق بالحكم واحد لا يجوز أن يتعدد ، فنظام الحكم ونظام الحياة عندهم نظام وحدة ، لا نظام اتحاد . وعليه فالإسلام يوجب نظام الكيان الواحد ، لا نظام اتحاد الكيانات المتعددة ، وهو يُحرِّم الاتحاد ، ويوجب الوحدة ويوجب الحرب لتحقيقها " .
[ الفيدرالية والكونفدراليه ، موقع إذاعة العقاب ، 9 ايلول 2005م ، بتصرف ] .
هذا رأي فقهي معتبر وهو ينظر إلى الموضوع من حيث الحكم الأصلي ، فان حصل عارض أو ضرورة فمع القول بعدم شرعيتها إلا أن لها ما يقننها في التشريع الإسلامي عملاً بقاعدة (الضرورات) وهي تقدر بقدرها ، ومن هنا لا يجوز لأي جماعة إسلامية أو حزب إسلامي أن يدعو إلى النظام الفيدرالي ابتداءً لما بيناه من الحرمة ، ولكن إن وقع قدراً فالمسلمون مأمورون حينئذٍ بتخفيف ودفع المفاسد ما أمكن وهذا باب واسعٌ يترك البت به لهيئة علماء المسلمين والمجامع الفقهية في العالم العربي والإسلامي.
فنظام الدولة في الإسلام من حيث الأصل يقوم " على نبذ كل ما من شأنه إضعاف أعمدة وبنيان الدولة والانتماء الوطني ولو بشكل ظاهري بحت.
من هنا لاحت المركزية على أنها نظام الحكم الأمثل بالنسبة للحكام إن لم نقل حتى الذي لا بديل له، لا سيما وأن المركزية تؤدي إلى تسهيل وتفعيل استخدام آليات المراقبة تجاه شعوبهم وفيما يختص بمواجهة أخطار التهديد من الخارج ".
[ النظام الفيدرالي في العالم العربي، عارف حجاج ( ص3 / موقع قنطرة ) ] .
فلو كانت الدولة مركزية قوية سيادية وطبق فيها ( النظام العادل ) الذي يضمن للجميع حقوقه وحرياته ضمن آليات تحول دون الاستبداد والاستئثار بالسلطة على نحوٍ يتعارض مع القواعد الإسلامية ، فان ذلك هو الأمثل والأليق بقواعد الشرع الداعية إلى الوحدة لا الاتحاد !
ثانياً : ينفرد العراق.. أو ما اصطلح على تسميته بحضارة مابين النهرين . بأنه الأرض الوحيدة في الدنيا , التي احتضنت ست حضارات مشرقة. كلُ حضارةٍ حفرت في أديم الأرض لتاريخها. وصدرت للبشريةِ أعظم العلوم والفكر والقوانين. فالسومريون هم أول من أوجد الكتابةَ وعلم الرياضيات. وخلفهم الأكديون الذين انبهروا بالسماء وما حوته من علوم الفلك. ثم جاء البابليون... وكانت مسلة حمورابي أول تشريعٍ دنيوي يحاكي الدساتير الحديثة، لما جاءت به من قوانين وتشريعاتٍ سبقت كل قوانين الأرض ( الوضعية ).
وفي عصر نبوخذنصر بنيت الجنائن المعلقة. لتكون شاهداً على تقدم العراقيين في هندسة البناء والري. ثم تلاهم الكلدانيون فالآشوريون الذين بسطوا سيطرتهم على العالم القديم، فكانوا أول من اخترع العجلةَ، فامتد نفوذهم إلى النيل غرباً وآخر بلاد فارس شرقاً. ويوم اكتسح الاسكندر المقدوني الشرق، احتفى به الفرس وطلبوا منه أن يلتقي بسفراء الدنيا في عاصمة العالم القديم وقتذاك بابل. فاستغرب الاسكندر ان تكون هناك عاصمةٌ للدنيا غيرُ عاصمة بلاده أثينا. وفي بابل دس الفرس السم كعادتهم للإسكندر وقتلوه، حيث تم حرق جسده ونثر رماده في نهر الفرات. ولما وفدت آخر الحضارات إلى العراق... وفي عصر الإسلام وهي الدولة العباسية. حيث أصبحت بغداد آنذاك قبلةُ شعوب الأرض لتكون حاضرة الدنيا, عادة تفد الأجناسُ والملل من مختلف أنحاء العالم إلى المدن الشهيرة والتي يطبق اسمها الآفاق. وهكذا قُدِّرَ أن تسكن أرض العراق أجناسٌ ما زالت باقيةٌ حتى يومنا هذا ، ومنها ما زالت باقيةٌ ولكن بأعدادٍ قد لا تزيد عن الألفين أو ثلاثة آلاف. احتفظت بتركيبتها وحتى بطقوس أديانها. وهذا يفسر كثرة الأعراق والأديان والملل في العراق اليوم.(3/40)
ولعل أكراد العراق من هذه الشعوب التي سكنت الأطراف الشمالية الشرقية من العراق. قادمةٌ من مناطق القوقاز وغيرها، وبتأثير الدولة الصفوية العنصرية التي حكمت العراق ردحاً من الزمن أيام ضعف الدولة العباسية، دانت أقوامٌ بالمذهب الصفوي، وساد هذا المذهب الأطراف الشرقية من العراق وما لبث أن توغل إلى العمق العراقي.
نخلص إلى القول... هل يعطى الحق لمثل هذه الأعراق أو الملل أن تعتبر الأرض التي وفدت إليها أرضها بالتقادم. وتطالب باقتطاعها لتشكل عليها وطناً قومياً لها ؟ طبعاً لا... فالعراق أرضٌ قديمةٌ قَدمَ التاريخ. تكاد أن تكون حدودها موثقةٌ. ولم يحدث أن اتهم العراق بأنه ابتلع شبراً من أراضي الغير. لهذا فإن إثارة مشاريع الفيدرالية والتقسيمات، سيجلب إلى المنطقةِ كارثةً هي في غنىً عنها. ولعل دولة الشعوب الإيرانية ستكون المتضرر الأول من تقسيم العراق ، لإنها هي الأخرى خليطٌ من الأعراق والملل والأديان والأجناس، تنفرد بقيادتهم الأمة الفارسية القومية العنصرية، والتي لا يزيد عدد سكانها على الـ 25 مليون نسمة، مقابل 15 مليون كردي في الشمال الغربي لها الملاصق للعراق ، فيما تشكل الشعوب العربية والتركمانية والبلوشية والاذربيجانية بقية الدولة .
إذن... لا جدوى من الفيدرالية. فالغرباء لا يحق لهم تمزيق وحدة العراق.
[ لا للفيدرالية ، طلال معروف نجم ، موقع اذاعة العقاب 1/3/2005م ] .
ثالثاً : إن المشروع الأميركي لبناء (النموذج الديمقراطي المشع) في العراق، وهو الحجة الرسمية المتبقية للدعاية الأميركية بعد تهافت وانهيار الذرائع الأخرى، قد ينتهي إلى تحقيق الحلم الصهيوني في تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات طائفية وعرقية متناحرة حتماً، هي شمال كردي ووسط سني وجنوب شيعي ( أو الى أكثر من ذلك كما يحلو للدكتور واثب العامود في تصوراته عن الفيدرالية حتى غدا العراق ثوباً يختلف الخائطون في تفصيله كلٌ على هواه !! )، وهو ما سبق أن حذرنا منه مراراً وتكراراً وتخوف منه الكثيرون غيرنا ممن يحدوهم الأمل بألا تنتهي كارثة غزو واحتلال العراق إلى كارثة أعظم، وهي تفتيت وتقسيم هذا البلد العربي الكبير والعريق وإدخاله في دوامة حرب أهلية لا يعرف أحد متى يمكن لها أن تنتهي.
[ انظر : مصير العراق في ظل صدمة الفيدرالية وشبح التقسيم ، عبد المالك سالمان ، ( ص 1-5 ) بتصرف].
كلنا نذكر أن الحديث عن تقسيم العراق لم يكن وليد الساعة، بل بدأ منذ سنوات عدة، ومن أوائل من بدأ بتعميم تلك الفكرة هم الصهاينة، حيث كان ما ذكره وزير الخارجية الأمريكية السابق الصهيوني هنري كيسنجر حول ضرورة تقسيم العراق يمثل أنصع مثال على التدخل المباشر للصهيونية العالمية والداعمين لها من اليمين الأمريكي.
كما تبعت تصريحات الصهاينة من اليمين المتطرف الأمريكي حول تقسيم العراق دعوات مماثلة من قبل مستشارين في الإدارة الأمريكية ممن يشاركون في وضع ستراتيجات أمريكا العسكرية والسياسية. فقد دلتنا التجارب الخاصة بالسياسة الأمريكية في العقود القليلة الماضية أنه حين تكون الإدارة الأمريكية قد قررت المضي فيما نصحها به مستشاروها، تبدأ علامات ما ستقوم به الولايات المتحدة بالظهور على سطح الأحداث، وبشكل خاص في وسائل الإعلام الصهيونية المرتبطة باليمين الفاشي الأمريكي، وهذا ما حدث بالضبط حين بدأت دعوات تقسيم العراق بالظهور علناً. وبمتابعتنا لما كتبه الإعلام الصهيوني الأمريكي مؤخراً، وجدنا الكثير منه حول هذا الموضوع، وكان أبرز ما نشر عن تقسيم العراق في الآونة الأخيرة هما مقالين جديرين بالتوقف عندهما. أولهما كتبه «جون يو»، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا ـ بيركلي والباحث في منظمة اليمين المتطرف الإجرامية المعروفة بإسم American Enterprise Institute، في صحيفة «لوس أنجيليس تايمز» إقترح فيه تقسيم العراق إلى ثلاثة مناطق/أقاليم. علماً بأن «جون يو» هذا هو نفسه من إقترح على الإدارة الأمريكية مسبقاً بذر الشقاق بين فصائل المقاومة الوطنية العراقية من خلال إنشاء فصائل مقاومة وهمية تقوم بأعمال إجرامية بحق المواطنين العراقيين الآمنين الهدف منها تقليص الدعم الشعبي الواسع للعمليات النوعية التي تقوم بها المقاومة ضد قوات الإحتلال
.. وما شاهدناه على الأرض بهذا الخصوص، وبالذات في الأشهر القليلة الماضية كان خير دليل على ما كان «جون يو» قد إقترحه على الإدارة الأمريكية المتصهينة والموغلة في عنجهيتها وغطرستها وجبروتها.
والمقال المهم الثاني هو ما كتبه رجل القانون الأمريكي «ألان توبول» في نفس الأسبوع الذي نشر فيه «جون يو» مقاله عن تقسيم العراق. و«توبول» هذا عمل هو الآخر على مدى أربعين عاماً مستشاراً للإدارات الأمريكية ومنها إدارة بوش الحالية، حيث يعتبر واحداً من كبار منظري الستراتيجية العسكرية والسياسية لليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية.
وقد كان ما كتبه «توبول» مؤخراً في موقع Military.com الخاص بالجيش الأمريكي هو دعوة الإدارة الأمريكية إلى تقسيم العراق تماماً بنفس الأفكار والأسلوب التي دعى إليها"جون يو" كما نقلنا عنه ذلك آنفاً وهو يدل علة وجود توجه استراتيجي .
فعلى سبيل المثال، ذكر كلا الكاتبين بالتوافق، أو بالصدفة (لنسمها ما شئنا) أنه بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 كانت هناك 74 دولة مستقلة فقط، في حين أن عدد الدول المستقلة الآن هو 193 دولة !!! وهنا حاول هذان الكاتبان توجيه الأنظار إلى أن زيادة هذا العدد من الدول المستقلة !!! إلى 196 دولة سيكون حقيقة واقعة بعد تفتيت العراق إلى ثلاث دويلات. كما ذكرا وبكل وقاحة الدور الأمريكي بتفتيت الإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وعدد من دول أوربا الشرقية الأخرى مثل تشيكوسلوفاكيا (التي نتج عن تفتيها جمهوريتين تحملان الآن إسمي التشيك وسلوفاكيا)، على سبيل المثال. وينتهي كاتبا المقالين بالاعتراف أن أمريكا تسعى الآن وبكل قوتها إلى تفتيت العراق.
[ انظر : تقسيم العراق هدف أمريكي ـ صهيوني مسبق التحضير ، محمد العبيدي ، موقع هيئة علماء المسلمين ، قسم المقالات 1/9/2005 ] .
لم تكن المفاجأة في إصرار الأكراد على رفع سقف مطالبهم القومية، لتأكيد وترسيخ النزعة الرامية كهدف استراتيجي إلى تحقيق انفصال كامل لإقليم الشمال وتكوين دويلة كردية هناك، حيث بلغت هذه المطالب حداً غير مسبوق مثل المطالبة بجعل اللغة الكردية لغة رسمية موازية للغة العربية في العراق ككل، وليس في منطقة كردستان فقط، وكذلك المطالبة بوجود تمثيل كردي دبلوماسي مميز داخل السفارات العراقية بالخارج بأسلوب يكرس فكرة (الدولة داخل الدولة) تمهيدا لانتهاز أية فرصة قريبة مثل اندلاع اضطرابات في العراق أو نشوب حرب أهلية للمسارعة إلى إعلان استقلال كردستان، وهو ما تكرس عبر الإصرار على عدم حل الميليشيات المسلحة الكردية (البشمركة)، حتى بعد الاتجاه إلى بناء جيش وطني اتحادي جديد للعراق بعد جلاء الاحتلال الأميركي.
وهو الأمر الذي يعكس نية مبيتة للانفصال في أية لحظة، وقد جاءت المظاهرات الحاشدة التي تم تنظيمها في الأيام أخيرة في عدة مدن كردية في شمال العراق من قبل الأكراد والمطالبة بوضوح بضرورة انفصال كردستان ومنحها حق تقرير المصير لتحقيق استقلال الأكراد لتؤكد هذه النوازع الانفصالية، وأن الأكراد يركزون كل جهودهم من أجل تكريس فكرة انجاز الطلاق النهائي مع الدولة العراقية.(3/41)
وقد ظهر ذلك جلياً خلال مداولات كتابة الدستور العراقي الجديد، فقد أصر الأكراد على رفض إعطاء أي هوية عربية للدولة العراقية، ورفضوا بشدة قبول أن العراق البلد والكيان هو جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وطالبوا باعتبار العرب في العراق فقط (أي السكان العرب) هم فقط من يشكلون جزءاً من الأمة العربية في أول الامر ثم عدلت المادة لتُصيِّر من العراق عضواً فاعلاً ومؤسساً في الجامعة العربية وملتزماً بميثاقها !
وسخرت البيانات السياسية والخطابات الإعلامية للأكراد في الفترة الأخيرة من فكرة (الأخوة العربية - الكردية) وأكثر من ذلك فقد كثف الأكراد جهودهم من أجل انتزاع منطقة كركوك وضمها إلى إقليم كردستان بحجة أن غالبية سكان كركوك هم من الأكراد وأن العرب هناك يشكلون الأقلية وطبعا الهدف الأساسي هو الاستحواذ على ثروات كركوك النفطية التي تحتوي على معظم النفط العراقي في الشمال.
وبالرغم من أن هذه المطالب الكردية كانت شبه معلومة من قبل، إلا أن المفاجأة كانت في درجة الإلحاح عليها ومحاولة الأكراد استغلال الموقف والظروف الناجمة عن الاحتلال الأميركي للعراق، لمحاولة فرض واقع جديد يقود فعلياً لانفصال كردستان وفرض ذلك على بقية أجزاء العراق.
لكن المفاجأة الأعظم جاءت من الجنوب العراقي، عندما أظهرت قيادات سياسية شيعية، لأول مرة فكرة فصل جنوب العراق وطالبت بإنشاء إقليم شيعي في الجنوب والوسط العراقي يضم 9 محافظات ليكون إقليما شبه مستقل على غرار إقليم كردستان في الشمال، وواكب ذلك المطالبة أيضا بالاستحواذ على نفط الجنوب أسوة بمطالب الأكراد بالاستحواذ على نفط الشمال العراقي في كركوك وما حولها، وجاءت صيغة الفيدرالية لتشكل حصان طروادة الذي يمكن من خلاله تنفيذ مخطط تقسيم العراق على أساس عرقي (الأكراد في الشمال) وطائفي (الشيعة في الجنوب)، على أن يترك للسنة العرب في الوسط أن يتدبروا أمرهم حيث لا توجد اكتشافات نفطية ذات بال في مناطق الوسط حول بغداد وفي غرب العراق على الحدود مع الأردن وسوريا.
ولا يمكن فصل محاولات تقسيم العراق على هذا النحو على أساس عرقي وطائفي (الشمال الكردي، والجنوب الشيعي)، عن واقع التوزيع الطبوغرافي للثروة النفطية العراقية المكتشفة حتى الآن والتي تتركز في الشمال والجنوب.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لو أن الثروة النفطية العراقية تتركز في إقليم الوسط وحول بغداد حيث تتركز غالبية السنة العرب، كانت سوف تظهر مثل هذه المطالب الانفصالية لأكراد الشمال وشيعة الجنوب؟!
الأمر المؤكد هو أن الإجابة ستكون بالنفي، بل على العكس من ذلك ربما رأينا أهل الشمال والجنوب يزايدون على أهل الوسط من السنة العرب في التمسك بوحدة الدولة العراقية.
أما السبب الآخر المرجح لانفجار هذه المطالب الانفصالية المتدثرة بعباءة الفيدرالية (في الشمال والجنوب) فيمكن القول انه ناجم عن تأثير القوى الإقليمية وفي مقدمتها "إسرائيل".
فـ"اسرائيل" تطمح إلى إضعاف العراق وتفتيته لأسباب تاريخية وسيكولوجية تتعلق بمخاوف الصهاينة المتجددة من عقدة تدمير "الدولة العبرية" عن طريق غزو قادم من المشرق العربي، وبالتحديد من العراق على غرار محنة السبي البابلي لليهود في التاريخ القديم عندما أطاح البابليون العراقيون بمملكة "اسرائيل" القديمة وجروا الأسرى اليهود في سلاسل إلى العراق القديم ، ولكن هذه المرة تحت ظلال الإسلام والجهاد .
ومازال شبح الهجوم العراقي الزاحف من الشرق لتدمير "اسرائيل" من جديد يشكل هاجسا قائما في الوعي واللاوعي السياسي لقادة "اسرائيل".
ولذلك فمن هذا المنظور التاريخي يعتبر الصهاينة أي تفتيت أو تمزيق أو إضعاف للعراق بمثابة إبعاد لشبح تهديد مصير "الدولة العبرية" عبر غزو عراقي (بابلي) جديد.
ومن المنظور الاسترايتيجي العسكري المعاصر، فقد ظلت "اسرائيل" تخشى دوما من توحيد الجبهة العسكرية العربية والتي قاعدتها (التحالف أو الوحدة بين سوريا والعراق)، واعتبرت ذلك دوما يشكل خطرا جسيما على مصير "اسرائيل".
وقد كانت "اسرائيل" في غاية السعادة عندما استفحل واحتدم الصراع بين جناحي حزب البعث في دمشق وبغداد أبان حكم كل من الرئيسين حافظ الأسد وصدام حسين، وقد أدى ذلك إلى فشل محاولات توحيد القوة العسكرية العراقية والسورية في مواجهة "اسرائيل".
ولهذا ترغب "اسرائيل" في ألا تقوم للعراق قائمة مرة أخرى بحيث يظل احتمال التقارب العسكري السوري - العراقي أمرا غير ممكن، وليس بعيدا عن هذا التفكير الاستراتيجي الصهيوني قيام بول بريمر الحاكم الأميركي السابق للعراق بعد احتلاله بحل الجيش العسكري العراقي ، فقد جاء هذا القرار الأميركي من جانب بريمر (بالحل المفاجيء) للجيش بمثابة خدمة مباشرة للمخططات الصهيونية تجاه العراق.
والإصرار الكردي، الآن، على بلورة كيان قابل للانفصال في أية لحظة في شمال العراق وإعلان قيام دولة أو دويلة كردية هناك، لا يمكن وضعه فقط في سياق الطموحات القومية الكردية التاريخية المعروفة، التي قوبلت دوما بحسابات المناوأة من قبل المحيط الإقليمي، حيث لا تقبل أية دولة من الدول التي يوجد بها كثافة سكانية كردية بفكرة قيام دولة مستقلة للأكراد في أي منها خشية أن تؤدي إلى انفصال الأقاليم الكردية في تلك الدول وهي: (تركيا، إيران وسوريا وبالإضافة إلى العراق).
وفي خضم تداعيات المشهد السياسي في العراق منذ الغزو الأميركي للعراق، هددت تركيا بوضوح بأنه لو قامت دولة كردية مستقلة في شمال العراق، فإن تركيا سوف تقوم باجتياح الشمال العراقي لإجهاض هذا التهديد للأمن القومي التركي.
لكن الأمر المؤكد أن الأكراد في شمال العراق يحظون بتأييد غير محدود من جانب "اسرائيل"، التي تدعم فكرة قيام كيان كردي مستقل في شمال العراق يكون حليفا للدولة العبرية ويتناغم معها في مناهضة أحلام القومية العربية في المنطقة أو الأصولية الجهادية المتنامية .
والوثائق تشير إلى صلات تاريخية وثيقة بين الأكراد و"اسرائيل" منذ الستينيات حيث لعبت "اسرائيل" دوراً أساسياً في دعم التمرد الكردستاني في شمال العراق وإمداده بالأسلحة منذ عهد الزعيم التاريخي للأكراد الملا مصطفى البارزاني والد مسعود البارزاني أحد القطبين الكبيرين في زعامة الأكراد في الوقت الراهن بالإضافة إلى جلال الطالباني.
وقد أدت هذه التطلعات "الاسرائيلية" إلى اقامة كيان كردي حليف في شمال العراق إلى الاصطدام مع السياسة التركية وإضعاف علاقات التعاون الاستراتيجي بين تركيا و"اسرائيل" منذ الغزو الأميركي للعراق.
وقد كانت الدوائر الاستراتيجية التركية أول من تحدثت عن تغلغل "اسرائيلي" واسع النطاق في كردستان في أعقاب الغزو الأميركي للعراق، وهو الأمر الذي أماط عنه اللثام بشكل سافر الكاتب الصحفي الأميركي الشهير سيمور هيرش بعد ذلك في مجلة (النيويوركر).
وفي تقديرنا أن الدعم الاستراتيجي اللامحدود الذي تقدمه "اسرائيل" لفكرة انفصال كردستان العراق وإقامة كيان كردي مستقل في شمال العراق بحيث لا يعود العراق دولة إقليمية كبيرة ذات وزن وثقل استراتيجي، هو أحد الأسباب القوية وراء إصرار الأكراد على أن يتضمن الدستور العراقي الجديد فكرة إعطاء الأكراد حق تقرير المصير بعد ست أو ثماني سنوات (على غرار نموذج جنوب السودان أو استلهاما منه).(3/42)
فالأكراد يشعرون أن "اسرائيل" ستقف بقوة إلى جانب قيام دولة كردية في شمال العراق، وستعمل على توفير الدعم الأميركي لهذه الدويلة الجديدة رغم المعارضة التركية الجلية لها.
وفي تقديرنا، أن الأكراد بإصرارهم على الانفصال وتكريس فكرة الحق في تقرير المصير عبر الفيدرالية، والمطالبة بإجراء استفتاء على ذلك بعد عدة سنوات وهم واثقون من الانفصال بدليل أن استفتاءاً نظم في كردستان إبان الانتخابات الأخيرة أظهر فيه نحو 98% من الأكراد رغبتهم في الاستقلال والانفصال عن العراق، وهم إنما يرتكبون خطيئة تاريخية ويراهنون مرة أخرى الرهان الخطأ عبر توهم أن "اسرائيل" ستكفل لهم الحماية عندما تتحول دويلة كردستان في شمال العراق إلى كيان خاضع للحماية أو الوصاية الصهيونية.
إن الأكراد مطالبون بإعادة التفكير جيدا في قراءة الخريطة (الجغرا سياسية) الإقليمية، ومعرفة أن إقامة دولة كردية سيفتح عليها نيرانا إقليمية لا تنتهي وستجد تحالفاً ايرانياً سورياً تركياً عراقياً ضد هذه الدولة مما سيدخلها في دوامات صراع لا تنتهي.
كما أن على الأكراد استشفاف الدروس المستفادة من الغزو الأميركي للعراق، فأميركا بعد أن تدبر سيناريو خروج غير مهين من العراق، لن تفكر في العودة إليه ثانية، فلا يتوهم الأكراد أن قوات أميركية سوف تهبط في جبال كردستان مرة أخرى من أجل حماية الدولة الكردية المستقلة.
إن الرهان الحقيقي والخيار الاستراتيجي التاريخي لأكراد العراق هو في الحفاظ على روح التلاحم والأخوة الكردية ـ العربية في إطار أخوة الإسلام العظيم فهو الرابطة العظيمة التي ستبقى فوق كل حسابات سياسية مؤقتة أو أطماع ومطامح اقتصادية زائلة، وعليهم الاستفادة من حقيقة أن العراق هو أكثر دولة منحت الأكراد حقوقا ثقافية وسياسية وقومية في كل المحيط الإقليمي واعترف لهم بالحكم الذاتي الواسع الصلاحيات، وهو ما يمكن ترسيخه عبر تأكيد ذلك في دستور يحفظ وحدة العراق ولا يقود إلى تفكيكه أو تقسيمه، كما كشفت عن ذلك المداولات بشأن الفيدرالية في إطار الدستور الجديد.
وإذا كان النظام السابق قد عطل بنود قانون الحكم الذاتي للأكراد فانه بالإمكان الآن وأثناء صياغة دستور جديد أن يكفل تفعيل ذلك القانون ويضمن تطبيقه.وهنا لابد من القول أن هذه الحقوق الممنوحة للقومية الكردية هي ليست منحة أو منّة من أحد،فالكرد مواطنون عراقيون أصلاً لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم في هذا الوطن، وهي لا تقل عن حقوق وواجبات العراقيين العرب أو بقية طوائف المجتمع العراقي.ولا أحد يستطيع أن ينكر مواقفهم الوطنية في انجاز استقلال العراق ، وما قدموه من تضحيات في إطار الحركة الوطنية لا تقل شأناً عمّا قدمته باقي القوميات الأخرى المتآخيه دون تمييز أو تفريق فالجميع شركاء في هذا الوطن وان معيار المفاضلة يكمن في التعبير عن الولاء له والانتماء إليه .
لقد بات المصير العراقي مهددا ليس فقط بتأثيرات المشروع الاستعماري الأميركي والذي يتعرض للفشل بفعل المأزق الذي خلفته المقاومة العراقية للاحتلال الأميركي، ولكن أيضا بفعل المخططات والأطماع الاستراتيجية للقوى الإقليمية، وهو ما زاد من مخاطر تعاظم حدوث سيناريو شبح التقسيم العرقي والطائفي في العراق.
لكن أي محاولة لتكريس واقع هذا التقسيم عبر الدستور الجديد الذي مرر بارادة امريكية بعد أن رفضته محافظات( الانبار/ الموصل / صلاح الدين / ديالى / السماوة / الديوانية ) بأغلبية ساحقة، سوف تقود إلى نشوب حرب أهلية طاحنة لا سامح الله أو الى مزيد من الوهن والمشاكل والاضطرابات ولو لم يكن على شكل حرب أهلية مفتوحة لأننا ما زلنا نثق بوعي العراقيين من أن ينزلقوا اليها .
فأهل السنة في العراق لن يقبلوا بسيناريو التقسيم، وسيتلقون فيما لو خرج الأمريكان من العراق دعما عربيا غير محدود، ولن يقبلوا بفكرة استئثار أكراد العراق بنفط كركوك والشمال وشيعة الجنوب بنفط البصرة والجنوب العراقي [ نتألم كثيراً عندما نضطر الى ذكر هذه التسميات الطائفية ، لكنه واقع مفروض اليم علينا مواجهته بروح متألقة ] ، كما لن يقبلوا بفكرة انهيار (الدولة العراقية الموحدة).
وإذا لم يتدارك أكراد وشيعة العراق _ ومنهم الدكتور العامود ! _ مخاطر السير في سيناريو تقسيم العراق عبر فكرة الفيدرالية، فإن الرهان على إمكانية أن تحمي أميركا النزعات الانفصالية بعد انسحابها من العراق سيكون رهانا خاسرا وعقيما ووخيم العواقب، وقد يفتح أبواباً من الجحيم لا أحد يستطيع التنبؤ بمساره أو تداعياته الخطيرة والتي لن تنتهي حتما بنجاح سيناريو التقسيم.
إن قدر العراقيين هو العيش معا في إطار دولة موحدة تحترم وتصون التنوع الثقافي والعرقي والطائفي، وتكفل تقاسم ثروة العراق النفطية وثرواته الأخرى في إطار من العدالة والمساواة، وإزالة أخطاء الماضي في هذا المجال، وذلك في إطار نظام العدالة التعددي وليس في سياق محاصصة عرقية وطائفية لن تقود إلا إلى دمار وخسارة الجميع.
وعلى القيادات السياسية في العراق أن تتحلى بروح المسؤولية التاريخية والوطنية وتنظر ببصيرتها إلى الأفق البعيد، إلى ما بعد خروج قوات الاحتلال الأميركي، فلا مستقبل إلا في إطار العراق الموحد أما الرهان على مؤازرة قوى خارج العراق فلن يكون مصيره إلا الفشل.
فالعراق الموحد الحر القائم على التعايش بين الثقافات والانتماءات وتعميق التآلف والوحدة الوطنية والمنتمي لروابطه التاريخية المتمثلة في العروبة والإسلام هو الطريق الوحيد لبناء العراق العصري الذي يتطلع إليه كل العراقيين على مر السنين.
[ انظر : مصير العراق في ظل صدمة الفيدرالية وشبح التقسيم ، عبد المالك سالمان ، ( ص 1-5 ) بتصرف].
رابعاً : وفق المقاييس والمعايير الموضوعية نلاحظ إن مطلب الفيدرالية كما طرحت مشروعه وتصر عليه القيادات الكردية وأكثر القيادات الشيعية هو أقرب إلى الكونفدرالية واتحاد دولتين ذات سيادة منه إلى الفيدرالية بين أقاليم دولة واحدة ، مما يثبت عدم ملاءمته لظروف شعبنا وتطلعاته المستقبلية .
وهي لا تعني المطالبة بها في ظل الظروف التي يمر بها القطر سوى تقطيع كيان العراق الجغرافي وتمزيق أواصر وحدته الوطنية وإضعاف عوامل هيبته السياسية ، فخطورتها تكمن في إن الدول الفيدرالية إذا ما تفككت لأي سبب كان مستقبلاً فإنها ستنقسم إلى كيانات ودول جديدة على أساس المقاطعات الفيدرالية المكونة لها سابقاً وهذا مالا يرضاه كل مواطن عراقي غيور .
[ الفيدرالية وإمكانية تطبيقها في العراق ، د عبد علي محمد سوادي ( ص 8-9 ) بتصرف/ شبكة النبأ المعلوماتية ] .
خامساً : المشروع المطروح للفيدرالية، والذي فصل في عدد من مواد مسودة الدستور، يضع نهاية للكيان الوطني العراقي ولهوية العراق العربية، ويدعو إلى تقسيم طائفي للعراق. وهذا المشروع يهدد كل الكيانات الوطنية العربية الكبرى، التي لا تخلو جميعها من تعددية إثنية أو دينية.
ما يشهده العراق اليوم هو تطور غير مسبوق في تاريخ الجماعات العربية الوطنية منذ ولادتها قبل زهاء قرن من الزمان. لم يسبق أن وقفت قيادات سياسية تدعي الحديث باسم كتلة رئيسة من كتل الجماعة الوطنية، كما تقف القيادات الشيعية العراقية، لتطالب بكيان منفصل لهذه الكتلة.(3/43)
ويجب ألا يخطئ أحد في مطالب بعض القيادات الشيعية العراقية؛ فهي مطالب انفصال بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فالفيدرالية الشيعية تشمل كل محافظات جنوب العراق، من بغداد إلى البصرة؛ وما توفره مواد مسودة الدستور على صعيد توزيع الثروة، ومنح الكيانات الفيدرالية (حقوق حفظ الأمن والتشريع والتمثيل الدبلوماسي)، يؤسس لتقسيم فعلي يمكن أن يتحول إلى تقسيم نهائي ورسمي في المستقبل.
في العراق، ستفتح الفيدرالية الشيعية الباب لتطهير طائفي دموي؛ فلا الجنوب شيعي خالص ولا الوسط والشمال سنيون خالصون. بل إن الوجود السني في الجنوب، لاسيما في مناطق البصرة والكوت والناصرية والحلة والصحراء جنوب الفرات، هو وجود كثيف وعميق الجذور. ذلك أن التحول إلى التشيع بين العشائر الجنوبية هو ظاهرة حديثة نسبياً، لا تتجاوز القرن إلى القرنين من الزمان، وهذا التحول لم يكن مكتملاً.
وإذا أخذنا التوجهات الطائفية الحالية لدى بعض القوى الشيعية السياسية في الاعتبار، فلنا أن نتصور أن الفيدرالية ستقود حتماً إلى تطهير طائفي في الجنوب. ولعل القمع الأمني الدموي الذي تعيشه منطقة المدائن وجوارها ليس إلا محاولة لكسر الحزام السني جنوب بغداد، يحركها تصور لربط الكيان الشيعي في الجنوب بالكتلة الشيعية في العاصمة. التطهير الطائفي في الجنوب سيؤدي إلى تطهير طائفي في الوسط والشمال، لاسيما في مناطق بلد وتلعفر وكركوك، وإلى صراع دموي في بغداد.
بيد أن التقسيم الطائفي لن يقتصر على العراق. فمن دول الخليج إلى شمال شرق السعودية، أي في الجوار العراقي نفسه، حيث توجد أقليات عربية شيعية، لا يمكن بأي حال من الأحوال استبعاد انفجارات طائفية متلاحقة.
بل إن مؤشرات التوتر الطائفي تكاد تكون واضحة تحت سطح الوضع البحريني السياسي. سيكسر الانفجار السني–الشيعي في العراق والخليج حرمة الجماعات الوطنية العربية، وقد يبث حياة جديدة في مشاريع تقسيم إيران وتركيا إلى كيانات قومية، وتأسيس كيان علوي في سوريا وجنوب تركيا، وتقسيم السعودية إلى كيانات شيعية ونجدية وحجازية، وإقامة كيان بربري في المغرب العربي، وهكذا.
هذه المنطقة من العالم تربطها أواصر ثقافية وسياسية وتاريخية، وليس ثمة حدث أو متغير كبير في إحدى مناطقها يمكن عزله عن بقية المناطق. والفيدرالية الطائفية في العراق هي حدث وتطور كبيران في واحد من أهم بلدان المنطقة وأكبرها.
ما يدفع القيادات الشيعية إلى المطالبة بتأسيس كيان شيعي هو مزيج من المصالح الضيقة، والشعور المتزايد بعدم قدرتها على التحكم في العراق كله، والتغافل عن تاريخ العراق والقوى الحاكمة لتاريخه الطويل ، وفي حين من الضروري عدم تجاهل الدعم الذي يجده مشروع الفيدرالية من العراقيين الشيعة في الجنوب، لا تنبغي المبالغة في هذا الدعم أو في إمكان استمراره.
ففترات الحروب والاحتلالات الأجنبية وعدم الاستقرار السياسي والمعاشي هي بطبيعتها فترات خوف جماعي وشعور متزايد بالحاجة إلى الحماية واعتزال مصادر الاضطراب والقلق. ومشروع الفيدرالية الشيعية يؤسس الآن على هذا الخوف الجمعي، وعلى وعود وهمية بالاستقرار الانفصالي والرفاه.
لإفشال هذا المشروع يجب أن تتضافر جهود عراقية وعربية معاً؛ جهود سنية وشيعية على السواء. ينبغي كشف وتعرية التوجهات الطائفية الشيعية التي تهدد وحدة الجماعة والأمة، والتوجهات الطائفية السنية الوافدة أو المحلية التي تستخدم عصا التخويف لشيعة العراق. ينبغي إدراك المخاطر التي يحملها هذا المشروع الانقسامي على مستقبل العراق والعراقيين، وعلى مستقبل المنطقة ككل، بكل تنوعها الطائفي والإثني.
كما ينبغي التصدي للأساطير التاريخية التي يجري توظيفها من أجل تسويغ مخطط يوشك أن يأخذ العراق والمنطقة إلى حقبة طويلة من الموت والدمار.
[ انظر : الفيدرالية وتفكيك الجماعة الوطنية العراقية ، بشير موسى ، موقع المعرفة ، الثلاثاء 9/8/1426 هـ - الموافق13/9/2005 م ، بتصرف ] .
سادساً : الموارد في الدولة الفيدرالية بحسب الدستور الجديد : إن الدستور تحدث عن مركزية توزيعها، الا انه قصر ذلك على الموارد المستثمرة حاليا وسكت عن التي ستستكشف لاحقا، وهذا ما سيكون بذرة لنزاعات مستقبلية. الا انه قبل ذلك يجب ان يكون حرصا حقيقيا على هذه الموارد، اذ ما لم يحدث توقف او تقليل فعلي للتخريب الذي يلحق بأنابيب النفط وشبكات الطاقة والبنى التحتية بسبب الاعمال المسلحة، فلن يكون هناك من العائدات والموارد ما يستحق اقتسامه.
[ مسودة الدستور العراقي: ملاحظات أولية ، جريدة الشرق الأوسط ، الأحد 23 رجب 1426 هـ 28 اغسطس 2005 العدد 9770 ] .
من ناحية أخرى : طالب خبراء عراقيون بتعديل الدستور لتفادي انعكاسات سلبية على الصناعة النفطية , منهم الوزير السابق السيد غضبان , وقد وجهوا الرسالة المفتوحة الى رئيس الجمعية الوطنية ( حاجم الحسني ) للاعتراض على فقرات الدستور .
المواد الدستورية قسمت نفط العراق اجمالا على جغرافيا , بحيث يصبح كل جزء جغرافي له دفع سياسي وفق ما تكون حصته في الكعكة بصورة عامة.
فعليه التنافس بين الاقاليم اصبح مبرمجا وفق توزيع القرار الاقتصادي السياسي.
هنا وجب طرح سؤال مهم : هل ان هذا التنافس سيكون سلبياً ام ايجابيأ؟ لكي تتصدى الجمعية الوطنية بقرارات تشريعية تمنع السلبية وتبقي على الايجابية.
من اخطر سلبيات تلك المنافسة بين الأقاليم هو التنافس من اجل الحصول على المستثمر الأجنبي. أي كل إقليم من الأقاليم يقدم نفسه الأرخص بين الأقاليم لكي يجذب المستثمر.
السلبية الأخرى, هي ضعف الموقف التفاوضي بالنسبة للحكومة الاتحادية أمام شركات النفط العملاقة منها الأجنبية والوطنية.إذا كان للحكومة الاتحادية حق النقض , (كما لرئيس الولايات المتحدة),على أي عقد من عقود النفط التي تبرمها الفدراليات, قد تم دفع البلاء المحتمل.وحلت محله مصلحة الشخص العراقي, ذلك يتم بتوقيع الحكومة الاتحادية على العقد المقدم من قبل الشركات ,التي تقدم أكثر لكل جنسية عراقية أي الى خزينة الحكومة الاتحادية. هنا يصبح التنافس بين الأقاليم من مصلحة الحكومة الفيدرالية بما فيها قوتها التفاوضية أمام المستثمر.
[ انظر : هل ضيع دستورنا الفدرالي نفطنا؟ الدكتور لطيف الوكيل ، موقع بحزاني للحوار ( ص 1-2 ) ] .(3/44)
أيضاً ومما له علاقة بالموارد ما طرحته بعض الأطراف العراقية خلال مناقشات الدستور حول موضوع تقاسم المياه او حق التحكم بها من قبل بعض الأقاليم الفيدرالية. وكانت مشكلة المياه قد برزت بشكل حاد في الثلث الأخير من القرن الماضي، عندما بدأت تركيا في إقامة سدود ضخمة علي نهر الفرات ـ أكبرها سد اتاتورك ـ مما ادى الي خفض نسبة المياه المتدفقة نحو سوريا والعراق الي درجة خطيرة، وارتفاع نسبة التلوث في النهر وميزت تركيا ـ وهي الدولة الوحيدة في ذلك ـ بين الأنهار الدولية والانهارالعابرة للحدود للهروب من الاتفاقيات الدولية الخاصة بالأنهار مثل اتفاقية هلسنكي »1966« وإعلان فيينا عام 1978 اللذين نصا علي عدالة توزيع واستثمار المياه، وامتناع الدول عن تحويل مجري النهر او إنشاء خزانات او سدود علي مجري النهر من شأنها خفض حصة دولة اخري، واعتبرت نهري دجلة والفرات انهارا عابرة للحدود وليس انهارا دولية وكان أول من أثار قضية المياه في العراق في الفترة الحالية هم الأكراد الذين طالبوا بحق استثمارها من قبل ادارة الاقاليم الفيدرالية اخذين في الاعتبار تعدد مصادر المياه في الشمال العراقي »كردستان« وارتفاع نسبة تساقط الأمطار بها إضافة الي كثافة تساقط الثلوج بكمية وفيرة، وهو ما يؤدي الي تشكيل العديد من الينابيع والروافد التي تصب بمجملها في دجلة وتشكل احد اهم مصادره ومنح الأقاليم الفيدرالية حق التصرف بالثروة المائية سيؤدي الي مقايضة المياه مع بقية أقاليم العراق بأثمان اقتصادية وسياسية عالية القيمة في المستقبل.أما ادارة الثروة النفطية فهي بدورها موضوع حساس فعوائد النفط هي الأساس في الحياة الاقتصادية للدولة العراقية، وسلطة القرار في إدارة هذه الثروة غير واضحة في الدستور، فمركز القرار غامض، وهناك تداخل بين سلطات الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات وهو ما قد يؤدي الى بروز مشاكل ونزاعات وصراعات في المستقبل بين المحافظات والأقاليم حول استثمار الثروة النفطية، وحول الآبار المنتجة للنفط والتنقيب والاستكشاف .
[ دستور العراق.. خطوة للأمام أم للخلف ، حسين عبد الرازق ، جريدة الوفد المصرية ، السبت 29 أكتوبر 2005] .
نحن نخشى من انتخاب مجالس أقاليم يسيطر عليها بعض الأفراد وعوائلهم بصورة مستديمة ليتحكموا في مقدرات الإقليم المالية ومشاريعه وعقوده مع الشركات المحلية والأجنبية ويمضي الوقت وتضخم الأموال ويسيطر هؤلاء على الأجهزة الإدارية والقضائية والأمنية وتبرز مع الوقت رموز استبداد تتحكم بالإقليم مدى الدهر تحت واجهة الديمقراطية والفيدرالية وتتحول الأجهزة الى جزء من هرم استبدادي غير معلن يخدم القمة. هل فكرتم في كيفية توزيع الثروة القومية للوطن العراقي على الإقليم؟ أهي حصص سيجري الاتفاق عليها عشوائياً في المجالس ام هي مستلزمات اقتصاد دولة تفرض نفسها بالأرقام والدراسات السنوية المتغيرة؟ اذا قلت بحصة للإقليم فهذا يعني ان منتسب الإقليم سينتفع بمشاريع وخدمات حصة إقليمية فضلاً عن المنافسة في الانتفاع بحصة إقليم آخر كبغداد مثلاً (ياكل من جهتين)، ومن جهة أخرى فإنه تكريس للطائفية وإشعال فتيلها بهذا الشكل سيقود الى مغادرة السني للإقليم الشيعي ومغادرة الشيعي للإقليم السني بعد استحالة التنافس الحياتي في الإقليم.
إن اللعبة لن تنطلي على احد إذ أن مشروع التقسيم لازال قائما وحاضراً بقوة ليس عبر الفدراليات فحسب بل عبر موضوع تقاسم الثروات فهو التقسيم الحقيقي للبلاد أيضاً ، حيث ان توزيع الثروة حسب الأقاليم او المحافظات يلغي تماما ملكيتها القومية للعراق الموحد الذي سيكون مجرد كيان هش يتلاعب بمصيره أمراء الطوائف وسراق الثروات والمتحكمين بها ، لذا فالكل الآن يريد حصته الأكبر منها لإيجاد الأرضية المادية لحالة التقسيم فيما بعد ، فان بدا ظاهريا انهم قد يتنحون مؤقتا عن موضوع التقسيم العاجل للعراق عبر جغرافيته التي وضعوا لها خصوصيات مصطنعة فإنهم يمضون في تقيسمه عبر قاعدته المادية وثرواته القومية الأمر الذي سيحول مسألة التقسيم الى واقع حال عبر التنازع على الثروات والاقتتال من اجلها ولا يتطلب الأمر عندها اي جهد لعملية التقسيم إذا ما أريد لها أن تقر يوما ما لا سامح الله.
[حقيقة تقسيم العراق.. ولعبة الدستور ، موقع جريدة البصائر / قسم المقالات ( ص3 ) ] .
سابعاً : من الناحية الشكلية أو القانونية لا تتناقض الفيدرالية مع وحدة الدولة وسيادتها , ولكن من الناحية الفعلية, وفي الشرط العراقي خاصة , نرى حالة غريبة بالنسبة للتجارب الفيدرالية المؤسسية التي تمت في العالم , وهذه الغرابة تتمثل في أن الفيدرالية قد قامت في البلدان القارية أو البلدان الواسعة والممتدة الكبيرة انطلاقا من المقسم إلى الأكثر توحيدا , في حين أنها تتم الآن في الشرط العراقي من الموحد إلى المقسم , وتتضاعف هذه المشكلة مع حقيقة أن مفهوم فدرلة العراق او تحويله الى فدرالية يرتبط باضعافه كدولة في محيطه الاقليمي , وهنا نتذكر كيف ان فرنسا , وهي الدولة الام في نموذج الدولة الأمة , قد اشترطت تقسيم المانيا أو جعلها فدرالية بعد الحرب العالمية الثانية كي تقضي على قوتها داخل المجال الأوروبي في تلك الفترة , بالطبع المانيا استطاعت أن تعيد حضورها وان تنسق مع الفرنسيين وان يشكلا معا قاطرة الاتحاد الأوروبي لاحقا الأمر الذي يعجز العراق عنه .
أضف أن الفيدرالية في العراق مطروحة اليوم على أساس اثني وإذا قامت على هذا الأساس فانها لابد ان تفرز حروبا اثنية واقوامية ومذهبية لايستطيع احد ان يتكهن بنتائجها ولكن الفدرلة الاثنية شيء والفدرلة المناطقية الجغرافية شيء اخر, فالمجتمع العراقي مايزال في طور استكمال هويته الوطنية وتدعيمها وهذا يحتاج الى الانتماء الى دولة واحدة موحدة .
[ موقف الأكراد والمحللين السوريين من الفيدرالية الكردية في العراق ،وحيد تاجا ، موقع الاختلاف ثروة ، ( ص3 ) ، 20 آذار، 2004 ]
ثامناً : الفيدرالية شكل إداري لا يرقى الى الحل السياسي , ويمكن استخدامه كوسيلة لبسط النفوذ السياسي لهذا الحزب أو ذاك على صعيد السلطات المحلية تمهيدا لفرض ديكتاتورية مقنعة برداء ديمقراطي براق !!
تاسعاً : إن تكوين دولة فدرالية ثلاثية تقوم على أساس طائفي وقومي في الشمال والجنوب والوسط، سيؤدي إلى إيجاد مناطق إدارية تملك نوعاً من الاستقلال الذاتي خاصة بالأقليات الأخرى داخل الدولة (كانتونات) .
وبذلك يتمزق العراق ويقطع لتحقيق الأهداف المشتركة للتحالف الأمريكي الصهيوني مع اطماع بعض دول الجوار، وهذا بالاساس هدف صهيوني إذ أن الصهاينة كانوا أول من أطلق فكرة إن العراق دولة مصطنعة، وان تركيبتها الاساسية التي تبلورت عام 1920 كانت تركيبة خاطئة ولا بد من اعادة صياغته وفق تقسيمات طائفية وعرقية.
فقد تحدث بها المؤرخ الاسرائيلي (بيني موريس) في لقاءات للاذاعات الأمريكية قبل الحرب على العراق قائلاً ((بان العراق دولة مصطنعة رسمها الانكليز وخلط فيها عشوائياً شعوباً وطوائف لا تريد في الحقيقة ان تتعايش مع بعضها))
كما تحدث عنها المؤرخ اليهودي الأمريكي (برناردلويس) معتبراً أن العراق هو دولة مصطنعة، وان احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، أي تفكيكه إلى عدة دويلات بحسب الطبيعة السكانية، وانتماءاتها الدينية والعرقية.(3/45)
ونشرت مجلة (كيفونيم الإسرائيلية) مقالاً للمنظمة العالمية الصهيونية بالقدس (العدد 14 شباط 1982) جاء فيه عرض لاستراتيجية إسرائيل في الثمانينات لتقسيم وتفتيت وتجزئة الدول العربية إلى اقاليم جغرافية متباينة على أساس عنصري أو ديني، وأعطت الأولوية إلى تفكيك العراق الذي يمثل على الأجل القصير أخطر تهديد لإسرائيل.
وقد علق عليه الفيلسوف الفرنسي المسلم (روجيه غارودجي) قائلاً: (وفي هذا النص كشف واضح للأساليب التي تنوي إسرائيل إتباعها من أجل التدخل المنظم والعام ضد أنظمة الحكم في جميع البلدان العربية بغية تفكيكها وتفتيتها مما يتجاوز نطاق كل الاعتداءات السابقة، ومشروع بمثل هذه الضخامة تؤيده الولايات المتحدة الأمريكية تأييداً غير مشروط وغير محدود..)) ! [ ملف إسرائيلي، دراسة للصهيونية الاساسية، ص 160-163 ] .
[ وانظر : فدرالية تقسيم العراق ، موقع جريدة البصائر ، قسم المقالات ( ص3) ] .
الخلاصة : إن مشروع الفيدرالية في العراق نقيض لرابطة الدين والدم واللغة والثقافة والمصالح والأهداف المشتركة، وقد يؤدي إلى حروب أهلية وفتنة كبرى لا يعلم مداها إلا الله ، وسيخسر العراقيون جميعاً كما خسرت الأمة من قبل في اتفاقية (سايكس بيكو) المشؤومة سنة (1916) التي مزقت امتنا شر ممزق، وقطعت أوصالها وأصبحت فريسة للاستعمار تلتهمها بكل شراهة ووحشية ببدعة القوميات والموالاة والتبعية، ولا زالت تعيش آثار هذه المؤامرة الاستعمارية وتئن من وطئتها ذليلة في دويلات صغيرة وضعيفة ترزح تحت وصاية الاستعمار وهيمنته إلى يومنا هذا.
إن هذه الرؤية التجزيئية للمجتمع العراقي تعبر عن هوس تحكمه العواطف وردود الأفعال وضيق الأفق والمزايدات السياسية وقوى الاحتلال وأذنابه لنحر العراق وأهله بيد جزار كافر صليبي، ولكن بعض الساسة لم يستفيدوا ويعتبروا بحوادث التأريخ ? خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ? [البقرة : 7].
[ السابق ( ص4) ] .
الرافضون يرون بانها صيغة تجميلية للتقسيم أو التفكيك وأنها ستكون مجالا لنفوذ دول الجوار، فيما صرح سكنة المناطق الغربية بمخاوفهم بأن تظل لهم الصحراء، اذ ان النفط سيكون في اقليم الجنوب وكركوك، هذا اضافة لمصادمة الفيدرالية لطبيعة شكل الدولة والامة في الاسلام لهذا فالخلاف جوهري وحقيقي وهذه الهواجس تظل مشروعة ، اذ ان كل الحروب والنزاعات انما تنشب على ما هو أقل من ذلك .
* السياسة الأمريكية في التفكيك والتقسيم
الخطط الأمريكية:
لم تكن الخطط الأمريكية الساعية إلى تقسيم دول العالم الإسلامي ومن بينها العراق وليدة الوقت الحاضر، بل هي مشاريع حاضرة في مراكز الأبحاث الأمريكية وأذهان السياسيين الأمريكيين منذ القديم، حتى أن 'هنري كيسنجر' أحد أشهر السياسيين الأمريكيين كتب في مذاكرته: 'من يريد السيطرة على الأمة العربية والإسلامية عليه أن يدمر إرادة الأمة العراقية فهي الحلقة الرئيسية فيها'، وفي الثامن من مارس العام الماضي [عام 2004] أعلن هنري كيسنجر عبر برنامج حوار [Hart Toke] في هيئة الإذاعة البريطانية [BBC] أن العراق يسير باتجاه مصير يوغسلافيا السابقة, ودعا كيسنجر في مرات عديدة بعد احتلال العراق إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب.
وفي عدة لقاءات مع 'بول بريمر' إبان توليه الحكم الأمريكي للعراق أكد أن مشروع الفيدرالية هو من الأولويات التي تسعى واشنطن لتحقيقها في العراق، وبالتأكيد فإن هذه الفيدرالية لا يقصد منها في حقيقة الأمر إلا تقسيم العراق .
أولاً: تعريفات:
التقسيم السياسي للدول؛ مصطلح معروف ومتداول ومعناه ظاهر للأفهام. أما التفكيك؛ فنعني به: سعي قوة خارجية إلى سلب قدرة نظام ما على نَظْم القوى السياسية الداخلية - عرقية أو طائفية أو سياسية - في عقد واحد ينبثق من عقيدته السياسية.
وبمعنى آخر؛ فإن التفكيك مرادف لانفراط العقد الداخلي، وتداعي مركزية النظام وسيطرته على القوى الداخلية. وينبغي الانتباه إلى أن التفكيك بهذه الوضعية لا يماثل الانهيار، بل هو مرحلة سابقة عليه، وفي حال نجحت القوة الخارجية في إحداثه؛ فإنها يمكن أن تحافظ على الاستقرار الداخلي بإعادة تركيب القوى الداخلية وفق نظم خاص بها.
ثانياً: الأهداف الأمريكية في العالم الإسلامي:
لماذا تريد الولايات المتحدة أن تفكك أو تقسم الدول الإسلامية؟ الإجابة عن ذلك تتضح من خلال خمسة أهداف، اثنان منها يتعلقان بالدولة الصهيونية، ويتحددان وفق مصالح دينية وسياسية مختلطة، وهذه الأهداف هي غاية ما يريده الأمريكيون، وليست أهدافاً مرحلية:
1 - تدشين القوة الأمريكية كإمبراطورية معاصرة تسيطر على دول العالم التي لا تعتنق الحضارة الغربية.
2 - ضمان أن تفقد الدول الإسلامية أي قدرة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو ثقافية على مواجهة أو تهديد أمن «إسرائيل» وسلامتها، والفقد هنا ينبغي أن يكون شاملاً ودائماً.
3 - التهيئة لدولة «إسرائيل» الكبرى وإقامتها وفق الحدود والتعاليم التوارتية، أو قوة «إسرائيل» العظمى وفق الحدود الحالية، وفي النطاق العربي والإسلامي.
4 - يتعلق بالإرهاب؛ الوصول بالدول الإسلامية إلى حالة العجز الكامل عن تخريج حركات إسلامية «متطرفة وإرهابية» حسب المفهوم الأمريكي، عن طريق إصابة الشعوب بالعقم الديني والثقافي والسياسي؛ بما يقلل من أي احتمال لانبعاث إسلامي يهدد المصالح الأمريكية.
5 - ضمان استمرار الدول الإسلامية مصدراً مأموناً للمواد الأولية وفي مقدمتها البترول، وسوقاً استهلاكية مفتوحة للمنتوجات الأمريكية.
ثالثاًً: التفكيك السياسي وليس التقسيم؛ هو المرحلة المقبلة (على رأي البعض ) :
تقسيم بعض الدول الإسلامية هو وسيلة ـ أمريكية ـ وليس غاية، والغاية ما ذكرناه سابقاً، وإن كان التقسيم وسيلة جذرية لتحقيق المقصود؛ إلا أنها تبقى غير عملية في كل وقت لأسباب كثيرة:
- هناك دول إسلامية غير قابلة للتقسيم؛ من حيث عدم وجود تمايز عرقي أو طائفي داخلها.
- كثير من الدول القابلة للتقسيم لا يشترط أن يتوفر فيها عوامل أساسية ـ مُحفزة ـ؛ توفرت في النموذجين العراقي والأفغاني ـ الأكثر عرضة لخطر التقسيم ـ؛ مثل القمع الداخلي، وتمايز الأقليات جغرافياً، أو حتى توفر معارضة سياسية ناشطة ذات مطالب انفصالية واضحة.
- في بعض الحالات، مثل السودان، يكون التقسيم مطلباً مرفوضاً، فقد أبدى جون جارانج ذو التبعية الأمريكية( في وقت سابق ) رغبة واضحة في الحفاظ على وحدة السودان، وهذا يعني أن تقسيم الدين يأتي في مرتبة متقدمة على تقسيم الدولة في المفهوم الأمريكي.
- التقسيم بدون إعدادت مسبقة قد يؤدي إلى حالة من الفوضى يعتبرها الأمريكيون المجال الخصب لنشأة الحركات «الإرهابية» في زعمهم؛ حيث تكثر الكيانات ذات السيطرة المركزية المحدودة، كما أنه يتطلب تغطية عسكرية مكثفة قد لا تتوفر في ظل التجربتين الأفغانية والعراقية، كما أن الدول الغنية بمواردها مثل العراق؛ لن يستقيم الانتفاع بثرواتها في ظل فوضى سياسية وعسكرية.
- لا توجد سيناريوهات مقنعة إلى الآن لتنفيذ انتقال تعسفي من مرحلة الدولة الواحدة إلى كيانات متعددة، وهو ما يقوي الحاجة إلى مرحلة انتقالية تحقق جل فوائد التقسيم دون التعرض لمفاسده.(3/46)
وكان التفكيك السياسي - بدون احتلال عسكري - هو المرحلة الملائمة للواقع الإسلامي، وخاصة أنه أسلوب يناسب الدول كافة؛ كونه: يتضمن ليس فقط الدول ذات التمايز العرقي والطائفي؛ بل ذات التمايز السياسي والقبلي أيضاً، كما أنه يوفر القوة العسكرية لمناطق أخرى، ولا يسبب التورط فيه أزمات داخلية أمريكية.
لكن في المقابل يبقى التفكيك مرحلة انتقالية لما بعدها، يعني التقسيم إلى دول وكيانات صغيرة، أو إعادة رسم الحدود بين الدول الحالية. وننبه إلى أمر مهم، وهو أن الأمريكيين لا ينظرون في هذا الصدد إلى أي دولة بوصفها واقعاً، وإنما بوصفها قدرة؛ بمعنى أنه قد تكون دولة ما حليفة لهم في الوقت الحالي، وهذا واقع، ولكن الدولة نفسها بوصفها قدرة تصنف خطراً محتملاً على المصالح الأمريكية لمجرد كونها إسلامية، واحتمالات التفكيك والتقسيم تعنى - فقط - بقدرة الدولة، وليس واقعها، وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير كثير من المتناقضات في الأداء السياسي الأمريكي، بل والأوروبي مع دول مثل تركيا والسعودية.
رابعاً : آلية التفكيك السياسي في الدول الإسلامية:
تملك الولايات المتحدة أوراق ضغط كثيرة على الدول الإسلامية، بعضها للأسف سُلمت من قِبَل هذه الدول عن طواعية؛ لذا تبقى المسؤولية موزعة بين طغيان الأمريكيين، وتخاذل المسلمين.
ويمكن بلورة مراحل التفكيك السياسي وصوره في النقاط الآتية:
أ- القوة العسكرية:
وهي الوسيلة الآكد في هذا المجال، ولكن الإشكالية الأزلية في العمل العسكري ليست هي تحقيق المكاسب، وإنما الحفاظ عليها بعد ذلك، وفي العراق وأفغانستان يمكن تلمس الخطوات الإجرائية التي قامت بها الإدارة الأمريكية: إيجاد المسوِّغ لضربة عسكرية ـ تنفيذ عملية احتلال قوية وسريعة ـ إقامة نظام سياسي داخلي صوري، على رأسه زعماء لهم صلة بالمخابرات الأمريكية أو وجودها العسكري ؛ لذا فتش دائماً عن المعارضين المدعومين أمريكياً، فهم رؤساء المستقبل.
وبعد ذلك يؤسس الأمريكيون توازناً داخلياً يكون الوجود الأمريكي العسكري حجر الزاوية فيه، بل يتحول ـ كما في العراق ـ إلى مطلب لفئات كثيرة داخلياً وخارجياً، وقد مر بنا كيف أن بعض الإسلاميين يطالبون أمريكا بعدم الرحيل قبل أن تستقر الأوضاع، وهذه قمة البراعة السياسية الأمريكية، والتي تكتمل بكون الانسحاب الأمريكي في حال تحققه يعني تدشين مرحلة التقسيم فعلياً على أرض الواقع، وبأيدي العراقيين أنفسهم، يعني بأسلوب ديمقراطي، وهو ما يتجنب كثيرون الخوض فيه، وإلا فماذا يمكن أن يحدث لو قرر الأمريكيون الانسحاب فوراً من أفغانستان والعراق؟ وهو ما ينقلنا إلى سؤال أصعب: هل بقاء الأمريكيين في هذه المرحلة أفضل أو انسحابهم؟ ومحاولة الإجابة عن هذا التساؤل هي الفتنة التي وقع فيها بعض الإسلاميين في العراق ـ كما سبق ـ، والسر يكمن ليس في معرفة الجواب؛ بل في تحديد السؤال الصحيح.
ب- التفريغ السياسي:
هناك مفهوم سياسي يمكن أن نطلق عليه «تزاحم القوى»، يمكنه تفسير ديناميكية التوازن بين القوى السياسية الإقليمية والمحلية، ومن ثَمَّ تفسير طريقة التفكيك السياسي لأي دولة، ويفيد هذا المفهوم أن: منطقة النفوذ التي تتنازل عنها قوة دولية أو إقليمية أو محلية ـ جبراً أو طوعاً ـ لا تبقى أبداً فارغة، بل تُشغل على الفور من قِبَل قوة أخرى فاعلة؛ لكي يتحقق التوازن وفق الوضع الجديد.
وهذا المفهوم يستخدم ـ بتوسع ـ من قِبَل الأمريكيين في إحداث تفريغ سياسي داخل الدولة الإسلامية المستهدفة عن طريق ممارسة ضغوط على نظامها السياسي الحاكم؛ بحيث يتخلى عن بعض نفوذه، وفي مقدمة ذلك العقد الذي تنتظم فيه القوى السياسية المحلية؛ بحيث تحدث خلخلة سياسية تتيح للأمريكيين الدخول كشريك رئيس في اللعبة السياسية الداخلية، ويُستخدم النفوذ الأمريكي من قِبَل أطراف مختلفة في تدعيم مواقفهم في مواجهة النظام الحاكم، ويعاد رسم الخريطة السياسية من جديد بعد إضافة الشريك الأمريكي.
ويمكن فهم الأمر بطريقة أخرى، فمن المفترض أن أي دولة لها أهداف استراتيجية كبرى يكون العمل على تحقيقها مهمة النظام الرئيسة، وهذه الأهداف مثل: تحقيق الاستقرار والتقدم، والتحول إلى قوة إقليمية، والحفاظ على الوحدة الداخلية، وتطوير القوات المسلحة، ونصرة القضايا العربية، ومنها أيضاً حماية النظام لنفسه، وهو أمر معتبر، والذي يحدث أن الضغوط الأمريكية ـ ومنها إشاعة مخططات التقسيم وترويجها ـ تؤدي تدريجياً إلى اختزال الأهداف الاستراتيجية للنظام، حتى لا تترك له غاية إلا حماية نفسه، وذلك يعني فراغاً سياسياً داخلياً كبيراً لا بد أن تشغله قوى أخرى، ويعني أيضاً سهولة توجيه النظام لخدمة المصالح الأمريكية، والمتأمل في حال أغلب الدول الإسلامية يلحظ بسهولة أنه لم يعد لها أدوار خارجية مؤثرة، وتآكل دورها الإقليمي إلى حد كبير، وطرأ خلل واضح على مفهوم العلاقة بين الدولة والنظام؛ متمثلاً في سؤال: هل النظام يحفظ الدولة، أو أن الدولة تتولى حماية النظام؟
ج- تحفيز الأقليات:
كثير من الدول الإسلامية ذات تمايز عرقي أو طائفي أو قبلي، ويعتبر وجود الأقليات أحد عوامل التوتر وعدم الاستقرار الدائمين في أي دولة، ومدخل رئيس لأعدائها في محاربتها. وتحرص أجهزة المخابرات الأمريكية على ترسيخ علاقات قوية مع جميع الأقليات في الدول الإسلامية، في السر والعلن، حسب كون المعارضة خارجية أو داخلية، وتعتبر الأقليات أحد وسائل الضغط السياسي لخلخلة النظام في الدولة وإضعاف مركزيته، ويمكن تقسيم الأقليات باعتبار تأثيرها إلى: أقليات ناشطة، وأقليات نائمة، والأولى تتميز بحركة سياسية قوية، ومطالب واضحة، وعلاقات راسخة مع الأمريكيين، ويصل نفوذها في بعض الدول درجة مواجهة السلطات، والاتصال بالمسؤولين الأمريكيين عند حدوث أي أزمة، ويصح أن يطلق عليها دولة داخل الدولة، ومثل هذه الأقلية تصبح عنصراً مهماً في تفكيك الدولة، وفسح المجال للنفوذ الأمريكي.
أما الأقليات النائمة؛ فليس لها مطالب واضحة، ولا نشاط سياسي قوي، ويحاول الأمريكيون في الفترة الأخيرة الاتصال بممثلين لهذه الأقليات في دول مختلفة، والعمل على إيقاظها وتحفيزها، للاضطلاع بدور مستقبلي.
د- العد التنازلي:
وهو مرحلة متقدمة من الضغط السياسي، تصبح فيها الأزمة مع الأمريكيين أزمة وجود، بالنسبة إلى نظام الدولة الإسلامية بالطبع، وتعطي الإدارة الأمريكية تحذيرات واضحة، ومهلة محددة أحياناً لتنفيذ المطالب.
وقد تعرضت لهذا الأسلوب بالتحديد أربع دول إسلامية (أفغانستان، العراق، ليبيا، سوريا)، في اثنتين منها (أفغانستان، العراق) وصل العد إلى الصفر، وفي واحدة منها (ليبيا) تدارك النظام نفسه وأوقف العد على الطريقة الأمريكية، وفي الأخيرة (سوريا) يبدو الحال متأزماً، وخاصة أن الخيارات الأمريكية كثيراً ما تحصر الدولة المهددة بين: سُمٍّ وسيف، وفي النموذج السوري؛ جاء الهجوم «الإسرائيلي» قرب دمشق ليعلن بصراحة أن لا قابلية لوجود دولة البين بين؛ فإما التحول إلى نموذج صدام الرافض وتحمل العواقب، وإما التحول مائة وثمانين درجة بطريقة درامية.. كما فعل القذافي.
هـ- الشرعية التاريخية:(3/47)
يعتقد الغربيون بقوة في قدرة المرجعية التاريخية على التأثير في الواقع، وبصفة عامة؛ فإن أي قوة سياسية في أي بلد تتخذ من إحدى نقاط التاريخ محوراً ومرجعية لها، ففي مصر ـ مثلاً ـ يرى الليبراليون أن فترة حكم الوفد والانتخابات الديمقراطية فترة ذهبية، ويرى الناصريون أن فترة حكم عبد الناصر ينبغي أن تكون مرجعاً محورياً للأمة كلها، والإسلاميون يتخذون من الخلافة العثمانية أقرب مرجعية تاريخية لهم، وتسعى كل قوة إلى العودة بالواقع لمطابقة مرجعيتها التاريخية، ويتسلل الأمريكيون من هذه الرؤية التاريخية؛ لتسويغ تفكيك بعض الدول الإسلامية، حيث تفترض أن وضعاً ما في التاريخ المعاصر لهذه الدولة هو وضع طبيعي، ويكون هذا الوضع عادة تفكيكياً قبل التوحد، فتعتبر هذه المرحلة من التاريخ هي المرجع، وأن الواقع ينبغي أن يدور لمطابقتها مرة أخرى، ولا شك أن ذلك سوف يكون لحساب أطراف دون أخرى.
وقد حاولت الإدارة الأمريكية استخدام هذه المرجعية التاريخية في كل من أفغانستان والعراق، عن طريق الملك ظاهر شاه، والشريف حسين.
و- الضربات العسكرية الخاطفة:
دشنت الحكومة (الإسرائيلية) أسلوباً جديداً في هذا المجال، وذلك بضربتها الجوية الخاطفة لمخيم «عين الصاحب» في سوريا، وهذه الخطوة ربما يكون الدافع الرئيس لها هو النيابة عن الإدارة الأمريكية المتورطة عراقياً في معاقبة بعض الدول المشاغبة، لكن بأسلوب «الأنماط الحاكمة» الأمريكي الذي سبق الحديث عنه، وبذلك تكون هذه الضربة نمطاً حاكماً لما يليها بالصورة الآتية: ضربة لمخيم فارغ ـ ضربات داخل دمشق لمراكز الفصائل الفلسطينية ـ ضربة جوية للمفاعل الإيراني ـ ضربات جوية لتحييد القدرة النووية الباكستانية، وقد تستغرق هذه التتابعية أشهراً أو سنوات، لكن ما يهمنا هنا أن هذه الضربات تنشئ نوعاً من الاضطراب السياسي الداخلي؛ لأن النظام المستهدف يتم ضربه دون أن يقدر على الرد؛ لأنه يعلم أنه يُستدرج إلى حتفه، ومن ثَمّ تتزايد حالة الاحتقان الداخلي، وتضعف سيطرة النظام.
وهذا الأسلوب يعتبر حلاً بديلاً ـ أو مؤقتاً ـ للخطة الأمريكية الأصلية، والتي سربها الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك المرشح الأمريكي الديمقراطي لانتخابات الرئاسة القادمة، في كتاب له؛ أنه بلغته معلومات منذ عام 2001م، وقبل هجمات سبتمبر، بوجود خطة أمريكية لاحتلال خمس دول بعد العراق؛ هي: سوريا وليبيا ولبنان والصومال وإيران.
وتبقى قدرة الأمريكيين والإسرائيليين على إيجاد المسوّغات لتوجيه مثل هذه الضربات عاملاً محدداً، ويلاحظ مؤخراً أن هناك نشاطاً غير معتاد في توجيه باقة متنوعة من الاتهامات لمختلف دول المنطقة، وهذا بدوره يثير حالة من القلق والتوقعات غير المرغوب فيها.
[ انظر ما تقدم في : الدول الإسلامية بين التفكيك والتقسيم " ، احمد فهمي ، مجلة البيان ( ص 1-10 ) بتصرف ] .
* ما يخشى على العراق
في كتابه الشهير المسمى "ليفياتان"، وصف الفيلسوف توماس هوبز " دولة بدائية " نظرية لا تقوم على "سلطة مشتركة" (حكومة)، وإنما تكون فيها "الحرب قائمة بين كل الأفراد وضد كل الأفراد" من مواطنيها. و"بطبيعة الحال، يكون لكل شخص فيها الحق في كل شيء.
إن العراق ما زال بعيداً عن تحقيق الاستقرار، بل ليس هناك ما يدعو إلى القول بأن العراق يمكن أن يعرف استقراراً من خلال العمل وفق البرامج السياسية والعسكرية الحالية .
ويرى هوبز أنه لا يمكن التخلص من "الدولة البدائية" إلا من خلال إقامة حكومة قوية تتمتع بالسيادة وتكون قادرة على كبح التنافس الجامح القائم بين الأفراد. ولكن العراق ليس له مثل هذه الحكومة القوية حتى ولو كان مدعما بحوالي 140ألف جندي أمريكي من أحسن القوات تدريباً وتجهيزاً وفاعلية.
فهل بإمكان العراق أن يتحرر من "الدولة البدائية" القائمة فيه حالياً؟ وما البرامج الجديدة والسياسات، إن وجدت، التي يمكنها أن تقيم حكومة قوية، تكون قادرة على إنهاء الخوف والشكوك التي يعيشها كل عراقي اليوم؟ ويبقى الجواب متوقفاً على تحقيق إجماع وطني بين صفوف العراقيين، وتحويل إحساس التهميش والخسارة لدى السنة العرب إلى شعور بالفاعلية والاندماج. وإذا أتيحت فرصة لدمج العرب السنة كشركاء كاملي الحقوق ضمن إطار عقد ثابت حول الحكم، فلا مناص من أن يبدأ القادة العراقيون وحلفاؤهم الأمريكيون مفاوضات مع جماعات المتمردين ( على حد وصفه ) الأكثر صلابة وتزمتاً والتي تنشط في العراق حالياً، وإذا تمت مثل هذه المفاوضات، فقد يكون من الممكن صياغة عقد حكم جديد يقنع المتمردين بالالتحاق بالمسار السياسي.
[ العراق يقترب من حالة "الدولة البدائية" الكاتب: كينيث كاتزمان / مركز الامارات للبحوث والدراسات ] .
" وتشير بعض الدراسات الي ثلاثة اخطار تهدد العراق :
ـ خطر الحرب الأهلية : واذا لم يكن العراق حاليا في اتونها، فهو عند مداخلها او علي حافتها وهذه الحرب قد تمتد الي العالمين العربي والإسلامي وخصوصا دول الجوار، والحرب الأهلية لا تبدأ بين السنة والشيعة او بين العرب والأكراد او بين الأكراد والتركمان، بل بإشعال فتنة يقوم بها متطرفون ومندفعون من هذا الفريق او ذاك بدعم من مغامرين وطامعين لتنتهي بحرب الجميع ضد الجميع بعد ان تبدأ بتفجير جامع او حسينية او مقر او اغتيال او تصعيد واستقطاب طائفي او اثني وبشكل مستمر فيؤدي هذا الى الفلتان وعدم السيطرة ، ( الأمر الذي لا نتمنى حصوله ، وربنا الرحيم يدفع عنا وان راهن تجار الطائفية على الحرب وأوقدوا نارها ).
? كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ? [المائدة : 64] .
ـ خطر التقسيم : فبعد حرب أهلية طاحنة طائفية واثنية شديدة الشراسة، يصبح قبول الامرالواقع لا مفر منه، لدرجة ان استمرار القتل والتفجير والتطهير قد يفرض مطلب او شرط التقسيم باعتباره أحسن الحلول السيئة بحيث يمكن التحكم والتأثير في الأجزاء المتشظية سواء من جانب ايران في الوسط والجنوب (الشيعة) او من جانب تركيا في كردستان في الشمال.
ـ خطر اتجاه العراق بعيدا عن محيطه العربي وغرقه في محلية وعراقية ضيقة : مثلما يدعو البعض حاليا الي مفهوم الامة العراقية، بحسن نية او من دونها، وادارة الظهر الي كل ما يمت للعروبة بصلة، خاصة اللغة العربية فلا يمكن ان يبقي العراق موحدا من دون هوية العراق القومية ولغته الرسمية العربية.[ دستور العراق.. خطوة للأمام أم للخلف ، حسين عبدالرازق ، جريدة الوفد المصرية ، السبت 29 أكتوبر 2005] .
" الولايات المتحدة الامريكية تسير على نهج التفتيت وشرذمة المجتمع في العراق. انها تفعل ما فعلته في التسعينات في رواندا عندما تركت الملايين من الناس عرضة لتصفيات عرقية وحشية لم تر البشرية لها مثيل من قبل. الفرق انها اليوم مسؤولة مباشرة عما "يمكن ان" يحدث من مذابح في العراق مقارنة برواندا التي وقفت فيها امريكا متواطئة مع لوردات الحرب الاثنية من قبائل الهوتو الذين امروا بقتل مئآت الالاف من المدنيين التوتسي. امريكا اليوم تهئ لرواندا اخرى في العراق من خلال محاولة امرار دستور (الدولة الفيدرالية) .. والتأجيج المذهبي الحقير بين صفوف الجماهير " .[ انهم يخططون لرواندا جديدة في العراق ، عصام شكري ، موقع الحوار المتمدن ، بتصرف ]
الخاتمة
الحَل(3/48)
العراق منذ القديم يشكل وحدة جغرافية سياسية واحدة من عهد حمورابي قبل الميلاد مرورا بعصر الخلفاء الراشدين والي الدولة الاموية ثم العباسية والتي دامت 800 عام وجاءت بعدها دول ودول مرورا بالدولة العثمانية وانتهاء بجمهورية العراق التي احتلها الغزاة عام 2003.
[ تقسيم العراق نموذجا في المنطقة العربية ، محمد صالح المسفر، القدس العربي 30/8/2005 ].
أن العراق لم تكن به مشكلة في يوم ما فيما يتعلق بوجود نقص في موارده أو شحّة في ثرواته الأمر الذي يؤدي إلى الفتن والاقتتال كما يحصل في بعض الدول، بل إن محنته تتمحور بحق في طبيعة أنظمة الحكم التي أساءت استخدام مصادر السلطة والثروة بعيداً عن كل ما يمت إلى مبادئ العدل والأنصاف بصلة، وافتقاره إلى مؤسسات مدنية رصينة كان آخرها النظام الشمولي السابق والذي حوّل العراق بشعبه وأرضه وثرواته إلى ممتلكات تعود إلى عائلته وأقطاعات توزّع على عشيرته فأساء بالنتيجة إلى نفسه ولكل العراقيين بمختلف مذاهبهم.
ولم تكن من أولويات مشاكل المجتمع تلك الفسيفساء المتجانسة من القوميات والأديان، كما لم يكن الإنسان العراقي– حينما يكون متحرراً من الاعتبارات الحزبية والعشائرية والنعرات الانفصالية– حسّاساً تجاه التنوع العرقي أو الطائفي إذ طالما تعايش الجميع لمئات السنين تحت خيمة العراق الواحد، وتسنم مقاليد السلطة وتبّوء المناصب الرفيعة سواء في الإدارة أم في القضاء أفراداً من قوميات مختلفة، ولم يكن ذلك مثار جدل أو مدعاة مشكلة.
وإذا كان الخطاب السياسي لمن كانوا يسمون أنفسهم مسبقاً بالمعارضة كان يستند على أساس رجم الحكم المستبد الدكتاتوري وإدانة ممارساته القمعية مما يستوجب الآن أن يعاد تفكيكه وتعاد صياغته لأن النظام السابق أصبح في ذمة التأريخ، كما وأن الظلم والاضطهاد الذي مارسه النظام السابق قد تم توزيعه بعدالة على جميع أطياف المجتمع العراقي بدون استثناء ويشهد قادة الأكراد أنفسهم بنزوح أعداد كبيرة من العوائل من مناطق الجنوب والوسط باتجاه الشمال هرباً من بطش الأجهزة القمعية للنظام السابق، أي أن الموقف من المعارضين لم يكن في الجنوب أقل منه وحشية عما هو في الشمال أو الوسط.لهذا يجب على القوى الوطنية العراقية الالتفات إلى مستقبل العراق من منطلق الحفاظ على هويته وبلورة ثوابته وعدم السماح بجني مكاسب يتم الحصول عليها في عراق محتل ،وأن لا تكون الفيدرالية والمطالبة بمدينة كركوك الغنية بالنفط وترحيل العرب منها أساس للمساومة لأن من شأن ذلك الأضرار بالمصلحة النهائية للعراق الواحد الذي يتطلب الآن مقارعة العصبية القبلية أو التطرف الديني والطائفية والعنصرية والنزاعات الانفصالية التي تقف وراءها أطراف عديدة وإنما يجب إلغاؤها من قاموسه .
لم يكن العراق ليصل إلى هذا المفترق الخطير لولا الديكتاتورية التي أدت إلى الاحتلال، ولولا أن المشاعر الدينية طغت على الشعور الوطني المشترك، ولولا أن استشراء التعصب الطائفي لمتهوري السنة والشيعة دمّر إمكان التوحد بعدما أعلى شأن الماضي على المستقبل ، واستمد زاده الفكري من تواريخ التفرقة بدل الوحدة ، لذلك فإن العراق اليوم أمام تحدٍ كبير يحاول عقلنة النزعات الطائفية السنية والشيعية المتفجرة والقومية الكردية الناهضة من قمع تاريخي، لترويضها جميعاً في إطار ولاء عراقي يصعب أن نسميه هوية جامعة بل مجموعة قوانين وتوجهات ذات مرجعية ثقافية وتاريخية مشتركة وذات مضمون تعددي حضاري ولا نجد معيناً على ذلك أفضل من ( الاسلام ) بمفهومه الواسع مظلة لاستيعاب الجميع . هذا هو تحدي العراقيين، إنه تشكيل هوية جديدة ليست عربية خالصة ولا عراقية خالصة ولا مذهبية خالصة ، إنها خلاصة تأخذ من كل شيء بطرف، بل إنها تسوية حول هوية جديدة لا تزال بحاجة إلى تحديد ، يكون منطلقها دين الله العالمي والخاتم لسائر الاديان الا وهو الاسلام بسماحته وعدله .
تنبيه : هذا الكلام لا يتعارض مع الأحتفاظ بالخصوصية المذهبية ، أو معقد الولاء والبراء في العقيدة الاسلامية .
إذا كانت الفيدرالية أرقى نظام سياسي تم التوصل إليه في العالم حتى اليوم، فإنها فيما يعني العراق تبدو مدخلاً إلى أسوأ التطورات التي واجهها شعب من الشعوب. ذلك أن العراق الواقع تحت الاحتلال الأمريكي من جهة، والساقط في قبضة الإرهاب من جهة أخرى يجد نفسه، رغم الجهود الجبارة التي تبذلها قواه السياسية الرئيسة، فريسة رغبة جامحة تتمثل بالديمقراطية القسرية عبر تنظيم فيدرالية تشكل صيغة للتعايش بين فئات المجتمع الرئيسة؛ أي الأكراد والسنة العرب والشيعة وهي في جوهرها تفتيت أو تقسيم أو اضعاف للبلد الواحد .
في ظل هذا الوضع يعاني العراق مأساة يومية يدخل العنف الانتحاري والتفجير العشوائي بين المدنيين فيها عاملاً غامضاً في الحسابات السياسية النهائية لطرفي المعادلة. ذلك أن اختباءه خلف عناوين المقاومة، ونزعته التكفيرية، واستهدافه الشيعة بالقتل تجعل منه عنصراً مشجعاً للطرف المتعصب للفيدرالية، فينزع إلى مزيد من التجزئة تحت ستار "الوحدة الممكنة" واستحالة استعادة التعايش السابق!
[ وانظر : العراق الجديد... هوية تحتاج إلى تحديد ، الكاتب: بشارة نصار شربل ، ( 1-3 ) بتصرف ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ] .
هذا وان كنا نجزم بأن كثيراً من هذه العمليات انما تقوم بها ( مخابرات الدول الشيطانية ) بالتنسيق – ربما - مع حفنة من الشذّاذ والمرتزقة !
ما المطلوب لإبقاء العراق موحدا؟
الجواب ببساطة يتركز في شقين: الاول، جعل وحدة العراق مصلحة للجميع. والثاني، اتفاق اطرافه ومكوناته على مشروع وطني. اذ لا يكفي ان نضع الضوابط الدستورية ضد الانفصال، بل الاهم ان يشعر الكردي ان مصلحته هي البقاء ضمن العراق، وان يكون هناك قبول وتبنّ للمتغيرات السياسية الجديدة، حيث ان الذي جرى عند سقوط النظام في نيسان 2003، هو ان جزءا من العراق اختار المقاومة ورفض عمليا المشروع السياسي لارتباطه بالاحتلال ، في حين ان اجزاء العراق الاخرى فضلت الدخول في اللعبة السياسية في سباق محموم على المكاسب السياسية يسمونها ( استحقاقات وطنية ) !
ان من يقولون بالفيدرالية ويسبّبون ذلك بالمشكل الامني، يريدون ان يحصروا خيار العنف وتبعاته بمن تبناه، وان تنأى المناطق التي فضلت السلم بنفسها عن ذلك لتشرع في التنمية، كما هو جار في اقليم كردستان، اذ الى متى تظل البصرة مثلا التي تنتج 80% من نفط العراق المصدر، وتلتقي عندها انهره وهي عطشى لماء صالح للشرب، والبصرة رئة العراق البحرية الوحيدة مصابة بذات الرئة بسبب الفقر والحرمان !
لذا، فإن الذين يرفضون الفدراليات يجب ان لا يكتفوا بالرفض، اذ يكفي اضاعة سنتين ونصف السنة من عمر العراق وثرواته ودماء ابنائه. ان من يتصدى ويدعي تمثيل من قاطعوا الانتخابات عليه ان يكون كذلك على الارض وليس في الفضائيات وكواليس المساومات السياسية .
[ فدرالية العراق: حل سياسي أم مأزق دستوري ، جريدة الشرق الأوسط ، الاحد 16 رجب 1426 هـ 21 اغسطس 2005 العدد 9763 ، بتصرف ] .(3/49)
وكما قلنا سابقاً : لإفشال هذا المشروع يجب أن تتضافر جهود عراقية وعربية معاً؛ جهود سنية وشيعية على السواء. ينبغي كشف وتعرية التوجهات الطائفية الشيعية التي تهدد وحدة الجماعة والأمة، والتوجهات الطائفية السنية الوافدة أو المحلية التي تستخدم عصا التخويف لشيعة العراق. ينبغي إدراك المخاطر التي يحملها هذا المشروع الانقسامي على مستقبل العراق والعراقيين، وعلى مستقبل المنطقة ككل، بكل تنوعها الطائفي والإثني.
فلا مانع من رفض الفيدرالية ومسودة الدستور وكل ما له صلة بالاحتلال ومع ذلك يكون هناك اعداد جدي على مستوى القوى السنية وسائر القوى المناهضة للاحتلال للدخول في العملية السياسية من باب ( اختيار أهون الشرين ) ..
قال تعالى عن نبيه شعيب عليه السلام وهو يخاطب قومه : ? قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ? [هود : 88].
عبد الله الرشيد
abd_alrasheed@yahoo.com
1 شوال 1426 هـ
3 / 11 / 2005 م
الموضوع ... رقم الصفحة
المقدمة ... 2
المطلب الأول : صدام وأهل السنة ( هل كان النظام السابق طائفياً ) ... 5
اعتراضات والردود عليها ... 7
المطلب الثاني : مناقشات في الفيدرالية ... 11
مفهوم الفيدرالية ... "
صورالفيدرالية ، ومميزات الدولة الفيدرالية ... 15
أشكال الفيدرالية / الفرق بين الحكم الذاتي والفيدرالية ... 16
ضمانات انجاح الفيدرالية ... 17
اهم مرتكزات الفيدرالية في النموذج الغربي ... 19
موقف العرب والاكراد والاقليات من الفيدرالية ... 21
بدايات المطالبة بالفيدرالية واقرارها في العراق ... 24
مبررات دعاة الفيدرالية ... 25
نصيحة إلى الفيدراليين ( قبل المناقشة ) ... 28
الفيدرالية المذهبية ... 29
وشخصيات سنية تطالب بالفيدرالية ايضاً ! ... 34
موقف بعض القوى الشيعية من الفيدرالية ( الشيخ الخالصي نموذجاً ) ... 35
وآخرون رفضوا الدستور المنظر للفيدرالية ... 37
مساوئ النظام الفيدرالي ( أسباب رفض أهل السنة وكثير من القوى الوطنية للفيدرالية المزعومة ) ... 39
السياسة الأمريكية في التفكيك والتقسيم ... 64
ما يخشى على العراق ... 72
ثلاثة اخطار تهدد العراق ... 73
خاتمة : الحل ... 75
ما المطلوب لإبقاء العراق موحدا؟ ... 78
================
العلمانية ...هل تصبح خيارا شعبيا في السنوات القادمة ؟
أحمد فهمي
قد يعجب البعض من هذا التساؤل ...و يقول: كيف يختار المسلمون العلمانية، وهم يعلمون أنها رفض للإسلام وكفر به ؟ بل كيف يحدث ذلك في الوقت الذي نرى فيه مظاهر متعددة للتفاعل الجماهيري مع القضايا الإسلامية ؟ وهل يمكن أن يتحول هذا التأييد الشعبي للإسلاميين في الانتخابات البرلمانية وغير البرلمانيةإلى رفض وإعراض ؟
و نحن إذ نحاول إزالة هذا العجب؛ لا ندعي أن الإجابة حتماً على هذا التساؤل هي بالإيجاب، بل نرجو من الله عز وجل أن يجعل النفي القاطع هو الإجابة الواقعية عليه، ولكن هناك شواهد وعلامات كثيرة تجعلنا على الأقل نشعر بالخطر من تحقق هذا التحول في مشاعر الجماهير المسلمة، وسوف نتناول هذه القضية بمشيئة الله تعالى في مقالين متتالين:
الأول: مقدمة لابد منهاعن العلمانية .
الثاني: مسوغات القول بالتحول العلماني للجماهير .
أولا : مقدمة لابد منها عن العلمانية:
من الأمور الهامة التي ينبغي لنا استيعابها واستحضارها بصورة دائمة أساليب العلمانيين في ترويج وترسيخ العلمانية في المجتمعات المسلمة، و بالاطلاع على التجارب العلمانية في عدد من البلاد العربية يمكننا استخلاص الأساليب الرئيسة التالية :
الأول: إيجاد النخبة والرموز " طلائع العلمانية: من أمثال الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وقاسم أمين، ومحمد عبده، والطاهر الحداد، وقد يتم إعدادهم محلياً أو عن طريق الابتعاث الخارجي، وقد بلغ عدد المبتعثين إلى أوروبا من مصر وحدها في الفترة من 1813-1919: 900 مبتعثاً، عدا من تعلم على نفقته الخاصة .
الثاني: ترويج الشعارات، والمفاهيم العلمانية، والاجتراء على اقتحام المناطق الشرعية المحرمة: وأبرز تلك المفاهيم ما يتعلق بارتباط التخلف بالتدين، والحضارة بالغرب، وكذا تحرير المرأة، وقد راج المفهوم الأول بداية من القرن التاسع عشر الميلادي حتى اعتقد كثيرون أنه:" لم يبق أمام الإسلامي إلا هذا الخيار :إما الانخراط في الحداثة الأوروبية، وإما التهميش والاستتباع".
ويذكر جورجي زيدان عن تحرير المرأة أنه ظل منطقة محرمة "حتى صرح الشيخ محمد عبده بآرائه فكثر مريدوه،وأول أولئك قاسم أمين.." ثم تتابع انتشارها في معظم البلاد العربية، يقول علي عبد الرازق عن السوريين:"أنهم لم يتجاوزوا بعد طور البحث النظري الذي بدأه عندنا قاسم أمين منذ عشرين سنة …"واقتحم الطاهر الحداد ذلك المجال في تونس بكتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع ".
الثالث: السيطرة على المؤسسات التربوية والثقافية والدينية ذات البعد الجماهيري:
مثل المؤسسات التعليمية والدينية،وقد بدأ ذلك منذ عهد محمد علي،عندما انقسم التعليم في مصر إلى نظام ديني ونظام مدني لأول مرة،وذلك لتحجيم دور الأزهر كمؤسسة تعليمية دينية،ثم استتبع ذلك بصدور أول قانون لإصلاح الأزهر من الخديوي إسماعيل سنة 1872 .
كما أن معظم وسائل الإعلام من صحافة وسينما وإذاعة، ثم التلفاز وغيره، كانت من بداية نشأتها علمانية .
الرابع: علمنة القانون والنظام : وقد يكون منطقياً أن تتم علمنة القانون، وإلغاء الشريعة في وقت متأخر نسبياً، لكن وجود الاستعمار الغربي في معظم بلاد الإسلام مكنه من التبكير بهذه الخطوة، فتم في بلاد الهند إلغاء الشريعة تدريجيا حتى ألغيت تماماً في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وفي الجزائر ألغيت سنة 1830،وفي تونس أدخل القانون الفرنسي سنة 1906،وفي المغرب سنة 1913، وفي مصرسنة1883 وقد برر الخديوي إسماعيل فعله ذلك لعلماء الأزهر بقوله:"إن أوروبا تضطرب إذا هم لم يحكموا بشريعة نابليون ".
والمقصود بعلمنة النظام، قيام الغرب بتدعيم رموز علمانية تستولي على السلطة بعد انسحابه من البلاد الإسلامية؛ لتحفظ مصالحه، وتكمل مسيرة العلمانية، فكانت باكورة أعمال تلك الرموز القضاء على الإسلاميين الذين ساعدوهم على امتلاك السلطة - وكانوا أحق بها وأهلها - حتى وصف بعض الكتاب ذلك الجيل من الإسلاميين بقوله:"وهكذا جاء الجيل الثاني من المناضلين الإسلاميين مكوناً من شهداء ممن قام زملاؤهم - القوميون - بقتلهم وسجنهم أو نفيهم" حدث ذلك في الجزائر سنة 1962 مع جمعية العلماء، وفي مصر سنة 1954مع الإخوان المسلمين .
الخامس: تجريم الدعوة إلى أسلمة المجتمع: يتجلى ذلك بوضوح في النموذج التركي حيث صدر في سنة 1946،ما يسمى بقانون (إقرار السكون) والذي يحاكم كل من ينادي بعودة الدين أو بإقامة حكومة تعتمد على الشريعة الإسلامية، رغم مخالفة ذلك للعلمانية الغربية التي تمثلها تركيا، وكما يقول أربكان "كل واحد في الغرب يملك الحرية الدينية ولا أحد يجبر الآخرين على قبول اعتقاده "، إذ إن علمانية الغرب توصف بأنها ( غير معادية للدين )،في مقابل العلمانية المتطرفة المعادية للدين مثل الدول الشيوعية .(3/50)
وبالطبع لا يتم استخدام هذه الأساليب كلها دفعة واحدة، بل هناك نوع من الترتيب والتتابع الزمني، رغم ما يظهر بينها من تداخل... وهذه التتابعية تمكننا من بلورة هذه الأساليب في مراحل تبين تطور تغلغل العلمانية في مجتمعاتنا، وارتباط ذلك بوجود وانتشار كل من هذه الأساليب:
أولا: المرحلة التحضيرية : " إيجاد النخبة - ترويج الشعارات والمفاهيم ".
ثانيًا: المرحلة التوسعية : " الأساليب السابقة+ السيطرة على المؤسسات " .
ثالثًا: العلمانية المتأسلمة : " الأساليب السابقة+ علمنة القانون والنظام " .
رابعًا: العلمانية الكاملة : "الأساليب السابقة+ تجريم الدعوة " .
وهذه المرحلية يدعمها تأمل مزدوج، وذلك باستخدام الزمان والمكان ...فلو أخذنا بلدًا مثل مصر (تثبيت المكان ) وتجولنا عبر الزمان لوجدنا تتابعًا واضحًا لهذه المراحل، وكذا لو رجعنا إلى الواقع (تثبيت الزمان ) وتجولنا عبر المكان فسنجد نفس المراحل متمثلة في المجتمعات الإسلامية .
وبعد ما يزيد على المائة والخمسين سنة من العلمانية في بلاد الإسلام، وبكل ما تضمنتها من تجارب وخبرات وسياسات فشل بعضها ونجح البعض الآخر، تمخض ماضي وحاضر العلمانية عن نموذجين يقدمان لباقي الدول والمجتمعات الإسلامية لمحاكاتهما والسير على نهجهما:
الأول: النموذج التركي.
الثاني: النموذج المصري.
ونقصد بكون ذلك البلد نموذجًا:صلاحيته (الوقتية) لأن تقتبس عنه الدول الأخرى الكثير من سياساته المتعلقة بتطبيق العلمانية، والتعامل مع معارضيها، سواء كان ذلك اقتباسًا كليا أو جزئيا، وسواء كان بالاستيراد النظري أو باستجلاب الخبراء .
والنموذج التركي نموذج قديم: يمثل صانعه أتاتورك زعيمًا ملهمًا لكثير من علمانيي السياسة والمجتمع، فقد كان بورقيبة شديد الاهتمام بتجربة أتاتورك في تركيا، وكتب لابنه في استنبول:"فكرت طويلا بتجربة أتاتورك، وهناك أشياء تؤخذ وأشياء تترك " ولما استولى على السلطة في تونس طلب من أستاذه الفرنسي "روبير مانتران " أن يزوده بكل المستندات التي بحوزته عن فكر أتاتورك ...كما صرح كل من عبد الناصر والسادات في أكثر من مناسبة بافتخارهما بأن أتاتورك مثلهما الأعلى .
وأعظم إنجازات النظام العلماني التركي نجاحه في جعل العلمانية خيار ما لا يقل عن ثلثي الشعب التركي المسلم .
إلا أن النموذج التركي فقد بريقه- في البلاد العربية على الأقل - وأصبح نموذجًا محروقًا بالنسبة لهم وذلك لعلمانيته المتطرفة، التي لا تتناسب مع تنامي المشاعر الإسلامية لدى الشعوب حاليًا، وللحرية السياسية النسبية التي لا تتوافق مع الواقع العربي، بالإضافة إلى عقبة اللغة والفجوة النفسية التي نجح الغرب في إحداثها بين الترك والعرب ..وتقتصر صلاحيته-حاليًا - على تسويقه كنموذج للدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق، وان كان ذلك لا يمنع من كونه مصدر إفادة لكل من العلمانيين والإسلاميين على السواء، فيما يتعلق بخبرات المواجهة المستمرة بين السلطة والاتجاه الإسلامي .
أما النموذج المصري : فعلى الرغم من كونه لا يزال مائعًا وغير مكتمل الجوانب، نتيجة التدافع المستمر بين قوى العلمنة من جانب، والإسلاميين ومشاعر الجماهير من جانب آخر، إلا أنه يأتي على رأس قائمة الدول الرائدة في هذا المجال، فبالإضافة إلى عراقة التجربة العلمانية فيه، وتأثير مصر الفكري والثقافي والاجتماعي على الدول العربية، فإنه يستمد رواجه من عدة عوامل:
منها : أنه يرفع شعار الديمقراطية والحريةالسياسية .
ومنها : اتباع سياسة هادئة دؤوبة - بعيدة المدى - في تجفيف منابع التدين، وعلمنة المجتمع والأخلاق .
ومنها : مهادنة المشاعر الإسلامية لتحييد قطاع كبير من الجماهير:" ازدواجية الخطاب " .
ومنها : النجاح النسبي لسياستي الاحتواء والإجهاض للعمل الإسلامي .
وتكمن خطورة هذا النموذج في كونه يفتح باب الأمل نحو مزيد من العلمانية، كما أنه يسعى لتكون العلمانية هي خيار الأجيال القادمة، فإن كانت العقبة هي أن الإسلام الآن خيار جماهيري، فإزالتها بأن تكون العلمانية أيضا خيار جماهيري ولكن ...في المستقبل ....!!!!!
نحتاج في بدء الكلام إلى توضيح المعنى المراد من هذا التساؤل , هل معناه أن الجماهير ستختار العلمانية عن قناعة واضحة بأفضليتها في مقابل الإسلام أم ماذا ؟ الواقع أننا لا نتحدث عن وصول الجماهير إلى هذا المستوى المتدني - و إن كان ليس مستحيلا - بل ما نعنيه أن الجماهير تقترب بصورة تدريجية غير مباشرة من ترجيح الخيار العلماني , دون إدراك حقيقي لمعنى العلمانية, فهم أشبه بقطيع يساق وفق رغبة حاكميه إلى وجهة لا يعلمها و لا يدري شيئا عن الطريق إليها , فقط يعلن ساسة القطيع أنهم يبتغون الخير للجميع .
و هذا الاختيار غير المباشر للعلمانية يتم بمسلكين متكاملين:
أولهما : استبعاد مستمر لأحكام الإسلام وآدابه في معظم مجالات الحياة العامة و الخاصة .
ثانيهما : إحلال الأنماط العلمانية في شتى مجالات الحياة ترغيبا و ترهيبا .
و في رحلة الدول الإسلامية من الإسلام إلى العلمانية تبدو ظاهرة للعيان ثلاث دول أو محطات تمثل خلاصة التجربة العلمانية سعيا نحو الجماهيرية, و هي على التوالي : تركيا - تونس - مصر , و الدولتان الأوليان تمثلان مراحل متقدمة حادة التوجه نحو العلمانية, لذا سيكون التركيز على التجربة المصرية باعتبارها تقود الركب العربي نحو العلمانية الكاملة . ولكن نعرض قبلا للموقف الجماهيري من العلمانية في تركيا، وتونس؛ لتكتمل الرؤية، و يتضح التصور.
التجربة التركية: توفرت للعلمانية في تركيا ظروف داخلية و خارجية - يصعب تكرارها حالياً - مكنتها من الوصول للعلمانية الكاملة في وقت قياسي, و نجحت سياسة أتاتورك في إخراج أجيال من الأتراك اتخذوا من العلمانية ديناً شاملًا , فالدستور التركي ينص على علمانية الدولة، وهذا النص يوافق عليه أغلب الأتراك, و في أحد استطلاعات الرأي عن أكثر الجهات الرسمية حيازة لثقة الشعب حصل الجيش التركي على نسبة لا تقل عن 70%, و معروف أن الجيش هو الحارس المتعصب للعلمانية في تركيا, كما أن تيارات الإسلام السياسي ممثلة في حزب الفضيلة كانت أكبر نسبة تحصل عليها في الانتخابات لا تتعدى 26% , جزء كبير من الناخبين يختار الحزب لنزاهة أعضائه، وأمانتهم و ليس لانتمائهم الإسلامي .
الخلاصة: أن التجربة التركية تمثل إثباتاً لإمكانية تحول الأغلبية إلى الدينونة بالعلمانية في مقابل الإسلام .
التجربة التونسية: رغم علمانية الدستور التونسي, إلا أن تونس تختلف عن تركيا في كونها لا تعلن رفضها لإضفاء أي مسحة دينية على الدولة, بل على العكس يحرص النظام على الاهتمام النسبي ببعض المناسبات الدينية, و تذاع صلاة الجمعة في القنوات الرسمية, و يوضع القرآن الكريم ضمن قائمة الهدايا الرسمية التي يقدمها رئيس الدولة للآخرين, و بخلاف التيارات الإسلامية المقهورة داخل السجون و خارجها, فلا يبدو على الشعب التونسي أنه مستاء من هذا الوضع لدرجة السعي لتغييره, خاصة مع الحديث عن ازدهار سياح و انتعاش اقتصادي في ظل النظام الحالي .
التجربة المصرية: هل الإسلام كمنهج شامل للحياة يمثل خياراً شعبياً في الوقت الراهن ؟(3/51)
لن نستطيع تحديد موقف الجماهير من العلمانية قبل أن نقدم إجابة شافية على هذا السؤال, لذا فالإجابة عليه تحتاج إلى تأنٍ و تفصيل دقيق, فلا يصلح معها الإثبات أو النفي بإطلاق, فهناك اعتبارات متعددة تعطي نتائج متفاوتة حول مستوى التفاعل الشعبي مع الإسلام، ومن هذه الاعتبارات:
اعتبار التمسك بأحكام الإسلام و شرائعه و آدابه و أخلاقه: ولا جدال في أن الإسلام بهذا الاعتبار لا يعد خيارا شعبيا , إذ الغالب على الناس التهاون في أحكام الدين في معظم مجالات الحياة و هذا أمر لا يحتاج إلى إثبات ....
اعتبار طرح تطبيق الشريعة الإسلامية كمطلب أساسي للجماهير من حكامها: و الواقع يخبرنا أن شعار تطبيق الشريعة يطرح كشعار انتخابي دعائي ليس إلا, دون أن يكون هناك إلحاح واضح عليه، فضلاً عن الاستعداد للمناضلة من أجله, كما أن الجهل بأحكام الإسلام يجعل من الصعب على الجماهير التفرقة بين طبيعة القوانين العلمانية و الأحكام الإسلامية .
اعتبار التفاعل مع القضايا الإسلامية و مشاكل المسلمين في أنحاء العالم: ولا شك أن الفتور الشعبي العام الذي تواجه به قضايا المسلمين الساخنة مثل: أزمة الشيشان، وانتفاضة الأقصى يمثل دلالة واضحة على الابتعاد التدريجي للإسلام كمحرك رئيس لعواطف الجماهير ومشاعرها, و رغم ما يقال عن الضغوط الأمنية و الكبت العام, إلا أن المساحة المتبقية للحركة و التعبير تشكو من الفراغ و السكون, و هذا لا يعني صفرية التأييد الجماهيري للقضايا الإسلامية, و لكن هناك فرق بين إثبات الحالة و الحالة الثابتة.
اعتبار الانتماء العام الرسمي لدين الإسلام : و لا إنكار لجماهيرية هذا الاعتبار؛ إذ ليس وراءه إلا الكفر و العياذ بالله, و لكن عندما يدعي الإسلام كل إنسان دون اعتبار لفعله أو قوله, و عندما يدعي أشد العلمانيين حقداً على الإسلام أنه مسلم, و عندما يلبس أهل الضلالة على الناس أن ما هم عليه من الانحراف لا يتعارض مع دينهم, و عندما تصل الزندقة بهم أن يقولوا للناس: أن ترك منهج الإسلام هو من الإسلام, عندها هل يصبح إثباتاً كافياً على اختيار المنهج الإسلامي الشامل للحياة أن يقول إنسان أنه مسلم ؟
اعتبار حجم التأييد التصويتي في الانتخابات النيابية و النقابية: والقول بأن ذهاب أناس لا تزيد نسبتهم عن خمس من لهم حق التصويت – جزء كبير منهم من أتباع الحركة الإسلامية - لوضع ورقة مكتوب فيها أسماء مرشحين من التيار الإسلامي في صندوق مقفل كل ثلاث أو أربع أو خمس سنوات , القول بأن ذلك يعني تأييداً جارفاَ من الشعب للمنهج الإسلامي قول لا نشك في مبالغته, نعم قد يمثل ذلك دلالة على التعاطف العام مع الإسلام من قبل فئات من الشعب, إلا أن هذا التعاطف يتسم بالضعف في جانبين :
الأول : اقتصاره على نسبة محدودة من عموم الشعب, بينما يشوب الغموض موقف الأغلبية السلبية.
الثاني : المؤيدون أنفسهم يقف تأييدهم عند مستوى الصندوق لا يتعداه, فليس لديهم استعداد للمطالبة بحق مغتصب, أو النضال من أجل الحفاظ على حق مكتسب .
وبالتأمل في هذه الاعتبارات يتبين لنا أن أكثرها تأثيراً في تصوير شعبية المنهج الإسلامي هو اعتبار حجم التأييد للتيارات الإسلامية في الانتخابات التشريعية و النقابية, و على الرغم من ذلك، فالقراءة المتأنية لمستجدات الأحداث لا تبشر بمستقبل مشرق لهذا التأييد, و هو ما سنبينه تاليا .
إذن ...هل تصبح العلمانية خيار الجماهير في المستقبل ؟!!
لا نقول بذلك و لا نتمناه, و لكن الواقع المر لا يطيب بحلو الكلام, و يكفي للتنبيه على عظم الأمر أن نذكر عوامل أربعة تدق نواقيس الخطر لمن يريد أن يساهم في إيقاف سعي العلمانيين الحثيث للصعود بهذه الأمة إلى الهاوية:
العامل الأول: التنامي المتدرج و المستمر لجهود طمس الهوية الإسلامية، و تذويب الثقافة الإسلامية, و تحقيقها نجاحات متعددة في الفترة الأخيرة, و يشكل الإعلام و التعليم ركنين أساسيين في هذه الجهود التي من شأنها أن تؤدي إلى إيجاد أجيال تجهل كل شئ عن الإسلام, و بالتالي تنكمش لغة التخاطب و التفاهم بينها و بين الدعوة الإسلامية لحساب دعاة النهج العلماني, و من ثم يتضاءل حجم الإحساس و التفاعل بكل ما ينتمي للإسلام, و هذا ولا شك من شأنه أن ينقل العمل الإسلامي إلى مرحلة مختلفة تماماً, و يكفي أن نتأمل نماذج هذه الأجيال في المدارس و الجامعات لنعلم حجم الكارثة المنتظرة .
العامل الثاني: خلو الساحة الفكرية، والثقافية، والسياسية من أي رمز أو فكر أو حركة – حزب ذي جماهيرية ملحوظة- و بخلاف التيارات الإسلامية فلا يوجد أي منافس بمعنى الكلمة, و لكن المؤسف أن الحركة الإسلامية لا تستغل هذا الفراغ، و لا تسعى لملئه بما لديها من الحق ،, بل تعجز أطروحات معظم الحركات الإسلامية عن تحقيق طفرة جماهيرية بعيدا عن موسم الانتخابات, و لن نشعر بخطورة الأمر إلا إذا أفرزت قوافل العلمانيين رموزاً أو أفكاراً أو أحزاباً تتمتع بقدرة على خداع الجماهير و التلبيس عليها, عندها ستزداد الوطأة و نعض أصابع الندم على تفويت الفرصة السانحة, و ما تجربة عبد الناصر عنا ببعيد , فقد استطاع خداع الناس و سرقة عواطف الجماهير و قلب الطاولة على الحركة الإسلامية .
العامل الثالث: اعتماد مبدأ جزئية المشاركة في الانتخابات من قبل تيارات العمل السياسي؛ استجابة للضغوط، و التهديدات الأمنية، و السياسية، وهو سلاح ذو حدين, فهو و إن كان يؤمن للحركة الإسلامية مشاركة مأمونة نوعاً ما , ففي المقابل ينتج عن هذا الأسلوب سلبيات متعددة خاصة على المدى الطويل , منها :
تعظيم حالة الإحباط و اليأس لدى الجماهير المؤيدة؛ لانحسار آمالهم في التغيير عن طريق العمل السياسي في مجرد مشاغبات برلمانية لا تحقق الطموحات المتوقعة, و هذا بدوره يؤثر على قدرتهم النفسية على متابعة التأييد للإسلاميين بنفس المستوى .
إعطاء الفرصة لمن يتهم الإسلاميين بضآلة الحجم وارتفاع الصوت وجودة التنظيم ليثبت صحة كلامه, خاصة مع ضعف الوعي الجماهيري بحقائق الوضع السياسي .
تفريغ الغضب الجماهيري و الإسلامي في مسارات متعرجة تستنزف الطاقة، ولا توصل إلى الأهداف .
العامل الرابع : تتولد مع الأيام و التجارب لدى الجماهير قناعة ذاتية بأمرين متعارضين:
الأول: مصداقية الإسلاميين، و أحقيتهم باستلام الولاية عليهم .
الثاني: يقينهم بصعوبة أو بمجازفة اختيارهم للتيار الإسلامي لما يعلمون من نتائج تترتب على هذا الاختيار مثل:
عدم تمكنهم من قضاء مصالحهم الذاتية عن طريق النواب الإسلاميين لما يتعرضون له من تضييق، وتعسير لأعمالهم من قبل الحكومة العلمانية .
تخويفهم بإدخال البلاد في حالة من الفوضى مشابهة للوضع الجزائري في حالة أقدموا على اختيار الإسلاميين إذا شاركوا بصورة كاملة في الانتخابات النيابية .
شعورهم بعدم قدرة الإسلاميين على تحقيق إنجازات مستمرة، أو ذات بال حتى في حال استلامهم للحكم بصورة مؤقتة, و التجربة التركية ماثلة للأذهان, فحزب الرفاه رغم نجاحه في الوصول للسلطة واعتلائه منصب رئيس الوزراء لم يستطع تحقيق ما كان متوقعاً من إنجازات؛ نظراً للتضييق الشديد الذي تعرض له من قبل الجيش و الرئاسة و الأحزاب العلمانية, فماذا كانت النتيجة؟ انخفضت بشكل ملحوظ نسبة التأييد الجماهيري له في الانتخابات التالية .(3/52)
و في ظل هذه الصورة القاتمة لابد من الحديث عن دور للحركة الإسلامية يتناسب مع طبيعة الصراع مع العلمانيين وتطوراته, هذا الدور المنتظر يحتاج إلى رؤية تجديدية يعاد فيها النظر في كثير من مفردات العمل الإسلامي، وهذا ما سيتم تناوله لاحقاً -إن شاء الله- .
===============
التربية القرآنية في سورتي الإخلاص
فايز بن سعيد الزهراني
إنها سورة الكافرون وسورة الإخلاص.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ 1 لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ 2 وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ 3 وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ 4 وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ 5 لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ 6 }
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 1 اللَّهُ الصَّمَدُ 2 لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 3 وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ 4 }
جاءت الأحاديث بفضائلهما، وحسبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح يومه بهما في صلاة سنة الفجر ويختم ليله بهما في صلاة الوتر، ويصدح بهما أئمة المصلين في كل ليالي رمضان في بيوت الله. سورة الكافرون تنفي أي تشابه أو التقاء بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك، وسورة الإخلاص فيها إثبات وتقرير لعقيدة التوحيد الإسلامية.. وكل منهما تعالج حقيقة التوحيد من وجه(1).
عبر هذه الأسطر سنلقي بعض الضوء على معالم التربية القرآنية التي كان القرآن يغرسها في نفوس المسلمين، عبر وقفات، أسأل الله تعالى أن يوفقني إلى الصواب فيها ، وأن يلهمني السداد والرشاد..
الوقفة الأولى: الجهل بالله سبب نزول السورتين يحسن بنا ابتداءً أن نعرض لسبب النزول، لما لذلك من أثر قوي في فهم معنى ومغزى السورة.
سبب نزول سورة ( قل هو الله أحد ) هو الفهم الخاطئ والصورة البئيسة عن الله جل في علاه. جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: صف لنا ربك، فإن الله أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو، ومن أي جنس هو، أذهب هو أم نحاس أم فضة؟ وهل يأكل ويشرب، وممن ورث الدنيا ومن يورثها؟ فأنزل الله تبارك وتعالى هذه السورة. وعن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك. فأنزل الله تعالى: ( قل هو الله أحد. الله الصمد )(2).
إنهم يعتقدون لله النسبة وأن منه بنات هن الملائكة، وكذلك اليهود والنصارى ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون).
أما سورة الكافرون فنزلت في رهط من قريش ، قالوا: يا محمد، هلم اتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يدك قد شركت في أمرنا وأخذت بحظك. فقال: ( معاذ الله أن أشرك به غيره ). فأنزل الله تعالى ( قل يا أيها الكافرون ) إلى آخر السورة. فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك(2) وقد كانوا يأملون موافقته لما رأوا من حرصه على هدايتهم صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثانية: لنتعرف على الله
من هو الله ؟ وما هو التصور الصحيح عن ربنا تبارك وتعالى؟ ( الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد ) الصمد هو كما قال ابن عباس (3): السيد الذي قد كمل في سؤدده والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفته، لا تنبغي إلا له.
إنه الحي القيوم، الرحمن الرحيم الذي خلق كل شيء وسخر لنا كثيراً مما خلق..
{ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ . فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ . وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }(3/53)
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ . وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ . أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ . وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ . وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } ذلك غيض من فيض مما عرفنا الله به عن نفسه، وهي آيات، كما ترى تربط القلب البشري بربه، وتغرس فيه حبه.
ما هو تصور النصارى عن الله؟ وما علاقة الكون والإنسان به سبحانه؟ يزعمون أن لله ولداً، سبحانه، والولادة انبثاق وامتداد ووجود زائد بعد عدم أو نقص، وهذا محال على المولى الجبار، فهو ( لم يلد ولم يولد ) بل من يقول بهذا فقد كفر كفراً يخلده في الجحيم، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ) وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولداً، وإنه ليعافيهم ويرزقهم)(4).
أما علاقتهم والكون بالله فلقد أثرت في شعورهم تلك الأسطورة اليونانية النكدة، أسطورة برومثيوس سارق النار، فشكلت مشاعرهم تجاه الله سبحانه، وانحرفت بهم عن نهجه وهداه.
هذه الأسطورة تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة صراع دائم وضغينة وأحقاد. علاقة لا ترف فيها مشاعر الرحمة أو العطف أو المودة. ولا يهدأ أوارها حتى يشتعل من جديد. والمعركة قائمة على النار المقدسة: نار " المعرفة ". البشر يريدون أن يستولوا على هذه النار المقدسة ليعرفوا أسرار الكون كلها ويصبحوا آلهة. والآلهة تنكل بهم في وحشية وعنف، لتنفرد وحدها بالقوة، وتنفرد دونهم بالسلطان!
تلك إذن هي طبيعة العلاقة بين البشر والله! العلاقة التي اندست في أوهام الأوروبيين وصارت تصرف أفكارهم بغير وعي. العجز وحده هو الذي يخضعهم لمشيئة الله! وهم غير راضين عن هذا العجز ولا ساكتين عنه. فهم في محاولة دائمة يطلبون "القوة" ويطلبون "المعرفة". يحاولون دائماً أن يقهروا هذا العجز. أو يقهروا - بلغتهم - قوة الطبيعة. أو - بلغتهم اللاشعورية أيضاً - ينتزعوا الأسرار! ينتزعوها من الإله الوثني القديم الذي كانوا يحاولون أن ينتزعوا منه ناره المقدسة!
وبهذا الدافع الخفي المطبوع في أعماق النفس الغربية - في أعماق اللاشعور - يحس الغربيون أن كل خطوة يخطوها "العلم" ترفع الإنسان فوق نفسه درجه، وتنزل الإله من عليائه بنفس القدر!.. حتى تأتي اللحظة المرقوبة التي يتحلب لها ريق الغرب ويتلهف إليها. اللحظة التي "يخلق" فيها الإنسان الحياة، ويصبح هو الله(5).
لا شك أن معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتصحيح التصور عنه سبحانه سيكون له أعظم الأثر في إصلاح النفس وإصلاح الحياة.
الوقفة الثالثة: توحيدٌ، ودعوةٌ إلى التوحيد قوله تعالى ( قل هو الله أحد ) أي واحد متفرد لا نظير له ولا وزير ولا نديد ولا شبيه ولا عديل. ولفظة ( أحد ) في الإثبات لا تطلق إلا على الله تعالى، بخلاف النفي.. فقد تقول لم يخرج من المسجد أحد. وذلك لأن الله تعالى هو وحده الكامل في صفاته وأفعاله.
هذه الآية تشابه الآيتين الأوليين من المعوذتين من وجه وتختلف عنهما من وجه آخر. أما التشابه فمن حيث أمر الله تعالى رسوله بالتلفظ بما فيها، بينما ( قل هو الله أحد ) فيها أيضاً توحيد من الله لنفسه، كما أن فيها أمرٌ بالبلاغ والدعوة إلى التوحيد (6). أي يا محمد ، ويا أصحاب محمد، ويا كل المسلمين.. وحدوا الله وادعوا الناس كافة إلى توحيد الله.
وهل دعوات الأنبياء إلا على هذا الأس العظيم ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ).
الوقفة الرابعة: هل الكافرون سيرضوننا بالدخول في الإسلام؟ قال تعالى: ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) هذه الآية تنفي أن يعبد الكافرون الله تعالى.
وفي الآية وتكرارها معانٍ.. منها: أن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله[ ولا يزال كثير منهم كذلك ] ولكنهم كانوا جاهلين به(7). فمهما ظنوا أنهم يتقربون إلى الله ببعض العبادات فهي في الحقيقة ليست عبادة لله لأن حقيقة العبادة تنافي الشرك بالله، وهذا معنى لا إله إلا الله النافي لكل معبود إلا المعبود بحق وهو الله تعالى.
ومن معانيها: أنه مهما قدمت إليكم من تنازلات، فإنكم يا كافرين لا تتنازلون عن شرككم بالله تعالى، ولو أرضيتكم بالشرك بالله ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم )، فمع إمكان حصول رضاهم عنا بالشرك بالله إلا أنه لا يمكن أن يرضوننا بعبادة الله وتوحيده.
ثم تأمل وصف الله لهم بصيغة نفي اسم الفاعل ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) ليدل على ثبوت هذا الوصف وعدم انفكاكه عنهم.. ولو لمرة واحدة.(3/54)
القومية العربية..السم في العسل
كانت العرب قبل الإسلام قبائل متفارقة لا تعرف معنى للوحدة وقد نشأت بينهم العداوة والبغضاء والتعصب القبلي,ولطالما نشأت بينهم الحروب بسبب المياه أو التعصب القبلي ,وبسبب تفرقهم انعدم تأثيرهم على الساحة العالمية آنذاك وكأنهم لا وجود لهم,بينما كانت تبرز قوتان عظيمتان هما الفرس والروم واللذان استعمرا الشرق قرونا عدة.وظل الحال هكذا إلى أن جاء الإسلام فوحد بين القبائل بعد أن أزال ضغائن التعصب والقبلية وأبدلها بأخوة الدين,وحد بينهم باسم الإسلام لا باسم العروبة,فالإسلام دين عام شامل لجميع الناس من عرب وغيرهم,والإسلام لا يقر التعصب والعنصرية ,والقارئون للتاريخ الإسلامي يعلمون أنمن المسلمين الأوائل الذين وقفوا بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة في أقسى أوقات الدعوة من ليسوا بعرب, كسليمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وعمار بن ياسر رضوان الله عنهم أجمعين.
وانتشر الإسلام على أيدي المسلمين من عرب وفرس وروم وبربر وغيرهم ,فها هو طارق بن زياد فاتح الأندلس بربري ,وصلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس كردى ,والمماليك الذين قضوا على التتار ليسوا بعرب ,فلا يستطيع أحد أن يدعى أن المسلمين الذين نشروا الإسلام كانوا عربا فقط ,بينما نسبة العرب بين المسلمين هي الخمس,وكثير من العرب الآن أصولهم ليست عربية ,وبالأحرى فإنه من الظلم أن تنسب الحضارة الإسلامية إلى العرب فقط بل إنه تزوير للتاريخ,حتى إن قلنا الحضارة العربية الإسلامية فإن ذلك يعنى اللغة و أصل المنشأ ليس إلا .
فقد كان للإسلام الفضل العظيم على العرب بعد أن وحد بينهم ,قال تعالى :(( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم )) .
وهكذا جمع الإسلام المسلمين من أعراق مختلفة تحت راية واحدة هي راية الإسلام . ولكن في عصرنا الحاضر نجد البعض يدعوا إلى دعوة تغير من هويتنا و لا تقبلها حقائق التاريخ وهى القومية العربية وهى وحدة للعرب على أساس قومي أي على أساس العرق لا تشمل غير العرب من مسلمين مع أنها تشمل العرب غير المسلمين .أي وحدة علمانية . متناسيين أن وحدة العرب كانت على أساس الإسلام ,وهذه الفكرة امتداد للفكر العلماني الذي يحاول أن يقصى الدين عن كل مناحي الحياة .ومحاولة لضرب الوحدة الإسلامية الشاملة عن طريق طرح بديل لها ,وقد يعرض هذا البديل أحيانا على أنه إسلامي على سبيل الخداع,وعلى مدار قرن بأكملة نجحت وسائل الإعلام في تلقين الناس لهذه الفكرة .فاستبدلت كلمة الدولة الإسلامية بالوطن العربي خاصة بعد سقوط الخلافة.واستبدلت القضية الإسلامية بالقضية العربية وكلمة الدول الإسلامية بكلمة الدول العربية .
ولقد بدأت فكرة القومية العربية بعد ضعف الخلافة الإسلامية وقبيل سقوطها على أيدي الكتاب المسيحيين الشوام في سوريا في نهاية القرن التاسع عشر وانتقلت إلى مصر وازدادت الدعوة إليها بعد سقوط الخلافة الإسلامية .وهى تختلف عن الفكرة التي دعا إليها عبد الرحمن عزام وأسسها (جامعة الدول العربية ) والتي أخذت الصبغة الدينية ولم يتوانى عبد الرحمن عزام في الدفاع عن دول إسلامية كإندونيسيا وكانت فكرة مبشرة آنذاك ولكنها اشتهرت بعد ذلك بالمواقف المخزية.
ثم تبنى الرئيس جمال عبد الناصر فكرة القومية العربية ودعا لها ومن بعده حزب البعث العربي في سوريا والعراق ,وأرى أن حزب البعث في سوريا والعراق وجمال عبد الناصر في مصر ليسا إلا ظاهرة صوتية تلعب بعواطف الجماهير ثم تغرقها فى النهاية كما حدث في 67 .وحزب البعث السوري لم يطلق حتى طلقة لتحرير الجولان بينما يملأ الدنيا ضجيجا ويتفنن في اعتقال وقمع الإسلاميين .
ولا يزال كثير من العلمانيين يدعون إلى الوجه المتطرف لهذه الفكرة وهو وحدة بعيدة عن الإسلام حتى قال أحدهم
(أنا عربي ولست مسلما).
ونرد على هذه الدعوة المزيفة بعدة حقائق نبين بها فضل الإسلام على العرب و أننا نحن العرب لم ننهض بعروبتنا بل بنسيج الإسلام يضم العرب وغيرهم .ونذكر فضل الإسلام على العرب من كل الجوانب :أولا فضله على لغتهم اللغة العربية وثانيا فضله على العرب أنفسهم.
ولنذكر أولا فضله على اللغة العربية والتي لولا الإسلام لتعذر بقائها إلى الآن أو لربما استحال .بينما بفضل الإسلام ظلت اللغة العالمية لعدة قرون فترجمت إليها العلوم اليونانية والهندية ومن ثم ترجمت إلى اللاتينية .
فاللغة العربية ليست كغيرها من اللغات ولكنها لغة قوية في أسلوبها وألفاظها ,لغة تحكمها الضمة والفتحة ,فتغيير في تشكيل حرف قد يقلب المعنى رأسا على عقب وهى ثرية بالألفاظ والمعاني وهذا الثراء والقوة جعلاها أفضل لغة لترجمة المعاني واحتوائها كاملة من غير إخلال ,ولكن لغة بهذه القوة تحتاج إلى عناية ورعاية تعادل قوتها ,وهذا ما فعله العرب ,فهم قد صنعوا مع لغتهم ما لم يصنعه قوم .فلم يسمع عن أحد سوى العرب أقام أسواقا للكلام واللغة , يعرض فيها الكلام شعرا ونثرا كسوق عكاظ.
لقد كان اهتمام العرب بلغتهم لا يضاهيه اهتمام .ولكن هل كان لهذا الاهتمام أن يدوم لو خاض العرب حروبا مع غيرهم أو قل غزاهم غيرهم من العجم خاصة لو هزموا في هذه الحروب وهو المؤكد .فالحرب شر لابد منه . خاصة أن العرب قبائل متفرقة تحيط بهم مملكتين عظيمتين هما الفرس والروم بالإضافة إلى الحبشة .ففي حالة أي حرب تشنها هذه الممالك لتوسيع رقعتها ونفوذها فإن العرب مغلوبون فيها لا محالة عدة وعتادا ووحدة يملكها العدو ولا يملكونها ,كما أنهم سيفرطون في لغتهم ولن يستطيعوا وهم عبيد أو محتلون أن يرعوا لغتهم أو حتى أن يتكلموا بها .ومن هنا كان الفضل الأول للإسلام على العرب حيث أنه حماهم بسيفه من أي اعتداء , بل أنه حرر الشرق بأكمله من استعمار الفرس والروم استعمار دام أكثر من ثمانية قرون , ووحد القبائل العربية مع بعضها ومع غير العرب تحت راية الإسلام وكونوا لأقوى دولة عرفتها البشرية دولة الخلافة الإسلامية وفتحوا في أربعين سنة ما لم يفتحه الروم في ثمانية قرون ,وكانت لهذه القوة العسكرية الإسلامية الفضل على العرب وعلى لغتهم من الضياع .
ويأتي فضل آخر على اللغة العربية وهو تدوينها , فالعرب قبل الإسلام لم يكتبوا سطرا واحدا في قواعد لغتهم لعدم حاجتهم إلى ذلك مع تمكنهم الشديد منها وعدم احتياجهم إلى قواعد تضبط كلامهم السليم بالسليقة .ولكن ما كان هذا ليدوم خاصة مع اختلاط العرب مع غيرهم من العجم ,ودخول ألفاظ غريبة إلى لغتهم كان لابد من تدوين اللغة العربية وإنشاء علم يضبط الكلام بها ,وهذا ما فعله الخليفة علي بن طالب رضي الله عنه حيث أمره أن يألف علما على نحو مثال وضعه له ,وعندما عرض علي أبو الأسود الدؤلي ما ألفه قال له ما أجمل هذا النحو الذي نحوت .واستمرت جهود العلماء في هذا المجال (علوم اللغة) من نحو وصرف وميزوا اللفظ العربي الأصيل عن غيره من الألفاظ الدخيلة ,ثم وضع عبد القاهر الجرجاني علم البلاغة .وبرزت جهود علماء غير عرب في هذا المضمار .حتى أن سيبويه أعظم علماء اللغة العربية فارسي وكلمة سيبويه فارسية و معناها رائحة التفاح .فبفضل الإسلام اهتم غير العرب باللغة العربية لأنها لغة القرآن .
(/)
وبعيدا عن حماية العرب وتدوين لغتهم كان للإسلام الفضل في بقاء اللغة العربية وإحيائها على الألسن عن طريق القرآن والسنة واللذان يتليان يوميا في كل صلاة ودونها , فنرى أهل البلاد التي حافظت على القرآن والسنة لغتهم أقرب إلى الفصحى من بلاد أخرى أنهكها طول الاستعمار.
وبعد أن ذكرنا فضل الإسلام على اللغة العربية نذكر فضله على العرب أنفسهم .فالإسلام وحد العرب وأوجدهم كأمة من عدم وأزال من بينهم العداوة والبغضاء ففتحوا في أربعين سنة ما لم يفتحه الروم في ثمانية قرون وحماهم بسيفه من أي اعتداء ينتج عنه غزو ثقافي أو استئصال ,ورفع من شأن لغتهم فأصبحت لغة عالمية بعد أن كانت إقليمية فقد قال عمر بن الخطاب (العربية مادة الإسلام ) ووسع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مفهوم العربية لتشمل المسلم غير العربي فقال ( ليست العربية من أحدكم بأب ولا أم إنما العربية اللسان فمن تحدث العربية فهو عربي )وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ,مما قوى من مفهوم العروبة حتى أن أعظم علماء اللغة العربية وهو سيبويه لم يكن عربيا ومعظم العرب الآن أصولهم ليست عربية فمنهم الفارسي والرومي واليوناني والهندي والقبطي و الإغريقي والبربري والإفريقي والكردي والحبشي ,تحدثوا العربية واندمجوا في مجتمع مسلم لا يفرق بين عربي ولا أعجمي إلا على أساس التقوى وشارك في هذه الحضارة علماء مسلمون غير عرب من أعراق شتى وشاركوا في مجالات كثيرة ففي التفسير نجد الزمخشري و في الحديث البخاري ومسلم وفي الفقه نجد أبو حنيفة النعمان وفي الشعر نجد ابن هانئ (أبو نواس) وفي الجغرافيا أبو إسحاق الإصطخري وفي ميدان الجهاد نجد طارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي ونور الدين محمود وقطز . كل هؤلاء شاركوا في الحضارة الإسلامية ودافعوا عنها شأنهم شأن العرب المسلمين ومن هنا كانت قوة هذه الأمة والتي صمدت أمام جميع الاعتداءات شرقية كانت أم غربية , صليبية أو تتارية أو استعمارية , كانت قوتها في الإسلام والوحدة الإسلامية , إن نجاح الحملات الصليبية أو التتارية كان كفيلا بالقضاء على العرب وهويتهم ,ومن المفارقات أن الذين قضوا على هذه الحملات لم يكونوا عربا , فصلاح الدين ونور الدين محمود وقطزكانوا مسلمين من أصول غير عربية , وهذا هو الإسلام لم يفرق بين عربي وغيره ففاتح العراق هو خالد بن الوليد العربي وفاتح الأندلس هو طارق بن زياد البربري و صلاح الدين كردي وكلهم في الدين إخوانا .
وكما قلنا فإن الحضارة الإسلامية ليست عربية فقط بل شاركت فيها أعراق شتى ,فلو إنعزل العرب على أنفسهم كما يريد القوميون العرب فإننا نخلق أمة بلا تاريخ , لأن تاريخنا على مدار أربعة عشر قرنا تاريخ إسلامي مشترك شارك فيه العرب وغيرهم , وحتى العرب شاركوا في هذه الحضارة على أساس ديني, فأين كان العرب قبل الإسلام؟ إن العرب قبل الإسلام كانوا أميين حتى أنهم لم يكتبوا سطرا واحدا في أي علم من العلوم . ود صدق الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال ( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله ) ,أم أن القوميين العرب يريدون أن يسرقوا الحضارة الإسلامية وينسبوها إلى العرب فقط .لا لشئ إلا لعلمنة الوحدة وإبعاد الإسلام عن القضية . وضرب الوحدة الإسلامية عن طريق طرح وحدة لا دينية . واستخدام العروبة لأجل هذا الغرض مع أن العرب هم أبناء الإسلام و بدونه لا وجود لهم ,وطرح هذا المفهوم الجديد (الوطن العربي أو الدولة العربية )في وسائل الإعلام بأسلوب مخادع قد يطرح أحيانا على أنه إسلامي لإلهاء الناس عن الوحدة الإسلامية وعودة الخلافة , وتزوير التاريخ كما في فيلم صلاح الدين والذي رصدت له آنذاك مبالغ جبارة , والذي يطرح القضية على أنها قضية عربية وصلاح الدين على أنه أمير العرب مع أنه كردي , وهكذا نجد في كل كتابات العلمانيين أنهم استبدلوا كلمة إسلامي بعربي.
إن شأن العرب بعد السلام قد اختلف كليا وحتى الدول العربية من المحيط إلى الخليج إنما أسسها المسلمون من كل الأعراق وبمنهج إسلامي , فلو أراد القوميين وطنا عربيا علمانيا فليعودوا إلى صحراء الجزيرة العربية ويرعوا الغنم ويتنازعوا على آبار الماء .
وبعد سقوط الخلافة الإسلامية 1924 اشتعلت نيران المؤامرات الفكرية ,بل قل قبل سقوط الخلافة ,وكانت أشدها فتن القوميات والتي أثارها العلمانيون ,ففي مصر يقولون بأننا فراعنة رغم سخافة هذا القول وفي العراق يدعون إلى البابلية وغيرها من القويات التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعرات ,وكانت الدعوة إلى القومية العربية محاولة لضرب الوحدة الإسلامية إبعاد الإسلام عن القضية ,وأخذت الأقلام العلمانية تأصل لهذه الفكرة لإلهاء الناس عن الخلافة ,فالإسلام هو الباعث الحقيقي لهذه الأمة وهو المصدر الوحيد لقوتها , ولد أدرك الغرب تماما هذه الحقيقة فعملوا جادين على ضرب الإسلام في مجتمعاتنا وفي قلوبنا وإقصائه عن المعركة . والإسلام هو ما يخشونه في المنطقة ,ومما قاله رئيس وزراء إسرائيل بيجن (لن يتحقق السلام في المنطقة إلا بزوال الإسلام ولن نطمئن على دولتنا إلا بزوال الإسلام ) , ولا يخفى علينا أن ما يعنيه هذا الوقح بالسلام هو سيطرة إسرائيل على المنطقة وتأسيس دولة إسرائيل الكبرى من النيل للفرات والتي يعلقون خريطتها في الكنيست الإسرائيلي رغم كل اتفاقيات الاستسلام التي عقدها معهم الحكام العرب أو بعضهم ,ونشرت جريدة ايديعوت احرنوت منذ حوالي عقدين ( لقد نجحنا وبجهود أصدقائنا في إقصاء الإسلام عن المعركة مدة ثلاثين عاما ) وقال غيرهم نحن لا نخشى خطرا في المنطقة سوى الإسلام .ومن هنا أيضا أبعد الإسلام عن القضية الفلسطينية فيقولون القدس عربية بهدف إرضاء الغزاة أو عن جهل .
ومن المفارقة أن هذه الدعوة وهي القومية العربية لم تنقلب إلى واقع وهذا لأنها مجرد وسيلة فكرية لإبعادنا عن الوحدة الإسلامية وليست غلية في حد ذاتها . فالغرب غايته إما الإقصاء أو التبعية ,وخشية لو سعوا في وحدة عربية علمانية أن تنقلب هذه القوة إلى وحدة إسلامية .
إن القومية بهذا المفهوم إنما هي سم في عسل وتزوير للتاريخ وسرقة لحضارة ليست ملكا للعلمانيين يصبغونها كما يشاءون .
إن الحل هو أن نترك نعرات القوميات سواء كانت عربية أو فارسية أو تركية وأن نتمسك بوحدة الإسلام فكما قال سليمان الفارسي رضي الله عنه والذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان منا آل البيت ) : أبى الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ وإن همُ افتخروابقيس أو تميمِ وهذا لا ينافي كون الحضارة الإسلامية عربية المنشأ لسانها عربي ونبيها عربي ولكنها خرجت من حيز العروبة إلى العالمية لتؤدي غرضها كدعوة عالمية مع احتفاظها باللغة كلغة للقرآن وبأصل المنشأ,ومن هنا قد ا البعض بالحضارة العربية الإسلامية على أساس أن العربية لغة الإسلام ودين نبيه وأصل منشأه لا على أساس قومي علماني .
ولذلك فالإسلام يشمل العروبة كعرق وكلغة وأرض بينما لا تشمل العروبة الإسلام , وسليمان الفارسي أفضل لدينا من أبو جهل العربي , والأتراك المسلمون خيرعندنا من الكنعانين وهم عرب كفار.
(/)
وكما يقول الدكتور راغب السرجاني إن أمة إسلامية تعدادها أكثر من مليار وثلث ,لهى أقوى من أمة تعدادها ثلاثمائة مليون , إن قيام دولة إسلامية يعني قوة بشرية بها نووية باكستان وبترول الخليج والقوقاز ,وصواريخ إيران ويورانيوم كازاخستان وقناة السويس ومضيق باب المندب وخليج البسفور ومزارع السودان ومناجم أفريقية وتكنولوجيا ماليزيا وإندونيسيا وطاقات بشرية هائلة وعقيدة ووحدة إسلامية , إن هذا هو ما يخشاه الغرب .
القوميون لم يرسلوا رصاصة للدفاع عن فلسطين .وسوريا لم تفعل أى محاولة لتحرير الجولان بعد 73. وماذا فعل صدام حسين غزا الكويت وأيران بينم لم يتجرأ للرد على إسرائيل حين قصفت المفاعل الننوى العراقى 83 وصدام حسين رفض المشاركة فى حرب73 بحجة أنهم لم يخبروه بنية الحرب بل وقام بسحب القوات العراقية من سوريا آنذاك ولو علموا فيه خيرا لاخبروه وانهزمت سوريا القومية فى 73بينما انتصرت مصر التى عدلت دستورها 71 ليكون اسلامى المرجعية وعبد الناصر قال بأنه سيرمى الاسرائيلين فى البحر بينما الحقيقة انه رمى اليمنين والجزائرين فى البحر بينما رمتنا اسرائيل فى الصحراء
اننا لو قارنا ما فعله الاخوان مثلا حين ارسل حسن البنا 10000مجاهد او حين اسسوا حركة حماس مع ان الاخوان مجرد جماعة مع الحكومات القومية فلن نجد وجها للمقارنة
ولكن ما اعنيه بالقومية العربية هو التيار العلمانى الذى يريد وحدة للعرب بعيدا عن الاسلام متناسين ان الذى أسس هذه الحضارة هم المسلمون من عرب وفرس وغيرهم أمثال بلال الحبشى وطارق بن زياد البربرى وصلاح الدين الكردى و خالد بن الوليد العربى.
بدأ هذا التيار على أيدى بعض المسيحيين الشوام وبدأيقوى بعد سقوط الخلافة وتبناه جمال عبد الناصر ثم حزب البعث.
كما أن وحدة اسلامية بها بترول الخليج وقناة السويس ونووية باكستان وصواريخ ايران ويورانيوم كازخستان ومضيق باب المندب وتكنولوجيا ماليزيا وغيرها من موارد ومليار ونصف انسان اقوى من وحدة عربية متجردة من الدين وهذا لا ينافى كون (العربية مادة الاسلام )كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
فأنا لا أعنى الوحدة العربية الاسلامية ولكن تلك العربية العلمانية
حتى نصدر حكما على فكرة ما، يجب علينا أولا أن نفهم معنى هذه الفكرة و واقعها و الغاية التي تهدف إليها ، و بعد ذلك نصدر حكمنا من خلال الاسلام على تلك الفكرة. فما هو معنى فكرتي القومية و الوطنية، و ما هو واقعهما، و ما هي غايتهما؟
اما القومية، ففي اللغة العربية "قوم الرجل : شيعته و عشيرته" هكذا في لسان العرب لابن منظور. و لكن في الاصطلاح الحديث هي ترجمة لكلمة nationalism المستعملة في اللغات الأوروبية. و هذا الاصطلاح الحديث دخيل على اللغة العربية، و دخيل على فكر المسلمين. و بناء علي اصطلاح الأوروبيين هذا، فهي تعرض على أنها رابطة للمجتمع تربط بين مجموعة من البشر يشتركون بخصائص و صفات مشتركة. فما هي العناصر التي تؤلف تلك الخصائص و الصفات؟ لم يستطع أصحابها أن يتفقوا على مجموعة العناصر التي تشكل "القومية" و لا أن يحددوا مدلولها بشكل منضبط. فمنهم من قال إن مقومات القومية هي الدين، و منهم من قال هي العادات و التقاليد المشتركة، و منهم من قال هي اللون أو العرق البشري، و منهم من قال هي المنطقة الجغرافية، و منهم من جمعها كلها، و منهم من جمع بعضها و رفض البعض الاخر.
و إذا نظرنا إلى هذه العناصر : اللغة و الرقعة الجغرافية و التاريخ المشترك و المصالح المشتركة... نجد أنها نتائج و ليست سببا. إنها نتائج توجد عند الناس الذين تكون بينهم رابطة تربطهم، و ليست هذه العناصر هي التي تشكل الرابطة. الذي يوجد الرابطة بين الناس هي وحدة أفكارهم، و خاصة الأفكار الأساسية. و لتوضيح ذلط نأخذ المجتمع المكي قبيل بعثة النبي محمد صلى اله عليه و سلم. كانت قبيلة قريش تشكل المجتمع المكي (كان هناك ناس من قبئل أخرى و لكن كانوا تبعا لقريش و يحملون الولاء لها). هذه القبلية كانت ذات لغة واحدة، و تاريخ واحد و رقعة جغرافية واحدة، و عرقية عصبية واحدة، و مصالح مشتركة. و كانت في الوقت نفسه تحمل أفكارا مشتركة.
جاء الاسلام و لم يتعرض إلى لغتهم و لا تاريخهم و لا عرقيتهم و لا جغرافيتهم و لا مصالحهم ، و إنما تعرض لشيء واحد، هو أفكارهم بدءا بالعقيدة الأساس، مرورا بالعقائد الفرعية وصولا إلى سلوكهم و قيمهم و مقاييسهم و معاملاتهم.
بعد مدة حصل انشقاق في المجتمع المكي : فريق مسلم و آخر مشرك. و هاجر قسم من المسلمين إلى الحبشة و صبر قسم آخر على الأذى و المقاطعة، ثم هاجروا إلى المدينة. ثم وقعت حروب طاحنة بين الفريقين.
لماذا حصل الانشقاق، مع أن كل العناصر التي يزعمون أنها تشكل الخصائص و الصفات التي توجد الرابطة موجودة ، ما عدا عنصر الوحدة الفكرية؟
ثم بعد فتح مكة و دخول قريش إلى الاسلام عادت الوحدة الفكرية إلى المجتمع المكي، و لكن هذه المرة على أساس الاسلام و مفاهيم الاسلام، فعادت اللحمة إلى مجتمع مكة من جديد.
و هذا المثال الواضح يرينا أن الذي يوجد الرابطة و الوحدة و الاندماج و الانسجام هو وحدة الأفكار. و كلما ازدادت نسبة الأفكار لمتفق عليها في المجتمع قويت الرابطة و اشتدت أواصرها، و كلما ازدادت نسبة الأفكار المختلف عليها تشقق المجتمع و تفكك. و لا نظن أن شخصا عاقلا نزيها يماري في هذا الرأي.
إن فكرة القومية التي انتشرت في بلادنا هي القومية العربية فلنلق الضوء عليها بشكل خاص. فالقوميون العروبيون يرون أن "العرب" يشكلون "أمة واحدة" مستقلة عن غيرها من الشعوب و ألأمم، فهم "أمة عربية" و ليسوا "أمة اسلامية" و لا جزءا من "أمة اسلامية"، إذ لا وجود "لأمة اسلامية" بنظر هؤلاء. و يرون أن الرابطة التي تجمع هذه "الأمة" هي اللغة العربية بشكل أساسي.
فما هو الموقف الشرعي من تلك الفكرة؟
إن النظرة النزيهة إلى التاريخ لا تحتاج إلا إلى قليل من الوعي حتى تدرك أن اللغة العربية لم تكن يوما لتشكل رابطة للمجتمع. فها هي في الجاهلية كانت منتشرة في الجزيرة العربية كلها، فلماذا لم تجمع العرب؟ ألم تكن القبائل العربية متفرقة متناحرة رغم وحدة اللغة؟
إن العرب لم يتحدوا و يجتمعوا إلا بعد ان نزل الاسلام و انتشر في الجزيرة العربية، و ها هو الله سبحانه و تعالى يذكر المسلمين بالنعمة التي أسبغها عليهم بالإسلام قائلا: و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا ، و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا : و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ..سورة آل عمران - آية 103
إذن فإن الاسلام بوصفه دينا للبشر كافة و نظاما للحياة و المجتمع هو الذي جمع العرب و ليس اللغة العربية . "و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" سورة الأنفال آية 63
و هناك من القوميين العروبيين من يقول إن مقومات القومية العربية هي العروبة و الاسلام معا. و يستدل على ذلك بأن القرآن عربي ، فالله تعالى يقول "إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون".. سورة يوسف آية 2
و ينسب بذلك القومية العربية إلى الاسلام.
فهؤلاء نقول لهم ، إن الله تعالى يقول للرسول صلى الله عليه و سلم: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" .. سورة الأعراف آية 158
(/)
و يقول عز و جل: "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" سورة الأنبياء آية 107
و يقول سبحانه و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا ..سورة سبأ آية 28
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة و بعثت إلى كل أحمر و أسود.
فرسالة الاسلام رسالة عالمية و ليست للعرب وحدهم ، و الأمة تضم المؤمنين من العرب و غيرهم . فقد كان في نص الوثيقة التي كتبها الرسول صلى الله عليه و سلم فور وصوله إلى المدينة و قيام الدولة الاسلامية الأولى أن "المؤمنين و المسلمين من قريش و يثرب و من تبعهم و جاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس" سيرة ابن هشام
فالأمة الاسلامية حين انتشرت و توسعت ضمت في رحابها من العجم و سائر الشعوب أكثر مما ضمت من العرب. و ها هي الامة الاسلامية اليوم تربو على مليار نسمة, لا يزيد العرب عن ربعهم و الباقون من غير العرب.
و لنتذكر وصية الرسول صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع: " يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، و لا لعجمي على عربي, و لا لأسود على أحمر , و لا لأحمر على أسود, إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"
نعم لقد تمسك المسلمون باللغة العربية ، إلا أنهم لم يتمسكوا بها بدافع قومي أو عنصري، و إنما تمسكا بالاسلام نفسه الذي نزل بلغة العرب ، و هي اللغة التي يحترمها جميع المسلمين عربا و غير عرب، و يسعون إلى تعلمها و إتقانها . و ها نحن نرى أن اللغة العربية انتشرت مع انتشار الاسلام ما بين الخليخ شرقا و المحيط الأطلسي غربا، و تصل إلى حدود الأناضول شمالا، بعد أن كانت حبيسة الجزيرة العربية. فهل كان لتلك اللغة أن تنتشر لولا ظهور الاسلام؟
لذلك فإن الدعوة إلى القومية هي دعوة إلى عصبية جاهلية جدية، و ليست من الاسلام في شيء. و الداعي إلى القومية مرتكب لمعصية كبيرة و آثم عند الله تعالى.
من كتيب حكم الإسلام في القومية و الوطنية, لأحمد القصص
===============(/)
الوقفة الخامسة: لا نرضي الكافرين بتلبية رغباتهم ولو لمرة على حساب ديننا ( لا أعبد ما تعبدون ) ( ولا أنا عابد ما عبدتم ) فيه نفي أن يعبد الرسول صلى الله عليه وسلم آلهتهم الكاذبة. ولكن ما سر التكرار؟ توكيد مفهوم التوحيد والبراءة من الشرك من ذلك، إلا أن بين الآيتين اختلاف في الصيغة. ففي الآية الأولى أتى بصيغة نفي الفعل، وفي الثانية أتى بصيغة نفي اسم الفاعل. والفرق بين الفعل واسم الفاعل أن الفعل يدل على الحدوث والتجدد والوقوع ولو لمرة واحدة، والاسم يدل على الوصف اللازم ويدل على الثبوت ، فكأنه قال:إرضاؤكم بعبادة آلهتكم لا يقع مني ولو لمرة، وأن هذا ليس وصفي ولا شأني(8).
ونحن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والمخاطبون بهذه الآيات من بعده لا ينبغي لنا أن نرضي الكافرين بما يقدح عقيدتنا ولو كان يسيراً ولو لمرة. وقد جاءت التوجيهات القرآنية صريحة ومضمنة بالنهي عن طاعة الكافري؛ إطلاقاً.. يقول المولى جل ذكره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ . بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) وقال جل ذكره في آيات فيها من التحذير والكشف عن حقيقة الكافرين وما تنطوي عليه نواياهم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ . هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )
الوقفة السادسة: التميز لا التميع
الدين هو الملة والعقيدة التي تقع سلوكيات الحياة والتقاليد والعادات على مقتضاها. وفي هذا الإطار يقول الله عز وجل ( لكم دينكم ولي دين )، أي لكم ملتكم وعقيدتكم بل وسلوكيات حياتكم وعاداتكم وأنماط عيشكم، ونحن لنا ملتنا وعقيدتنا وسلوكيات حياتنا وعاداتنا وأنماط عيشنا.
لا نوافقكم على ما أنتم عليه من الدين فإنه باطل مختص بكم، لا نشرككم ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق. وهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم(9).
جاء في وثيقة الحلف بين المهاجرين والأنصار البند الأساس الذي نص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن المسلمين ( أمة من دون الناس ).. فقد تتشابه الأمم والدول ويتبع بعضها بعضا في نظمها وتشريعاتها وأخلاقها، اليهود والنصارى والمجوس وغيرها، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي أمة من دون الناس، لا يليق بها – بل يحرم عليها – موافقة الكافرين في ما هو من خصائصهم في العادات والتقاليد، فضلاً عن موافقتهم في الشعائر والنظم.
وهذا التمييز كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسك الأمة واعتزازها بذاتها، يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة. وقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم يميز المسلمين عمن سواهم في أمور كثيرة ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود [ كفار المدينة ] من ذلك: أن اليهود لا يصلون بالخف فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يصلوا بالخف، واليهود لا تصبغ الشيب فصبغ المسلمون شيب رأسهم بالحناء والكتم. واليهود تصوم عاشوراء والنبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضاً ثم اعتزم أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه مخالفة لهم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم والتميز عليهم فقال: ( من تشبه بقوم فهو منهم )وقال: ( لا تشبهوا باليهود ) والأحاديث في ذلك كثيرة وهي تفيد معنى تميز المسلمين واستعلائهم على غيرهم(10).
الوقفة السابعة: لا التقاء بيننا وبين الكافرين إنها ضرورة المفاصلة الواضحة بيننا وبين الكافرين. فلا يمكن أن نلتقي وإياهم لا في الاعتقاد ولا التصور ولا المنهج ولا السلوك.
أما الاعتقاد فنحن نؤمن بأنه لا إله إلا الله، وهم يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً من حجر أو شجر أو بشر..
ونحن نؤمن بالأنبياء جميعاً ( آمن الرسول بما أنزل إليه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) وهم يكفرون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويسبونه ويسخرون منه.
أما التصور فنحن نرى أن هذا الكون مما يتصل بالإنسان إنما هو مسخر لنا كما ورد في آيات كثيرة من أمثال قوله تعالى ( والله جعل لكم ) و ( وأنزل لكم )، والله الذي وهبه لنا أمرنا أن نسعى فيه وأن نعمره بمنهجه لا بأهوائنا.
والكافرون يرون الكون طبيعة يغالبون بها الله تعالى وأنهم استطاعوا بفضل عقولهم أن يصلوا إلى درجة الربوبية في صناعة الأشياء وتسخيرها فيما يريدون، فأهلكوا الحرث والنسل.
ونحن نعلم – من خلال الكتاب والسنة – تفاصيل حياة الإنسان، مبدأه ومنتهاه ومصيره وآخرته. والكافرون لا يعلمون عن الإنسان ذلك كله فاختلقوا مبدأ كريهاً يخالف ما شرفه الله به فزعموا أن مبدأه حيواناً قرداً، حسب قانون التطور المشئوم.
ونحن نرى الحياة الدنيا جزءاً من الحياة تتبعها حياة البرزخ ثم الحياة الأخرى، ونرى الحياة الدنيا مزرعة للآخرة وسبيلاً إليها ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ). والكافرون يرون الحياة الدنيا هي كل الحياة ، فلا برزخ ولا معاد، ولا حساب ولا جزاء ( زعم الذين كفروا ألن يبعثوا) فعثوا فيها فساداً يسابقون الموت بشهواتهم.
أما المنهج فمنهجنا الوحي المعصوم من كتاب وسنة لا يأتيهما الباطل من بين أيديهما ولا من خلفهما. ومنهج الكافرين حثالة أذهان المضلين من البشر الذين سولت لهم أنفسهم وشياطينهم أن يشرعوا لأمثالهم القوانين والنظم.
أما السلوك فإن النظام الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي الذي جاء به الوحي يؤطر حياتنا وحرياتنا وعلاقاتنا وعاداتنا بإطار من الأدب والحشمة، والجماعية ومحبة الغير، والمسؤولية.. والخشية من الله تعالى.
والكافرون يعيشون بلا إطار.. لا أخلاقي ولا اجتماعي ولا اقتصادي.. ليس إلا الأنانية والتفلت والتمرد على ما هو أصيل وطاهر .. ليس إلا الحريات المفتوحة في كل الاتجاهات التي أهلكت الحرث والنسل.. ليس إلا حياة الأنعام ( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ). إن الفوضى المالية والجنسية ليست إلا إفرازاً نجساً من الكيان الكافر الملحد.
كيف نلتقي بهم في وسط الطريق وبيننا وبينهم بعد المشرقين؟!
وعندما يريد فئام من الأمة الالتقاء بهم في وسط الطريق – كما يقال – فإنهم في الحقيقة يرتمون في أحضانهم و يقعون في شراكهم، ثم لا يعودون ولاهم يخرجون.. إلا بالخيبة والخسران والتفسخ والانحلال وفقد الهوية والانهزام. أم إنها النبوءة الصادقة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما في حديث ثوبان(11) ( ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ).(3/55)
الوقفة الثامنة: إعلان البراءة والمفاصلة مقتضى كل آيات سورة الكافرون إعلانُ هذه المفاصلة والبراءة بكل وضوح للكافرين، وأن لهم دينهم وطريقتهم في الحياة، ولنا ديننا وطريقتنا في الحياة. ولهذا لما نزلت السورة امتثل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر وغدا إلى المسجد الحرام وقرأها على الملأ من قريش.
الوقفة التاسعة: المفاصلة الوجدانية
الشعور بكراهية الكفر وما عليه الكافرون من عادات ونظم وأنماط حياة، وأنه باطل ، والتحرز منه من مقتضيات التوحيد، وهنا يستشعر المسلم حلاوة الإيمان، كما في الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار )(12).
وهذا هو حجر الأساس، شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء. لهم دينهم وله دينه، لهم طريقتهم وله طريقته. لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم. ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير!(13) الصحابة رضوان الله عليهم كانوا على هذا الحال. ما إن يسلم الرجل منهم أو المرأة، وما إن يتلفظ أحدهم بالشهادة حتى يسلخ كل أثواب الجاهلية وكل أنماط الجاهلية وكل ما يتعلق بالجاهلية على أعتاب الباب الذي يدلف منه إلى الإسلام، فلا يبقى في نفسه وضميره ووجدانه إلا الإسلام. هكذا رباهم القرآن، وهكذا كانوا، والله المستعان.
الوقفة العاشرة: الثبات على المبدأ
لم يكن من هدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم - وليس هذا بمقتضى الإسلام - تمييع الدين إرضاءً للكافرين، ولا التنازل عن بعض مبادئه خوفاً منهم.. كلا ورب الكعبة. وقد كانوا مستضعفين في مكة ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ...) الآية، بل كان يعلم صلى الله عليه وسلم من أول الأمر أن العرب قاطبة قد تجتمع على حربه.
إنه الثبات على المبدأ أمام فتنة الكافرين، من ترغيب وترهيب، مهما غزونا عسكرياً أو اقتصادياً أو ثقافياً.
الوقفة الحادي عشرة:كيف نخاطب الكافرين
( يا أيها الكافرون ) هذه طريقة الخطاب القرآني الفريدة التي لا مثيل لها في القرآن، والتي تصفهم بالكفر الصريح الخالص. تحقيراً لهم وتأييداً لوجه التبرؤ منهم، وإيذانا بأنه لا يخشاهم صلى الله عليه وسلم إذا ناداهم بما يكرهون مما يثير غضبهم. قال أبو بكر بن الأنباري: إن المعنى: قل للذين كفروا يا أيها الكافرون أي يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم: يا أيها الكافرون، وهم يغضبون أن ينسبوا إلى الكفر(14). لأنهم يعتقدون أنهم هم المؤمنون. وكما يعتقد كفار قريش أنهم أتباع إبراهيم عليه السلام فكذلك النصارى اليوم ومن قبل يعتقدون أنهم أتباع عيسى عليه السلام وأنهم حملة الخير والنور إلى الأمم. بينما في الحقيقة هم الكافرون، وهذا هو اسمهم.. إنهم ليسوا بـ ( الآخر ) ولا ( أتباع الديانات السماوية ) بل هم ( الكافرون حقاً ).. هكذا سماهم الله تعالى وأمر نبيه أن يخاطبهم بهذا الاسم.
قال ابن كثير رحمه الله عن هذا الخطاب: ( يشمل كل كافر على وجه الأرض)(15).
الوقفة الثاني عشرة: الحرية الحقيقية
حين يحصل اليقين في القلب من فهم واعتقاد ما في سورة الإخلاص؛ فإن القلب يتحرر من كل القيود، قيود الشهوات والشبهات، وقيود الرغبة والرهبة، فلا يرغب القلب إلا فيما عند الله الأحد الصمد، ولا يرهب إلا الله الأحد الصمد، ولا يرجوا ولا يخاف إلا الله الأحد الصمد.
وكيف يرجو وكيف يخاف من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا رزقاً.. وهذه التربية القرآنية هي ذاتها التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه عليها، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال " يا غلام , إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك , إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله , واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك , وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك , رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وفي رواية غير الترمذي " احفظ الله تجده أمامك , تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة , واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لك يكن ليخطئك , واعلم أن النصر مع الصبر , وأن الفرج مع الكرب , وأن مع العسر يسراً "(16) .
إنها الحرية الحقيقية والتي قد لا يشعر بها بعضنا حيث تملكت الدنيا على القلوب، نسأل الله أن يفك عقالها.
الوقفة الثالثة عشرة: لنتربى على منهج القرآن ينبغي علينا أن نربي أبناءنا ونساءنا ومجتمعنا على هذا المنهج القرآني وعلى هذه التربية القرآنية، كما كان الله عز وجل يربي رسوله وأصحابه عليها. وهذه المعاني مما رباهم القرآن عليه كما في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان )، قال المفسرون: أي في جميع شرائع الدين، ولا يتركوا منها شيئاً(17).
ولنتأمل قوله تعالى ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً ) وذلك من كثرة محاولاتهم في أن يأتي بما يوافق أهواءهم مما لم يأت به الله، وحرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم(18).
ولقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده الترجمة العملية لهذه المفاهيم القرآنية، ولولا خشية الإطالة لعرضنا لشيء من تلك المواقف الكريمة.
fayz_a@hotmail.com
----------------------------------
الهوامش
(1) في ظلال القرآن 6/4005.
(2) أسباب النزول للواحدي.
(3) تفسير ابن جرير الطبري 30/346.
(4) متفق عليه.
(5) انظر: قبسات من الرسول لمحمد قطب 42.
(6) انظر: الضوء المنير على التفسير لابن القيم،جمع علي الحمد الصالحي 6/484.
(7) الضوء المنير 6/466.
(8) انظر : الضوء المنير 6/470.
(9) الضوء المنير 6/475.
(10) السيرة النبوية الصحيحة لـ د. أكرم العمري1/292، وكتاب اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية حافل بتفصيل هذا الموضوع.
(11) أخرجه أبو داود 4252.
(12) متفق عليه.
(13) في ظلال القرآن 6/3992.
(14) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور 30/581.
(15) تفسير القرآن العظيم 4/726.
(16) أخرجه الترمذي 2516 والإمام أحمد 1/293 برقم2669.
(17) تيسير الكريم الرحمن للسعدي 77.
(18) انظر تفسير السعدي 415.
===============
قتل المرتد إذا لم يتب
تمهيد
إذا ثبتت الردة على الشخص ترتب عليها أحكام دنيوية وأحكام أخروية.
وأهم الأحكام المتعلقة بالآخرة حبوط العمل والخلود في نار جهنم، أعاذنا الله منها، وقد وردت بذلك نصوص كثيرة وقد جمعت الأمرين معاً آية البقرة..
? وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?. [البقرة:217].
أما الأحكام المتعلقة بالدنيا فكثيرة نذكر أولا: قتل المرتد إذا لم يتب، ثم نذكر ما تيسر منها في مباحث أخرى.(3/56)
إن قتل المرتد إذا لم يتب من ردته، حكم ثابت في أحاديث صحيحة لا مطعن فيها، وعمل بها الصحابة رضي الله عنهم في زمن الخلفاء الراشدين، وبعد عهدهم رضي الله عنهم، وأطبق عليها جماهير أهل العلم، ونقلوا عليه الإجماع في المذاهب الإسلامية المعتبرة.
وهو مما يحسم تذب ضعاف الإيمان، ويجعلهم يظهرون لأمتهم ولغيرها الثبات على مبدأ الإسلام العظيم.
وإن الثبات على المبدأ والصبر عليه، يجعل غير أهله يفكرون في شأنه ويبحثون عن سبب الثبات عليه، ويغريهم ذلك بالدخول فيه.
وعلى علماء المسلمين تقع المسئولية العظمى في الثبات على المبدأ وتثبيت أهله عليه، بعدم التنازل عن ثوابته في تعليمهم وإفتائهم وقضائهم ونصحهم لمن بيدهم الأمر في مراعاة أحكام الإسلام وتنفيذها، ففي الثبات على المبدأ والصبر عليه وتثبيت أمته عليه يكمن بقاء هذه الأمة وفلاحها ونجاتها من الامحاق والذوبان.
ولقد ثبت أهل الإيمان على إيمانهم رغم ما لاقوا من محن وأذى.
من أوضح الأدلة على ذلك قصة أصحاب الأخدود، التي كان سببها ذلك الغلام الذي ثبت على دينه، مع شدة ما لقيه من تعذيب الملك الظالم الجبار الذي اتخذ كل وسيلة لقتله، فلم ينجح في ذلك، حتى قال له الغلام: إذا شئت أن تقتلني فاجمع الناس، وقل: بسم الله رب الغلام وارمني بقوسك، ففعل الملك ذلك فمات الغلام، فقال الحاضرون من الناس: آمنا برب الغلام....
والقصة في صحيح مسلم (4/2300) وساقها المفسرون في سورة البروج، عند قوله تعالى: ?قتل أصحاب الأخدود...?
وهذا بخلاف المبدأ الذي يضطرب أهله، ولا يثبتون على منهجه، فإن الناس يزهدون فيه وينفرون منه، ويقولون في أنفسهم: لو كان حقا لثبت عليه أهله، ولم يخرجوا عن صراطه.
فهل يليق بالأمة الإسلامية أن تترك أبناءها يحققون لأعدائها هذا الهدف الخطير، بخروج من نشأ منهم مسلما في أسرة مسلمة عن الإسلام، أو من دخل في الإسلام من غير المسلمين مختارا مقرا بأن هذا الدين هو الدين الحق، عالما بكل ما يترتب على إسلامه من أحكام وجزاءات، ثم يخرج منه.
ولقد شكك في قتل المرتد طائفتان
الطائفة الأولى: أعداء الإسلام والجهلة من أبنائه فيه، وزعموا أن للمسلم الحق في تغيير دينه إلى أي دين آخر، ادعاء منهم أن ذلك من أهم حقوق الإنسان التي تمنحه حرية التدين، وبناء على ذلك يرون أن للمسلم أن ينتقل من دين الإسلام إلى أي دين من الأديان من الأديان السماوية المحرفة، كاليهودية والنصرانية، أو العقائد الوثنية كالهندوسية والبوذية وغيرها.
الطائفة الثانية: بعض العلماء المعاصرين الذين تأولوا بعضا من عمومات النصوص، مقدمين لها على نصوص أخرى خاصة صحيحة في نفس الموضوع، وزعموا أن المسلم إذا غيير دينه إلى غيره من الأديان لا يقتل من أجل ذلك، ويمكن عقابه تعزيرا، ومنهم من رأى عدم معاقبته مطلقا على ذلك، ولو بتكرار استتابته، كما قال بعضهم:
"ولا أنكر أن بعض أولئك المنافقين كانت التوبة تبسط لهم فيتوبون، ولكن هذه التوبة المبسوطة لهم كانت توبة اختيارية لا يكرهون عليها بسيف ولا غيره من وسائل الإكراه، وهذا هو ما أذهب إليه في ثبوت الحرية الدينية للمرتد، فلا أريد إلا أن تكون توبته اختيارية كتوبة أولئك المنافقين، فيدعى إلى العودة إلى الإسلام بالتي هي أحسن، ولا يكره عليها بقتل كما يذهب إليه بعضهم، "ولا بحبس أنفسنا عليه باستتابة دائمة كما يذهب إليه القائلون بهذه الاستتابة، لأن فيها شبه إكراه له، ونحن نريدها حرية دينية كاملة غير منقوصة..." وخالصة من الإكراه وشبه الإكراه، ليكون الإسلام وحده دين الحرية، ويمتاز بهذا على غيره من الأديان، وتكون مفخرة له على طول الزمان." [[الحرية الدينية للشيخ عبد المتعال الصعيدي ص: 148دار المعارف بمصر]
ويرى أن في عقابه على خروجه من الإسلام إلى غيره، يعتبر اعتداء على الحرية الدينية التي يرون أن نصوص القرآن كفلت ذلك له، كما كفلتها له مبادئ حقوق الإنسان."
ترجيح وأدلة:
والذي نراه وندين الله به أنه إذا ثبتت الردة على من كان مسلما في الأصل، أو دخل في دين الإسلام حرا مختارا، وفهمه حق الفهم، وفهم ما يترتب على إسلامه، ومن ذلك حد المرتد عن الإسلام، أن هذا الحكم إذا توفرت شروطه ثابت لا مراء فيه.
أما إذا كان حديث عهد بالإسلام، لم يفهم حقيقته وما يترتب على إسلامه فلا يقتل بل ينصح بالبقاء على الإسلام ويبين له ما فيه من المحاسن وما في تركه من المساوي، فإن رجع إلى الإسلام فبها ونعمت وإن أبى خلي سبيله.
ولا يجوز أن نَخضَع لآراء أعداء الإسلام، ولا من حاول اقتحام عقبة الفتوى فيما لا ناقة له ولا جمل من أحكام الإسلام، كما لا نعذر من ادعى أنه طبيب مختص وهو يجهل الطب، وعبث في أجساد البشر فأفسدها.
ولكنا نعذر من تأول نصوص القرآن مجتهدا من علماء الإسلام، ونرجو الله أن يغفر له خطأه، معتمدين على قول الباري الرحيم: ?ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا? [البقرة (286)] وقول الله في جواب هذا الدعاء: (قد فعلت) [صحيح مسلم (1/116) وقول رسوله الكريم: (تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) [المستدرك على الصحيحين (2/ 216) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
أدلة قتل المرتد إذا توفرت شروط قتله
سبق أن للمرتد أحكاما في الدنيا وأخرى في الآخرة، والذي يعنينا في هذا الكتاب، هو أحكام الدنيا، أما أحكام الآخرة فهي موكولة إلى الله تعالى، والذي نعلمه من كتابه من حكم الله تعالى على من ارتد عن الإسلام أمران:
الأمر الأول: حبوط العمل.
الثاني: والخلود في نار جهنم، أعاذنا الله منها، وقد وردت بذلك نصوص كثيرة وقد جمعت الأمرين معاً آية البقرة..
? وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?. [البقرة:217].
ومن أحكام المرتد في الدنيا: قتله بعد استتابته وإصراره على كفره.
ومن الأدلة الصحيحة على هذا الحكم ما يأتي:
الدليل الأول: سنة الرسول صلى الله عليه وسلم:
أولها: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قَال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة) [(صحيح البخاري (6/2521) و صحيح مسلم (3/1302)
ثانيها: حديث: عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق قوما فبلغ بن عباس فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله) ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) [صحيح البخاري رقم(2854 (3/1098)
ثالثها: ومن أصرح الأدلة في ذلك، التنصيص على قتل الرجل والمرأة المرتدين، كما وقع في بعض الروايات في حديث معاذ عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن.. وقال له: ( أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها).. ذكر هذه الرواية الحافظ في فتح الباري وحسنها. [فتح الباري (12/272)
رابعها: حديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت. [سنن الدارقطني (3/118) وسنن البيهقي الكبرى (8/203)](3/57)
خامسها: فعل الصحابيين الجليلين: أبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل وقد صرح فيه معاذ بن جبل أنه قضاء الله ورسوله.
كما روى ذلك أبو موسى وفيه: (اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة قال أنزل وإذا رجل عنده موثق قال ما هذا قال كان يهوديا فأسلم ثم تهود قال اجلس قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل) [صحيح البخاري (6/ 2537) وصحيح مسلم (صحيح مسلم (3/1456) قال الحافظ رحمه الله: "وبين أبو داود في روايته أنهما كررا القول أبو موسى يقول اجلس ومعاذ يقول لا أجلس. فتح الباري (12/274)]
وتكرار معاذ لأبي موسى أن هذا الحكم هو قضاء الله ثلاث مرات، يدل على أنه علمه من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس مجرد اجتهاد منه.
وذكر الدكتور يوسف القرضاوي عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، وهم: ابن عباس وأبو موسى ومعاذ وعلي وعثمان وابن مسعود وعائشة وأنس وأبي هريرة ومعاوية بن حيدة .رووا قتل المرتد، ثم قال: "وحديث قتل المرتد رواه جمع غفير من الصحابة، ذكرنا عددًا منهم، فهو من الأحاديث المستفيضة المشهورة."
الدليل الثالث: إجماع الأمة على قتل المرتد الذي توافرت فيه شروط القتل: سبقت الأدلة الثابتة الصحيحة الصريحة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، على وجوب قتل المرتد بعد استتابته، وقد طبق ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده وبعد وفاته، وأجمع العلماء على ذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه، وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك فكان إجماعا" [المغني (9/16)]
قال الدكتور يوسف القرضاوي:
"ثانيًا: أن من مصادر التشريع المعتمدة لدى الأمة مصدر الإجماع. وقد أجمع فقهاء الأمة من كل المذاهب، السنية وغير السنية، والفقهاء من خارج المذاهب على عقوبة المرتد وأوشكوا أن يتفقوا على أنها القتل، إلا ما رُوي عن عمر والنخعي والثوري ولكن التجريم في الجملة مجمع عليه."
قلت: وكل من روي عنه عدم القتل روي عنه عكس ذلك، وهو القتل، والذي ري عن عمر رضي الله عنه هو حبسه قبل قتله رجاء أن يتوب، وليس ترك قتله مطلقا، وهذا نص ما نقل عنه رضي الله عنه:
"قدم مجزأة بن ثور أو شقيق بن ثور على عمر يبشره بفتح تستر فقال له عمر هل كانت مغربة يخبرنا بها قال لا إلا أن رجلا من العرب ارتد فضربنا عنقه قال عمر ويحكم فهلا طينتم عليه بابا وفتحتم له كوة فأطعمتموه كل يوم منها رغيفا وسقيتموه كوزا من ماء ثلاثة أيام ثم عرضتم عليه الإسلام في الثالثة فلعله أن يرجع اللهم لم أحضر ولم آمر ولم أعلم" [المحلى 11/191)]
فقوله "ثم عرضتم عليه الثالثة، فلعله أن يرجع" ظاهر في أنه يرى عرض التوبة عليه ثلاثا، لعله يرجع، فإذا لم يرجع بعد استتابته ثلاثا، قتل.
وفي رواية عن عمر زيادة: " فإن تاب قبلتم منه وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه" [التمهيد (5/307)] أي قطعتم عذره الذي يستحق بقطعه قتله.
وقد صرح بقتله إذا لم يرجع في رواية أخرى.
قال: "أفلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا ثم استتبتموه ثلاثا فإن تاب وإلا قتلتموه ثم قال اللهم لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني أو قال حين بلغني" [مصنف ابن أبي شيبة (5/562)
وتؤكد هذا المعنى عن عمر ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال "كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب أن رجلا يبدل بالكفر بعد إيمان فكتب إليه عمر استتبه فإن تاب فاقبل منه وإلا فاضرب عنقه"
وبذلك جزم ابن عبد البر رحمه الله، فقال:
"قال أبو عمر يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا، فان لم يتوبوا قتلوا، هذا لا يجوز غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاضربوا عنقه" [الاستذكار (7/154)]
وأما ما نقل عن الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله، فبرد عليهم بروايات عنه تعارض ذلك النقل، بل يرى قتل الرجل المرتد و المرأة المرتدة التي خالف في قتلها الحنفية.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "واختلف الفقهاء أيضا في المرتدة، فقال مالك والأوزاعي وعثمان البتي والشافعي والليث بن سعد تقتل المرتدة كما يقتل المرتد سواء وهو قول إبراهيم النخعي وحجتهم ظاهر هذا الحديث لأنه لم يخص ذكرا" [التمهيد (5/312) وممن نسب إلى النخعي قتل المرأة الحافظ ابن حجر رحمه الله فتح الباري 12/268]
وجزم ابن حجر رحمه الله أن الرواية المثبتة عنه لقتل المرتد والمرتدة أقوى من الرواية النافية عنه، بل ضعف الرواية النافية عنه.
قال رحمه الله:
"وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال إذا أرتد الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا فان تابا تركا وأن أبيا قتلا وأخرج بن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم لا يقتل والأول أقوى فان عبيدة ضعيف وقد اختلف نقله عن إبراهيم" [فتح الباري (12/268)]
ولهذا يجب حمل ما روي عنه من أن المرتد يستتاب أبدا أنه إذا تكررت منه الردة، يستتاب في كل مرة، وليس المراد الاستمرار في استتابته من ردة واحدة طول حياته، لأن قوله: يستتاب أبدا، مجمل، والرواية السابقة التي رجحها ابن حجر مُبَيِّنة، ومعروف أن المجمل يحمل على المبين. [مصنف ابن أبي شيبة (6/440)]
وبهذا يظهر ثبوت الإجماع، وأن من روي عنه القول بعدم قتل المرتد، عارضه ما روي عنه من قتله، وترجح الروايات بالقتل على الروايات بعدمه، لموافقتها للسنة الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتطبيق صحابته وغيرهم لما ثبت عنه في حياته وبعد مماته
ثم لو فرضنا ثبوت القول بعدم قتل المرتد عن فرد أو أفراد من العلماء، فلا حجة في ذلك لإطباق غيرهم على القول بقتله، ولثبوت قتله عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه في حياته وبعد مماته.
تقتل المرتدة إذا لم تتب كالمرتد
والأحاديث الواردة في قتل المرتد شاملة للذكر والأنثى جميعا، إما بصيغ عمومها، كقوله: (من بدل دينه فاقتلوه) وإما بذكرها نصا مع الرجل كما مضى.
ويدل على استواء المرتد والمرتدة في الحكم، أن الحدود تقام عليهما جميع، فالزانية تحد جلدا ورجما كالزاني وكذا القاتلة عمداً تقتل كما يقتل الرجل، ولا يقال: إن هذا استدلال بدلالة الاقتران والاستدلال بها ضعيف، لأن ضعف دلالة الاقتران عند من يقول به من العلماء، إنما يكون حيث يستدل بها عارية عن أدلة ثابتة غيرها، والأدلة هنا ثابتة كما ترى.
وإذا أنعمت النظر في هذه الأدلة وجدت كل واحد منها صالحاً للاحتجاج به على حدة فكيف بها مجتمعة..؟ وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" يشمل الذكر والأنثى، لأن "من" اسم موصول، وهي من صيغ العموم، كما قال في مراق السعود:
ومَا شُمُولُ "مَنْ" لِلُانثى جَنَفُ.
أي إن شمول من للذكر والأنثى ليس فيه ميل عن جادة الصواب.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة) لفظ "امرئ" يشمل كذلك الذكر والأنثى.
وقد فسر العلماء لفظ "امرئ" بـ"نفس" كما في تفسير ابن كثير:
(4/ص243)
وذهب أبو حنيفة رحمه الله، إلى أن المرأة لا تقتل بل تحبس ويضيق عليها حتى تتوب، و استدل على ذلك بالنهي عن قتل النساء وبأن المرأة لا تقتل بالكفر الأصلي، فلا تقتل بالكفر الطارئ.(3/58)
وهذا الاستدلال غير ناهض، فالنهي ورد في الكافرة الأصلية كما هو واضح في القصة التي ورد النهي بسببها..
ولو فرضنا العموم لكان الأمر بقتل المرتد معارضاً له بعمومه.. فكيف وقد ورد الأمر بقتل المرتدة بخصوصه؟
ثم إنه يفرق بين الكفر الأصلي والكفر الطارئ من وجوه أهمها:
أن الرجل يقر على كفره الأصلي ولا يقر على الكفر الطارئ. [فتح الباري (12/272) المغني (9/3) المقنع (3/516) فتح القدير (6/71)].
وقال القرطبي رحمه الله: "واختلفوا في المرتدة:
فقال مالك والأوزاعى والشافعى والليث بن سعد: تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) و"مَن" يصلح للذكر والأنثى.
وقال الثورى وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة، وهو قول بن شبرمة، وإليه ذهب بن علية وهو قول عطاء والحسن، واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدل دينه فاقتلوه)
ثم إن بن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروي عن على مثله، ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
واحتج الأولون بقوله عليه السلام (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان) فعم كل من كفر بعد إيمانه وهو أصح" [تفسير القرطبي (3/48)]
وقال ابن الأمير رحمه الله:"ذهب الجمهور إلى أنها تقتل المرأة المرتدة، لأن كلمة "مَن" هنا تعم الذكر والأنثى، ولأنه أخرج بن المنذر عن بن عباس راوي الحديث أنه قال: تقتل المرأة المرتدة، ولما أخرجه هو والدارقطني، أن أبا بكر رضي الله عنه، قتل امرأة مرتدة في خلافته والصحابة متوافرون ولم ينكر عليه أحد، وهو حديث حسن" [سبل السلام (3/265)]
والخلاصة أن المرتد عن الإسلام، رجلا كان أو امرأة يجب قتله إذا استتيب فلم يرجع، والأدلة على ذلك واضحة كما مضى.
آراء شاذة في قتل المرتد:
ومع ثبوت الأدلة الصحيحة وتعددها على قتل المرتد، فقد ظهرت آراء شاذة مخالفة لهذا الحكم، نجمل أدلتها فيما يأتي، مع مناقشة كل دليل منها على حدة بإذن الله.
الرأي الأول: التفريق بين الخروج من الإسلام والخروج عليه، هذا الرأي يعتبر الردة عن الإسلام من الأفراد الذين لا يدعون إلى الدين الذي خرجوا إليه من، لا يقام عليهم حد الردة، وعللوا هذا الرأي بأمرين:
الأمر الأول: أنهم خرجوا من الجماعة ولم يخرجوا عليها، فلم يحدثوا بذلك ضررا على غيرهم، بل أحدثوه على أنفسهم.
الأمر الثاني: العمل بمبدأ الحرية الدينية كما سيأتي الكلام عنه قريبا.
واستدلوا في زعمهم بأدلة:
الدليل الأول: من القرآن الكريم: مثل قوله تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ? [البقرة (256)] ورأوا أن إكراه المرتد على الرجوع إلى الإسلام، هو إكراه له على الدخول في دين لا يرضى الدخول فيه، وفيه مصادرة للحرية الدينية.
والجواب عن هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا نص عام يشمل الكافر الأصلي الذي لم يسبق له الدخول في الإسلام، ويشمل من دخل في الإسلام ثم خرج منه إلى أي دين غيره.
والقاعدة الأصولية أن النص الخاص يُخرج ما دل عليه من النص العام، ويبقى العام دالا ما عدا ما أخرجه النص الخاص، وعلى هذا يكون عدم الإكراه مقصورا على من لم يدخل الإسلام أصلا، ويخص بالقتل من خرج من الإسلام من المسلمين، عملا بالأدلة السابقة من الأحاديث الصحيحة والعمل بها في عهد الرسول والخلفاء الراشدين، ومن تبعهم، وما قام على العمل بها من إجماع الأمة.
الوجه الثاني: أن الحرية الدينية يجب أن تقيد بما قيدته به الشريعة، والشريعة قيدت هذه الحرية بمن لم يدخل في الإسلام أصلا، أما المسلم أصلا، أومن دخل فيه مختارا عالما حقيقته وما تترتب عليه من أحكام، ومنها حكم المرتد الذي بينته الأدلة، فليس له نصيب من هذه الحرية، لأنه دخل في الإسلام مختارا عالما أنه لا يجوز له الخروج منه، وأنه يترتب على خروجه منه قتله إن لم يرجع إليه.
الوجه الثالث: أن الإنسان ليس حرا فيما يضر به نفسه لأن نفسه ليست ملكا له يتصرف فيها كما يشاء، فليس له حق أن يجرح نفسه بدون سبب أو يقتلها، ولا أن يحرق أمواله، ولا يتعاطى ما يذهب عقله، ولو لم يضر غيره بذلك، فتعاطيه لما ضرره عليه أعظم وهو الخروج من الإسلام من باب أولى، وقد شرع الله تعالى عقوبة، لهذه الجريمة، يجب الأخذ بها وتنفيذها.
الوجه الرابع: تعليلهم بأن المرتد لا يقتل لأنه لم يحرج على الإسلام وإنما خرج منه، وأن ردته "ليس فيها استهزاء بالدين، ولا تمثل تهديدا للأمة، أو لكيان الدين، ولا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين!".
نقول لهم: أي استهزاء بالدين أعظم من أن يخرج منه من دخل فيه باختياره دون إكراه وهو يعلم أحكام شريعته، ومنها قتل المرتد، أو نشأ في بيئة إسلامية وذاق فيها حلاوة الإسلام وخصائصه التي لا توجد في أي دين سواه في الأرض؟
وكيف لا تمثل ردة الأفراد تهديدًا للأمة أو لكيان الدين، ونحن نرى تهديد الأمة وكيان الدين من قوم بين أظهرنا، لا يزالون يدَّعون الإسلام، ويقفون في صف من يحاربون تطبيق الإسلام من أعداء الإسلام، باسم الحداثة والحرية وحقوق الإنسان؟
هل المرتد عن الإسلام سيحمي الإسلام، أو سيقف محايدا لا ينصر أعداء الإسلام؟
وهل سيترك الدعوة إلى دينه الجديد سرا أو جهرا، وبخاصة في هذا العصر الذي يدعم أعداء الإسلام أي فرد أو جماعة تعارض هذا الدين أو شيئا منه، حتى يصح القول: "فيخرج من الإسلام في هدوء وفردية" وأن "فاعل ذلك لا يكون مصيره القتل، بل له حرية ذلك طالما بقي خروجه ليس فيه تهديدٌ لأمن الأمة."
وقد خالف أستاذنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي - مع ميله إلى عدم قتل المرتد الذي لم يقم بالدعوة إلى الدين الذي ارتد إليه كما يأتي - خالف التهوين من شأن الردة الفردية التي يقال عنها: إنها خروج من الدين وليست خروجا عليه، فقال:
"ولا بد من مقاومة الردة الفردية وحصارها، حتى لا تتفاقم ويتطاير شررها، وتغدو ردة جماعية، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
ومن ثم أجمع فقهاء الإسلام على عقوبة المرتد، وإن اختلفوا في تحديدها، وجمهورهم على أنها القتل وهو رأي المذاهب الأربعة بل الثمانية......"
ثم قال:
"سر التشديد في عقوبة الردة
وسر التشديد في مواجهة الردة أن المجتمع المسلم يقوم أول ما يقوم على العقيدة والإيمان. فالعقيدة أساس هويته ومحور حياته وروح وجوده.
ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس أو يمس هذه الهوية، ومن هنا كانت الردة المعلنة كبرى الجرائم في نظر الإسلام؛ لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه المعنوي، وخطر على الضرورية الأولى من الضروريات الخمس التي حرص الإسلام على صيانتها عبر كل نسقه التشريعي والأخلاقي، وهي: "الدين والنفس والنسل والعقل والمال"، والدين أولها؛ لأن المؤمن يضحي بنفسه ووطنه وماله من أجل دينه.
والإسلام لا يكره أحدًا على الدخول فيه، ولا على الخروج من دينه إلى دين ما؛ لأن الإيمان المعتد به هو ما كان عن اختيار واقتناع.
وقد قال الله تعالى في القرآن المكي: "أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99)، وفي القرآن المدني قال تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: 256).(3/59)
ولكنه لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يدخل فيها اليوم من يريد الدخول، ثم يخرج منه غدًا على طريقة بعض اليهود الذين قالوا: "آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (آل عمران: 72(. انتهى
[المرجع: الإسلام على الطريق.]
ونحن نقول للذين يرون أن ردة الأفراد لا يكون فيها ضرر على غيرهم، ولا يصدر منهم استهزاء بالدين: كيف سيكون شعور أبوي المرتد عن الإسلام، وشعور إخوانه وأبنائه وزوجه، وأسرته وجيرانه وأصدقائه، وشعور كل مسلم عَلِم بخروج عضو من أعضاء أمته من عقيدتها ودينها؟ هل سيقيمون له احتفالا يحتفون بردته؟ وإذا لم تكن الردة عن الإسلام استهزاء بدين الله، فما هو الاستهزاء؟ هل الإسلام ملعب كرة أو صالة عرض سينمائي، يحق لكل إنسان أن يحمل على صدره بطاقة للدخول فيهما والخروج منهما متى شاء؟
ثم نقول مرة أخرى: إننا لم نر مرتدا عن الإسلام، خرج منه بهدوء كما قال بعض الكتاب، مع استثناء الجهال الذين يضلهم المنصرون في أدغال أفريقيا أو غابات بورنيو، وحتى هؤلاء إذا ارتد منهم كبير الأسرة أو كبير القبيلة لحق به أتباعه.بل إن الذين يعلنون ردتهم وكفرهم بالإسلام، يصبحون مع ردتهم دعاةً إلى ما انتقلوا إليه من دين محرف، أو منحازين إلى مؤسساته مستهزئين بالإسلام وأهله وشعائره وعلمائه، متخذين كل وسيلة متاحة لنشر أفكارهم وهجومهم على هذا الدين.
الدليل الثاني: ومن أدلتهم على عدم قتل المرتد، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقتل أحدا من المنافقين الذين كفروا بعد إسلامهم، مع علمه بكفرهم، وقد وصفه أحدهم بالجور –حاشاه صلى الله عليه وسلم –
كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لما كان يوم حنين، آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله.
قال فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، قَال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف ثم قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) قال ثم قال: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) [صحيح البخاري (3/1148) و صحيح مسلم (2/739)]
وجه استدلالهم بالحديث أن الرجل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالجور، وهو مقتض لكفره، ومع ذلك لم يأمر بقتله، وهو دليل على أن المرتد عن الإسلام لا يقتل، ولو كان قتله واجبا لما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، بأن ترك قتله كان للتأليف، كما خص بعض حديثي الإسلام بالعطاء تأليفا لهم، وساق حديثين لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرج أحدهما الطبراني، و في آخره زيادة : "فغفل عن الرجل فذهب، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فطُلب فلم يُدرَك" قال الحافظ: "وسنده جيد"
وأخرج الحديث الثاني الإمام أحمد، وفيه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بقتل رجل فوُجد يصلي متخشعا، فكرهوا لذلك أن يقتلوه، فقال: (إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون) وهذا نص ما ذكره الحافظ رحمه الله:
"تنبيه"
جاء عن أبي سعيد الخدري قصة أخرى، تتعلق بالخوارج فيها ما يخالف هذه الرواية، وذلك فيما أخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد، قال: جاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: إني مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه.
فقال (اذهب إليه فاقتله) قال فذهب إليه أبو بكر فلما رآه يصلي كره أن يقتله، فرجع.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: (اذهب فاقتله) فذهب فرآه على تلك الحالة، فرجع.
فقال: (يا علي اذهب إليه فاقتله) فذهب علي فلم يره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه فاقتلوهم هم شر البرية) وله شاهد من حديث جابر أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات.
ويمكن الجمع بأن يكون هذا الرجل هو الأول، وكانت قصته هذه الثانية متراخبة عن الأولى، وأذن صلى الله عليه وسلم في قتله بعد أن منع منه لزوال علة المنع، وهي التألف فكأنه استغنى عنه بعد انتشار الإسلام، كما نهى عن الصلاة على من ينسب إلى النفاق بعد أن كان يجري عليهم أحكام الإسلام قبل ذلك.
وكأن أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي الأول عن قتل المصلين وحملا الأمر هنا على قيد أن لا يكون لا يصلي، فلذلك عللا عدم القتل بوجود الصلاة أو غلبا جانب النهي.
ثم وجدت في مغازي الأموي من مرسل الشعبي في نحو أصل القصة ثم دعا رجالا فأعطاهم، فقام رجل فقال: انك لتقسم وما نرى عدلا، قال: (إذًا لا يعدل أحد بعدي) ثم دعا أبا بكر فقال: (اذهب فاقتله) فذهب فلم يجده، فقال: (لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم) ["فتح الباري" (12/298-2299)]
الدليل الثالث: من السنة أيضا، وهو أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعكٌ بالمدينة، فجاء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقلني بيعتي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى، ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبى، فخرج الأعرابي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيبها) [صحيح البخاري، برقم (6891) وصحيح مسلم، برقم (1383)]
قال النووي في معنى "ينصع": "هو بفتح الياء والصاد المهملة، أي يصفو ويخلص ويتميز، والناصع الصافي الخالص، ومنه قولهم ناصع اللون أي صافية وخالصة، ومعنى الحديث: أنه يخرج من المدينة من لم يخلص إيمانه، ويبقى فيها من خلص إيمانه"]
وجه الدلالة عند من استدل بالحديث، أن هذا الرجل طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيله من الإسلام، وهذا الطلب يعتبر ردة، ومع ذلك لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه خرج عن الإسلام ولم يخرج عليه.
قال المستدل: "دلت النصوص التي سنورد بعضًا منها في النقطة الخامسة على هذا التفريق، فالقتل يكون لمن خرج على الإسلام وقصد الإساءة أو العبث بالدين، أو مسَّ أمن وسلامة الأمة ونظام الدولة، كما أنه يُعدُّ جرمًا ضد نظام الحكم في الدولة، وخروجًا على أحكام الدين الذي تعتنقه الأمة، ويُعتَبر حينذاك مرادفًا لجريمة "الخيانة العظمى" التي تحرمها كل الشرائع والدساتير والقوانين، وهذا العقاب لم يكن مقتصرًا على الدول التي يقوم الحكم فيها على أساس الدين." [المرجع: موقع الإسلام على الطريق
http://www.islamonline.net/Daawa/Arabic/display.asp?hquestionID=5625
وأرى أن هذا استدلال بعيد، لأربعة أمور:
الأمر الأول: الظاهر أن هذا الأعرابي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم إقالته من البقاء في المدينة، ولم يصبر على ما أصابه فيها من المرض، لضعف إيمانه ولم يطلب الإقالة من الإسلام، وهذا ما فهمه جماهير العلماء، ومنهم شراح الحديث.
قال النووي رحمه الله:
"قال العلماء: إنما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم بيعته، لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الإسلام، ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره.(3/60)
قالوا: وهذا الأعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على المقام معه.
قال القاضي: ويحتمل أن بيعة هذا الأعرابي كانت بعد فتح مكة، وسقوط الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم، وإنما بايع على الإسلام وطلب الإقالة منه، فلم يُقِله، والصحيح الأول ... " [شرح النووي على صحيح مسلم (9/155-156)]
وقال الحافظ في شرح هذا الحديث: "قال بن التين إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته، لأنه لا يعين على معصية، لأن البيعة في أول الأمر كانت على أن لا يخرج من المدينة إلا بإذن، فخروجه عصيان.
قال [أي ابن التين] وكانت الهجرة إلى المدينة فرضا قبل فتح مكة على كل من أسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة، لقوله تعالى: ?والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا? فلما فتحت مكة قال صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح)ففي هذا إشعار بان مبايعة الأعرابي المذكور كانت قبل الفتح.
وقال بن المنير: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل، فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة وسكنوا غيرها من البلاد، وكذا من بعدهم من الفضلاء. والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها كما فعل الأعرابي المذكور.
وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة، كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء، وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكناها..." [فتح الباري 13/200)]
وقال الحافظ في شرح رواية البخاري: (فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما فقال: أقلني) ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام، وبه جزم عياض، وقال غيره: إنما استقاله من الهجرة، وإلا لكان قتله على الردة" [فتح الباري (4/97)]
الأمر الثاني: ما ورد في قصة معاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، عندما بعثهما الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، "فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد فقال معاذ لأضربن عنقه" [صحيح البخاري، برقم (4088)]
وفي رواية: "فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه، قضى الله وقضى رسوله" [مصنف ابن أبي شيبة (5/562)]
وكلمة "قضى" تدل على أن قتل المرتد هو حكم قضائي يجب على ولي الأمر تنفيذه، وليس هو من باب التعزير كما زعم بعض الكتاب المعاصرين.
فهذا يهودي واحد خرج عن الإسلام، ولم يذكر في الحديث ما يدل على صفة أخرى استحق بها القتل غير الردة، ولو كان المرتد لا يقتل إلا إذا ضم إلى خروجه من الإسلام خروجه عليه، لذكر ذلك أبو موسى ومعاذ رضي الله عنهما...
الأمر الثالث: الأحاديث الصحيحة العامة في قتل من كفر بعد إيمانه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وقوله:
(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان)
فتبديل المسلم دينه، وهو كفره بعد إيمانه، وصف كاف في استحقاقه القتل، كما سبق...
ولو كان يجب ضم معنى آخر إلى معنى الردة، لنص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرتب الحكم الذي تزهق به الأرواح على معنى ناقص، يتنزه عنه شرع الله.
الأمر الرابع: لو فرضنا أن الأعرابي طلب الإقالة من الإسلام كما جزم به القاضي عياض، فيجب حمله على أنه كان من المنافقين الذين كف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وعاشرهم كما عاشر عامة المسلمين، وبخاصة أن الرجل لم يعلن تركه الإسلام، وإنما اكتفى بخروجه بدون إذن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مضى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)[صحيح البخاري (صحيح البخاري، برقم (4622) وصحيح مسلم، برقم (2584)]
الدليل الرابع: دليل عقلي عندهم، وهو أن العلماء أجمعوا على اشتراط الاختيار في صحة الإسلام، فهو شرط في صحة إسلام كل شخص سواء أكان ممن لم يسبق منه إسلام أم كان ممن سبق منه وارتد منه وحينئذٍ لا يصح أخذ المرتد إلى الإسلام بالإكراه كما لم يصح فيما سبق إكراه من لم يسبق منه إسلام على الإسلام، لأنه يكون إسلاماً باطلاً لا فائدة فيه، ولا ينجي صاحبه من عقاب الله تعالى في الآخرة، وحينئذٍ يكون من العبث إكراهه عليه.
والجواب على هذا الاستدلال: أن نقول: ?قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ? [(140) البقرة]
إن بقاء الإنسان في الظاهر على إسلامه، مختلط بأسرته، وبمجتمعه الإسلامي في المساجد والمناسبات الجماعية، وحضور دروسهم ووعظهم وإرشاده، قد يحرك فيه عاطفة سبق أن تلبس بها، وقد يدعوه تفكيره وعقله إلى الموازنة بين الإسلام الذي كان عليه، وبين الدين الذي رجع عنه، فيبدأ إيمانه يقوى حتى يعود إلى الإيمان الحق، فيثبت في قلبه، وقد يفوق في قوة إيمانه غيره من المسلمين.
بخلاف ما إذا انتقل إلى أهل الدين الجديد وخالطهم، فإنه سيلقى منهم الفرح والسرور بردته، وسيشجعونه على الاستمرار على دينهم، وقد يغروته بالمناصب والأموال والشهوات والشبهات التي تجعله يستمر في ردته وتأييده لأهل الملة الجديدة، وهذا ما نشاهده في واقع الحال في أي مرتد يلجأ إلى أهل الدين الجديد.
ونحن نعلم أن غالب أحكام الشريعة، واضحة الحكم والمصالح، وقليل منها قد لا ندرك حكمته، فنقبله مستسلمين لله تعالى في تشريعه، لعلمنا أن الدين كله حق، وما ذكرنا يظهر لنا شيئا من حكمة قتل المرتد وإجباره إلى الرجوع إلى الإسلام، ولو فرضنا أنما ذكرناه غير صحيح وأن الحكمة لم تظهر لنا فيه، فالواجب علينا التسليم المطلق لشرع الله، وقد الذي ثبت بسنة رسوله الصحيحة، وهي وحي كالقرآن إلا أن القرآن يتعبد بتلاوته، بخلاف السنة.
الدليل الخامس : أن الذي يكره على الرجوع إلى الإسلام، سيكون في واقع الأمر باقيا على معتقده، وإظهاره الإسلام يكون من باب النفاق، وهذا يقتضي أن يكثر المنافقون في صف المسلمين، يتتبعون عوراتهم ويتجسسون عليهم لأعدائهم، أفلا يكون وضوح كفرهم أولى ليتمكن المسلمون من الحذر منهم
والجواب على ذلك أنه لا تخلوا الأمة الإسلامية من وجود منافقين في صفوفها من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وسيستمر ذلك، ونحن لا نيأس من هداية الله لمنافق يوجد بين المسلمين كما مضى.
وقد يتوب بعض المنافقين وتحسن توبته وإسلامه، قال أبو عطية الأندلسي رحمه الله:
"وروي أن الجلاس تاب من النفاق فقال إن الله قد ترك لي باب التوبة فاعترف وأخلص وحسنت توبته" [المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/61)]
ولو ترك للمسلمين الخروج من دينهم إلى غيره من الأديان، لكثر المرتدون كثرة تضعف بها الأمة تذهب هيبتها وهيبة دينها، لأن كل من ضعف إيمانه قد يعلن ردته.
وبقاء ضعيف الإيمان، أو من تظهر عليه سمات النفاق، بين الجماعة المسلمة، خير له وللأمة من إعلانه ترك دينه، لأنه يرجى له بما معه من إيمان ضعيف أو ما اعتراه من صفات المنافقين، أن يقوى إيمانه المؤمن ويموت على الإسلام، وأن تتغلب عاطفة الإيمان على صفات المنافقين، فينجوان من الخلود في جهنم، ويبقيان مكثرين لسواد المسلمين، مشاركين لهم في تعاونهما معهم على البر والتقوى بمقدار إيمانهما، ولو فرض أنهما لم يتعاونا مع المسلمين، فإنهما بحكم انتمائهما الظاهر إليهم قد يتورعان عن التعاون مع أعدائهم عليهم...(3/61)
والغالب أن بلدان المسلمين لا تخلو من رعايا غير مسلمين، يجب أن يحتاط المسلمون من كيد من يريد الكيد بهم، والغالب أن المنافقين تظهر على معاشرتهم قرائن تدل على نفاقهم، فليحتاطوا منهم كما احتاطوا من غير المسلمين، والدول غير المسلمة، تجند كثيرا من المسلمين للتجسس لها، وكثير منهم لا يظهرون لعامة الناس إلا بعد انتهاء مهمتهم والكشف عنهم.
وضعاف الإيمان في البلدان الإسلامية إذا عرفوا أن عقوبة المرتد القتل إذا لم يتب سيقَدَّرون لأرجلهم مواضعها قبل أن ينزلقوا في إظهارهم الكفر، والذين يظهرون الكفر اليوم غالبهم ينضمون إلى أهل ملتهم الجديد ويظاهرونهم على أهل بلدانهم علنا، لعلمهم أنهم سيفلتون من العقوبة.
الدليل السادس: أن أحاديث قتل المرتد، أحاديث آحاد، ودليل عدم إكراه المرتد على الدخول في الإٍسلام من القرآن والقرآن متواتر، فيجب ترجيحه على أحاديث الآحاد.
والجواب من أوجه:
الوجه الأول: أننا لا نحتاج إلى ترجيح المتواتر على الآحاد إلا إذا تعارضا تَعارضا لا يمكن فيه الجمع بينهما، وهنا قد أمكن الجمع وهو تقديم الخاص على العام كما مضى، ومضى الكلام على هذه القاعدة في مبحث الخوارج والمعتزلة.
الوجه الثاني: أن غالب الأحكام الشرعية لم تنقل بالتواتر، بل نقلت جمهرتها عن طريق الآحاد، ولو اتبعنا مسلم من يشكك في أخبار الآحاد، لضاع غالب الأحكام الشرعية، فلا يلتفت إلى هذا المسلك إلا عند التعارض المستعصي على الجمع أو النسخ.
الوجه الثالث: أن أئمة الإسلام قد ردوا هذا المسلك ردا حاسما، يدحض مذهب من يلجأ إليه لرد كثير من الأحكام الثابتة بدون مسوغ مقبول، ومن هؤلاء الأئمة الإمام الشافعي رحمه الله، حيث قال في كتاب "الرسالة":
وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله من أدلة العمل بخبر الآحاد، حديث ابن سعود رضي الله عنه فقال: "فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنص خبر أو دلالة فيه أو إجماع
فقلت له: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من روائهم، فلما ندب رسول الله إلى استمع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها والامرء واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة في دين ودنيا [الرسالة (1/401) -403]
وقال بعد ذلك "أخبرنا سفيان قال أخبرني سالم أبو النضر انه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قَال قال النبي (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه أو أمرت به فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) وقد ساق في الرسالة تلك الحجج [من صفحة 369 إلى صفحة 471 أي في "102" من الصفحات] أمثلة كثيرة من القرآن والسنة، ومن مذاهب فقهاء الأمة، تدل على وجوب العمل بخبر الآحاد في عهد الرسول صلى الله، وفي عهد الصحابة وفي عهد التابعين فمن بعدهم إلى عصره رحمه الله. وفي كتابه "الأم" أمثلة كثيرة من تلك الحجج.
ولا زال علماء الأمة من المحدثين والأصوليين وغيرهم يرون وجوب العمل بما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ما تواتر منه ومال لم يتواتر.
وممن أخرج هذا الحديث الحاكم [المستدرك على الصحيحين، وقال: "وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" (1/190) وأبو داود في سننه (4/200) وغيرهم، فيجب التسليم للحديث الصحيح كالتسليم للقرآن، وسلوك مسلك الجمع بين ما قد يظهر فيه التعارض، ومن لم يظهر له الجمع فليدعه لمن يظهر له.
هذا وقد رجح شيخنا العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في "مذكرة أصول الفقه" التي درسناها على يديه في الكلية أن خبر الآحاد ظني من حيث الثبوت أي مطابقة الخبر للواقع في نفس الأمر، قطعي من حيث العمل به.
قال: "الذي يظهر لي أنه هو التحقيق في هذه المسألة والله جل وعلا أعلم، أن خبر الآحاد الذي لم يبلغ حد التواتر، ينظر إليه من جهتين، هو من إحداهما قطعي، ومن الأخر ظني.
ينظر إليه من حيث إن العمل به واجب، وهو من هذه الناحية قطعي، لأن العمل بالبينات مثلا قطعي منصوص في الكتاب والسنة، وقد أجمع عليه المسلمون وهي أخبار الآحاد.
وينظر إليه من ناحية أخرى، وهي: هل ما أخبروا به مطابق للواقع في نفس الأمر.
فلو قتلنا رجلا قصاصا بشهادة رجلين فَقَتْلنا هذا له قطعي شرعا لا شك فيه، وصدق الشاهدين فيما أخبرا به، مظنون في نفس الأمر لا مقطوع به لعدم العصمة.
ويوضح هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة المتفق عليه: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع.
فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار، فليأخذها أو ليتركها"
فعَمَل النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه قطعيُّ الصوابِ شرعا، مع أنه صرح بأنه لا يقطع بحقيقة الواقع في نفس لأمر كما ترى. [مذكرة في أصول الفقه 116..]
الدليل السابع: أن القرآن الكريم لم يذكر عقابا للمرتد عن الإسلام في الدنيا، بل ذكر عقابه في الآخرة، مثل قوله تعالى:
?وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [البقرة (217)] وغيرها من الآيات، ولو كان للمرتد عقاب في الدنيا، لما أغفله القرآن الكريم، فلنسلك بالمرتد مسلك القرآن الكريم، فلا نعاقبه.
ولا أدري هل يريد هؤلاء أن يعطلوا كل حديث صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يتبين لهم الجمع بينه وبين ما ورد في القرآن أولم يذكر في القرآن حكمه، ولا يقبلوا أحكام السنة التي لم ترد أحكامها في القرآن، وما فائدة السنة إذا عطلت أحكامها غير الواردة في القرآن؟
الدليل الثامن: أن باب الاجتهاد مفتوح، ولمن عنده أهلية الاجتهاد أن يخالف من سبقه ولو ادعي فيه الإجماع، بناء على استنباط من كتاب الله وسنة رسوله وإعمال القياس الصحيح.
ونحن لا نحجر على من هو أهل للاجتهاد في أن يجتهد، ولا نقول: لم يترك الأول للآخر شيئا، بل نقول: كم ترك الأول للآخر، ولكن الاجتهاد لا قيمة له إذا عارض نصا صحيحا واضح الدلالة، كما هو الحال في موضوعنا هذا الذي استفاضت فيه الأحاديث الصحيحة وصح العمل به، وأجمعت عليه الأمة؟!
والعقل يجب أن ينتهي حيث انتهى الدليل الشرعي، وإلا ضل وهو لا يدري. [بينت مجال العقل وحدوده له الحق أن يسرح ويمرح فيها في كتابي"السباق إلى العقول" وقد طبع حديثا في دار ابن حزم في بيروت]
ولنعد للإمام الشافعي رحمه الله الذي حرص كل الحرص في جميع كتبه وحواراته على وجوب التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعد مخالفتها، على كل من عرفها ثابتة صحيحة، قال:
"وإذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو لازم لجميع من عرفه لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره بل الفرض الذي على الناس اتباعه ولم يجعل لأحد معه أمرا يخالف أمره" [الرسالة (1/330)
ولا شك أن الاجتهاد المخالف للنص باطل، و الأقيسة المخالفة له فاسدة.
الدليل التاسع: ومما استدل به أهل هذا الرأي قوله في الحديث السابق: (والتارك لدينه المفارق للجماعة)(3/62)
ووجه الدلالة عنده وصف (التارك لدينه) بـ(المفارق للجماعة)
حيث رأى أن المفارق للجماعة هو الخارج على نظامها قاصدا الإضرار بها، وليس مجرد تركه لدينها.
وهو يدعم بهذا الاستدلال قوله قبل ذلك:
" فـ"الخروج من الإسلام" بصورةٍ فرديةٍ ليس فيها الاستهزاء بالدين، ولا تمثل تهديدًا للأمة أو لكيان الدين، ولا يقصد بها العبث بشعور أو شعائر المسلمين، وإنما منبعها الوحيد شعور "المرتد" بعدم الاقتناع بالإسلام والاقتناع بغيره، فيخرج من الإسلام في هدوء وفردية، فاعل ذلك لا يكون مصيره القتل، بل له حرية ذلك طالما بقي خروجه ليس فيه تهديدٌ لأمن الأمة."
قال: "يوحي هذا الحديث بما نقول: (... والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فنص "المفارق للجماعة" يوحي بالانسلاخ من الكيان وإرادة الضرر به، فكان ترك الدين وحده ليس سببًا لحِلِّ الدم، بل يجب مفارقة الجماعة أيضًا، وقد نقل الإمام ابن حجر في "فتح الباري" عن الإمام القرطبيِّ قوله: "ظاهر قوله: (المفارق للجماعة) أنه نعتٌ للتارك لدينه"، أي تارك دينه الموصوف بأنه فارق الجماعة، وليس مجرد تارك دينه فقط." انتهى
والصحيح أن هذا الوصف: (التارك لدينه) وصف كاشف، أي مفسر للتارك لدينه، وليس وصفا مستقلا، وهو الذي رجحه المحققون من العلماء.
فقد قال ابن دقيق العيد: رحمه الله مبينا هذا المعنى ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله، إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وكذلك المفارق للجماعة كالتفسير لقوله التارك لدينه والمراد بالجماعة جماعة المسلمين وإنما فراقهم بالردة عن الدين وهو سبب لإباحة دمه بالإجماع في حق الرجل..." [إحكام الأحكام (4/83- 84)]
قال الحافظ رحمه الله: "والمراد بالجماعة جماعة المسلمين، أي فارقهم أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة مستقلة، وإلا لكانت الخصال أربعا، وهو كقوله قبل ذلك: (مسلم يشهد أن لا إله إلا الله) فإنها صفة مفسرة لقوله: مسلم وليست قيدا فيه، إذ لا يكون مسلما إلا بذلك.
ويؤيد ما قلته أنه وقع في حديث عثمان: (أو يكفر بعد إسلامه) أخرجه النسائي بسند صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضا: (ارتد بعد إسلامه) وله من طريق عمرو بن غالب عن عائشة: (أو كفر بعد ما أسلم)
وفي حديث بن عباس عند النسائي: (مرتد بعد إيمان)
قال بن دقيق العيد: "الردة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرجل..." [فتح الباري [12/201 -202]
وقال أبو العلاء المبارك فوري رحمه الله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة): "أي تَركُ التاركِ، والمفارق للجماعة صفة مولدة للتارك لدينه، أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم، وانفرد عن أمرهم بالردة، التي هي قطع الإسلام قولا أو فعلا أو اعتقادا فيجب قتله إن لم يتب" [تحفة الأحوذي (4/547)]
وقال شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله: (المفارق للجماعة): "أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم وانفرد عن أمرهم بالردة" [عون المعبود (12/5)]
وقال البجيرمي الفقيه الشافعي رحمه الله:
"وقوله: (المفارق) صفة مؤكدة للتارك، والمراد بالجماعة جماعة المسلمين، فالتارك لدينه هو المفارق للجماعة".
وقيل هو من باب التأسيس لأن التارك لدينه قد لا يفارق الجماعة، كاليهودي والنصراني إذا أسلم، فهو تارك لدينه غير مفارق بل هو موافق لهم داخل فيهم، والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد "شوبري" وهو بعيد لأن فرض الحديث في المسلم فلا يشمل غيره" [حاشية البجيرمي على كتاب الإقناع للماوردي (4/129)]
ومن العلماء المعاصرين الذين رجحوا أنه وصف كاشف، الدكتور يوسف القرضاوي، حيث قال:
"وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ؛ فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة".
[المرجع: الإسلام على الطريق:
http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2002/02/article2a.shtml ]
وإذا كان علماء المسلمين، قد نقل عنهم الإجماع قديما وحديثا على قتل المرتد، إلا من شذ – وفي صحة نسبة الخلاف إليه شك كما سيأتي – فكلهم على هذا الرأي، وهو أن "المفارق للجماعة" صفة مؤكدة أو كاشفة، وليست تأسيسية، لأنهم لو فهموا أنها تأسيسية لما أجمعوا على الاكتفاء بالردة في قتل المرتد، بل لا بد أن يجتمع الوصفان في من يستحق عقوبة القتل...
الدليل العاشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقتل أحدا من المرتدين، ومنهم من عرفوا بالنفاق، مثل كبيرهم عبد الله بن أبي.
والجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: يفينا أمره الصريح بقتل التارك لدينه، وقد سبقت الأحاديث المفيدة لذلك.
الوجه الثاني: أمره بفتل أم مروان عندما ارتدت، إذا لم تتب، كما في حديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت.
الوجه الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يتألف الناس من أجل دخولهم في الإسلام، ويخشى إذا تسامع الناس بأن يقتل المنافقين ، وهم يظهرون الإسلام، أن ينفر من يريد الدخول في الإسلام، بسبب ذلك، ولهذا عندما كلن يستأذنه بعض أصحابه أن يقتل من ظهر منهم النفاق ومنهم عمر رضي الله عنه، الذي استأذنه في قتل رأس المنافقين "عبد الله بن أبي" لم يأذن له بل قال له: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) والصحبة هنا هي الصحبة الظاهرية التي يعاشر بها المنافق معاشرة سائر المسلمين.
ومعلوم أن المنافقين لا يصرحون بأنهم ارتدوا عن الإسلام، وإنما كانت تظهر منهم قرائن، تدل على نفاقهم، فلم يكن يأخذ بتلك القرائن، مع ما يظهرونه من الإسلام الذي لم يكن إظهارهم له إلا ليتقوا به ما قد ينزل بهم من معاملة الكفار، كما قال تعالى عنهم: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً...? [المنافقون (1، 2)]
وقد سبق الكلام على معاشرته صلى الله عليه وسلم المنافقين بالتفصيل.
ما دخوله في الإسلام عقد لازم يجب لله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود? [المائدة (1)]
الوفاء به، لقول ال
من يرى عدم قتل المرتد مطلقا ووجه استدلاله
هذا وقد وجد في هذا العصر من أراد تعطيل قتل المرتد، بل يرى عدم عقابه مطلقا،
ثم يقولون: إن ذلك مخالف لما تضمنه القرآن الكريم، من النهي عن الإكراه في الدين، كما قال تعالى: ?لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ? [البقرة (256)]
يضاف إلى ذلك ما هو معلوم من أن منع من أراد تغيير دينه إلى غيره من الأديان، وإلزامه بالبقاء على دينه الذي لم يعد يطمئن إليه، يبعث على نفاق وكثرة المنافقين بين المسلمين...
ونحن نرد على هؤلاء المشككين بالأمور الآتية:
الأمر الأول: أن الحرية الحقيقية، لا توجد إلا في الإسلام، الذي حدد للمسلم معبودا واحدا، وهو الله مالك الملك الذي أراد من الإنسان أن يتحرر من كل معبود سواه، وأن تكون حياته كلها وتصرفاته ومآله إلى الله لا إلى سواه، كما قال تعالى:
?قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ...? [الأنعام (164)](3/63)